المقدمات
الممهدات [كتاب
المرابحة] [فصل في تقسيم أجناس البيوع]
فصل في تقسيم أجناس البيوع، البيوع
تنقسم على أربعة أقسام: بيع مرابحة، وبيع مكايسة، وبيع مزايدة، وبيع
استئمانة واسترسال؛ وقال ابن حبيب: إن الاسترسال إنما يكون في الشراء دون
البيع، وليس ذلك بصحيح، إذ لا فرق في ذلك بين البيع والشراء.
فصل فأما بيع المرابحة، فإنه على وجهين، أحدهما أن يبايعه على ربح مسمى على
جملة الثمن، (والثاني) أن يبايعه على أن يربحه بالدرهم درهما وللدرهم نصف
درهم، وللعشرة أحد عشر أو أقل من ذلك أو أكثر مما يتفقان عليه من الأجزاء.
فصل فأما إذا بايعه على أن يربحه للدرهم درهما أو للدرهم نصف درهم، أو
(2/125)
للعشرة أحد عشر، وما أشبه ذلك، فإن ما كان
في السلعة المبيعة مما له عين قائمة كالصبغ والكمد والفتل وما أشبه ذلك،
فإنه بمنزلة الثمن يحسب ويحسب له الربح؛ وأما ما ليس له عين قائمة فإنه على
وجهين، أحدهما ما يختص بالمبتاع، والثاني ما لا يختص به؛ فأما ما لا يختص
بالمبتاع فإنه لا يحسب في أصل الثمن، ولا يحسب له ربح؛ وذلك كنفقته وكراء
ركوبه وكراء بيته إن خزن المتاع فيه، لأن العادة جارية أن يخزن الرجل متاعه
في بيت سكناه، وأما ما يختص بالمتاع، فإنه ينقسم أيضا على وجهين، أحدهما ما
يتولاه التاجر بنفسه ولا يستأجر عليه غالبا كشراء المتاع وشده وطيه وما
أشبه ذلك. والثاني ما يستنيب عليه غالبا ولا يتولاه بنفسه كحمل المتاع
ونفقة الرقيق وما أشبه ذلك، فأما ما جرت العادة أن يتولاه التاجر بنفسه
غالبا كطي المتاع وشرائه وشده فاستأجر عليه، فإنه لا يحسب في رأس المال،
لأن المبتاع يقول له: لا يلزمني ذلك، لأنك إنما استأجرت من ينوب عنك فيما
جرت العادة أن تتولاه بنفسك، فلا يجب علي في ذلك شيء؛ وأما ما يستأجر عليه
غالبا ولا يتولاه بنفسه، كحمل المتاع ونفقة الرقيق وما أشبه ذلك، فإنه يحسب
في أصل الثمن ولا يحسب له ربح، لأنه ليس له عين قائمة.
فصل فيجب على هذا إذا اشترى من المبتاع ما يعلم أنه لا يشتريه إلا بواسطة
وسمسار تجري العادة بذلك، أو اكترى منه مخزنا ليخزن فيه المتاع، ولولا ذلك
لم يحتج إليه أن يحسب في أصل الثمن ولا يحسب له الربح؛ وقد رأيت ذلك لبعض
أهل العلم.
فصل وهذا إذا بين هذه الأشياء كلها فقال: اشتريت هذه السلعة بكذا وصبغتها
بكذا واكتريت عليها بكذا، وأعطيت عليها السمسار كذا، فأبيعها بربح
(2/126)
للعشرة أحد عشر، فحينئذ يكون العمل على
هذا، وينظر إلى ما سم مما له عين قائمة، فيحسب ويحسب له الربح، وما لم تكن
له عين قائمة إلا أنه يختص بالمتاع ولا يتولاه التاجر بنفسه، فإنه يحسب ولا
يحسب له ربح؛ وإن كان يتولاه التاجر بنفسه أو لا يختص بالمتاع، فإنه لا
يحسب رأسا ولا يحسب له ربح إلا أن يشترط البائع أن يربحه على ذلك كله بعد
أن يسميه ويبينه، فيجوز ذلك.
