المقدمات الممهدات

 [كتاب الغرر] [ما جاء في بيع الغرر وتبيين وحوهه وأحكامه]
ما جاء في بيع الغرر وتبيين وجوهه وأحكامه: ثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أنه نهى عن بيع الغرر» وبيع الغرر هو البيع الذي يكثر فيه الغرر ويغلب عليه حتى يوصف به، لأن الشيء إذا كان مترددا بين معنيين لا يوصف بأحدهما دون الآخر، إلا أن يكون أخص به وأغلب عليه.

فصل ووجوه الغرر في البيوع كثيرة لا تحصى، من ذلك بيع العبد الآبق، والجمل الشارد، والجنين في بطن أمه، ومن ذلك ما نهى عنه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من بيع الملامسة والمنابذة، والملامسة أن يلمس الرجل الثوب ولا ينظر إليه ولا يتأمل ما فيه، أو يبتاعه ليلا ولا ينظر ما فيه، والمنابذة أن ينبذ الرجل إلى الرجل ثوبه وينبذ الآخر إليه ثوبه على غير تأمل منهما، ويقول كل واحد منهما: هذا بهذا، فهذا الذي نهي عنه من الملامسة والمنابذة، ومن ذلك نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن المضامين والملاقيح،

(2/71)


والمضامين: ما في بطون الإناث، والملاقيح ما في ظهور الجمال؛ وقيل بعكس ذلك: إن الملاقيح ما في بطون الإناث، والمضامين ما في ظهور الجمال، والتفسير الأول في الموطأ لمالك أو لابن شهاب أو لسعيد بن المسيب، وإليه ذهب أبو عبيد، والتفسير الثاني لابن حبيب وغيره، ومن ذلك نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع حبل الحبلة، وهو بيع نتاج النتاج، وقيل: هو البيع إلى نتاج النتاج، وأي الأمرين كان فهو غرر، إما في المثمون، وإما في أجل الثمن، ومن ذلك نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الحصاة، وهو أن يساوم الرجل الرجل في سلعة وبيد أحدهما حصاة، فيقول لصاحبه: إذا سقطت الحصاة من يدي فقد وجب بيع بيني وبينك، وقيل: هو أن تكون السلعة منشورة فيرمي المبتاع حصاة، فأيها وقعت عليه وجبت له بما سميا من الثمن، وأي ذلك كان فهو أيضا من الغرر المنهي عنه، ومن ذلك نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيعتين في بيعة، على الاختلاف في معنى ذلك، ومن ذلك نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع العربان، وتفسيره أن يشتري الرجل السلعة ويعطيه دينارا أو درهما فيقول له: إن أخذتها فذلك من الثمن، وإن تركتها كان ذلك باطلا بغير شيء، وذلك أيضا غرر بين، وكانت هذه كلها بيوعا كان أهل الجاهلية يتبايعون بها، فنهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عنها، لأنها من أكل المال بالباطل، قال الله عز وجل: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] معناه: تجارة لا غرر فيها ولا مخاطرة ولا قمار، لأن التراضي بما فيه غرر أو خطر أو قمار لا يحل ولا يجوز، لأنه من الميسر الذي حرمه الله في كتابه حيث يقول: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90] .

(2/72)


فصل فلا يصح البيع إلا أن يكون سالما من الغرر الكثير، لأن الغرر اليسير الذي لا تنفك البيوع منه مستخف مستجاز فيها.

