المقدمات
الممهدات [كتاب القراض] [فصل في معرفة اشتقاق اسم
القراض]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كتاب
القراض فصل في معرفة اشتقاق اسم القراض
القراض مأخوذ من القرض. وأصل القرض ما يفعله الرجل ليجازى عليه من خير أو
شر، بدليل قول الله عز وجل: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا
حَسَنًا} [الحديد: 11] لأن فيه دليلا على أن القرض قد يكون حسنا وغير حسن.
ومن ذلك سمي السلف قرضا لأنه إنما يفعله الرجل بصاحبه ليجازيه الله به.
وسمى الله تعالى إنفاق المال في سبيله ابتغاء ما عنده قرضا حسنا لإمضائه
إياه وتبتيله له لوجهه خالصا رجاء ثوابه عليه فقال تعالى: {مَنْ ذَا
الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا
كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة:
245] وقال: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا
فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [الحديد: 11] وقال: {إِنْ
تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ
وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ} [التغابن: 17] فلما كان صاحب المال والعامل فيه
على جزء منه منتفعين جميعا يقصد كل واحد منهما إلى منفعة صاحبه لينفعه هو
اشتق له من معناه اسم وهو القراض والمقارضة، من قارض يقارض لأنها مفاعلة من
اثنين كالمقاتلة والمشاتمة. هذا اسمه عند أهل الحجاز. وأما أهل العراق فلا
يقولون قراضا البتة ولا عندهم كتاب القراض، وإنما يقولون مضاربة وكتاب
المضاربة، أخذوا ذلك من قول الله عز وجل {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ}
[النساء: 101] وقوله:
(3/5)
{وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ
يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل: 20] وذلك أن الرجل في الجاهلية
كان يدفع إلى الرجل ماله على أن يخرج به إلى الشام وغيرها فيبتاع المتاع
على هذا الشرط. وفي قول الصحابة لعمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
في قصة ابنيه عبد الله وعبيد الله: لو جعلته قراضا، دليل على صحة هذه
التسمية في اللغة، لأن الصحابة- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - هم أهل اللسان
وأرباب البيان، وإذا كان يحتج في اللغة بقول امرئ القيس والنابغة فالحجة
بقول هؤلاء أولى وأقوى.
فصل ومما يحتج به في جواز القراض قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ
تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ
إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29] وقوله: {وَلا
تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى
الْحُكَّامِ} [البقرة: 188] الآية لأن القراض تجارة من التجارات. والقراض
هو مما كان في الجاهلية فأقر في الإسلام لأن الضرورة دعت إليه لحاجة الناس
إلى التصرف في أموالهم وتنميتها بالتجارة فيها، وليس كل امرئ يقدر على ذلك
بنفسه، فاضطر فيه إلى استنابة غيره، ولعله لا يجد من يعمل له فيه بإجارة
لما جرت عادة الناس في ذلك على القراض، فرخص فيه لهذه الضرورة، واستخرج
بسبب هذه العلة من الإجارة المجهولة على نحو ما رخص في المساقاة وبيع
العرية والشركة في الطعام والتولية فيه، وصار لهذا الوجه سنة، فلا خلاف في
جوازه بين الأمة في الجملة وإن اختلفوا في كثير من شروطه وأحكامه، سعمل به
الصحابة والسلف، واتبعهم عليه الخلف.
فصل وأول قراض كان في الإسلام قراض يعقوب مولى الحدقة مع عثمان بن عفان
(3/6)
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وذلك أن عمر بن
الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بعث من يقيم من السوق من ليس بفقيه،
فأقيم يعقوب فيمن أقيم، فجاء إلى عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
فأخبره فأعطاه مزود تبر قراضا على النصف، وقال له إن جاءك من يعرض لك فقل
المال لعثمان، فقال ذلك فلم يقم، فجاء بمزود رأس المال ومزود ربح. ويقال إن
أول قراض كان في الإسلام قراض عبد الله وعبيد الله ابني عمر بن الخطاب -
رضي الله عن جميعهم-. وذلك أن عبد الله وعبيد الله ابني عمر بن الخطاب -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - خرجا في جيش إلى العراق، فلما مرا على أبي موسى
الأشعري وهو أمير البصرة فرحب بهما وسهل ثم قال: لو أقدر لكما على أمر
أنفعكما به لفعلت. ثم قال: بلى هاهنا مال من مال الله أريد أن أبعث به إلى
أمير المؤمنين فأسلفكماه فتبتاعان به متاعا من متاع العراق ثم تبيعانه
بالمدينة فتؤديان رأس المال إلى أمير المؤمنين ويكون لكما الربح، فقالا
وددنا. ففعل وكتب إلى عمر بن الخطاب أن يأخذ منهما المال. فلما قدما باعا
فربحا، فلما دفعا ذلك إلى عمر بن الخطاب قال: أكل الجيش أسلفه مثل الذي
أسلفكما؟ فقالا لا. فقال عمر بن الخطاب: ابنا أمير المؤمنين فأسلفكما، أديا
المال وربحه. فأما عبد الله فسكت، وأما عبيد الله فقال: ما ينبغي لك يا
أمير المؤمنين هذا، لو نقص المال أو هلك لضمناه. فقال عمر أدياه. فسكت عبد
الله وراجعه عبيد الله، وقال رجل من جلساء عمر: يا أمير المؤمنين لو جعلته
قراضا. فقال عمر قد جعلته قراضا. فأخذ عمر رأس المال ونصف ربحه، وأخذ عبد
الله وعبيد الله ابنا عمر بن الخطاب نصف ربح المال.
فصل والقراض أصل في نفسه، وهو رخصة وتوسعة بين المسلمين للضرورة التي دعت
إليه، فلا يعمل به إلا على ما جرى من سنته. وسنة القراض المعروف الجائز
(3/7)
أن يدفع الرجل إلى الرجل المال على أن يعمل
به على جزء من الربح يتفقان عليه، ولا ضمان على العامل فيه لأنه أمانة بيده
إلا أن يتعدى فيه أو يخالف إلى شيء مما نهي عنه. ولا نفقة له في المال ولا
كسوة إلا أن يسافر به سفرا بعيدا والمال كثير فله فيه النفقة والكسوة. وإن
كان السفر بعيدا والمال قليلا فلا نفقة له ولا كسوة. وإن كان السفر قريبا
والمال كثيرا فله فيه النفقة دون الكسوة. وإن كان السفر قريبا والمال قليلا
فله النفقة دون الكسوة على ما في سماع عيسى عن ابن القاسم، وظاهر ما في
الواضحة أنه لا نفقة له ولا كسوة.
فصل ولا ربح للعامل في المال حتى ينض إلى رب المال رأس ماله. وحكم الزكاة
على مذهب ابن القاسم أن يخرج من جملة المال عند المفاصلة إذا كان في رأس
مال رب المال وربحه ما تجب فيه الزكاة وعمل بالمال حولا كاملا. وفي هذا
الكتاب دليل على وجوب الزكاة في جملة المال وإن لم يعمل به حولا كاملا إذا
كان في رأس مال رب المال وربحه ما تجب فيه الزكاة. وذهب سحنون إلى أن
الزكاة تخرج من جملة المال إذا كان فيه ما تجب فيه الزكاة وإن لم يعمل
العامل به حولا ورأى الربح مزكى على أصل المال، وهو ظاهر قول ابن القاسم في
سماع أصبغ عنه في العتبية. - ولا يجوز اشتراط زكاة رأس المال على العامل،
ويجوز أن يشترطها العامل على رب المال لأنها واجبة عليه. واختلف إن اشترط
أحد المتقارضين زكاة ربح المال على صاحبه على أربعة أقوال:
أحدها: أن ذلك جائز لكل واحد منهما على صاحبه، وهو قول ابن القاسم في
المدونة وروايته عن مالك، لأنه يرجع إلى جزء مسمى. فإن اشترطت الزكاة على
العامل صار عمله على أربعة أعشار الربح وثلاثة أرباع عشره. وإن اشترطت
الزكاة على رب المال صار عمله على نصف الربح كاملا.