فصل وأما إن قال: قامت علي هذه السلعة بكذا وكذا وأبيعها بربح للعشرة أحد
عشر، وما أشبه ذلك، ولم يبين هذه الأشياء، فالعقد على هذا فاسد، لأن
المشتري لا يدري كم رأس المال الذي يجب له الربح؛ وكم أضيف إليه مما يحسب
ولا يحسب له ربح ومما لا يحسب رأسا ولا يحسب له ربح، وهذا جهل بين في
الثمن، وقد قال في كتاب ابن المواز: إنه يعمل في هذا على ما ذكرناه مما
يحسب أو لا يحسب، وما يكون له ربح مما لا يكون له ربح، وهو ظاهر قول سحنون
في نوازله منها وهو بعيد والصواب ما قدمناه.
فصل وأما الوجه الثاني من وجوه المرابحة وهو أن يبيع ربح مسمى على جملة
الثمن، فإن سمى أيضا ما اشتراها به وما أنفق عليها فيما له عين قائمة وفيما
ليس له عين قائمة مما يحسب أو لا يحسب، جاز البيع وطرح عن المبتاع ما لا
يحسب رأسا، كنفقته وكراء بيته، وما أشبه ذلك، إلا أن يشترطا أن يحسب ذلك
فيجوز، وكذلك إن قال: قامت علي هذه السلعة بكذا، على قياس ما في كتاب محمد
وظاهر قول سحنون في نوازله، والقياس أن العقد على هذا فاسد على ما بيناه.
فصل ويلزمه أيضا فيما له عين قائمة كالصبغ والكمد والفتل- أن يبين فيقول:
اشتريت بكذا وكذا وصبغت بكذا وكذا، في الوجهين جميعا، باع بربح مسمى على
(2/127)
جملة الثمن أو للعشرة أحد عشرة، فإن لم
يفعل وقال: شراء هذه السلعة بعشرة، وقد كان اشتراها بخمسة وصبغها بخمسة؛
فالمشتري بالخيار إن كانت السلعة قائمة بين أن يأخذها بالثمن أو يردها، وإن
فاتت مضت بجميع الثمن ولم ترد إلى القيمة؛ هذا قول سحنون في العتبية، وقد
كان القياس إذا خيره في القيام أن يرده في الفوات إلى القيمة، إن كانت أقل
من الثمن - على مذهب ابن القاسم في مسائل الغش والخديعة، أو القيمة على
مذهب سحنون يوم قبضها ما لم تكن أكثر من الثمن الذي اشتراها به، أو أقل من
قيمتها يوم ابتاعها على أصل مذهبه في مسائل المرابحة؛ وذهب أبو إسحاق
التونسي إلى أنه ليس عليه أن يبين ذلك، كسلعتين باعهما مرابحة صفقة واحدة
وقد كان اشتراهما في صفقتين.
فصل ولا يجوز في بيع المرابحة أن يكتم البائع من أمر سلعته ما إذا ذكره كان
أوكس للثمن أو أكره للمبتاع، لأن ذلك من أكل المال بالباطل الذي نهى الله
عنه وحرمه، ومن الغش والخديعة والخلابة المنهي عنه بالسنة.
فصل فيلزم من باع مرابحة أن يبين ما عقد عليه وما نقد، وإن كان اشترى بنقد
أو إلى أجل أو في أي زمن اشتراها؛ لأن التجار على الطرى أحرص، وهم فيه
أرغب، وإن كان تجوز عنه في الثمن أو أخر به أو بشيء منه، وإن كان حدث بها
عيب عنده أن يبين به، وأن عنده حدث، وما أشبه ذلك من الأشياء حتى يعلم
المبتاع من أمر السلعة ما علم منها البائع؛ فإن لم يفعل وكتم شيئا من ذلك،
فلا يخلو ما كتمه من ثلاثة أوجه، (أحدها) أن يكون ذلك من باب الكذب في
الثمن
(2/128)
والزيادة فيه، (والثاني) أن يكون من باب
الغش والخديعة، (والثالث) أن يكون من باب التدليس بالعيب ولكل وجه من هذه
الوجوه حكم يختص به.
فصل فأما من باع مرابحة وزاد في الثمن، فحكمه أن المبتاع في قيام السلعة
مخير بين أن يمسك بجميع الثمن أو يرد إلا أن يشاء البائع أن يحط عنه
الزيادة وما ينوبها من الربح، فيلزمه البيع؛ فإن فاتت وأبى البائع أن يحط
عنه الزيادة ونوبها من الربح، كان للبائع القيمة إلا أن تكون أكثر من الثمن
الذي باع به، فلا يزاد عليه أو أقل من الثمن الصحيح وما ينوبه من الربح،
فلا ينقص المبتاع منه شيئا.
