المقدمات الممهدات

 [كتاب بيوع الآجال]
أصل ما بني عليه هذا الكتاب الحكم بالذرائع، ومذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - القضاء بها والمنع منها، وهي الأشياء التي ظاهرها الإباحة ويتوصل بها إلى فعل المحظور، ومن ذلك البيوع التي ظاهرها الصحة ويتوصل بها إلى استباحة الربا، وذلك مثل أن يبيع الرجل سلعة من رجل بمائة دينار إلى أجل ثم يبتاعها بخمسين نقدا، فيكونان قد توصلا بما أظهراه من البيع الصحيح إلى سلف خمسين دينارا في مائة إلى أجل، وذلك حرام لا يحل ولا يجوز؛ وأباح الذرائع الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما، والصحيح ما ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - ومن قال بقوله؛ لأن ما جر إلى الحرام وتطرق به إليه حرام مثله؛ قال الله عز وجل: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] ، فنهى تبارك وتعالى عن سب آلهة الكفار؛ لئلا يكون ذلك ذريعة وتطرقا إلى سب الله تعالى، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا} [البقرة: 104] ، فنهى عز وجل عباده المؤمنين أن يقولوا للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: راعنا، وهي كلمة صحيحة معروفة في لغة العرب،

(2/39)


معناها أرعني سمعك وفرغه لي لتعي قولي وتفهم عني؛ لأنها كلمة سب عند اليهود، فكانت تسب بها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أنفسها، فلما سمعوها من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرحوا بها، واغتنموا أن يعلنوا بها للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويظهروا سبه، فلا يلحقهم في إظهاره شيء. فأطلع الله نبيه والمؤمنين على ذلك، ونهى عن الكلمة، لئلا يكون ذلك ذريعة لليهود إلى سب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد تؤولت الآية على غير هذا، وهذا أظهر ما قيل فيها. وقال الله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة: 65] ، وقال: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 163] وجه الدليل من هذه الآيات على وجوب المنع من الذرائع: أن الله حرم على اليهود الاصطياد يوم السبت ابتلاء لهم، وذلك أن اليهود قالوا لموسى حين أمرهم بالجمعة وأخبرهم بفضلها: كيف تأمر بالجمعة وتفضلها على سائر الأيام والسبت أفضل الأيام كلها، لأن الله تعالى خلق السماوات والأرض والأوقات في ستة أيام، وسبت له كل شيء مطيعا يوم السبت، فقال الله عز وجل لموسى: دعهم وما اختاروه، ولا يصيدون فيه سمكا ولا غيره ولا يعملون فيه شيئا، فكانت الحيتان تأتيهم يوم السبت شارعة ظاهرة كما قال الله تعالى، وتغيب عنهم سائر الأيام فلا يصلون إليها إلا بالاصطياد والعناء، فكانوا يسدون عليها المسالك يوم السبت ويأخذونها في سائر الأيام، ويقولون: لا نفعل الاصطياد الذي نهينا عنه في يوم السبت، وإنما نفعله في غيره، فعاقبهم الله على فعلهم ذلك، لأنه ذريعة للاصطياد الذي نهوا عنه وإن لم يكن اصطيادا على الحقيقة - بأن مسخهم قردة وخنازير - كما أخبر تعالى في كتابه، وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:

(2/40)


«لعن الله اليهود؛ حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها» . وجعل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شراء الصدقة بالثمن كالعودة فيها بغير ثمن، «فقال لعمر بن الخطاب في الفرس الذي حمل عليه في سبيل الله فأراد شراءه لما أضاعه صاحبه وأراد بيعه: لا تبتعه ولا تعد في صدقتك، فإن العائد في صدقته كالكلب يعود في قيئه» . «وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ابن وليدة زمعة لعبد بن زمعة: هو لك يا عبد بن زمعة فألحقه بأبيه زمعة، وقال: الولد للفراش وللعاهر الحجر. وقال لأخته سودة بنت زمعة زوجته: احتجبي منه؛» لما رأى من شبهه بعتبة بن أبي وقاص، فأعمل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الشبهة وحكم لها بحكم اليقين، فمنع بها من صلة الرحم وهو - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما بعث بصلة الأرحام، قال الله عز وجل: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} [النساء: 1] أي الأرحام أن تقطعوها.

فصل وأبواب الذرائع في الكتاب والسنة يطول ذكرها ولا يمكن حصرها، من ذلك قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» ، وقوله: «الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه، ومن وقع في الشبهات، كان كالواقع حول الحمى يوشك أن يقع فيه، وقال: ألا لكل ملك حمى، وإن حمى الله محارمه، ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه» والربا أحق ما حميت مراتعه ومنع

(2/41)


منها، لئلا يستباح الربا بالذرائع؛ وقد قال عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كان من آخر ما أنزل الله على رسوله آية الربا، فتوفي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يفسرها، فدعوا الريبة والريبة. وأيضا فإن مراعاة التهمة أصل يبني الشرع عليه، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين ولا جار إلى نفسه» ، ولم يجز أهل العلم شهادة الأب لابنه، ولا شهادة الابن لأبيه، من طريق التهمة، ومنه منعوا القاتل عمدا الميراث، وورثوا المبتوتة في المرض، ومثل هذا كثير.

