المقدمات الممهدات

 [كتاب بيع الخيار] [فصل في بيان جواز البيع على الخيار]
فصل في بيان جواز البيع على الخيار، البيع على الخيار جائز لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المتبايعان بالخيار، كل واحد منهما على صاحبه ما لم يفترقا، إلا بيع الخيار» وفي بعض الآثار: «إلا أن تكون صفقة خيار» فأخبر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن من البيع ما يكون فيه خيار، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لحبان بن منقذ أو لأبيه منقذ بن عمرو الأنصاري، على اختلاف في ذلك: «إذا بايعت فقل: لا خلابة، ولك الخيار ثلاثا» وذلك أنه قد أتى عليه من السنين ثلاثون ومائة سنة، فكان إذا باع غبن فشكا ذلك إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال له: «إذا بايعت فقل: لا خلابة، ولك الخيار ثلاثا» . فقيل: إن ذلك خصوص من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لذلك الرجل: أن جعل الخيار له ثلاثا فيما باع أو اشترى- وإن لم يشترط ذلك، وقيل: بل إنما جعل له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يشترط الخيار لنفسه ثلاثا، مع قوله: لا خلابة، فيكون الحديث على هذا مستعملا، وأيا ما كان، فيه إجازة الخيار في البيع.

(2/85)


فصل والخيار في بيع في أصله غرر، وإنما جوزته السنة
لحاجة
الناس إلى ذلك، لأن المبتاع قد لا يخبر ما ابتاع فيحتاج إلى أن يختبره ويعلم إن كان يصلح له أم لا، وإن كان يساوي الثمن الذي ابتاعه به أم لا، وقد يحتاج في ذلك كله إلى رأي غيره، فيريد أن يستشير فيه، فجعل له الخيار رفقا به، ولا يلزم مثل هذا في النكاح وإن كان الرجل قد يحتاج إلى اختبار الزوجة التي يتزوج والتثبت في إن كانت ممن تصلح له أم لا، والاستشارة في أمرها، أكثر مما يحتاج إليه في السلعة التي يبتاع، لأن البيع طريقه المكايسة والمتاجرة، والنكاح طريقه المكارمة والمواصلة، فافترق لذلك موضوعهما.

فصل والخيار يكون لوجهين: المشورة واختبار المبيع، أو لأحد الوجهين، فالعبد يختبر عقله وخلقه وخدمته وبلادته ونشاطه، وكذلك الجارية يختبر عقلها وخلقها وقوتها على الخدمة وإحكامها لما تتناوله من الطبخ والخبز وما أشبه ذلك من الصنعة، والدار يختبر بناؤها وجيرانها ومكانها وينظر إلى أسسها وحيطانها ومنافعها، والدواب يختبر خلقها وسيرها وقوتها من ضعفها ونشاطها من عجزها وأكلها وحالها في وقوفها ووضع آلتها عليها وما أشبه ذلك، وأما الثياب والعروض فلا وجه للاختبار فيها، وإنما الخيار فيها للمشورة خاصة، أو ليقيس على نفسه ما اشترى من ذلك للباسه.

فصل فإن اشترط المشتري الخيار فيما يصح فيه الاختبار ولم يبين أنه إنما اشترط الخيار للاختبار، وأراد قبض السلعة ليختبرها، وأبى البائع من دفعها إليه وقال: إنما لك المشورة - إذ لم تشترط قبض السلعة في أمد الخيار للاختبار؛ فالقول قول

(2/86)


البائع، ولا يلزمه دفعها إليه، إلا أن يشترط ذلك عليه، ولا يكون اشتراط الخيار في العبد والجارية الجمعة ونحوها، وفي الدار الشهر والشهرين بدليل على أنه إنما أراد الاختبار، لأن المشورة في ذلك لا تتساوى أيضا، بل تفترق بافتراق المبيع، إذ ليس البحث والسؤال عن دار يريد اقتناءها وسكناها ويتعذر عليه الاستبدال بها إذا لم توافقه، كالعبد والخادم، ولا العبد والخادم كالسلع التي لا مئونة عليه في بيعها والاستبدال بها.

