المقدمات
الممهدات [كتاب العيوب]
تحريم التدليس بالعيوب أصل ما بنيت عليه أحكام هذا الكتاب: كتاب الله تعالى
وسنة نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وذلك أن الله تبارك
وتعالى نهى عن أكل المال بالباطل في كتابه وعلى لسان رسوله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء:
29] وقال: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}
[البقرة: 188] وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في خطبته
المشهورة: «ألا إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في
شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا هل بلغت ألا هل بلغت ألا هل بلغت» وقال رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن
طيب نفس منه» ، والتدليس بالعيوب من أكل المال بالباطل الذي حرمه الله في
كتابه وعلى لسان رسوله عيه، ومن الغش والخلابة اللذين نهى عنهما رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال لحيان بن منقذ: «إذا بايعت
فقل: لا خلابة» وقال: «من غشنا فليس منا» أي ليس
(2/99)
على مثل هدينا وطريقتنا لأن الغش لا يخرج
الغاش من الإيمان، فهو معدود في جملة المؤمنين إلا أنه ليس على هديهم
وسبيلهم، لمخالفته إياهم في التزام ما يلزمه في شريعة الإسلام من النصح
لأخيه المسلم، قال الله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}
[الحجرات: 10] وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المؤمن
أخ المؤمن، يشهده إذا مات، ويعوده إذا مرض وينصح له إن غاب أو شهد» وقال -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا
تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا» ، فلا يحل لامرئ مسلم أن يبيع عبدا أو
أمة أو سلعة من السلع أو دارا أو عقارا أو ذهبا أو فضة أو شيئا من الأشياء
- وهو يعلم فيه عيبا، قل أو كثر، حتى يبين ذلك لمبتاعه ويقفه عليه وقفا
يكون علمه به كعلمه، فإن لم يفعل ذلك وكتمه العيب وغشه بذلك، لم يزل في مقت
الله ولعنة ملائكة الله، روي عن واثلة بن الأسقع أنه قال: سمعت رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «من باع عيبا لم يبينه لم يزل
في مقت الله، أو: لم تزل الملائكة تلعنه» ، وقد يحتمل أن يحمل قوله: «من
غشنا فليس منا» على ظاهره فيمن غش المسلمين مستحلا لذلك، لأنه من استحل
التدليس بالعيوب والغش في البيوع وغيرها، فهو كافر حلال الدم يستتاب، فإن
تاب من ذلك وإلا قتل.
فصل والعيوب تنقسم على قسمين: عيب يمكن التدليس به، وعيب لا يمكن التدليس
به، أما ما لا يمكن التدليس به، فلا يجب الرد به في القيام ولا الرجوع
بقيمته في الفوات. وهو على وجهين، (أحدهما) ما استوى البائع والمبتاع في
الجهل بمعرفته، وكان في أصل الخلقة باتفاق، أو لم يكن في أصلها على اختلاف
لم
(2/100)
يختلف أصحاب مالك في جملة هذا، واختلفوا في
تفصيله على ما سيأتي في موضعه من الكتاب إن شاء الله، (والثاني) ما استوى
البائع والمبتاع في المعرفة به، وذلك ما كان من العيوب ظاهرا لا يخفى، وأما
ما يمكن التدليس به فإنه على ثلاثة أوجه، (أحدها) أن لا يحط من الثمن شيئا
ليسارته، أو لأن المبيع لا ينفك منه، (والثاني) أن التدليس يحط من الثمن
يسيرا، (والثالث) أن يحط منه كثيرا؛ فأما ما لا يحط من الثمن شيئا ليسارته،
أو لأن المبيع لا ينفك منه، فإنه لا حكم له، وأما ما يحط من الثمن يسيرا
فإنه لا يخلو من أن يكون في الأصول أو في العروض، فإن كان في الأصول فإنه
لا يجب به الرد وإن كان المبيع قائما، وإنما الواجب فيه الرجوع بقيمة
العيب، وذلك كالصدع في الحائط وما أشبه ذلك؛ وأما إن كان في العروض، فظاهر
الروايات في المدونة وغيرها أن الرد يجب به كالكثير سواء، وقيل: إنه
كالأصول، لا يجب الرد به وإنما فيه الرجوع بقيمته، وعلى هذا كان الفقيه ابن
رزق - رَحِمَهُ اللَّهُ - يحمل ظاهر الروايات حيثما وقعت ويقول: لا فرق بين
الأصول في ذلك والعروض، ويؤيد تأويله في ذلك أن زيادا روى عن مالك -
رَحِمَهُ اللَّهُ - فيمن ابتاع ثوبا فإذا فيه خرق يسير يخرج في القطع أو
نحوه من العيوب، لم يرد به، ووضع عنه قدر العيب، وكذلك هو في جميع الأشياء.
وقعت هذه الرواية في الكتاب الجامع لقول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - المؤلف
للحكم، وفي المختصر الكبير نحوه. قال: ولا يرد من العيوب إلا من عيب كثير
ينقص ثمنه وتخاف عاقبته ولا ينظر في ذلك إلى ما يرده التجار، فانظر في ذلك.
فصل ولا أعرف للمتقدمين من أصحابنا حدا في اليسير الذي لا يجب الرد به في
العقار أو في الدور والعروض على أحد القولين، وقد رأيت لابن عتاب -
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أنه سئل عن العيب الذي يحط من الدار ربع
الثمن، فقال: ذلك كثير يجب الرد به، وقال ابن القطان: إن كان قيمة العيب
مثقالين فهو يسير يرجع المبتاع
(2/101)
بهما على البائع ولا يرد البيع، وإن كان
قيمته عشرة مثاقيل فهو كثير يجب الرد به، فقال: إن عشرة مثاقيل كثير ولا
يبين من أي الثمن، والذي عندي أن عشرة مثاقيل من مائة مثقال كثير يجب الرد
به.
فصل وأما ما يحط من الثمن كثيرا فلا يخلو المبيع فيه من خمسة أحوال (أحدها)
أن يكون بحسبه لم يدخله زيادة ولا نقصان، (والثاني) أن يدخله زيادة،
(والثالث) أن يدخله نقصان ولا تفوت عينه، (والرابع) أن تفوت عينه أو أكثر
العين بخروجه عن ملكه، (والخامس) أن يعقد فيه عقدا يمنعه من رده.
فصل فأما الحال الأولى، وهو أن يكون المبيع قائما بحسبه لم يدخله زيادة ولا
نقصان، فإن المبتاع فيه بالخيار بين أن يرد ويرجع بجميع الثمن، أو يمسك ولا
شيء له من الثمن، والأصل في ذلك حديث المصراة، وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها فهو بخير
النظرين بعد أن يحلبها، إن رضيها أمسكها وإن سخطها ردها وصاعا من تمر» .
فصل وأما الحال الثانية، وهو أن يدخل المبيع زيادة، فإن الزيادة لا تخلو من
خمسة أوجه (أحدها) زيادة بحوالة الأسواق، (والثاني) زيادة في حال المبيع،
(والثالث) زيادة في عين المبيع بنماء حادث فيه أو بشيء من جنسه مضاف إليه،
(والرابع) زيادة من غير جنس المبيع مضافة إليه، (والخامس) ما أحدثه المشتري
في المبيع من صنعة مضافة إليه، كالصبغ والخياطة وما أشبه ذلك مما لا ينفصل
عنه إلا بفساد.
(2/102)
فصل فأما الزيادة بحوالة الأسواق فإنه لا
يعتبر بها ولا توجب للمبتاع خيارا، وكذلك الزيادة في حال المبيع، مثل أن
يكون عبدا فيتعلم الصناعات ويتخرج، فتزيد قيمته لذلك، وأما الزيادة في عين
المبيع لنماء حادث فيه، كالدابة تسمن أو الصغير يكبر، أو بشيء من جنسه مضاف
إليه كالولد يحدث للمبيع، فاختلف أصحابنا في ذلك: فلهم في الدابة تسمن
والولد يحدث قولان، (أحدهما) أن ذلك ليس بفوت، وهو مخير بين أن يرد الدابة
بحالها، أو يردها بولدها إن حدث لها ولد، أو يمسك ولا شيء له، (والثاني) أن
ذلك فوت، وهو مخير بين أن يرد الدابة بحالها أو يردها بولدها إن حدث لها
ولد، وبين أن يمسك ويرجع بقيمة العيب، ولهم في الصغير يكبر هذان القولان،
وقول ثالث في المدونة أن ذلك فوت وله قيمة العيب ولا خيار له في الرد، ولا
فرق بين المسائل الثلاث ما لم يكن الكبر نقصا كالهرم وما أشبه ذلك.
