المقدمات
الممهدات [كتاب الوصايا]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على محمد، وبالله أستعين
وعليه أتوكل كتاب الوصايا أذن الله
تبارك وتعالى لعباده في الوصية وذكرها في غير ما آية من كتابه فقال:
{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12] . وقال
عز من قائل: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء:
11] وَقَالَ {فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ
يَرْجِعُونَ} [يس: 50] . وحض عليها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فقال: «ما حق امرئ مسلم له شيء يوصى فيه يبيت ليلتين إلا
ووصيته عنده مكتوبة» ، مخافة أن يفجأه الموت وتخترمه المنية فتفوته الوصية.
وكذلك قال بعض الرواة في هذا الحديث: «لا ينبغي لأحد عنده مال يوصى فيه
تأتي عليه ليلتان إلا ووصيته عنده مكتوبة» . قال بعض شيوخ صقلية: معناه وهو
موعوك. وأما الصحيح فليس بمفرط في ترك كتاب وصيته. والصواب حمل الحديث على
ظاهره من العموم في الموعوك والصحيح. لأن الصحيح لا يأمن أن تفجأه المنية
فلا يمكنه ما يريد من الوصية،
(3/111)
فليس من الحزم ولا صواب الرأي ترك كتاب
الوصية في الصحة ولا في المرض، وإن كان الأمر في المرض آكد عليه منه في
الصحيحة، لأن المرض سبب من أسباب الموت، وإلى هذا ذهب أبو عمران الفاسي.
فصل ومعنى قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ووصيته
عنده مكتوبة» " يريد مكتوبة قد أشهد عليها، وأما إن كتبها ولم يشهد عليها
ووجدت عنده بعد موته فلا ينفذ ما فيها وإن كانت بخط يده لاحتمال أن يكون
إنما كتبها ليؤامر نفسه ولم يعزم بعد على تنفيذها، والروايات بذلك منصوصة
عن مالك وغيره.
فصل وإن كتب وصيته وأشهد عليها فلا يخلو من أن تكون مطلقة غير مقيدة أو
مقيدة بمرض بعينه أو سفر بعينه أو بلد يعين، أو وقت يعين، أو ما أشبه ذلك.
فإن كانت مطلقة لم يقيدها بشيء وإنما قال إن مت أو إذا مت أو متى ما مت أو
ما أشبه ذلك من الألفاظ المطلقة العامة فإنه ينفد ما فيها باتفاق، سواء
أقرها على يده أو وضعها عند غيره. وكذلك إن أشهد على وصيته ولم يكتب بذلك
كتابا، فإن كان وضعها عند غيره ثم أخذها منه فوجدت عنده بطلت باتفاق، سواء
أخذها منه في صحته أو في مرضه. وأما إن كانت مقيدة بسفر بعينه، أو بمرض
بعينه أو ما أشبه ذلك، فمات من غير ذلك المرض أو في غير ذلك السفر فلا يخلو
من أن يكون كتب بذلك كتابا أو لم يكتبه فأما إن لم يكتب بذلك كتابا وإنما
أشهد به خاصة فلم يختلف قول مالك أن الوصية لا تنفذ. وأما إن كتب بذلك
كتابا فلا يخلو أيضا من أن يكون أقره عنده أو وضعه عند غيره.
فأما إن كان أقره عنده ولم يجعله على يدي غيره فاختلف قول مالك في ذلك،
فمرة أجازها ومرة أبطلها، والقولان قائمان في المدونة. وأما إن كان وضعها
(3/112)
على يدي غيره، فلم يختلف قول مالك أنها
تنفد. ولأشهب في هذه المسألة تفصيل هو مذكور في موضعه.
فصل وتجوز وصية السفيه والمولى عليه لأنه إنما حجر عليه في ماله مخافة
الفقر، والوصية إنما تنفد بعد الموت في حال يؤمن عليه فيه الفقر. وتجوز
وصية المجنون في حال إفاقته، ووصية الصغير الذي يعرف وجوه القرب عند مالك
وأصحابه، خلافا لأبي حنيفة، والشافعي في أحد قوليه.