فصل وللبائع من اشتراط الخيار مثل ما للمبتاع سواء، فإن اشترطه أحدهما كان له الأخذ والرد دون صاحبه، وإن اشترطاه جميعا جاز أيضا، فإن اجتمعا على رد أو إجازة، جاز ما اجتمعا عليه من ذلك، وإن اختلفا فأراد أحدهما إمضاء البيع وأراد الآخر رده؛ فالقول قول من أراد رده، ولا يتم البيع إلا باجتماعهما جميعا على الإجازة، لأن الذي أراد إمضاء البيع مسقط لحقه في الرد بائعا كان أو مبتاعا، والذي أراد البيع منهما أخذ بحقه غير مسقط له، فلا يسقط بإسقاط الذي أراد إمضاء البيع حق نفسه وهذا بين.

فصل وإذا كانت العلة في إجازة البيع على الخيار حاجة الناس إلى المشورة فيه وإلى الاختبار، فحده قدر ما يختبر فيه البيع ويرتأى فيه ويستشار، على اختلاف أجناسه وإسراع التغير إليه وإبطائه عنه، فيجوز الخيار في الدواب اليوم واليومين والثلاثة، ولا يجوز فيها أكثر من ذلك، لإسراع التغير إليها، ولأن اختبارها والعلم بما هي عليها من أحوالها، يحصل في هذه المدة؛ إذ ليست من ذوي الميز الذي يخشى منها أن تستر ما فيها من الأخلاق الذميمة والعيوب التي تزهد فيها، وتستعمل ما يرغب فيها من أجله، وكذلك العروض والثياب يجوز الخيار فيها اليوم

(2/87)


واليومين والثلاثة، كالدواب سواء؛ لأنها وإن كانت مما لا يختبر كما تختبر الدواب، فإنها لا يسرع إليها التغير، كما يسرع إلى الدواب، فلم يضيق في أجل الخيار فيها لهذه العلة؛ وأما الرقيق فيجوز الخيار فيها أكثر من ذلك، قال في المدونة: الخمسة الأيام والستة إلى الجمعة. وقال ابن المواز: الأربعة الأيام والخمسة، ولا أفسخه في عشرة، وأفسخه في الشهر، وروى ابن وهب أن مالكا - رَحِمَهُ اللَّهُ - أجاز الخيار في العبد شهرا وأباه ابن القاسم وأشهب في الشهر، فوجه رواية ابن وهب عن مالك أن الرقيق ذو ميز، فربما ستر العبد والجارية ما فيهما من الأخلاق الذميمة، واستعملا ما يرغب فيهما من أجله، فاحتيج في اختبارهما إلى مدة لا يستتر فيها ما طبعا عليه من الأخلاق غالبا، وإن رأى ما ستره وهو الشهر عنده، ووجه قول ابن القاسم أنه وإن كان يحتاج في الرقيق إلى الاختبار الكثير بما وصفناه من علة الميز، فإن الشهر بعيد يتغير إليه الرقيق، فمنع من ذلك لعلة التغير، وأجاز من الخيار فيهما ما قد يحصل فيه الاختبار ومعرفة الحال ولا يخشى معه التغير والانتقال - وهو الجمعة ونحوها، وحمل الصغير الذي لا يميز في ذلك محمل الكبير المميز، جعل الباب في ذلك واحدا لما لم يكن لوقت ميزه حد يرجع إليه لا يختلف، وأما الدور التي يحتاج فيها إلى الاختبار ويؤمن عليها التغير، فيجوز الخيار فيها إلى الشهر؛ قال ابن حبيب: والشهرين في الدور والأرضين، ولم يذكر في المدونة الأرضين وما في الواضحة مفسر لما في المدونة.

فصل فأمد الخيار في البيع إنما هو بقدر ما يحتاج إليه في الاختبار والارتياء مع مراعاة إسراع التغير إلى المبيع وإبطائه عنه، خلافا للشافعي وأبي حنيفة رحمهما الله في قولهما: إنه لا يجوز الخيار في شيء من الأشياء فوق ثلاث.

(2/88)


فصل فإن زاد في أجل الخيار إلى فوق ما يحتاج إليه، فسد البيع ولم يجز، لخروجه بذلك إلى الغرر الذي لا يجوز في البيوع، وأما إن لم يضربا للخيار أجلا واشترطاه، فلا يفسد البيع ويضرب لهما من الأجل بقدر ما تختبر إليه تلك السلع، لأن الحد في ذلك معروف، فإذا أخلا بذكره، فإنما دخلا على العرف والعادة.

