المقدمات
الممهدات [كتاب القسمة]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على محمد ... وبالله
أستعين وعليه أتوكل كتاب القسمة قال
الله عز وجل: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى
وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا
مَعْرُوفًا} [النساء: 8] . وقال تعالى: {مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ
نَصِيبًا مَفْرُوضًا} [النساء: 7] . وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أيما دار قسمت في الجاهلية فهي على قسم الجاهلية،
وأيما دار أدركها الإسلام ولم تقسم فهي على قسم الإسلام» . وقال - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزوة حنين لما سأله الناس أن يقسم بينهم
مغانمهم وألحوا عليه في ذلك: «أتخافون ألا أقسم بينكم ما أفاء الله عليكم،
والذي نفسي بيده لو أفاء الله عليكم مثل سمر تهامة نعما لقسمته بينكم ثم لا
تجدونني بخيلا ولا جبانا ولا كذابا» .
فصل فالحكم بقسمة ما ينقسم إذا دعا إلى ذلك بعض الأشراك واجب، ويبيع ما لا
ينقسم وقسمة ثمنه بينهم إذا دعا إلى الانفصال في ذلك بعضهم لازم، لا
(3/91)
اختلاف بين أهل العلم في هذه الجملة. وإنما
اختلفوا عند تفصيلها في تعيين ما ينقسم وفي صفة القسم فيما ينقسم على ما
سنبينه إن شاء الله تعالى.
[فصل فيما تكون فيه القسمة]
فصل فالقسمة تكون في شيئين:
أحدهما: رقاب الأموال.
والثاني: منافعها.
فأما قسمة الرقاب فإنها تكون على ثلاثة أوجه:
قسمة قرعة بعد تقويم وتعديل.
وقسمة مراضاة بعد تعديل وتقويم.
وقسمة مراضاة بغير تقويم ولا تعديل. ولكل وجه من هذه الوجوه الثلاثة أحكام
اختصت بها دون ما سواها.
فأما قسمة القرعة بعد التعديل والتقويم فهي القسمة التي يوجبها الحكم ويجبر
عليها من أباها فيما ينقسم، ولا يصح إلا فيما تماثل أو تجانس من الأصول
والحيوان والعروض، لا فيما اختلف وتباين من ذلك، ولا في شيء من المكيل
والموزون، ولا يجمع فيها حظ اثنين في القسم. ويجب القيام فيها بالغبن إذا
ثبت لأن كل واحد منهما دخل على قيمة مقدرة وذرع معلوم، فإذا وجد نقصا من
ذلك وجب له الرجوع به.
وأما قسمة المراضاة بعد التقويم والتعديل فتصح في الجنس الواحد وفي الأجناس
المختلفة المتباينة وفي المكيل والموزون إلا فيما كان منه صنفا واحدا مدخرا
لا يجوز فيه التفاضل. وهذه القسمة أيضا متى ظهر فيها غبن في ذرع أو قيمة
كان للمغبون الرجوع بذلك للعلة التي قدمناها. وكذلك قسمة المراضاة
والمهايأة
(3/92)
بغير تعديل ولا تقويم تجوز في الجنس الواحد
وفي المختلف من الأجناس أيضا، وفي المكيل والموزون إلا فيما لا يجوز فيه
التفاضل من الطعام إلا أنه لا قيام فيها لواحد منهم على صاحبه بالغبن، لأنه
لم يأخذها أحد على قيمة مقدرة ولا على ذرع معلوم ولا على أنه مماثل لما خرج
عنه، وإنما أخذه بعينه على أن يخرج فيما سواه من جميع حقه سواء كان أقل منه
أو أكثر كبيع المكايسة سواء.
فصل وهذه القسمة لا يختلف فيها أنها بيع من البيوع، وإنما يحكم فيها بحكم
البيع فيما يطرأ من الاستحقاق والرد بالعيوب وسائر الأحكام المتعلقة
بالبيوع. وأما القسمة على الوجهين الأولين فاختلف هل هي تمييز حق أو بيع من
البيوع، فنص مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في المدونة على أنها بيع من البيوع.
وذهب سحنون إلى أنها تمييز حق. ويوجد من قوله ما يدل على خلاف مذهبه.
واضطرب قول ابن القاسم في ذلك على ما تقتضيه مسائله في المدونة وغيرها.
ووجه قول من قال إنها بيع من البيوع هو أن كل واحد من المتقاسمين عاوض
صاحبه في حصته بحصته فملك حصة صاحبه من الجزء الذي صار إليه بحصته من الجزء
الذي خرج عنه، وهذه معاوضة محضة، والمعاوضة مبايعة. ووجه قول من قال إنها
تمييز حق أنها غير موقوفة على اختيار المتقاسمين بل قد تجوز فيها المخاطرة
بالقرعة، وذلك ينافي البيع، فثبت أنها لتمييز الحق. والأظهر في قسمة القرعة
أنها تمييز حق، وفي قسمة المراضاة بعد التعديل والتقويم أنها بيع من
البيوع.
وأما قسمة المراضاة بعد تعديل ولا تقويم فلا اختلاف أنها بيع من البيوع في
جميع الأحكام كما ذكرنا.