والثاني: أن ذلك لا يجوز لواحد منهما على صاحبه وهو قول مالك في أصل
الأسدية.
(3/8)
والثالث: أنه يجوز لرب المال أن يشترط ذلك
على العامل ولا يجوز للعامل أن يشترطه على رب المال، وهو قول مالك في رواية
أشهب عنه في الجوائح والمساقاة من العتبية في زكاة تمر الحائط المساقى، إذ
لا فرق بين اشتراط زكاة تمر الحائط المساقى وبين زكاة ربح مال القراض.
والرابع: عكس ذلك أنه يجوز أن يشترط ذلك العامل على رب المال ولا يجوز أن
يشترطه رب المال على العامل.
وهذا القول ليس بمنصوص عليه إلا أنه يتخرج على قياس بأن الجزء المشترط في
الزكاة يدفع إن لم يكن في المال ما تجب فيه الزكاة للمشترط عليه، لأنه يقول
لمشترطه عليه إنما اشترطته على الزكاة فإذا لم تكن في المال زكاة فرده علي،
لأن الغرر على هذا القول إنما يكون في اشتراط رب المال الزكاة على العامل
لا في اشتراط العامل إياها على رب المال، لأن العامل إذا اشترطت عليه
الزكاة يصير له إن لم يكن في المال زكاة نصف الربح، لأن الجزء المشترط عليه
في الزكاة من نصيبه إليه، وإن كان في المال زكاة يصير له أربعة أعشار الربح
وثلاثة أرباع عشره، لأن ربع العشر قد اشترط عليه فأخرج فيه الزكاة فلا يدري
ما يعمل. وإن اشترطت على رب المال يصير للعامل نصف الربح، في المال ما تجب
فيه الزكاة أو لم يكن، لأن الجزء الذي اشترطه من نصيب رب المال ليؤديه في
الزكاة إن لم يكن في المال زكاة يرجع إلى رب المال المشترط عليه.
والقول الثالث الذي رواه أشهب عن مالك من أنه يجوز أن يشترط رب المال زكاة
الربح على العامل ولا يجوز أن يشترط ذلك العامل على رب المال يتخرج على
قياس القول بأن الجزء المشترط في الزكاة يكون إن لم يكن في المال زكاة
لمشترطه لا يرجع إلى المشترط عليه، وهو قول ابن حبيب في الواضحة، لأن
العامل إذا اشترطت عليه الزكاة على هذا القول لا يصير له من الربح إلا
أربعة أعشاره وثلاثة أرباع عشره وجبت في المال الزكاة أو لم تجب، لأن الجزء
الذي اشترط عليه في الزكاة إن لم تجب في المال زكاة يأخذه رب المال، ولا
يعتبر
(3/9)
بالغرر الذي يكون في جهة رب المال، إذ قد
يحصل خمسة أعشار الربح وربع عشره إن لم تجب في المال زكاة، وخمسة أعشاره
وهو النصف إن أخذ منه ربع العشر الذي اشترطه في الزكاة لأن الربح إنما يزكى
على ملكه فلا يعتبر بما يؤخذ من حظه منه في الزكاة.
والقول الثاني الذي في أصل الأسدية من أنه لا يجوز لأحدهما أن يشترط زكاة
الربح على صاحبه يتخرج على قياس القول بأن الجزء المشترط في الزكاة إن لم
تجب في المال زكاة يكون بينهما، لأنهما يتداعيانه فيقسم بينهما، لأن العامل
إن كان هو المشترط عليه الزكاة يصير له من الربح إن كان في المال زكاة
أربعة أعشاره وثلاثة أرباع عشره، وإن لم يكن فيه زكاة يصير له منه أربعة
أعشاره وسبعة أثمان عشره. وإن كان رب المال هو المشترط عليه الزكاة يصير له
نصف الربح إن كان في المال زكاة، وخمسة أعشاره وثمن عشره إن لم يكن في
المال زكاة، فلا يدري العامل إن كان يصير له نصف الربح أو خمسة أعشاره وثمن
عشره.
ويتخرج هذا القول الذي في الأسدية أيضا على قياس القول بأن الجزء المشترط
في الزكاة إن لم تجب في المال زكاة يلغى ويقتسمان الربح على ما بقي من
الأجزاء، لأن العامل إن كان المشترط عليه الزكاة يصير له من الربح إن كان
في المال زكاة أربعة أعشاره وثلاثة أرباع عشره، وإن لم يكن فيه زكاة تصير
له منه ستة أجزاء من ثلاثة عشر وثلث جزء. وإن كان رب المال هو المشترط عليه
الزكاة يصير له نصف الربح إن كان في المال زكاة، وستة أجزاء من ثلاثة عشر
وثلثا جزء إن لم يكن في المال زكاة. فلا يدري العامل إن كان يصير له من
الربح نصفه أو ستة أجزاء من ثلاثة عشر وثلثا جزئه. والقول الأول الذي في
المدونة من أنه يجوز لكل واحد منهما أن يشترط زكاة الربح على صاحبه في حظه
وجهه ما ذكره في المدونة من أن ذلك يرجع إلى جزء معلوم يعمل عليه العامل،
وذلك نصف الربح إن كان هو مشترط الزكاة على رب العامل في حظه، وأربعة
أعشاره وثلاثة أرباع عشره إن كان رب المال هو مشترط الزكاة عليه في حظه.
وما في الأسدية من أنه لا يجوز لأحدهما اشتراط زكاة الربح على صاحبه أظهر،
لأن المال الذي قارضه به إن كان أقل من النصاب لا يدري إن كان يبلغ بربحه
النصاب فتجب فيه الزكاة، أو لا يبلغ بربحه
(3/10)
فلا تجب فيه الزكاة. وإن كان مال القراض
الذي دفع إليه النصاب فأكثر لا يدري إن كان ينض المال قبل الحول فلا تجب
فيه الزكاة أو لا ينض حتى يحول عليه الحول فتجب فيه الزكاة، فالغرر في ذلك
بين. ووجه ما في المدونة أنه حمل الأمر في ذلك على الأغلب من أن المال لا
ينض قبل الحول وأنه وإن كان دفعه إليه وهو أقل من نصاب يبلغ بالربح فيه
النصاب. وقد تكلمنا على حكم اشتراط أحد المساقين على صاحبه زكاة تمر حائط
المساقاة في كتاب البيان والتحصيل من كتاب الجوائح والمساقاة في سماع أشهب
منه وبالله التوفيق.
فصل وما يشترط أحد المتقارضين على صاحبه من الشروط ينقسم على قسمين:
أحدهما: لا يفسد القراض ولا يخرجه عن سنته.
والثاني: يفسده ويخرجه عن سنته.
فأما ما لا يفسده ولا يخرجه عن سنته فإنه ينقسم على قسمين:
أحدهما: يجوز ابتداء ولا كراهية فيه، مثل أن يشترط عليه ألا يشتري به
حيوانا ولا يحمله في بحر ولا يخرج به عن بلده وما أشبه ذلك.