وأما الزيادة المضافة إلى المبيع من غير جنسه، فذلك مثل أن يشتري العبد ولا
مال له فيفيد عنده مالا بهبة أو صدقة أو كسب من تجارة ما لم يكن ذلك من
خراجه، أو يشتري النخلة ولا ثمرة فيها، فتثمر عنده ثم يجد عيبا، فإن هذا لا
اختلاف فيه أن ذلك لا يوجب له خيارا ويكون مخيرا بين أن يرد العبد وماله
والنخل بثمرتها ما لم تطب ويرجع بالسقي والعلاج، على مذهب ابن القاسم، أو
يمسك ولا شيء له في الوجهين جميعا.
وأما الزيادة بما أحدثه المشتري في المبيع من صنعة مضافة إليه كالصبغ
والخياطة والكمد، وما أشبه ذلك مما لا ينفصل عنه إلا بفساد، فلا اختلاف أن
ذلك يوجب له الخيار بين أن يمسك ويرجع بقيمة العيب، أو يرد ويكون شريكا بما
زاد مما أحدثه من الصبغ وشبهه، لأنه أخرج ماله فيه، فلا يذهب هدرا.
فصل ووجه العمل في ذلك: أن يقوم الثوب يوم البيع سليما من عيب التدليس، فإن
كان قيمته مائة قوم أيضا يوم البيع بقيمة التدليس، فإن كانت قيمته ثمانين،
قوم أيضا
(2/103)
يوم الحكم غير مصبوغ، فإن كانت قيمته خمسة
وثمانين، قوم أيضا يوم الحكم مصبوغا؛ فإن كانت قيمته خمسة وتسعين، كان
مخيرا بين أن يمسك ويرجع بخمس الثمن، أو يرد ويأخذ جميع الثمن ويكون شريكا
في الثوب بما يقع للعشرة التي بين القيمتين من الخمسة والتسعين - وذلك جزآن
من تسعة عشر، وإن كانت الأسواق حالت بنقصان، لم يقوم يوم الحكم غير مصبوغ
وقوم مصبوغا، فإن كانت قيمته يوم الحكم مصبوغا خمسة وثمانين، كان شريكا في
الثوب إن رده بجزء من سبعة عشر - وهو ما تقع الخمسة التي بين قيمته يوم
الحكم مصبوغا، وبين قيمته يوم الشراء غير مصبوغ من قيمته يوم الحكم مصبوغا؛
وتحصيل هذا الذي قلناه: أن الأسواق إن كانت حالت بزيادة لم يكن بد أن يقوم
في الرد يوم الحكم مصبوغا وغير مصبوغ؛ إذ لا يصح أن يكون شريكا بما زادت
الأسواق؛ وإن كانت الأسواق حالت بنقصان لم يقوم يوم الحكم إلا مصبوغا خاصة،
وكان شريكا بما زادت قيمته يوم الحكم مصبوغا على قيمته يوم الشراء غير
مصبوغ، على ما ذكرناه؛ وهذا قول بعض أهل النظر - وفيه عندي نظر، والقياس أن
يقوم يوم الحكم مصبوغا وغير مصبوغ، وإن حالت الأسواق بنقصان، فيكون شريكا
بما زاد الصبغ على كل حال، لأن حوالة الأسواق ليس بفوت في الزيادة ولا في
النقصان، ويلزم البائع أن يأخذ ثوبه بزيادته ونقصانه، فكما تكون له
الزيادة، ولا يشاركه بها المبتاع، وإنما يشاركه بما زاد الصبغ خاصة، فكذلك
يكون عليه النقصان ويشاركه المبتاع بما زاد الصبغ ولا ينقص من ذلك بسبب
نقصان حوالة الأسواق.
فصل وأما الحال الثالثة وهو أن يدخل المبيع نقصان، فإن النقصان أيضا لا
يخلو من خمسة أوجه (أحدها) نقصان بحوالة الأسواق، (والثاني) نقصان بتغير
حال المبيع، (والثالث) نقصان بتغير عين المبيع، (والرابع) نقصان من غير جنس
المبيع، (والخامس) بما أحدثه المبتاع في المبيع؛ فأما النقصان بحوالة
الأسواق فلا يعتبر به، وهو مخير بين أن يرد ولا شيء عليه، أو يمسك ولا شيء
له، وأما النقصان بتغير حال المبيع مثل أن يشتري الأمة فيزوجها أو العبد
فيتزوج، أو يزني أو يسرق
(2/104)
أو يشرب خمرا أو ما أشبه ذلك مما تنتقص به
قيمته، فاختلف في ذلك، قال في المدونة في الذي يشتري الأمة فيزوجها ثم يجد
عيبا، أن التزويج نقصان، ولا يردها إلا وما نقص النكاح منها، معناه: أو
يمسك ويرجع بقيمة العيب، قال ابن حبيب: إن ما أحدثه العبد من زنا وشرب خمر
أو سرقة، فإن ذلك ليس بنقص يرد معه المشتري ما نقصه إذا وجد به عيبا، وقد
يحتمل أن يفرق بين الوجهين بأن التزويج عيب يعلم حدوثه بعد الشراء، فلا
يرده إلا أن يرد معه ما نقصه، وما ظهر بالعبد من السرقة وشرب الخمر والزنا
بعد الشراء لا يدري لعله كان كامنا فيه من قبل الشراء فلم يلزمه رد ما
نقصه؛ وبهذا المعنى فرقوا بين الشاهد يشهد للمرأة ثم يتزوجها قبل الحكم لها
بشهادته، أو يشهد للرجل ثم تقع بينه وبينه خصومة وعداوة قبل الحكم بشهادته،
وبين الشاهد يشهد للرجل ثم يحدث شرب خمر أو زنا أو سرقة قبل الحكم بشهادته،
أن شهادته مردودة في هذا وجائزة في المسألتين الأوليين
فصل فإذا قلنا بهذا، فالنقصان في حال المبيع ينقسم على وجهين، (أحدهما)
نقصان يعلم حدوثه بعد الشراء، ونقصان يظهر سببه بعد الشراء، ولا يدرى هل
حدث بعده أو قبله، وأما النقصان بتغير عين المبيع، فإنه لا يخلو من ثلاثة
أوجه (أحدها) أن يكون يسيرا، (والثاني) أن يكون كثيرا ولا يذهب بجل المبيع
ويتلف أكثر منافعه، (والثالث) أن يذهب جله ويتلف أكثر منافعه؛ فأما النقصان
اليسير كذهاب الظفر والأنملة من الوخش والحمى والرمد وصرع الجسم وما أشبه
ذلك، فليس بفوت، ويخير المبتاع بين أن يمسك ولا شيء له أو يرده ولا شيء
عليه، وأما النقصان الكثير إذا لم يذهب بجل المبيع، ولا أتلف أكثر منافعه؛
فإنه يوجب للمبتاع الخيار بين أن يمسك ويرجع بقيمة العيب، وبين أن يرد ويرد
ما نقص منه
(2/105)
العيب الحادث عنده، خلافا للشافعي وأبي
حنيفة في قولهما: إنه ليس له أن يرد، ويرد ما نقصه العيب الحادث عنده، إنما
له أن يمسك ويرجع بقيمة العيب، والدليل على صحة قولنا قول رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من ابتاع شاة مصراة فهو بخير
النظرين بعد أن يحلبها، إن شاء أمسكها وإن شاء ردها وصاعا من تمر» ، وجه
الدليل من هذا الحديث أن المبتاع لما أتلف بعض المبيع - وهو اللبن المصرى
في الضرع خيره النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بين أن يرد ويغرم قيمة ما
أتلف من اللبن وهو الصاع، وبين أن يمسك، وهذا نص في موضع الخلاف؛ ومن جهة
المعنى والقياس أن هذين عيبان حدث أحدهما عند البائع، والثاني عند المبتاع،
وكل واحد منهما غير راض بالتزام ما حدث عند صاحبه بقيمته، فلما تعارض
الحقان كان أولاهما بالتغليب حق المبتاع، لأنه لم يدلس ولا أخطأ على صاحبه،
والبائع لا يخلو من أن يكون دلس على المبتاع أو أخطأ عليه بأن باع منه
معيبا على أنه صحيح ولم يتثبت في ذلك.
