المقدمات
الممهدات [كتاب الجوائح]
[فصل في بيان معنى الجائحة من القرآن]
فصل في بيان معنى الجائحة من القرآن قال
الله عز وجل: {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا
أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ
أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [آل عمران: 117] ، وقال تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ
بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى
إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا
أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلا أَوْ نَهَارًا
فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ
الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس: 24] ، وقال تعالى: {وَلَوْلا
إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا
بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِي أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالا وَوَلَدًا} [الكهف: 39]
{فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِي خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ
عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا}
[الكهف: 40] {أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ
طَلَبًا} [الكهف: 41] {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ
كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا}
[الكهف: 42] . وقال تعالى:
(2/535)
{إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا
أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ}
[القلم: 17] {وَلا يَسْتَثْنُونَ} [القلم: 18] {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ
مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ} [القلم: 19] فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ،
يقول تبارك وتعالى: إنا اختبرنا وامتحنا مشركي قريش، كما امتحنا أصحاب
الجنة وأصحاب الجنة هؤلاء على ما ذكر بعض أهل التفسير قوم كانت لهم جنة وهي
البستان ويقال إنها أرض باليمن يقال لها ضوران فكان فيها رجل من بني
إسرائيل كانت له هذه الجنة فكان يؤدي حق الله فيها إلى المساكين؛ وجاء في
التفسير أنه كان يأخذ منها قوت سنة ويتصدق بالباقي، وجاء أيضا أنه كان يترك
ما أخطأ المنجل، وما كان في أسفل الأكداس، وما أخطأه القطاف من العنب، وما
خرج عن البساط الذي يبسط تحت النخلة إذا صرمت، فكان يجتمع من ذلك شيء كثير؛
فلما مات ورثه بنوه فقالوا والله إن كان أبونا لأحمق حين كان يطعم المساكين
- ونحن جماعة؛ فإن فعلنا بالمساكين ما كان يفعل أبونا ضعنا، فحلفوا
ليصرمنها بسدفة من الليل، قال الله عز وجل: {وَلا يَسْتَثْنُونَ} [القلم:
18] ، أي لم يقولوا: إن شاء الله فلما كان في أول الوقت الذي اتعدوا فيه في
أول الصبح بسدفة، غدوا إلى جنتهم ليصرموها؛ {وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ
قَادِرِينَ} [القلم: 25] أي على جد من أمرهم؛ وقيل على قصد أي قادرين في
أنفسهم على قصد جنتهم، لا يحول بينهم وبينها آفة؛ وقيل على منع قادرين، من
قولهم حاردت السنة إذا منعت خيرها، وحاردت الناقة إذا ارتفع لبنها. وقيل
على غضب، فلما رآوها أي رأوا جنتهم أنكروها من سوادها: فقال بعضهم لبعض:
إنا لضالون أي طريق الجنة وما هذه جنتنا؛ فلما تبينوا، قالوا بل نحن
محرومون أي حرمنا ما كنا نأمل فيها من القوت والسعة على أهالينا وأيتامنا،
قال أوسطهم أي أعدلهم ألم أقل لكم لولا تسبحون أي تستثنون في قسمكم؛ وقال
بعضهم أي تصلون؛ فقال وظنوا أنهم أوتوا من قبل ترك الصلاة؛ {قَالُوا
سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [القلم: 29]
(2/536)
أي ننزه ربنا عز وجل عن بخلنا ولومنا،
{فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ} [القلم: 19] ،
أي أتاها ليلا، والطائف لا يكون إلا بالليل، فإذا كان بالنهار قالوا طفت به
نهارا: {فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} [القلم: 20] ، أي كالليل الأسود.
والصريم أيضا النهار - وهو من الأضداد، وقيل كالصريم أي كالمقطوع من أصله،
وقيل كالصريم أي كالمصروم الذي قد أخذ حمله، أي ليس فيها ثمر. وقيل فأصبحت
كأرض تدعى الصريم - وهي أرض باليمن معروفة على ستة أميال من صنعاء.
فصل فالجوائح من الله تعالى ابتلاء منه يبتلي به عباده بما كسبت أيديهم
ويعفو عن كثير قال الله عز وجل: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا
كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30] .