فصل وإنما يقع الاختلاف بين العلماء في فساد بعض أعيان العقود لاختلافهم فيما فيه من الغرر، هل هو من جنس الكثير الداخل تحت نهي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الغرر المانع من صحة العقد، أو من جنس اليسير المستخف المستجاز في البيوع الذي لا يمنع من صحة العقد.
فصل والغرر الكثير المانع من صحة العقد يكون في ثلاثة أشياء (أحدهما) العقد (والثاني) أحد العوضين: الثمن أو المثمون، أو كليهما. (والثالث) الأجل فيهما أو في أحدهما، فأما الغرر في العقد فهو مثل نهي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيعتين في بيعة وعن بيع العربان، وعن بيع الحصاة، على أحد التأويلين، وما أشبه ذلك مما لا جهل فيه في ثمن ولا مثمون، وإنما حصل الغرر فيه بانعقاده بين المتبايعين على هذه الصفات؛ ومن هذا المعنى بيع المكيل والجزاف في صفقة واحدة، والقول فيما يجوز من بيع الجزاف والمكيل في صفقة واحدة، يتحصل بأن يعلم أن من الأشياء ما الأصل فيه أن يباع كيلا ويجوز بيعه جزافا، كالحبوب، وأن منها ما الأصل فيه أن يباع جزافا ويجوز بيعه كيلا، كالأرضين والثياب، وأن منها عروضا لا يجوز بيعها كيلا ولا وزنا كالعبيد والحيوان، فالجزاف مما أصله أن يباع كيلا كالحبوب لا يجوز بيعه مع المكيل منه، ولا مع المكيل مما أصله أن يباع جزافا، كالأرضين والثياب باتفاق، والجزاف مما أصله أن يباع جزافا لا يجوز أن يباع مع الميكل منه باتفاق أيضا،

(2/73)


واختلف في بيعه مع المكيل مما أصله أن يباع كيلا على قولين، (أحدهما) أن ذلك جائز، وإليه ذهب ابن زرب وأقامه من إجازته في السلم الأول من المدونة، أن يسلم في ثياب وطعام صفقة واحدة (والثاني) أن ذلك لا يجوز، وإليه ذهب ابن العطار في وثائقه، ولا اختلاف في جواز بيع الكيلين في صفقة واحدة وجزافين في صفقة واحدة أيضا على كل حال، ولا يجوز بيع الجزاف مع العروض في صفقة واحدة إلا عند ابن حبيب، فإنه ذهب إلى أن الجزاف مما أصله أن يباع كيلا، لا يجوز بيعه مع العروض في صفقة واحدة، وهو بعيد، وأما بيع الجزاف على الكيل، فلا ينضاف إليه في البيع شيء بحال على الصحيح من الأقوال، وهو مذهب ابن القاسم. وأما بيع الجزافين على الكيل، فإن كانا على صفة واحدة وبكيل واحد، جاز باتفاق، وإن اختلف الكيل والصفة جميعا لم يجز باتفاق، وإن اتفق أحدهما واختلف الآخر، جاز على اختلاف بين ابن القاسم وأشهب، فعلى مذهب ابن القاسم لا يجوز أن يبيع الرجل قريته تكسيرا، كل قفيز بكذا، إلا أن يستوي أرضها في الطيب والكرم ولا يكون فيها ثمرة ولا دار تدخل في البيع، فإن باع منها زرعا مسمى من موضع بعينه، أو على أن يأخذ المشتري من أي موضع أحب، فعلى ما تقدم لا يجوز أن يضاف إلى ذلك في الصفقة جزاف مما أصله أن يباع جزافا ولا مما أصله أن يباع كيلا؛ وكذلك إن باعها كلها على أن تكسيرها كذا وكذا على مذهب من حكم لذلك بحكم شراء الذرع المسمى إن كان فيها أكثر مما سمى، كان الزائد للبائع، وإن كان فيها أقل، كان بالخيار بين أن يأخذ ما وجد بحسابه من الثمن أو يرد، إلا أن يكون النقصان يسيرا فيلزمه ما وجد بحسابه من الثمن، وأما على مذهب من جعل ذلك كالصفة للأرض إن وجد فيها أكثر من الذرع المسمى، كان للمبتاع، وإن وجد أقل، كان المبتاع بالخيار بين أن يأخذ بجميع الثمن أو يرد، فلا يجوز أن ينضاف إلى ذلك في الصفقة كيل مما أصله أن يباع جزافا باتفاق، ولا كيل مما أصله أن يباع كيلا على ما تقدم من الاختلاف،

(2/74)


وكذلك القول في الثوب والخشبة وما أشبههما إذا اشترى ذلك كله، كل ذراع بكذا، أو على أن فيه كذا وكذا ذراعا، أو اشترى منه ذرعا كذا، وحكم الموزون والمعدود في جميع ما ذكرناه حكم المكيل.