فصل ووجه العمل في هذا إن أراد أن يمسك أو يرجع بقيمة العيب أن يقال: ما
قيمتها يوم البيع سليمة من عيب التدليس ومن العيب الحادث عند المشتري؟ فإن
قيل: مائة، قيل: ما قيمتها يومئذ بعيب التدليس سليمة من العيب الحادث عند
المشتري؟ فإن قيل: ثمانون، رجع المبتاع على البائع بخمس الثمن، كان أقل من
ماله أو أكثر؛ لأن البائع لم يدفع إليه إلا أربعة أخماس ما باع منه وأخذ
منه ثمن الجميع، فوجب أن يرد خمس الثمن؛ لأنه قبضه باطلا بغير عوض، وإن
أراد أن يرد ويرد ما نقصها العيب الحادث عنده، قيل: ما قيمتها أيضا يومئذ
بعيب التدليس وبالعيب الحادث عنده؟ فإن قيل: ستون وقيمتها يومئذ سليمة
مائة، وبعيب التدليس ثمانون - كما ذكرنا - كان على المبتاع خمس الثمن، وإن
شئت قلت: ربع الثمن بعد أن يسقط منه خمسه؛ لأنه دلس بخمس المبيع فأخذ خمس
الثمن باطلا وذلك سواء، لأن هذا الجزء هو الذي ذهب عند المبتاع فيمضي ما
ينوبه من
(2/106)
الثمن، وذلك أنه قبض على هذا التنزيل أربعة
أخماس المبيع، وبقي عند البائع خمسه، فذهب عنده ربع ما قبض وهو خمس الجميع،
فذلك الذي يلزمه ثمنه ويسقط عنه سائر الثمن، إن كان لم يدفعه، وإن كان قد
دفع الثمن، رجع بأربعة أخماسه وبقي للبائع خمسه، لأن الخمس الذي تلف عند
المبتاع مصيبته منه فيمضي بالثمن، كما لو اشترى سلعة فاستهلك خمسها بانتفاع
بأكل أو جناية، ووجد بالباقي عيبا، رده ولزمه خمس الثمن بما استهلك؛ وهذا
كله بين لا خفاء به ولا ارتياب في صحته، فلا بد على هذا في الرد من ثلاث
قيم، وفي الإمساك من قيمتين، وقال أحمد بن المعدل: إن أراد أن يمسك ويرجع
بقيمة العبد، فليرجع بقيمته من الثمن الذي اشتراها به، كقول ابن القاسم
سواء، وإن أراد أن يرده فليرده ويرد قيمة العيب يوم الرد، فينظر كم قيمته
يومئذ وبه العيب القديم، وكم قيمته بالعيب الثاني، فيرد معه قيمة العيب
الثاني، وهو ما بين القيمتين دون أن يرجع في ذلك إلى أصل الثمن؛ لأنه فسخ
بيع؛ ألا ترى لو نما العبد أو نقص لرد بنمائه ونقصانه ولا شيء عليه؛ فكذلك
يرد قيمة العيب يوم الرد بخلاف العيب القديم، لأن العيب القديم البائع
ألزمه المشتري يوم الشراء، فيومئذ ينظر إلى قيمته ويرجع عليه المبتاع في
الثمن الذي أخذه منه ولم ينفسخ بينهما بيع. قال أحمد: وما علمت أحدا من
أصحابنا تكلم عليها، قلت: تكلم عليها أحمد بن المعدل وحده وكل مجر بالخلاء
يسري، ولو رأى كلام ابن القاسم وتدبره، لبان له صوابه ولم يسعه خلافه؛ لأن
ما نقصه العيب الحادث قد فات بيد المبتاع، فتم فيه البيع، فوجب عليه ما
ينوبه من الثمن، وهذا بين.
فصل وأما إن ذهب النقصان بجل المبيع وأتلف أكثر منافعه مثل أن يفقأ عيني
العبد جميعا، فيبطله، أو يقطع يديه أو رجليه أو يشتري صغيرا فيهرم، أو ثوبا
فيقطعه تبابين، ومثله لا يقطع تبابين، فيفسده بذلك وما أشبهه، فإن هذا كله
كذهاب عينه، فلا يجب للمبتاع إلا الرجوع بقيمة العيب.
(2/107)
فصل وأما النقصان من غير المبيع مثل أن
يشتري النخل بثمرتها قبل الطياب، قبل الإبار أو بعده، أو العبد بماله فيذهب
مال العبد بتلف، أو ثمر النخل بجائحة أتت عليه، ثم يجد به عيبا، فإن هذا
ليس فيه اختلاف أن ذلك ليس بفوت، وهو بالخيار بين أن يرد ولا شيء عليه أو
يمسك ولا شيء له؛ وأما النقصان بما أحدثه المبتاع في المبيع مما جرت العادة
أن يحدث فيه مثل أن يشتري الثوب فيصبغه أو يقطعه فينقص لذلك من ثمنه، فإن
هذا فوت باتفاق، والمشتري مخير بين أن يمسك ويرجع بقيمة العيب، أو يرد ويرد
ما نقصه ذلك عنده، إلا أن يكون مدلسا فلا يكون عليه بالنقصان شيء يرده من
أجله، واختلف إن أراد أن يمسك، هل له أن يرجع بقيمة العيب أم لا؟ على
قولين، أحدهما قول ابن القاسم: إن ذلك له، (والثاني) قول ابن المواز وأصبغ:
إن ذلك ليس له فيما كان نقصه بغير صناعة كالقطع؛ وإنما يكون له ذلك فيما
كان نقصه بصناعة كالصبغ وشبهه، ولكلا القولين وجه من النظر، وهو محمول على
غير التدليس حتى يثبت ذلك عليه أو يقر به على نفسه؛ فإن أنكر أن يكون علم
أو ادعى أنه نسي، أحلف على ذلك، فإن حلف، خير المبتاع عند ابن القاسم؛ وحكى
ابن المواز عن مالك أنه لا يحلف إلا بعد أن يخير المبتاع فيختار الرد، إذ
لا معنى ليمينه إذا اختار الإمساك والرجوع بقيمة العيب.
فصل وهذه إحدى خمس المسائل التي يفترق فيها حكم المدلس من الذي لم يدلس،
(والثانية) أن يصيب المبيع عند المشتري عيب أو عطب من العيب الذي باعه به،
مثل أن يبيعه آبقا فيأبق عند المشتري، أو سارقا فيسرق عند المشتري فتقطع
يده وما أشبه ذلك؛ فإنه إن كان البائع مدلسا بذلك البيع، كان ضمان ما أصابه
عند المشتري منه، وإن لم يكن مدلسا، فلا ضمان في ذلك من المشتري،
(والثالثة)
(2/108)
أن يبيع الرجل سلعة وبها عيب ثم يشتريها من
المبتاع بأكثر من الثمن الذي باعها به منه؛ فإن كان مدلسا لم يكن له الرجوع
على المبتاع، وإن كان غير مدلس رجع عليه بما زاده على الثمن، (والرابعة) أن
من دلس في سلعة بعيب فردت عليه به لم يلزم السمسار أن يرد الجعل، بخلاف إذا
لم يدلس، (والخامسة) من باع بالبراءة مما يجوز بيعه بالبراءة، فإنه يبرأ
مما لم يعلم به ولا يبرأ مما علم به فدلس به.