والثاني: يكره اشتراطه ابتداء فإذا وقعت مضت، مثل أن تنزل الرفقة بالمكان
معها التجارة فيعطي الرجل الرجل المال قراضا على أن يشتري منهم ثم يبيع وما
أشبه ذلك. وليس لشيء من هذه الشروط حد ولا تنحصر إلى عدد. ومسائل الكتاب
تأتي على أكثرها كل في موضعه إن شاء الله تعالى.
فصل وأما ما يفسده ويخرجه عن سنته فإنه يجب فسخه ورد المال إلى صاحبه ما لم
يفت بالعمل. واختلف إذا فات بالعمل ما يكون للعامل فيه بحق عمله على أربعة
أقوال:
(3/11)
أحدها: أنه يرد إلى قراض مثله جملة من غير
تفصيل، وهو قول ابن الماجشون وروايته عن مالك وقول أشهب أيضا.
والثاني: أنه يرد إلى إجارة مثله أيضا جملة من غير تفصيل، وهو قول عبد
العزيز بن أبي سلمة، وإليه ذهب الشافعي وأبو حنيفة.
والثالث: أنه يرد إلى قراض المثل ما لم يكن أكثر من الجزء الذي سمي له من
الربح فلا يزاد عليه، وإنما يكون له الأقل من قراض مثله أو من الجزء الذي
سمي له إن كان رب المال هو مشترط الشرط على المقارضة أو أقل من الجزء الذي
سمي له من الربح فلا ينقص منه، وإنما يكون له الأكثر من قراض مثله أو من
الجزء الذي سمي له إن كان المقارض هو مشترط الشرط على رب المال. وهذا القول
يأتي على ما حكاه ابن المواز عن مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في القراض
بالضمان أن له الأقل من قراض مثله أو ما سمي له من الربح.
والرابع: أنه يرد إلى قراض مثله في كل منفعة اشترطها أحد المتقارضين على
صاحبه داخلة في المال ليست بخارجة منه ولا منفصلة عنه ولا خالصة لمشترطها،
وإلى إجارة مثله في كل منفعة اشترطها أحد المتقارضين على صاحبه خارجة عن
المال وخالصة لمشترطها، وفي كل غرر وحرام تعاملا عليه خرجا به عن سنة
القراض الجائز. وهذا هو مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك وقول مطرف وابن
نافع وابن عبد الحكم وأصبغ، وإياه اختار ابن حبيب وكان يمضي لنا عند الشيخ
أبي جعفر بن رزق - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الذي يأتي على مذهب ابن القاسم في
المدونة أن العامل يرد في القراض الفاسد كله إلى إجارة مثله حاشى سبع
مسائل: وهي القراض بالعروض، والقراض بالضمان، والقراض إلى أجل. والقراض
المبهم. وإذا قال له اعمل على أن لك في المال شركا. وإذا اختلف المتقارضان
وأتيا بما لا يشبه فحلفا على دعواهما، وإذا دفع إليه المال على أن لا يشتري
به إلا بالدين فاشترى بالنقد أو على ألا يشتري إلا سلعة كذا وكذا والسلعة
غير موجودة فاشترى غير ما أمره به. فهذا قول خامس في المسألة على هذا
التأويل. والصحيح
(3/12)
أن يحمل ما في المدونة على التفصيل الذي
حكى ابن حبيب عن ابن القاسم من قوله وروايته عن مالك واختاره واستحسنه.
فصل
وهذا التفصيل ليس بقياس وإنما هو استحسان. والذي يوجبه النظر والقياس أن
يرد القراض الفاسد كله إلى قراض المثل وإلى أجرة المثل جملة من غير تفضيل.
وأما تأويل ما في المدونة على ما حكيناه عن الشيخ أبي جعفر - رَحِمَهُ
اللَّهُ - فلا حظ له في النظر والقياس ولا وجه له في الاستحسان، إذ
الاستحسان في الأحكام إنما يكون على مذهب من أجازه وأخذ به لمعان تختص
بالفروع فيعدل من أجلها عن إلحاقها بالأصول، وذلك معدوم في مسألتنا.
فصل فوجه قول من قال إن القراض الفاسد يرد العامل فيه كله إلى إجارة المثل
جملة من غير تفصيل أن القراض إجارة بغرر، لأن العامل يعمل في المال على جزء
مما يربح فيه إن كان فيه ربح، إلا أنه استثني من الأصول للضرورة، فإنما
يجوز إذا وقع على وجهه وسنته. فإذا وقع على خلاف ذلك فليس بقراض وإن سمياه
قراضا، وإنما هو إجارة فاسدة فيرد فيها إلى إجارة مثله، وإنما يكون قراضا
إذا عملا على سنة القراض. ألا ترى أنه لو قارضه على أن يعمل له بالمال إلى
أجل كذا وكذا في كذا وكذا وله كذا وكذا لكانت إجارة ولم يكن قراضا، فلا
معنى للاعتبار بذكر القراض إلا إذا عمل به على سنته. وأيضا فإن القراض عقد
صحيح يوجب عوضا مسمى للعامل بالعمل، فإذا كان فاسدا وجب له أجر المثل في
عمله لفواته. أصله إذا استأجره إجارة فاسدة ففاتت بالعمل أو باعه بيعا
فاسدا ففاتت السلعة المبيعة.
فصل ووجه قول من قال إنه يرد إلى قراض مثله جملة من غير تفصيل أن القراض
(3/13)
أصل في نفسه وعقد منفرد على حياله، والأصول
موضوعة على أن كل عمد فاسد أو على شبهة مردود إلى صحيحه لا إلى صحيح غيره
من العقود كالنكاح والبيوع والإجارة. فكما يرد فاسد البيع وغيره من العقود
إلى صحيحها لا إلى صحيح غيرها فكذلك يجب أن يرد فاسد القراض إلى صحيحه.
فصل وكذلك الجعل الفاسد والمساقاة الفاسدة يجريان على هذا الاختلاف فيردان
إلى حكم أنفسهما في قول، وإلى حكم غيرهما في قول دون تفصيل. وقد قيل فيهما
على تفصيل على ما قد ذكرناه في مواضعه وذلك على ما تقدم من الاستحسان في
الأحكام.
فصل وإذا رد المقارض إلى أجرة مثله فالمشهور في المذهب أن الإجارة متعلقة
بذمة رب المال لا بربح المال. وذهب ابن حبيب إلى أنها متعلقة بربح المال،
فإذا لم يكن في المال ربح لم تكن له إجارة وهو بعيد.
فصل فإذا قلنا إنها متعلقة بذمة رب المال فهل يكون أحق بربح المال من
الغرماء ففي ذلك اختلاف. قال في كتاب ابن المواز: لا يكون أولى من الغرماء،
وهو ظاهر ما في المدونة، وقد تأول ما في المدونة على أنه دفع المال وأخرج
من يده، ولذلك جعله إسوة الغرماء. هذا على اختلافهم في الرهن هل تفتقر صحته
إلى التصريح به أم لا، فتفتقر إليه على مذهب ابن القاسم في المدونة، وذلك
بين من قوله في كتاب الرهون منها إن المرتهن لا يكون أحق بالرهن من الغرماء
بما أنفق عليه وإن قال له الراهن أنفق على أن نفقتك في الرهن حتى يقول
(3/14)
له أنفق على أن نفقتك في الرهن نصا أيضا
خلاف مذهب أشهب.
