المقدمات
الممهدات [كتاب
الوكالات]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على محمد. وبالله أستعين
وعليه أتوكل.
قال الله عز وجل: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ
بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [السجدة: 11] وَقَالَ {أَمْ
مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلا} [النساء: 109] وَقَالَ {وَكَفَى
بِاللَّهِ وَكِيلا} [النساء: 81] . وقال لنبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: {قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} [الأنعام: 66] وهذا كله
أصله الحفظ والرعاية، لأن الوكيل حافظ لما وكل عليه ينوب في الحفظ والرعاية
مناب من وكله. ومن ذلك قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إن الله وكل بالرحم
ملكا يقول أي رب نطفة، أي رب علقة أي رب مضغة، فينفخ فيه الروح فيقول أي رب
ما الرزق؟ وما الأجل؟ وشقي أو سعيد؟ فيكتب في بطن أمه» .
فصل فالوكالة نيابة عن الموكل، فهي لا تكون إلا فيما تصح فيه النيابة مما
يلزم الرجل القيام به لغيره أو يحتاج إليه لمنفعة نفسه.
(3/49)
فأما الوكالة فمما يلزم الرجل القيام به
لغيره فكتوكيل الأوصياء والوكلاء المفوض إليهم من ينوب عنهم فيما يلزمهم
لمن وكلهم أو لمن إلى نظرهم. وكاستخلاف الإمام على ما يلزمه القيام به من
أمر المسلمين. كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يستخلف
على المدينة إذا خرج لغزو أو حج أو عمرة، ويبعث عماله إلى البلاد، وأمراءه
على الأجناد. ومن ذلك «بعثه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معاذ بن
جبل وأبا موسى الأشعري إلى اليمن معلمين، فلما قدما اليمن تفرقا في المنزل
ثم التقيا، فقال معاذ لأبي موسى كيف هذا تقرأ القرآن. قال مالك وأحسبهما
كانا قد أتيا لتعليم الناس الإسلام والقرآن، فقال أبو موسى أما أنا فأتفوقه
تفوقا ماشيا وراكبا وقاعدا وقائما وعلى كل حال. وقال معاذ أما أنا فأنام
أول الليل وأقوم آخره وأحتسب نومتي كما احتسب قومتي» «واستعماله على مكة
عتاب بن أسيد؟» «وبعث - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى موتة جيشا
وأمر عليهم زيد بن حارثة، فإن أصيب زيد فجعفر بن أبي طالب أميرهم، فإن أصيب
جعفر فعبد الله بن رواحة أميرهم. فانطلقوا حتى لقوا ابن أبي سيرة الغساني
بمؤتة وبها جموع من نصارى العرب والروم. فأغلق ابن أبي سيرة الحصن دون
المسلمين ثلاثة أيام ثم خرجوا فالتقوا فاقتتلوا قتالا شديدا. فأخذ اللواء
زيد بن حارثة فقتل، ثم أخذه جعفر بن أبي طالب فقتل، ثم أخذه عبد الله بن
رواحة فقتل، ثم اصطلحوا على خالد بن الوليد فهزم الله العدو وأظهر
المسلمين. وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل أن
يأتي نعيهم المدينة: " مر علي بجعفر بن أبي طالب في الملائكة يطير كما
يطيرون له جناحان ". وقدم يعلى بن منيع على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بخبرهم، فقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " إن شئت
فأخبرني وإن شئت فأخبرك. فقال بل أخبرني يا رسول الله. فأخبره رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خبرهم كله ووصفه له. فقال والذي بعثك
بالحق ما تركت من حديثهم حرفا واحدا لم تذكره وإن أمرهم لكما ذكرت
(3/50)
فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - إن الله رفع لي الأرض حتى رأيت معركتهم ". وقد كان عبد الله بن
رواحة بكى حين أراد الخروج إلى مؤتة فبكى أهله لبكائه حين رأوه يبكي، فقال
والله ما بكيت جزعا من الموت ولا صيانة لكم ولكني بكيت من قول الله عز وجل:
{وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا}
[مريم: 71] فأيقنت أني واردها ولا أدري هل أنجو منها أم لا» .