فصل وأما الحال الرابعة وهو أن يذهب عين المبيع، فلا يخلو من وجهين
(أحدهما) أن يكون ذهابه بخروجه عن ملكه بعوض، (والثاني) أن يكون خرج عن
ملكه بغير عوض، فأما الوجه الأول وهو أن يخرج عن ملكه بعوض، وذلك أن يبيعه
أو يهبه للثواب، فإنه لا يخلو أيضا من وجهين (أحدهما) أن يبيعه من بائعه،
(والثاني) أن يبيعه من غير بائعه، فأما إن باعه من بائعه بمثل الثمن فلا
شيء عليه، لأنه كان قد رده عليه، وإن باعه منه بأقل من الثمن رجع عليه
بتمام الثمن، فيكون كأنه قد رده عليه؛ فإن لم يثبت قدم العيب عند البائع
الأول وأمكن أن يكون حدث عند المشتري الأول وهو البائع الثاني، حلف البائع
الأول بالله ما كان عنده يوم باعه على البت إن كان ظاهرا، أو على العلم إن
كان خفيا باطنا - ولم يكن للمشتري الأول - وهو البائع الثاني - أن يرجع
عليه بشيء، وكان له هو أن يرده عليه- وإن أمكن أيضا أن يكون حدث عند البائع
الأول بعد أن اشتراه من المشتري الأول، حلف البائع الثاني وهو المشتري
الأول أن العيب لم يحدث عنده في علمه، إن كان خفيا، ولم يكن للبائع الأول
وهو المشتري الثاني أن يرد عليه ولزمه البيع فيه بالثمن الثاني، إذ قد برئ
من غرم ما بين الثمنين بيمينه، أو لأن العيب لم يحدث عنده وإن باعه منه
بأكثر من الثمن الذي اشتراه به منه وكان البائع الأول قد علم بالعيب فدلس
به لزمه البيع ولم يكن له أن يرده على المشتري الأول وهو البائع الثاني،
فإن كان البائع لم يعلم بالعيب، كان له أن يرده على المشتري الأول - وهو
البائع الثاني، ثم كان للبائع الثاني وهو المشتري الأول أن يرده على البائع
الأولى وهو المشتري الثاني، فإن رده كل واحد منهما على صاحبه، تقاصا بالثمن
ورجع
(2/109)
المشتري الثاني على المشتري الأول
بالزيادة؛ فإن لم يثبت قدم العيب عند البائع الأول وأمكن أن يكون حدث عند
المشتري الأول - وهو البائع الثاني، كان للبائع الأول أن يرده على البائع
الثاني - وهو المشتري الأول؛ فإن رده عليه - وأراد هو أن يرده على البائع
الأول - لم يكن ذلك له إذا لم يثبت أن العيب كان به عنده ولزمته اليمين ما
علم أن العيب كان به عنده، إن كان من العيوب التي تخفى، وإن كان من العيوب
الظاهرة حلف على البت على مذهب ابن القاسم، وإن أمكن أن يكون العيب حدث
أيضا عند البائع الأول بعد أن اشتراه من المشتري الأول، حلف المشتري الأول
وهو البائع الثاني أنه ما علم أن العيب حدث عنده، ولزم البائع الأول العبد
ولم يكن له رده، وأما إن باعه من غيره، فقال ابن القاسم في المدونة: هو فوت
ولا يرجع على البائع للعيب بشيء لأنه لا يخلو من أن يكون علم بالعيب فباعه
على معرفة فهو رضا منه، أو لم يكن علم فلم ينقص بسبب العيب شيء، قال: سماع
عيسى: إلا أن يرجع عليه بشيء فيرجع بقيمة العيب من ثمنه الذي اشتراه به،
ظاهر الرواية، وإن كان ذلك أكثر مما رجع به عليه؛ وكذلك لو نقص بسبب العيب
شيئا وإن كان قد باع بمثل الثمن أو أكثر منه مثل أن يبيعه وكيل له ويبين
العيب أو يبيعه هو ويبين العيب - وهو يظنه حدث عنده، لوجب أن يرجع بقيمة
العيب بالغة ما بلغت - على قياس هذه الرواية، ومعنى ما في المدونة، ولابن
القاسم في كتاب ابن المواز أنه إن باعه بأقل من الثمن ونقص بسبب العيب، رجع
على البائع بالأقل من بقية رأس ماله أو قيمة العيب، ما شاء من ذلك، البائع
مخير، فلو باع على قول ابن القاسم هذا بمثل الثمن أو أكثر لم يكن له على
البائع رجوع، وإن كان قد نقص بسبب العيب، ومن قوله أيضا في كتاب ابن المواز
أنه إن باعه ففات عند المبتاع الثاني فرجع عليه بقيمة العيب رجع هو على
بائعه بالأقل من قيمة العيب من ثمنه هو، أو بما رجع به عليه، ظاهره: وإن
كان ذلك أكثر من بقية رأس ماله، خلاف ما تقدم له من أنه إذا نقص بسبب العيب
يرجع على البائع بالأقل من بقية رأس ماله أو قيمة العيب، ولم يحمله محمد بن
المواز على الخلاف فقال فيه: يريد ما لم يكن
(2/110)
ذلك أكثر من بقية رأس ماله، فإنما له
الرجوع بالأقل من ثلاثة أشياء، والصواب أن ذلك اختلاف من قوله، فيتحصل له
في المسألة ثلاثة أقوال، (أحدها) أنه إن رجع عليه في العيب شيء أو نقص
بسببه من الثمن شيء رجع على البائع منه بقيمة العيب من ثمنه بالغا ما بلغ-
وهي رواية عيسى عن ابن القاسم، (والثاني) أنه يرجع عليه بالأقل من قيمة
العيب من ثمنه أو ممن رجع به عليه، وهو أحد قولي ابن القاسم في كتاب ابن
المواز، (والثالث) أنه يرجع عليه بالأقل من قيمة العيب من ثمنه أو مما رجع
به عليه أو من بقية رأس ماله، الأقل من الثلاثة الأشياء، وهو اختيار ابن
المواز وأحد قولي ابن القاسم في كتابه، وقال أشهب إذا باعه وإن لم يسقط
بسبب العيب شيء فيرجع بالأقل من قيمة العيب من ثمنه أو من بقية رأس ماله،
وقال ابن عبد الحكم: يرجع بقيمة العيب كله على البائع، باعه من الأجنبي
بمثل الثمن أو أقل أو أكثر.
فصل وأما الوجه الثاني- وهو أن يكون خرج من يده بغير عوض، فلا يخلو من أن
يكون ذلك باختياره وفعله أو مغلوبا عليه بغير اختياره؛ فأما إن كان ذلك
مغلوبا عليه بغير اختياره مثل أن يكون عبدا فيموت أو يقتله خطأ أو يغصب منه
وما أشبه ذلك، فلا اختلاف أن له الرجوع بقيمة العيب، وأما إن كان ذلك بفعله
واختياره مثل أن يكون عبدا فيقتله عمدا أو يهبه أو يتصدق به أو يعتقه أو
يكاتبه أو ما أشبه ذلك، فروى زياد عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -
أن ذلك فوت ولا رجوع له بقيمة العيب، والمشهور من قول مالك - رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى - الذي عليه أصحابه أن ذلك فوت وله الرجوع بقيمة العيب.
فصل
وأما الحال الخامسة وهو أن يعقد فيه عقدا يمنعه من رده، فإن هذا العقد لا
يخلو من أن يتعقبه رجوع إلى ملكه أو لا يتعقبه رجوع إلى ملكه؛ فأما إن كان
لا يتعقبه رجوع إلى ملكه وذلك كالكتابة والاستيلاد والعتق إلى أجل
والتدبير، فهو
(2/111)
فوت وليس فيه إلا الرجوع بقيمة العيب، وأما
إن كان العقد يتعقبه الرجوع إلى ملكه كالرهن والإجارة والإخدام، ففيه بين
أصحابنا اختلاف؛ قال ابن القاسم: إذا رجع إلى ملكه رده وليس ما عقده فيه
فوت؛ وقال أشهب: إن كان أمد ذلك قريبا، رده وإن كان بعيدا فهو فوت، وقال
أصبغ في الإجارة: إنها ليست بفوت وله الرد ولا تنتقض الإجارة؛ لأنه عقدها
بموضع يجوز له، كما لو زوج العبد ثم وجد به عيبا لرده بعيبه ولم ينفسخ
النكاح؛ فانظر هل يرد ما نقصه ذلك وقابله بمن اشترى ثوبا فقطعه ثم وجد به
عيبا.