وأما قراض المثل فإنه يتعلق بربح المال، هذا هو المحفوظ المعلوم. وقد حكى
عبد الوهاب في شرح الرسالة عن القاضي أبي الحسن أنه قال: يحتمل عندي على
قول مالك أن يكون له ما يساوي قراض مثله وإن كان في المال وضيعة أيضا. قال
عبد الوهاب فالفرق على هذا بين قراض المثل وإجارة المثل أن إجارة المثل
متعلقة بالإطلاق، وقراض المثل متعلق بالشرط الذي شرطاه. وتفسير ذلك أن يقال
في الإجارة لو استأجر رب المال من عمل له هذا العمل كم تكون إجارته؟ فيكون
ذلك للعامل. ويقال في القراض إذا كان العامل قد رضي بجزء كذا على هذا الشرط
الفاسد فكم ينبغي أن يكون له؟ فما قيل من شيء فهو قراض المثل على تأويل
القاضي أبي الحسن راجع إلى إجارة المثل. وإنما يختلف ذلك على تأويله في صفة
التقويم وهو بعيد جدا.
فصل والقراض الفاسد يفسخ قبل العمل وبعده، كان مما يرد فيه العامل إلى أجرة
مثله أو إلى قراض مثله، خلاف المساقاة، لأن المساقاة التي يرد فيها مساقاة
مثله لا تفسخ بعد العمل. هذا قول ابن حبيب في الواضحة، ومثله في كتاب ابن
المواز. فأما الفسخ فيما يرد فيه إلى إجارة مثله إذا عثر عليه بعد العمل
فبين ترد إلى رب المال السلع التي توجد بيد المقارض ويكون له أجر مثله في
شرائها. وأما الفسخ فيما يرد فيه إلى قراض مثله فلا يكون برد العروض إلى
صاحب المال وإنما معناه أنه لا يتمادى على العمل إذا نض المال بيده على ذلك
القراض الفاسد. وحكى عبد الحق عن بعض شيوخ صقلية أن القراض الذي يرد فيه
إلى قراض مثله لا يفسخ بعد العمل كالمساقاة، يريد أنه إذا عثر عليه وقد شغل
المال في السلع لا يردها سلعا ولا يجبر على بيعها إلا على ما يرجو من
أسواقها التي ابتاعها عليها،
(3/15)
ولم يرد أنه يتمادى على العمل بعد نضوض
المال، هذا ما لا يصح أن يتأول عليه. فليس قوله على هذا التأويل بخلاف لما
في الواضحة وكتاب ابن المواز. وأما المساقاة التي يرد فيها إلى مساقاة مثله
إذا لم يعثر عليها إلا بعد العمل فلا تفسخ إلى انقضاء أجلها وتمام مدتها،
كان ذلك عاما أو أعواما، فإنما فارق القول في هذا من المساقاة لأن المساقاة
لها أجل والقراض لا أجل له، بيد أنه إذا شرع في العمل لزمهما القراض إلى أن
ينض المال. فنضوض المال أجل القراض إذا شرع فيه، فيستوي قراض المثل ومساقاة
المثل في ألا يفسخ واحد منهما إذا لم يعثر عليه حتى يقضي أمده. فمن ساوى
بينهما فهذا تأويله، ومن فرق بينهما فلافتراقهما في المدة والأجل. فهذا شرح
هذه المسألة وبالله التوفيق.
فصل والقراض جائز بالدنانير والدراهم لا اختلاف بين أهل العلم في ذلك،
لأنهما أصول الأثمان والمثمونات، وبهما يقوم ما عداهما من العروض وسائر
المتلفات، وكذلك النقار والأتبار، أعني تبر الذهب والفضة في البلد الذي
يجري فيه ذلك ولا يتعامل عندهم بالمسكوك.
فصل ولا يجوز القراض بشيء من العروض المعينات ولا بشيء من المكيلات
والموزونات عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجميع أصحابه، ولا عند أحد من
فقهاء الأمصار، لأن القراض في الأصل غرر لأنه إجارة مجهولة إذ لا يدري
العامل كم يربح في المال ولا إن كان يربح أم لا. إلا أن الشرع جوزه
للاضطرار إليه
وحاجة
الناس إلى التعامل عليه، فيجب ألا يجوز منه إلا مقدار ما جوزه الشرع، وأن
يكون ما عداه ممنوعا بالأصل. وأيضا فإن القراض بالعروض لا يخلو من أربعة
أوجه: إما أن يجعلا رأس مال القراض العرض بعينه، أو ثمنه الذي يبيعه به، أو
قيمته يوم العقد، أو قيمته يوم التفاضل. لأن معرفة رأس المال ومقداره لا بد
منه في القراض ليعرف العامل على ما يعمل. فإن كان نفس العرض هو رأس المال
فذلك غرر لأنه
(3/16)
قد يأخذ السلعة وقيمتها ألف دينار ويردها
وقيمتها مائة دينار فيذهب العامل ببعض رأس المال، أو يأخذها وقيمتها مائة
دينار فيردها وهي تساوي ألف دينار فيذهب رب المال بأجرة العامل. وإن كان
الثمن الذي يبيعه به هو رأس المال فقد اشترط رب المال منفعة لنفسه على
العامل فيما تحمل عنه من مؤونة بيعها وما يكفيه من ذلك. وإن كان قيمتها يوم
يدفعها إليه هو رأس المال كان رب المال قد باع منه العرض بما قوماه به على
أنه إن باعه بأقل من ذلك جبره من ربحه، وإن كان باعه بأكثر من ذلك كان له
نصف الفضل، فذلك المز من الغرر البين والمزابنة، كمن دفع إلى رجل ثوبا
ليبيعه بعشرة دنانير على أن عليه ما نقص وله بعض ما زاد. وإن كان رأس المال
قيمتها يوم التفاضل فذلك أيضا غرر بين، لأن قيمته يوم التفاضل مجهولة فيكون
العامل يعمل على رأس مال مجهول، قد يكثر فيغترق ربحه أو يقل فيذهب ببعض رأس
مال رب المال، فصارت جميع وجوه هذه المسألة إلى غرر وفساد. غير أن الحكم
فيها يختلف إذا نزلت على مذهب ابن القاسم. فأما إذا جعلا رأس المال الثمن
الذي يبيعه به فإنه تكون له إجارة مثله في بيعه العرض، ثم يرد إلى قراض
مثله في الثمن إذا لم يعثر عليه إلا بعد العمل، وهو في سائر الوجوه أجير له
إجارة مثله. وذكر ابن وهب في موطئه قول عبد العزيز بن أبي سلمة الواقع في
المدونة إذا قارضه بعرض وقوماه بقيمته إنه أجير، فقال ابن وهب: أباه مالك.
فعلى ما تأول ابن وهب على مالك أن القراض كيفما وقع له إجارة مثله في بيعه
العرض ثم يرد إلى قرض مثله بعد ذلك، وهذا إذا باع العرض بعين. وأما إذا
باعه بعرض فلا يصح أن يدخل فيه اختلاف ويرد إلى إجارة مثله قولا واحدا.
والأول أبين أن يرد إلى إجارة مثله باع بعين أو بعرض. فإن لم يبينا في
القراض بالعروض ما جعلا رأس المال ولم يزد معطى العروض قراضا على أن قال خذ
هذا العرض فاعمل به قراضا فذلك بمنزلة أن لو قال له: بعه واعمل به قراضا،
قاله ابن المواز. فأجير وكره. روى أشهب عن مالك إجازته، وروى ابن القاسم
عنه كراهيته. فإن وقع لم يفسخ، عمل أو لم يعمل، قاله ابن القاسم، إلا أن
يكون قال صرفها أو استضربها واعمل بها
(3/17)
فيكون له أجر مثله في تصريفها أو استضرابها
ويرد إلى قراض مثله فيما خرج منها كالقراض بالعروض سواء.