فصل وأما الوكالة فيما يحتاج إليه الرجل لمنفعة نفسه فذلك كتوكيله على
البيع والشراء والنكاح والحدود والخصام وما أشبه ذلك من كل أمر مباح أو
مندوب إليه أو واجب تعبد به الإنسان في غير عينه، لأن ما تعبد به في عينه
كالوضوء والصلاة والصيام لا يصح أن ينوب عنه في ذلك غيره. قال الله عز وجل:
{فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ
فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ
وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا} [الكهف: 19] . فهذه
وكالة على الشراء.
«واستعمل النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - رجلا على خيبر فجاءه بتمر فقال له
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أكل تمر خيبر هكذا. فقال
لا والله يا رسول الله إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين والصاعين بالثلاثة،
فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا تفعل بع الجميع
بالدراهم وابتع بالدراهم جنيبا» . فهذه أيضا وكالة على البيع والشراء.
«وبعث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبا رافع مولاه
ورجلا من الأنصار فزوجاه ميمونة بنت الحارث ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمدينة قبل أن يخرج» . فهذه وكالة على النكاح ".
وقال: «واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها» . فهذه وكالة على
الحدود. «واستخلف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبا بكر
على الصلاة، ووكل بلالا أن يرقب الفجر ويوقظهم للصلاة وقال
(3/51)
اكلأ لنا الصبح» . «وأمر علي بن أبي طالب
المقداد بن الأسود أن يسأل له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - عن الرجل إذا دنا من امرأته فخرج منه المذي ماذا عليه.»
والآثار في هذا وشبهه أكثر من أن تحصى.
فصل فإذا وكل الرجل الرجل وكالة مطلقة لم يخصه بشيء دون شيء فهو وكيل له
على جميع الأشياء، وإن سمى بيعا أو ابتياعا أو خصاما أو شيئا من الأشياء
فلا يكون وكيلا له إلا فيما سمى. وإن قال في آخر الكلام وكالة مفوضة تامة
أو لم يقل فذلك سواء، لأنه إنما يرجع على ما سمى خاصة. وهذا قولهم في
الوكالة إذا طالت قصرت وإذا قصرت طالت.
فصل والوكالة لا تورث على الوكيل، ولا له أن يوكل على ما وكل عليه غيره ولا
أن يوصي بذلك إلى أحد بعد مماته بخلاف الوصي إلا أن يجعل ذلك إليه الموكل.
فإن فعل فتلف المال كان ضامنا له على مذهب ابن القاسم، وإن علم أنه لا يلي
مثل ذلك بنفسه إذا لم يعلم بذلك الموكل الأول. هذا نص رواية يحيى عن ابن
القاسم، وفي ذلك نظر. وقال أشهب إذا كان مثله في الكفاية فلا ضمان عليه.
فصل ويد الوكيل كيد موكله فيما وكله عليه. فمن حلف ألا يفعل فعلا فوكل على
فعله فهو حانث إلا أن يكون نوى أن يفعله هو بنفسه. وكذلك من حلف أن يفعل
فعلا فوكل غيره على فعله فقد بر إلا أن يكون نوى أن يلي هو الفعل بنفسه.