فصل وأما من باع مرابحة وخدع المبتاع وغشه، فإن كتمه من أمر سلعته ما يكرهه
ولم يزد عليه في الثمن ولا دلس له بعيب، فحكمه أن يكون المبتاع في قيام
السلعة بالخيار بين أن يمسك بجميع الثمن أو يرد، وليس للبائع أن يلزمه
إياها وإن حط عنه بعض الثمن، وإن كانت فاتت، كان فيها الأقل من القيمة أو
الثمن.
فصل وأما من دلس بعيب في بيع المرابحة، فحكمه حكم من باع غير مرابحة في
قيام السلعة وفواتها - إن كانت قائمة، خير بين أن يرد ويرجع بجميع الثمن،
أو يمسك - ولا شيء له، وإن كانت قد فاتت بعيب مفسد، كان مخيرا بين أن يرد
ويرد ما نقصه العيب الحادث عنده، وبين أن يمسك ويرجع بقيمة العيب وما
ينوبها من الربح.
فصل
فعلى هذه الثلاثة الأوجه يجري حكم المرابحة كلها على مذهب ابن القاسم إلا
في مسألتين شذتا عن هذا الأصل فلم يحكم فيهما بحكم الكذب في بيع
(2/129)
المرابحة، ولا بحكم الغش والخديعة، ولا
بحكم العيب؛ (إحداهما) من باع مرابحة وحسب ما لا يحسب أو ربح ما يحسب ولا
يحسب له ربح، (والثانية) من باع مرابحة على ما عقد عليه ولم يبين ما نقد؛
وأما سحنون فوافق ابن القاسم في الوجهين، وخالفه في الثالث؛ وافقه في حكم
التدليس بالعيب وفي حكم الكذب، وخالفه في حكم الغش والخديعة؛ لأن الغش
والخديعة عنده في المرابحة ينقسم على قسمين (أحدهما) أن لا يكون للغش
والخديعة تأثير في زيادة الثمن، (والثاني) أن يكون له تأثير في زيادة
الثمن، فأما ما لا تأثير له في زيادة الثمن فيوافق فيه ابن القاسم، وذلك
مثل: أن يرث السلعة أو توهب له فيبيعها مرابحة، أو مثل: أن يشتري السلعة
فتطول إقامتها عنده ولا تحول أسواقها وما أشبه ذلك. وأما ما له تأثير في
زيادة الثمن فخالف فيه ابن القاسم ورده إلى حكم الكذب في القيام والفوات،
وذلك مثل: أن يشتري السلعة بثمن إلى أجل فيبيعها مرابحة بذلك الثمن؛ لأن من
المعلوم أن من اشترى إلى أجل يزيد في الثمن وأجل التأخير، مثل أن: يشتري
الثوبين صفقة واحدة، فيبيع أحدهما مرابحة بما ينوبه من الثمن؛ لأن الجملة
يزاد فيها على ما ذهب إليه ابن عبدوس - وإن لم يزد فيها فيتهم البائع في
أنه قد وضع على أحد الثوبين من الثمن أكثر مما ينوبه.
فصل
فإن اجتمع على مذهبه الغشان جميعا؛ غش له تأثير في زيادة الثمن وغش لا
تأثير له في زيادة الثمن - مثل أن: يشتري السلعة فتطول إقامتها عنده وتحول
أسواقها بنقصان، فإنه يوافق ابن القاسم في قيام السلعة؛ لأن البائع إن أراد
أن يلزم المبتاع السلعة بأن يحط عنه من ثمنها ما قابل الكذب ونوبه من
الربح، احتج عليه بطول الإقامة، ويخالفه إذا فاتت السلعة فيحكم لها بحكم
الكذب؛ ووجه العمل في ذلك أن تقوم السلعة يوم باعها مرابحة، فتكون تلك
القيمة هو الثمن
(2/130)
الصحيح، ثم تقوم يوم قبضها إن تأخر قبضها
فتكون له القيمة - ما لم تكن أكثر من الثمن الذي باع به، أو أقل من القيمة
الأولى وما ينوبها من الربح؛ هذا نص قول سحنون، وهو كلام فيه اعتراض،
والصحيح أن تقوم السلعة يوم ابتاعها، ثم تقوم يوم باعها مرابحة، فينظر ما
بين القيمتين من أجل حوالة الأسواق ويحط ذلك الجزء من الثمن وربحه، فما بقي
كان هو الثمن الصحيح الذي لا ينقص منه إن كانت القيمة أقل.
