المقدمات الممهدات

 [كتاب الشركة] [القول في الشركة]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على محمد وعلى آله كتاب الشركة القول في الشركة الشركة قد تحصل بين الاثنين والجماعة في الدور والأرضين والحيوان والعروض والدنانير والدراهم وجميع الأشياء بالمواريث والهبات والصدقات والأشرية وغير ذلك.
فصل ولا يكون الرجل شريكا للرجل إلا إذا شاركه في رقاب الأموال على الإشاعة. وأما إن لم يشاركه في رقاب الأموال فليس شريكا وإنما هو خليط، فكل شريك خليط، وليس كل خليط شريكا. والخلطة أعم من الشركة، قال الله عز وجل في الخليط: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} [ص: 23] {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [ص: 24] فسماهم الله تعالى لما لم يشتركوا في أعيان النعاج. وقال تعالى في الشركة في عين المال، على الإشاعة: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا} [الزمر: 29]

(3/33)


يقول الله تعالى: هل يستوي العبد الذي يكون بين الجماعة المشتركين فيه السبتة أخلاقهم، والعبد الذي يكون خالصا لرجل واحد فيرضيه بخدمته ويعرف له حق طاعته فيثيبه عليها أو لا يستوي ذلك. وهذا مثل ضربه الله تعالى للكافر الذي يعبد آلهة شتى، والمؤمن الذي لا يعبد إلا الله. ثم قال تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَعْرُوفًا} [النساء: 8] . فدل على اشتراكهم في المال المقسوم قبل القسمة، كائنا ذلك المال ما كان من الأموال وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أيما دار قسمت في الجاهلية فهي على قسم الجاهلية، وائما دار أدركها الإسلام ولم تقسم فهي على قسم الإسلام.» قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أعتق شركا له في عبد قوم عليه قيمة العدل.. الحديث» «وقضى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالشفعة بين الشركاء ما لم تقع الحدود فإذا وقعت الحدود فلا شفعة» .
فصل وهذا كله أبين من أن يحتاج إلى بسطه والتكلم عليه والاحتجاج له، إذ لا إشكال فيه ولا اختلاف بين أحد من أهل العلم. وكفى من هذا ما تقتضيه آية المواريث، وإنما ذكرناه لما تعلن به من معنى الشركة. وإنما القصد إلى التكلم على الاشتراك للربح والكسب ابتغاء الارتفاق في ذلك وما يجوز منه مما لا يجوز على مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذ على ذلك بنيت مسائل الكتاب.

[فصل في أقسام الشركة]
فصل فالشركة للربح والكسب ابتغاء الارتفاق تنقسم على ثلاثة أقسام:

(3/34)


شركة الأموال.
وشركة الأبدان.
وشركة الوجوه وهي شركة الذمم.
فأما شركة الأموال فإنها جائزة على الجملة عند جميع الأمة، ويقوم جواز ذلك من الكتاب والسنة، فأما. الكتاب فقول الله تعالى: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ} [الكهف: 19] . وأما السنة فمنها ما روي «عن سليمان بن أبي مسلم أنه قال سألت أبا المنهال عن الصرف يدا بيد فقال: اشتريت أنا وشريك لي شيئا يدا بيد ونسيئة، فجاءنا البراء بن عازب فسألناه فقال: فعلت أنا وشريكي زيد بن أرقم ذلك، وسألنا النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك فقال: " ما كان يدا بيد فخذوه وما كان نسيئة فردوه.» ومنها أيضا ما روي «أن عبد الله بن هشام أتت به أمه زينب بنت حميد إلى النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: يا رسول الله بايعه، فقال هو صغير، فمسح برأسه ودعا له، فكان عبد الله بن هشام يخرج إلى السوق فيشتري الطعام فيلقاه ابن عمر وابن الزبير فيقولان له أشركنا معك فإن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قد دعا لك بالبركة، فيشركهم، فربما أصاب أحدهم الراحلة كما هي فيبعث بها إلى المنزل» .