فصل فمن أصيب بجائحة فصبر واحتسب ورضي بقدر الله وسلم لأمره، كان من
المهتدين المبشرين من الله بالصلاة والرحمة - حيث يقول تعالى: {وَبَشِّرِ
الصَّابِرِينَ} [البقرة: 155] {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ
قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 156]
{أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ
هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 157]
فصل فإذا نزلت بالرجل جائحة في شيء مما اشتراه من الثمار أو ما تخرجه الأرض
من غير الثمار، فإن أهل العلم اختلفوا في وضع الجائحة عنه اختلافا كثيرا
إذا كان قد اشترى ذلك دون الأصل، أو اشتراه مع الأصل بعد حلول بيعه؛ وأما
إن اشتراه مع الأصل قبل حلول بيعه، فلا جائحة فيه بإجماع.
(2/537)
فصل وهذا الاختلاف مبني على خمس مسائل هي
أصله وعليها مداره:
إحداها: معرفة وجوب وضع الجائحة.
والثانية: معرفة الحال التي توضع فيها.
والثالثة: معرفة مقدار ما يوضع منها مما لا يوضع.
والرابعة: معرفة ما يوضع فيه مما لا يوضع.
والخامسة: معرفة ما هو جائحة يجب وضعها مما ليس بجائحة يجب فيه الوضع.
فصل فأما وجوب وضع الجائحة في الجملة فالأصل فيه ما روي أن رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بوضع الجوائح، وما روي أنه قال
«من باع ثمرة فأصابتها جائحة فلا يأخذ من مال المشتري شيئا على ما يأخذ
أحدكم مال أخيه بغير حق» وما روي أنه «نهى عن بيع الثمار حتى تزهى وقال:
أرأيت إذا منع الله الثمرة، ففيم يأخذ أحدكم مال أخيه» .
فصل فأخذ مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجميع أصحابه بهذه الآثار وتقلدوا
الحكم بوضع الجائحة، وخالفهم في ذلك أبو حنيفة، والشافعي في أحد قوليه
وأصحابهما. فقالوا إذا قبض المشتري لم يوضع عنه للجائحة شيء أصلا، وعللوا
هذه الآثار بعلل يطول جلبها، واحتجوا لمذهبهم بظواهر آثار لا حجة لهم فيها،
من ذلك ما روى أبو سعيد الخدري «أن رجلا ابتاع ثمارا على عهد رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأصيب فيها، فكثر دينه فأمر النبي -
عَلَيْهِ السَّلَامُ - بالصدقة عليه، فتصدق عليه فلم يكن فيما
(2/538)
تصدق به عليه وفاء دينه، فقال - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك» . قالوا ولو
كان له حق أن يرجع على البائع، لقال ذلك له، وهذا لا حجة لهم فيه كما قلنا
لأنه حكاية عن فعل وقضية في عين، فيحتمل أن يكون أصيبت بعدما استجدت أو
أصيب منها ما دون الثلث أو سرقة أو غير ذلك مما لا يوجب له الرجوع على
البائع، أو يكون البائع لم يوجد أو لم يكن له ماله، وإذا احتمل الحديث هذه
الاحتمالات، بطل الاحتجاج به؛ واحتجوا أيضا بما روي «أن رجلا ابتاع ثمر
حائط فعالجه وقام فيه حتى تبين له النقصان، فسأل رب الحائط أن يضع عنه أو
يقيله، فحلف ألا يفعل؛ فذهبت أم المشتري إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكرت ذلك له فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: تألى ألا يفعل خيرا، فسمع ذلك رب الحائط فأتى رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله هو له» ...
ولم ينقل أنه أجبره على ذلك، بل ظاهر قوله: «تألى أن لا يفعل خيرا» ، أنه
على وجه الطوع وهذا لا حجة لهم فيه أيضا، لأنه لم يذكر في الخبر أن جائحة
أصابته، فلعله إنما كان خسرانا في الثمن، وحوالة في الأسواق: وهو الظاهر من
قوله: فعالجه وقام فيه حتى تبين له النقصان؛ وهذا لا يوجب على البائع شيئا،
واحتجوا لذلك أيضا بالقياس على العروض والحيوان. وهذا لا يلزم، لأن العروض
والحيوان لم يبق على البائع فيها بعد القبض حق توفية، وليس كذلك الثمار؛
لأنه قد بقي عليه فيها حق توفية، بدليل أن الجائحة لو أصابتها من قبل العطش
لكانت من البائع - وفاقا، فليست التخلية بمجردها قبضا تاما، ولو كانت
مقبوضة للمشتري بمجرد التخلية، لكان ضمانها منه كالعبد والثوب.