فصل فالرد بالعيوب القديمة قبل العقد واجب على التفصيل الذي ذكرناه، علم
البائع بها أو لم يعلم، إذا كان مما يمكن معرفته، إلا أن يبيع بالبراءة،
فإن باع بالبراءة فيما يجوز فيه البيع بالبراءة برئ مما لم يعلم من العيوب،
على مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، ولا يبرأ مما علم فدلس به؛
وأما ما حدث بالمبيع من العيوب بعد عقد البيع، فلا يجب به الرجوع، إلا أن
يكون الحادث من العيوب في الرقيق في عهدة الثلاث أو جنونا أو جذاما أو برصا
في عهدة السنة.
فصل فالعيوب على هذا تنقسم على ثلاثة أقسام: عيب قديم يعلم قدمه عند البائع
ببينة تقوم على ذلك، أو بإقرار البائع به أو بدليل العيان، وعيب يعلم حدوثه
عند المشتري ببينة تعلم ذلك، أو بإقرار المشتري بحدوثه عنده، أو بدليل
العيان على ذلك، وعيب مشكوك فيه، يحتمل أن يكون قديما عند البائع، ويحتمل
أن يكون حدث عند المشتري.
فصل فأما العيب القديم فيجب الرد به في القيام والرجوع بقيمته في الفوات
على
(2/112)
التقسيم الذي ذكرناه، وأما الحادث فلا حجة
للمبتاع فيه على البائع، وأما المشكوك فيه فليس على البائع فيه إلا اليمين،
قيل: على البت، وهو قول ابن نافع في المدنية، ورواية يحيى عن ابن القاسم في
العتبية، والحجة في ذلك أنه لو ثبت أنه كان قديما عند البائع لوجب أن يرد
عليه وإن لم يعلم به، فإذا رد عليه وإن لم يعلم به وجب أن لا يبرأ منه
بيمينه على العلم، وهذا لا يلزم، لأنه إنما يرد عليه وإن لم يعلم به إذا
ثبت كونه عنده، وفي مسألتنا لم يثبت كونه عنده، وقال أشهب: يحلف على العلم
في الظاهر والخفي، وفرق ابن القاسم بين ذلك فقال: يحلف في الظاهر على البت،
وفي الخفي على العلم؛ فإن نكل عن اليمين رجعت على المبتاع في الوجهين
جميعا، على العلم أنه ما حدث عنده، هذا قول ابن القاسم في سماع عيسى من
العتبية، وروي عنه في المدنية أنها ترجع على المبتاع على نحو ما كانت على
البائع، وإلى هذا ذهب ابن حبيب في الواضحة، وقال ابن نافع: يحلف على البت
على أصله في يمين البائع، وهي رواية يحيى عن ابن القاسم في العتبية وعلى
قول أشهب يحلف على العلم في الوجهين جميعا.
فصل فإن نكل عن اليمين ففي المدنية من رواية عيسى عن ابن القاسم -
رَحِمَهُمُ اللَّهُ - تعالى أن البيع يلزمه، وهذا يقتضي أنه ليس له بعد
النكول أن يرجع إلى اليمين، وفيها من قول ابن نافع: فإن نكل عن اليمين لم
ترد أبدا حتى يحلف، وهذا يقتضي أن له بعد النكول أن يحلف.
فصل وهذا في العيوب التي تكون ظاهرة في البدن، وأما ما لا يظهر مثل الإباق
والزنى والسرقة وما أشبه ذلك، فادعى المبتاع أنه كان بالعبد قديما، فقال
ابن القاسم: يحلف البائع، واحتج بروايته عن مالك، وقال أشهب: لا يمين عليه،
واحتج
(2/113)
في ذلك بروايته عن مالك أيضا وفرق محمد بن
المواز من رأيه بين أن يظهر العيب عند المبتاع أو لا يظهر، فألزمه اليمين
إذا ظهر ولم ير ذلك عليه إذا لم يظهر عنده، وإنما أراد أن يحلفه بمجرد
دعواه.
فصل
واختلف في الرد بالعيب هل هو نقض بيع أو ابتداء بيع؟ فجعله ابن القاسم في
كتاب الاستبراء من المدونة ابتداء بيع، إذ أوجب المواضعة على المشتري، وروي
ذلك عن مالك، وله في كتاب العيوب خلاف ذلك في الذي أعتق عبده فرد الغرماء
عتقه فباعه السلطان في دينه، ثم ثبت أنه كان به عند البائع عيب وأنه علم
به، أن البيع يرد ويعتق على البائع بالعتق الأول إن كان له مال تؤدى منه
ديون الغرماء؛ وقال أشهب في كتاب الاستبراء: هو نقض بيع، وروي ذلك عن مالك
- رَحِمَهُ اللَّهُ - في العتبية، وله خلاف ذلك في مسألة كتاب العيوب
المذكورة أن العبد لا يعتق، فجعله راجعا إليه بملك مستأنف لا على الملك
الأول.
فصل واختلف بماذا تدخل السلعة المردودة بالعيب في ضمان البائع، فقيل: إذا
أشهد المبتاع على العيب وأنه غير راض به، فقد برئ من ضمان السلعة المردودة
بالعيب ما لم يطل الأمر حتى يرى أنه راض به، وهو قول أصبغ؛ وقيل: هي في
ضمان المبتاع حتى يثبت العيب عند السلطان، وقيل: هي في ضمان المبتاع وإن
ثبت العيب عند السلطان حتى يقضى برده على البائع، أو يرضى صاحب العبد بقبض
عبده.