فصل ولكل واحد من المتبايعين أن يشترط الخيار لغيره، فإن اشترطه أحدهما دون صاحبه لغيره، فاختلف في ذلك على أربعة أقوال، (أحدهما) أن ذلك حق لمشترطه من المتبايعين دون صاحبه، فإن كان البائع منهما هو مشترط الخيار لغيره، كان له أن يمضي البيع للمبتاع إن شاء ويرد إن شاء، ولا يلزمه إجازة من اشترط له الخيار - إن أراد هو الرد، ولا رده - إن أراد هو الإجازة - إن أراد المشتري أن يلزمه ذلك. إذ لا حق له في ذلك معه؛ وإن كان المبتاع منهما هو مشترط الخيار لغيره، فكذلك أيضا يكون بالخيار بين أن يأخذ أو يرد، ولا يلزمه إجازة من اشترط الخيار إن أراد هو الرد، ولا رده إن أراد هو الإجازة وأراد البائع أن يلزمه ذلك، إذ لا حق له في ذلك معه على هذا القول، كالمشورة التي لمشترطها تركها والقضاء بما أحب من رد أو إجازة سواء؛ هذا قول ابن حبيب في الواضحة واختيار ابن لبابة في كتابه المنتخب، (والقول الثاني) أن الرد والإجازة بيد من جعل إليه الخيار، وذلك حق للباقي من المتبايعين دون من اشترط ذلك منهما لغيره، فإن أراد الذي اشترط الخيار منهما لغيره أن يرد أو يجيز وأبى الباقي منهما إلا أن يلزمه ما

(2/89)


يقضي به من جعل إليه الخيار من رد أو إجازة، كان ذلك له، هذا قوله في المدونة في المبتاع إذا اشترط الخيار لغيره وله في البائع إذا اشترط الخيار لغيره مثله في موضع منها، لأنه قال فيه: فإن رضي فلان البيع فالبيع جائز، ودليل هذا الكلام أنه إن لم يرض ورد فهو مردود، ولا كلام في ذلك للبائع الذي اشترط رضاه أو خياره. (والقول الثالث) أن ذلك حق لهما جميعا، حق للبائع إن أراد إمضاء البيع للمبتاع، وأراد الذي جعل إليه البائع الخيار أن يرد؛ وحق للمبتاع إن أراد الذي جعل إليه البائع الخيار إمضاء البيع، وأراد البائع أن يرد، فبيان هذا الوجه أنه إن أراد البائع إمضاء البيع لزم ذلك المبتاع، وإن أراد الذي جعل إليه البائع الخيار أن يرد، وإن أراد الذي جعل إليه البائع الخيار - إمضاء البيع، كان للمبتاع أن يأخذ ولزم ذلك البائع، وإن كره وأراد الرد، فيلزم المبتاع البيع، وإن كره برضى البائع ويلزم البائع البيع - وإن كره برضا من جعل إليه الخيار، إلا أن يوافق المبتاع البائع على ما أراد من الردة، وكذلك إن كان المبتاع منهما هو الذي اشترط الخيار لغيره وأراد الأخذ، كان ذلك له؛ وإن أراد الذي جعل إليه أن يرد، فإن أراد الذي يشترط له الخيار الإجازة، كان للبائع أن يلزم المبتاع البيع. وبيان هذا الوجه أن البيع يلزم البائع وإن كره برضى المبتاع، ويلزم المبتاع وإن كره برضى الذي جعل إليه الخيار. هذا قوله في المدونة في البائع إذا اشترط رضى غيره في موضع منها، لأنه قال فيه: فإن رضي البائع أو رضي فلان البيع، فالبيع جائز، ومثله يلزم في المبتاع على مذهب من لم ير بين اشتراط البائع والمبتاع في ذلك فرقا، وجعل اختلاف جوابه في السؤالين اختلاف قول، لا من أجل افتراق المسألتين؛ وتأول أبو إسحاق التونسي ما في المدونة في البائع بجعل الخيار لغيره أن ذلك بمنزلة الوكالة، ومن سبق منهما فرده أو أجازه مضى ما فعل؛ قال: وهو القياس، ومثله يلزم في المبتاع خلاف ما في المدونة. (والقول الرابع) الفرق بين أن يشترط ذلك البائع أو المبتاع، وعلى ذلك تأول ما في المدونة ابن أبي زيد وأبو إسحاق التونسي وابن لبابة، إلا أنهم اختلفوا في التأويل إذا اشترط ذلك البائع: فذهب ابن لبابة إلى أن البيع يلزم المبتاع برضى البائع، ويلزم البائع برضى الذي جعل إليه الخيارة، ومثله تأويل ابن