فصل
وقد يجتمع في مسألة واحدة التدليس بالعيب والكذب في الثمن، والتدليس بالعيب
والغش والخديعة والكذب، فينظر في ذلك كله على مذهب ابن القاسم، ويكون
للمبتاع المطالبة بأي ذلك شاء مما هو أنفع له، وقد تجتمع أيضا الثلاثة
الأشياء في مسألة واحدة: التدليس بالعيب، والكذب في الثمن، والغش والخديعة.
فصل فأما إذا اجتمع في مسألة واحدة التدليس بالعيب والكذب في الثمن، فإن
ذلك لا يخلو من خمسة أحوال:
(إحداها) أن تكون السلعة قائمة لم تفت بوجه من وجوه الفوت، (والثانية) أن
تكون السلعة قد فاتت بحوالة أسواق أو نقص يسير، (والثالثة) أن تكون قد فاتت
ببيع، (والرابعة) أن تكون قد فاتت بالعيوب المفسدة، (والخامسة) أن تكون قد
فاتت بذهاب عينها أو ما يقوم مقام ذهاب العين من العتق والكتابة والتدبير
والصدقة والهبة لغير الثواب، وما أشبه ذلك.
مثال ذلك: أن يشتري الرجل السلعة فيحدث بها عنده عيب، أو تكون جارية
فيزوجها ثم يبيعها مرابحة بجميع الثمن الذي اشتراها به ولا يبين العيب الذي
حدث عنده، ولا أن لها زوجا إن كان زوجها؛ لأنه قد زاد في ثمنها ما نقص
العيب من قيمتها، فإن كانت على الحال الأولى لم تفت بوجه من وجوه الفوت لم
يكن للمشتري المطالبة إلا بحكم العيب، فكان مخيرا بين أن يمسك ولا شيء له
أو يرد ولا شيء عليه، ولا يكون للبائع أن يلزمه إياها وإن حط عنه الكذب وهو
قيمة العيب وما ينوبه من الربح؛ لأن
(2/131)
من حجته أن لا يرضى بالعيب؛ وأما إن كانت
على الحال الثانية قد فاتت بحوالة سوق أو نقص يسير، فالمبتاع مخير بين أن
يطالب بحكم العيب فيمسكها ولا شيء له، أو يردها ولا شيء عليه؛ إذ لا يفيت
ردها بالعيب حوالة الأسواق ولا النقص اليسير، وليس للبائع أن يلزمه إياها
بأن يحط عنه الكذب وهو قيمة العيب وما ينوبه من الربح؛ إذ ليس له أن يلزمه
العيب شاء أو أبى، وبين أن يطالب بحكم الكذب ويرضى بالعيب؛ إذ قد فاتت في
حكم الكذب؛ فإن اختار ذلك كان وجه العمل فيه أن يعرف ما نقص التزويج من
الثمن الذي اشتراها به البائع يوم اشتراها.
وذلك أن تقوم يومئذ معيبة وغير معيبة، فما كان بين القيمتين حط ذلك المقدار
من الثمن، فما بقي منه كان ذلك هو الثمن الصحيح؛ ثم تقوم يوم ابتاعها أو
يوم قبضها على الاختلاف في ذلك، فيكون على المبتاع تلك القيمة؛ إلا أن تكون
أقل من الثمن الصحيح فلا ينقص البائع منه شيئا أو يكون أكثر من الثمن الذي
اشتراها به، فلا يزاد البائع عليه شيئا، وأما إن كانت على الحال الثالثة من
فواتها بالبيع فليس للمشتري المطالبة إلا بحكم الكذب، إذ لا رجوع للمشتري
في العيب بشيء بعد البيع على مذهب ابن القاسم ويعمل في ذلك على ما بيناه من
وجه العمل فيه.