فصل والقرعة إنما جعلت في القسمة تطييبا لأنفس المتقاسمين، وأصلها قائم من
كتاب الله عز وجل وسنة نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فأما
الكتاب فقوله تعالى في قصة يونس عليه
(3/93)
السلام: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ
الْمُدْحَضِينَ} [الصافات: 141] . وفي قصة مريم: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ
إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ
لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران: 44] . وأما السنة فهي ما روي
«أن رجلا أعتق أعبدا له ستة عند موته فأسهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهم فأعتق ثلث ذلك الرقيق» . وقوله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم
لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا» . وإنما أسهم رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين العبيد في العتق ليقاسم الميت للورثة
فيأخذ له الثلث ويعطي الورثة الثلثين، فهذا أصل صحيح في القضاء بالسهمة في
القسمة فيما كان مماثلا من العروض والأصول أو متجانسا، وما يوجبه الحكم
فجائز أن يتراضى عليه من غير حكم، وبالله التوفيق.
فصل ورقاب الأموال تنقسم في القسمة على ثلاثة أقسام: مكيل وموزون، وحيوان
وعروض، ورباع وأصول.
فصل فأما المكيل والموزون فلا يخلو من أن يكون صنفا واحدا أو صنفين فزائدا.
فإن كان صنفا واحدا فلا يخلو أيضا من أن يكون صبرة واحدة أو صبرتين فزائدا.
فأما إن كان صبرة واحدة فلا خلاف في وجوب قسمه على الاعتدال في الكيل
والوزن إذا دعا إلى ذلك أحد الشركاء، ولا في جواز قسمته على الاعتدال في
الكيل والوزن وعلى التفضيل البين، كان ذلك مما يجوز فيه التفاضل أو من
الطعام المدخر الذي لا يجوز فيه التفاضل. ويجوز ذلك كله بالمكيال المعلوم
والمجهول، وبالصنجة المعلومة والمجهولة. ولا خلاف أيضا في أن قسمته جزافا
(3/94)
بغير كيل ولا وزن ولا تحر لا تجوز، لأن ذلك
غرر ومخاطرة وإن كان من الطعام المدخر دخله أيضا عدم المماثلة.
وأما قسمته تحريا فلا تجوز في المكيل، وتجوز في الموزون. ويدخل في جواز ذلك
من الاختلاف ما يدخل في جواز بيعه تحريا.
فصل وأما إن لم يكن من صبرة واحدة فلا يخلو من أن يكون مما يجوز فيه
التفاضل مثل: محمولة وسمراء وقمح وشعير ونقي ومغلوت فلا تجوز قسمته إلا على
الاعتدال في الوزن بالصنجة المعروفة فيما يوزن، لأنهما إذا اقتسما القمح
والشعير بالمكيال المجهول فأخذ أحدهما القمح والثاني الشعير وإن اعتدلا في
الكيل واقتسما الزائد من القمح على الشعير أو الشعير على القمح بينهما
بنصفين إن وجدا في أحدهما زيادة على الآخر، لأن ما كان من القمح مساويا
للشعير وبالشعير في الكيل فقد بادل كل واحد منهما صاحبه في نصفه بالمكيال
المجهول، ولا تجوز مبادلة القمح بالشعير بالمكيال المجهول، كما لا يجوز بيع
أحدهما بالمكيال المجهول، لأن ذلك غرر، إذ لا يدري ما يقع المكيال المجهول
من المعلوم، لأن الذي يأخذ الشعير يقول لو علمت أنه يبلغ هذا العدد لم أرض
أن آخذ الشعير فأعطيه القمح. ولو اقتسما القمح على حدة والشعير على حدة
لجاز بالمكيال المجهول على ما تقدم في الصبرة الواحدة. وأما إن كان مما
يجوز فيه التفاضل مثل ما لا يدخر من الأطعمة ومثل الحناء والعصفر وشبه ذلك
فيجوز قسمه على الاعتدال والتفاضل البين بالمكيال المعلوم والصنجة
المعروفة. ولا يجوز بالمكيال المجهول
(3/95)
ولا بالصنجة المجهولة لأن ذلك غرر على ما
بيناه في الصبرتين من جنس واحد لا يجوز فيه التفاضل مثل قمح وشعير.
وأما في واجب الحكم فلا تقسم كل صبرة إلا على حدة.
وإذا قسمت كل صبرة على حدة جازت قسمتها بالمكيال المجهول كما تجوز بالمكيال
المعلوم، لأن قسمة الصبرة الواحدة على الكيل تمييز حق وليس ببيع. وكذلك إن
كان صنفين تجوز قسمته على الاعتدال في الكيل والوزن، وعلى غير الاعتدال.
ولا يجوز ذلك إلا بالمكيال المعلوم والصنجة المعلومة. وأما في واجب الحكم
فلا يقسم كل صنف إلا على حدة. وإذا قسم كل صنف على حدة جاز ذلك بالمكيال
المعلوم والمجهول حسب ما مضى بيانه وبالله تعالى التوفيق.