(2/90)


أبي زيد، على هذا حمل ابن لبابة قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في الموطأ، وقول ابن نافع في تفسير ابن مزين، والأظهر من قولهما - عندي - أن للذي جعل إليه البائع الخيار الرد والإجازة، وأن ذلك حق للمبتاع؛ وذهب أبو إسحاق التونسي إلى ما حكيناه عنه، أن ذلك بمنزلة الوكالة؛ ولم يختلفوا في تأويل ما وقع في المدونة إذا اشترط ذلك المبتاع، والظاهر- عندي فيما وقع في المدونة - أن ذلك اختلاف من قوله في البائع لا يدخل في المبتاع، فمرة جعل اشتراط البائع ذلك كاشتراط المبتاع، ومرة فرق بينهما، وقد قيل: إن ما وقع في المدونة ليس باختلاف قول، وإنما يرجع ذلك إلى الفرق بين البائع والمباع، وقد قيل: إن ذلك اختلاف قول يدخل في البائع والمبتاع، وأما المشورة فلا اختلاف بينهم أن لمشترطها تركها، وأن الحق في ذلك لمشترطها من المتبايعين دون صاحبه، إلا ما حكى أبو إسحاق التونسي أن ظاهر ما في كتاب محمد بن المواز - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أن المشورة كالخيار في أنه إذا سبق فأشار بشيء لزم، وهو بعيد؛ فتأمل قوله في الأصل. وأما ما حكاه أبو إسحاق التونسي عن ابن نافع أن المشورة كالخيار سواء في أن للمشترط مشورته الأخذ أو الرد، فهو نقل غير صحيح، لأنه إنما تكلم على مشورة مقيدة بالخيار، وذلك كمجرد الخيار، فتأمل ذلك في تفسير ابن مزين.

فصل ولا يجوز للبائع أن يشترط النقد في أيام الخيار، فإن فعل فسخ البيع بذلك، لأن النقد المدفوع يصير مرة ثمنا - إن تم البيع، ومرة سلفا - إن لم يتم؛ فإن فعل، فسخ البيع - على كل حال وليس كالبيع والسلف الذي إذا أراد مشترط السلف إسقاطه صح البيع على أحد القولين، هذا هو ظاهر المدونة؛ لأنه ذكر القيمة فيمن اشترى بالخيار بيعا فاسدا، لاشتراطه النقد ثم وجد عيبا ولم يقل الأقل من القيمة أو الثمن. وفي كتاب ابن سحنون أنه كالبيع والسلف، ولا فرق

(2/91)


عندي بين المسألتين؛ وأما النقد من غير شرط فجائز إلا فيما لا يمكن التناجز فيه بعد أمد الخيار، كالسلم والعبد الغائب والجارية التي فيها المواضعة، لأنه إن تم البيع دخله فسخ الدين.

فصل وكما لا يجوز للبائع اشتراط النقد لينتفع به أمد الخيار، فكذلك لا يجوز للمبتاع اشتراط الانتفاع بالمبيع أمد الخيار، لأنه غرر أيضا، إن لم يتم البيع كان قد انتفع بالسلعة باطلا من غير شيء، وإنما جوز له من ذلك قدر ما يقع به الاختبار - خاصة فيما يختبر بالاستعمال كركوب الدابة، واستخدام العبد في الشيء اليسير الذي لا ثمن له.

فصل والمبيع بالخيار في أمد الخيار على ملك البائع، كان الخيار له أو للمبتاع أو لهما، فإن تلف فمصيبته منه، كان بيده أو بيد المبتاع، إلا أن يكون بيد المبتاع، ويغيب عليه وهو مما يغاب عليه ويدعي تلفه، ولا يعرف ذلك إلا بقوله، فلا يصدق في ذلك ويكون عليه قيمة الثمن؛ لأنه يتهم أن يكون غيبه وحبسه عن صاحبه، فذلك رضا منه بالثمن؛ وقد روي عن مالك أن الضمان من المشتري فيما بيع على الخيار - إن كان الخيار له، ومن البائع - إن كان الخيار له - وهو قول ابن كنانة.