[فصل في أقسام شركة الأموال]
فصل وهي في التفصيل، أعني شركة الأموال، تنقسم على ثلاثة أقسام:
شركة مفاوضة.
وشركة مضاربة.
وشركة عنان.
فأما شركة المفاوضة فهي أن يجوز فعل كل واحد منهما على صاحبه، وأن يستويا في جميع ما يستفيدان فلا يصيب أحدهما شيئا إلا كان صاحبه شريكا له

(3/35)


فيه. وسميت مفاوضة لاستوائهما في الربح والضمان وشروعهما في الأخذ والإعطاء من قولهم تفاوض الرجلان في الحديث إذا شرعا فيه. وهي عند مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجميع أصحابه وأكثر أهل العلم جائزة خلافا للشافعي في قوله إن شركة المفاوضة غرر لا تجوز لتضمنها مشاركة كل واحد منهما صاحبه فيما يضمن أو يربح أو يخسر بإذنه وبغير إذنه. والدليل على صحة ما ذهب إليه مالك ما روي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «تفاوضوا فإنها أعظم بركة» . وهذا نص في موضع الخلاف مع أنه لا غرر فيها، لأنهما إنما أخرجا المالين ثم وكل كل واحد منهما صاحبه على التصرف فيه على الإطلاق، وذلك جائز إذا صرحا به، فلا فصل بين أن يصرحا به أو يقصداه، فإن الخبر المعروف «نهي النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عن بيع الغرر» والشركة لا تسمى بيعا.
فصل والمفاوضة جائزة على ما يتفاوضان عليه من الأجزاء، ولا تفسد المفاوضة بينهما وإن كان لأحدهما مال غيره لم يدخله في المفاوضة، خلافا لأبي حنيفة في الوجهين.

فصل وأما شركة المضاربة فهي أن يدفع الرجل إلى الرجل مالا يتجر فيه ويكون الربح فيه بينهما على ما يتفقان عليه من الأجزاء، والوضعية على رأس المال وهي المقارضة. وإنما سميت مضاربة من الضرب في الأرض، وذلك أن الرجل في الجاهلية كان يدفع المال إلى الرجل على أن يخرج به إلى الشام وغيره فيبتاعه به المتاع على هذا الشرط. وقد مضى هذا في موضع من كتاب القراض مستوفى، وإنما ذكرناه ها هنا لما اقتضاه من التقسيم.

(3/36)


وأما شركة العنان فهي الشركة في شيء خاص كأنه عن لهما أمر أي عرض فاشتركا فيه، فهي مأخوذة من قولهم عن الشيء يعن ويعن إذا عرض. وهذه الشركة جائزة بإجماع من أهل العلم لا أعلم بينهم فيها اختلافا، فهي جائزة بين جميع الناس إذا اتفقوا عليها ورضوا بها، ولازمة لأهل الأسواق فيما اشتروه للتجارة على غير المزايدة لما كان من الطعام في سوق الطعام لأهل التجارة في ذلك النوع تلك السلعة أو في غير السوق، وإن كان من الطعام أو لغير التجارة في ذلك النوع على] اختلاف. وقولي في غير السوق أعني في بعض الأزقة. وأما ما ابتاع الرجل في داره أو حانوته فلا شركة لأحد معه ممن حضر الشراء باتفاق.

فصل وأما شركة الأبدان فأجازها مالك وأصحابه في الصناع وغيرهم إذا كان العمل واحدا وتعاونوا فيه ولم يفترقوا في المواضع. وأجاز أشهب في سماع أصبغ عنه افتراق الصانعين الشريكين في حانوتين إذا كان العمل واحدا. وأجاز ابن حبيب افتراق الأكرياء في المواضع والبلدان إذا كانت الدواب مشتركة بينهم. وليس قوله عندي بخلاف لمذهب ابن القاسم. وقال الشافعي لا تجوز شركة الأبدان بحال، وأجازها أبو حنيفة بين الصناع ولم يجزها في الاصطياد والاحتطاب، إذ لا يقتضي ذلك ضمانا من كل واحد منهما على صاحبه، بخلاف الصناع الذين يضمن كل

(3/37)


