المقدمات الممهدات

 [كتاب المساقاة]
المساقاة عمل الحائط على جزء من ثمرته، وهي مأخوذة من السقي لأن السقي جل عمل الحوائط، وهو يصلح ثمرتها وينميها؛ قال الله عز وجل: {وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد: 4] .

فصل «ونهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، وعن بيع ما لم يخلق، وعن بيع الغرر، وعن الاستئجار بأجر مجهول» فقال «من استأجر أجيرا فليؤاجره بأجر معلوم إلى أجل معلوم» ، والمساقاة من بيع الغرر، ومن الاستئجار بأجر مجهول، ومن بيع الثمر قبل أن يبدو صلاحه، إلا «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ساقى يهود خيبر يوم افتتحها في النخل على أن لهم نصف الثمرة بعملهم، والنصف يؤدونه إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه، فقال لهم: " أقركم ما أقركم لله على أن الثمرة بيننا وبينكم "، فكان يبعث عبد الله بن رواحة فيخرص بينه وبينهم، ثم يقول لهم: إن شئتم فلكم وإن شئتم فلي، فكانوا يأخذونه.» فكان هذا من

(2/547)


فعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مخصصا لما نهى عنه من بيع الغرر ومن بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها، ومن الاستئجار بأجر مجهول، لأن ذلك عموم ومساقاته ليهود خيبر في النخل خصوص، والخاص يحمل على التفسير العام، والتخصيص له والبيان للمراد به.

فصل فالمساقاة جائزة عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجميع أصحابه، وعند الشافعي؛ وخالف في جوازها أبو حنيفة؛ والدليل على صحة قول من قال بجوازها، «أن رسول الله ساقى يهود خيبر على أن لهم نصف الثمرة بعملهم، وكان يبعث عبد الله بن رواحة فيخرصها عليهم» ثم أقرهم أبو بكر على ذلك ثم عمر بن الخطاب إلى أن بعث ابنه عبد الله ليخرص عليهم، فسحروه فتكوعت يده؛ ثم إنه أجلاهم عنها إلى الشام. ثم عمل عثمان بعده على المساقاة والخلفاء بعده؛ وفي إقرار أبي بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يهود خيبر على مساقاتهم التي ساقاهم عليها النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وعمل الخلفاء بعدهما بها، بيان واضح على أن المساقاة حكم من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، محكم غير مفسوخ؛ هذا من طريق الأثر، ومن طريق النظر أيضا: أن الأصول مال لا ينمو بنفسه ولا تجوز إجارته وإنما ينمى بالعمل عليه، فجاز العمل عليه ببعض ما يخرج منه كالقراض، بل المساقاة أولى بالجواز من القراض، لأن الغرر والخطار في القراض أكثر، لأنه قد يكون في المال ربح، وقد لا يكون فيه ربح، وجواز أحد الأمرين كجواز الآخر، ليس أحدهما أغلب من صاحبه، والنخل قد أجرى الله العادة بأن تحمل كل سنة، فلا بد أن يكون للنخل ثمرة في الغالب من الأحوال؛ وهذا بين وإنما قلنا في قياسنا هذا ولا تجوز إجارته تحرزا من أن يلزمنا عليه كراء الأرض بالجزء مما يخرج منها.

(2/548)


فصل وذهب من خالفنا في جواز المساقاة إلى أن فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع يهود خيبر منسوخ بنهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن المخابرة، وقالوا هو مشتق من خيبر - ومعناه النهي عن العمل الذي فعل بخيبر، وذلك ليس بصحيح، لأن عقود المعاوضات لا يشتق لها الأسماء من أماكنها بخلاف قولهم أتهم وأنجد لأنا قد عرفنا من لغة العرب اسم الفاعل من نزوله بالمكان، وعقود المعاوضات بخلاف ذلك؛ ولأن العرب كانت تعرف المخابرة قبل الإسلام، وهو عندهم اسم لكراء الأرض ببعض ما يخرج منها، ولأن الصحابة قد عملوا بالمساقاة بعده، فبطل ما ادعوه بكل وجه.