فصل وأما معرفة حال وضعها، فإنه يجب وضع الجائحة في الثمرة إذا أجيحت في
حال يفتقر فيه إلى بقائها في الأصول، وذلك أن الجائحة في الثمرة إنما وجب
(2/539)
وضعها عن المبتاع من أجل ما بقي له على
البائع من حق التوفية، إذ لم يقبضها بقبض الأصول قبضا تاما ناجزا لبقاء
السقي على البائع فيما يحتاج منها إلى السقي، والإجماع على الرجوع عليه بما
يكون من جائحة بسببه، ولافتقار الثمرة إلى بقائها في الأصول، تفصيل في بعض
وجوهها اختلاف سيأتي بيانه في التكلم على المسألة الرابعة - إن شاء الله.
فصل وأما معرفة قدر ما يوضع منها مما لا يوضع، فإنما يجب وضعها في مذهب
مالك وأصحابه إذا بلغت الثلث فأكثر، ولا توضع فيما دون ذلك، والفرق بين
الموضعين من وجهين:
أحدهما الظاهر.
والثاني المعنى.
فأما الظاهر، فهو ما روي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أمر بوضع الجوائح» والجائحة لا تنطلق إلا على ما أتلف جميع
المال أو جله؛ وأما من ذهب اليسير من ماله فلا، ويبين ذلك أن من يملك ألف
دينار إذا ذهب من ماله الدينار والعشرة والعشرون، لا يقال إن ماله اجتيح؛
وكذلك من سرق له من جملة متاعه الكثير - شيء يسير، لا يقال إن اللصوص
اجتاحوا ماله؛ وإذا صح ذلك، ثبت الفرق في هذا بين القليل والكثير، وثبوت
ذلك يقتضي فصلا بينهما ولا فصل إلا ما قلناه؛ لأن الثلث آخر من اليسير،
وأول حد الكثير، يقوم ذلك بالاعتبار من نص التنزيل قال الله عز وجل: {يَا
أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل: 1] {قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا}
[المزمل: 2] {نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلا} [المزمل: 3]- يريد من
النصف {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} [المزمل: 4] ، يريد أيضا على النصف ثم قال
تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ
اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ} [المزمل: 20] ،
(2/540)
فأخبر عز وجل عنه في هذه الآية بامتثال ما
أمره به في أول السورة من القيام، فقوله تعالى: {أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ
اللَّيْلِ} [المزمل: 20] ، هو قوله في أول السورة {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ}
[المزمل: 4] ، يريد على النصف وقوله ونصفه هو قوله في أول السورة: نصفه
وقوله: وثلثه، هو قوله في أول السورة أو انقص منه قليلا - يريد من النصف
فدل ذلك على أن الثلث من النصف قليل، وذلك على قراءة من قرأ ونصفه وثلثه
بالفتح فيهما جميعا - وهي أبين في المعنى من قراءة من قرأهما بالخفض.
فصل وعند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن كل ما يجب فيه اعتبار القليل من
الكثير فإن الثلث عنده في حيز اليسير، إلا في ثلاثة مواضع، أحدها الجائحة،
فإن الثلث فيها عنده في حيز الكثير يجب وضعه ومعاقلة المرأة الرجل، فإنها
تعاقله فيما دون الثلث؛ فإذا بلغت الثلث، رجعت إلى عقل نفسها، وما تحمل
العاقلة من الدية فإنها تحمل الثلث فما فوقه ولا تحمل ما دونه؛ وما عدا هذه
المواضع الثلاثة؛ فإنه يحكم فيها للثلث بحكم اليسير؛ والفرق عنده بين هذه
المواضع الثلاثة وغيرها: أن هذه الثلاثة المواضع ليس فيها موضع قصد يراعى
وما عداها يراعى فيها القصد، فلا يظن بأحد أنه يدخل في المحظور الكثير من
أجل القليل.