ففعل الوكيل كفعل الموكل فيما يوجبه الحكم سوى معنى قولنا يد الوكيل كيد
الموكل. وقد أتى ابن شعبان في هذا بعبارة فاسدة غير مرضية واحتجاج غير صحيح
(3/52)
فقال: وفعل الوكيل فعل موكله لأن من حلف
ألا يفعل فعلا فوكل غيره على فعله حنث، واحتج لذلك بقول الله عز وجل:
{اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي
مَنَامِهَا} [الزمر: 42] . وقَوْله تَعَالَى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ
الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة: 11] قال فكان فعل ملك الموت هو
فعل الله عز وجل. وهذا كلام بغير تحصيل في غاية من الفساد. أما فعل ملك
الموت فهو فعل الله تعالى لأنه خالقه وفاعله حقيقة، وكذلك أفعال سائر
العباد، الله هو خالقها وفاعلها. قال الله تبارك وتعالى: {وَاللَّهُ
خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96] وَقَالَ {إِنَّ الَّذِينَ
تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا
لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ
ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج: 73] وقال عز من قائل:
{وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ
الصُّدُورِ} [الملك: 13] {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ
الْخَبِيرُ} [الملك: 14] . وأما فعل الوكيل فلا يجوز أن يكون فعل الموكل
وإنما هو كفعله في وجوب الحكم فيه، ولا يقال ضرب السلطان أو قتل أو كتب لما
لم يفعله بيده وإنما أمر به غيره إلا مجازا لا حقيقة، فكيف يصح قياس فعل
الموكل والوكيل من المخلوقين بأفعال الخالق تعالى. وما يستقيم هذا الاحتجاج
إلا على مذهب أهل القدر القائلين إن أفعال العباد مخلوقة لهم، تعالى الله
عن ذلك علوا كبيرا. ولو تدبر ابن شعبان هذا الكلام لما تكلم به، ولكنها
غفلة وغلط، وليس أحد بمعصوم من الخطأ والغلط، وبالله التوفيق لا شريك له
ولا ند.
فصل واختلف إذا مات الموكل هل تنفسخ وكالة الوكيل بموته أم لا. فحكى ابن
حبيب في الواضحة عن مطرف وابن الماجشون أن وكالته لا تنفسخ وأنه باق عليها
(3/53)
يبيع ويبتاع ويتقاضى حتى يعزله الورثة.
وقال أصبغ تفسخ الوكالة بموت الموكل ولا تجوز خصومته ولا القيام بشيء مما
كان إليه حتى يوكله الوارث. ووقع لأصبغ في سماعه من كتاب البضائع والوكالات
أن الوكالة تنفسخ بموته إن كان هو البائع ولا يجوز له أن يتقاضى الثمن إلا
بتوكيل الورثة، وإن لم يكن هو البائع وكان الوكيل هو الذي ولي البيع فهو
على وكالته يقبض ثمن ما باع حتى يعزله الورثة. ولم أعلمهم اختلفوا أن
القاضي لا ينفسخ تقديمه بموت الإمام الذي قدمه للقضاء، وأنه على خطته حتى
يعزله عنها الإمام الذي يلي الأمر بعده. فانظر ما الفرق بين ذلك.
فصل وإذا مات الموكل على القول الذي يرى فيه أن الوكالة تنفسخ بموته ولم
يعلم الوكيل بموته، أو عزل ولم يعلم بعزله فاختلف هل يكون معزولا بنفس
الموت أو العزل أم لا على ثلاثة أقوال:
أحدها: أن يكون معزولا بنفس الموت أو العزل. وهذا قول ابن القاسم في كتاب
الشركة من المدونة في الذي يحجر على وكيله فيقتضي من غرمائه بعد عزله وهم
لا يعلمون بذلك إنهم لا يبرءون بالدفع إليه وإن لم يعلم هو بعزله. هذا هو
ظاهر قوله وعلى هذا كان الشيوخ يحملونه. وعلى ذلك حمله أبو إسحاق التونسي.
فإذا لم يبرأ الغرماء بالدفع إليه فكذلك لا يبرأ هو ويكون للغرماء أن
يرجعوا عليه إن تلف المال بيده لأنه أخطأ على مال غيره. فهذا يبين أن
الوكالة تنفسخ في حقه هو ومن عامله أو دفع إليه بنفس الموت أو العزل.
والثاني: أنه لا يكون معزولا في حق أحد إلا بوصول العلم إليه فيكون معزولا
في حقه بوصول العلم إليه وفي حق من دفع إليه أو بايعه بوصول العلم إليه.