فصل وعللوا أيضا حديث المساقاة بأن قالوا إن أهل خيبر كانوا عبيدا للنبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - والمسلمين، لأن الله تعالى أفاء عليهم خيبر وأهلها، فلذلك جازت المساقاة بينه وبينهم على جزء من الثمرة، وصح أن تخرص الثمرة عليهم فيخيرهم الخارص بين أن يلتزموا نصيب المسلمين بما خرصه به، أو يلتزم هو نصيبهم على ما ورد في الحديث، وهذا ما لا يصح؛ ولنا عنه أجوبة، منها أن عبد الله بن رواحة كان يخرص عليهم، فقالوا له أكثرت علينا يا ابن رواحة، فقال إن شئتم فلكم وتضمنون نصيب المسلمين، وإن شئتم فلي وأضمن نصيبكم؛ وعلى قولهم: إن السيد لا يصح ضمانه من عبده، لأن العبد لا يملك عندهم، فماله لسيده، وبيع الثمر في رؤوس النخل بخرصها إلى الجداد، من المزابنة التي لا تجوز إلا فيما خصصته السنة من بيع العرايا في خمسة أوسق، أو فيما دون خمسة أوسق. وقوله في هذا الحديث إن شئتم فلكم وتضمنون نصيب المسلمين، وإن شئتم فلي وأضمن نصيبكم، هو والله أعلم مما نسخ بنسخ الربا، لأنه متأخر - وقد قال عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان من آخر ما أنزل الله على رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آية الربا، فتوفي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يفسرها، فدعوا الربا والريبة. وقد قيل إن ابن رواحة إنما كان يخرص ليعرف قدر الزكاة التي كانت تلزم المسلمين، كما يخرص

(2/549)


على المسلم حائطه لإحصاء الزكاة فيه، وهو مذهب مالك وجماعة من أهل العلم سواه، والآثار لا تدل على ذلك، بل تدل على خلافه وعلى أن الخرص إنما كان فيما بينهم وبين المسلمين، ليضمنوا نصيب المسلمين بما خرص عليهم. روي «عن جابر بن عبد الله قال أفاء الله خيبر على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأقرهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما كانوا، وجعلها بينه وبينهم، فبعث عبد الله بن رواحة فخرصها عليهم ثم قال: يا معشر اليهود، أنتم أبغض خلق الله إلي قتلتم أنبياء الله وكذبتم على الله؛ وليس يحملني بغضي إياكم أن أحيف عليكم، وقد خرصت عشرين ألف وسق من تمر فإن شئتم فلكم وإن شئتم فلي» - يريد والله أعلم - بعد إخراج الزكاة من الجميع، لأن المساقاة إنما تزكى على ملك صاحب الحائط، لا على ملك العامل ولا على ملكهما؛ وروي «عن عبد الله بن عمر قال فخرصها عليهم عبد الله بن رواحة، فصاحوا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من خرصه، فقال لهم عبد الله بن رواحة أنتم بالخيار، إن شئتم فهي لكم، وإن شئتم فهي لنا بخرصها، ونؤدي إليكم نصفها؛ فقال بهذا قامت السماوات والأرض؛» وذكر مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في موطئه عن ابن شهاب عن سليمان بن يسار «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يبعث عبد الله بن رواحة إلى خيبر، فيخرص بينه وبين يهود خيبر، قال: فجمعوا له حلي نسائهم، فقالوا هذا لك وخفف عنا وتجاوز في القسم، فقال عبد الله بن رواحة يا معشر يهود والله إنكم لمن أبغض خلق الله إلي، وما ذلك بحاملي على أن أخفف عليكم؛ فأما ما عرضتم من الرشوة، فإنها سحت وإنا لا نأكلها فقالوا بهذا قامت السماوات والأرض» . فقوله في هذا الحديث خفف عنا وتجاوز في

(2/550)


