المقدمات
الممهدات [كتاب الشفعة] [القول في الشفعة]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله
وصحبه وسلم كتاب الشفعة
القول في الشفعة الأصل في تسمية أخذ
الشريك الشقص الذي باع شريكه من المشتري بالثمن الذي اشتراه به شفعة هو أن
الرجل في الجاهلية كان إذا اشترى حائطا أو منزلا أو شقصا من حائط أو منزل
أتاه المجاور أو الشريك فيشفع إليه في أن يوليه إياه ليتصل له الملك أو
يندفع عنه الضرر حتى يشفعه فيه فسمي ذلك شفعة، وسمي الآخر شفيعا، والمأخوذ
منه مشفوعا عليه.
فصل وثبت «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى
بالشفعة» وأنه قال: «الشفعة فيما لم يقسم بين الشركاء فإذا صنعت الحدود
وصرفت الطرق فلا شفعة» . وهذا الحديث يقتضي ثلاثة أوجه من الفقه.
أحدها: أن الشفعة إنما تكون بين الشركاء. وأن لا شفعة للجار وإن كان جديدا
له في المال إذا لم يشاركه فيه على الإشاعة.
(3/61)
والثاني: أن الشفعة إنما تكون بين الشركاء
فيما ينقسم من الأصول دون ما لا ينقسم.
والثالث: أن الشفعة إنما تكون بين الشركاء في الرباع والأصول دون سائر
العروض وبالله التوفيق.
فأما الوجه الأول، وهو أن الشفعة إنما تكون بين الشركاء وأن لا شفعة للجار
وإن كان جديدا له في المال إذا لم يشاركه فيه على الإشاعة فيستدل عليه
بثلاثة أوجه من الحديث:
أحدها: نص الكلام.
والثاني: دليل الخطاب.
والثالث: الظاهر والعموم.
فأما النص فهو قوله «فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة» .
وأما دليل الخطاب فهو أنه لما علق الشفعة بعدم القسمة فقال الشفعة فيما لم
ينقسم بين الشركاء دل على انتفائها مع وجودها وهذا بين.
وأما الظاهر والعموم فإنه لما قال الشفعة فيما لم يقسم، والشفعة من ألفاظ
العموم المستغرقة للشفعة كان قد جعل جنس الشفعة فيما لم يقسم فلم يبق فيما
قد قسم شفعة. وهذا قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - والشافعي وأصحابهما أنه
لا شفعة للجار. وأثبت أبو حنيفة للجار المصاقب الشفعة ما لم يكن بينها طريق
نافذة، ولغير المصاقب إذا اشتركا في طريق غير نافذة. فأولى الناس بالشفعة
عندهم الشريك الذي لم يقاسم، ثم الشريك المقاسم إذا بقيت له في الطريق
شركة، ثم الجار الذي ليس بمصاقب إذا كان شريكا في طريق غير نافذة. وحجتهم
ما روي عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال:
«الجار
(3/62)
أحق بصقبه» ، وأنه قال: «الجار أحق بشفعة
جاره» ، وأنه قال: «الخليط أحق من الشريك» . قالوا ومن طريق القياس أن ملك
الجار متصل بالملك المبيع، لأن موضع الحائط الحاجز بين الدارين مبيع. وقد
اتصل ذلك بملك الشفيع فأشبه الشريكين لما كان ملك كل واحد منهما متصلا بملك
الآخر كانت الشفعة واجبة لكل واحد منهما. وهذا كله ليس بصحيح، لأن قول
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الجار أحق بصقبة» و «الجار
أحق بشفعة جاره» ، ليس فيه بيان ما هو أحق به، فيحتمل أن يريد معاونته على
ما يعرف له، والعرض عليه إذا أراد البيع. ويحتمل أن يريد بالجار الشريك
للمقاربة التي بينهما، لأن العرب تسمي الجار شريكا، وتسمي الزوجة شريكة
وجارة لاشتراكهما في البيت. وإذا احتمل الحديث هذين الاحتمالين لم يصح أن
يحمل على أنه أحق بالشفعة، إذ قد نص على أنه لا شفعة له بقوله «فإذا وقعت
الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة» . ولا يصح أن تحمل الأحاديث على التعارض ما
أمكن الجمع بينهما بتأويل محتمل وقد قال بعض من احتج عليهم: ولا يصح أن
يحمل قوله «الجار أحق بصقبه» و «الجار أحق بشفعة جاره» على الوجوب في الأخذ
بالشفعة إن حملت الجار على حقيقة اللفظ ولم تحمله على الشريك، إذ لا يخلو
أن يريد أنه أحق بذلك من الشريك أو أحق بذلك من الأجنبي الذي ليس بجار ولا
شريك، ولا يصح أن يريد أنه أحق بذلك من الشريك، إذ لا يقول أحد إن الشفعة
للجار دون الشريك؛ ولا أنه أحق بذلك من غير الجار، إذ لا يقول أحد إن
الشفعة واجبة للأجنبي الذي ليس بجار ولا شريك. وليست بحجة صحيحة لاحتمال أن
يريد أنه أحق بذلك من المشتري، فالحجة عليهم إنما هي ما ذكرناه من أن
الأحاديث لا يصح أن تحمل على التعارض ما أمكن الجمع
(3/63)
بينها بتأويل محتمل. وما رووه عن النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «الخليط أحق من الشريك» ،
ظاهره يوجب أن الشريك ليس بشفيع، وهذا ما لا يقوله أحد، وهو عندنا محمول
على أنه أحق بالعرض عليه، لأنه إن لم يعرض عليه وباع فوت عليه المبيع،
والشريك إن لم يعرض عليه وباع لم يفوت عليه البيع لأنه يأخذ من المشتري
بالشفعة. فالحديث حجة لنا في أن الخليط وهو الجار الجديد في المال لا شفعة
له. وقياسهم ينتقض بالجار المقابل، وقد قال ابن شعبان لو كانت الشفعة واجبة
للجار لوجبت لجميع من بالبلد الذي بيعت به الدار لقول الله عز وجل: {لَئِنْ
لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ} [الأحزاب: 60] الآية. فجعل كل من بالمدينة
له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جارا. وبالله التوفيق.
فصل وأما الوجه الثاني وهو أن الشفعة إنما تكون في الرباع والأصول دون سائر
العروض، فالدليل عليه من الحديث قوله فيه: «فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق
فلا شفعة» إذ القسمة بإيقاع الحدود وصرف الطرق إنما تكون في الرباع والأصول
دون ما سواها من العروض التي إنما تقسم بالكيل والوزن. وهذا مذهب مالك -
رَحِمَهُ اللَّهُ - وجميع أصحابه، وهو قول جمهور أهل العلم. ومنهم من
أوجبها في كل شيء مشاع من الأصول والعروض والحيوان وغير ذلك وهو قول شاذ.
قاله بعض أهل مكة، وروي في ذلك حديث منقطع عن النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث سعيد بن المسيب وغيره. وقد قال مالك -
رَحِمَهُ اللَّهُ -: وعلى ذلك السنة التي لا اختلاف فيها عندنا، يعني
بالمدينة. ومن طريق القياس أن الحيوان والعروض مال يصح الانتقال به فلم تجب
فيه شفعة. أصله الدنانير والدراهم والمكيل والموزون وبالله تعالى التوفيق.
فصل وأما الوجه الثالث وهو أن الشفعة إنما تكون فيما ينقسم من أموال دون ما
لا ينقسم فيستدل عليه من الحديث بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-: «الشفعة فيما لم يقسم،» لأن قوله فيما
(3/64)
لم يقسم يدل على أنه إنما أوجب الشفعة فيما
ينقسم، لأن ما لا ينقسم لا يقال فيه يثبت فيه حكم كذا وكذا ما لم يقسم. ألا
ترى أنه لا يصح أن يقال يثبت في الإنسان حكم كذا وكذا ما لم يقسم. وهذا أمر
اختلف فيه أصحاب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -. فمنهم من قال إن الشفعة لا تجب
فيما لا ينقسم من الأصول كالشجرة والنخلة تكون بين الرجلين بأصلها على ما
يدل عليه الحديث، وهو قول مطرف. ومنهم من قال إن الشفعة في ذلك واجبة لأنها
من الأصول فحمل الباب فيها محملا واحدا وإن كانت لا تنقسم، لأنها من جنس ما
ينقسم. وهو قول أشهب وابن الماجشون وأصبغ وأحد قولي ابن القاسم، لأن له في
المدونة أن الرحى إذا بيعت بأصلها فإن في الأرض والبيت الذي وضعت فيه الرحى
الشفعة بما ينوبها من الثمن، وروى عنه سحنون في العتبية أنه لا شفعة في
مناصب الرحى لأنها لا تنقسم.