فصل وقد تعلق من أوجب الوصية بظاهر هذا الحديث وقال إن لفظة الحق تقتضي
الوجوب، وهذا غير صحيح، لأن لفظ الحق إذا قيل فيه عليه فهو محتمل للوجوب
والندب. وأما إذا أضيف إليه وجعل له فقيل فيه من حقه أن يفعل كذلك أو كذا
وكذا، فالأظهر فيه الندب لا الوجوب.
فصل ومما يدل أيضا على أن المراد بالحديث الحض والندب لا الوجوب أن بعض
رواته يقول فيه: له مال يريد أن يوصي فيه، وتعليق الوصية بإرادة الموصي نص
في سقوط وجوبها.
فصل ولو حمل الحديث على الوجوب لكان معناه في الأمور الواجبة عليه من قضاء
الدين ورد الأمانات وأداء ما فرط فيه من الزكوات وما أشبه ذلك من الأمور
المعينات، فإن ما يلزم الرجل في حياته يجب عليه أن يوصي به عند وفاته،
بخلاف الوصية بشيء من ماله في وجه من وجوه البر.
(3/113)
فصل فالوصية بما يتقرب به إلى الله تعالى
مما لا يجب عليه في حياته على مذهب مالك وجمهور أهل العلم، مرغب فيها
ومندوب إليها وليست بواجبة، وهي تجوز للقرابة والأجنبيين إلا أن الوصية
للقرابة أفضل منها للأجنبيين، فينبغي للموصي أن يبدأ به لأن الله بدأ بهم
في غير ما آية من كتابه، فقال تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو
الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} [النساء:
8] وَقَالَ {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى
وَالْمَسَاكِينَ} [البقرة: 177] وَقَالَ {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي
تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} [النساء: 1] أي الأرحام أن تصلوها ولا
تقطعوها. «وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لميمونة زوجته وقد
أعتقت وليدة لها: " لو وصلت بها بعض أخوالك كان أعظم لأجرك» . «وقال -
عَلَيْهِ السَّلَامُ - لأبي طلحة في الحائط الذي تصدق به: " إني أرى أن
تجعله في الأقربين» فقسمه أبو طلحة في أقاربه وبني عمه.
فصل وأما الوصية للوارث فلا تجوز إلا أن يجيزها الورثة. وقد حمل جماعة من
أهل العلم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا وصية
لوارث» على عمومه فلم يجيزوا له الوصية وإن أجازها له الورثة، معناه إلا
على سبيل الهبة منهم له التي تفتقر إلى الحيازة. والصحيح ما ذهب إليه مالك
- رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن المنع إنما تعلق بحق الورثة كالزائد على ثلث
المال، فإذا أجازوه جاز، كالرضى بالعيب، وتسليم الشفعة وما أشبه ذلك. وقد
روي أيضا في بعض الآثار «لا وصية لوارث إلا أن يجيزها الورثة» .
(3/114)
[فصل فيما
تنقسم إليه الوصايا]
فصل والوصايا تنقسم على خمسة أقسام: فمنها ما يجب تنفيذه، ومنها ما لا يلزم
تنفيذه، ومنها ما يختلف في وجوب تنفذه، ومنها ما لا ينبغي تنفيده. فأما ما
يجب تنفيذه فثلاثة أنواع:
أحدها: أن يوصي بما في فعله قربة وفي تركه حرج من الأمور الواجبة كالزكاة
وعتق الظهار وما أشبه ذلك.
والثائي: أن يوصي بما في فعله قربة ولا حرج في تركه كالوصية للمساكين وما
أشبه ذلك.
والثالث: أن يوصي بما يختلف فيه هل فيه قربة أو لا قربة فيه على مذهب من
يرى فيه قربة.
وأما ما لا يجب تنفيذه فنوع واحد وهو ما في فعله حرج من الأمور المحظورات،
كالوصية بإقامة مناحة ميت وما أشبه ذلك.