واحد منهما ما تقبل صاحبه من العمل، فكان كل واحد منهم وكيلا لصاحبه على ذلك. والدليل على صحة قول مالك في إجازة شركة الأبدان بين الصناع وغيرهم ممن لا ضمان عليهم قول الله عز وجل: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال: 41] فجعل الغانمين شركاء فيما غنموا بقتالهم وأفاءت عليهم سيوفهم، وليس هناك مال ولا تجارة، وإنما هي شركة أبدان بغير ضمان. فالآية حجة على الشافعي في المنع من شركة الأبدان بكل حال، وعلى أبي حنيفة في المنع من شركة الأبدان فيما لا ضمان فيه كالاحتطاب، والاصطياد. ومن الحجة لمالك ما روي أن «ابن مسعود شارك سعدا يوم بدر فأصاب سعد فرسين ولم يصب ابن مسعود شيئا ولم ينكر النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عليهما.» وذهب سحنون إلى أن الصانعين إذا اشتركا لا يضمن أحدهما ما تقبل صاحبه من المتاع إلا أن يجتمعا على أخذه، ولا يلزم أحدهما ضمان العمل عن صاحبه إلا أن يلتزما ذلك، خلاف مذهب ابن القاسم في الوجهين. فقول ابن القاسم في الشريكين الصانعين إذا مرض أحدهما أو غاب الغيبة الطويلة فعمل صاحبه في مرضه أو غيبته إنه لا يكون متطوعا له بعمله صحيح على أصله، لأنه عمل عنه بما لزمه من الضمان، فوجب له الرجوع عليه بقيمة عمله. وهذا معنى قوله إن ما عمل يكون له دون المريض أو الغائب إلا أن يحب أن يعمل له نصف عمله، وليس ذلك بمعارض لقوله في كتاب الجعل والتجارة إن الرجل إذا استأجر أجيرين لحفر بئر فمرض أحدهما وعمل الآخر إنه متطوع له بعمله، إذ ليس أحدهما بضامن عن صاحبه، وإنما تستوي المسألتان على قول سحنون الذي لا يجعل أحد الشريكين الصانعين ضامنا عن صاحبه، وقد قال إن إحداهما ترد إلى الأخرى، وذلك صحيح على أصله غير لازم لابن القاسم على أصله. وقوله في مسألة الجعل والإجارة إن الحافر متطوع لصاحب البير ليس بخلاف لقول ابن القاسم لأنه حمل الإجارة على أنها معينه تنفسخ بالموت

(3/38)


والمرض، وحملها ابن القاسم على أنها مضمونة عليهما لا تنفسخ بموتهما وتلزمهما في أموالهما ولا يمكن أن يختلفا لمن يكون العامل متطوعا إذا وقعت الإجارة على بيان في المضمون أو المعين. وإن أشبه أن يختلفا فيما تحمل عليه إن لم تقع على بيان. وإنما يكون العامل متطوعا لصاحبه في المضمون أو لصاحب البير في المعين إذا لم يحتج إلى الاستئجار على ذلك، على قولهم فيمن حصد زرعا لغيره بغير إذنه. وبالله التوفيق.

فصل وأما شركة الذمم فلم يجزها مالك لأنها شركة بغير مال ولا صناعة، فكأن كل واحد منهما قال لصاحبه تحصل عني بنصف ما اشتريت على أن أتحصل عنك بنصف ما اشتريت. وذلك غرر ومخاطرة. وقال أبو حنيفة: شركة الوجوه جائزة، وهي تنعقد على الوكالة لأن ما يشتريه كل واحد منهما فبعض له وبعض لصاحبه على وجه الوكالة. وهذه الوكالة تصحح حال وهذا لا يصح، لأنه لو قال وكلتك لتشتري لي سلعة على أن يكون لك ربح سلعتي التي اشتريتها لم يصلح لأن ذلك مجهول منهما جميعا. وإنما جاز ذلك في شركة العنان لأن هناك أصلا تنعقد الشركة عليه وهو المال.
فإن قالوا أليس يجوز أن يشتري الرجلان سلعة بينهما بالدين على أن كل واحد منهما حميل بها على صاحبه فتصح الشركة فيها ويكون كل واحد منهما ضامنا لما على صاحبه. فإذا جازت الشركة بشرط الضمان في هذه المسألة جازت شركة الذمم لأنها شركة تقتضي الضمان، لأن ما جاز اشتراطه جاز القصد إليه.
قلنا: لا يلزم ذلك. والفرق بين المسألتين أن اللذين اشتريا السلعة بالدين على أن كل واحد منهما ضامن لما على صاحبه يعلم كل واحد منهما ما تحمل به عن صاحبه، لأنهما شريكان فيما تحملا بثمنه، كمسألة كتاب السلم الثاني في