فصل فإذا باع الرجل من الرجل سلعة بنقد ثم اشتراها منه بدين، أو باعها منه بدين ثم اشتراها منه بنقد، أو باعها منه بدين ثم اشتراها منه بدين، أو باعها منه بنقد ثم اشتراها منه بنقد، وقد غاب على النقد، فإنك تنظر في هذا إلى الذي أخرج دراهمه أولا، فإن كان رجع إليه مثلها أو أقل، فذلك جائز، وإن رجع إليه أكثر منها، نظرت فإن كانا من أهل العينة أو أحدهما، لم يجز ذلك بحال - كانت البيعة الأولى بالنقد أو بالنسيئة - وإن لم يكونا من أهل العينة، جاز إن كانت البيعة الأولى بالنقد، ولم يجز إن كانت بالنسيئة؛ وذلك أن أهل العينة يتهمون فيما لا يتهم فيه أهل الصحة؛ لعملهم بالمكروه؛ من ذلك أن يبيع الرجل من أهل العينة طعاما أو غيره بخمسة نقدا وخمسة إلى أجل، إذا كان ذلك إنما يبتاعه لبيع، وذلك جائز لغير أهل العينة، ومن ذلك أن يبيع الرجل من أهل العينة طعاما أو غيره بثمن إلى أجل ثم يستوضعه المبتاع من الثمن فيضع عنه، فإن مالكا وغيره من أهل العلم كرهوا ذلك، لأنه إنما يبيعه

(2/42)


على المراوضة، فإنما يضع عنه ويرده إلى ما كان راوضه عليه، فصار البيع الذي عقداه تحليلا للربا الذي قصداه، وتفسير هذا أن يأتي الرجل إلى الرجل من أهل العينة فيقول له: أسلفني ذهبا في أكثر منها إلى أجل، فيقول له: أسلفك درهما في اثنين إلى أجل، فيقول له: لا أعطيك في الدرهم إلا درهما وربعا، فيتراوضان ويتفقان على أن يربح معه في الدرهم نصف درهم، ثم يقول له: هذا لا يحل، ولكن عندي سلعة قيمتها مائة درهم أبيعها منك بمائة وخمسين إلى شهر، فتبيعها أنت بمائة فيتم لك مرادك، فيرضى بذلك ويأخذ السلعة منه ويبيعها بثمانين ثم يرجع إليه فيقول له: إني قد وضعت في السلعة وضيعة كثيرة فحط عني من المائة والخمسين ما يجب للعشرين التي وضعتها في السلعة، فيضع عنه ثلاثين تتميما للمراوضة التي عقدا بيعهما عليها، فيئول أمرهما إلى أن أسلم إليه ثمانين في مائة وعشرين، فهذا وجه كراهية مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - للوضيعة في هذه المسألة.

فصل وفي شراء الرجل السلعة التي باعها بثمن إلى أجل من مبتاعها منه بثمن من جنس الثمن الذي باعها منه به - سبع وعشرون مسألة، وذلك أنه قد يشتريها نقدا أو إلى أجل دون الأجل الذي باع إليه بمثل ذلك الثمن، أو بأقل منه أو بأكثر، فهذه ثلاث مسائل، وقد يشتريها إلى مثل ذلك الأجل بمثل ذلك الثمن أو بأقل منه أو بأكثر، فهذه ست مسائل؛ وقد يشتريها إلى أبعد من ذلك الأجل بمثل ذلك الثمن، فهذه تسع مسائل؛ وقد يشتريها وزيادة معها بمثل ذلك الثمن أو أقل منه أو أكثر نقدا أو إلى ذلك الأجل أو إلى أبعد منه، فهذه تسع أخر، وقد يشتري بعضها بمثل ذلك الثمن أو أقل منه أو أكثر نقدا أو إلى ذلك الأجل أو إلى أبعد منه، فهذه تسع أخر تتمة سبع وعشرين مسألة كما ذكرنا؛ فأما إلى ذلك الأجل فيجوز بكل حال، اشتراها كلها أو بعضها، أو اشتراها وزيادة معها، بمثل الثمن أو أقل أو أكثر، لأن الحكم يوجب المقاصة إذا اتفقت الآجال وإن لم يشترطاها، فترتفع التهمة بذلك في جميع

(2/43)


الوجوه، وأما بالنقد أو إلى أجل دون ذلك الأجل، فإن كان اشتراها أو بعضها، فيجوز بمثل الثمن أو أكثر، ولا يجوز بأقل، وإن كان اشتراها وزيادة عليها، فلا يجوز بمثل الثمن ولا بأقل منه ولا بأكثر، وأما إلى أبعد من ذلك الأجل، فإن كان اشتراها وحدها أو اشتراها وزيادة عليها، فيجوز بمثل الثمن أو أقل منه، ولا يجوز بأكثر منه، وإن كان اشترى بعضها، فلا يجوز على حال، لا بمثل الثمن ولا بأقل ولا بأكثر.
فصل وسواء غاب على السلعة أو لم يغب عليها، لأنها تعرف بعينها بعد الغيبة عليها، وإنما يفترق ذلك في الطعام والمكيل والموزون من العروض، لأن ذلك لا يعرف بعينه إذا غيب عليه، فيتفرع ذلك فيما لا يعرف بعينه إذا غيب عليه إلى أربع وخمسين مسألة، وذلك أنها تنحصر في التقسيم إلى تسعة أقسام لا زيادة فيها، إذ لا يخلو أن يبتاع منه طعاما بمثل الثمن أو بأقل أو بأكثر أو طعامه وزيادة عليه بمثل الثمن أيضا أو بأقل أو بأكثر، أو بعض طعامه بمثل الثمن أو بأقل أو بأكثر؛ فهذه تسعة أقسام، وكل قسم منها ينقسم إلى قسمين، أحدهما أن يكون قد غاب على الطعام، والثاني أن يكون لم يغب عليه؛ فهذه ثمانية عشر قسما لا زيادة فيها، كل قسم منها ينقسم على ثلاثة أقسام، أحدها أن يبتاع ذلك بنقد أو إلى أجل دون ذلك الأجل، والثاني أن يبتاعه إلى ذلك الأجل بشرط المقاصة أو بسكوتهما عن الشرط، إذ يوجب ذلك الحكم. والثالث أن يبتاعه إلى أبعد من ذلك الأجل، فهذه أربع وخمسون مسألة - كما ذكرنا، ثماني عشرة مسألة في الشراء بالنقد أو إلى أجل دون الأجل، وثماني عشرة مسألة في الشراء إلى ذلك الأجل على المقاصة، فهذه ستة وثلاثون مسألة، وثماني عشرة مسألة في الشراء، إلى أبعد من ذلك الأجل. فأما الست والثلاثون مسألة المتحصلة في الشراء بالنقد أو إلى ذلك الأجل بعينه، فمنها خمس عشرة مسألة لا تجوز باتفاق، ومسألة تجوز على اختلاف، وسائرهن يجوز باتفاق.