فصل ولا تجوز القرعة في قسم شيء مما يكال أو يوزن.
فصل أما الحيوان والعروض فقسمتهما على التراضي من غير سهمة جائزة باتفاق،
ولا اختلاف بين أهل العلم في ذلك.
وأما قسمتهما بالتعديل والسهمة فمنع من ذلك عبد العزيز بن أبي سلمة
الماجشون في سماع يحيى من كتاب القسمة، وقال إنها تباع ويقسم الثمن، وأجازه
مالك وأصحابه في الصنف الواحد ومنعوا منه في الصنفين.
فصل وفي تمييز الصنف الواحد من الصنفين في ذلك اختلاف بين أصحاب مالك -
رَحِمَهُ اللَّهُ -. أما أشهب فأجرى القسمة في ذلك مجرى البيع وحملها عليه
فقال: إن ما جاز سلم بعضه في بعض فلا يجوز جمعه في القسمة بالسهمة وأما ابن
القاسم فلم
(3/96)
يجر قوله على قياس، لأنه جعل القسمة في بعض
المواضع أخف من البيع فأجاز القسمة بالسهمة فيما يجوز سلم بعضه في بعض،،
وجعلها في بعض المواضع أشد من البيع فمنع من القسمة بالسهمة فيما هو عنده
في البيع صنف واحد لا يجوز أن يسلم بعضه في بعض، وذلك قوله في المدونة إنه
تقسم الخيل على حدة والبراذين على حدة والبغال على حدة والحمير على حدة،
إلا أن يتأول عليه أنه أراد أن يقسم الخيل على حدة والبراذين على حدة
والبغال على حدة والحمير على حدة إذا كان في كل صنف منها ما يحمل القسمة،
فيكون ذلك مثل ظاهر قوله في البز في أحد الموضعين من المدونة، ومثل قول
عيسى بن دينار من رأيه في سماعه من كتاب القسمة في قسمة الأرض الدنية
والكريمة. وهذا أولى ما حمل عليه قوله والله أعلم. فيتحصل من مذهبه على هذا
التأويل ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه يجمع الخيل والبراذين والبغال والحمير في القسمة إن كان كل صنف
منها يحتمل أن يقسم على حدة.
والثاني: أنه لا يجمع في القسمة إلا أن يكون كل صنف منها لا يحتمل أن يقسم
على حدة.
والثالث: أنه لا يجمع في القسم بحال وإن لم يحتمل أن يقسم كل صنف على حدة.
وكذلك البز والثياب على هذا القياس يكون فيه ثلاثة أقوال: وذهب ابن حبيب
إلى أنه يجمع في القسمة ما تقارب من الصنفين، فجعل الخز والبز والحرير صنفا
واحدا، والقطن والكتان صنفا، والصوف والمرعزى صنفا، والفراء وإن اختلفت
أجناسها صنفا.
فصل وأجاز أشهب جمع صنفين في القسمة بالسهمة إذا رضي الشريكان بذلك، ومثله
موجود لابن القاسم في المدونة في مسألة الشجرة والزيتونة، وذلك معترض لأنه
إن كان غررا فلا يصح الرضا به، وإن لم يكن غررا فيلزم الحكم به.
(3/97)
فصل وأما الثوب الواحد والبعير الواحد وما
أشبه ذلك فلا يقسم بين الشريكين إلا أن يتراضيا بذلك لأن في قسمه فسادا له.
وكذلك الحكم في كل ما هو زوج لصاحبه لا يستغني أحدهما عن صاحبه مثل النعلين
والخفين والبابين وما أشبه ذلك.
فصل وأما الرباع والأصول فيجوز أن تقسم بالتراضي وبالسهمة إذا عدلت
بالقيمة، اتفق أهل العلم على ذلك اتفاقا مجملا، ولم يقل ابن أبي سلمة في
ذلك ما قال في الحيوان والعروض إنها لا تقسم بالسهمة.
فصل ولا يجمع في القسمة الدور مع الحوائط ولا مع الأرضين، ولا الحوائط مع
الأرضين، وإنما يقسم كل شيء من ذلك على حدته. واختلف إذا اختلفت الدور في
النفاق أو تباعدت مواضعها هل تجمع في القسمة أم لا على ثلاثة أقوال. وكذلك
اختلف إذا اختلفت الأرضون في الكرم والنفاق أو في السقي على ما سيأتي كل في
موضعه إن شاء الله تعالى.