وأما إن كانت على الحال الرابعة من فواتها بالعيوب المفسدة، فله المطالبة
بأي الوجهين شاء ويكون مخيرا في ثلاثة أوجه:
(أحدهما) أن يرد ويرد ما نقصها العيب الحادث عنده، (والثاني) أن يرجع بقيمة
العيب وما ينوبه من الربح، (والثالث) أن يرضى بالعيب ويطالب بحكم الكذب
فتكون عليه القيمة إلا أن تكون أكثر من الثمن الذي ابتاعها به فلا يكون
عليه أكثر منه، لأنه هو يطلب الفضل قبل البائع أو تكون القيمة أقل من الثمن
الذي اشتراها به البائع بعد طرح قيمة العيب من ذلك، وما ينوبه من الربح يوم
ابتاعها البائع على ما تقدم من العمل والتفسير.
وأما إن كانت على الحال الخامسة من ذهاب عينها أو ما يقوم مقام ذهاب العين،
فله المطالبة بأي الوجهين شاء إما بالعيب فيرجع بقيمته وما ينوبه من الربح؛
وإما بالكذب فتكون عليه القيمة ما لم تكن أقل أو أكثر على ما فسرناه وقد
وقع في
(2/132)
المدونة في هذا الوجه كلام طويل واختلاف في
الرواية يرجع الكلام على الرواية الواحدة إذا حملته على ظاهره أن المبتاع
يرجع على البائع بقيمة العيب وما ينوبه من الربح على حكم التدليس بالعيب
بانفراده؛ وعلى هذه الرواية اختصر المسألة ابن أبي زمنين وهي جل الروايات؛
وعلى الرواية الثانية جعل الحكم في المسألة حكم الكذب في الثمن بانفراده
وهو الأظهر من مراد ابن القاسم - في الكتاب وقصده؛ لأنه لو قصد إلى حكم
العيب بانفراده، لقال: يرجع بقيمة العيب وما ينوبه من الربح، فاستُغنِي عن
التطويل في ذكر القيمة واعتبارها بما إذا حصل لم يرجع إلى معنى فيه فائدة،
وهذا كله فيه نظر؛ والصحيح ما نذكره بعد ونعتمد عليه من التأويل إن شاء
الله تعالى؛ لأن الرجوع بقيمة العيب وما ينوبه من الربح أفضل للمشتري في
هذه المسألة؛ فإذا كان ذلك أفضل له، فمن حقه أن يطالب به على مذهب ابن
القاسم؛ لأن العتق والتدبير والصدقة على مذهبه فوت يوجب للمبتاع الرجوع
بقيمته.
فهذه الرواية على هذا التأويل تضاهي رواية زياد عن مالك: أن من اشترى عبدا
فوهبه أو تصدق به فهو فوت ولا رجوع له بقيمة العيب إلا أن يتأول أن المعنى
فيها أنه رضي بالعيب، فطالب بحكم الكذب، وأما الرواية الأولى فتحمل على ما
تأول ابن أبي زمنين أن تكون إنما أرجع المبتاع فيها بقيمة العيب وما ينوبه
من الربح على حكم التدليس بالعيب؛ لأن ذلك هو أفضل للمشتري وهو بعيد في
الظاهر.
فصل ولو اشترى السلعة معيبة وهو عالم بعيبها، ثم باعها مرابحة بأكثر مما
اشتراها به وكتم العيب، لكان أبين في اجتماع الكذب والتدليس بالعيب، ولوجب
إذا فاتت السلعة بذهاب عينها أو ما يقوم مقام ذهاب العين، أن يكون للمشتري
المطالبة بالوجهين جميعا، فيرجع على البائع بقيمة العيب وما ينوبه من
الربح، ثم يقال للبائع: حط عنه الكذب أيضا وما ينوبه من الربح؛ فإن أبى من
ذلك، كانت على المبتاع القيمة، إلا أن تكون أكثر من الثمن الذي باع به بعد
إلغاء قيمة العيوب وما ينوبه من الربح؛ فلا يزاد البائع على ذلك، أو تكون
القيمة أقل من الثمن الصحيح بعد إلغاء قيمة العيب. وما ينوبه من الربح فلا
ينقص المبتاع من ذلك؛ وعلى هذا
(2/133)
الوجه ينبغي - عندي - أن يحمل كلام ابن
القاسم في المدونة الثابت في جل الروايات فيصح معناه، فالأولى أن يتأول على
ابن القاسم في الكتاب أنه رجع في آخر المسألة إلى التكلم على هذا الوجه -
وإن كان لم يُبتدَأ الكلام عليه، من أن يجعل - كلامه عليه لغوا وتكريرا
لغير فائدة كما فعل ابن أبي زمنين والله أعلم.