فصل وأما الغرر في الثمن والمثمون أو في أحدهما، فإنه يكون بثلاثة أوجه، (أحدها) الجهل بصفة ذلك أو بمقداره، فأما الجهل بصفة ذلك، فهو مثل أن يبيع جنينا في بطن أمه، أو غائبا على غير صفة، أو يبيع سلعة بدنانير مسماة من غير صفة ونقد البلد مختلف، وما أشبه ذلك، وأما الجهل بمقداره، فهو مثل أن يبيع الطعام بكيل مجهول، أو يبيع سلعة بجزاف من الدنانير والدراهم، (والثاني) عدم القدرة على تسليمه، وذلك مثل أن يبيع العبد الآبق، والجمل الشارد والسلعة بيد غاصب منكر للغصب ولا بينة عليه، أو مقر به ممتنع من دفعها وهو ممن لا تأخذه الأحكام؛ وقد اختلف إن كان الغاصب منكرا للغصب ممن تأخذه الأحكام وعليه بالغصب بينة؛ ومثل شراء الدين على الحاضر المنكر إذا كانت عليه بينة، وشراء ما فيه خصومة، وأخف ذلك شراء الدين على الغائب القريب الغيبة على مسيرة اليومين والثلاثة إذا لم يعلم إقراره من إنكاره وعليه بينة، وأما إذا لم تكن عليه بينة فلا يجوز ذلك، (والثالث) الجهل بمآل حاله - وهو أمر مختلف فيه، وذلك مثل أن يبيع الرجل العبد المجروح موضحة قبل أن يبرأ ويحكم له بأرشها من غير أن يبرأ الجاني من الجناية، أو يبيع العبد المريض إذا كان المرض قد بلغ به إلى الحد الذي لا يجوز للمريض فيه القضاء في جميع ماله، أو يشتري الأنقاض قائمة على القلع من قاعة ليست للبائع ولا للمبتاع، وما أشبه ذلك، ومما يشبهه أن يكون للرجل على الرجل دنانير أو دراهم أو عروض، فيصالح رجل أجنبي صاحب الدين على أن يدفع إليه خلاف الدين مما يصير الذي عليه الدين مخيرا في صنفين.

(2/75)


فصل وأما الغرر بالأجل في الثمن والمثمون، فذلك مثل أن يبيع منه السلعة بثمن إلى قدوم زيد أو إلى موته، أو يسلم إليه في سلعة إلى مثل ذلك الأجل، وما أشبه ذلك.

فصل وإذا وقع بيع الغرر فسخ ما كان قائما، فإن فات بيد المبتاع صحح بالقيمة، وضمانه على مذهب ابن القاسم من البائع ما لم يقبضه المبتاع، وإن دفع الثمن أو دعي إلى قبضها، وقد روى أبو زيد عن ابن القاسم أن ضمانها من البائع - وإن قبضها المبتاع - وهو بعيد، وقال أشهب: إن ضمانها من المبتاع وإن كانت بيد البائع - إذا نقد الثمن، أو دعي إلى قبضها - وإن لم ينقد الثمن.
فصل وقد اختلف الذين رأوا أنها لا تدخل في ضمان المبتاع إلا بالقبض إذا عقد فيها عقدا من عتق أو بيع أو صدقة أو هبة وما أشبه ذلك من العقود، هل يكون ذلك قبضا وفوتا أم لا؟ على أربعة أقوال، (أحدها) أنه لا يكون شيء من ذلك كله قبضا ولا فوتا، وهو قول سحنون، (والثاني) أن ذلك كله يكون قبضا وفوتا، وهو قول ابن القاسم في كتاب العيوب، لأنه رآه فوتا في الصدقة، فهو فيما سواه أحرى أن يكون فوتا (والثالث) أنه لا يكون فوتا شيء من ذلك إلا العتق لحرمته، وهو قول ابن القاسم في الكتاب المذكور، قوله في البيع إذا كان الأول قد قبضها (والرابع) أنه لا يكون فوتا وقبضا إلا العتق والبيع خاصة.