فصل واختلف في قسمة الدار الواحدة أو الأرض بين النفر فقال مالك: إنها تقسم
بينهم إذا دعا إلى ذلك أحدهم وإن لم يصر في نصيب كل واحد منهم إلا قدر قدم
وما لا منفعة له فيه، ولم يتابعه على ذلك من أصحابه إلا ابن كنانة. وقال
ابن الماجشون لا تقسم إلا أن يصير في حظ كل واحد منهم ما ينتفع به في وجه
من وجوه المنافع، وإن قل نصيب أحدهم حتى كان لا يصير له بالقسمة إلا ما لا
منفعة
(3/98)
فيه في وجه من الوجوه فلا تقسم. وقال ابن
القاسم لا تقسم إلا أن تنقسم من غير ضرر ويصير لكل واحد منهم في حظه موضع
ينفرد به وينتفع بسكناه، ولا يراعي في ذلك نقصان الثمن على مذهبه، وإنما
يراعي ذلك في العروض. وقال مطرف إن لم يصر في حظ واحد منهم ما ينتفع به لم
يقسم، وإن صار في حظ واحد منهم ما ينتفع به قسم دعا إلى ذلك صاحب النصيب
القليل الذي لا يصير له في نصيبه ما ينتفع به أو صاحب النصيب الكبير الذي
يصير له في حظه ما ينتفع به. هذا ظاهر قوله. وقد قيل إنها لا تقسم إلا أن
يدعو إلى ذلك صاحب النصيب القليل، وقيل إنما تقسم إذا دعا إلى ذلك صاحب
النصيب الكبير.
فصل وإذا احتملت ساحة الدار وبيوتها القسمة قسمت كلها قسما واحدا، فجعل لكل
نصيب من البيوت ما يقابله من الساحة وعدل ذلك بالقسمة ثم استهم عليها. وإن
لم تحتمل الساحة القسمة واحتملتها البيوت قسمت البيوت وأقرت الساحة بينهم
يشتركون في الارتفاق فيها كالفناء إلا أن يتفقوا على قسمتها. وأما إن لم
تحمل البيوت القسمة واحتملتها الساحة فالذي يأتي على مذهب ابن القاسم أنها
لا تقسم إلا بالتراضي، لأنها إن جمعت في القسمة السهام خرج سهام بعضهم في
البيوت وبعضهم في الساحة فلم يجز الاستهام على ذلك كالصنفين اللذين لا
يجمعان في القسمة. وذهب ابن حبيب إلى أنه يضم البنيان في القسمة إلى الساحة
حتى كأنه منها ثم يقسم كله قسما واحدا وإن لم تقع السهام كلها في البنيان،
وذلك بعيد، لأن فيه إجازة جمع صنفين في القسمة بالسهام، وذلك ما لا يجوز،
إلا أن يريد مع تراضيهم على ذلك، فيخرج قوله على مذهب أشهب وعلى قول ابن
القاسم في مسألة الشجرة والزيتونة.
فصل والذي جرى به العمل عندنا أن الدار لا تقسم حتى يصير لكل واحد من
الشركاء من الساحة والبيوت ما ينتفع به ويستتر فيه عن صاحبه.
(3/99)
فصل وقد قيل إن الساحة لا تقسم بين الورثة
وإن صار في نصيب كل واحد منهم ما ينتفع به. وإنما تقسم البيوت خاصة. وهو
قول مطرف وتأويله عن مالك في قوله: لا تقسم الساحة بين الورثة وإن حملت
القسم. والأول أصح. ويتأول قول مالك على ساحة الفناء أو على ساحة الدار إذا
أبقوها وقسموها البيوت، وهي تحتمل أن تقسم معها قسما واحدا أو على أنهم
ورثوا الساحة وقد قسمت البيوت. وذهب سحنون إلى أنه إن كان على البيوت حجر
لم تقسم الساحة، وإن لم يكن لها حجر قسمت. جعل الساحة إذا كان للبيوت حجر
كالفناء لا تقسم إلا بالتراضي. وبالله تعالى التوفيق.
فصل والأفنية تنقسم على قسمين:
فناء يكون أمام محور القوم إلى جانب الطريق، فهذا لا يقسم وإن اجتمعوا على
قسمه، لأن لعامة الناس فيه حقا ومرفقا عند تضايق الناس في الزحام. فإن
اقتسموا ردت القسمة وصرف الفناء على حاله. وذهب أصبغ إلى أن ذلك لا يجوز
ابتداء، وإذا وقعت القسمة لم تنقض لما للناس في ذلك من المرفق في بعض
الأحيان. والأول أصح وأولى.
وفناء يكون بين دور القوم ليس إلى جانب الطريق ولا لأحد من المارة فيه
مرفق. فهذا الفناء إن اجتمع أهله على اقتسامه اقتسموه. قال ابن القاسم على
ما تراضوا عليه. وروى ابن وهب وابن نافع عن مالك أنهم يقتسمونه على حال
منازلهم، فإن أبى بعضهم القسمة لم يحكم بها بينهم.
فصل وقد اختلف في الأنادر والمسارح هل تقسم أم لا على قولين. ولا فرق
(3/100)
بين هذا وبين الفناء الذي يكون وسط دور
القوم على غير الطريق، فهذا الاختلاف داخل فيه بالمعنى، وبالله التوفيق.
فصل وإذا اقتسم الشريكان الدار ولم يشترطا أن يقيما بينهما حاجزا فلا يحكم
بذلك عليهم، ويقال لمن دعا إلى ذلك استر على نفسك في حظك إن شئت. وإن
اشترطوا ذلك ولم يحدوه أخذ من نصيب كل واحد منهما نصف فناء الجدار وإن كان
أحدهما أقل نصيبا من صاحبه. وكذلك تكون النفقة بينهما بالسواء إلى أن يبلغ
مبلغ الستر إذا لم يحدوا في ذلك حدا. ولا اختلاف في هذا أعلمه، وإنما
اختلفوا في أجرة القسام فقيل إنها على عدد الرؤوس. وقيل إنها على قدر
الأنصباء. والقولان موجودان لابن القاسم.