فصل وأما إن اجتمع في مسألة واحدة التدليس بالعيب والغش والخديعة، فإن ذلك
لا يخلو من خمسة أحوال:
(إحداها) أن تكون السلعة قائمة لم تفت بوجه من وجوه الفوت، (والثانية) أن
تكون قد فاتت ببيع، (والثالثة) أن تكون قد فاتت بحوالة أسواق أو نقص يسير،
(والرابعة) أن تكون قد فاتت بعيوب مفسدة، (والخامسة) أن تكون قد فاتت بفوات
العين أو ما يقوم مقام فوات العين، مثال ذلك: أن يشتري السلعة المعيبة وهو
عالم بعيبها فتطول إقامتها عنده ثم يبيعها مرابحة ولا يبين بالعيب ولا بطول
الإقامة، فإن كانت السلعة على الحالة الأولى، كان مخيرا بين أن يرد بالعيب
والغش والخديعة، أو يمسك بجميع الثمن ولم يكن للبائع أن يلزمه إياها بأن
يحط عنه بعض الثمن؛ وإن كانت على الحال الثانية من فواتها بالبيع، فليس له
المطالبة إلا بحكم الغش والخديعة، فيكون عليه القيمة إن كانت أقل من الثمن،
وإن كانت على الحال الثالثة، كان مخيرا بين أن يرد بالعيب أو يرضى ويطالب
بحكم الغش والخديعة فيرد له السلعة إلى قيمتها إن كانت أقل من الثمن الذي
ابتاعها به، وإن كانت على الحال الرابعة، كان مخيرا في ثلاثة أوجه، (أحدها)
أن يردها وما نقصها؛ (والثاني) أن يمسك ويرجع بقيمة العيب وما ينوبه من
الربح، (والثالث) أن يرضى بالعيب ويطالب بحكم الغش والخديعة فيرد عليه
السلعة إلى قيمتها إن كانت أقل من الثمن الذي باعها بها، وإن كانت
(2/134)
على الحالة الخامسة، كان مخيرا في وجهين،
أحدهما: أن يطالب بحكم العيب، فيحط عنه من الثمن قيمته وما ينوبه من الربح،
والثاني: أن يرضى بالعيب ويطالب بحكم الغش والخديعة فيرد له السلعة إلى
قيمتها - إن كانت قيمتها أقل من الثمن.
فصل وأما إن اجتمع في مسألة واحدة الكذب في الثمن والغش والخديعة، فإن ذلك
لا يخلو من حالين، (أحدهما) أن تكون السلعة قائمة لم تفت بوجه من وجوه
الفوت، (والثاني) أن تكون قد فاتت بحوالة سوق أو نماء أو نقصان، فما زاد
على الاختلاف في ذلك؛ مثال ذلك: أن يشتري الرجل السلعة بعشرة دنانير فتطول
إقامتها عنده فيبيعها باثني عشر دينارا ولا يبين بطول إقامتها عنده، فإن
كانت السلعة على الحال الأولى كان مخيرا بين أن يمسك أو يرد، ولم يكن
للبائع أن يلزمه إياها بأن يحط عنه الكذب ونوبه من الربح؛ لأنه يحتج عليه
بطول الإقامة وهو غش وخديعة، وإن كانت على الحال الثانية، فالمطالبة بحكم
الغش والخديعة أفضل له فترد له السلعة إلى قيمتها إن كانت القيمة أقل من
الثمن.