وأما ما يختلف في وجوب تنفيذه فنوعان:
أحدهما: أن يوصي بما يختلف هل فيه قربة أو لا قربة فيه على مذهب من يرى أنه
لا قربة فيه، كالوصية بالحج على مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -. أوجب مالك
وأكثر أصحابه تنفيذ الوصية بذلك، ولم يوجب ذلك ابن كنانة. والاختلاف في هذا
جار على الاختلاف في تصويب المجتهدين.
والثاني: أن يوصي بما لا قربة في فعله ولا في تركه من الأمور الجائزة،
كالوصية ببيع ملك من أملاكه أو ببيع عبد من عبيده وهو لا يرغب في ذلك، أو
شراء عبد آخر من الثلث للورثة وما أشبه ذلك. وانظر هل يأتي على هذا المعنى
اختلافهم فيمن أوصى بسرف في أكفانه وحنوطه، إذ قد قيل إن الزائد على قدر ما
يجب أن يكفن فيه يكون من الثلث وهو قول سحنون. وقيل إنه يبطل، حكاه ابن
شعبان عن مالك وابن القاسم.
(3/115)
وأما ما لا يلزم تنفيذه فنوعان:
أحدهما: الوصية للوارث.
والثاني: الوصية بما زاد على الثلث.
وأما ما لا ينبغي تنفيذه فنوع واحد وهو المكروه الذي القربة في تركه دون
فعله، كالوصية بإقامة لهو عرس مما استخف وجوز وما أشبه ذلك، فهذا يندب
الورثة إلى ألا ينفذوه، فإن أبوا إلا تنفيذه لم يمنعوا من ذلك.
فصل والوصية بثلث المال فما دونه تجوز في القليل والكثير من المال إلا أن
الموصي يؤمر بحسن النظر للورثة إذا كان المال يسيرا. فقد روي عن علي بن أبي
طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: إذا كان المال يسيرا فليدعه
لوارثه فهو أفضل. وهذا والله أعلم أخذه من قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ
- «إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس» .
فصل وقد اختلف أهل العلم في مقدار المال الذي تستحب فيه الوصية أو تجب عند
من أوجبها. فروي عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال:
ستمائة درهم أو سبعمائة درهم ليس بمال فيه وصية. وقال في ألف درهم فما
دونه، إنه مال فيه وصية. وروي عن ابن عباس أنه قال: لا وصية في ثمانمائة
درهم. وروي عن علي بن أبي طالب أنه قال ألف درهم فما دونها نفقة. وعن عائشة
أنها قالت في امرأة لها ثلاثة آلاف درهم وأربعة من الأولاد لا وصية في
مالها.
فصل ولا يجوز لأحد وصية بأكثر من ثلث ماله وإن لم يكن له وارث خلافا لأبي
(3/116)
حنيفة في قوله إنه يجوز له أن يوصي بجميع
ماله إن لم يكن له وارث. فإذا أوصى الرجل بأكثر من ثلث ماله لم يجز إلا أن
يجيز ذلك الورثة، وإجازتهم لا يخلو من أن تكون في صحته أو في مرضه الذي مات
منه. أو بعد موته.
فأما إذا كان إذنهم له في صحته فلا يلزمهم ذلك باتفاق.
وأما إن أذنوا له في مرضه الذي مات منه فيلزمهم عند مالك إن كانوا مالكين
لأمرهم بائنين عنه بأنفسهم، خلافا لأبي حنيفة والشافعي ولما يدل عليه بعض
أقاويل مالك. قيل إذا استأذنهم بدليل ما في المدونة.
وأما إذا لم يستأذنهم فيلزمهم وإن لم يكونوا بائنين عنه إذا كانوا مالكين
لأمر أنفسهم. وقيل سواء استأذنهم أو لم يستأذنهم لأنهم يقولون بادرنا إلى
الإجازة لتطيب نفسه، لأنا خشينا إن لم نبادر بها أن يحقد بذلك علينا
فيمنعنا رفده.
وأما إن أجازوا بعد موته فذلك لازم لهم باتفاق. واختلف هل يكون ذلك كالهبة
التي تفتقر إلى حيازة أم لا على قولين في المذهب.