القسم، يدل على أن الخرص إنما كان في القسمة بين المسلمين واليهود، فهو حجة لمالك فيما قاله، وتابعه عليه جميع أصحابه من جواز قسمة ثمر النخل بالقسمة بين الشركاء بالخرص، لأن اليهود كانوا. أشراكا للمسلمين في الثمر بعملهم؛ ويحتمل أن يكون هذا في طائفة من اليهود في بعض حصونهم ومواضعهم. وجاء في سائر الآثار من تضمين اليهود نصيب المسلمين بما خرص عليهم ومن تخييرهم في أخذه دون ذكر ضمان مع طوائف غيرها في مواضع سواها، لأن خيبر كانت حصونا كثيرة؛ فأما تخييرهم في أخذهم الثمر في رؤوس النخل بما خرص عليهم من الثمر، ليؤدوه عند الجداد من غير تضمين فليس بضيق، وقد أجازه جماعة من أهل العلم، وهو على قياس ما قاله مالك في الخرص بسبب الزكاة؛ وأما تخييرهم في التزامهم الثمرة في رؤوس النخل بما خرصت به عليهم من الثمر يؤدونه عند الجداد مضمونا عليهم فهو من المزابنة، ولا يكون ذلك إلا منسوخا كما ذكرنا - والله أعلم. وقد ذكر عن بعض أهل العلم إجازته وهو بعيد. وأما المساقاة فمحكمة غير منسوخة، بدليل ما ذكرناه من إقرار أبي بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - اليهود على المساقاة التي ساقاهم عليها النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -؛ ومن أجوبتنا على أن يهود خيبر لم يكونوا عبيدا للمسلمين. أن أبا بكر وعمر أقراهم على المساقاة، ثم أجلاهم عمر إلى الشام، ولو كانوا عبيدا للمسلمين، لم يكن ليتلف عليهم أموالهم، فليس أهل العنوة بعبيد إذا أقروا في مواضعهم، وضربت عليهم الجزية؛ وإنما هم أهل ذمة أحرار وقد سئل ابن القاسم عن نساء أهل الذمة الذين أخذوا عنوة مثل أهل مصر، هل يحل أن ينظر الرجل إلى شعورهن؛ قال: لا يحل أن ينظر الرجل إلى شعورهن ولا إلى شيء من عوراتهن؛ قيل له ليس هن بمنزلة الإماء؛ قال: لا بل هن أحرار، كان دية من قتل منهن خمسمائة، ومن أسلم منهن كان حرا، فهن أحرار يحرم منهن ما يحرم من الأحرار؛

(2/551)


هذه رواية عيسى عن ابن القاسم في كتاب التجارة إلى أرض الحرب، واتقى في سماع سحنون منه تزويج بناتهم ولم يره حراما.

فصل والمساقاة مستثناة من الأصول الممنوعة لضرورة الناس إلى ذلك وحاجتهم إليه، إذ لا يمكن للناس عمل حوائطهم بأيديهم، ولا بيع الثمرة قبل بدو صلاحها للاستئجار من ثمنها على ذلك - إن لم يكن لهم مال، فلهذه العلة رخص في المساقاة.

فصل والمساقاة أصل في نفسها وعقد على حياله، فلا تنعقد إلا بلفظ المساقاة على مذهب ابن القاسم لو قال رجل لرجل أستأجرك على عمل حائطي هذا بنصف ثمرته، لم يجز على مذهبه؛ كما لا تجوز الإجارة بلفظ المساقاة، وذلك بين من قوله في الكتاب إذا ساقاه في ثمرة قد طاب بعضها أن ذلك لا يجوز وتكون إجارة؛ بخلاف قول سحنون فإنه يجيزها ويجعلها إجارة؛ ولمالك في كتاب ابن المواز مثله، وكلام ابن القاسم أصح، لأن المساقاة والإجارة أصلان، وأحكامهما مفترقة، فلا ينعقد أحدهما بلفظ الآخر.

فصل وهي من العقود اللازمة تنعقد باللفظ وتلزم به؛ بخلاف القراض الذي إنما ينعقد ويلزم بالعمل لا باللفظ؛ واختلف في المزارعة: فقيل إنها تنعقد وتلزم باللفظ، وقيل إنها لا تنعقد وتلزم إلا بالعمل، وقيل إنها تنعقد وتلزم بالشروع في العمل، وأما الشركة فإنها لا تلزم باللفظ ولا بالعمل واختلف بماذا تنعقد به فقيل إنها تنعقد باللفظ، وقيل إنها لا تنعقد إلا بالعمل والقولان قائمان من المدونة.

(2/552)


فصل
ولا تجوز المساقاة إلى أجل مجهول، وإنما تجوز إلى سنين معلومة وأعوام معدودة، إلا أنها تكره فيما طال من السنين وانقضاء السنين فيها بالأجرة لا بالأهلة فلا تجوز المساقاة إلى أشهر معلومة.