فصل وبيع السلعة الغائبة على الصفة خارج مما نهى عنه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من بيع الغرر في مذهب مالك وجميع أصحابه، خلافا للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في قوله:

(2/76)


إن الغائب لا يجوز بيعه على الصفة، لأنه لا عين مرئية ولا صفة مضمونة ثابتة في الذمة، وخلافا لأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في قوله: إن شراء الغائب على الصفة وعلى غير الصفة جائز، وللمبتاع خيار الرؤية إذا نظر إليها، وقد روي عن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مثل هذا القول، والصحيح ما ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وجميع أصحابه من أن شراء الغائب على الصفة جائز، وذلك للمبتاع لازم - إن وجد الغائب على الصفة التي وصف بها، لأن الصفة تقوم مقام رؤية الموصوف، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تنعت المرأة المرأة للزوج حتى كأنه ينظر إليها» أو كما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فشبه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المبالغة في الصفة بالنظر، وقال الله تبارك وتعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة: 89] وجه الدليل من هذه الآية أن اليهود كانوا يجدون في التوراة نعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصفته، فكانوا يحدثون بذلك ويستفتحون به على الذين كفروا؛ أي يستنصرون به على كفار العرب، يقولون: اللهم آت بهذا النبي الذي يقتل العرب ويذلهم؛ لأنهم كانوا يرجون أن يكون منهم؛ فلما بعثه الله تعالى من العرب ولم يكن منهم، حسدوه وكفروا به، فقال لهم معاذ بن جبل، وبشر بن البراء بن معرور: يا معشر يهود اتقوا الله وأسلموا، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد ونحن أهل شرك، وتخبروننا أنه مبعوث وتصفونه لنا بصفته؛ فقالوا: ما جاءنا بشيء نعرفه، وما هو هذا الذي كنا نخبركم به، فأنزل الله عز وجل تكذيب قولهم في كتابه، وذلك قوله: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [البقرة: 89] فلما قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا} [البقرة: 89] وهم لم يعرفوه قبل إلا بصفته التي وجدوها في التوراة، دل ذلك على أن المعرفة بالصفة معرفة بعين الشيء الموصوف، وذلك ما أردنا أن نحتج له، وفي قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في

(2/77)


حديث أبي هريرة الواقع في الكتاب: «لا ينظرون إليها ولا يخبرون عنها» ، دليل بين على أن الخبر عنها بمنزلة النظر إليها، وإذا جاز أن يسلم الرجل إلى الرجل في ثوب أو عبد على صفة، ولم يكن ذلك غررا، جاز أن يبتاعه على الصفة ولا يكون ذلك غررا، إذ لا فرق بين الموضعين، ومن الدليل أيضا على جواز البيع على الصفة قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تبيعوا الحب في سنبله حتى يبيض في أكمامه» فإذا جاز بيع الحب في أكمامه وهو غير مرئي على صفة ما فرك منه إن كان حاضرا، جاز أن يشتري منه إذا كان غائبا على صفة، إذ لا فرق إذا غاب المبيع بين أن يبيعه على الصفة أو على مثال يريه إياه، وهذا الحديث أيضا حجة في بيع الجزر والفجل وما أشبه مما هو مغيب تحت الأرض، لأنه يقلع منه شيء فيستدل به على بقيته، ويستدل عليه أيضا بفروعه.