وإنما قلنا إن الوصية بأكثر من الثلث لا تجوز لقول رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لسعد بن أبي وقاص: «الثلث، والثلث كثير إنك
أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس» . وقد استحب
جماعة من العلماء أن لا يوصي الرجل إلا بأقل من الثلث لقول رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «والثلث كثير» . وروي عن ابن عباس -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: لو غض الناس من الثلث إلى الربع لأن رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «والثلث كثير» وأوصى عمر
بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بربع ماله، وأبو بكر الصديق بخمس ماله
وقال: رضيت لنفسي في وصيتي بما رضي الله لنفسه من الغنيمة، وتلا:
(3/117)
{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ
شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] . وقال إبراهيم النخعي:
كان الخمس أحب إليهم من الربع، والربع أحب إليهم من الثلث. وقد استحب جماعة
من العلماء الثلث في الوصية لقول رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «إن الله أعطاكم ثلث أموالكم عند وفاتكم زيادة في أعمالكم» .
وهذا إنما ينبغي أن يفعل فيه بالاجتهاد في قلة المال وكثرته. فإذا كان
قليلا فإبقاؤه على الورثة أفضل والله أعلم، لأن الله تعالى أعطاه ثلث ماله
عند وفاته يجعله حيث يراه من وجوه البر، فإذا أبقاه على الوارث نظرا له
لقول رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنك أن تذر ورثتك
أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس» ، فهو أفضل له من صدقته على
الأجنبيين والله أعلم.
فصل إنما أوجب الوصية من أوجبها لقول الله عز وجل: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ
إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ
لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [البقرة: 180] الآية (21) وقد اختلف أهل
العلم في تأويلها اختلافا كثيرا، فالمشهور أنها منسوخة، واختلف الذين رأوا
أنها منسوخة في الناسخ لها ما هو. فقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في موطئه
نسخها ما نزل من قسمة الفرائض. وهذا قول من لم ير نسخ القران بالسنة، وهو
أولى ما قيل فيها، لأنه لا اختلاف أن آية المواريث نزلت بعد آية الوصية.
وقد روي أن الناس في أول الإسلام كانوا يتوارثون الله تعالى لما ذكر فرض
الوالدين قال: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء:
11] فكان يحتمل أن يكون لهما ولا يمكن أن يعلم ذلك إلا بتوقيف من النبي-
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ذلك، أو دليل من قوله - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - ذلك. وقد دل على ذلك من قوله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «إن الله فرض لكل ذي حق حقه في آية المواريث» فبين بذلك أنها
ناسخة لآية الوصية. وأما نسخها بقول رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «لا وصية
(3/118)
لوارث» ، على مذهب من يجيز نسخ القرآن
بالسنة، فلا إشكال فيه، وهي رواية أبي الفرج عن مالك حكى عنه في كتابه أنه
قال: نسخت الوصية للوالدين ما تواتر عن رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «لا وصية لوارث» ، ونسخت الوصية للأقربين آية المواريث. وقيل
نسخت الوصية للوالدين بقوله: {وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
السُّدُسُ} [النساء: 11] ، والوصية للأقربين بقوله: {وَإِذَا حَضَرَ
الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ
فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَعْرُوفًا} [النساء: 8]
فحض على إعطائهم ورغب فيه من غير إيجاب. وقالت طائفة من أهل العلم: نسخ من
الآية فرض الوصية للوالدين وبقي فرض الوصية للأقربين الذي لا يرثون محكما
غير منسوخ. فواجب على الرجل أن يوصي لقرابته الذين لا يرثون، فإن لم يفعل
فقد أثم وأجرم. وإن أوصى بالثلث لغير ذوي قرابته وله قرابة محتاجون صرف ثلث
الميت إليهم في قول بعضهم، وفي قول بعضهم يصرف إليهم ثلث الثلث. وقالت
طائفة: الآية كلها محكمة لم ينسخ منها شيء، وظاهرها العموم فيمن يرث ومن لا
يرث من الوالدين والأقربين، والمراد بها من لا يرث منهم دون من يرث بدليل
آية المواريث وقول رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا
وصية لوارث» . فآية المواريث والسنة الواردة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على مذهب ليست بناسخة لآية الوصية وإنما هي مخصصة لها
ومبينة لمعناها. وقالت طائفة: الآية محكمة فيمن لا يرث دون من يرث من
الوالدين والأقربين، إلا أن المراد بها الحض والندب لا الوجوب بدليل قوله:
{مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 241] لأن
الواجب لا يقال فيه إنه معروف ويستوي فيه المتقي وغير المتقي.