فصل ولا يقضي القاضي بقسمة الأصل بين الورثة حتى يثبتوا عنده الموت وعدة
الورثة وأنه كان ملكه وماله لم يفوته إلى أن توفي في علم الشهود بذلك.
وكذلك لا يقضي بالقسمة بين الشركاء حتى يثبتوا عنده ملكهم، وبالله التوفيق.
فصل وأما قسمة المنافع فإنها لا تجوز بالسهمة على مذهب ابن القاسم، ولا
يجبر عليها من أباها ولا تكون إلا على المراضاة والمهايأة. وهي على وجهين:
أحدهما: أن يتهايأ بالأزمان.
والثاني: أن يتهايأ بالأعيان.
فصل فأما التهايؤ بالأزمان، وهو أن يتفقا على أن يستغل أحدهما العبد أو
الدابة أو يستخدم العبد أو يركب الدابة أو يسكن الدار أو يحرث الأرض مدة من
الزمان،
(3/101)
والآخر مثلهما أو أقل أو أكثر. فهذا يفترق
فيه الاستغلال والاستخدام في العبد والركوب في الدابة والسكنى في الدار
والازدراع في الأرض.
فصل فأما التهايؤ على الاغتلال فلا يجوز في المدة الكثيرة باتفاق. واختلف
في المدة اليسيرة كاليوم ونحوه، ففي كتاب محمد لا يجوز ذلك في الدابة
والعبد وإن كان ذلك يوما واحدا. قال محمد: وقد سهل مالك في اليوم الواحد.
فصل وأما التهايؤ في الاستخدام فاتفقوا على أن ذلك لا يجوز في المدة
الكثيرة، واتفقوا على تجويزها في الأيام اليسيرة إلا أنهم اختلفوا في حدها
قال ابن المواز: يجوز في مثل خمسة أيام فأقل ولا يجوز في أكثر. وفي
المجموعة من رواية ابن القاسم عن مالك يجوز في الشهر. قال ابن القاسم:
وأكثر من الشهر قليلا.
فصل وأما التهايؤ في الدور والأرضين فتجوز فيها السنين المعلومة والأجل
البعيد ككرائها، قاله ابن القاسم في المجموعة. ووجه ذلك أنها مأمونة إلا أن
التهايؤ إذا كان في أرض المزارعة فلا يجوز إلا أن تكون مأمونة مما يجوز
فيها النقد، وبالله التوفيق.
فصل وأما التهايؤ في الأعيان بأن يستخدم هذا عبدا وهذا عبدا، أو يغتل هذا
عبدا وهذا عبدا، أو يسكن هذا دارا وهذا دارا، أو يزرع هذا أرضا وهذا أرضا،
ففي المجموعة عن ابن القاسم أن هذا يجوز في سكنى الدار وزراعة الأرض، ولا
يجوز في الغلة والكراء، وذلك على قياس التهايؤ بالأزمان، فيسهل في اليوم
الواحد على أحد قولي مالك فيه، ولا يجوز في أكثر من ذلك باتفاق لأنه غرر
ومخاطرة. وكذلك استخدام العبيد والدواب يجري على الاختلاف المتقدم في
التهايؤ بالأزمان والله
(3/102)
أعلم. وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنه يجبر
على قسمة المنافع في سكنى الدار ولباس الثوب واستخدام العبد من أباه من
الشركاء إذا دعا إلى ذلك أحدهم، كان مما ينقسم أو مما لا ينقسم. فإن كان
مما لا ينقسم قسم بينهم على التهايؤ بالأزمان، وإن كان مما ينقسم قسم بينهم
على قدر حظوظهم فانتفع كل واحد بما صار له في حظه لتلك المدة. واحتج له
الطحاوي بما روي في حديث «المرأة التي وهبت نفسها للنبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال له رجل زوجنيها إن لم تكن لك بها حاجة من قوله
فيه لا أجد إلا إزاري هذا فلها نصفه، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وما تصنع بإزارك إن لبسته لم يكن عليها منه شيء وإن
لبسته لم يكن عليك منه شيء» ، فدل ذلك من قوله على أن الأمر لو تم بينهما
على ذلك لكان لكل واحد منهما لبسه بكماله في حال ما يحق ملكه لنصفه، والله
أعلم.
فصل ومن هذا الباب قسمة الحبس للاغتلال، فقيل إنه يقسم ويجبر على القسم من
أباه وينفذ بينهم إلى أن يحدث عن الموت أو الولادة ما يغيره بزيادة أو
نقصان. واحتج من ذهب إلى ذلك بقولهم فيمن حبس في مرضه على ولده وولد ولده
إن الحبس يقسم على عدد الولد وولد الولد، وبغير ذلك من الظواهر الموجودة في
مسائلهم. وقيل إنه لا يقسم بحال. واحتج من ذهب إلى ذلك بقول مالك في
المدونة: إن الحبس مما لا يقسم ولا يجزأ. وقيل إنه لا يقسم إلا أن يتراضى
المحبس عليهم على قسمته قسمة اغتلال فيجوز ذلك لهم.