(2/44)


فصل ويعتبر الجائز منها من الفاسد بوجهين، أحدهما أن يشتري منه أكثر مما باع من الطعام، والثاني أن يشتري منه بأقل من الثمن الذي باع به الطعام؛ فهذان الوجهان لا يجوزان نقدا، ويجوزان مقاصة - إن كان لم يغب على الطعام، ولا يجوزان نقدا ولا مقاصة إن كان غاب عليه، لا يجوز له أن يشتري طعامه وزيادة شيء من الأشياء عليه بمثل الثمن ولا بأكثر منه ولا بأقل منه نقدا - وإن كان لم يغب على الطعام، ولا نقدا ومقاصة إن كان غاب عليه، ولا يجوز له أن يشتري منه الطعام الذي باعه منه بعينه ولا بعضه، ولا أن يشتريه وزيادة عليه، وإن كان لم يغب عليه بأقل من الثمن نقدا ولا نقدا ومقاصة، إن كان غاب عليه، ويجوز سائر الوجوه نقدا ومقاصة، حاشا المسألة التي ذكرنا أنها تجوز على اختلاف - وهي أن يبتاع منه بمثل الثمن أقل من الطعام مقاصة؛ فإن قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - اختلف في ذلك
فصل وأما الثماني عشرة مسألة المتحصلة من شراء ذلك إلى أبعد من الأجل، فمنها ثلاث عشرة مسألة لا تجوز باتفاق، ومسألة تجوز على اختلاف، وسائرها - وهي أربع - تجوز باتفاق، ويعتبر الجائز منها من الفاسد بوجهين أيضا، (أحدهما) أن يشتري منه أقل من الكيل، (والثاني) أن يشتري منه بأكثر من الثمن، فهذان الوجهان لا يجوزان، غاب على الطعام أو لم يغب، وسائر الوجوه تجوز - إن لم يغب على الطعام، ولا تجوز إن غاب عليه، حاشا المسألة المختلف فيها - وهي أن يشتريه منه وقد غاب عليه بمثل الثمن إلى أبعد من الأجل، فيجوز ذلك على مذهب ابن القاسم، ولا يجوز على مذهب ابن الماجشون؛ والعلة في ذلك أسلفني وأسلفك، لأن أمرهما آل إلى ذلك، فكرهه ابن الماجشون ولم يجزه، وخففه ابن القاسم ولم يتهمهما في ذلك.

(2/45)


فصل في تنزيل الخمس عشرة مسألة التي لا تجوز من الستة والثلاثين مسألة المتحصلة في الشراء بالنقد وإلى ذلك الأجل وتبيين عللها، (إحداها) أن يبتاع منه مثل طعامه وقد غاب عليه بأقل من الثمن نقدا، مثال ذلك أن يبيع منه عشرة أرادب بعشرة دراهم إلى شهر، ثم يبتاع منه بعد أن غاب على الطعام عشرة أرادب بخمسة دراهم نقدا، فهذا لا يجوز، لأن البائع الأول وهو المبتاع الثاني يدفع إلى المبتاع الأول خمسة دراهم نقدا ويأخذ منه عشرة دراهم إذا حل الأجل - وقد دفع إليه عشرة أرادب، فغاب عليها وانتفع بها ثم رد إليه مثلها، فكأنه أسلم إليه خمسة دراهم في عشرة أرادب إلى أجل وأسلفه عشرة أرادب قرضا بسبب ذلك، فيدخله سلف دراهم في أكثر منها إلى أجل، ودراهم وطعام في دراهم أكثر منها إلى أجل وطعام، وذلك ما لا يحل ولا يجوز، فيتهمان على أنهما قصدا إلى ذلك وتحيلا إلى إجازته بما أظهرا من البيعتين الصحيحتين (والثانية) أن تكون المسألة بحالها، إلا أنه قاصه بالخمسة دراهم من العشرة ولم ينقده إياها، فلا يجوز أيضا، لأن أمرهما آل إلى أن أسلفه عشرة أرادب فانتفع بها ثم رد إليه مثلها على أن يعطيه المسلف خمسة دراهم إذا حل الأجل ثمنا لانتفاعه بالسلف، وقد «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن سلف جر نفعا» وذلك أيضا مضارع لربا الجاهلية المحرم بالقرآن: إما تقضي وإما أن تربي، فيتهمان على القصد إلى ذلك والتحيل لإجازته بما أظهرا من البيعتين الصحيحتين (والثالثة) أن تكون المسألة بحالها إلا أنه لم يغب على الطعام فيستوفيه منه بعينه بخمسة دراهم نقدا، فلا يجوز أيضا لأن أمرهما آل إلى أن دفع المبتاع الثاني إلى المبتاع الأول خمسة دراهم في عشرة دراهم إلى أجل، والطعام رجع إليه بعينه، فكان لغوا، (والرابعة) أن يشتري منه أكثر من طعامه وقد غاب عليه بمثل الثمن نقدا، مثال ذلك أن يبيع منه عشرة أرادب بعشرة دراهم إلى أجل، فيغيب على الطعام، ثم يبتاع منه عشرين إردبا بعشرة دراهم نقدا، فهذا لا يجوز وتدخله الزيادة في السلف

(2/46)