فصل والوصية بالعتق وغيره عدة، للموصي أن يرجع عنها إن شاء في صحته أو
(3/119)
مرضه، سواء كانت وصيته في الصحة أو في
المرض، بخلاف التدبير ليس للمدبر أن يرجع عما دبر في صحته ولا في مرضه. وقد
اختلف إذا قال: إذا مت فعبدي حر هل هو محمول على التدبير حتى يعلم أنه أراد
الوصية بسبب يدل عليها، أو على الوصية حتى يعلم أن أراد التدبير بسبب يدل
عليه. فحمله ابن القاسم على الوصية حتى يعلم أنه أراد التدبير، وحمله أشهب
على التدبير حتى يعلم أنه أراد الوصية.
فصل واختلف بماذا تجب الوصية للموصى له على قولين:
أحدهما: أنها تجب له بموت الموصي مع قبول الموصى له بعد الموت. واختلف على
هذا القول إن مات الموصى له بعد موت الموصي قبل أن يقبل، فقيل إن ورثته
ينزلون في القبول أو الرد منزلته، وهو قول مالك في المدونة، وقيل إن الورثة
لا ينزلون منزلته في ذلك وتبطل الوصية وترجع ميراثا لورثة الموصي، وإلى هذا
ذهب أبو بكر الأبهري حكاه عنه عبد الوهاب في المدونة.
والقول الثاني: أنها تجب له بنفس موت الموصي دون القبول، وهو أحد قولي
الشافعي. فعلى قوله إن مات الموصى له بعد موت الموصي وجبت الوصية لورثته،
ولم يكن لهم أن يردوها إلا على وجه الهبة لورثة الموصي إن قبلوا، والله
أعلم.
فصل والوصايا خارجة من الثلث فيما علم الموصي من المال، ولا تدخل في ما لم
يعلم به، بخلاف المدبر في الصحة فإنه يدخل فيما علم وفيما لم يعلم. واختلف
في التدبير في المرض والعتق البتل في المرض، فقيل إنهما لا يدخلان فيما لم
يعلم به من المال، وهو ظاهر ما في المدونة، وقيل إنهما يدخلان فيما علم به
وفيما لم يعلم، وهو الذي يأتي على ما في سماع عيسى من كتاب الديات من
العتبية، لأنه نص فيه أن التدبير في المرض يدخل فيما لم يعلم. وإذا دخل فيه
المدبر في المرض فأحرى أن يدخل فيه المبتل في المرض. وقد قيل إنه يدخل
المدبر في
(3/120)
المرض ولا يدخل المبتل في المرض، وهي رواية
أصبغ عن ابن القاسم في بعض روايات العتبية، ومثله لابن القاسم في المدونة،
وهو بعيد، لأن المبتل في المرض آكد من المدبر فيه. ألا ترى أن ابن الماجشون
يبدئه عليه عند ضيق الثلث. وإنما يقول ابن القاسم إنهما يتحاصان لقرب ما
بينهما عنده في التأكيد. فلو قيل إن المبتل في المرض يدخل فيما لم يعلم ولا
يدخل فيه المدبر في المرض بعكس رواية أصبغ وما لابن القاسم في المدنية لكان
الأظهر، والله أعلم.
فصل وإن ضاق الثلث عن الوصايا بدئ الآكد فالآكد لا الأقدم فالأقدم، وما كان
بمنزلة واحدة في التأكيد تحاصوا في الثلث وإن كان بعضها أقدم من بعض، إلا
أن ينص الموصي على تبدئة بعضها على بعض فيبدأ بالذي نص على تبدئته اتباعا
لوصيته وإن كان غيرها من الوصايا آكد، ما لم يكن مما لا يجوز له الرجوع عنه
كالمبتل في المرض، والمدبر فيه أو في الصحة.