فصل وعلى هذا يأتي اختلاف المتأخرين من أصحابنا في الضرر الذي من أجله جعلت
الشفعة. فمن رأى أن الشفعة لا تكون إلا فيما ينقسم من الأصول لم يعلل بضرر
الشركة لإمكان انفصالهما عنه بالقسمة، وقال إن العلة في ذلك ضرر القسمة،
وهي تكون بوجوه منها أنه قد تنقص قيمتها إذا قسمت وإذ قد يحتاج كل واحد من
المتقاسمين إلى استحداث مرافق في نصيبه فيلزمه في ذلك مؤونة. ومنها ما يلزم
فيها من المؤن والأجر التي تختص بقسمة الأصول، إذ ليس كل واحد يحسن قسمتها،
فلا بد في الأغلب من الحال أن يستأجر على قسمتها من يختص بمعرفة ذلك، وهي
علة صحيحة يشهد لصحتها اطرادها وانعكاسها. ألا ترى أن العروض التي تنقسم
بالكيل والوزن لا شفعة فيها إذ لا مؤنة في قسمتها. ومن رأى أن الشفعة تكون
فيما ينقسم وفيما لا ينقسم قال إن العلة فيما لا ينقسم ضرر الشركة، إذ لا
يقدر أحد من الشركاء أن يتصرف في المال المشترك بشيء من وجوه التصرف دون
إذن شريكه. ولا يلزم على هذا إيجاب الشفعة فيما لا ينقسم من
(3/65)
العروض لأن الضرر يرتفع فيها ببيعها وقسم
الثمن، إذ لا يتشاح الناس فيها ولا يرغبون في إمساكها كرغبتهم في الأصول
وتشاحهم في إمساكها.
فصل واتفق أهل العلم على إيجاب الشفعة في الأصول اتفاقا مجملا، ولم يختلف
قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن في الشقص المبيع الشفعة إذا بيع بعين أو
بقرض. فأما إن باع الرجل شقصه من شريكه أو من أجنبي بأصل أو بشقص من أصل له
فيه شرك أو لا شرك به فيه فمذهب ابن القاسم وروايته عن مالك أن في ذلك كله
الشفعة. ووقع في أول سماع ابن القاسم ما ظاهره أن قول مالك اختلف في ذلك
كله، وأنه كان يقول إذا علم أنه أراد المناقلة والسكنى ولم يرد وجه البيع
إنه لا شفعة في ذلك، وأن بعض المدنيين كان يذكر ذلك، وهو قول ربيعة. فعلى
هذا تكون المناقلة المختلف في وجوب الشفعة فيها في هذه الوجوه كلها. وحكى
العتبي وابن الماجشون أنهما قالا إن المناقلة التي قال مالك لا شفعة فيها
إنما هي أن يبيع الرجل شقصه من شريكه بشقص من أصل له فيه شرك فيكون كل واحد
منهما إنما أراد التوسع في حظه بما صار إليه من حظ شريكه عوضا عما عاوضه
به. فعلى هذه المناقلة إنما تكون في هذا الوجه الواحد من سائر الوجوه. وروى
أبو زيد عن مطرف في الدار تكون بين الرجلين فيبيع أحدهما شقصه من شريكه
بشقص من أصله مع شريك آخر أنه لا شفعة لهذا الشريك الآخر في هذا الشقص لأنه
لم يقصد به البيع وإنما أراد التوسع في حظه. وكذلك على قول مطرف هذا لو
كانت دار بين ثلاثة نفر فباع أحدهم حظه من أحد شريكيه بأصل فلا شفعة للشريك
الثالث الذي لم يبع فيه لأنه لم يرد البيع وإنما أراد التوسع في حظه. فعلى
قول مطرف هذا تكون المناقلة المختلف في إيجاب الشفعة فيها. وأصله أنك متى
وجدت أحد المتعاملين في الأصول قد أخذ من صاحبه شقصا فيما له فيه شقص فهي
المناقلة التي لا شفعة فيها. وعلى تأويل
(3/66)
مطرف وابن الماجشون على علة أن المعاملة في
الأصول لا تكون مناقلة تسقط فيها الشفعة حتى يكون كل واحد منهما قد أخذ من
صاحبه شقصا فيما له فيه شقص. وعلى ظاهر ما وقع في سماع ابن القاسم على مالك
أن المعاملة في الأصول كيف ما وقعت فهي مناقلة لا تجب فيها الشفعة على أحد
القولين، ففي تعين المناقلة المختلف في إيجاب الشفعة فيها ثلاثة أقوال على
ما بيناه.
فصل وهي واجبة فيما تجب فيه على قدر الأنصباء على ما روي عن علي بن أبي
طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خلافا لأبي حنيفة في قوله إنها على عدد
الرؤوس. والصحيح ما ذهب إليه مالك وأصحابه أنها على قدر الأنصباء، لأنها
لما كانت تجب بالملك وجب أن تكون على قدر الأملاك كالغلل، ولما كانت لدفع
المضرة عن الأشراك وكانت المضرة عليهم على قدر حصصهم وجب أن تكون الشفعة
التي ترفع الضرر عنهم على قدر حصصهم وبالله التوفيق.
فصل وعهدة الشفيع على المشتري لا على البائع، سواء أخذها من يد البائع قبل
القبض أو من يد المشتري بعد القبض. هذا مذهب مالك وأصحابه ومذهب الشافعي.
وقد وقع في المدونة ما يدل على أن الشفيع مخير في كتب عهدته على من شاء
منهما، وليس ذلك بصحيح، والأولى أن يتأول ذلك على الموجود المنصوص عليه في
المذهب. وقال أبو حنيفة إن أخذ الشفيع الشقص من يد المشتري فعهدته عليه،
وإن أخذه من يد البائع قبل أن يقبضه المشتري فالعهدة عليه. وقال ابن أبي
ليلى إن العهدة على البائع بكل حال. والصحيح ما ذهب إليه مالك، لأن البيع
لم يفسخ بين البائع والمشتري بعد وجوب البيع له وتقرر ملكه على الشقص فوجب
أن تكون العهدة عليه.
فصل وإنما تكون العهدة في مذهبنا للشفيع على البائع في المقارض يبتاع بمال
(3/67)
القراض شقصا وهو شفيعه أو رب المال شفيعه،
لأن رب المال إن كانت له الشفعة فالمال له فلا يصح له أن يكتب العهدة على
نفسه، وإن كانت الشفعة للمقارض فلا يجوز له أن يجعل العهدة على رب المال
فيما ابتاع بماله.
فصل وإذا باع المبتاع الشقص أخذه الشفيع ممن شاء منهما وكتب عهدته عليه.
وكذلك قال أشهب إذا غاب الشفعاء إلا واحدا فأخذ جميع الشفعة ثم جاء أحد
الغيب كان مخيرا في كتاب عهدته إن شاء على المشتري وإن شاء على الشفيع،
لأنه كان مخيرا في الأخذ فهو كمشتر من المشتري. وإن جاء ثالث كان مخيرا إن
شاء كتب عهدته على المشتري وإن شاء على الشفيع الأول وإن شاء عليه وعلى
الثاني. فقيل إن قول أشهب هو خلاف لمذهب ابن القاسم وإنه لا يكتب عهدته على
مذهب ابن القاسم إلا على المشتري، وليس ذلك عندي بصحيح. والصواب أن قول
أشهب مفسر لمذهب ابن القاسم إن شاء الله وبه التوفيق.
فصل واختلف في الأخذ بالشفعة فقيل إنها تنزل منزلة البيع، وقيل منزلة
الاستحقاق فيما يختص بذلك من الأحكام.
فصل وتورث الشفعة فينزل الوارث منزلة الموروث في الحق الذي كان له من الأخذ
أو الترك، سواء مات الموروث والشقص الذي يستشفع به في يده فورثه عنه، أو
مات بعد بيع الشقص على القول بأن البيع لا يسقط شفعته. ولا تباع ولا توهب.
وقد وقع لأصبغ في الواضحة أن الشقص إذا بيع وله شفعاء فيسلم جميعهم الشفعة
إلا واحدا فأراد الذي لم يسلم أن يأخذ الجميع أن تسليمهم إن كان على
(3/68)
الهبة للمشتري والعطية فليس له إلا سهمه
منها وللمشتري سهام المسلمين. وإن لم يكن على هذا الوجه إلا على ترك الشفعة
وكراهية الأخذ بها فللمتمسك جميعها.