ودراهم وطعام في دراهم وطعام إلى أجل، لأن أمرهما آل إلى أن دفع البائع الأول إلى المبتاع الأول عشرة أرادب وعشرة دراهم نقدا في عشرين إردبا وعشرة دراهم إلى أجل، فيتهمان على القصد إلى ذلك. (والخامسة) أن تكون المسألة بحالها إلا أنه قاصه بالعشرة دراهم من العشرة ولم ينقده إياها، فهذا لا يجوز وتدخله الزيادة في السلف، لأنه دفع إليه عشرة أرادب فانتفع بها ثم رد إليه عشرين إردبا والثمن بالثمن ملغى، لأنه مقاصة فيتهمان على القصد إلى ذلك. (والسادسة) أن تكون المسألة بحالها إلا أنه لم يغب على الطعام فيشتريه منه بعينه وعشرة أرادب أخرى بعشرة دراهم نقدا، فهي لا تجوز أيضا، ويدخله الزيادة في السلف لأنه دفع إليه عشرة دراهم نقدا ويأخذ منه عشرة دراهم إذا حل الأجل، فكأنه أسلفه إياها على أن يزيده عشرة أرادب من طعام، لأن العشرة التي باع منه رجعت إليه بأعيانها فكانت ملغاة. (والسابعة) أن يشتري منه أكثر من طعامه بعد أن غاب عليه بأقل من الثمن نقدا. مثال ذلك أن يبيع منه عشرة أرادب بعشرة دراهم إلى أجل، ثم يبتاع منه بعد أن غاب على الطعام عشرين إردبا بالخمسة دراهم نقدا، فهذا لا يجوز أيضا ويدخله الزيادة في السلف، ودراهم وطعام بدراهم وطعام إلى أجل لأن البائع الأول دفع إلى المبتاع الأول ضرة أرادب فانتفع بها ورد إليه عشرين إردبا، ودفع إليه أيضا خمسة دراهم نقدا، على أن يأخذ منه - إذا حل الأجل - عشرة دراهم، فيتهمان على القصد إلى ذلك (والثامنة) أن تكون المسألة بحالها إلا أنه قاصه بالخمسة دراهم من العشرة الدراهم ولم ينقده إياها، فهذا لا يجوز وتدخله الزيادة في السلف لأن أمرهما آل إلى أن دفع إليه عشرة أرادب فانتفع بها ثم أخذ منه عشرين إردبا، ويأخذ منه أيضا خمسة دراهم إذا حل الأجل، وتسقط خمسة بالمقاصة، فكأنه أقرضه عشرة أرادب على أن يرد إليه فيها عشرين إردبا وخمسة دراهم (والتاسعة) أن تكون المسألة بحالها إلا أنه لم يغب على الطعام فيبتاعه منه بعينه وعشرة أرادب معه بخمسة دراهم نقدا، فهذا لا يجوز وتدخله الزيادة في السلف لأن أمرهما آل إلى أن دفع إليه خمسة دراهم نقدا في عشرة دراهم إلى أجل وعشرة أرادب نقدا لأن

(2/47)


العشرة الأرادب التي باع منه رجعت إليها بأعيانها فكانت ملغاه. (والعاشرة) أن يشتري منه أكثر من طعامه بعد أن غاب عليه بأكثر من الثمن نقدا، مثال ذلك أن يبيع منه عشرة أرادب بعشرة دراهم إلى أجل، ثم يبتاع منه بعد أن غاب على الطعام عشرين إردبا بعشرين درهما نقدا، فيدخله البيع والسلف؛ لأنه كان أقرضه العشرة الأرادب التي غاب عليها وعشرة دراهم من العشرين درهما التي نقده إياها على أن يبتاع منه العشرة الأرادب الزائدة في الطعام بالعشرة الدراهم الزائدة في الثمن. (والحادية عشرة) أن تكون المسألة بحالها إلا أنه قاصه من العشرين درهما بعشرة دراهم في العشرة التي له عليه من ثمن الطعام ولم ينقده إلا عشرة دراهم، فهذا لا يجوز ويدخله البيع والسلف أيضا لأنه كأنه أقرضه العشرة الأرادب التي غاب عليها على أن يبتاع منه العشرة الأرادب الزائدة في الطعام بالعشرة الدراهم الزائدة في الثمن. (والثانية عشرة) أن تكون المسألة بحالها إلا أنه لم يغب على الطعام، فيشتريه منه بعينه وعشرة أرادب معه بعشرين درهما نقدا، فهي لا تجوز أيضا، ويدخله البيع والسلم أيضا، لأنه كأنه أقرضه عشرة دراهم من العشرين درهما يأخذها منه إذا حل الأجل، على أن باع منه العشرة الأرادب الزائدة على الطعام بالعشرة الدراهم الزائدة على الثمن والعشرة الأرادب التي رجعت إليه بأعيانها ملغاة كأن لم تكن. (والثالثة عشرة) أن يبتاع منه أقل من الطعام بعد أن غاب عليه بأقل من الثمن نقدا، ومثالها أن يبيع منه عشرة أرادب بعشرة دراهم إلى أجل وطعام، ثم يبتاع منه بعد أن غاب على الطعام خمسة أرادب بخمسة دراهم نقدا، يدخلها بيع طعام بطعام وذهب بذهب إلى أجل وطعام، ويدخلها أيضا البيع والسلف لأن الخمسة الأرادب التي رجعت إلى البائع كأنه سلف أسلفه إياه، فالخمسة الدراهم التي دفع الآن نقدا كأنها سلف أيضا يقتضيه إذا حل الأجل، والخمسة أرادب التي بقيت عند المبتاع الأول للبائع، أخذ منه فيها الخمسة الدراهم الزائدة على نقده، فكأن البائع الأول أسلف المبتاع الأول خمسة أرادب وخمسة دراهم

(2/48)