فصل ووجه إجازة القراض بتبر الذهب والفضة ألا تباع، ولذلك نزع مالك -
رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية أشهب عنه فقال قد قارض الناس قبل أن تضرب
الدنانير والدراهم، ولأن السكة لا تأثير لها في الجواز، ولا في المنع،
بدليل أن كل حكم تعلق على الذهب والفضة إذا كانا مسكوكين يتعلق بهما إذا
كانا تبرين من منع التفاضل في الصنف الواحد والنسيئة في الصنفين. ووجه
المنع من القراض بهما تشبيههما بالعروض في أن الناس لا يتبايعون بهما أو
يتصرفون فيهما إلا بعد علاج وصنعة، فذلك بمنزلة بيع العروض. وقال ابن شعبان
في الزاهي إنما لا يجوز ذلك لأنهما لا تضبط كيفية ذهبهما، وهذا أظهر في
القياس. وعلى هذا التعليل يكون القراض بتبر الذهب والفضة مكروها أيضا
بالبلد الذي يدار فيه التبر، أو لا يدار.
فصل وكذلك اختلف في القراض بالفلوس فأجيز وكره. فمن أجاز ذلك شبهها بالعين
لإمكان التصريف بها، ومن منع منه شبهها بالعروض. وينبغي أن يفرق في جواز
القراض بها بين القليل والكثير على ما وقع لابن القاسم في السلم الثاني من
المدونة في الذي يأمر الرجل أن يبيع سلعته فيبيعها بالفلوس. فيأتي على هذا
في القراض بالفلوس ثلاثة أقوال.. الإجازة، والكراهة جملة من غير تفصيل،
والتفصيل بين القليل والكثير وهو ظاهر في المعنى.
فصل ولا ينبغي للرجل أن يقارض إلا من يعرف الحلال من الحرام، ولا يجوز له
(3/18)
أن يقارض من يستحل الحرام ويعمل بالربى من
المسلمين. وكذلك الكافر لا يجوز للرجل أن يعطيه مالا قراضا، وكذلك عبده
الكافر لا يجوز له أن يعطيه مالا قراضا ولا أن يأتمنه على البيع والشراء
لقول الله عز وجل: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} [النساء:
161] وقد وقع في سماع عبد الملك بن الحسن عن ابن وهب أنه لا بأس بمقارضة
المسلم للنصراني وهو بعيد. وأما أخذ المسلم من النصراني مالا قراضا فمكروه
لأنه من باب إجارة المسلم نفسه من النصراني.
فصل والقراض من العقود الجائزة لا يلزم بالعقد واحدا منهما، وإنما يلزم
بالشروع في العمل أو شغل المال، فإذا شرع في العمل وشغل المال لم يكن لرب
المال أخذه حتى ينض، ولا للعامل صرفه دون ذلك، وبالله التوفيق.
[تحصيل القول في باب شراء العامل من يعتق عليه
أو على رب المال]
هذا الباب والذي بعده يشتمل على أربع مسائل:
إحداها: شراء العامل من يعتق عليه.
والثانية: شراء من يعتق على رب المال.
والثالثة: عتق العامل عبدا أو جارية من مال القراض.
والرابعة: إذا وطئ المقارض جارية من مال القراض فحملت.
فصل فأما إذا اشترى العامل من يعتق عليه فإن ذلك لا يخلو من وجهين:
أحدهما: أن يكون عالما.
(3/19)
والثاني: أن يكون غير عالم.
فأما الوجه الأول وهو أن يكون عالما فلا يخلو من وجهين.
أحدهما: أن يكون موسرا.
والثاني: أن يكون معسرا.
فإن كان موسرا فلا يخلوا من وجهين:
أحدهما: أن يكون فيه ربح.
والثاني: ألا يكون فيه ربح. وكذلك إن كان معسرا لا يخلو أيضا من وجهين:
أحدهما: أن يكون فيه ربح.
والثاني: ألا يكون فيه ربح.
وأما الوجه الثاني وهو أن يكون غير عالم فلا يخلو أيضا من أن يكون موسرا أو
معسرا، فإن كان موسرا فلا يخلو من أن يكون فيه ربح أو لا يكون فيه ربح،
فتنتهي المسألة على هذا إلى ثمانية أوجه: أربعة في العالم، وأربعة في غير
العالم لا زيادة فيها.
فصل فأما إذا اشترى من يعتق عليه وهو عالم موسر وفيه ربح فإنه يعتق عليه
ويؤدي إلى رب المال رأس ماله وحصته من الربح يوم الحكم إلا أن يكون ثمنه
الذي اشتراه به أكثر من قيمته يوم الحكم فيؤدي إلى رب المال رأس ماله وحصته
من الربح من الثمن الذي اشتراه به، لأنه لما اشتراه به وهو عالم أنه يعتق
عليه فقد رضي أن يؤدي إلى رب المال ما يجب له من الثمن الذي اشتراه به في
رأس ماله وحصته من الربح فيكون لرب المال أخذه بالأكثر. وقال المغيرة: يعتق
عليه قدر حظه منه ويقوم عليه حظ رب المال يوم الحكم خلاف قول ابن القاسم
أنه يكون عليه الأكثر.
(3/20)
فصل وأما إذا اشترى من يعتق عليه وهو عالم
موسر ولا ربح فيه فإنه يعتق عليه ويؤدي إلى رب المال الأكثر من قيمته يوم
الحكم أو من الثمن الذي اشتراه به، لأنه لما اشتراه وهو عالم بأنه يعتق
عليه فقد رضي أن يؤدي إليه الثمن- الذي اشتراه به. وقال المغيرة: لا يعتق
عليه منه شيء إذا لم يكن فيه فضل ويباع فيدفع ثمنه إلى رب المال. وهو على
قياس قول غير ابن القاسم الواقع في الباب الثاني إنه إذا اشترى عبدا بالمال
القراض وأعتقه ولا فضل فيه إنه لا يعتق عليه، إذ لا فرق بين أن يشتري
بالمال القراض من يعتق عليه وهو عالم أو يشتري به عبدا فيعتقه في أنه متعد
على رب المال في ماله في الوجهين جميعا، ووجه قوله أن عداءه في مال غيره لا
يلزمه في ماله ما لم يلتزمه.
فصل وأما إذا اشترى أبا نفسه أو من يعتق عليه وهو عالم معسر وفيه ربح فقال
في الكتاب إنه يباع منه بقدر رأس المال وربح رب المال، يريد يوم الحكم،
فيدفع إلى رب المال ويعتق ما بقي إذا كان الثمن الذي اشتراه به مثل قيمته
يوم الحكم أو أقل. وأما إن كان الثمن الذي اشتراه به أكثر من قيمته يوم
الحكم فيتبعه بما يجب له من الزائد في ذمته. مثال ذلك أن يشتريه بمائتين،
ورأس المال من ذلك مائة، وقيمته يوم الحكم مائة وخمسون، فيباع منه لرب
المال برأس ماله وحصته من الربح يوم الحكم وذلك مائة وخمسة وعشرون، ويعتق
الباقي، ويتبعه في ذمته بخمسة وعشرين، لأن الواجب له من المائتين التي
اشتراه بها مائة وخمسون، بيع له منها بمائة وخمسة وعشرين وبقيت له خمسة
وعشرون يتبعه بها. وإن أراد رب المال أن يأخذ من العبد قدر رأس المال وحصته
من الربح يوم الحكم على ما يساوي جملته كان ذلك له لأنه أوفر لنصيب العامل
الذي يعتق منه، لأنه إذا بيع منه لرب المال برأس ماله وربحه كان ذلك أوكس
لثمنه لضرر الشركة. وإن أراد
(3/21)
رب المال أن يأخذ من العبد برأس ماله وحصته
من الربح ما كان يباع له منه لو بيع لم يكن ذلك له على ما في سماع أصبغ عن
ابن القاسم من كتاب الوصايا. وإن أراد أن يتبعه برأس ماله وحصته من الربح
دينا في ذمته ويعتق عليه كان ذلك له على قياس قوله.