(3/39)


الرجل يسلم إلى الرجلين على أن كل واحد منهما حميل بما على صاحبه فجاز ذلك إذ لا غرر فيه. وأما شركة الذمم فإنما قصد فيها إلى أن يتحمل كل واحد منهما عن صاحبه بنصف ما يبتاعه بغير إذنه ولا معرفته، وذلك من أعظم الغرر وقد منع في كتاب البيوع الفاسدة ما هو أقل غررا من هذا، وهو أن يبيع الرجلان سلعتيهما من رجل على أن كل واحد منهما حميل بالآخر، فلم يجز ذلك إذ لا يدري كل واحد منهما ما يتحمل به عن صاحبه، إذ قد تستحق سلعة أحدهما ولا تستحق سلعة الأخر. وإن استحقت إحداهما فلا يدري بما يرجع عليه إلا بعد التقويم، وليس هما شريكين فيما باعاه. وشركة الذمم لا يدري كل واحد منهما ما تحمل به عن صاحبه بحال، لأنه إنما تحمل عنه بما يبتاع بغير إذنه ولا علمه. وقد حمل بعض الناس مسألة كتاب البيوع الفاسدة هذه على الخلاف لما في كتاب الشركة من إجازة شراء الرجلين السلعة بالدين على أن كل واحد منهما حميل بما على صاحبه، لتعليله مسألة كتاب البيوع الفاسدة بأن المشتري إنما اشترى من أحدهما على أن يتحمل ما على الآخر، فابتاع من الملي على أن يتحمل له بما على الآخر. ومسألة كتاب السلم الثاني إنما أسلم إلى أحدهما على أن يتحمل له بما على الآخر فأسلم إلى الملي على أن يتحمل له بما على المعدم. والصواب أن ذلك ليس باختلاف من القول. والفرق بينهما أن مسألة كتاب البيوع الفاسدة لم يكن البائعان المتحمل كل واحد منهما بصاحبه شريكين فيما باعاه ولا عرف كل واحد منهما مقدار ما تحمل به عن صاحبه. ومسألة كتاب الشركة المتبايعان المتحمل كل واحد منهما بصاحبه شريكان فيما ابتاعاه، يعرف كل واحد منهما ما تحمل به عن صاحبه. وكذلك مسألة كتاب السلم الثاني المسلم إليهما المتحمل كل واحد منهما بصاحبه شريكان في الدنانير التي هي رأس مال السلم وعرف كل واحد منهما ما تحمل به عن صاحبه. فالأصل في هذا أن الحميلين المتحمل كل واحد منهما بما على صاحبه إذا كانا شريكين فيما باعاه أو ابتاعاه جائز، وإن لم يكونا شريكين لم يجز. فعلى هذا إذا باع رجلان سلعة من رجل على أن كل واحد منهما حميل عن صاحبه جاز ذلك لكونهما شريكين فيها ومعرفة كل واحد منهما بما تحمل به عن صاحبه. وسواء كانت شركتهما فيها على السواء أولم تكن على

(3/40)