فصل
فإن كان المبيع المردود بالعيب مما له غلة ويلزم فيه نفقة، فالغلة للمبتاع
والنفقة عليه، لا رجوع له بها على البائع، ولا يلزمه أن يرد الغلة لأن
الضمان منه،
(2/114)
روي «أن رجلا ابتاع غلاما فأقام عنده ما
شاء الله، ثم وجد به عيبا، فخاصمه إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فرده عليه، فقال البائع: يا رسول الله قد استغل غلامي، فقال
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الغلة بالضمان» . لا
اختلاف بين أهل العلم في هذا على الجملة، وإنما اختلفوا فيه على التفصيل؛
لاختلافهم فيما هو غلة للمبتاع مما ليس بغلة له، وفي وجوب الرجوع له بما
أنفق على ما لا يصح اغتلاله؛ وبيان هذا أن الغلات تنقسم على قسمين (أحدهما)
ما لا يتولد عن المبيع وإنما غلته بالانتفاع بعينه، كالعبيد الذين يستخدمون
أو يؤاجرون، والمساكن التي تسكن، أو تكرى، وما أشبه ذلك، و (الثاني) : ما
يتولد عنه كثمر النخل وصوف الغنم ولبنها، وما أشبه ذلك؛ فأما ما لا يتولد
عن المبيع، فللمبتاع ما اغتل منه إلى يوم يرده بالعيب، وعليه النفقة، ولا
إشكال في هذا الوجه يفتقر إلى بيان؛ وأما ما يتولد عنه فإنه ينقسم على
قسمين (أحدهما) أن يكون ما يتولد عنه وجهه أن يقبض شيئا شيئا كلما تولد،
كلبن الغنم وما أشبهها. و (الثاني) أن يكون ما يتولد عنه لا يقبض إلا في
أوقاته المعهودة، كثمر النخل وصوف الغنم وما أشبه ذلك؛ فأما الوجه الأول
فحكمه حكم ما لا يتولد عن المبيع: للمبتاع منه ما اغتل إلى يوم الرد؛ وأما
الوجه الثاني فإن الثمار مفارقة النخل وما أشبهها من الثمار، فلا تخلو من
أربعة أحوال، (إحداها) أن تكون يوم البيع لا ثمرة فيها، (والثانية) أن تكون
يوم البيع فيها ثمرة لم تؤبر، (والثالثة) أن تكون فيها ثمرة قد أبرت،
(والرابعة) أن تكون فيها ثمرة قد طابت، فأما الحال الأولى وهو أن تكون
النخل لا ثمرة فيها يوم الابتياع فلا يخلو من أربعة أوجه، (أحدها) أن يجد
بها العيب فيردها به قبل أن تصير لها ثمرة، (والثاني) أن يجد بها العيب
فيردها به وقد صار لها ثمرة لم تؤبر، (والثالث) أن يجد بها العيب فيردها به
وقد أبرت الثمرة، (والرابع) أن يجد بها العيب فيردها به وقد طابت الثمرة،
يبست أو لم تيبس، جدت أو لم تجد، قائمة كانت بعد الجد أو فائتة. وأما الحال
الثانية، وهي أن تكون في النخل يوم الابتياع ثمرة لم تؤبر، فلا تخلو من
ثلاثة أوجه، (أحدها) أن يجد العيب فيرد به والثمرة بحالها لم تؤبر،
(والثاني) أن يجد العيب فيرد به والثمرة قد أبرت،
(2/115)
(والثالث) أن يجد العيب فيرد به والثمرة قد
طابت، وأما الحال الثالثة وهي أن تكون في النخل يوم الابتياع ثمرة مأبورة
فيستثنيها المبتاع، فلا تخلو من وجهين (أحدهما) أن يجد العيب فيرد به
والثمرة على حالها لم تطب، (والثاني) أن يجد العيب فيرد به والثمرة قد
طابت؛ وأما الحال الرابعة وهو أن يشتري النخل بثمرتها بعد الطياب، فليس
فيها إلا وجه واحد - وهو أن يجد بها العيب قبل الجداد أو بعده وهما سواء،
فهذه عشرة أوجه، أربعة في الحال الأولى، وثلاثة في الحال الثانية، واثنتان
في الحال الثالثة، ووجه واحد في الحال الرابعة، يتصور في كل وجه منها أربعة
معان، سواء الرد بالعيب يطرأ على الملك فيخرجه من يد مالكه بوجه الحكم، وهي
الرد بالعيب الفاسد والاستحقاق والشفعة والتفليس، فأنا أذكر حكم الرد
والعيب فيها ثم أعود إلى ذكر سائر المعاني الأربعة وتبيين وجه الحكم فيها،
إن شاء الله، وما توفيقي إلا بالله؛ فأما الوجه الأول من الحال الأولى وهو
أن يشتري النخل ولا ثمر فيها فيجد بها عيبا قبل أن يصير لها ثمرة فإنه
يردها به إن شاء ولا يرجع بالسقي والعلاج إن كان قد سقى وعالج، وقيل: إنه
يرجع به على مذهب ابن القاسم - وينبغي أن يجري هذا على اختلاف قوله في الرد
بالعيب هل هو نقض بيع أو ابتداء بيع؛ وأما الوجه الثاني من الحال الأولى -
وهو أن يشتري النخل ولا ثمر فيها فيسقيها ويعالجها حتى تكون لها ثمرة فيجد
بها عيبا قبل أن تؤبر، فإنه يردها بالعيب ويرجع بالسقي والعلاج عند ابن
القاسم وأشهب، ولا يرجع به عند ابن الماجشون وسحنون.
فصل
فإن جد الثمرة في هذه الحال، فلا أذكر لأصحابنا في ذلك نصا والذي يوجبه
النظر عندي على أصولهم أن ذلك فوت، لأن جد الثمرة في هذه الحال يعيب الأصل
وينقص قيمته، فيكون مخيرا بين أن يرد ما نقص أو يمسك ويرجع بقيمة العيب،
وأما الوجه الثالث من الحال الأولى وهو أن يشتري النخل ولا ثمرة فيها فيجد
بها العيب بعد الإبار، فإنه يردها بثمرتها ويرجع بقيمة السقي والعلاج عند
ابن القاسم وأشهب، خلافا لابن الماجشون وسحنون، هذا قول مالك وأصحابه، -
رَحِمَهُمُ اللَّهُ - تعالى، لا أعرف في ذلك بينهم نص خلاف في أنه يردها
بثمرتها، إلا أن القياس
(2/116)
على مذهب من يرى الرد بالعيب ابتداء بيع،
أن يرد النخل وتبقى له الثمرة، وقد قاله أصبغ في الواضحة في البيع الفاسد؛
فيلزم مثله في الرد بالعيب، فإنه نقض بيع أيضا لأن فسخ البيع الفاسد نقض له
باتفاق، فهما قولان ظاهران.
فصل فإن جد الثمرة في هذه الحال أيضا، كان الحكم فيها على ما تقدم في جداده
إياها قبل الإبار، وأما الوجه الرابع من الحال الأولى وهي أن يشتري النخلة
ولا ثمرة فيها فيسقي ويعالج حتى تصير لها ثمرة فتطيب ثم يجد بها العيب بعد
طيابها، يبست أو لم تيبس، جدت أو لم تجد، قائمة كانت أو فائتة؛ فإن الثمرة
للمبتاع، لأنها غلة قد وجبت له بالضمان؛ هذا قول ابن القاسم في المدونة ولا
أعرف له في ذلك نص خلاف، إلا أنه يلزم على ما له في كتاب ابن المواز في
الاستحقاق أن يردها بثمرتها ويرجع للسقي والعلاج ما لم تيبس، وعلى ما روى
أبو زيد عنه في الاستحقاق أيضا أن يردها بثمرتها ويرجع بالسقي والعلاج ما
لم تجد، وهو قول أشهب في المدونة إذا اشترى الثمرة وقد أبرت، ولا فرق على
مذهبه في هذا بين شرائه النخل ولا ثمرة فيها أو فيها ثمرة، لم تؤبر أو قد
أبرت؛ لأنه رآها، ما لم تطب؛ تبعا للأصول، لم تقع عليها حصة من الثمن، وإن
كانت لا تجب له إلا بعد الإبار إلا باشتراطه إياها؛ إذ لا يصح بيعها مفردة
دون الأصول، وهذا قول ابن الماجشون في البيع الفاسد أنه يرد بثمرته ما لم
تجد، ولا فرق في هذا بين الرد بالعيب وبفساد البيع والاستحقاق.
فصل فيتحصل على هذا في الحد الذي تصير به الغلة للمبتاع في الرد بالعيب
والاستحقاق والبيع الفاسد أربعة أقوال، (أحدها) أنه تصير له غلة بالإبار،
(والثاني) أنه لا تصير له غلة إلا بالطياب، (والثالث) أنه لا تصير له غلة
إلا باليبس، (والرابع) أنه لا تصير له غلة إلا بالجداد؛ فوجه القول الأول
أن الثمرة قد صارت بعلاجه وعمله إلى الحد الذي يكون في البيع للبائع، إلا
أن يشترطها المبتاع، فوجب أن تكون غلة له، أصل ذلك إذا طابت أو يبست - ووجه
القول الثاني أنها لا تصير له
(2/117)
غلة - وإن أبرت ما لم تطب، لأنها قبل
الطياب لا يجوز بيعها مفردة دون الأصول، أصل ذلك إذا لم تؤبر، ووجه القول
الثالث أنها ما لم تيبس متشبثة بالأصول، إن باعها دونها لم تدخل في عقد
البيع في ضمان المشتري لما يجب له فيها من الرجوع بالجائحة، فوجب أن ترد
معها ولا تكون غلة له؛ ووجه القول الرابع أنها وإن يبست ما لم تجد متشبثة
بالأصول ليست كالطعام الموضوع في جواز بيعه بالطعام، لتعلقه بملك البائع،
فوجب أن ترد مع الأصول ولا تكون غلة؛ أصل ذلك إذا لم تؤبر، وأما الوجه
الأول من الحال الثانية، وهو أن يشتري النخل وفيها ثمرة لم تؤبر فيجد بها
عيبا - وهي لم تؤبر بعد - فاختلف قول ابن القاسم إذا ردها هل يرجع بالسقي
والعلاج إن كان قد سقى وعالج، حكى عنه الفضل، وعن أشهب أنه يرجع به وله في
المدونة دليل على أنه لا يرجع به.