فصل فإذا صح على قول أصبغ هذا للمشتري بالهبة حظ المسلم ولم يكن لمن سواه
من الشفعاء أخذه، فكذلك البيع على هذا القياس ينزل المشتري به منزلة الشفيع
البائع للشفعة، فلا يكون لمن سواه من الشفعاء عليه شفعة، إلا أن يكونوا
بمنزلته فيكون لهم منها بقدر حظوظهم. وعلى هذا تأول ابن لبابة رواية ابن
القاسم عن مالك في أنه لا يجوز أن يبيع الرجل شفعة قد وجبت له ولا يهبها،
فقال معناه من غير المبتاع، واستدل على صحة تأويله برواية جلبها من كتاب
الدعوى والصلح قال: يجوز أن يبيع شفعته من المبتاع بعد وجوب الصفقة قبل أن
يستشفع ولا يجوز له بيع ذلك من غيره. ومثل هذا حكي أيضا عن مالك من رواية
أشهب عنه أنه قال: ولا يجوز له أن يبيعها من غير المبتاع قبل أن يأخذ
بشفعته، واختار هو من رأيه ألا يبيع الشفعة ولا يهبها لا من المبتاع ولا من
غيره، وهو الصواب. والروايات التي جلب ليست بجلية لاحتمال أن يتأول على أنه
إنما أراد بها أن أخذ العرض من المبتاع على تسليم الشفعة له يجوز بعد وجوب
الصفقة، وسمي ذلك بيعا لما فيه من معنى البيع. وقول أصبغ شاذ بعيد عن
النظر.
وحكى ابن لبابة أيضا أنه رأى ابن الحباب يعقد لنفسه وثيقة شراء نصيب رجل من
مال وما وجب له من الاستشفاع في نصيب كان بيع من ذلك المال قبل ذلك. قال
فلما تمت الوثيقة قال لي هذه من غرائب المنتجات التي لا يعرفها والله
غيرنا، يريدني ونفسه. فالذي يتحصل في هذا أنه لا يجوز للشفيع أن يهب ما وجب
له من الاستشفاع لغير المبتاع ولا يبيعه منه. واختلف هل له أن يهب ذلك
للمبتاع ويبيعه منه أم لا على قولين:
أحدهما: أن ذلك جائز ويخلص المشتري بما اشترى، ولا يكون لغير البائع
(3/69)
والواهب من الشفعاء عليه شفعة إلا أن
يكونوا بمنزلته فيكون لهم منها بقدر حقوقهم.
والثاني: أن ذلك لا يجوز، وينفسخ البيع فيكون الشفيع على شفعته، ويفسخ حكم
الهبة فيمضي على حكم التسليم. وأما بيع الشفيع نصيبه للذي يستشفع قبل أن
يأخذ بالشفعة أو هبته فلا يجوز باتفاق. وأما تسليم الشفعة بمال بعد وجوبها
له فجائز باتفاق، وبالله التوفيق.
فصل وليس للشفيع أن يأخذ بالشفعة لغيره، ولا له أن يأخذ للبيع. . وقد
استحسن أشهب ألا يكون ذلك له. وأما المريض فإنه يأخذ بالشفعة ولا اعتراض في
ذلك، وإن كان أخذه في هذه الحال لورثته لأنه إن لم يأخذ في مرضه كان لهم أن
يأخذوا لأنفسهم بعد وفاته.
فصل وقد اختلف في الحد الذي تنقطع فيه شفعة الحاضر العالم إذا سكت ولم يقم
بطلب شفعته، فقال أشهب ورواه عن مالك إن حد ذلك السنة، وقال ابن القاسم في
المدونة ورواه عن مالك إن السنة قليل ولا تنقطع إلا فيما فوق السنة. وحكى
ابن حبيب في الواضحة عن مطرف وابن الماجشون أنه على شفعته ما لم يوقفه
السلطان على الأخذ أو الترك فيترك أو يتركها طوعا منه ويشهد بذلك على نفسه
أو يمضي من طول المدة ما يدل على أنه كان تاركا لها. والخمس سنين قليل إلا
أن يحدث المشتري فيها بيتا أو غرسا فتنقطع شفعته في أقل من ذلك، فكأنه يرى
على هذه الرواية أن حد ما تنقطع فيه الشفعة هو ما يكون فيه الحيازة. وهو نص
قول ابن الماجشون في المبسوطة أنه لا تنقطع شفعة الحاضر إلا بعد مضي
(3/70)
عشرة أعوام للحديث الذي جاء عن النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «من حاز شيئا عشر سنين فهو له» .
قال ابن المعدل وكان ابن الماجشون يقول بإيجاب الشفعة للحاضر إلى أربعين
سنة، ثم رجع إلى عشر سنين. وقد روي عن مالك أنه على شفعته وإن طال ما لم
يصرح بتركها، وهو مذهب الشافعي. وقال أبو حنيفة بضد ذلك إن الشفعة إنما هي
على الدروب فإن لم يقم بشفعته ساعة علم بالبيع فلا شفعة له. وأما الغائب
فهو على شفعته وإن طالت غيبته وكذلك إن كان الشفيع حاضرا والمشتري غائبا
فاشتراها له وكيل.
فصل فإن سكت الشفيع ولم يقم حتى أحدث المشتري فيما اشتراه غرسا أو بناء أو
حتى طالت المدة وخرجت عن الحد الموقت في الشفعة بطل حقه وسقط قيامه ولم
يعذر في ذلك بجهل. وهذه إحدى المسائل التي لا يعذر فيها الجاهل بجهله، وهي
سبع مسائل على ما روي عن أبي عمر الإشبيلي - رَحِمَهُ اللَّهُ -. حكى ابن
عتاب عن ابن بشر القاضي أنه قال كان أبو عمر الإشبيلي - رَحِمَهُ اللَّهُ -
يقول: سبع مسائل لا يعذر فيها الجاهل بجهله ولا يشرحها، وإذا سألناه عن
تفسيرها لنا. قال فتتبعتها إلى يومي هذا فلم أجد منها إلا بعضها. فذكر خمس
مسائل مختلفة المعاني يقتضي بعضها الجهل بما يوجبه الحكم من أن السكوت يبطل
حق الساكت، وبعضها الجهل بمقدار الشيء المتعدى فيه. قال: وأخرج إلينا كتابه
فكتبناها وهي هذه المسألة، ومسألة الأمة تعتق تحت العبد فيطأها وهي عالمة
بالعتق ثم تريد الخيار وتدعي الجهل؛ ومسألة المملكة تقضي بالثلث بالمجلس
فلا يناكرها الزوج ثم يريد أن يناكرها بعد ذلك
(3/71)
ويدعي الجهل؛ ومسألة السارق يسرق الثوب
الذي يسترفع فيه الدراهم وهو لا يساوي ثلاثة دراهم وفيه دراهم مربوطة لم
يعلم بها ومسألة المرتهن يطأ الجارية المرهونة عنده ويدعي الجهل، قال ابن
عتاب توجد منها مسائل كثيرة فذكر أيضا مسائل مختلفة المعاني وقعت في
المدونة والمستخرجة غيرها من الدواوين نص فيها على أن الجاهل لا يعذر بجهله
بعضها متفق عليها وبعضها مختلف فيها. منها حديث مرعوس في المقرة جهلا
بالزنا؛ ومسألة سماع ابن القاسم في الذي يخير امرأته فتقضي بواحدة فيقال
لها ليس ذلك لك فتريد أن تقضي مرة أخرى بالثلث وتدعي الجهل فيما قضت به؛
ومنها رواية أصبغ عن ابن القاسم في من استحلف أباه في حق له أن شهادته
ساقطة وإن جهل أنه عقوق. وكذلك قاطع الدنانير جاهلا بكراهيته. ومن
الدمياطية في الرجل يرد الرهن إلى الراهن أن ذلك خروج من الرهن ولا يعذر
بالجهل. ومن الواضحة فيمن باع جارية وقال كان لها زوج فطلقها أو مات عنها
وقالت ذلك الجارية لم يجز للمشتري أن يطأها ولا يزوج حتى تشهد البينة على
الصدق أو الوفاة، وإن أراد ردها وادعى أنه ظن أن قول البائع والجارية في
ذلك مقبول لم يكن له ذلك، وإن كان ممن يجهل معرفة ذلك. ومنها قول أشهب في
ديوانه فيمن أعتق أم ولده ثم وطئها في العدة وادعى الجهالة إنه يحد ولا
يعذر كما لو زنى رجل وادعى أنه لم يعلم بتحريم الزنى. وفرق أشهب بين المعتق