وهذا قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في أول كتاب الوكالات من المدونة إن
الورثة يلزمهم ما باع الوكيل أو اشترى بعد موته قبل أن يعلم به كما يلزمهم
ما اشترى قبل موته أو باع. وكذلك يبرأ- من دفع إليه إذا لم يعلم بموت
الموكل على قياس قولهم.
(3/54)
وعلى قول مالك هذا لو علم الوكيل بموت
موكله فباع ولم يعلم المشتري بذلك فتلفت السلعة المبيعة عنده لكان الوكيل
ضامنا لقيمتها لانفساخ الوكالة في حقه لعلمه بموته وتعديه فيما لا تصرف له
فيه، ولم يكن على المشتري أن يرد الغلة إذا أخذت منه السلعة. ولو لم يعلم
الوكيل بموته وعلم المشتري لكان عليه أن يرد الغلة إذا أخذت منه السلعة.
ولو لم يعلم الوكيل بموته وعلم المشترى لكان عليه أن يرد الغلة إذا أخذت
منه السلعة لتعديه بابتياع ما قد انفسخت الوكالة فيه في حقه. وقول مالك هذا
في كتاب الوكالة مثل قول ابن القاسم في كتاب الشركة في الشريكين يفترقان
فيقضي الغريم أحدهما إنه إن علم فهو ضامن لنصيب الذي لم يدفع إليه ويرجع
على الذي دفع إليه بما غرم للشريك الذي رجع عليه لانفساخ الوكالة بعلمهما
جميعا. وإن لم يعلم فلا ضمان عليه إذ لم تنفسخ الوكالة في حقه على ما
قدمناه، ويكون الشريك الذي قبض ضامنا لحصة شريكه مما قبض لانفساخ الوكالة
في حقه بعلمه.
والثالث: أنه لا يكون الوكيل معزولا إلا بوصول العلم إليه، فإذا وصل العلم
إليه كان معزولا في حقه وحق من اقتضى منه وبايعه. وهذا قول أشهب لأنه قال
إذا علم الوكيل بعزله ولم يعلم الغريم إنه ضامن بخلاف إذا لم يعلما.
فإن قيل إنه قد قال إنه ضامن أيضا إذا علم وإن لم يعلم الوكيل فقيل إنه
يكون معزولا في حقهما جميعا بعلم أحدهما.
قلنا: لا نقول ذلك ولا يصح، لأنه إنما ضمنه إذا دفع وهو عالم والوكيل لا
يعلم لتعديه بالدفع، لا من أجل أن الوكالة قد انفسخت في حق الوكيل. ألا ترى
أنه لا يجب له الرجوع على الوكيل إن تلف المال بيده لبقاء الوكالة لم تنفسخ
في حقه فهو أمانة عنده، ولو كانت الوكالة منفسخة أيضا لوجب له الرجوع عليه
بما غرم لصاحب الدين، وهذا بين، وبالله التوفيق لا شريك له ولا ند.
(3/55)
فصل فهذا تحصيل هذه المسألة عندي وتخريجها،
وقد تؤول فيها تأويلات كثيرة، فمن الناس من يجعل قول ابن القاسم في كتاب
الشركة من المدونة في التحجير على الوكيل مثل قول أشهب، إذ لم ينص فيها أن
الوكيل لم يعلم بفسخ وكالته، فكان يتأول قوله على أنه علم ويجعل مثله أيضا
مسألة موت الموكل فيقول إنه إذا لم يعلم الوكيل بموت موكله فلا ضمان على من
دفع إليه إلا أن يعلم فيكون متعديا في الدفع. ومن الناس من يفرق بين مسألة
الحجر على الوكيل ومسألة موت الموكل فيقول إنما لم يضمن من دفع إلى الوكيل
في مسألة الموت إذا لم يعلم مراعاة لقول من يقول إن الوكالة لا تنفسخ بموت
الموكل وإن علم الوكيل وأن له التصرف ما لم يعزله الورثة. فيضمن الغريم على
هذا التأويل في الحجر وإن لم يعلم واحد منهما ولا يضمن في الموت إلا من
علم. ومنهم من يقول هو اختلاف من القول ولا فرق بين المسألتين، فيدخل
الاختلاف من كل واحدة منهما في صاحبتها فيأتي في موت الوكيل ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه لا يبرأ من دفع إلى الوكيل بعد موت الموكل وإن لم يعلم، علم
الوكيل بموت الموكل أو لم يعلم.