فصل وأما المعنى، فلان المشتري دخل لا محالة على ذهاب اليسير من الثمرة،
وأنها لا تسلم كلها، هذا معلوم بالعادة لا يكلم من يدفعه، لأن من يقول إن
المشتري دخل على أن تسلم الثمرة من ذهاب رطبه وبسره ورطل أو رطلين، أو
اجتياز المعتفين أو أكل الطير اليسير، فقد خرج عن العادة؛ وإذا ثبتت ذلك
اقتضى أنه لا يرجع في اليسير، وأنه يرجع بالكثير؛ لأنه لم يدخل عليه، وإنما
دخل على سلامة الجل، فبان بذلك مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
(2/541)
فصل وهذا في الثمار، وأما البقول فاختلفت
الرواية عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيها: فمرة قال يوضع فيها القليل
والكثير، ومرة قال: حكمها حكم الثمار لا توضع الجائحة فيها إلا في الثلث
فما زاد؛ فوجه قوله إنه توضع الجائحة فيها في القليل والكثير. «أن النبي -
عَلَيْهِ السَّلَامُ - أمر بوضع الجوائح» عموما، فتناول ذلك الثمار
والبقول، فخرجت الثمار من ذلك بما دل عليه من الدلائل، وبقيت البقول على
الأصل في العموم، ولأن العادة في الثمار ذهاب بعضها للحاجة إلى تبقيتها على
رؤوس النخل، فالمشتري على ذلك دخل، وليس كذلك البقول، لأنه لا عادة في
تلفها ولا في تلف شيء منها، بل العادة سلامة جميعها؛ وإذا كان ذلك كذلك،
وجب أن يوضع قليلها وكثيرها، ووجه قوله إنه إنما يوضع منها الثلث فصاعدا،
الاعتبار فيها بسائر الثمار بعلة أنه وضع جائحة في نبات، وقد قيل عن مالك
إنه لا توضع فيها جائحة أصلا، وقيل إنه ما جاز فيه المساقاة مع العجز
كالفجل والاسفنارية واللفت فلا توضع فيه الجائحة إلا أن يبلغ الثلث، وما لا
تجوز فيه المساقاة من البقول وضعت الجائحة في قليله وكثيره؛ وهذه رواية
سحنون عن ابن القاسم في العتبية، ومثله في كتاب ابن المواز؛ وهو خلاف لما
في المدونة.
فصل وأما معرفة ما توضع فيه الجوائح مما لا توضع فالأصل في ذلك أن كل ما لم
يمكن المشتري أن يبين به إلا بفساد، كالثمرة التي يبتاعها عند بدء صلاحها،
فلا يقدر على قطعها قبل أن يصل طيبها ويتناهى إلا بفساد لها، فإن الجائحة
فيها ما لم يكمل طيبها ويتناهى باتفاق عند من أوجب الجائحة، لأن له حقا على
البائع في إبقاء الثمرة في أصولها لصلاحها وكمال طيبها، فقد بقي له فيها
عليه حق توفية، ألا
(2/542)
ترى أن السقي عليه إن كانت مما تسقى ولو
أراد البائع أن يجبره على الجداد قبل انتهاء طيبها أو يبسها إن كانت مما لا
يجد حتى ييبس، لم يكن ذلك له، وما كان مما يمكن المبتاع أن يأخذه ويبين به
بغير فساد له، إلا أن على المشتري في تعجيل أخذ ذلك والبينونة به ضررا، إذ
لم يشتر إلا على أن يجده ويأخذه على وجه ما يعرف من التراخي في ذلك،
كالثمرة التي تقطع خضراء إذا اشتراها بعد انتهاء طيبها، أو اشتراها قبل
انتهاء طيبها فاجتيحت بعد انتهاء طيبها وإمكان جدادها، بمضي مدة يمكنه ذلك
فيها قبل بلوغ الحد الذي يعرف من التراخي في جدها، فيجري الأمر في هذا -
عندي على اختلاف قول مالك في جائحة البقول مرة، قال فيها الجائحة، ومرة قال
لا جائحة فيها؛ لأن العلة في وجوب الجائحة فيها هي أنها تلفت قبل بلوغ الحد
الذي اشتراها عليه من التراخي في قطعها وفي سقوطها، هي أنه قد قبضها بتخلي
البائع له عنها، فلو شاء أن يقطعها قطعا، ولم يكن في قطعه إياها فساد لها؛
فإنما قد تركها على ملك نفسه لمنفعة يرجوها، وهاتان العلتان موجودتان في
الثمرة بعد انتهاء طيبها؛ وعلى هذا يأتي الاختلاف في جائحة القصب، ويدخل في
الفول الأخضر؛ وأما إن اجتيحت الثمرة أو البقل بعد بلوغ الحد الذي يعلم من
التراخي في جدها، فلا خلاف أنه لا جائحة في ذلك، لأن البائع لم يدخل معه
على ذلك ولو اجتيحت الثمرة بعد انتهاء طيبها قبل أن يمضي من المدة ما يمكنه
فيه جدها، أو أجيح البقل بعد انعقاد البيع وتخلي البائع له عنه قبل أن يمضي
من المدة ما يمكنه فيها جده، لدخل الاختلاف في ذلك أيضا - عندي، وجرى على
الاختلاف في ضمان المكيال إذا تلف بعد أن يمتلئ في يد المشتري قبل أن يفرغه
في وعائه، فيأتي في المسألة على هذا التعليل ثلاثة أقوال:
أحدها: أن الثمرة تدخل في ضمان المشتري ويسقط عن البائع فيها حكم الجائحة
بتناهي طيبها - وإن لم يمض من المدة بعد تناهي طيبها ما يمكنه فيه قطعها.