والمطلق ثلاثا فيطأ في العدة أو واحدة قبل الدخول فيطأ، فقال في هاتين إن
الولد يلحقه ولا يحد لأنها شبهة لأهل الجهل. وما حكى ابن حبيب عن أصبغ في
المتظاهر يطأ قبل الكفارة أنه يؤدب ولا يعذر بالجهل، وفي الوصي يشتري
النصرانية فيعتقها أنه يضمن وإن أخطأ ولا يعذر بالجهل والخطأ، وذكر حديث
ابن أبي حبيبة الجرو والفناء من الموطأ. ومن قذف عبدا فظهر أنه حر قد كان
أعتق قبل ذلك ولم يعلم القاذف بعتقه، وكذلك إن شرب هو أو قذف أو زنى ولم
يعلم بعتقه أن الحد يجب على قاذفه في قذفه إياه، وعليه فيما واقع من
الحدود. ومن اشترى من يعتق عليه ولم يعلم أنه يعتق عليه. وذكر أيضا
(3/72)
مسائل عنده كثيرة غير هذه، قال: والبيوع
الفاسدة حكم الجاهل فيها والعامد سواء إلا في الإثم. قال: وكذلك الوضوء
والصلاة يستوي فيهما الجاهل والعامد، وكذلك الحج يستوي الجاهل والعامد في
كثير من أحكامه. فأحسن الفقيه ابن عتاب - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيما جمع من
هذه المسائل إلا أنه إنما ذهب إلى ذكر كل مسألة وجد فيها النص من قول قائل
إن الجاهل لا يعذر بجهله وإن خالفه في ذلك غيره ولم يستوعبها وإن كان جمع
كثيرا منها وترك مسائل كثيرة لا يعذر فيها الجاهل بجهله باتفاق وعلى اختلاف
لم يذكرها إذ لم يجد النص فيها بأن الجاهل غير معذور فيها بجهله، منها
مسألة من رأى حمل امرأته فلم ينكره ثم أراد أن ينفيه بعد ذلك، ومنها الشاهد
يرى الفرج يستحل أو العبد يستخدم فلا يقوم بشهادته ولا ينكر ذلك، وغيرها من
المسائل، كأكل مال اليتيم والغاصب والمحارب والمتصدر لفتوى بغير علم،
والطبيب يقتل بمعاناته وهو جاهل بالطب، والشاهد يخطئ في شهادته في الأموال
والحدود، ولم يذكر من هذا كله شيئا. فهذه المسائل على افتراق معانيها أكثر
من أن تحصى أو تحصر بعدد. فأما القاضي ابن بشر - رَحِمَهُ اللَّهُ - فلم
يأت في هذه المسألة بشيء، وأما الفقيه ابن عتاب - رَحِمَهُ اللَّهُ -. فجمع
المسائل التي ذكر ليبين بذلك أن الفقيه أبا عمر الإشبيلي - رَحِمَهُ
اللَّهُ - أخطأ في حصرها إلى سبع مسائل فقصر في النظر وأخطأ في التأويل.
ولم يكن الفقيه أبو عمر الإشبيلي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على كثرة حفظه
وجلالة قدره ممن يجهل هذه المسائل ولا تخفى عليه مواضعها ولا ممن يغلط هذا
الغلط البين. فلما علمت هذا أعملت نظري في معرفة الوجه الذي ذهب إليه فرأيت
أنه يحتمل أن يكون أراد نوعا ما تنحصر مسائله إلى سبع مسائل، واحتمل عندي
أن يكون ذلك النوع هو ما يكون مجرد السكوت فيه على فعل الغير يسقط حق
الساكت ويبطل قيامه باتفاق، لأني وجدت في هذا النوع سبع مسائل لا ثامنة
لها:
إحداها: مسألة الشفعة هذه وما كان في معناها كالغريم يعتق بحضرة غرمائه
فيسكتون ولا ينكرون ثم يريدون القيام عليه، وكالرجل يبيع العبد على أنه
بالخيار فيتركه بيد المبتاع حتى يطول الأمر بعد انقضاء أيام الخيار ثم يريد
استرجاعه بما
(3/73)
اشترط من الخيار ويدعي الجهل في سكوته على
بقائه بيد المبتاع بعد انقضاء أيام الخيار وما أشبه ذلك.
والثانية: مسألة الحيازة، من حال مال رجل في وجهه مدة تكون الحيازة فيه
عامله فادعى أنه ابتاعه منه صدق مع يمينه ولم يعذر صاحب المال إن ادعى
الجهل فإن سكوته يبطل قيامه.
الثالثة: مسألة المملكة تقضي بالثلاث فيسكت الزوج ولا ينكر ثم يريد
المناكرة بعد ذلك ويدعي الجهل في سكوته، أو لا تقضي بشيء وتسكت حتى توطأ أو
ينقضي المجلس على اختلاف في ذلك ثم تريد أن تقضي وتدعي الجهل، وما أشبه ذلك
كالأمة تعتق تحت العبد فلا تختار حتى يطأها الزوج ثم تريد أن تختار نفسها
وتدعي الجهل في سكوتها حتى وطئها.
والرابعة: مسألة الشاهد يرى الفرج يستحل أو الحر يستخدم أو ما أشبه ذلك من
الحقوق الواجبة لله فيسكت ولا يقوم بشهادته ثم يقوم بها بعد حين ويدعي
الجهل في سكوته.
والخامسة: مسألة المرأة المطلقة يراجعها زوجها فتسكت حتى يطأها ثم تدعي أن
عدتها قد كانت انقضت وتدعي الجهل في سكوتها.
والسادسة: مسألة المرأة تزوج وهي حاضرة فتسكت ولا تنكر حتى يدخل بها الزوج
ثم تنكر النكاح وتقول لم أرض به وتدعي الجهل في سكوتها حتى دخل بها.
والسابعة: مسألة الرجل يباع عليه ماله ويقبضه المشتري وهو حاضر لا يغير فيه
ويدعي أنه لم يرض البيع ويدعي الجهل.
ويحتمل أن يكون أراد سبع مسائل في نوع واحد من معنى الطلاق:
إحداها: مسألة رجل يوصي لمكاتبه - من سماع عيسى من كتاب التخيير والتمليك -
في الذي يملك امرأته أمرها فتقول قد قبلت ثم تصالحه بعد ذلك قبل أن يسأل ما
قبلت ثم تقول كنت أردت ثلاثا لترجع فيما صالحت به أنها لا ترجع على
(3/74)
الزوج بشيء لأنها حين صالحت علمنا أنها لم
تطلق ثلاثا ولا تعذر في ذلك إن ادعت الجهالة.
والثانية: الذي يسمع امرأته تقضي بالثلاث فيسكت ثم يريد أن يناكرها بعد ذلك
ويدعي الجهل.
والثالثة: المرأة تختار في التخيير واحدة ثم تريد أن تختار بعد ذلك ثلاثا
وتقول جهلت وظننت أن لي أن أختار واحدة.
والرابعة: المملكة أو المخيرة يملكها زوجها أو يخيرها فلا تقضي حتى ينقضي
المجلس على قول مالك الأول، ثم تريد أن تقضي بعد ذلك وتقول جهلت وظننت أن
ذلك بيدي متى شئت.
والخامسة: التي يقول لها زوجها إن غبت عنك أكثر من سنة فأمرك بيدك فيغيب
عنها ويقيم بعد السنة المدة الطويلة من غير أن تشهد أنها على حقها ثم تريد
أن تقضي وتقول: جهلت وظننت أن الأمر بيدي متى شئت.
والسادسة: الأمة تعتق تحت العبد فتتركه يطؤها ثم تريد أن تختار وتزعم أنها
جهلت أن الخيار كان لها.
والسابعة: الرجل يجعل أمر امرأته بيد غيرها فلا يقضي المملك حتى يطأها
زوجها ثم يريد أن يقضي ويقول جهلت وظننت أن ذلك لا يقطع ما كان لي من
القضاء فيما ملكت، وبالله تعالى التوفيق.
فصل واختلف قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيما كان متشبثا بالأصول ومتصلا
به كالثمرة والزرع والكراء ورقيق الحائط إذا بيعوا مع الحائط، والرحى إذا
بيعت مع الأصل، والماء والنقض إذا بيعا دون الأصل، فمرة قال في ذلك كله
الشفعة لتعلقه بأصل ما فيه الشفعة، ومرة قال إن ذلك كالعروض المنفصلة من
الأرض فلا شفعة فيها. وبالله تعالى التوفيق لا شريك له ولا ند.