والثاني: أنه يبرأ بدفعه إليه إذا لم يعلم، علم الوكيل أو لم يعلم.
والثالث: أنه يبرأ إذا دفع إليه ولم يعلم إذا لم يعلم الوكيل بموت الموكل،
ولا يبرأ إذا علم.
وفي عزل الوكيل أيضا ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه لا يبرأ من دفع إليه وإن لم يعلم، علم الوكيل بعزله أو لم يعلم.
والثاني: أنه يبرأ إذا دفع إليه ولم يعلم، علم الوكيل بعزله أو لم يعلم.
والثالث: أنه يبرأ إذا دفع إليه ولم يعلم إذا لم يعلم الوكيل بعزله، ولا
يبرأ إذا
(3/56)
علم. وهذا هو الأظهر من التأويلات، وهو
الذي بدأنا بذكره. ويتحصل منها خمس تأويلات:
أحدها: أنه لا فرق بين موت الموكل وعزله لوكيله، وأن في كل واحد منهما
ثلاثة أقوال:
أحدها: أن الوكالة تنفسخ بنفس الموت والعزل في حق الوكيل وحق من عامله وإن
لم يعلم واحد منهما بذلك على ظاهر ما في كتاب الشركة في عزل الوكيل.
والثاني: أنها تنفسخ في حقهما جميعا بعلم الوكيل، وهو قول أشهب.
والثالث: أنها لا تنفسخ في حق واحد منهما إلا بوصول العلم إليه، وهو قول
ابن القاسم في الشريكين وظاهر ما في أول كتاب الوكالات لمالك.
والتأويل الثاني: أنه لا فرق أيضا بين موت الموكل وعزله لوكيله وأن في كل
واحد منهما قولين لا أكثر:
أحدهما: أن الوكالة تنفسخ في حقهما جميعا بمعرفة الوكيل.
والثاني: أنها لا تنفسخ في حق كل واحد منهما إلا بوصول العلم إليه.
والتأويل الثالث: الفرق بين الموت والعزل فلا تنفسخ الوكالة في الموت في حق
واحد منهما إلا بوصول العلم إليه، وفي العزل قولان:
أحدهما: أن الوكالة تنفسخ بنفس العزل في حقهما جميعا.
والثاني: أنها تنفسخ في حقهما جميعا بمعرفة الوكيل خاصة.
والتأويل الرابع: الفرق أيضا بين الموت والعزل، فلا تنفسخ الوكالة في الموت
في حق واحد منهما إلا بوصول العلم إليه، وتنفسخ في العزل بوصول العلم إلى
الوكيل قولا واحدا.
والتأويل الخامس: أيضا: الفرق بين الموت والعزل، فتنفسخ الوكالة في
(3/57)
الموت بمعرفة الوكيل في حقه وحق من عامله،
وفي العزل بنفس العزل وإن لم يصل العلم بذلك إلى واحد منهما. وبالله
التوفيق.