فصل والخيار في هذا بخلاف الاختيار على مذهب ابن القاسم، لأنه إذا اشترى ثوبا من ثوبين أو عبدا من عبدين، على أن يأخذ أيهما شاء بثمن قد سمياه فتلفا، فالضمان في أحدهما من البائع، وفي الثاني من المبتاع - قامت على تلفهما بينة أو لم تقم - فيكون عليه نصف الثمن، إذ لم يعرف الذي قبضه على الاشتراء من الذي قبضه على الائتمان، وكذلك لو اجتمع الخيار والاختيار على مذهب ابن

(2/92)


القاسم، فادعى تلفهما - ولم يعرف ذلك إلا بقوله؛ وأما لو قامت بينة على تلفهما، لكانت مصيبتهما من البائع لأن الواحد قبضه على الائتمان فضمانه من البائع، (والثاني) على الخيار فضمانه من البائع أيضا - لقيام البينة على تلفه؛ هذا مذهب ابن القاسم في هذه المسألة، وفيها اختلاف كثير، ولها تفصيل وتفسير ليس هذا موضع ذكره.

فصل وإنما يجوز اشتراء الثوب من الثياب على الاختيار والإلزام في الصنف الواحد، وهو في الصنفين من بيعتين في بيعة، وقد «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيعتين في بيعة» ومعنى ذلك أن يتناول عقد البيع مبيعين لا يتم البيع مع لزومه للمتبايعين أو لأحدهما إلا في أحد المبيعين؛ وإنما قلنا: في أحد المبيعين، ولم نقل: أحد الثمنين، ولا أحد المثمونين، لأعم بذلك الوجهين؛ إذ لا فرق بين أن يتناول ثمنين أو مثمونين على الوجه المذكور، لأن الثمن مبيع بالمثمون، كما أن المثمون مبيع بالثمن.

فصل فإذا انعقد البيع في مثمون واحد على ثمنين أو في مثمونين على ثمن واحد، أو في مثمونين على ثمنين، فلا يخلو ذلك من وجهين (أحدهما) أن يجوز تحويل أحدهما في الآخر، (والثاني) أن لا يجوز ذلك؛ فأما إذا لم يجز تحويل أحدهما في الآخر، فإن ذلك لا يجوز باتفاق مع ظهور التهمة، فإن سلما من التهمة، جاز ذلك، مثل أن يختلف المبيعان فيما عدا الطعام في القلة والكثرة مع النقد أو التساوي في الأجل، أو الاختلاف فيه، مثل أن يكون المؤجل أو الذي هو أبعد أجلا أقل عددا؛ إذ لا غرض في ذلك يتوخى ويقصد إليه، مثل أن يبيع منه سلعة بدينار نقدا، أو بدينارين نقدا، أو يبيعها منه بدينارين نقدا أو دينارين إلى أجل؛ فهذا وإن كان لا

(2/93)


يجوز تحويل أحد الثمنين في الآخر فإن البيع على أحدهما من غير تعيين مع لزومه للمتبايعين أو لأحدهما جائز، لأنه يعلم أن البيع إنما وجب بالأكثر إن كان الخيار للبائع، أو بالأقل إن كان الخيار للمبتاع؛ إذ لا يشك في أنه هو الذي يختار، إذ لا غرض في اختيار الثمن الآخر عليه. وأما الوجه الثاني وهو أن يجوز تحويل أحد الثمنين أو المثمونين في صاحبه، فإن ذلك ينقسم على أربعة أقسام (أحدها) أن يكون الثمنان والمثمونان صنفين مختلفين مما يجوز أن يسلم أحدهما في الآخر، (والثاني) أن يكونا صنفا واحدا إلا أن صفتهما مختلفة متباينة، (والثالث) أن يكونا صنفا واحدا وصفة واحدة، إلا أنهما متفاضلان في الجودة، والرابع أن يكونا صنفا واحدا وصفة واحدة متساويين في الجودة.
فصل فأما إن كانا صنفين مختلفين مما يجوز أن يسلم أحدهما في الآخر، فلا يجوز إلا على قول عبد العزيز بن أبي سلمة؛ وكذلك إن كانا صنفا واحدا إلا أن الصفة اختلفت وتباينت حتى جاز سلم أحدهما في الآخر، وأما إن كانا صنفا واحدا إلا أن صفتهما مختلفة متباينة تباينا لا يجوز معه سلم أحدهما في الآخر، فيجوز عند ابن المواز وعلى قول عبد العزيز بن أبي سلمة أيضا؛ وأما إن كانا صنفا واحدا إلا أنهما متفاضلان في الجودة، فيجوز على ما في المدونة ومذهب ابن المواز وقول عبد العزيز بن أبي سلمه، ولا يجوز عند ابن حبيب؛ وأما إن كانا صنفا واحدا وصفة واحدة، فيجوز عند جميع أصحابنا، خلافا للشافعي وأبي حنيفة رحمهما الله في قولهما: إنه لا يجوز لهما أن يفترقا إلا على ثمن معلوم؛ والدليل على صحة قولنا أن الثمن معلوم ودخول الاختيار في أحد الثوبين لا تأثير له في الثمن، وإنما يعود ذلك إلى تعيين المبيع، وذلك لا يمنع صحة العقدة، كما لو اشترى منه قفيز قمح من جملة صبرة فيها أقفزة.