على أن باع منه خمسة أرادب بخمسة دراهم، وذلك ما لا يحل ولا يجوز. (والرابعة عشرة) أن تكون المسألة بحالها إلا أنه قاصه بخمسة دراهم في خمسة من العشرة التي له عليه ولم ينقده إياها، يدخلها البيع والسلف، لأنه كان أسلفه الخمسة الأرادب التي غاب عليها ثم ردها إليه وباعه الخمسة الأرادب الأخرى بالخمسة الدراهم التي يأخذها منه عند حلول الأجل، وسقطت خمسة بخمسة مقاصة. (والخامسة عشرة) أن تكون المسألة بحالها أيضا إلا أنه لم يغب على الطعام فيبتاع منه بعينه خمسة أرادب بخمسة دراهم، يدخلها دراهم وطعام بدراهم إلى أجل، لأنه كأنه باعه الخمسة دراهم التي دفع إليه نقدا والخمسة الأرادب بالعشرة الدراهم التي يأخذها منه عند الأجل، والخمسة الأرادب الأخرى رجعت إليه بأعيانها، فكانت ملغاة.
وأما المسألة المختلف فيها، وهي أن يشتري منه أقل من الطعام وقد غاب عليه بمثل الثمن مقاصة، ومثالها أن يبيع منه عشرة أرادب بعشرة دراهم إلى أجل، ثم يبتاع منه بعد أن غاب على الطعام خمسة أرادب بعشرة دراهم مقاصة بالعشرة دراهم التي وجبت له عليه من ثمن الطعام، فيدخلها اقتضاء الطعام من ثمن الطعام، لأنه باع منه عشرة أرادب ثم أخذ منه في ثمنها خمسة أرادب، فمرة كرهها مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ورأى أن الخمسة الأرادب ثمن العشرة الأرادب، كأنه أعطاه خمسة أرادب على أن يضمن له الخمسة الأخرى إلى أجل، ومرة استخف ذلك ورأى أن التهمة بعيدة، لأن القصد إلى مثل هذا قليل من الناس.

فصل في بيان الثلاث عشرة مسألة التي لا تجوز من الثمان عشرة مسألة المتحصلة في الشراء إلى أبعد من الأجل وتبيين عللها، (إحداها) أن يشتري منه أقل من الكيل بمثل الثمن بعد أن غاب على الطعام إلى أبعد من الأجل، ومثالها أن يبيع

(2/49)


منه عشرة أرادب بعشرة دراهم إلى شهر، فيدفع الطعام إليه ويغيب عليه، ثم يبتاع منه ثمانية أرادب من صنف طعامه بعشرة دراهم إلى شهرين، فذلك لا يجوز وتدخله الزيادة في السلف، لأن الأمر آل بينهما إلى أن يدفع المبتاع الأول إلى البائع الأول عند انقضاء شهر عشرة دراهم، ويأخذها منه عند انقضاء شهرين - وقد دفع إليه البائع الأول عشرة أرادب فرد إليه منها ثمانية بعد أن غاب عليها وبقي عنده إردبان، فيعد ذلك سلفا من كل واحد منهما لصاحبه - على أن زاد البائع الأول للمبتاع الثاني إردبين، ويتهمان على القصد إلى ذلك والتحيل لإجازته بما أظهراه من البيعتين الصحيحتين في الظاهر (والثانية) أن تكون المسألة على حالها إلا أنه لم يغب على الطعام، يدخلها أيضا الزيادة في السلف - كأن المبتاع الأول أسلف البائع الأول عشرة دراهم شهرا على أن يعطيه إردبين من طعام، وهي التي بقيت عنده من الطعام الذي ابتاع منه وسائره رجع إليه بعينه فكان لغوا. (والثالثة) أن يشتري منه أقل من الكيل بأقل من الثمن بعد أن غاب على الطعام، يدخلها البيع والسلف، لأن ما نقص من الكيل بما نقص من الثمن، يمضي فيه البيع على أن أسلف كل واحد منهما صاحبه، لغيبة المبتاع على الطعام. (والرابعة) أن تكون المسألة على حالها إلا أن المبتاع لم يغب على الطعام، يدخلها أيضا البيع والسلف، لأن ما نقص من الكيل بما نقص من الثمن، يمضي فيه البيع على أن أسلف المبتاع الأول للبائع الأول ثمانية دراهم عند شهر يأخذها منه عند انقضاء شهرين على ما نزلناه. (والخامسة) هي أن يشتري منه أقل من الكيل بأكثر من الثمن بعد أن غاب على الطعام، يدخلها الزيادة في السلف، لأن

(2/50)


الأمر آل بينهما، إلى أن يدفع المبتاع الأول إلى البائع الأول عشرة دراهم عند شهر، يأخذ منه اثني عشر درهما عند انقضاء شهرين على أن أسلفه البائع الأول ثمانية أرادب وأعطاه إردبين، لأن الطعام لا يعرف بعينه بعد الغيبة عليه، فيتهمان على القصد إلى ذلك. (والسادسة) أن تكون المسألة على حالها، إلا أنه لم يغب على الطعام، يدخلها أيضا سلم دراهم في أكثر منها إلى أجل بزيادة إردبين يأخذهما المبتاع الأول من الطعام الذي باع منه البائع الأول والثمانية الأرادب التي رجعت إليه بعينها لغو، ويدخل ذلك أيضا بيع الطعام نقدا ودراهم إلى أجل بدراهم أكثر منها إلى أجل. (والسابعة) أن يشتري منه مثل الكيل بأكثر من الثمن بعد أن غاب على الطعام، يدخلها سلم دراهم في أكثر منها إلى أجل، لأن البائع الأول يأخذ من المبتاع الأول عشرة دراهم عند انقضاء الشهر ويدفع إليه اثني عشر درهما عند انقضاء شهرين، على أن أسلف البائع الأول عشرة أرادب، إذ لا يعرف الطعام بعينه بعد الغيبة عليه. (والثامنة) أن تكون المسألة بحالها إلا أنه لم يغب على الطعام، يدخلها أيضا سلم دراهم في أكثر منها إلى أجل، لأن البائع الأول يأخذ من المبتاع الأول عشرة دراهم عند شهر، ويدفع إليه اثني عشر درهما عند شهرين، ورجع إليه طعامه بعينه فكان لغوا. (والتاسعة) هي أن يشتري منه أكثر من الكيل بأكثر من الثمن بعد أن غاب على الطعام، يدخلها البيع والسلف. لأن المبتاع الأول باع من البائع الأول على المثال الذي وصفناه: الإردبين اللذين زادهما على الطعام بالدرهمين اللذين يأخذهما منه زيادة على الثمن، على أن أسلف هذا هذا عشرة دراهم، وهذا هذا عشرة أرادب. (والعاشرة) أن تكون المسألة على حالها إلا أنه لم يغب على الطعام، يدخلها أيضا البيع والسلف، لأنهما تبايعا الزيادة على الطعام بالزيادة على الثمن، على أن أسلف المبتاع الأول للبائع الأول عشرة دراهم شهرا والعشرة الأرادب التي دفع البائع رجعت إليه