فصل فإن جد الثمرة في هذه الحال قبل أن يجد العيب كان ذلك نقصانا يوجب له
التخير بين أن يرد ويرد ما نقص، أو يمسك ويرجع بقيمة العيب على ما وصفنا
فيما تقدم؛ وأما الوجه الثاني من الحال الثانية وهو أن يشتري النخل وفيها
ثمرة لم تؤبر فيجد العيب والثمرة قد أبرت، فالحكم فيه على ما تقدم إذا
اشترى النخل ولا ثمرة فيها فوجد بها العيب وقد أبرت الثمرة، وقد وصفنا ذلك،
وأما الوجه الثالث من الحال الثانية وهو أن يشتري النخل وفيها ثمرة لم تؤبر
فيجد بها العيب وقد طابت الثمرة، فالحكم فيه أيضا على ما تقدم إذا اشترى
النخل ولا ثمرة فيها ثم وجد بها العيب وفيها ثمرة قد طابت، وقد وصفنا ذلك
وما يدخله من الاختلاف، وأما الوجه الأول من الحال الثالثة وهو أن يشتري
النخل وفيها ثمرة مأبورة فيجد بها العيب قبل الطياب، فإنه يردها بثمرتها
عند الجميع ويرجع بالسقي والعلاج عند ابن القاسم وأشهب.
(2/118)
فصل فإن جد الثمرة قبل أن يجد العيب كان
مخيرا بين أن يرد وما نقص، أو يمسك ويرجع بقيمة العيب على ما تقدم في جده
إياها قبل الإبار، وأما الوجه الثاني من الحال الثالثة وهو أن يشتري النخل
وفيها ثمرة قد أبرت فيجد العيب وقد طابت فإنه يردها بثمرتها على مذهب ابن
القاسم، وإن يبست أو جدت وكانت قائمة، فإن فاتت رد المكيلة إن عرفت، أو
القيمة إن جهلت، أو الثمن إن بيعت، ويرجع بالسقي والعلاج في ذلك كله على
مذهبه، ولم يمضها إذا طابت بما ينوبها من الثمن كما أمضاها في الشفعة إذا
يبست، وقد عد ذلك سحنون اختلافا من قوله، وفرق ابن عبدوس بين المسألتين؛
وقال أشهب: إذا جدت فهي غلة للمبتاع؛ فتلخيص القول في هذا الوجه أن الذي
يتحصل فيه ثلاثة أقوال، أحدها، أن يرد الثمرة مع الأصل على كل حال، وهو
مذهب ابن القاسم، والثاني أنها تكون غلة للمبتاع، والثالث أنها تمضي بما
ينوبها من الثمن.
فصل فإذا قلنا: إنها تمضي بما ينوبها من الثمن، أو: إنها تكون غلة للمبتاع،
ففي حد ذلك ثلاثة أقوال، أحدها الطياب، والثاني اليبس، والثالث الجداد، ولا
اختلاف في أن الثمرة إن ذهبت بجائحة في هذا الوجه، ترد ويرجع بجميع الثمن؛
وأما الحال الرابعة وهو أن يشتري النخل وفيها ثمرة قد طابت ثم يجد بها
عيبا، فإنه يردها بثمرتها على كل حال وإن جدت، ما كانت قائمة، فإن فاتت رد
المكيلة إن عرفت، كمشتري سلعتين يجد بأرفعهما عيبا، فإن جهلت المكيلة مضت
بما ينوبها من الثمن ورد النخل بما ينوبها، وقيل: يرد قيمة الثمرة ويرجع
بجميع الثمن.
(2/119)
فصل فهذا حكم الرد بالعيب في جميع الوجوه
التي قسمناها قد بيناه كما شرطنا، والرد بفساد البيع مثله سواء في جميع
الوجوه، حاشا أن الرد بفساد البيع لا خيار فيه لأحد المتبايعين، فهو نقض
بيع على كل حال، فلا يدخل فيه من الاختلاف إلا ما يدخل في الرد بالعيب على
القول بأنه نقض بيع ويكون جداد الثمرة فيه إذا جدها قبل الإبار أو بعده -
وقبل الفيات - فوتا يوجب تصحيحه بالقيمة.
فصل وأما الاستحقاق والشفعة والتفليس فتتفق أحكامها في بعض الوجوه المذكورة
بأحكام الرد بالعيب وبفساد البيع، وتختلف في بعضها، فأنا أذكر جملة أحكامها
باقتصار بعضها - للتقسيم الذي ذكرته في الرد بالعيب، إرادة التقريب، وذلك
أن النخل يوم الابتياع لا تخلو من ثلاثة أوجه، (أحدها) أن لا يكون فيها
ثمرة أصلا، وأن يكون فيها ثمرة، إلا أنها لم تؤبر، (والثاني) أن يكون فيها
يوم الابتياع ثمرة مأبورة، (والثالث) أن يكون فيها يوم الابتياع ثمرة قد
طابت، فأما الوجه الأول وهو أن لا يكون فيها يوم الابتياع ثمرة، أو يكون
فيها ثمرة إلا أنها لم تؤبر، فيطرأ على المبتاع فيها - والثمرة لم تؤبر
مستحق، أو شفيع أو يفلس فيريد البائع أن يأخذ نخله، فإن هذا لا اختلاف فيه
أنهم يأخذون النخل بثمرته، وإنما الاختلاف في وجوب رجوع المبتاع عليهم بما
سقى وعالج إن كان له فيه سقي وعلاج، وذلك على ما ذكرته في حكم الرد بالعيب،
وقد رأيت في بعض الكتب القديمة رواية عن ابن القاسم أن المفلس لا يرجع بما
سقى، فإن صحت هذه الرواية عنه فهذا خلاف من قوله يدخل في الرد بالعيب
والأخذ بالشفعة، وجه القول الأول تشبيهه بالاستحقاق والرد بفساد البيع لما
فيه من الخيار للمبتاع، ووجه
(2/120)
القول الثاني تشبيهه بالبيع لما فيه من
الخيار للمبتاع والشفيع، وقد روي عن أشهب في الشفعة والاستحقاق أنه يأخذ
الثمرة بقيمتها على الرجاء والخوف، وعلته في ذلك أن السقي والعلاج قد يكون
أكثر من قيمة الثمرة - وهو لو جدها لم يكن له رجوع بما سقى وعالج.
فصل فإن جد الثمرة كانت غلة له إن كان ابتاع النخل قبل أن يكون فيا ثمرة،
وإن كان ابتياعه لها وفيها ثمرة لم تكن له غلة وحاسبه بها الشفيع فأخذ
النخل بما ينوبها من الثمن، وحاسبه بها البائع في الاستحقاق فلم يرجع عليه
إلا بما ينوب الأصول الطياب، وحاسبه بها الغريب في التفليس فأخذ النخل بما
ينوبها من الثمن، وحاص الغرماء بما ينوب الثمرة.