فصل وما يجب إخراجه من رأس المال يبدأ على ما يجب إخراجه من الثلث.
فصل فالذي يجب إخراجه من التركة قبل وقوع المواريث فيها ينقسم على قسمين:
أحدهما: ما يجب إخراجه من رأس المال.
والثاني: ما يجب إخراجه من الثلث.
فأما ما يجب إخراجه من رأس المال فإنه ينقسم أيضا على وجهين:
أحدهما: الحقوق المعينات.
والثاني: الحقوق التي ليست بمعينات.
فأما الحقوق المعينات فتخرج كلها وإن أتت على جميع التركة، وذلك مثل
(3/121)
أم الولد، وزكاة تمر الحائط الذي يموت عنه
صاحبه وقد أزهت، وزكاة الماشية إذا مات عند حلولها عليه وفيها السن التي
تجب فيها الزكاة، وما أقر به المتوفى من الأصول والعروض بأعيانها لرجل أو
قامت على ذلك بينة.
فصل وأما الحقوق التي ليست بمعينات فإن كان في التركة وفاء بها أخرجت كلها،
وإن لم يكن فيها وفاء بها بدئ الآكد فالآكد منها، وما كان بمنزلة واحدة
تحاصوا في ذلك، وبالله التوفيق.
فصل فآكد الحقوق وأولاها بالتبدئة من رأس المال عند ضيقه عنها الكفن وتجهيز
الميت إلى قبره. وقد روي عن سعيد بن المسيب في أحد قوليه إن الكفن من
الثلث. والصحيح ما عليه الجماعة أنه من رأس المال. والدليل على ذلك ما ثبت
أن «مصعب بن عمير قتل يوم أحد فلم يترك إلا شملة كانوا إذا غطوا بها رأسه
بدت رجلاه، وإذا غطوا بها رجليه بدا رأسه، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " غطوا رأسه واجعلوا على رجليه من الإدخر» . وما ثبت
أيضا «أن رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. أمر بدفن قتلى
أحد بدمائهم وثيابهم» من غير أن يعتبر ما يبقي لورثتهم أو لدين إن كان
عليهم، وهذا بين. ثم حقوق الآدميين من الديون الثابتة على المتوفى بالبينة
العدلة أو بإقراره بها في صحته أو في مرضه لمن لا يتهم عليه، ثم حقوق الله
تعالى المفترضات من الزكوات على مراتبها والكفارات والنذور إذا اشهد على
نفسه في صحته بوجوب ذلك عليه في ذمته، فيبدأ من ذلك كله في رأس ماله الآكد
فالآكد، كما يبدأ من ذلك الآكد فالآكد في ثلثه إذا فرط فيه في حياته فأوصى
به أن يؤدي عنه بعد وفاته. وزكاة الماشية إذا مات عند حلولها عليه وليس
فيها السن التي تجب
(3/122)
فيها الزكاة، تجري في التبدئة مجرى ما لم
يخرجه عند حلوله وأشهد به على نفسه في صحته.
فصل وأما ما يجب إخراجه من الثلث فيخرج كله على وجهه إن كان فيه وفاء به،
فإن لم يكن فيه وفاء به فيبدأ الآكد فالآكد. وما استوى من ذلك أو تقارب لم
يبدأ بعضه على بعض ووقع في ذلك التحاص. وبالله التوفيق.
فصل فأول ما يخرج من الثلث المدبر في الصحة. وصداق المريض إذا دخل في مرضه.