(2/51)


بعينها فكانت لغوا. (والحادية عشرة) أن يشتري منه أكثر من الطعام بأقل من الثمن بعد أن غاب على الطعام، يدخلها الزيادة في السلف، لأن الطعام لا يعرف بعينه بعد الغيبة عليه، فكأنه أسلفه عشرة أرادب فانتفع بها ثم رد إليه اثني عشر إردبا، ولو كان لم يغب على الطعام لكان جائزا؛ لأن طعامه بعينه رجع إليه فلم يكن فيه سلف، وآل أمرهما إلى أن دفع المبتاع إلى البائع إردبين من طعام، ويدفع إليه أيضا عشرة دراهم عند شهر ويأخذ منه ثمانية دراهم عند انقضاء شهرين، فلا يتهم في مثل هذا أحد. (والثانية عشرة) أن يشتري منه أكثر من الكيل بمثل الثمن بعد أن غاب على الطعام، يدخلها الزيادة في السلف، لأن الطعام لا يعرف بعينه إذا غيب عليه، فكأنه أسلفه عشرة أرادب فانتفع بها ثم رد إليه اثني عشر إردبا، ولو كان لم يغب على الطعام لكان جائزا؛ لأن طعامه بعينه رجع إليه فلم يكن فيه سلف، وآل أمرهما إلى أن أسلف المبتاع البائع عشرة دراهم شهرا وأعطاه إردبين، فيكون قد صنع معه معروفا من وجهين. (والثالثة عشرة) أن يشتري منه مثل الكيل بأقل من الثمن بعد أن غاب على الطعام، يدخلها أيضا الزيادة في السلف لأن الطعام لا يعرف بعينه بعد الغيبة عليه، فكأن البائع أسلف المبتاع عشرة أرادب فانتفع بها ورد إليه مثلها على أن يدفع إليه المبتاع إذا حل الأجل دينارين ثمنا لما أسلفه، وثمانية دراهم تكون سلفا عنده إلى حلول الأجل الثاني، ولو كان لم يغب على الطعام لكان جائزا، لأن طعامه بعينه رجع إليه فكان لغوا، ويدفع المبتاع إلى البائع عند الأجل عشرة دراهم، ويأخذ منه ثمانية دراهم عند الأجل الثاني فلا يتهم في هذا أحد، وأما المسألة المختلف فيها وهي أن يشتري منه مثل الطعام بمثل الثمن بعد أن غاب على الطعام، فيدخلها أسلفني وأسلفك، فخفف ذلك ابن القاسم وكرهه ابن الماجشون؛ ولو لم يغب على الطعام لكان جائزا، لأن

(2/52)


الطعام بعينه رجع إليه فصار لغوا، وآل أمرهما إلى أن أسلف المبتاع البائع دراهم في مثلها إلى أجل، وذلك جائز وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.

فصل وهذه المسائل التي قسمناها هذا التقسيم، وقع طرف منها في كتاب بيوع الآجال من المدونة، وجملة كثيرة في رسم حبل حبلة من كتاب السلم والآجال من العتبية غير مشروحة بعللها، ولا موعبة بجميع وجوهها، وهي أصل في مسائل بيوع الآجال، من فهمها ووقف عليها، سهل عليه ما سواها، فلذلك عنيت بتحصيلها وتلخيصها وتقسيم وجوهها وتبيين عللها، وشرح معانيها، وما توفيقي إلا بالله.
فصل فإذا باع الرجل سلعة بثمن إلى أجل ثم ابتاعها منه بأقل من ذلك الثمن نقدا، فسخت البيعتان جميعا عند ابن الماجشون، وهو الصحيح في النظر، ودليله من جهة الأثر قول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - في الحديث: بئسما شريت وبئسما اشتريت؛ لأنها عابت البيعتين جميعا، ولم يفسخ عند ابن القاسم إلا البيعة الأخيرة - إن كانت السلعة قائمة؛ واختلف إن فاتت، قيل: بحوالة الأسواق وهو مذهب سحنون، وقيل: بالعيوب المفسدة، وإليه ذهب أبو إسحاق التونسي وغيره من المتأخرين على ثلاثة أقوال، (أحدها) أنه يفسخ البيعتان جميعا، فلا يكون للبائع على المبتاع إلا الثمن الذي دفع إليه، وإلى هذا ذهب أبو إسحاق التونسي تأويلا على ابن القاسم. (والثاني) أنه لا يفسخ إلا البيعة الأولى وتصحح الثانية بالقيمة، فإن كانت القيمة أكثر من الثمن الذي باعها به أولا، قضي عليه بالقيمة، فإذا حل الأجل أخذ الثمن، إذ لا تهمة في ذلك، وإن كانت القيمة أقل من الثمن الذي باعها به أولا، قضي عليه

(2/53)


بالقيمة، فإذا حل الأجل، لم يكن له على المشتري الأول- أكثر من ذلك لئلا يكون قد دفع دنانير في أكثر منها، فيتم الربا بينهما، وهذا يأتي على ما في سماع سحنون من كتاب السلم والآجال. (والثالث) أنه إن كانت القيمة أقل من الثمن فسخت البيعتان ولم يكن للبائع على المبتاع إلا الثمن الذي دفع إليه، وإن كانت أكثر من الثمن فسخت البيعة الثانية خاصة، وقضي عليه بالقيمة؛ فإذا حل الأجل أخذ الثمن؛ وإلى هذا ذهب عبد الحق تأويلا على ابن القاسم، وهو قول سحنون نصا، وفي حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - في بعض الروايات: بئسما شريت أو بئسما اشتريت، على الشك من المحدث، فعلى هذه الرواية لا يكون على ابن القاسم حجة من الحديث، وإن كانت المبايعة المذكورة في الحديث وقعت بين أم ولد زيد ابن أرقم ومولاها، وهي أم ولد قبل أن يبتل عتقها، فيأتي قول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فيه على تحظير الربا بين العبد وسيده مع القول بتحريم الذرائع، وفعل زيد بن أرقم على إجازة ذلك أو استجازة الذرائع، وإن كانت المبايعة وقعت بينهما وقد بتل عتقها ففعل زيد بن أرقم على استجازة الذرائع؛ وكان شيخنا الفقيه ابن رزق يضعف حديث عائشة هذا، لقولها فيه: أبلغي زيدا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إن لم يتب، لأنه خلاف ما جاء في القرآن من أن الحسنات يذهبن السيئات، وأن الأعمال لا تبطل إلا بالردة، لقول الله عز وجل: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] ، وقوله: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [البقرة: 217] ؛ وهذا لو جاز أن يحمل عن زيد بن أرقم أنه عمل مع أم ولده في الباطن بما أظهراه من البيعتين على أن يأخذ منها ستمائة دينار في ثمانمائة إلى أجل، وهذا ما لا يحل لمسلم أن يتأوله عليه، فالذي فعل لا إثم عليه فيه ولا حرج فيما بينه وبين خالقه عند أحد من الأئمة،