فصل وليس في قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ليهود خيبر: «أقركم ما أقركم الله» ، دليل على جواز المساقاة إلى أجل مجهول، لأن قوله ذلك إنما كان عدة منه لهم في أن يقرهم في المساقاة على شروطها - ما أقرهم الله أي لم يأمره الله تعالى بإجلائهم عنها، وترك معاملتهم فيها، وكان يرجو ذلك من الله، فلم يأذن له فيه إلا في مرضه الذي مات منه، فأوصى بذلك وأجلاهم عمر بعده لأنه ساقاهم مدة مجهولة أو مدى أعمارهم، وإنما قال ذلك لهم بعد عقد المساقاة معهم كما يقول الرجل للرجل إذا شاركه أو قارضه: أنت شريكي ما أحيانا الله، لا يريد بذلك ضرب مدة مجهولة، وإنما يريد إني أبقى معك على القراض. والشركة على شروطها؛ هذا تأويل الحديث عندنا - والله أعلم. وقد قيل إنه إنما قال ذلك لهم وكان يخرص عليهم، لأنهم عبيده أفاءهم الله بأرضهم عليه؛ ويجوز بين العبد وسيده من الغرر ما لا يجوز بين الأجنبيين، وقد تقدم تضعيف هذا التأويل فلا معنى لإعادة القول فيه.

فصل وتجوز المساقاة في كل أصل له ثمرة ما لم يحل بيع الثمرة - كان الأصل ثابتا أو غير ثابت، إلا أنه ما كان ثابت الأصل كالنخل والشجر والزيتون فتجوز فيه المساقاة - عجز عنها صاحبها أو لم يعجز، وما كان غير ثابت الأصل كالمقاثي والباذنجان والكمون والزرع وقصب السكر، فلا تجوز فيه المساقاة حتى يعجز عنه صاحبه؛ هذا على مذهب مالك؛ وابن نافع يجيز المساقاة في ذلك كله - عجز عنه صاحبه، أو لم يعجز؛ والشافعي لا يجيز المساقاة إلا في النخل والكرم الذي جاء

(2/553)


فيه الخرص، وكان أبو عمر بن القطان يقول: المساقاة جائزة على ما في المدونة في الياسمين والورد والقطن - عجز عنه صاحبه، أو لم يعجز، خلاف المقاثي والزرع؛ وهو بعيد من التأويل، إذ لا يعضده دليل؛ وإذ لا فرق في حقيقة القياس بين القطن والزرع والمقاثي وقصب السكر في جواز المساقاة فيها من غير عجز، لأن أصولها غير ثابتة، بخلاف الياسمين والورد التي أصولها ثابتة، فلا ينبغي أن يختلف في أن المساقاة في الياسمين والورد جائزة على مذهب مالك - وإن لم يعجز صاحبها عن عملها؛ ولو قال قائل إن المساقاة في المقاثي والقطن وما كان في معناهما، جائزة. وإن لم يعجز صاحبها عن عملها، بخلاف الزرع وقصب السكر وما كان في معناهما، لكان له وجه، لأن هذه ثمار تجنى من أصولها، فأشبهت ثمار الأصول الثابتة والزرع وقصب السكر وما أشبههما لا تجنى من أصولها إلا بقطع الأصول، ففارقت ثمر الأصول؛ إلا أن هذا لم يقولوه ولا يوجد لهم، وليس في قوله في المدونة: لا بأس بمساقاة الياسمين والورد والقطن - ما يوجب استواءها في أنه لا بأس بالمساقاة فيها كلها وإن لم يعجز عنها، لاحتمال قوله: لا بأس بالمساقاة فيها كلها، إذا عجز عن عمل القطن منها.

فصل
ولا تجوز المساقاة في شيء مما ليس له أصل ثابت لأعوام ولا لعام واحد، إلا بعد أن ينبت ويستقل كالزرع سواء وقبل أن يحل بيعه.