السواء. ولو اشترى رجلان سلعتين من رجل على أن يأخذ أحدهما إحدى السلعتين بكذا أو بما ينوبها من الثمن على الاختلاف في ذلك، ويأخذ الثاني السلعة الثانية بكذا أو بما ينوبها من الثمن أيضا على أن كل واحد منهما حميل بما على صاحبه لم يجز لكونهما غير شريكين فيها، لأنهما إذا لم يكونا شريكين فيها فهي بمنزلة الصفقتين ولا إشكال في الصفقتين لو باع رجل سلعة من رجل أو بعض سلعة ثم باع في صفقة ثانية من رجل آخر سلعة أخرى أو بقية السلعة على أن يتحمل له بما على المبتاع الأول لم يجز لأنه بيع على حمالة، وهي الحمالة بالجعل. وقد ذهب ابن لبابة إلى أن حمالة الرجلين كل واحد منهما بما على صاحبه في الصفقة الواحدة يجوز في المبتاعين ولا يجوز في البائعين. والفرق بينهما عنده أن السلعة التي باعها البائع من الرجلين على أن كل واحد منهما حميل عن صاحبه لو دفعها لأحدهما في جميع ما عليهما وعلى صاحبه لجاز، وإن الثمن الذي دفعه المشتري إلى البائعين على أن كل واحد منهما حميل بما على صاحبه لو دفعه إلى أحدهما فيما يجب عليه بالضمان الذي اشترط عليه لم يجز. فبهذا افترقت المسألتان عنده. وما قدمنا ذكره هو الصحيح إن شاء الله أن الشركة رخصة، فيجوز في الاشتراك ما لا يجوز مع الانفراد.

[فصل فيما تنعقد به الشركة]
فصل واختلف فيما تنعقد به الشركة بين المتشاركين على قولين:
أحدهما أن تنعقد باللفظ وإن بقي ما أخرجه كل واحد منهما بيده فإن ضمانه منه، فيكون ما اشترى أحدهما بالمال الذي أخرجه بينهما وإن تلف مال صاحبه بيده قبل أن يخرجه فكان ضمانه منه، وهو مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة خلاف قول غيره فيها، وذلك إذا اشترى بما أخرج قبل تلف ما أخرجه صاحبه. وأما إن اشترى به بعد تلف ما أخرجه صاحبه وهو لا يعلم فهو بالخيار بين

(3/41)


أن يلزمه ما اشتراه أو ينفرد به دونه، لأنه يقول له لو علمت أن المال الذي أخرجته قد تلف لم أشتر إلا لنفسي. وأما ما اشترى بعد أن علم بتلف ما أخرجه صاحبه فهو له خاصة.
والثاني أنها لا تنعقد بينهما حتى يكون ضمان ما تلف بينهما، قيل بخلط ما أخرجاه وهو مذهب سحنون، وقيل بأن يجمعا المال عند أحدهما وإن لم يخلطاه وهو مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة.

فصل وهي من العقود الجائزة، لكل واحد من المتشاركين أن ينفصل عن شريكه متى ما أراد، ولا يلزمه البقاء معه على الشركة إلا على التكافي والاعتدال، لأنه إن فضل أحدهما صاحبه في قيمة ما يخرجه فإنما يسمح في ذلك رجاء بقائه معه على الشركة، وذلك لا يلزمه فيصير غررا. ألا ترى أن المزارعة تجوز وإن كان قيمة كراء ما يخرجه أحدهما أكثر مما يخرجه صاحبه على مذهب من يرى أن المزارعة تلزم بالعقد، وهو مذهب سحنون وابن الماجشون وقول ابن كنانة وابن القاسم في كتاب ابن سحنون. ولا يجوز ذلك على مذهب من يرى أن المزارعة لا تلزم بالعقد، ولكل واحد منهما أن ينفصل عن صاحبه- ما لم يبذرا، وهو قول ابن القاسم في المدونة ونص رواية أصبغ عنه في العتبية، ولا على مذهب من يرى أنها لا تلزم إلا بالشروع في العمل، وهو قول ابن كنانة في المبسوطة وبه جرت الفتوى عندنا بقرطبة. وهو على قياس رواية علي بن زياد عن مالك في أن الجاعل يلزمه الجعل بشروع المجعول له في العمل.
فصل وإنما وقع هذا الاختلاف في المزارعة لأنها شركة وإجارة من كل واحد منهما مقتضية لصاحبتها بكليتها لا فضل فيها عنها. فاختلف أيهما يغلب. فمن غلب الشركة لم يرها بالعقد لازمة ولا أجازها إلا على التكافي، غير أنه جوز أن يتطول أحدهما على صاحبه بما لا قدر لكرائه. وفي التكافي قولان: أحدهما أنه لا يكون

(3/42)