فصل وأما إذا اشترى من يعتق عليه وهو عالم معسر ولا ربح فيه فلا يعتق عليه
ويتبع بقيمته دينا في ذمته، إلا أن يشاء ذلك رب المال ويرضى به، ولكن يباع
ويسلم الثمن إلى رب المال، إلا أن يكون ثمنه الذي اشتراه به أكثر فيكون لرب
المال أن يتبع العامل في ذمته بالزائد لأنه قد رضي بذلك حين اشتراه وهو
يعلم.
فصل وأما إذا اشترى من يعتق عليه وهو غير عالم موسر وفيه ربح فإنه يعتق
عليه نصيبه ويقوم عليه سائره يوم الحكم، كحكم العبد بين الشريكين يعتق
أحدهما نصيبه منه وهو موسر. وهذا معنى قوله في الكتاب إنه يعتق عليه ويرد
إلى رب المال رأس ماله وربحه. ولا اختلاف في هذا بين ابن القاسم والمغيرة،
وإنما اختلفا إذا علم، فابن القاسم يراعي علمه ويوجب عليه الأكثر، والمغيرة
لا يراعيه فلا يوجب عليه لرب المال إلا رأس ماله وحصته من الربح يوم الحكم
على ما تقدم.
فصل وأما إذا اشترى من يعتق عليه وهو غير عالم موسر ولا ربح فيه فإنه يباع
ويدفع إلى رب المال ماله.
فصل وكذلك إن كان معسرا، إذ لا فرق في هذا الوجه بين الموسر والمعسر.
(3/22)
فصل وأما إن كان غير عالم معسرا وفيه فضل
فإنه يباع منه بقدر رأس المال وربح رب المال يوم الحكم ويعتق الباقي. وإن
أراد رب المال أن يأخذ منه قدر رأس ماله وحصته من الربح على ما يساوي جملة
كان ذلك له لأنه أوفر للعتق، وليس له أن يأخذ منه ما كان يباع له منه برأس
ماله وحصته من الربح على قياس ما في سماع أصبغ عن ابن القاسم من كتاب
الوصايا حسبما تقدم إذا كان عالما. وبالله التوفيق.
فصل وتلخيص هذه المسائل الثمان أنه إن كان غير عالم ولا فضل فيه عن رأس
المال فسواء كان موسرا أو معسرا يباع ويسلم ثمنه إلى رب المال. وإن كان غير
عالم وفيه فضل عن رأس المال كان كالعبد بين الشريكين يعتق أحدهما حظه منه
وهو موسره أو معسره. إن كان موسرا أعتق عليه حظه وقوم عليه حظ رب المال،
وإن كان معسرا أعتق عليه حظه منه وبقي حظ صاحب المال منه رقيقا له إلا أن
لا يريد ذلك ويطلب ماله فيباع له منه برأس ماله وربحه ما بيع ويعتق الباقي.
وإن كان عالما موسرا أعتق عليه وأدى إلى رب المال الأكثر من رأس ماله،
وحصته من الربح يوم الحكم أو يوم الشراء إن كان فيه فضل وإن كان عالما
معسرا بيع منه لرب المال برأس ماله وربحه وأعتق الباقي إن كان فيه فضل. وإن
لم يكن فيه فضل أسلم لرب المال أو بيع وأسلم إليه ثمنه. والمغيرة لا يراعي
علم العامل فيقول: إذا علم ما يقول ابن القاسم إذا لم يعلم في جميع الوجوه
حسبما ذكرناه على مذهبه، وبالله التوفيق.
فصل وأما المسألة الثانية وهي شراء العامل من يعتق على رب المال فإنها
تنقسم أيضا على الوجوه التي قسمنا عليها شراء من يعتق عليه.
(3/23)
فصل فأما إذا اشترى من يعتق على رب المال
وهو عالم موسر وفيه ربح يوم الشراء فإنه يعتق ويؤخذ منه لرب المال رأس ماله
وحصته من الربح إن كان فيه ربح يوم الشراء. وإن لم يكن فيه ربح يوم الشراء
لم يؤخذ منه إلا الثمن الذي اشتراه به وإن كانت قيمته أكثر مما اشتراه به
لأنه لا يصح له فيه ربح لأنه يعتق عليه.
فصل وإن كان معسرا وفيه ربح يوم الشراء بيع منه لرب المال برأس ماله وحصته
من الربح، وعتق الفضل إن فضل منه شيء وإن لم يساو إلا أقل من رأس المال
وحصة رب المال من الربح بيع جميعه لرب المال واتبع العامل بما نقض من رأس
ماله وحصته من الربح.
فصل وأما إذا ابتاعه وهو لا يعلم فإنه يعتق على رب المال، فإن كان للعامل
فيه ربح يوم الشراء قوم على رب المال نصيب العامل منه إن كان له مال كهبته
العبد بين الشريكين. فإن لم يكن مال بقي حظ العامل فيه رقيقا. وسواء في هذا
الوجه كان العامل مليا أو معدما.
فصل في بيان وجوه ألفاظ الكتاب في هذا الوجه
قوله فيه إذا اشترى العامل أبا رب المال أو ابنه وهو لا يعلم عتقوا على رب
المال، يريد يوم الشراء. وقوله وإن كان فيهم ربح دفع إلى العامل من مال
صاحب المال بقدر نصيبه من الربح على ما قارضه، يريد أنه كان في المال ربح
يوم الشراء، مثل أن يكون رأس مال القراض مائة فيربح فيها مائة أخرى ثم
يشتريهم
(3/24)
بالمائتين فيصيب العامل منهم على هذا
التنزيل الربع فيغرم رب المال للعامل قيمة ربع العبد يوم الحكم إن كان له
مال ويعتق كله عليه، وإن لم يكن له مال بقي ربعه رقيقا للعامل بمنزلة العبد
بين الشريكين يعتق أحدهما نصيبه. هذا معنى قوله في الكتاب وإرادته.
فصل وأما إذا اشتراهم وهو عالم فقال في الكتاب إنهم يعتقون على العامل إن
كان له مال ويؤخذ منه ثمنهم، يريد الثمن الذي اشتراهم به وإن كانت قيمتهم
أكثر مما اشتراهم به، لأنه لا يجوز لرب المال أن يربح فيمن يعتق عليه،
بخلاف إذا اشترى العامل من يعتق عليه وهو عالم وقيمته أكثر مما ابتاعه به
فإنه يغرم هاهنا رأس المال وحصته من الربح، لأن الربح فيمن لا يعتق عليه.
وهذا في الذي يشتري أبا رب المال وهو عالم إن لم يكن في المال ربح. وأما إن
كان في المال ربح قبل الشراء، مثل أن يكون رأس المال مائة فيربح فيه مائة
أخرى ثم يشتريهم بمائتين فلا يؤخذ منه جميع الثمن وإنما يؤخذ منه رأس مال
رب المال وحصته من الربح وذلك مائة وخمسون. وقال في الكتاب: وإن لم يكن له
مال بيعوا فأعطي رب المال رأس ماله وربحه، يريد أن الربح كان فيه يوم
الشراء، وذلك مثل أن يكون رأس المال مائة فيصير بالربح فيها مائتين ثم
يبتاعهم بجميع المائتين وهو عالم، فإنه يباع منهم بمائة وخمسين رأس مال رب
المال وحصته من الربح، ويعتق ما فضل كان أقل من ربع العبد أو أكثر، لأنه إن
ساوى العبد أكثر من مائتين لم يصح أن يباع لرب المال منه بأكثر من مائة
وخمسين، لأن ذلك هو الذي تعدى له عليها العامل، ولم يصح له أن يأخذ مما
زادت قيمته بعد الشراء شيئا، لأنه لا يصح له ملكه فلم يصح له الربح فيه.