فصل ومن هذا بيع الجوز واللوز والباقلاء في قشره الأعلى، فأجازه مالك وأصحابه؛ خلافا للشافعي وأبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ودليلنا قَوْله تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] ولأنه مأكول في أكمام من أصل الخلقة، فجاز بيعه كالرمان والموز، ولأن
الضرورة تدفع
إلى ذلك، لما بالناس من الحاجة إلى بيع ذلك رطبا، إذ ليس كل أحد يمكنه تجفيفه، وفي نزع قشره إفساد له، فلم يبق إلا جواز البيع، بيد أنه لا يجوز الاجتزاء بالصفة عن النظر إلا مع الضرورة إلى ذلك، لأن النظر أبلغ في المعرفة من الصفة، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس المعاينة كالخبر» .

(2/78)


فصل فمن الضرورة إلى ذلك أن تكون السلعة المبيعة على الصفة غائبة في بلد آخر، أو يكون المبيع متاعا كثيرا مشدودا في أعداله وأحماله، فيجوز بيعه على صفة البرنامج، لأن فتحه كله ونشره مما يضر بصاحبه ويشق عليه، وأما الثوب الواحد والثياب اليسيرة فلا يجوز بيعها على الصفة إذا كانت حاضرة حال العقد، وقد أجاز أشهب بيع الساج المدرج في جرابه على الصفة، وذلك في الثوب الرفيع الذي يغيره ترداد نشره على السوام وتقليبهم إياه، وأما الثوب الذي ليس على هذه الصفة، فلا ينبغي أن يختلف فيه.

فصل وقد اختلف في السلعة الحاضرة في البلد الغائبة عن موضع العقد فقيل: إن بيعها على الصفة لا يجوز، لأنها كالحاضرة، إذ لا تتعذر رؤيتها، وقيل: إن بيعها على الصفة جائز - وإن كانت في البلد، لأنها إذا لم تكن حاضرة في موضع العقد فلم يقصد إلى الغرر بشرائها على الصفة وأشبهت الغائبة عن البلد.

فصل وبيع الغائب على مذهب ابن القاسم جائز ما لم يتفاحش بعده والعقد عليه صحيح، وإن لم يعلم إن كان حين العقد قائما أو تالفا، فإن وجد قد تلف قبل العقد وقبل البيع باتفاق، وإن تلف بعد العقد وقبل القبض، فاختلف قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في ذلك، فمرة قال: إن مصيبته من البائع وينتقض البيع كتلفه قبل العقد، وهو آخر قوله، ومرة قال: إن مصيبته من المبتاع ويصح البيع.

فصل ويجوز لمشتري السلعة الغائبة أن يبيعها قبل القبض من غير الذي اشتراها منه بما شاء ولا ينتقد بشرط، إلا أن يكون قريب الغيبة، وأما من الذي باعها

(2/79)