فصل والقسمة من العقود اللازمة، فإذا وقعت بين الشركاء فيما تجوز فيه
القسمة على التراضي أو على القرعة بوجه صحيح جائز لزمت ولم يكن لأحدهم
نقضها ولا الرجوع عنها، ولا تنتقض إلا بما يطرأ عليها مما لم يعلم به كطروء
الغريم
(3/103)
والموصى له أو الوارث على التركة بعد
اقتسامها، ففيه إحدى عشرة مسألة:
إحداها: طروء الغريم على الغرماء.
والثانية: طروء الوارث على الورثة.
والثالثة: طروء الموصى له على الموصى لهم.
والرابعة: طروء الغريم على الورثة.
والخامسة: طروء الغريم على الموصى له بالثلث وعلى الورثة.
والسادسة: طروء الموصى له بعدد على الورثة.
والسابعة: طروء الغريم على الغرماء والورثة.
والثامنة: طروء الموصى له بعدد على الموصى لهم وعلى الورثة.
والتاسعة: طروء الموصى له بجزء على الورثة. .
والحادية عشر: طروء الغريم على الموصى لهم بأقل من الثلث وعلى الورثة.
فصل فأما المسألة الأولى والثانية والثالثة وهي طروء الغريم على الغرماء،
وطروء الوارث على الورثة، وطروء الموصى له على الموصى لهم، فحكمها سواء،
وهو أن يتبع الطارئ كل واحد منهم بما ينوبه ولا يأخذ الملي منهم بالمعدم.
وإن وجد بأيديهم ما قبضوا قائما لم يفت أخذ من كل واحد منهم ما يجب له ولم
تنتقض
(3/104)
القسمة إن كان ذلك مكيلا أو موزنا. وإن كان
حيوانا أو عروضا انتقضت القسمة لما يدخل عليه من الضرر في تبعيض حقه.
واختلف هل يضمن كل واحد منهم للطارئ ما ينوبه مما قبض إن قامت له بينة على
تلفه من غير سببه أم لا على قولين:
أحدهما: أنه ضامن لذلك.
والثاني: أنه لا ضمان عليه فيه.
فإذا قلنا إنه ضامن مع قيام البينة فتلزمه القيمة يوم القبض بالتفويت
بالبيع والهبة والصدقة والعتق وما أشبه ذلك. وإذا قلنا إنه لا ضمان عليه مع
قيام البينة فلا يضمن بالتفويت بالعتق والصدقة والهبة والبيع، ولا يلزمه في
البيع إلا الثمن الذي قبض، ويصدق في دعوى التلف إن لم تكن له بينة فيما لا
يغاب عليه دون ما يغاب عليه. ويأتي على ما لأصبغ في سماعه من كتاب النكاح
أنه في العين ضامن دون ما سواه وإن قامت على تلفه بينه. فيتحصل في هذا
ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه ضامن في العين وغيره وإن قامت البينة على تلفه من غير سبب.
والثاني: أنه لا ضمان عليه في العين ولا في غيره إذا قامت البينة على تلفه
من غير سبب.
والثالث: تفرقة أصبغ بين العين وغيره. وعلى القول بأنه لا ضمان عليه إذا
قامت البينة على تلفه يصدق فيما لا يخاف عليه في دعوى التلف مع يمينه.
فصل وأما المسألة الرابعة والخامسة والسادسة، وهي طروء الغريم على الورثة،
وطروءه على الموصى لهم بالثلث وعلى الورثة، وطروء الموصى لهم بعدد على
الورثة فحكمها أيضا سواء. والاختلاف فيها واحد في انتقاض القسمة وفيما يضمن
به كل واحد منهم حظه الذي صار إليه بها. فأما القسمة فتنتقض على رواية أشهب
عن مالك لحق الله تعالى، ولا تنتقض عند أشهب وسحنون. واضطرب قول ابن
(3/105)
القاسم في انتقاضها فمرة قال إنها تنتقض من
جميعهم، فيخرج الدين الطارئ من جملة المال ثم يقسم ما بقي، فتكون المصيبة
فيما مات أو جني عليه أو نقض بحوالة سوق أو غيره من جميعهم، إلا أن يشاؤوا
أن يخرجوا الدين من عندهم ويقروا قسمتهم بحالها، أو يتطوع أحدهم بإخراج
جملة الدين الطارئ من عنده لاغتباطه بحظه فيكون ذلك له ولا تنتقض القسمة،
بمنزلة أن لو وهبه صاحبه. وليس لأحدهم أن يخرج ما ينوبه من الدين ويتمسك
بحظه الذي صار إليه بالقسمة إلا أن يكون الدين ثبت بشهادة أحدهم مع يمين
الطالب فيريد سائر الورثة أن يخرجوا الدين من عندهم ويقرروا القسمة بينهم
ويأبى الشاهد من ذلك فلا يكون ذلك له، لأنه يتهم على أنه إنما أراد نقض
القسمة ليزداد حظه إما لغبن جرى عليه فيها أو لتلف حظه أو بعض حظه بأمر من