فصل فأما إن طرأ عليه بعد إبان الثمرة، ففي ذلك أربعة أقوال، (أحدها) أنهم
لا حق لهم في الثمرة بعد الإبار وهي غلة للمبتاع لا يحاسب بها، (والثاني)
أنهم أحق بها ما لم تطب الثمرة، (والثالث) أنهم أحق بها ما لم تيبس،
(والرابع) أنهم أحق بها ما لم تجد، المنصوص عليها من هذه الأقوال في
الاستحقاق قولان، (أحدهما) في كتاب ابن المواز أن المستحق أحق بها ما لم
تيبس، (والثاني) رواية أبي زيد عن ابن القاسم أنه أحق بها ما لم تجد،
(والقول الثالث) أنه لا حق له فيها بعد الإبار - وهي غلة للمبتاع، قاله
أصبغ في الرد بفساد البيع ولا فرق. (والقول الرابع) أنه أحق بها ما لم تطب،
قاله ابن القاسم في الرد بالعيب- ولا فرق؛ والمنصوص منها في الأخذ بالشفعة
قولان، أحدهما: أنه قول بعض المدنيين في المدونة وقول أشهب وأكثر الرواة
أنه لا حق للشفيع في الثمرة إذا لم يدركها حتى أبرت، وهذا يأتي على أن
الأخذ بالشفعة محمل البيع، أو على أن الثمرة تصير غلة بالإبار، (والثاني)
قوله في المدونة: إنه أحق بها ما لم تيبس، والثمرة ههنا يأخذها الشفيع
(2/121)
بحكم الاستحقاق لا بحكم الشفعة، إذ لم تقع
عليها حصة ميت الثمن، فيدخل فيها بالمعنى القولان الآخران كما دخلا في
الاستحقاق، والمنصوص منها في التفليس قولان، (أحدهما) قوله في المدونة: إن
البائع أحق بها من الغرماء ما لم تجد، (والثاني) قوله في سماع عيسى من كتاب
المديان: إنه أحق بها ما لم تطب، والقولان الآخران يتخرجان بالمعنى
والقياس، لأنه جعل أخذ البائع نخله بمنزلة الاستحقاق؛ إذ جعله أحق بالثمرة
ما لم تجد أو ما لم تطب. فوجب أن يدخل في ذلك من الاختلاف ما دخل في
الاستحقاق، ولو جعله بمنزلة البيع لوجب أن لا يكون أحق بالثمرة بعد الإبار
قولا واحدا، فإذا أخذ والنخل بثمرته كان للمبتاع الرجوع عليهم بسقيه
وعلاجه، على الاختلاف المتقدم؛ فإن جد الثمرة بعد الإبار قبل الطياب، فهي
غلة لا يحاسب شيء منها، وقد قال أشهب قولا أنكره سحنون، أن الشفيع والمستحق
إذا قدما قبل طيب الثمرة، كانت له بقيمتها على الرجاء والخوف، وقد تقدم ذلك
بعلته، وأما الوجه الثاني، وهو أن يكون في النخل يوم الابتياع ثمرة مأبورة
فيطرأ عليه قبل طيب الثمرة، فإنهم يكونون أحق بها على حالها بعد أن يردوا
السقي والعلاج، على الخلاف المتقدم؛ وأما إن لم يطرأ عليه إلا بعد طيب
الثمرة ولم تيبس، أو بعد يبسها ولم تجد، أو بعد جدادها - وهي قائمة أو
فائتة، ففي ذلك في الاستحقاق والشفعة ثلاثة أقوال، (أحدها) أن الشفيع
والمستحق يأخذ الثمرة مع الأصل - وإن جدت، ويرجع بالسقي والعلاج، قاله ابن
القاسم على قياس قوله في الرد بالعيب، وقاله أشهب ورواه عن مالك في الشفعة
في كتاب ابن المواز، ووجهه أنه حمل الأخذ بالشفعة محمل الاستحقاق،
(والثاني) أنها تكون غلة للمبتاع وهو مذهب أشهب في كتاب العيوب، (والثالث)
أنها تمضي بما ينوبها من الثمن - وهو قول ابن القاسم في كتاب الشفعة.
(2/122)
فصل فإذا قلنا: إنها تمضي بما ينوبها من
الثمن؛ إذ إنها غلة للمبتاع، ففي ذلك ثلاثة أقوال، (أحدها) الطياب، وهو قول
ابن القاسم في كتاب العيوب، (والثاني) اليبس وهو قول ابن القاسم في
المدونة، (والثالث) الجداد وهو قول أشهب في كتاب العيوب.
فصل وأما التفليس، فالمنصوص لهم فيه قول واحد، أنه أحق بها ما لم تجد، فإن
جد كان أحق بالأصول بما ينوبها من الثمن ويدخل فيه الاختلاف بالمعنى.
فصل وأما الوجه الثالث وهو أن يكون في النخل يوم الابتياع ثمرة قد أزهت
وطابت، فإنه في الاستحقاق أحق بها وإن جدت، فإن كانت قائمة أخذها وإن أكلها
غرم المكيلة إن عرفت، أو القيمة إن جهلت، وإن باعها وكانت قائمة بيد
المبتاع كان له أن يأخذها أو يجيز البيع ويأخذ الثمن؛ فإن تلفت بيد المبتاع
فليس له إلا الثمن، قاله في كتاب ابن المواز، وهذا على القول بأنها لا تصير
غلة للمبتاع إلا باليبس أو الجداد؛ وأما على القول الذي يرى أنها تصير له
غلة بالطياب، فلا حق له فيها إذا أزهت عند البائع، لأنها قد صارت له غلة
بالطياب، ويأخذ المستحق النخل وحدها ويرجع المستحق منه على البائع بما
ينوبها من الثمن ويسقط عنه ما ناب الثمرة لبقائها بيده، إلا أن يكون
اشتراؤه إياها من غاصب أو مشتر اشتراها بعد الإبار، على مذهب ابن القاسم،
وأما في الشفعة فإن الشفيع أحق بها ما لم تجد ويغرم السقي والعلاج، قاله
ابن القاسم في المدونة؛ وله فيها إذا اشتراها مع الأصول قبل الطياب أو
اشتراها دون الأصول بعد الطياب، أنه أحق بها بالشفعة ما لم تيبس، فقيل: إنه
فرق بين المسألتين، والصواب أن ذلك اختلاف من القول؛ وأما في التفليس
فالبائع أحق بالنخل والثمرة وإن جدت ما كانت قائمة كمشتري سلعتين يفلس.
(2/123)
فصل وأما صوف الغنم فإن تولد عند المشتري
فجزه، فهو غلة له في الرد بالعيب والاستحقاق وأخذ البائع لها في التفليس،
وأما بالبيع الفاسد، فإنه لا يتولد ويحمل إلا وقد فات رد الغنم، ووجب أن
يصحح البيع بالقيمة ولم يجزه، فإنه تبع الغنم في جميع ذلك، ولا يرجع
المبتاع بشيء من نفقته عليها، بخلاف النخل، والفرق بينهما أن للغنم غلة
تبتغى منها سوى الصوف، ولو جزه المبتاع بعد أن اطلع على العيب، لكان جزه له
رضا بالعيب، وكذلك لو اشتراها وعليها صوف قد كمل وتم، على مذهب أشهب - لأنه
عنده تبع للغنم في دخوله في الصفقة دون اشتراط أصله، إذا اشترى النخل
بثمرتها قبل الإبار، بخلاف ما إذا كانت الثمرة قد طابت؛ ولا يلزمه على هذا
ألا تكون الثمرة غلة له إذا اشتراها مع الأصول قبل الطياب وقد أبرت، لأنها
ما لم تطب فهي عنده تبع للأصول، إذ لا يجوز بيعها منفردة دونه إلا على
الجد، خلاف ما إذا طابت؛ وأما ابن القاسم فذهب إلى أن الغنم إذا كان عليها
يوم الشراء صوف قد تم وكمل، فليس بغلة له وإن جزه، ويرده في العيب إن كان
قائما، أو مثله إن كان فائتا؛ وكذلك في الاستحقاق يأخذه المستحق إن كان
قائما، أو مثله إن كان قد استهلكه المبتاع، أو الثمن إن كان باعه، وكذلك في
التفليس يكون البائع أحق به وإن جزه المفلس ما كان قائما، فإن فات أخذ
الغنم بما ينوبها من الثمن وحاص الغرماء بما ينوب الصوف، وإن شاء ترك الغنم
وحاص الغرماء بجميع دينه، وقول ابن القاسم: إن الغنم إذا كان عليها صوف قد
تم وكمل يوم الشراء، أنه ليس بتبع للغنم وقد وقع عليه قسطه من الثمن، وإن
كان داخلا في الصفقة دون اشتراط، أظهر من قول أشهب، أصله إذا اشترى الأرض
وفيها نخل أنها تدخل في الصفقة دون اشتراط، ولا يحكم لها بحكم البيع إن
قطعها البائع أو ذهبت بجائحة في حكم الرد بالعيب والاستحقاق وأخذ البائع
لها في التفليس، وبالله سبحانه التوفيق.
(2/124)
|