إلا بالتشارك في الرقاب حتى يستويا في مصيبة التلف. والثاني أنه يكون وإن لم يشتركا في الرقاب بأن تكون قيمة كراء ما يخرجه أحدهما مكافئا لقيمة كراء ما يخرجه صاحبه. ومن غلب الإجارة ألزمها بالعهد وأجاز التفاضل بينهما ولم يراع التكافي. قال ابن حبيب: ما لم يتفاحش الأمر مثل أن يكون قيمة كراء ما أخرجه أحدهما أكثر من قيمة ما أخرجه صاحبه بالأمر البائن الذي لا يتغابن في مثله في البيوع. وقال ابن سحنون ذلك جائز وإن تفاحش وتباين التفاضل إذا كان في العوض، وأما إن أخرج أحدهما شيئا له بال لم يخرج صاحبه عنه عوضا فلا يجوز. والقول الأول أقيس وهو إجازة التفاضل بكل حال على القول بتغليب الإجارة وإلزام العقد.

فصل واختلف في المزارعة الفاسدة إذا وقعت وفاتت بالعمل على ستة أقوال:
أحدهما: أن الزرع لصاحب البذر ويرد لأصحابه كراء ما أخرجوه.
والثاني: أن الزرع لصاحب العمل، وهو تأويل ابن أبي زيد عن ابن القاسم فيما حكى عنه ابن المواز.
والثالث: أنه لمن اجتمع له شيئان من ثلاثة أصول، وهي البذر، والأرض، والعمل. فإن كانوا ثلاثة واجتمع لكل واحد منهم شيئان منها أو انفرد كل واحد منهم بشيء واحد منها كان الزرع بينهم أثلاثا. وإن اجتمع لأحد منهم شيئان منها دون أصحابه كان له الزرع دونهم، وهو مذهب ابن القاسم واختيار ابن المواز على ما تأول أبو إسحاق التونسي.
والرابع: أنه يكون لمن اجتمع له شيئان من ثلاثة أشياء على هذا الترتيب وهي الأرض، والعمل، والبقر.

(3/43)


والخامس: أن يكون لمن اجتمع له شيئان من أربعة أشياء على هذا الترتيب وهي: البذر، والأرض، والعمل، والبقر.
والسادس: قول ابن حبيب إن الفساد أن سلم من كراء الأرض بما يخرج منها كان الزرع بينهم على ما اشترطوه وتعادلوا فيما أخرجوه، وإن دخله كراء الأرض بما يخرج منها كان الزرع لصاحب البذر.

فصل ولا يجوز أن ينضاف إلى الشركة بيع ولا إجارة إذا كانا خارجين عنها. واختلف إذا كانا داخلين فيها، فأجاز ذلك سحنون، واختلف فيها قول مالك، واضطرب فيه قول ابن القاسم في المدونة: فأجاز أن يشترك الرجلان بالعرضين من صنفين إذا استوت قيمتهما، وبالعروض من أحدهما والدنانير والدراهم من الآخر. ولم يجز أن يأتي الرجل بالدابة والآخر بالبيت أو الرحى فيشتركان على أن يعملا عليهما وإن استوت قيمة كرائهما، وأجاز أن يستأجر أحدهما من صاحبه نصف الدابة على أن يعملا عليها، وهذا تناقض لأنه بيع وأجرة داخلان في الشركة. وأجاز ذلك كله سحنون على أصله في أن كل بيع أو أجرة أو صرف كان داخلا في الشركة فهو جائز.

فصل وعقد الشركة في المال بيع من البيوع، لأن الرجلين إذا تشاركا بالعروض أو الدنانير والدراهم فقد باع كل واحد منهما صاحبه نصف ما أخرج هو، وهو بيع لا تقع فيه مناجزة لبقاء يد كل واحد منهما على ما باع بسبب الشركة. ألا ترى أنهم لم يجيزوا أن يصرف الرجل نصف ديناره من رجل إذا لم يبن مشتري نصف الدينار به لبقاء يد بائعه عليه بسبب الشركة، لأن أهل العلم أجمعوا على إجازة الشركة بالدنانير من كلا الشريكين أو الدراهم من كليهما جميعا أيضا، ولم يعتبروا عدم المناجزة منهما في ذلك، وهو إجماع على غير قياس. وقد اختلف أهل العلم في الإجماع على غير قياس هل يصح عليه القياس أم لا على قولين، فذهب ابن القاسم في هذه المسألة إلى جواز القياس عليه، فأجاز الشركة بالطعام إذا اتفق في