(2/54)


إلا أنه يكره ذلك له لئلا يكون ذريعة لغيره يتطرق بها إلى الربا؛ وأكثر أهل العلم يمضون البيعتين على ظاهرهما من الصحة ولا يتهمون المتبايعين ولا يرون الحكم بالذرائع، وكذلك إذا باع الرجل السلعة بثمن إلى أجل ثم ابتاعها منه بأكثر من ذلك الثمن إلى أبعد من ذلك الأجل، تفسخ البيعتان جميعا عند ابن الماجشون؛ والثانية وحدها عند ابن القاسم في القيام، إلا أن يشترط أن يقاصه بالثمن الأول عند الأجل الأول! ويأخذ بقية الثمن الثاني عند الأجل الثاني، وأما إذا اشتراها منه إلى الأجل الذي باعها إليه منه، فذلك جائز، والحكم يوجب المقاصة عند الأجل؛ وما لم يتقاصا فالثمن لكل واحد منهما في ذمة صاحبه ثابت، ولا يكون أحدهما أحق بما عليه من غرماء صاحبه إن فلس، على مذهب ابن القاسم، وهو أحق بما عليه عند أشهب؛ فإن فلس على مذهب ابن القاسم المشتري الأول وهو البائع الثاني، تحاص غرماؤه مع المشتري الثاني وهو البائع الأول فيما عليه، فما وجب لهم في الحصاص أخذوه منه، وإن فلس المشتري الثاني وهو البائع الأول كان المشتري الأول وهو البائع الثاني أحق بالسلعة، إلا أن يشاء الغرماء أن يدفعوا إليه الثمن، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.

فصل وقد تقدم فيما مضى أن أهل العينة يتهمون فيما لا يتهم فيه أهل الصحة لعملهم بالمكروه واستباحتهم له.
فصل والعينة على ثلاثة أوجه: جائزة ومكروهة ومحظورة، فالجائزة أن يمر الرجل بالرجل من أهل العينة فيقول له: هل عندك سلعة كذا أبتاعها منك؟ فيقول له: لا، فينقلب عنه على غير مراوضة ولا مواعدة، فيشتري تلك السلعة التي سأله عنها ثم يلقاه فيخبره أنه قد اشترى السلعة التي سأله عنها فيبيعها بما شاء من نقد أو نسيئة؛

(2/55)


والمكروهة أن يقول له: اشتر سلعة كذا وكذا، فأنا أربحك فيها وأشتريها منك، من غير أن يراوضه على الربح. والمحظورة أن يراوضه على الربح فيقول له: اشتر سلعة كذا وكذا وأنا أربحك فيها كذا، وأبتاعها منك بكذا؛ وفي هذا الوجه ست مسائل مفترقة الأحكام: ثلاث في قوله: اشتر لي؛ إحداها: أن يقول له: اشتر لي سلعة كذا وكذا بعشرة نقدا، وأنا أبتاعها منك باثني عشر نقدا، والثانية: أن يقول له: اشترها لي بعشرة نقدا وأنا أشتريها منك باثني عشر إلى أجل. والثالثة عكسها، وهي أن يقول له: اشترها لي باثني عشر إلى أجل وأنا أشتريها منك بعشرة نقدا. وثلاث في قوله: اشتر لنفسك، أو بقوله: اشتر - ولا يقول: لي ولا لنفسك؛ إحداها: أن يقول له: اشتر سلعة كذا وكذا - بعشرة نقدا - وأنا أبتاعها منك باثني عشر نقدا.
والثانية: أو يقول له: اشترها لنفسك بعشرة نقدا وكذا أبتاعها منك باثني عشر إلى أجل. والثالثة أو يقول له: اشترها لنفسك - أو اشتر، ولا يزيد على ذلك - باثني عشر إلى أجل وأنا أبتاعها منك بعشرة نقدا.
فأما الرابعة - وهي أن يقول له: اشترها لنفسك بعشرة نقدا وأنا أشتريها منك باثني عشر نقدا. والخامسة أن يقول له: اشترها لنفسك بعشرة نقدا وأنا أبتاعها منك باثني عشر إلى أجل. والسادسة عكسها، وهي أن يقول له: اشترها لنفسك، أو اشتر، ولا يزيد على ذلك، باثني عشر - إلى أجل وأنا أبتاعها منك بعشرة نقدا، فأما الأولى وهي أن يقول له: اشترها لي بعشرة نقدا وأنا أشتريها منك باثني عشر نقدا، فالمأمور أجبر على شراء السلعة للآمر بدينارين، لأنه إنما اشتراها له. وقوله: وأنا أشتريها منك، لغو لا معنى له، لأن العقدة له وبأمره، فإن كان النقد من عند الآمر أو من عند المأمور بغير شرط، فذلك جائز؛ وإن كان النقد من عند المأمور بشرط فهي إجارة فاسدة، لأنه إنما أعطاه الدينارين على أن يبتاع له السلعة وينقد من عنده الثمن عنه، فهي إجارة وسلف، ويكون للمأمور إجارة مثله؛ إلا أن تكون إجارة مثله أكثر من الدينارين فلا يزاد عليهما، على مذهب ابن القاسم في البيع والسلف إذا كان السلف