وقد اختلف فيهما فقيل إنهما سواء يتحاصان. وقيل يبدأ المدبر في الصحة. وقيل
يبدأ صداق المريض، والثلاثة الأقوال لابن القاسم. ثم بعد ذلك ما فرط فيه من
زكاة الحرث والعين والماشية، ثم ما فرط فيه من زكاة الفطر عند ابن القاسم
خلاف ما ذهب إليه ابن الماجشون وغيره. ثم العتق في الظهار وقتل النفس في
الخطأ. وقد اختلف فيهما فقيل إنهما سواء يتحاصان، وقيل يقرع بينهما، وقيل
ذلك إلى الورثة يعتقون على أي الكفارتين شاءوا، يريد إن اتفقوا، فإن
اختلفوا رجع ذلك إلى القرعة وقيل تبدأ كفارة قتل النفس، وذلك إذا لم يكن في
الثلث إلا رقبة واحدة. وأما إن كان في الثلث رقبة وإطعام ستين مسكينا فتعتق
الرقبة في القتل ويطعم على الظهار باتفاق. وقد قيل إنه إذا لم يكن في الثلث
إلا رقبة واحدة وفضل لا يبلغ الإطعام إنه يبدأ بالظهار ويشترك فيما بقي من
كفارة قتل النفس. ثم كفارة اليمين، ثم كفارة الفطر في رمضان متعمدا، ثم
كفارة التفريط في قضاء رمضان. وهذا دليل ما في كتاب الصيام من المدونة. وقد
قيل إن الطعام لقضاء رمضان يبدأ على كفارة اليمين عند ابن القاسم، والأول
أظهر. ثم النذر قاله ابن أبي زيد يريد إذا أوصى به. ثم العتق المبتل في
المرض. والمدبر في المرض. وقد اختلف فيهما فقيل إنهما سواء يتحاصان وقيل
يبدأ المبتل في المرض، وقيل يبدأ المدبر في المرض، وهذا إذا كانا في فور
واحد.
(3/123)
وأما إن كان أحدهما قبل صاحبه فيبدأ الأول
منهما. والنذر الذي يوجبه على نفسه في المرض ينبغي أن يكون بمنزلتهما. ثم
بعد هذا الموصى بعتقه بعينه، والموصى أن يشترى فيعتق، والموصى بعتقه على
مال إذا عجل المال، والموصى بكتابته إذا عجل الكتابة، والموصى بعتقه إلى
شهر وما أشبهه لا يبدأ أحد منهم على صاحبه ويتحاصون. وقد قيل إن الذي أوصى
بعتقه أو بشرائه للعتق يبدأ على المعتق إلى أجل قريب، وعلى الموصى بعتقه
على مال وإن عجل المال. وعلى الموصى بكتابته وإن عجل الكتابة. وقد قيل إن
الموصى بعتقه بعينه يبدأ على الموصى بشرائه للعتق. ثم بعد هذه الخمسة
الموصى بعتقه إلى سنة. ثم الموصى بعتقه سنتين. والموصى بكتابته لا يبدأ
أحدهما على صاحبه. وقيل إن الموصى بعتقه إلى سنة كالموصى بعتقه إلى سنين.
قال غير ابن أبي زيد: ثم النذر، وهو بعيد، لتبدية الموصى بعتقه عليه، لأن
الوصية بالعتق يصح الرجوع فيها والنذر لازم لا رجوع فيه، فهو إذا أوصى به
أوكد منه وقول ابن أبي زيد أصح. ثم الوصية بالعتق بغير عينه وبالمال
وبالحج. وقد اختلف في ذلك فقيل إنها كلها سواء في التحاص، وهو أحد قولي
مالك في المدونة. وقيل يبدأ الحج على العتق، وقيل يبدأ العتق على الحج
ويتحاص مع المال، وهو قوله الثاني فيها. ووجه هذا القول أن العتق عنده
آكدها، ثم يليه المال، ثم يليه الحج، فيتحاص العتق مع المال ولا يبدأ
أحدهما على صاحبه لقرب ما بينهما في التأكيد. ويتحاص أيضا المال مع الحج
ولا يبدأ أحدهما على صاحبه لقرب ما بينهما في التأكيد، ويبدأ العتق على
الحج لبعد ما بينهما على ما رتبناه.
ووجه العمل فيه أن يتحاص العتق والمال والحج، فما ناب العتق والحج بدئ فيه
العتق على الحج، ولم يكن للحج من ذاك إلا ما فضل عن العتق. وقد قيل يبدأ
الحج ثم يتحاص في المال والعتق. وقيل يبدأ العتق ويتحاص في المال والحج.