فصل والبيع لازم للمتبايعين إذا تم البيع بينهما بالكلام وإن لم يفترقا بالأبدان، إلا

(2/94)


أن يشترطا الخيار، وما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من رواية ابن عمر وغيره أنه قال: «المتبايعان كل واحد منهما على صاحبه بالخيار ما لم يفترقا، إلا بيع الخيار» لم يأخذ به مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - ولا رأى العمل عليه لوجهين، (حدهما) استمرار العمل بالمدينة على خلافه، وما استمر عليه العمل بالمدينة واتصل، فهو عنده مقدم على أخبار الآحاد العدول، لأن المدينة دار النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبها توفي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه متوافرون، فيستحيل أن يتصل العمل منهم في شيء على خلاف ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إلا وقد علموا النسخ فيه. (والثاني) احتماله للتأويل، لأن الافتراق في اللغة يكون بالكلام والإنجاز إلى المعاني والتباين فيها؛ قال الله عز وجل: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران: 105] وقال تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة: 4] وقال تعالى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلا مِنْ سَعَتِهِ} [النساء: 130] وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تفترق أمتي على اثنتين وسبعين فرقة» فيكون معنى الحديث أن المتساومين كل واحد منهما على صاحبه بالخيار ما لم يكملا البيع بالقول ويستبد كل واحد منهما بما صار إليه عوضا عما صار لصاحبه؛ لأن المتساومين يقع عليهما اسم متبايعين، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يبع بعضكم على بيع بعض» فسمى التساوم بيعا لأن المتبايعين لا يوصفان حقيقة بأنهما متبايعان، إلا في حين مباشرة البيع والتلبس به. وأما بعد كماله وانفصال كل واحد منهما عن صاحبه واستبداده بما صار إليه، فلا يوصفان بأنهما متبايعان إلا مجازا لا حقيقة.

(2/95)


فصل فإذا احتمل الحديث أن يحمل على هذا لم يصح أن يفرق بين عقد البيع وسائر العقود اللازمة باللفظ، إلا بنص جلي لا يحتمل التأويل، وليس ذلك بموجود في مسألتنا هذه، بل ظاهر القرآن وما في السنن الثابتة والآثار، يدل على أن الأملاك المبيعة تنتقل بتمام اللفظ بالبيع على ما يتراضى عليه المتبايعان وإن لم يفترقا بأبدانهما، قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] فوصف تعالى التجارة التي تنتقل بها الأملاك بالتراضي خاصة دون التفرق بالأبدان، وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه» . فظاهره قبل الافتراق وبعد، لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أطلق بيعه بعد الاستيفاء من غير أن يقيد ذلك بالافتراق؛ وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا اختلف المتبايعان، فالقول ما قال البائع أو يترادان» فسواء كان اختلافهما قبل التفرق أو بعده على ظاهر الحديث، والتراد إنما يكون بعد تمام البيع، وإنما أدخل مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - هذا الحديث في موطئه عقيب حديث البيعان بالخيار، على طريق التفسير له والبيان لمعناه.

فصل وأما قول من قال: إن حديث البيعان بالخيار، منسوخ بحديث ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «إذا اختلف المتبايعان فالقول قول البائع أو يترادان» وما أشبهه من ظواهر الآثار، فلا يصح، لأن النسخ إنما يكون فيما يتعارض من الأخبار، ولا يمكن الجمع بينهما، والجمع بين هذين الحديثين ممكن بحمل التفرق المذكور في الحديث على التفرق بالأبدان أو التفرق بالكلام، وإنما يستدل على أنه منسوخ

(2/96)