(3/75)
فصل فأما التمرة فلا فرق في وجوب الشفعة
فيها عند من أوجبها، وهو قول مالك في المدونة استحسانا، قال وما علمت أنه
قال أحد من أهل العلم قبلي إن فيها الشفعة، بين أن تباع دون الأصل بعد
زهوها أو مع الأصل بعد الزهو أو قبله بعد الإبار على مذهب ابن القاسم. وأما
إن بيعت قبل الإبار فلا شفعة فيها إذ لم يقع عليها حصة من الثمن، وإنما
يأخذها على مذهب ابن القاسم ما لم تجذ أو تيبس إذا كان البيع وقع فيها قبل
الإبار من جهة الاستحقاق لا من جهة الاستشفاع. وقد فرعتها في تفسير هذه
المسألة وما يتعلق بها من كتاب العيوب فلا وجه لإعادة ذكرها، وبالله
التوفيق لا شريك له.
فصل وكذلك الزرع أيضا لا فرق عند من رأى الشفعة فيه بين أن يباع دون الأصل
إذا حل بيعه أو مع الأصل بعد أن ينبت أو قبل أن ينبت وقد قيل إنه ما لم
ينبت فلا شفعة فيه أصلا إذ لم يقع عليه حصة من الثمن كالثمرة التي لم تؤبر.
والصواب أنه قد وقع عليه حصة من الثمن وأن الشفعة فيه واجبة بخلاف الثمرة
التي لم تؤبر، وبالله التوفيق.
فصل والخلاف في وجوب الشفعة فيه قائم من المدونة لأنه على إسقاط الشفعة فيه
بأن بيعه لا يجوز حتى ييبس، فيلزم على هذا التعليل أن تجب الشفعة فيه إذا
بيع قبل أن ييبس على مذهب من يجيز ذلك من أهل العلم، أو يرى العقد فيه فوتا
إذا وقع من أصحابنا وإذا بيع مع الأصل خلاف ما نص عليه في المدونة، ومثل
ظاهر ما في سماع أشهب من قول مالك إن الشفعة في الأرض وفي كل ما أنبتت
الأرض. وبالله تعالى التوفيق.
(3/76)
فصل وعلى هذا الاختلاف يتركب طرو الشفيع
على الرجل في أرضه المبذورة قبل طلوع البذر فيها أو بعد طلوعه، وبالله
التوفيق.
فصل فإذا طرأ الشفيع على الرجل في أرضه المبذورة قبل أن يطلع البذر فيها
مثل أن تكون الأرض بين الشريكين فيبيع أحدهما نصيبه منها فيريد الشريك
الأخذ بالشفعة وهي مبذورة قبل طلوع البذر فيها فلا يخلو الأمر في ذلك من
ثلاثة أحوال:
أحدها: أن يكون المبتاع هو الباذر لها.
والثاني: أن يكون البائع هو الذي بذرها أو باعها مبذورة.
والثالث: أن يكون البذر لغيرهما مثل مكتر أو ممنوح أو ما أشبه ذلك. فأما إن
كان المبتاع هو الذي بذرها فيأخذها الشفيع ويبقى البذر للمبتاع الذي بذره
على مذهب من يحمل محمل البيع فلا يصح له الأخذ بالشفعة إلا بعد طلوع البذر.
. وقيل إنه يأخذه مع الأصل بقيمة البذر والعمل، وقيل بقيمته على الرجاء
والخوف بمنزلة السقي والعلاج في الثمرة. وأما إن كان البائع هو الباذر لها
فيأخذها الشفيع مبذورة بجميع الثمن على القول الذي يرى في الزرع الشفعة.
وعلى القول الذي لا يرى في الزرع الشفعة يأخذها بما ينوبها من الثمن على
القول الذي يحمل الأخذ بالشفعة محمل الاستحقاق، وأما على القول الذي يحمل
الأخذ بالشفعة محمل البيع فلا يأخذها حتى يبرز الزرع. وأما إن كان غيرهما
هو الباذر لها فيأخذ الأرض بالشفعة دون البذر بجميع الثمن، ولا كلام في هذا
الوجه.
(3/77)
فصل وكذلك إن طرأ على الأرض والبذر قد نبت
فلا يخلو من الثلاثة الأحوال المذكورة، غير أن الوجهين يستوفي الحكم فيهما.
وهو أن يكون البذر للمبتاع أو يكون لأجنبي فيأخذ الشفيع فيهما الأرض دون
الزرع بجميع الثمن. وأما إن كان البذر قد بذره البائع فيأخذ الشفيع الأرض
والزرع بجميع الثمن على القول الذي يرى الشفعة في الزرع، ويأخذ الأرض دون
الزرع بما ينوبها من الثمن على القول الذي لا يرى في الزرع شفعة وأما إن
طرأ الشفيع بعد يبس الزرع فلا شفعة فيه ويأخذ الأرض بجميع الثمن إن كان
البذر للمبتاع أو لأجنبي، وإن كان البذر للبائع أخذ الأرض بما ينوبها من
الثمن.
فصل وأما طرو المستحق على الأرض فلا يخلو من وجهين:
أحدهما: أن يستحق الأرض والزرع.
والثاني: أن يستحق الأرض دون الزرع.
فأما إذا استحق الأرض والزرع مثل أن يزرع الرجل أرضه فيتعدى عليه فيها رجل
فيبيعها فهو بالخيار بين أن يجيز البيع ويأخذ الثمن وبين أن يأخذ أرضه
بزرعها ولا كلام في هذا الوجه.
وأما إذا استحق الأرض دون الزرع فلا يخلو الأمر من ثلاثة أحوال أيضا:
أحدها: أن يكون الزرع بذره المستحق منه.
والثاني: أن يكون بذره البائع.
والثالث: أن يكون لأجنبي.
فأما إن كان بذره المستحق منه وهو غاصب فحكمه حكم الغاصب وهو معلوم، وإن لم
يكن غاصبا فلا شيء للمستحق في الزرع ولا له قلعه وإنما له الكراء إن لم يكن
الإبان قد فات.
(3/78)
وأما إن كان البذر لأجنبي بوجه صحيح فهو له
ويأخذ المستحق أرضه وله على الزارع الكراء إن كان أكرى منه هو، وإن كأن
الغاصب هو الذي أكراها منه فله الكراء أيضا إن كان الإبان لم يفت، وإن كان
الإبان قد فات جرى ذلك على الاختلاف في غلة الأرض المغصوبة، وقد تقدم القول
فيها.
وأما إن كان بذر الزرع البائع فباع الأرض مبذورة من المستحق منه فيأخذ
المستحق أرضه وينفسخ البيع في الزرع ويرجع المبتاع بجميع الثمن على البائع.
وفي كتاب ابن المواز أن الزرع يبقى للمبتاع، وهو بعيد. فهذا وجه القول في
طرو كل واحد منهما على انفراد، وهو يغني على القول في طروهما معا وبالله
التوفيق.
فصل وأما الكراء فإنما الاختلاف في وجوب الشفعة فيه إذا انفرد عن بيع
الأصل، ولا يتصور فيه غير ذلك وبالله التوفيق.
فصل وأما رقيق الحائط والرحى فإنما الاختلاف في وجوب الشفعة فيهما إذا بيعا
مع الأصل، فإن انفرد البيع فيهما على الأصل لم يكن فيهما شفعة باتفاق.
فصل وأما الماء فلا اختلاف في وجوب الشفعة فيه إذا بيع شقص منه مع الأصل أو
دونه ولم تقسم الأرض. واختلف في وجوب الشفعة فيه إذا قسمت الأرض، فقال في
المدونة إنه لا شفعة فيه. وروى يحيى عن ابن القاسم في العتبية أن فيه
الشفعة. فذهب سحنون وابن لبابة إلى أن ذلك ليس باختلاف من القول، إلا أنهما
اختلفا في تأويل الجمع بينهما، فقال سحنون معنى مسألة المدونة أنها بئر
واحدة فلا شفعة فيها إذ لا تنقسم. .
(3/79)
والشفعة تكون فيما ينقسم دون ما لا ينقسم.
وقال ابن لبابة معنى مسألة المدونة أنها بئر لا فناء لها ولا أرض ومعنى
رواية يحيى أن لها فناء وأرضا مشتركة تكون فيها القلد. وذهب القاضي أبو
الوليد إلى أن ذلك اختلاف من القول، وأن الاختلاف في ذلك جار على الاختلاف
فيما لا ينقسم كالنخلة والشجرة تكون بين النفر، إذ لا تنقسم العين والبئر
كما لا تنقسم النخلة والشجرة. وكان من أدركت من الشيوخ يقول إن ذلك اختلاف
من القول وإن الاختلاف في ذلك جار على اختلاف قول مالك فيما هو متعلق
بالأرض ومتشبث به كالنقض والنخل دون الأرض والكراء وما أشبه ذلك. وبالله
التوفيق.
فصل وأما النقض فلا خلاف في وجوب الشفعة فيه إذا بيع مع الأصل لأنه تبع له.