(2/543)
والثاني: أنها لا تدخل في ضمانه ويرتفع عن
البائع حكم الجائحة إلا بعد تناهي طيبها، وإن لم يمض من المدة بعد تناهي ما
لو شاء المبتاع أن يجدها فيه جدها.
والثالث: أنها لا تدخل في ضمانه ويرتفع عن البائع حكم الجائحة حتى يمضي من
المدة بعد انتهاء طيبها ما جرى عليه العرف من التراخي في ذلك واشترى عليه
المشتري ودخل عليه البائع، لأن العرف البين عندهم كالشرط، وهذه مسألة جيدة
مستقصاة محصلة غاية التحصيل لم أرها مجموعة ولا محصلة ملخصة لمتقدم، ولا
سمعتها من متأخر - والله الموفق للصواب الهادي بعزته.
فصل وأما معرفة ما هو جائحة مما ليس بجائحة، فتحصيله أن الجوائح تنقسم على
قسمين:
أحدهما: ما لم يكن أمرا غالبا وأمكن دفعه والاحتراس منه.
والثاني: ما كان أمرا غالبا ولم يمكن دفعه والاحتراس منه.
فأما ما لم يكن أمرا غالبا وأمكن الاحتراس منه وقدر على دفعه فليس بجائحة
أصلا.
وأما ما كان أمرا غالبا ولم يمكن دفعه ولا قدر على الاحتراس منه، فإن ذلك
ينقسم على قسمين:
أحدهما: أن يكون ذلك من فعل الله تعالى ولا اكتساب لمخلوق فيه.
والثاني: أن يكون من اكتساب المخلوقين المكلفين.
فأما ما كان من فعل الله تعالى ولا اكتساب لمخلوق مكلف فيه، فلا اختلاف أنه
جائحة يجب القضاء بها، كالريح تسقط الثمرة أو تفسدها. قال الله عز وجل
{وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} [الذاريات:
41] {مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلا جَعَلَتْهُ
كَالرَّمِيمِ} [الذاريات: 42]
(2/544)
وقال تعالى: {كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ
أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا
ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [آل عمران: 117] ،
أو المطر قال الله عز وجل: {وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ
السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا} [الكهف: 40] ، أو البرد: قال الله
عز وجل: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ
فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ} [النور: 43] ، وكذلك
ما أشبهه من الجراد والجليد والطير الغالب. وأما انقطاع الماء، فإنه جائحة
في القليل والكثير بإجماع واتفاق، قال الله عز وجل: {أَوْ يُصْبِحَ
مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا} [الكهف: 41] .
فصل وأما ما كان من اكتساب المخلوقين المكلفين ولا يمكن الاحتراس منه
كالجيش والسارق، فاختلف فيه هل هو جائحة أم لا فذهب ابن القاسم إلى أن ذلك
جائحة، لأنه عنده مما لا يمكن الاحتراس منه، ولا يقدر على دفعه، وذهب ابن
الماجشون ومطرف إلى أن ذلك ليس بحائحه، لأن ذلك مما يمكن عنده دفعه؛ لأن
السلطان يكف الجيش ويمنعه؛ وكذلك السارق يتحصن منه؛ وقال ابن نافع الجيش
جائحة وليس السارق بجائحة، فكأنه رأى أن الجيش مما لا يمكن دفعه، وأن
السارق يقدر على التحفظ منه والتحصن عنه. ومن أهل العلم من يرى أن الجائحة
توضع في القليل والكثير - وهو قول أحمد بن حنبل وطائفة من أهل الحديث، وأحد
قولي الشافعي؛ ففي المسألة ثلاثة أقوال القولان: طرفان في الإغراق، ومذهب
مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأصحابه عدل بينهما، وكذلك تجد مذهبه أبدا أعدل
المذاهب وأوسطها، فإنه كان موقفا مؤيدا، فهذه جملة تبنى عليها مسائل الكتاب
- إن شاء الله، وبه التوفيق.
(2/545)
|