فصل وأما إذا اجتمع في مسألة واحدة التدليس بالعيب والغش والكذب في الثمن
والغش والخديعة، فإن ذلك لا يخلو أيضا من خمسة أحوال:
(إحداها) أن تكون السلعة قائمة لم تفت، (والثانية) أن تكون السلعة قد فاتت
ببيع، (والثالثة) أن تكون قد فاتت بحوالة سوق أو نقص يسير، (والرابعة) أن
تكون قد فاتت بالعيوب المفسدة، (والخامسة) أن تكون قد فاتت بفوات العين أو
ما يقوم مقام فواته؛ مثال ذلك: أن يشتري الرجل الجارية ولا ولد لها فيزوجها
وتلد عنده أولادا، ثم يبيعها مرابحة بجميع الثمن الذي اشتراها به دون
أولادها ولا يبين أن لها ولدا؛ لأن أولادها عيب، وطول إقامتها عنده إلى أن
ولدت الأولاد غش وخديعة، وما نقص التزويج والأولاد من قيمتها كذب في الثمن،
فإن كانت الجارية على الحال الأول
(2/135)
من القيام دون فوات، لم يكن للمشتري إلا أن
يرد ولا شيء عليه أو يمسك ولا شيء له، ولا يكون للبائع عليه أن يلزمه إياها
بحطيطة شيء من الثمن، لأنه يحتج عليه بالعيب والغش والخديعة؛ وإن كانت على
الحال الثانية من فواتها بالبيع فلا شيء للمشتري في العيب والمطالبة بحكم
الغش والخديعة أنفع له من المطالب بحكم الكذب، فترد له السلعة إلى قيمتها
إن كانت القيمة أقل من الثمن. وإن كانت على الحال الثالثة من فواتها بحوالة
الأسواق والنقص اليسير؛ فيكون المشتري مخيرا بين أن يرد بالعيب أو يرضى به،
فيرد له السلعة إلى قيمتها إن كانت القيمة أقل من الثمن على حكم الغش
والخديعة؛ لأن المطالبة بذلك أفضل له من المطالبة بالكذب.
وإن كان على الحال الرابعة من فواتها بالعيوب المفسدة، كان مخيرا في ثلاثة
أوجه، (أحدها) أن يردها ويرد ما نقصها العيب الحادث عنده، أو يمسك ويرجع
بقيمة العيب وما ينوبه من الربح، أو يرضى بالعيب فترد له السلعة إلى قيمتها
إن كانت القيمة أقل من الثمن على كلمة الغش والخديعة؛ لأن المطالبة بذلك
أنفع من المطالبة بحكم الكذب وإن لم يرد وكان الولد صغارا لم يبلغوا حد
التفرقة، جبر على أن يجمع بينهما في ملك واحد أو يرد البيع.
وإن كانت على الحال الخامسة بفواتها بفوات عينها أو ما يقوم مقام ذلك كان
مخيرا بين أن يرجع بقيمة العيب وما ينوبه من الربح أو يرضى بالعيب فيرد له
السلعة إلى قيمتها إن كانت أقل من الثمن؛ لأن المطالبة بالغش والخديعة أفضل
له من المطالبة بحكم الكذب.
فصل فحكم اجتماع التدليس بالعيب والكذب في الثمن والغش والخديعة في مسألة
واحدة حكم اجتماع التدليس بالعيب والغش والخديعة لا غير من أجل ما بيناه من
أن المطالبة للمشتري بحكم الغش والخديعة أنفع له من المطالبة بحكم الكذب؛
وكذلك حكم اجتماع الكذب والغش والخديعة في مسألة واحدة، كحكم انفراد الغش
والخديعة دون الكذب في القيام والفوات من أجل أن المطالبة بحكم الغش
والخديعة أنفع للمشتري.
(2/136)
فصل فأحكام المرابحة جارية على هذه الوجوه
وهي سبعة، (أحدها) الكذب في الثمن بانفراده، (والثاني) التدليس بالعيب
بانفراده، (والثالث) الغش والخديعة بانفراده، (والرابع) اجتماع الكذب
والتدليس بالعيب، (والخامس) اجتماع الكذب والغش والخديعة، (والسادس) اجتماع
الغش والخديعة والتدليس بالعيب، (والسابع) اجتماع الثلاثة الأشياء: الكذب
في الثمن، والغش والخديعة، والتدليس بالعيب، فقف عليها واعرف افتراق
أحكامها على ما بيناه وقسمناه، فإنها مستقصاة صحيحة على أصل ابن القاسم
ومذهبه، ولم أرها ملخصة لأحد ممن تقدم كهذا التلخيص.