واختلف في وجوب الشفعة فيه إذا بيع ثم طرأ عليه من الاستحقاق ما يوجب
للمستحق فيه الشركة أو باع أحد الشريكين حظه من النقض دون الأصل وهو من
التساوي على صفة يجوز فيه البيع لوجوب قسمه مع الأصل على قولين قائمين من
المدونة. وكذلك إن كان النقض القائم بين الشريكين والعرصة لغيرهما فباع
أحدهما حظه من النقض لشريكه فيه الشفعة على الاختلاف المذكور إن أبلى صاحب
العرصة أن يأخذه لأنه مبدأ عليه ليس من أجل أنه شفيع، ولكن من أجل قول
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا ضرر ولا ضرار» . وقد
اختلف هاهنا ممن يأخذ رب العرصة النقض وبما يأخذه. فقيل إنه يأخذه من
المبتاع بالقيمة مقلوعا، وقيل بالثمن الذي ابتاعه به، وقيل بالأقل من
القيمة أو الثمن. وقيل إنه إنما يأخذه من البائع بقيمته مقلوعا أو بالأقل
من القيمة أو الثمن وينفسخ البيع فيه بينه وبين المبتاع، فيرجع على البائع
بالثمن الذي دفع إليه. وكل ذلك قد تؤول على ما في المدونة. والأظهر منها
أنه إنما يأخذه من البائع بالأقل من القيمة أو الثمن، والأظهر
(3/80)
في القياس أن يأخذ من المبتاع بالقيمة
مقلوعا. وهذا كله على القول بجواز بيع الأنقاض قائمة على القلع، وهو مذهب
ابن القاسم في المدونة خلاف قول أشهب وسحنون، وبالله التوفيق.
فصل وفي شراء النقض على الهدم أو النخل على القلع والشفعة في ذلك مسائل لم
تستوعبها المدونة، وأنا أذكر منها ست مسائل مشروحة بعللها هي أصلها وعليها
مدارها، فمن فهمها ووقف على معانيها استدل بها على سائرها إن شاء الله..
إحداها: أن يشتري النخل على القلع ثم تستحق الأرض أو بعضها.
والثانية: أن يشتري النخل على القلع ثم يشتري الأرض بعد ذلك فتستحق الأرض
أو بعضها.
والثالثة: أن يشتري الأرض أولا ثم يشتري النخل فيستحق الأرض أو بعضها.
والرابعة: أن يشتري النخل على القلع ثم يشتري الأرض فيستحق رجل نصف الأرض
ونصف النخل.
الخامسة: أن يشتري الأرض أولا ثم يشتري النخل بعد ذلك، فيستحق رجل نصف
الأرض ونصف النخل.
والسادسة: أن يشتري النخل على القلع فيستحق رجل نصف الأرض ونصف النخل.
فصل فأما المسألة الأولى وهي أن يشتري النخل على القلع ثم يستحق رجل
(3/81)
الأرض فقال فيها في المدونة إن لمستحق
الأرض أن يأخذ من المبتاع النخل بقيمتها مقلوعة وليس من وجه أنه شفيع، إذ
لا شركة له معه فيها، ولكن من وجه أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: «لا ضرر ولا ضرار» وإن شاء خلى بينه وبين قلعها، وهذا
صحيح على مذهب ابن القاسم في أن شراء الأنقاض على القلع جائز وإن كان من حق
صاحب العرصة أن يأخذها بقيمتها مقلوعة. وأما على القول بأن ذلك لا يجوز
فيفسخ البيع فيها وترجع إلى بائعها ولا يكون لمستحق الأرض عليها سبيل. وقال
سحنون ينظر في ذلك فإنه لا يخلو أن يكون البائع للنقض غاصبا للأرض أو
مشتريا لها. فإن كان غاصبا فإن المستحق يدفع إليه أعني البائع وهو الغاصب
قيمة النخل مقلوعة ويأخذها إن شاء وينتقض شراء المشتري لها، وإن شاء أسلمها
إليها فقلعها. وإن لم يكن غاصبا فالمستحق، وإنما له أن يأخذ منه الثمن الذي
دفع إليه في النخل على القلع لأنها قد استحقت منه، كمن باع سلعة بمائة ثم
باعها من آخر بتسعين فأخذها المبتاع الأول فليس الثاني أن يأخذ من البائع
الثمن الذي أخذه من المبتاع الأول، وإنما له أن يرجع عليه بالثمن الذي دفع
إليه لأن السلعة استحقت من يده. فإن قال مستحق الأرض لا أعطيه قيمة البناء،
قيل للبائع أعطه قيمة الأرض براحا ويتم البيع للمبتاع في النخل ويقلعها على
ما اشتراها عليه، فإن أبى من ذلك أيضا كانا شريكين في الأرض والنخل هذا
بقيمة النخل قائمة والمستحق بقيمة الأرض بيضاء، وينتقض شراء المشتري فيما
صار لمستحق الأرض من الأنقاض ويمضي شراؤه فيما صار منها للبائع إن كان الذي
صار له منها جلها ويرجع عليه من الثمن بقدر ما صار منها للمستحق. وإن كان
الذي صار منها للبائع غير الجل مما يكون للمشتري أن يرد فليس له أن يمسك
وإن كان الجزء معلوما لأن ما يصير له بالقسمة منه مجهول، إذ لا يقسم إلا مع
الأرض على اختلاف في هذا الأصل في غير ما كتاب من المدونة.
فصل فإن استحق نصف الأرض فإن المستحق يأخذ نصف الأنقاض وهو ما قابل النصف
المستحق بقيمتها مقلوعة على مذهب ابن القاسم. وأما النصف الثاني
(3/82)
فحكى عبد الحق عن بعض شيوخه أنه يأخذه
بالشفعة بالثمن، وليس ذلك بصحيح، إذ لم تجب الشركة بينهما فيه إلا بعد
البيع فلا وجه للشفعة فيه. وإنما الصحيح أن يأخذ بقيمته مقلوعا لقول النبي
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا ضرر ولا ضرار» وينظر في النصف
المستحق على مذهب سحنون المتقدم إن كان البائع غاصبا أو مشتريا بمثل ما
تقدم، وبالله التوفيق.
فصل وأما المسألة الثانية وهي أن يشتري النخل على أن يقلعها ثم يشتري الأرض
فيستحقها رجل فإن المبتاع يرجع على البائع بثمن الأرض التي استحقت من يده
ثم يكون الحكم بين مبتاع النخل وبين المستحق في الأنقاض على ما تقدم في
المسألة الأولى من قول ابن القاسم وسحنون، وبالله تعالى التوفيق.
فصل وأما المسألة الثالثة وهي أن يشتري الأرض أولا ثم يشتري الأنقاض فيستحق
الأرض رجل فإن المستحق للأرض هاهنا لا يأخذ الأنقاض على مذهب ابن القاسم
إلا بقيمتها قائمة، لأنه زاد في ثمن الأنقاض ليبقيها في أرضه، فليس هو
بمنزلة من اشتراها للقلع. كذا حكى عبد الحق في كتابه وهو صحيح. وينبغي على
هذا إن أبى أن يدفع إليه قيمتها قائمة أن يقال للمشتري أعطه قيمة أرضه
براحا، فإن أبى من ذلك أيضا حملا على الشركة على ما تقدم. وينبغي على مذهب
سحنون أن ينظر، فإن كان البائع غاصبا كان للمستحق أن يدفع إليه قيمة النقض
منقوضا وينقض البيع فيه بينه وبين المشتري فيرجع عليه بالثمن الذي دفع
إليه، فإن أبى من ذلك مضى النقض للمشتري بشرائه وبقي فيه على حقه والمستحق
على حقه فيها. فإن لم يتفقا في ذلك على شيء يجوز بينهما بيعت الدار وقسم
الثمن بينهما على قدر قيمة الأنقاض قائمة وقيمة العرصة براحا. وإن
(3/83)
كان البائع للأنقاض مشتريا قيل للمستحق
ادفع إليه قيمة الأنقاض قائمة، فإن فعل انتقض البيع فيها، وإن أبى من ذلك
قيل للبائع ادفع إليه قيمة البقعة براحا. فإن فعل كانت له البقعة وللمبتاع
النقض، فإن اتفقا فيهما على شيء يجوز بينهما وإلا بيع الجميع فاقتسما الثمن
على القيم، فإن أبى من ذلك أيضا حملا من الشركة على ما تقدم، وانتقض البيع
فيما صار من النقض للمستحق ومضى فيما صار منه للبائع على ما تقدم من
التفسير أيضا.