فصل وهذا كله لا يسلم من الاعتراض. والصحيح أن المسألة تتخرج فيها ثلاثة
أقوال كما قدمت. والأصل في هذا الاختلاف اختلاف الأصوليين فيمن علم بالحكم
ثم نسخ ولم يبلغه النسخ هل يكون الحكم منسوخا عنه بورود النسخ فيه وإن لم
يبلغه، أو لا يكون منسوخا عنه إلا ببلوغه إليه فقالوا: إن الذي يدل عليه
مذهب مالك أن الحكم منسوخ عنه بورود النسخ فيه وإن لم يبلغه. واستدلوا على
مذهبه في ذلك بقوله في المرأة يموت عنها زوجها أو يطلقها: إن عدتها من يوم
وقع الفراق أو الموت لا من يوم يأتيها الخبر وبقوله في الوكيل يموت موكله
أو يعمل أنه معزول وإن لم يعلم. وقال أصحاب أبي حنيفة لا يكون الحكم منسوخا
عنه حتى يعلم به. واختلف أصحاب الشافعي في ذلك فقال بعضهم بقول مالك وقال
بعضهم بقول العراقيين واستدل أصحابنا على صحة ما دلهم عليه مذهب مالك بأن
حكم الله تعالى قد استقر، وخفاؤه على من خفي عليه لا يخرجه من أن يكون
متعبدا به، وأكثر ما في بابه أن يكون معذورا بجهله به.
فصل فعلى هذا التأويل لا يكون الاختلاف الحاصل في أفعال الوكيل ومبايعته
واقتضائه بعد عزله أو موت موكله، وما أنفقت المرأة بعد موت زوجها أو طلاقه
قبل أن تعلم بذلك إلا من جهة الاختلاف في العذر بالجهل ومراعاة التفريط
بالإعلام.
فصل والوكالة جائزة بعوض وعلى غير عوض. فإن كانت بعوض فهي إجارة تلزمهما
جميعا، ولا تجوز إلا بأجرة مسماة وأجل مضروب وعمل معروف. وإن
(3/58)
كانت بغير عوض فهي معروف من الوكيل يلزمه
إذا قبل الوكالة ما التزمه، وللموكل أن يعزله من الوكالة متى شاء، إلا أن
تكون الوكالة في الخصام فليس له أن يعزله عن الوكالة ويوكل غيره ولا يخاصم
عن نفسه إذا كان قد قاعد خصمه المرتين والثلاث إلا من عذر. هذا هو المشهور
في المذهب. ووقع لأصبغ في الواضحة ما يدل على أن له أن يعزله عن الخصام ما
لم يشرف على تمام الحكم. وفي المكان الذي لا يكون للموكل أن يعزله عن
الخصام لا يكون له هو أن يتخلى عنه إذا قبل الوكالة.
فصل واختلف في الجعل على الخصومة على أنه إن يفلح فله كذا وكذا وإن لم يفلح
فلا شيء له هل يجوز أم لا على قولين، وهما في المدونة في كتاب الجعل
والإجارة منها. وكذلك اختلف أيضا في الرجل يقول: دلني على امرأة أتزوجها
ولك كذا وكذا، أو دلني على من يشتري مني جاريتي ولك كذا وكذا فدل عليه،
فقيل إن ذلك يلزمه في النكاح والبيع، وهو قول سحنون وأصبغ. وقيل إنه يلزمه
في البيع ولا يلزمه في النكاح، وهو قول مالك في رسم البز من سماع ابن
القاسم من كتاب الجعل والإجارة. وكذلك فرق ابن القاسم بين قوله ولني بيع
دارك ولك كذا وكذا، أو ولني إنكاح ابنتك ولك كذا وكذا، فأجاز ذلك في البيع
في رسم إن خرجت من سماع عيسى من كتاب جامع البيوع، ولم يجز ذلك في النكاح
في رسم الجواب من سماع عيسى من كتاب النكاح. ولا فرق في شيء من ذلك بين
البيع والنكاح، وقول سحنون وأصبغ أظهر. وفي سماع عيسى من الكتاب المذكور
أنه قال اسع لي في نكاح بنت فلان أو أشخص لي في ذلك جائز إذا كان ذلك في
البلد ولم يشخص فيه إلى بلد آخر، وبالله التوفيق.
(3/59)
|