(3/44)


الكيل والصفة قياسا على الدنانير والدراهم ومنع من ذلك في الدنانير من عند أحدهما والدراهم من عند الآخر، وفي الطعامين المختلفين كانا من صنف واحد كالقمح والشعير والبيضاء والمحمولة أو من صنفين كالقمح والزبيب، لاجتماع علتين في ذلك وهما الصرف والشركة في الدنانير والدراهم، والبيع والشركة في الطعامين المختلفين وعدم التناجز. وأجاز الشركة بالعرضين المختلفين أو العروض من أحدهما والدنانير أو الدراهم من عند الآخر إذا استوت القيمة في ذلك، فهو جائز، بخلاف البيع والصرف إذا كان خارجا عن الشركة فيجوز على مذهبه. وقوله الشركة بالدنانير من عند أحدهما والدراهم من عند الآخر وبالطعامين المختلفين إذا اتفقت قيمتهما، أو المتفقين إذا اتفقا في القيمة والكيل لم يختلف قوله في شيء من ذلك..

(3/45)


فصل واختلف في الشركة بالدنانير من عند أحدهما والدراهم من عند الآخر إذا وقعت على مذهب من لا يجيزها فلم يعثر عليها حتى فاتت بالعمل، فقيل إنهما يقتسمان ما بأيديهما على ما كان فيه من ربح أو خسارة على قيمة الدنانير والدراهم يوم اشتركا. وقيل إنهما يقتسمان ذلك على قيمة الدنانير والدراهم يوم الفسخ، وإلى هذا يرجع قول ابن القاسم في المدونة إذا اعتبرته بما يخرج الحساب، وهذا أقرب مأخذا في العمل.

فصل فما يشترك به من الأشياء ينقسم على قسمين: أحدهما أن يشترك الرجلان بصنف واحد، والثاني أن يشتركا بصنفين. فأما الصنف الواحد فلا يخلو من وجهين: أحدهما أن يكون مما لا يؤكل ولا يشرب، والثاني أن يكون مما يؤكل ويشرب. فأما إن كان مما لا يؤكل ولا يشرب فسواء كان مما لا يجوز فيه]

(3/46)


التفاضل كالذهب والفضة أو مما يجوز فيه التفاضل كالعروض. والشركة فيها جائزة باتفاق إذا استويا في الكيل والقيمة فيما لا يجوز فيه التفاضل، أو في القيمة فيما يجوز فيه التفاضل. وأما إن كان مما يؤكل ويشرب فأجاز الشركة فيه ابن القاسم وسحنون إذا اعتدلا في الكيل والقيمة قياسا على الدنانير والدراهم، والانفراد علة واحدة في ذلك أيضا فاستخفها واختلف في ذلك قول مالك.
يجوز فيه التفاضل. وأما إن كان مما يؤكل ويشرب فأجاز الشركة فيه ابن القاسم وسحنون إذا اعتدلا في الكيل والقيمة قياسا على الدنانير والدراهم، والانفراد علة واحدة في ذلك أيضا فاستخفها واختلف في ذلك قول مالك.
فصل وأما الوجه الثاني وهو أن يشتركا بصنفين فلا يخلو أيضا من وجهين: أحدهما أن يكون مما لا تجوز فيه النسيئة، والثاني أن يكون مما تجوز فيه النسيئة. فأما إن كان مما تجوز فيه النسيئة كالصنفين من العروض أو العروض والدنانير أو الدراهم، فأجاز ذلك ابن القاسم لانفراد العلة الواحدة وهي البيع والشركة، وسحنون أيضا، وهو مذهب مالك أيضا. وروي عنه أنه قال في ذلك: ليست الشركة بالعروض من عمل الناس، فغمز ذلك هذا القول والله أعلم لعلة البيع والشركة. وأما سحنون فلم يراع البيع مع الشركة إذا كان داخلا فيها وغير خارج عنها. فهذا ما حضرني من القول في الشركة، وبالله التوفيق.

(3/47)