فصل ولا تجوز في شيء من البقول، لأن بيعها يحل إذا نبتت واستقلت، وأجاز ابن دينار فيها المساقاة، ومعناه إذا نبتت قبل أن يستقل على القول بجواز المساقاة - في الزرع إذا نبت قبل أن يستقل؛ لأن البقول إذا نبتت واستقلت، جاز البيع فيها، ولا تجوز مساقاة ما يجوز بيعه؛ واختلف في الفجل والاسفنارية فجعلهما في المدونة من البقول في حكم وضع الجائحة، فعلى قوله فيهما لا تجوز المساقاة

(2/554)


فيهما، لأن من أصل ابن القاسم أن كل ما وضعت الجائحة في قليله وكثيره، لم تجز المساقاة فيه، وما لم توضع الجائحة فيه إلا في الثلث، جازت فيه المساقاة؛ وروى سحنون عن ابن القاسم أن المساقاة جائزة فيهما أي في الفجل والاسفنارية، وعلته في جواز المساقاة فيهما: أن لهما حدا يجوز إليه بيعهما فيما لم يبلغا حد جواز البيع فيهما، أشبها الزرع وقصب السكر ونحو ذلك في جواز المساقاة فيها بعد نباتها واستقلالها.

فصل وتجوز المساقاة على ما اتفقا عليه من الأجزاء، وعلى أن تكون الثمرة كلها له بعمله؛ وقد قيل إن إعطاء الرجل الرجل ثمر حائطه كلها بعمله فيه منحة وعطية كإخدام العبد، لأن المخدم ينفق عليه فيفتقر إلى الحيازة، ويبطل بالموت، وهو بعيد؛ ولا يجوز أن يشترط أحدهما على صاحبه زيادة دنانير ولا دراهم ولا شيئا من الأشياء إلا ما استخف من اشتراط الشيء اليسير على العامل من العمل الذي لا يلزمه، مثل سد الحظيرة، وإصلاح الغفيرة وهي مجتمع الماء من غير أن ينشئ بناءها، لأن المساقاة عقد مستثنى من الأصول جوز للضرورة، فلا يجوز منه إلا قدر ما جوزه الشرع، والذي جوزه الشرع منه ما كان متعلقا بإصلاح الثمرة، وما زاد على ذلك كان ممنوعا بالأصل، لأنه إجارة مجهولة وبيع الثمر قبل بدو صلاحها.
فصل وعمل الحائط على وجهين:
فمنه ما يتعلق بإصلاح الثمرة.
ومنه ما لا يتعلق بإصلاحها.
فأما ما لا يتعلق بإصلاح الثمرة، فلا تجب على المساقي، ولا يصح أن يشترط عليه من ذلك إلا الشيء اليسير - كما تقدم.

(2/555)


وأما ما يتعلق بإصلاح الثمرة، فإنه ينقسم على ضربين:
ضرب منه ينقطع بانقطاعها ويبقى بعدها الشيء اليسير.
وضرب منه يتأبد ويبقى أثره.
فأما ما ينقطع بانقطاع الثمرة ويبقى بعده الشيء اليسير، فهذا الذي يلزم المساقي ويجب له به العوض، وذلك مثل الحفر والسقي وزبر الكرم، وتقليم الشجر، والتسريب، وإصلاح مواضع السقي، والتذكير والجداد، وما أشبه ذلك.
وأما ما يتأبد ويبقى بعد الثمرة مثل إنشاء حفر بئر أو إنشاء ظفيرة للماء، أو إنشاء غراس، أو بناء بيت تجنى فيه الثمرة كالجرين، وما أشبه ذلك فلا يلزم العامل، ولا يجوز اشتراطه عليه عند المساقاة؛ لأنه إذا اشترط ذلك عليه، فقد وقع له حصة من الثمن، وهو لو استأجره عليه على انفراده بجزء من الثمرة لم يجز، لأنه بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، فكذلك إذا اشترطه عليه في المساقاة، لأن العوض قد حصل عليه في الموضعين.

فصل فإذا وقعت المساقاة على غير الوجه الذي جوزه الشرع، فإنها تفسخ ما لم تفت بالعمل ويرد الحائط إلى ربه، واختلف إذا فاتت بالعمل ماذا يجب للعامل فيها بحق عمله على أربعة أقوال:
أحدها: أنه يرد إلى إجارة مثله جملة من غير تفصيل، وهذا يأتي على قول عبد العزيز بن أبي سلمة في القراض الفاسد.
والثاني أنه يرد إلى مساقاة مثله جملة أيضا من غير تفصيل، وعليه يأتي قول أصبغ في العتبية في الذي يساقي الرجل في الحائط على أن يحمل أحدهما

(2/556)