وإن ساوى العبد أقل من مائتين فمن حق رب المال أن يباع له من العبد بمائة
وخمسين وإن اغترق ذلك جميع العبد، لأنه تعدى له على ذلك القدر. ولم يساو
العبد إلا أقل من مائة وخمسين لوجب أن يباع كله ويتبع العامل بما نقص من
مائة وخمسين. وهذا كله معنى قوله في الكتاب وإرادته فيه، وهي مسألة قد
اختلف فيها كما ذكر، والاختلاف بعضه في المدونة وبعضه خارج عنها.
(3/25)
فصل والذي يتحصل فيها من الاختلاف إذا
اشتراهم، وهو يعلم، ستة أقوال:
أحدها: قوله في الكتاب إنهم يعتقون عليه إن كان له مال ويباعون إن لم يكن
له مال.
والثاني: أنهم يعتقون على رب المال. وهذا القول يأتي على ما في كتاب الرهون
في بعض الروايات.
والثالث: أن البيع لا يجوز. وهذا القول يأتي على ما في كتاب العتق الثاني
في الأب يشتري من يعتق على ابنه الصغير.
والرابع: أنه لا يعتق على واحد منهما. وهو قول ابن القاسم في أصل سماعه.
والخامس: أنه يضمن الثمن ويكون له العبد. وهو قول مالك في رواية ابن أبي
أويس عنه.
والسادس: أن رب المال بالخيار إن أحب أن يأخذه فيعتق عليه ويكون للعامل
فضله إن كان فيه فضل، وإن أحب أن يضمن العامل لتعديه كان ذلك له.
وإذا اشتراهم وهو لا يعلم ففي ذلك قولان:
أحدهما: قوله في الكتاب إنهم يعتقون على رب المال.
والثاني: قول ابن القاسم في أصل سماعه إنهم لا يعتقون على واحد منهما.
فصل وأما المسألة الثالثة وهو أن يعتق المقارض عبدا أو جارية من مال
القراض.
فإن كان موسرا واشتراه للعتق أعتق عليه وغرم لرب المال رأس ماله أو رأس
ماله وربحه إن كان فيه فضل. وإن كان موسرا فاشتراه للقراض ثم أعتقه عتق
عليه وغرم لرب المال قيمته يوم العتق إلا قدر حظه منه إن كان فيه فضل. وعلى
قول غير ابن
(3/26)
القاسم في المدونة وهو مذهب المغيرة أنه إن
كان فيه فضل عتق عليه نصيبه وقوم عليه نصيب صاحب المال، وإن لم يكن فيه فضل
لم يعتق منه شيء. وهذا إن كان اشتراه بجميع مال القراض. وأما إن اشتراه
ببعض مال القراض فعند ابن القاسم أنه يعتق عليه ويجبر القراض من ماله
بقيمته يوم العتق إن كان اشتراه للقراض، أو بالثمن الذي اشتراه به إن كان
اشتراه للعتق، خلافا للمغيرة ولغير ابن القاسم المتقدم. وأما إن كان معسرا
فلا يعتق منه شيء إلا أن يكون فيه فضل فيباع منه لرب المال بقدر رأس ماله
وربحه ويعتق الباقي على العامل.
فصل وأما المسألة الرابعة وهي أن يطأ المقارض جارية من القراض فتحمل، فإن
كان اشتراها للقراض ثم تعدى عليها فوطئها فحملت وله مال أخذ منه قيمتها يوم
وطئها فيجبر به القراض، وكانت أم ولد له. وإن لم يكن له مال ولا كان فيها
فضل بيعت واتبع بقيمة الولد دينا. واختلف إن كان فيها فضل فقيل إنه يباع
منها لرب المال بقدر رأس ماله وربحه ويكون ما بقي بحساب أم ولد. وقيل يكون
حكمها حكم الأمة بين الشريكين يطؤها أحدهما فتحمل ولا مال له على الاختلاف
المعلوم في ذلك.
وأما إن كان اشتراها للوطء فوطئها فحملت، فقال ابن القاسم مرة يؤخذ منه
الثمن، ومرة تؤخذ منه القيمة فيجبر بذلك القراض إن كان له مال، وإن لم يكن
له مال اتبع به دينا وكانت له أم ولد على كل حال. وقال مالك تؤخذ منه
القيمة فيجبر به القراض إن كان له مال، فإن لم يكن له مال بيعت. وهذا إن لم
يكن فيها فضل، فإن كان فيها فضل فعلى ما تقدم من الاختلاف. هذا تحصيل القول
في هذه المسألة على ما حملها عليه بعض أهل النظر باتباع ظواهر الروايات.
والذي أقول به في هذه المسألة أن الاختلاف في بيعها إذا حملت وهو عديم إنما
هو إذا اشترى ووطئ ولم يعلم إن كان اشتراها للقراض أو لنفسه بمال استسلفه
من القراض، فحمله مالك على أنه اشتراها للقراض ولم يصدقه أنه
(3/27)
اشتراها لنفسه بمال استسلفه من القراض،
ولذالك قال إنها تباع في القيمة إذا لم يكن له مال، وحمله ابن القاسم على
أنه اشتراها لنفسه بمال تسلفه من القراض ولم يصدقه أنه اشتراها للقراض على
ما في سماع أبي زيد، ولذلك قال إنها لا تباع، إلا أنه قال في سماعه وفي
تفسير ابن مزين يتبع بقيمتها. ومعناه عندي إن كانت القيمة أكثر من الثمن،
فإرادته أنه يتبع بالأكثر من القيمة أو الثمن. وأما إن علم أنه اشتراها
للقراض ببينة تقوم على ذلك فتباع فيما لزمه من قيمتها قولا واحدا. وكذلك إن
علم أنه اشتراها لنفسه من مال القراض فلا تباع ويتبع بالثمن الذي اشتراها
به في ذمته قولا واحدا والله أعلم.
[فصل في اختلاف دافع المال والمدفوع إليه]
فصل
في اختلاف دافع المال والمدفوع إليه
إذا اختلف دافع المال والمدفوع إليه فقال الدافع دفعته قراضا وقال المدفوع
إليه وديعة لا يخلو الأمر في هذه المسألة من ثلاثة أحوال:
أحدها: أن يكون المال حاضرا.
والثاني: أن يكون غائبا.
والثالث: أن يكون قد تلف دون أن يحركه المدفوع إليه أو بعد أن حركه ثم
صرفه.
فأما إن كان حاضرا فليست بمسألة، يأخذ صاحب المال ماله.
وأما إن كان المال غائبا ففي ذلك قولان:
أحدهما: قول ابن القاسم وروايته عن مالك أن القول قول الدافع.
والثاني: قول أشهب ورواية ابن عبد الحكم عن مالك وربيعة أن القول قول
المدفوع إليه لأنه لا يؤخذ أحد بأكثر مما أقر به على نفسه وهو لم يقر في
ذمته بشيء.
وأما إن تلف قبل أن يحركه أو بعد أن حركه وصرفه في موضعه ببينة على
(3/28)
القول بأن المودع إذا اتجر في الوديعة لا
يصدق في صرفها إلى موضعها ففي ذلك ثلاثة أقوال:
أحدها: أن القول قول رب المال، وهو قول ابن القاسم وروايته عن مالك.