فصل وأما المسألة الرابعة وهي أن يشتري النخل على القلع أولا ثم يشتري
الأرض فيستحق رجل نصف الأرض والنخل؛ والخامسة وهي أن يشتري الأرض أولا ثم
يشتري النقض في صفقة أخرى فيستحق رجل نصف الأرض والنخل، ففيهما ثلاثة
أقوال:
أحدها: أنه لا شفعة في النخل، وهو قول أشهب وأحد قولي ابن القاسم في
المدونة.
والثاني: أن الشفعة فيها، وهو أحد قولي ابن القاسم في المدونة.
والثالث: أن الشفعة فيها إن كان اشتراها قبل الأرض، ولا شفعة فيها إن كان
اشترى الأرض قبلها، وهو اختيار محمد بن المواز.
فأما على القول بوجوب الشفعة في النخل فيأخذ المستحق نصف الأرض ونصف النخل
بالشفعة بنصف الثمنين، وإن شاء أخذ نصف الأرض بالشفعة وترك نصف النخل
فقلعها المبتاع في المسألة الرابعة، وبقي على حقه فيها في المسألة الخامسة،
إذ لم يشترها على القلع. وإن شاء أخذ النخل بالشفعة وترك الأرض.
وأما على القول بألا شفعة في النخل، فاختلف هل يكون له أن يأخذها بالقيمة
من أجل قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ضرر ولا
ضرار» على قولين:
أحدهما: أن ذلك ليس له.
(3/84)
والثاني: أن ذلك له.
فإذا قلنا إن ذلك له فيأخذ بالقيمة قائما في المسألتين على ما في بعض
روايات المدونة. وعلى قياس ما حكى عبد الحق لا يأخذه بالقيمة قائما إلا في
المسألة الخامسة وهي إذا تقدم شراء الأرض قبل النخل، وبالله تعالى التوفيق
لا شريك له ولا ند.
فصل وأما المسألة السادسة وهي أن يشتري النخل خاصة على أن يقلعها فيستحق
رجل نصف الأرض ونصف النخل، فإن البيع ينتقض فيما بقي في يد المشتري من
النخل مما لم يستحق على البائع، ويرجع بجميع الثمن على البائع، إذ لا يقدر
على الوصول إلى نصف ما اشترى إلا أن يقاسم البائع للمستحق الأرض مع النخل،
وهو إذا قاسمه قد يقل ما يصير له في نصيبه لجودة الأرض أو يكثر لرداءتها،
فلا يجوز له أن يتمسك بما بقي في يد البائع منها لأن ذلك مجهول فينتقض
البيع، كما قال ابن القاسم فيمن اشترى نصيب رجل في نخل وشريكه غائب على
القلع إن ذلك لا يجوز، لأنه لا يستطاع قسمة النخل وحدها دون الأرض فيؤول
ذلك إلى الجهل إذا قسم مع غيره. على أن ابن القاسم - رَحِمَهُ اللَّهُ - قد
قال في المدونة إذا اشترى نقض دار على أن يقلعه ثم أتى رجل فاستحق نصف
الدار إنه يكون له أن يرد ما بقي في يديه من النقض مما لم يستحق على
البائع. وظاهر قوله له أن يرد التخيير وأن له أن يمسك، وهو كلام فيه نظر،
إلا أن يكون معنى ما تكلم عليه ابن القاسم أن الأرض والنقض متساو لا يختلف
في القسمة وإنما يصير له فيه النصف حقيقة، وهو معنى قول سحنون في هذه
المسألة إنها تجوز في حال ولا تجوز في حال. وجواب ابن القاسم فيها في
المدونة على القول بأنه لا شفعة في النقض، ولذلك قال يخير المبتاع. ولو
تكلم فيها على القول بوجوب الشفعة في النقض لبدأ بتخيير الشفيع قبل تخيير
المبتاع على المعلوم من مذهبه في ذلك، خلاف قول أشهب وسحنون، وبالله
التوفيق لا شريك له.
(3/85)
فصل وقد اختلف عي الشركة التي يوجبها الحكم
هل تجب الشفعة بها قبل تقررها أم لا على قولين.
أحدهما. أن لا شفعة في ذلك، وهي رواية أشهب عن مالك في أصل سماعه.
والثاني. أن الشفعة في ذلك واجبة، وهو قول أشهب من رأيه، ونصب الرواية قال:
وسئل مالك فقيل له: إني أعطيته في خيف في وادي خمسين ومائة قفيز بين كل
قفيزين عشرة أذرع، ثم إن بعض أهل ذلك الخيف من أهل الأرض باعوا ذلك الخيف،
فهل لي شفعة فيما باعوا؟ فقال له لا أظن أن لك شفعة. فقال إنهم لم يحدوه
ولم يقسموه ولم يسموا لي في أعلى الحائط ولا في أسفله. فقال ما أرى لك
شفعة، أراهم قد سموا لك أذرعا مسماة، فقال لمالك إنهم لم يسموها في موضع من
الخيف بعينه، فأين أجد ذلك في أعلى الخيف أم في أسفله؟ فقال له لا أدري
اذهب إلى القاضي. قال أشهب: أوهم مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيما أفتى به
الرجل. أرى له في ذلك الشفعة، لأنه أعطاه خمسين ومائة قفيز بأذرع مسماة لم
يعطها له في موضع بعينه حتى تكون معروفة بأعيانها فلا تكون له شفعة، ولكنه
إنما أعطاه أذرعا ليس ذلك له في موضع محدود بعينه حتى يكون بعرف الذي له من
الخيف، وإنما إعطاء من الخيف عدد أذرع يكون له شريكا في الخيف أعلاه وأسفله
بقدرها من عدد الأذرع كلها، بمنزلة الذي يكون له في حائط مائة نخلة فيهب
منها لرجل محشر بخلاف لا يسميها بأعيانها فيكون شريكا له في الحوائط
بالعشر. فإن باع الواهب أو الموهوب له قبل القسم كان في ذلك الشفعة. وفي
المجموعة لأشهب وابن نافع مثل قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنه لا شفعة
في ذلك، إلا أن أشهب تأول أنه إنما وهب القفز دون الأرض، فلذلك لم ير له
شفعة.
وقد نزلت هذه المسألة بصاحبنا الفقيه أبي القاسم أصبغ بن محمد - رَحِمَهُ
اللَّهُ - في قرية نسان، وذلك أن صاحبها توفي فابتاع من بعض ورثته حظوظهم،
وكان صاحبها قد باع قبل موته فيها من غيره مبذر زوجين على الإشاعة، فطلبه
(3/86)
بالشفعة، فأفتينا فيها من غير ذكر رواية
على ما يوجبه القياس والنظر ألا شفعة له في ذلك عليه، وكان المبتاع للزوجين
قد أعلم القاضي يومئذ بمسألته، فقال له لك الشفعة ووعده أن يقضي له بذلك.
فلما اتصل به ما قلنا أنكر الفتوى وظن أنها خطأ، فأخذ معي فيها فحاججته على
رد قوله وتصحيح ما ذهبنا إليه. فلما لزمته الحجة ولم يقدر على القضاء مع
مخالفة الفتوى رجع عن قوله بوجوب الشفعة وقال إن الذي يبطلها فساد البيع في
الزوجين على الوجه المذكور، فطالبه الفقيه ابن القاسم بالحكم له بإبطال
الشفعة عنه للقائم بها عليه على مذهبه الذي رآه، فقضى له بذلك وأشهدنا على
قضائه به وحكمه، وزعم أن العلة عنده في فساد البيع الجهل بمبلغ أرض القرية
لأنه اشترى على الشركة إذ لم يشترط الخيار فكأنه اشترى جزءا مجهولا يعرف
مبلغه إن كان ثلثا أو ربعا إلا بعد تكسير أرض القرية. وهذا غير صحيح، لأن
ما اشترى لا يزيد بزيادة أرض القرية ولا ينقص بنقصانها، لأنه إنما اشترى
زوجين على الشركة في أرض القرية، فإن وجد تكسيرها عشرة أزواج كان له منها
الخمس وإن وجد ثمانية كان له منها الربع، وربع الثمانية وخمس العشرة سواء،
فلا غرر في ذلك ولا جهل، والبيع صحيح إذا كان قد وقف على أرض القرية وعرف
كريمها من لئيمها.