نصيبه من الثمرة لصاحبه إلى منزله - وهو بعيد، وهو على أصل ابن الماجشون وروايته عن مالك وقول أشهب في القراض الفاسد.
والثالث: أنه يرد في بعض الوجوه إلى إجارة المثل، وفي بعضها إلى مساقاة المثل - وهو مذهب ابن القاسم - وذلك استحسان ليس بقياس على نحو قوله أيضا في القراض، والأصل في ذلك عنده أن المساقاة إذا خرجا فيها عن حكمها إلى حكم الإجارة الفاسدة، أو إلى بيع الثمرة قبل بدو صلاحها بما اشترطه أحدهما على صاحبه من زيادة يزيده إياها خارجة عنها؛ فإنه يرد فيها إلى إجارة المثل إذا لم يعثر عليها حتى فاتت بالعمل، وذلك مثل أن يساقيها في حائطه على أن يزيد أحدهما صاحبه دنانير، أو دراهم، أو عرضا من العروض، وما أشبه ذلك؛ لأنه إذا ساقاه على أن يزيده صاحب الحائط دنانير أو دراهم أو عرضا من العروض، فقد استأجره على عمل حائطه بما أعطاه من الدنانير أو الدراهم أو العروض، وبجزء من ثمره، فوجب أن يرد إلى إجارة مثله، ولأنه إذا ساقاه على أن يزيده العامل دنانير أو دراهم أو عرضا من العروض فقد اشترى منه الثمرة بما أعطاه من الدنانير أو الدراهم أو العروض، وبعمله في الحائط، فوجب أن يرد إلى إجارة مثله، أيضا، وأما إذا لم يخرجا عن حكمها وإنما عقداها على غرر، مثل أن يساقيه حائطا على الثلث، وحائطا على النصف وما أشبه ذلك، أو اشترط أحدهما فيها على صاحبه من عمل الحائط ما لا يلزمه مما لا يبقى لرب الحائط منفعة مؤبدة، فإنه يرد في ذلك إلى مساقاة مثله؛ وهذه جملة تأتي عليها مسائل كثيرة، هي مبسوطة مسطورة لابن حبيب وغيره، والذي يوجد لابن القاسم أنه رده فيه إلى مساقاة المثل في أربع مسائل: اثنتان في المدونة وهي إذا ساقاه في حائط وفيه ثمر قد أطعم.
والثانية إذا شرط المساقى على المساقي أن يعمل معه، والاثنتان في

(2/557)


العتبية الواحدة منهما في سماع عيسى من كتاب النكاح وهي المساقاة مع البيع في صفقة واحدة.
والثانية منها في سماع عيسى من كتاب الجوائح والمساقاة وهي إذا ساقاه في حائطه سنة على الثلث أو سنة على النصف؛ فقال إنه يرد فيهما جميعا إلى مساقاة مثله؛ وكذلك يلزم على هذا إذا ساقاه في حائطين أحدهما على الثلث، والثاني على النصف؛ وكذلك ما أشبه هذا المعنى؛ ومثله إذا ساقاه في حائط على أن يكفيه مؤونة حائط آخر. فقال إنه يكون إجارة مثله في الذي شرط عليه كفايته، ويرد في الآخر إلى مساقاة مثله.
والقول الرابع أنه يرد إلى مساقاة مثله ما لم تكن أكثر من الجزء الذي شرط عليه إن كان الشرط للمساقي أو أقل - إن كان الشرط للمساقى وكان يمضي لنا عند من أدركناه من الشيوخ أن الذي ترد فيه إلى مذهب ابن القاسم من المساقاة الفاسدة إلى مساقاة مثله. هذه الأربع مسائل المنصوص عليها وسائرها كلها يرد فيها - إلى مذهبه - إلى إجارة المثل فعلى قولهم في تأويلهم على ابن القاسم، يكون هذا قولا خامسا في المسألة، والصواب أن ما ذهب إليه ابن حبيب على الأصل الذي ذكرناه، مفسر لمذهب ابن القاسم لا خلاف له.

فصل فما يرد العامل فيه إلى أجرة مثله يفسخ ما عثر عليه قبل العمل وبعده، ويكون له فيما عمل إلى وقت العثور عليه أجرة مثله؛ وأما ما يرد فيه إلى مساقاة مثله، فإنما يفسخ ما لم يفت بالعمل، فإذا فات بالعمل لم تفسخ المساقاة إلى انقضاء أمدها وكان فيما بقي من الأعوام على مساقاة مثله، وبالله تعالى التوفيق.

(2/558)