فصل وسحنون يرد بعض مسائل الغش والخديعة إلى حكم الكذب ويجعل القيمة فيها
كالثمن الصحيح، يريد يوم باعها، في مثل الذي اشترى السلعة فحالت سوقها
بنقصان، ثم باعها مرابحة ولم يبين - ويريد - والله أعلم - يوم ابتاعها - في
مثل الذي اشترى السلعة فطالت إقامتها عنده وحالت أسواقها بزيادة، ثم باع
ولم يبين؛ ويأتي على مذهبه في الذي ابتاع السلعة بثمن إلى أجل، ثم باعها
مرابحة ولم يبين أن تكون القيمة الصحيحة يوم باعها بأن كانت أسواقها قد
حالت بنقصان من يوم ابتاعها إلى يوم باعها، وأن تكون القيمة الصحيحة منها
يوم ابتاعها إن كانت حالت أسواقها بزيادة من يوم ابتاعها إلى يوم باعها.
فصل وإن ادعى البائع الغلط في بيع المرابحة وأتى في ذلك بما يشبه من رقم
أكثر مما باع به أو إشهاده قوما قاسموه، أو ما أشبه ذلك؛ صدق وكان له
الرجوع؛ فهذا حكم بيع المرابحة ملخصا، وسيأتي مفصلا مفسرا في مواضعه من
الكتاب إن شاء الله تعالى.
(2/137)
فصل وأما بيع المكايسة فهو أن يساوم الرجل
الرجل في سلعته، فيبتاعها منه بما يتفقان عليه من الثمن، ثم لا قيام
للمبتاع فيها بغبن ولا بغلط على المشهور من الأقوال، وقد قيل: إنه يرجع
بالغلط، وهو ظاهر ما في كتاب الأقضية من المدونة وما في سماع ابن القاسم من
جامع البيوع، وهي رواية أبي زيد عن ابن القاسم في الكتاب المذكور في الذي
يشتري ياقوتة وهو لا يظنها ياقوتة ولا يعرفها البائع ولا المشتري أن البيع
يرد خلاف ما في سماع أشهب؛ وأما بالغبن - وهو الجهل بقيمة المبيع - فلا
رجوع له في بيع المساومة، وهذا ظاهر ما في سماع ابن القاسم من كتاب الرهون،
ولا أعرف في المذهب في ذلك نص خلاف، وكان من الشيوخ من يحمل مسألة سماع
أشهب من الكتاب المذكور على الخلاف في ذلك وليس بصحيح؛ لأنها مسألة لها
معنى من أجله أوجب الرد بالغبن، فليست بخلاف المشهور في المذهب ولظاهر
رواية ابن القاسم عن مالك المذكور، وقد حكى بعض البغداديين على المذهب
ورواه ابن القصار أنه يجب الرد بالغبن إذا كان أكثر من الثلث.. فتأمله وقف
عليه إن شاء الله.
وأما بيع المزايدة فهو أن يطلق الرجل سلعة في النداء ويطلب الزيادة فيها،
فمن أعطى فيها شيئا لزمه إلا أن يزاد عليه فيبيع البائع من الذي زاد عليه
أولا يمضيها له حتى يطول الأمد وتمضي أيام الصياح، فإن أعطى رجلان فيها
ثمنا واحدا تشاركا فيها على مذهب ابن القاسم، وقيل: إنها للأول ولا يأخذها
غيره إلا بالزيادة وهو قول عيسى بن دينار في سماعه من كتاب الجعل والإجارة،
قال: وإنما يشتركان فيها إذا أعطيا الثمن معا في حال واحدة.
(2/138)
فصل وأما بيع الاستئمانة والاسترسال، فهو
أن يقول الرجل: اشتر مني سلعتي كما تشتري من الناس، فإني لا أعلم القيمة،
فيشتري منه بما يعطيه من الثمن، وقال ابن حبيب: إن الاسترسال إنما يكون في
البيع أن يقول الرجل للرجل: بع مني كما تبيع من الناس وأما في الشراء فلا،
ولا فرق بين الشراء والبيع في هذا، والله أعلم.
فصل فالبيع والشراء على هذا الوجه جائز، إلا أن البيع على المكايسة أحب إلى
أهل العلم وأحسن عندهم والقيام بالغبن في البيع والشراء إذا كان على
الاسترسال والاستئمانة واجب بإجماع؛ لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «غبن المسترسل ظلم» وبالله سبحانه وتعالى التوفيق.
(2/139)
|