منه فلا يجوز له أن يبيعها منه بمثل الثمن ولا بأكثر ولا بأقل، لأنه فسخ الدين في الدين، إلا أن يكون نقد الثمن بغير شرط على كلا القولين في مذهب ابن القاسم، وقال سحنون: يجوز أن يبيعها منه على القول الذي يرى فيه الضمان من البائع؛ قياسا على ما أجازه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - من الإقالة في الجارية التي في المواضعة، وقوله أظهر في القياس.
فصل وأما إن باعها منه بخلاف الثمن الذي اشتراها به مما يجوز بيعها به، فذلك جائز إذا لم ينتقد بشرط، إلا أن يكون قريب الغيبة مما يجوز النقد فيه، قال في الكتاب: لا أرى بذلك بأسا إذا علم أن الثوب قائم حين وقعت الصفقة الثانية في مسألة من آجر داره من رجل شهرين بثوب موصوف في بيته، ثم باع ذلك الثوب منه قبل أن يقبضه منه بدراهم أو بدنانير أو بثوبين مثله من صنفه، أو بسكنى دار له أخرى، وهو كلام فيه نظر إذ ليس من شرط صحة العقد على الغائب أن يعلم قيامه حين العقد، كما يظهر من ظاهر اللفظ؛ إذ لو كان ذلك من شروط صحته لما جاز بيع غائب بحال، إذ لا طريق إلى معرفة قيام الشيء للغائب في حال غيبته، فمعنى الكلام والمراد به أن الصفقة إذا وقعت فعلم بعد وقوعها أن الثوب كان قائما في حين وقوعها، صحت وعلم انتقال الملك بها من المشتري إلى البائع، والضمان أيضا من البائع إلى المشتري، على قول مالك رحمه اللة تعالى الآخر واختيار ابن القاسم، أو من المشتري إلى البائع، على قول مالك الأول، وإن وجدت السلعة بعد الصفقة قد تلفت قبل الصفقة، أو لم يعلم إن كان تلفها قبل الصفقة أو بعدها، فالصفقة باطلة لا ينتقل بها ملك الثوب ولا ضمانه عما كان عليه، وقد تكلم عبد الحق على توجيه هذا اللفظ فحكى عن بعض شيوخه القرويين أنه قال:

(2/80)


إنما شرط ابن القاسم إن علم أنه عنده وقت الصفقة الثانية، لأنه إن كان موجودا عنده وانهدمت الدار في بعض المدة، ينتقض من الثوب مقدار ذلك، وإن كان الثوب ليس عنده وقت الصفقة الثانية، فكأن الكراء إنما وقع بالدراهم، فإذا انهدمت الدار كان الرجوع فيها، فوجب لهذا لما كان لا يدري فيما ذا يرجع من الدراهم ومن الثوب، أن لا يجوز حتى يعلم ذلك فيدخلان على أمر معروف، وقال غيره: إنما شرط إذا علم أنه عنده، لأنه لا يدري هل باع منه شيئا موجودا أم لا، فعقد البيع إذا وقع جائز، ثم ينظر: فإن علم أنه عنده فقد صحت لنا الصفقة الأولى، وإلا فلا، وقوله: ينتقض من الثوب مقدار ذلك، يريد أنه إن انهدمت الدار وقد سكن نصف المدة، رجع عليه بنصف قيمة الثوب، وإن كان أقل فأقل، وإن كان أكثر فأكثر على هذا الحساب، لأن الثوب الذي هو عوض السكنى قد فات بالبيع منه، فهو بمنزلة فواته بالبيع من غيره أو بغير ذلك من وجوه الفوت، وهو صحيح، وذهب أبو إسحاق التونسي إلى أنه إنما يرجع في الثمن الذي دفع بقدر ما بقي له من السكنى، وعلته في ذلك أنه قد استحق من الثوب الذي باع بقدر ما انهدم من الدار، فوجب أن ينتقض البيع في مقدار ذلك من الثوب، وهو تعليل غير صحيح، لأن الثوب ثمن السكنى، فإنما يجب الرجوع فيه ويكون كالمستحق إذا كان قائما لم يفت والبيع فيه فوت؛ وإن كان إنما باعه منه إذ لا فرق في فواته بالبيع منه أو من غيره، ألا ترى أن من اشترى عبدا بيعا فاسدا فباعه من بائعه منه بيعا صحيحا أنه فوت فيمضي، ويصحح البيع الفاسد بالقيمة، ويلزم في هذا على تعليل أبي إسحاق التونسي أن ينتقض البيع الصحيح ولا يكون فوتا لرجوع السلعة إلى يد البائع وينفسخ البيع الفاسد، وهو بعيد، وأما قوله، أعني قول بعض شيوخ القرويين: فإن كان الثوب ليس عنده وقت الصفقة الثانية، فكأن الكراء إنما