والثاني: أن القول قول المدفوع إليه المال، وهو قول ربيعة ومن تابعه.
والثالث: الفرق بين أن يتلف قبل أن يحركه أو بعد أن حركه. فإن تلف قبل أن
يحركه كان القول قول المدفوع إليه، وإن تلف بعد أن حركه كان القول قول
الدافع وهو قول أشهب.
وأما على القول بأن المودع إذا حرك الوديعة لا يبرأ من ضمانها إلا بصرفها
إلى صاحبها فهو ضامن لها دون يمين تلزم الدافع.
فصل وأما إن قال المدفوع إليه أخذته قراضا وقال الدافع بل أبضعته معك لتعمل
لي به، فقال في الكتاب إن القول قول رب المال بعد أن يحلف ويكون عليه
للعامل إجارة مثله إلا أن تكون إجارة مثله أكثر من نصف الربح فلا يزاد
عليه. ومعنى ذلك بعد أن يحلف العامل، لأن وجه ما ذهب إليه أن كل واحد منهما
مدع على صاحبه: رب المال يدعي على العامل أنه عمل له في المال باطلا،
والعامل يدعي أنه عمل فيه على نصف الربح. فإن حلفا جميعا أو نكلا جميعا عن
اليمين كان له أجر مثله إلا أن يكون ذلك أكثر من نصف الربح. وإن حلف أحدهما
ونكل الآخر كان القول قول الحالف منهما. على هذا ينبغي أن تحمل الرواية
وتصرف إليه بالتأويل. ولا يلتفت إلى ما في ألفاظها مما يدل على أنه جعل
القول قول رب المال فإن نكل كان القول قول العامل على حكم المدعي والمدعى
عليه. وعلى ذلك حمل أبو إسحاق التونسي وغيره المسألة. واعترض قوله إذا كان
ممن يستعمل مثله في القراض فقال ينبغي إذا نكل رب المال أن يكون القول قول
العامل وإن كان ممن لا يستعمل مثله في القراض، لأن رب المال قد مكنه من
دعواه وإن كانت لا تشبه بنكوله عن اليمين.
(3/29)
والمسألة عندي صحيحة لا اعتراض فيها لأن
قوله إذا كان ممن يستعمل مثله في القراض ليس من تمام قوله فإن نكل عن
اليمين كان القول قول العامل مع يمينه إذا كان ممن يستعمل مثله في القراض،
وإنما المعنى في المسألة أن الكلام قد تم بقوله فإن نكل عن اليمين كان
القول قول العامل مع يمينه، ثم ابتدأ فقال: وهذا الذي وصفته من الأيمان
إنما يكون إذا كان ممن يستعمل مثله في القراض، لأنه إذا كان ممن يستعمل في
القراض يكون كل واحد منهما قد ادعى على صاحبه ما يشبه فوجبت له اليمين عليه
على ما قلناه، فإن نكلا أو حلفا كان للعامل أجر مثله إلا أن يكون أكثر من
نصف الربح كما قال. وإن نكل العامل وحلف رب المال أخذ المال وربحه ولم تكن
عليه أجرة. وإن نكل رب المال وحلف العامل استوجب نصف ربح المال على ما حلف
عليه. وأما إن كان العامل ممن لا يستعمل مثله في القراض فلا يمكن من اليمين
لإتيانه بما لا يشبه، ويكون القول قول رب المال، فإن حلف استحق ما ادعاه من
أنه كان أبضع معه المال ولم تكن عليه إجارة، وإن نكل عن اليمين كان القول
قول العامل وإن كان مثله لا يستعمل في القراض، لأن رب المال قد أمكنه من
دعواه وإن كان لا تشبه بنكوله عن اليمين. فهذا هو معنى المسألة لا ما سواه.
ولو كان المدفوع إليه المال ممن يعلم أنه يعمل للناس بالقراض لوجب أن يكون
القول قوله على مذهب ابن القاسم أنه أخذه على ما يدعي من القراض إن كان
الجزء الذي ادعاه يشبه أن يكون قراض مثله. وإن كان لا يشبه أن يكون قراض
مثله حلفا جميعا وكان له قراض مثله قياسا على قوله في مسألة كتاب الجعل
والإجارة في الصانع ورب الثوب يختلفان فيقول رب الثوب عملته لي باطلا ويقول
الصانع بل عملته لك بكذا وكذا، وعلى قياس قول غيره في مسألة الصانع من
الكتاب المذكور يكون القول قوله أنه أخذه على ما يدعي من القراض إن كان
الجزء الذي ادعاه أكثر من قراض مثله حلفا جميعا وكان له قراض مثله. نقف على
افتراق هذه الوجود الثلاث
(3/30)
وهي أن يكون المدفوع إليه المال لا يشبه أن
يستعمل مثله في القراض،، وأن يكون ممن يعمل للناس بالقراض. وكذلك مسألة
الصانع تفترق فيها الوجوه الثلاثة، وهي أن يكون ممن لا يشبه أن يعمل بأجرة،
وأن يكون ممن يشبه أن يعمل بأجرة، وأن يكون من الصناع الذين يعملون للناس
بالأجرة. لأن المسألتين تحمل كل واحدة منهما على صاحبتها، إذ لا فرق بينهما
في المعنى. فإذا كان ممن لا يشبه أن يعمل بأجرة كان القول قول رب الثوب أنه
عمله له باطلا. وإذا كان يشبه أن يعمل بأجرة ولم يكن من الصناع حلفا جميعا
وكان له أجر مثله. وإذا كان من الصناع كان الجواب في ذلك لابن القاسم ما
قاله في كتاب الجعل والإجارة، ولغيره ما قاله فيه حسب ما ذكرناه بتمامه،
وبالله التوفيق.
فصل وأما إن قال المدفوع إليه أخذته قراضا وقال رب المال بل دفعته إليك
قرضا فإن الأمر لا يخلو من ثلاثة أقوال:
أحدها: أن يكون المال قد تلف كله أو بعضه قبل أن يحركه.
والثاني: أن يكون تلف أو نقص بعد أن حركه.
والثالث: أن يكون زاد بربح فيه.
فأما إذا تلف كله أو بعضه قبل أن يحركه ففي ذلك ثلاثة أقوال:
أحدها: أن القول قول رب المال، وهو قول ابن القاسم وروايته عن مالك.
والثاني: أن القول قول المدفوع إليه، وهو قول ربيعة ورواية ابن عبد الحكم
عن مالك.
والثالث: الفرق بين أن يتلف قبل أن يحركه أو بعد أن حركه، وهو قول أشهب.
فاتفق أشهب وابن القاسم على أن القول قول رب المال إذا تلف بعد أن
(3/31)
حركه لأن المدفوع إليه يدعي في مال قد حركه
أنه لا ضمان عليه فيه. وكان القياس على أصل أشهب أن يكون القول قول المدفوع
إليه وإن كان قد حركه لأنه لم يحرك إلا ما أذن له رب المال في تحريكه.
وأما إذا كان في المال ربح فقيل إنه يوقف، فمن كذب منهما نفسه ورجع إلى قول
صاحبه أخذه، وإن رجع الثاني إلى قول الأول بعد أن كان رجع الأول إلى قول
الثاني لم يوجب رجوعه على الذي رجع أولا يمينا. وقيل إنه لرب المال يأخذه،
وهو الذي يأتي على ما في كتاب الرهون لابن القاسم، وعلى ما في كتاب إرخاء
الستور لأشهب وإن كان مقيما على إنكاره. وقيل إنه ليس له أن يأخذه وإن رجع
إلى قول الذي أقر له به وبالله التوفيق لا شريك له.
(3/32)
|