(2/56)


من غير البائع وفاتت السلعة، أن للبائع الأقل من القيمة أو الثمن، وإن قبض السلف، وعلى ما ذهب إليه ابن القاسم في البيع والسلف - إذا قبض السلف - وفاتت السلعة أن فيها القيمة - بالغة ما بلغت، يلزم أن يكون للمأمور ههنا إجارة مثله بالغة ما بلغت، وإن كانت أكثر من الدينارين، والأصح أن لا يكون له أجرة، لأنا إن جعلنا له الأجرة كانت ثمنا للسلف، فكان تتميما للربا الذي عقدا عليه، وهو قول سعيد بن المسيب؛ فهي ثلاثة أقوال فيما يكون له من الأجرة إذا نقد المأمور الثمن بشرط، وهذا إذا عثر على الآمر بحدثانه ورد السلف إلى المأمور قبل أن ينتفع به الآمر، وأما إن لم يعثر على الأمر حتى انتفع الآمر بالسلف، قدر ما يرى أنهما كانا قصداه، فلا يكون في المسألة إلا قولان، (أحدهما) أن للمأمور إجارته بالغة ما بلغت. (والثاني) أنه لا شيء له، ولو عثر على الأمر قبل الابتياع وقبل أن ينقد المأمور الثمن، لكان النقد من عند الآمر، ولكان فيما يكون للأجير قولان: (أحدهما) أن له إجارة مثله بالغة ما بلغت. (والثاني) أن له الأقل من إجارة مثله أو الدينارين، وابن حبيب يرى أن المأمور إذا نقد فقد تم الحرام بينهما وإن لم يمض من المدة ما ينتفع به الآمر بالنقد، ويكون له إجارة مثله - بالعقد - بالغة ما بلغت، وإلى هذا ذهب سحنون في إصلاحه مسألة كتاب بيوع الآجل في المدونة، بأن جعل فيها مكان يرد: يترك. فتدبر ذلك. (وأما الثانية) وهو أن يقول: اشتر لي سلعة كذا بعشرة نقدا وأنا أبتاعها منك باثني عشر إلى أجل، فذلك حرام لا يحل ولا يجوز لأنه أجل ازداد في سلعة، فإن وقع ذلك لزمت السلعة للآمر، لأن الشراء كان له وإنما أسلفه المأمور ثمنها ليأخذ به منه أكثر منه إلى أجل: فيعطيه العشرة معجلة ويطرح عنه ما أربى، ويكون له جعل مثله بالغا ما بلغ في قول، والأقل من جعل مثله أو الدينارين اللذين أربى له بهما في قول. وفي قول سعيد بن المسيب لا أجرة له بحال لأن ذلك تتميم للربا كالمسألة المتقدمة،

(2/57)


قال في سماع سحنون: وإن لم تفت السلعة فسخ البيع، وهو بعيد، فقيل: معنى ذلك إذا علم البائع الأول بعملهما. وأما الثالثة وهي أن يقول له: اشترها لي باثني عشر إلى أجل وأنا أبتاعها منك بعشرة نقدا؛ فذلك أيضا حرام لا يجوز، ومكروهه أنه استأجر المأمور على أن يبتاع له السلعة بسلف عشرة دنانير يدفعها إليه ينتفع بها إلى الأجل، ثم يردها إليه. فتلزم الآمر السلعة باثني عشر إلى أجل، ولا يتعجل المأمور منه العشرة النقد، وإن كان قد دفعها إليه صرفها عليه ولم تترك عنده إلى الأجل - وكان له جعل مثله بالغا ما بلغ في هذا الوجه باتفاق؛ وأما الرابعة وهي أن يقول: اشتر سلعة كذا بعشرة نقدا وأنا أشتريها منك باثني عشر نقدا، فاختلف في ذلك قول مالك، فمرة أجازه إذا كانت البيعتان جميعا بالنقد وانتقد، ومرة كرهه للمراوضة التي وقعت بينهما في السلعة قبل أن تصير في ملك المأمور. وأما الخامسة وهي أن يقول: اشتر لي سلعة كذا بعشرة نقدا وأنا أبتاعها منك باثني عشر إلى أجل، فهو أيضا لا يجوز إلا أنه يختلف فيه إذا وقع، فروى سحنون عن ابن القاسم وحكاه عن مالك أن الآمر يلزمه الشراء باثني عشر إلى أجل، لأن المشتري كان ضامنا لها لو تلفت في يديه قبل أن يشتريها منه الآمر؛ ولو أراد أن لا يأخذها بعد اشتراء المأمور، كان ذلك له؛ واستحب للمأمور أن يتورع فلا يأخذ من الآمر إلا ما نقد في ثمنها. وقال ابن حبيب: يفسخ البيع الثاني إن كانت السلعة قائمة وترد إلى المأمور، فإن فاتت ردت إلى قيمتها معجلة يوم قبضها الآمر، كما يصنع بالبيع الحرام؛ لأنه كان على مواطأة بيعها قبل وجوبها للمأمور، فدخله بيع ما ليس عندك. وأما السادسة وهي أن يقول له: اشترها لنفسك باثني عشر إلى أجل وأنا أبتاعها منك بعشرة نقدا، فروى سحنون عن ابن القاسم أيضا أن البيع لا يرد إذا فات، ولا يكون على الآمر إلا العشرة. وأحب إليه أن لو أردف الخمسة الباقية،

(2/58)


لأن العقدة الأولى كانت للمأمور، ولو شاء المشتري لم يشتر؛ وقال ابن حبيب: يفسخ البيع الثاني على كل حال، كما يصنع بالبيع الحرام، للمواطأة التي كانت للبيع قبل وجوبها للمأمور، فإن فاتت ردت إلى قيمتها يوم قبضها الثاني، وظاهر رواية سحنون أن البيع الثاني يفسخ ما لم تفت السلعة، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.

(2/59)