(2/81)


وقع بالدراهم، فإذا انهدمت الدار كان الرجوع فيها فلا يصح، وإنما الواجب إن كان تلف الثوب قبل الصفقة الأولى أو بعد الصفقة الأولى وقبل الصفقة الثانية على القول الذي يرى الضمان من البائع في السلعة الغائبة ما لم يقبضها المبتاع، أن يرجع صاحب الدار على صاحب الثوب بقيمة ما سكن الدار إلى وقت انهدامها، لأن صاحب الدار لم يقبض شيئا لكون مصيبة السلعة من صاحبها بمنزلة من اكترى دارا بثوب فسكنها بعض المدة واستحق الثوب، فإن رب الدار يرجع على صاحب الثوب بقيمة ما سكن، وإن كان إنما تلف بعد الصفقة الأولى وقبل الصفقة الثانية على القول الذي يرى ضمان الغائبة من المبتاع إذا كان سليما يوم الصفقة، أن يرجع المكتري على صاحب الدار في قيمة الثوب بقدر ما بقي من السكنى، لأنه قد تلف ومصيبته منه، ويرجع عليه أيضا بالثمن الذي دفع إليه فيه لانتقاض البيع بتلفه قبل وقوع الصفقة؛ وأما قول غيره: إنما شرطه إذا علم أنه عنده، لأنه لا يدري هل باع منه شيئا موجودا أم لا، فعقد البيع إذا وقع جائز، فإنه كلام صحيح جيد، وأما قوله: ثم ينظر، فإن علم أنه عنده فقد صحت لنا الصفقة الأولى، وإلا فلا، فإنما معناه على قول مالك الثاني واختيار ابن القاسم أن ضمان الغائب من البائع ما لم يقبض، فيكون عقد البيع عليه قبضا له وتصح الصفقة الأولى، فإن قبضه البائع الأول بابتياعه، صحت الصفقة الثانية أيضا، وإن فات قبل أن يقبضه كانت مصيبته من المشتري الأول وهو البائع الثاني، وأما على قول مالك الأول، فإن علم أنه قائم يوم وقعت الصفقة الثانية فقد صحت الصفقة الأولى والثانية.

فصل وبيع السلع المغيبات لا يجوز إلا على ثلاثة أوجه، (أحدهما) على الرؤية، (والثاني) على الصفة في الموضع الذي يجوز بيعها فيه على الصفة على ما قدمناه (والثالث) أن يشترط أنه بالخيار إذا رآها ولا ينقد بشرط كانت قريبة أو بعيدة، هذا

(2/82)


قول مالك في المدونة في السلم الثالث منها وقد قيل: إن البيع في العروض المغيبات لا يجوز إلا برؤية أو بصفة، وفي كتاب الغرر دليل على هذا القول وهو الصحيح الذي يحمله القياس، وأما النقد فيها بشرط إذا اشتريت بصفة، فلا يجوز في البعيد الغيبة، واختلف قول مالك في ذلك إذا كانت قريبة الغيبة، فله في المدونة أن ذلك جائز، وله في الموطأ أن ذلك لا يجوز، وهي رواية ابن وهب عن مالك في موطئه، ورواية ابن القاسم عنه في أصل سماعه؛ وهذا إذا اشتراها بصفة المخبر والرسول، وأما إذا اشتراها بصفة صاحبها فلا يجوز النقد فيها بشرط على حال، قربت الغيبة أو بعدت؛ وأما الرباع فاشتراط النقد فيها جائز - قربت غيبتها أو بعدت، وذلك أيضا إذا لم يشترها بصفة صاحبها، كذلك روى أشهب عن مالك وهو تفسير لما في المدونة وغيرها، وبقية أحكام شراء الغائب يأتي التكلم عليها في مواضعها من الكتاب، إن شاء الله، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.

(2/83)