السماء أو ما أشبه ذلك. وفي ذلك نظر، لأنه إذا اتهم وجب ألا تجوز شهادته،
وهو قول أشهب. ومرة قال إن القسمة إنما تنتقض بين من بقي حظه بيده أو شيء
منه أو استهلكه أو شيئا منه. وأما من تلف جميع حظه بأمر من السماء فلا يرجع
عليه بشيء من الدين، ولا يرجع هو مع سائر الورثة فيما بقي من التركة بعد
تأدية الدين. وقع هذا له في بعض روايات المدونة. وذهب ابن حبيب إلى أن
القسمة تنتقض بين جميعهم مثل قول ابن القاسم الأول، إلا أن لمن شاء منهم
عنده أن يفك نصيبه بما ينوبه من الدين إلا أن يكون ما بأيدي سائر الورثة قد
تلف شيء منه بموت أو جائحة فليس ذلك له إلا أن يشركهم في ضمان ما مات من
ذلك أو أجيح بأن يحمل نوبه منه. وأما أشهب وسحنون فاتفقا على أن القسمة لا
تنتقض واختلفا في فض الدين على ما بأيديهم، فقال سحنون إنه يفض على قيمة ما
بيد كل واحد منهم يوم الحكم، وقال أشهب في أحد قوليه يفض على الأجزاء التي
اقتسموا عليها زادت قيمتها أو نقصت ما كانت قائمة لم تفت. فعلى قول سحنون
وأشهب سواء ثبت الدين بشاهدين أو بشهادة أحد الورثة مع يمين الطالب، إذ لا
للشاهد بشهادته على مذهبهما.
فصل ولا اختلاف بين جميعهم في أن الورثة لا يضمنون بالقسمة التلف بأمر من
(3/106)
السماء إذا لحق الدين فيلزمهم أن يؤدوا
ذلك. واختلفوا هل يضمنون بالإحداث كالبيع والهبة والصدقة والعتق، فذهب ابن
حبيب إلى أنهم يضمنون بذلك، فيلزمهم أن يؤدوا ولا يرجعوا على الموهوب له
بشيء. وذهب أشهب وسحنون إلى أنهم لا يضمنون بذلك يريد فيرجع صاحب الدين على
الموهوب له ولا يكون له في البيع على المشتري شيء، إلا أن تكون فيه محاباة
فيكون حكمها حكم الهبة. وفي المدونة دليل على القولين جميعا. وما ادعوا
تلفه من الحيوان الذي لا يغاب عليه صدقوا في ذلك مع أيمانهم، بخلاف العروض
التي يغاب عليها. وأما العين والمكيل والموزون من الطعام وغيره فاختلف فيه
إن قامت البينة على تلفه على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنهم يبرؤون من ضمانها، وهو القياس على القول بوجوب الفسخ.
والثاني: أنهم لا يبرؤون من ضمانها، وهو ظاهر قول ابن القاسم في سماع يحيى
من كتاب القسمة.
والثالث: الفرق بين العين وما سواه من المكيل والموزون.
فصل والاختلاف في انتقاض القسمة مبني على اختلافهم في الدين الطارئ على
الميت هل هو متعين في عين التركة أو واجب في ذمة الميت؟ فمن علل بأنه متعين
في عين التركة نقض القسمة. ومن علل أنه إنما يجب في ذمة الميت ولا يتعين في
عين التركة لم ينقض القسمة. وعلى هذا الاختلاف يأتي اختلاف قول مالك فيمن
يبدأ باليمين مع الشاهد في دين المتوفى إن كان الورثة أو الغرماء في مسائل
شتى، منها مسألة النكاح الثاني في الوصي ينفق مال اليتيم على يتاماه ثم
يطرأ عليه دين.
فصل وأما المسألة السابعة وهي طروء الغريم على الغرماء والورثة فالحكم فيها
أن
(3/107)
ينظر، فإن كان فيما أخذه الورثة كفاف دين
الغريم الطارئ رجع عليهم على ما تقدم من وجه العمل في طروء الغريم على
الورثة ولم يكن له رجوع على الغرماء، وإن لم يكن فيه كفاف دينه رجع على
الغرماء ببقية حقه على ما تقدم من وصف العمل أيضا في رجوع الغريم على
الغرماء.
فصل وكذلك الحكم في المسألة الثامنة وهي طروء الموصى له بعدد على الموصى
لهم وعلى الورثة، أن ينظر فإن كان ما أخذه الورثة زيادة على الثلثين هو
كفاف وصية الموصى له الطارئ فلا رجوع له على الموصى لهم، وإن لم يكن في ذلك
كفاف وصيته رجع بتمام وصيته على الموصى لهم على ما تقدم في رجوع الوارث على
الورثة والغريم على الغرماء والموصى له على الموصى لهم.
فصل وأما المسألة التاسعة وهي طروء الموصى له بجزء على الورثة فذهب ابن
حبيب إلى أن ذلك بمنزلة طروء الغريم على الورثة. وذهب ابن القاسم إلى أن
ذلك بمنزلة طروء الوارث على الورثة.