ومن أهل العلم من زماننا من ذهب إلى أن البيع لا يجوز في ذلك على مذهب ابن
القاسم في المدونة إذا كانت الأرض مختلفة في الطيب، ولا على قول غيره فيها
وإن كانت مستوية قياسا على قولهما في كتاب كراء الأرضين في اكتراء الأرض
مزارعة، وقال إن العلة في المنع من ذلك عند ابن القاسم إذا كانت الأرض
مختلفة، وعند غيره إن كانت مستوية أن الحكم يوجب القسمة، فكأنه اشترى ما
يخرج له فيها بالقسمة. وهذا ظاهر البطلان، إذ لو صحت هذه العلة لما أجاز
ابن القاسم الكراء إذا استوت الأرض ولا أجاز اشتراء جزء على الإشاعة من دار
ولا أرض لأن الحكم يوجب القسمة فيأخذ فيها ما يخرج له السهمة. وقد أجمع أهل
العلم على جواز ذلك. وإنما معنى مسألة المدونة أن الكراء إنما وقع على أن
يختار المكتري فيأخذ من أي موضع شاء من الأرض، فأجازه ابن القاسم إذا استوت
الأرض وإن أمكن أن تختلف الأغراض في نواحيها قياسا على قولهم في إجازة
(3/87)
شراء ثوب يختاره المشتري من ثياب صنفها
واحد وإن اختلفت صفاتها، ولم يجزها إذا اختلفت الأرض كما لم يجز شراء ثوب
على أن يختاره من أصناف. ولم يجز ذلك عند غير ابن القاسم وإن استوت الأرض
لاختلاف الأغراض في نواحيها على مذهب من لا يجيز البيع في الثياب على
الاختيار حتى تكون صنفا واحدا وصفة واحدة. والدليل على صحة تأويلنا هذا في
هذه المسألة أنها تنقسم في الاحتمال إلى أربعة أقسام:
أحدها: أن يكون الكراء وقع على أن يعطيه المكري من أي موضع شاء.
والثاني: أن يكون وقع على أن يضربا على الأرض بالسهام فيأخذ من الموضع الذي
وقع السهم عليه.
والثالث: أن يكون وقع الأمر مسكوتا عليه.
والرابع: أن يكون وقع على أن يختار المكتري فيأخذ من أي موضع شاء فأما على
أن يعطيه المكري من أي موضع شاء أو على أن يأخذ من الموضع الذي وقع عليه
السهم بالقرعة فلا يصح أن يكونا تكلما على ذلك لأن ذلك لا يجوز عند أحد من
العلماء. وكذلك لا يصح أن يكونا تكلما على أن البيع وقع مسكونا عليه على
حكم الشركة لأن البيع لو كان وقع على ذلك لوجب أن يكون صحيحا عندهما جميعا،
اختلفت الأرض في الطيب والكرم أو استوت في ذلك على ما بيناه فلم يبق إلا ما
تأولناه وهو أن البيع إنما انعقد بينهما على أن يأخذ المكتري الأذرع التي
اكترى حيث شاء من الأرض على ما بيناه. وإنما يفسد البيع في هذه المسألة إن
كان مبذر الزوجين غير معلوم القدر، وقد نص على ذلك ابن القاسم في رواية
عيسى عنه في المدونة.
[فصل فتوى ابن رشد بإبطال حكم قاضي قرطبة في
قضية شفعة]
فصل وقول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في أنه لا شفعة في ذلك أصح من مذهب
أشهب
(3/88)
على ما أفتينا به، وقد أتيت في جوابي حينئذ
من الحجة بعد جواب الفقيه ابن عتاب - رَحِمَهُ اللَّهُ - بما يقتضي توجيه
الرواية وتصحيحها، ونصه: تصفحت- رحمنا الله وإياك- سؤالك ووقفت عليه وما
جاوب به الفقيه أبو محمد - أكرمه الله- من أنه لا شفعة لمبتاع مبذر الزوجين
من القرية على إشاعة فيما بيع منها بعد ذلك صحيح وبه أقول، لأن مذهب مالك -
رَحِمَهُ اللَّهُ - وجميع أصحابه ألا شفعة في الأصول إلا فيما بين الشركاء
على ما ثبت من «قضاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
بالشفعة فيما بين الشركاء ما لم تقع الحدود» . والشريك بإجماع أهل العلم
إنما هو الذي يشارك الرجل في رقبة المال بجزء معلوم على الإشاعة، ولا يختص
أحدهما دون صاحبه بضمان ما يطرأ عليه من هلاك أو غصب أو استحقاق. هو مبتاع
مبذر الزوجين من القرية على الوجه الذي ذكرت في سؤالك ليس بشريك في القرية
للبائع منه ولا لمن انتقلت إليه بالابتياع منه أو من ورثته، لأنه إنما
ابتاع منه مساحة معلومة من أرضها. فهي بمنزلة من اشترى ثوبا من ثياب ولم
يعينه ولا اشترط الخيار، وإن كان الحكم يوجب في ابتياع مبذر الزوجين عند
التشاح أن تكسر جميع أرض القرية فيعرف ما يقع مبذر الزوجين منها فيأخذه
حيثما وقع له بالقرعة على حكم الشركة إذا لم يعينا في تبايعهما الموضع الذي
يأخذ منه مبذر الزوجين، قالا في تبايعهما على الإشاعة أو سكتا عنه، الحكم
في ذلك سواء، لأنه إن طرأ على شيء من أرض القرية استحقاق أو غصب أو هلاك لم
يلزم مبتاع الزوجين من ذلك شيء ما لم تكسر أرض القرية فيشهدا على أنفسهما
بالرضى بالتشارك فيها على ما يقع تكسير الزوجين من تكسير جميع القرية، وهذا
ما لا اختلاف فيه أعلمه بين أحد من أهل العلم. فإذا صح هذا على ما بيناه
وجب ألا شفعة له على المبتاع لمبذر الزوجين. ومعنى قول أهل العلم في مثل
هذا البيع إنه جائز وهما شريكان إنما هو أن الحكم يوجب القسمة بينهما عند
التشاح على حكم الشركة لا أنهما شريكان من الآن بعقد البيع، هذا ما لا يصح
أن يتأول عليهم بوجه. ولو وقع البيع بينهما في مبذر الزوجين على هذا بشرط
أن يكون المبتاع لمبذر الزوجين شريكا للبائع في القرية بما يبلغ تكسيرها من
تكسير جميع أرض القرية إذا كسراهما حتى تكون المصيبة منهما جميعا على حسب
ذلك فيما يطرأ على القرية بعد البيع من غصب أو
(3/89)
استحقاق كان بيعا فاسدا لمآل الأمر بالشرط
إلى ابتياع جزء مجهول لا يعلم إلا بعد التكسير، وبالله التوفيق.
فصل ولو باع منه مبذر الزوجين من القرية على أن فيها عشرة أزواج قبل أن
يتحقق تكسيرها لما وجب أن يكونا شريكين فيها بعقد البيع إلا على مذهب من لا
يرى على البائع في مثل هذا البيع حق توفية، ويجعل اشتراط المبتاع على
البائع عشرة أزواج كصفقة اشترى عليها، فإن وجد تكسير القرية عشرة أزواج
فأكثر لزمهما البيع ولم يكن لواحد منهما خيار، وإن وجد تكسير القرية أقل من
عشرة أزواج فإن المبتاع مخير بين أن يتمسك ببيعه بجميع الثمن أو يرد ويرى
الضمان من المبتاع إن غرقت الأرض أو غصبت لا على من يرى على البائع فيه حق
توفية ويجعل الضمان منه إن غصبت أو غرقت قبل التكسير، ويرى أن ما وجد فيها
من زيادة على العشرة الأزواج التي اشترط عليه فلا حق للمبتاع فيها وأنه
يكون شريكا بالزوجين اللذين ابتاع، فلا يكون له من القرية إلا سدسها إن وجد
تكسيرها اثني عشر زوجا. وإن وجد تكسيرها أقل من عشرة أزواج سقط عنه من
الثمن بحساب ذلك. فانظر هذا الأصل والاختلاف فيه في سماع أشهب وعيسى وأبي
زيد من كتاب جامع البيوع، وفي نوازل سحنون من الكتاب المذكور ومن كتاب
العيوب، وفي سماع عيسى أيضا من كتاب النكاح. وإنما يكون المبتاع شريكا
للبائع بالزوجين إذا اشتراهما على الإشاعة من القرية بعد تكسير القرية
والوقوف على حقيقة ذلك، فهذا تحقيق القول في هذه المسألة وبالله تعالى
التوفيق لا شريك له.
فصل ويجب إذا اشترى زوجين من القرية على الإشاعة ولم يسميا عدد أزواج
القرية فاستحق من القرية شيء أو غصب قبل التكسير فقلنا إن المبتاع يكون له
الزوجان مما بقي ويشارك البائع بقدر ذلك ألا يجبرا على ذلك إن أبى أحدهما
وأراد رد البيع، لأن من حجة المبتاع أن يقول الذي استحق أو ذهب أفضل وأطيب
فلا أرضى أن أخذ من الباقي، ومن حجة البائع أن يقول الذي بقي أفضل وأطيب
فلا أرضى أن تأخذ منه،. وبالله تعالى التوفيق.
(3/90)
|