باستمرار العمل بالمدينة على خلاف ما قدمناه؛ وقد روي عن ابن عمر راوي الحديث ما يدل على أنه حديث ترك العمل بظاهره في زمن الصحابة بالمدينة، إما لنسخ علموه فيه، وإما لتأويل تأولوه عليه، وذلك أنه قال: "بعت من عثمان أمير المؤمنين ما بالوادي بمال لي بخيبر، فلما تبايعنا رجعت على عقبي حتى خرجت من عنده خشية أن يراد في البيع، وكانت السنة أن البيعين بالخيار ما لم يفترقا " ولا يقال: كان كذا وكذا، إلا لما قد كان وذهب، لا لما هو قائم ثابت بعد؛ وفي قوله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كانت السنة، يريد حين مبايعته عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وذلك بعد وفاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إشكال، لأن النسخ لا يكون بعد وفاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلا وجه لقوله عندي - والله أعلم: كانت السنة، إلا أنه أراد: أي كانت السنة عندي وفي مذهبي - على ما كنت أحمل عليه الحديث، أن المراد بالتفرق فيه التفرق بالأبدان؛ وهذا يدل على أنه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رجع عن مذهبه في أن البيعين بالخيار ما لم يفترقا بأبدانهما - إلى أن البيع يلزم المتبايعين بتمام البيع بالكلام - وإن لم يفترقا عن مجلسهما.

فصل فإن قيل: إذا قلت في حديث البيعين بالخيار: إن المتبايعين هما المتساومان، بطلت فائدة الحديث؛ إذ لا يشك أحد أن المتساومين كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يتم البيع بالكلام، هذا معلوم بالفطرة لا يحتاج إلى بيان؛ فالجواب عن ذلك أن فائدة الحديث لا تبطل، لأن المستفاد منه على ما تأولناه: أن البيع يلزم بمجرد العقد، إلا أن يكون البيع شرط فيه الخيار فيثبت فيه الخيار على حسبما شرط فيه، وبكون الاستثناء في قوله: إلا بيع الخيار، مما يقتضيه لفظ الحديث ويدل عليه، كأنه قال: المتبايعان كل واحد منهما على صاحبه بالخيار ما لم يفترقا، فإن تفرقا، معناه باللفظ، فلا خيار لهما إلا في بيع الخيار وهذا بين.

فصل وقد يحتمل أن تكون فائدة الحديث والمراد به عند من ذهب إلى أن الفرقة

(2/97)


بالأقوال أن من أوجب البيع من المتساومين لصاحبه، لا يلزمه وله الرجوع عنه في المجلس ما لم يجبه صاحبه بالقبول فيه، وهذا ظاهر إلا أنه ليس على مذهب مالك، وإنما هو قول محمد بن الحسن؛ والذي يأتي على المذهب أن من أوجب البيع من المتبايعين لصاحبه، لزمه إن أجابه صاحبه في المجلس بالقبول ولم يكن له أن يرجع عنه، قبل ذلك، ويحتمل أن يكون معنى الحديث وفائدته التي سيق إليها أن المتساومين ما لم يوجب أحدهما لصاحبه البيع فلا يلزم البائع البيع بما طلب من الثمن ولا المبتاع الأخذ بما بذل منه في حال المساومة، وأن لكل واحد منهما أن يرجع عن ذلك ما لم يتم البيع بالكلام، وهذا يأتي على قول مالك في المدونة.

فصل وإذا حمل الحديث على هذا جاز أن يحمل الاستثناء في قوله في الحديث: إلا بيع الخيار، على ما تقدم، وأن يحمل على معنى أن يقول أحدهما لصاحبه: اختر أو رد، فيختار، فيلزم بذلك البيع وينقطع به الخيار على ما روي في بعض الآثار: أن «المتبايعين كل واحد منهما على صاحبه بالخيار ما لم يفترقا، إلا أن يقول أحدهما لصاحبه: اختر» ؛ وهذا اللفظ تعلق به الشافعي وكل من حمل الحديث على ظاهره فرأى الخيار للمتبايعين وإن تم البيع بينهما بالكلام ما لم يفترقا بالأبدان، والتأويل الأول أظهر، لأن لفظ الخيار إذا أطلق في الشرع إنما يفهم منه إثبات الخيار لا قطعه، ومن أهل العلم من ذهب إلى أن المراد بالفرقة فرقة الأبدان، إلا أنها فرقة تحل العقد وتبطل ما أوجبه أحد المتبايعين على نفسه لصاحبه، وهو معنى حسن يخرج على المذهب، وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.

(2/98)