فصل وأما المسألة العاشرة وهي طروء الموصى له بجزء على الموصى لهم بجزء
وعلى الورثة، فالحكم في ذلك أن ينظر فيما أخذه الورثة من الثلث زائدا على
الثلثين، فإن كان فيه كفاف الجزء الطارئ لم يكن له الرجوع إلا على الورثة،
ويرجع عليهم على الاختلاف المتقدم بين ابن القاسم وابن حبيب في صفة رجوع
طروء الموصى له بجزء على الورثة، وإن لم يكن في ذلك كفاف الجزء الطارئ رجع
بالباقي على الموصى لهم على ما تقدم في طروء الموصى له على الموصى لهم.
(3/108)
فصل وأما المسألة الحادية عشر وهي طروء
الغريم على الموصى له بأقل من الثلث وعلى الورثة، فالحكم في ذلك أن ينظر،
فإن كان ما قبض الموصى له يخرج من ثلث ما بقي بعد دين الغريم الطارئ فلا
رجوع للغريم عليه إلا في عدم الورثة، وإن كان لا يخرج من ثلث ذلك فيرجع
بالزيادة على الثلث على من وجد منهم مليا. وأما قدر الثلث فلا يرجع به على
الموصى له إلا في عدم الورثة على ما تقدم. مثال ذلك أن يترك المتوفى ثلاثين
دينارا فيقبض منها الموصى له خمسة ويقبض الورثة خمسة وعشرين ثم يطرأ غريم
له على المتوفى ثمانية عشر دينارا، إذ الثلث على هذا بعد الدين الطارئ
أربعة دنانير وقد قبض الموصى له خمسة دنانير، فإن وجدهم جميعا أملياء رجع
على الموصى له بالدينار الزائد، وعلى الورثة بسبعة عشر دينارا تمام حقه.
وإن وجد الورثة أملياء والموصى له عديم رجع على الورثة بجميع دينه ثمانية
عشر دينارا، واتبع الورثة الموصى له الدينار الزائد على قدر حقوقهم. وإن
وجد الموصى له مليا والورثة عدماء رجع بجميع الخمسة الموصى له واتبع الورثة
بثلاثة عشر تتمة دينه، ورجع الموصى له على الورثة بالأربعة دنانير التي
غرمها عنهم لعدمهم، وبالله التوفيق لا شريك له.
فصل وأما طروء الاستحقاق على أحد الأنصباء بعد القسمة أو وجود العيب به،
فإن كانت القسمة بالقرعة ففي ذلك ثلاثة أقوال:
أحدها: أن القسمة تنتقض كان الاستحقاق قليلا أو كثيرا والأنصباء قائمة أو
فائتة، وتكون وصية ما تلف من جميعهم كلحوق الدين، وهو قول ابن الماجشون
وابنه عبد العزيز على اختلاف الرواية في ذلك في سماع يحيى من كتاب القسمة.
والثاني: أنها لا تنتقض إلا أن يستحق الجل من النصيب أو ما فيه الضرر على
الاختلاف المعلوم في حد ذلك، ويرجع المستحق منه على أشراكه على حكم البيع
في القيام والفوات، كان الفوات باستهلاك أو استنفاق أو إحداث أو أمر
(3/109)
من السماء، الحكم في ذلك سواء، وهو مذهب
ابن القاسم في المدونة.
والثالث: وهو مذهب أشهب وسحنون أن القسمة لا يضمن بها في الاستحقاق لهلاك
بأمر من السماء على رواية أشهب عن مالك في الإخوة الثلاثة الذين اقتسموا
الثلاثة الأعبد فأخذ كل واحد منهم عبدا فمات عبد أحدهم واستحق عبد الثاني،
أن المستحق منه يرجع على الذي بقي عبده بيده بثلثه فيشاركه فيه، ولا رجوع
له على الذي مات عبده بيده لأن القسمة إنما تنتقض فيما بينهما خاصة، وتصح
فيما بينهما وبين الذي مات عبده. ثم إن أشهب وسحنون بعد اجتماعهما على أن
الذي مات عبده لا يضمن في الموت ولا يجب للمستحق منه الرجوع عليه بشيء،
اختلفا هل يضمن بالإحداث كالهبة والصدقة والعتق والبيع وما أشبه ذلك. فذهب
سحنون إلى أنه لا يضمن بشيء من ذلك فيكون للمستحق منه الرجوع عليه في البيع
بما ينوب المستحق من الثمن الذي قبض، ويرجع في عين العبد الموهوب فيشارك
الموهوب له فيه بما ينوبه، وفي عين العبد المعتق، فيقوم ذلك الحظ على
المعتق إن كان موسرا. وذهب أشهب إلى أنه يضمن بجميع ذلك فيكون للمستحق منه
أن يرجع على الذي باع أو وهب أو تصدق أو أعتق بما ينوب المستحق من قيمة ما
فوت بشيء من ذلك يوم صار إليه بالقسمة، وبالله تعالى التوفيق لا شريك له
ولا ند.
(3/110)
|