وسواء كانت الوصية بالمال جزءا أو عددا فإن اجتمعا جميعا الوصية بالعدد
والجزء فقيل إنهما سواء يتحاصان، وقيل يبدأ الجزء. وقيل يبدأ العدد. وهذا
الاختلاف موجود لمالك وابن القاسم، ومعناه في الصرورة. وأما في حجة التطوع
فلم يختلف قولهما في أن العتق مبدأ عليهما، ولا في أن الحج لا يبدأ على
المال.
(3/124)
واختلف قول ابن القاسم هل يبدأ المال على
الحج أو يتحاصان. فله في سماع عيسى أنهما يتحاصان. وفي المدنية لأن الوصية
بالمال تبدأ. وقال ابن وهب: يبدأ الحج على العتق ولم يفرق بين الصرورة
وغيره، والقياس على مذهب مالك أن الوصية بالعتق بغير عينه وبالمال يبدآن
على الوصية بحجة الإسلام، لأنه لا يرى أن يحج أحد عن أحد. فلا قربة في ذلك
عنده على أصل قوله.
فصل وذهب ابن الماجشون إلى خلاف هذا الأصل فقال إن التدبير في الصحة يبدأ
على العتق المبتل في المرض، والعتق المبتل في المرض يبدأ على العطية
المبتلة في المرض، والعطية المبتلة في المرض تبدأ على التدبير في المرض،
والتدبير في المرض يبدأ على الزكاة التي فرط فيها. والزكاة التي فرط فيها
تبدأ على كفارة قتل الخطأ، وعتق كفارة قتل الخطأ يبدأ على عتق كفارة
الظهار. قال: وكل ما نوعت لك من هذا فسواء كان في فور واحد أو فور بعد فور،
إنما يبدأ الأوجب فالأوجب والأثبت فالأثبت على ما فسرت لك. والذي ذهب إليه
ابن الماجشون أقوى في الحجة مما ذهب إليه ابن القاسم. وذلك أن للموصي أن
يرجع فيما أوصى به من الزكاة ولا يجوز له أن يرجع عما بتله أو دبره في
المرض. وما لا يجوز له الرجوع فيه. وأيضا فإنه يتهم على أنه أراد أن يرجع
فيما بتله أو دبره فأوصى بزكاة ليست عليه. وحكى عبد الوهاب في المعونة أن
الوصية بالعتق المعين تبدأ على الزكاة، وهو بعيد في القياس، ووجهه اتباع
ظاهر الحديث. روي أن رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أمر
أن تبدأ العتاقة على الوصايا، فعم ولم يخص» . وحكى ابن زرب أن الشيوخ
أجمعوا على أن الوصية بالحج تبدأ على كل شيء المدبر وغيره. وكان أبو عمر
الإشبيلي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يرى تبدئة ما أوصى به في فك أسير على جميع
الوصايا المدبر في الصحة وغيره. ويحتج لذلك برواية أشهب عن مالك في كتاب
الجهاد، حكى ذلك عنه ابن عتاب وقال إن الشيوخ أجمعوا على ذلك، وهو صحيح.
(3/125)
فصل وهبات المريض وصدقاته وأعطياته موقوفة،
فإن مات في مرضه ذلك كانت من الثلث، وإن صح فمن رأس المال. وكذلك العتق إلا
أن تكون له أموال مأمونة فينفذ عتقه معجلا، ويكون للموهوب له أو المتصدق
عليه قبض ما وهب له أو تصدق به عليه في مرض الواهب أو المتصدق قبل موته على
أحد قولي مالك في مراعاة المال المأمون في ذلك. وهذا مذهب فقهاء الأمصار أن
هبات المريض وصدقاته من الثلث. وقال داود: هي من رأس المال، وتصرفه كله
كتصرف الصحيح. والدليل على صحة قول مالك ومن تابعه ما ثبت أن «رجلا أعتق
ستة أعبد له عند موته فأسهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- فأعتق ثلثهم» . ولا فرق بين العتق وغيره من الهبة والصدقة في هذا. وما
روي أيضا أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن
الله أعطاكم ثلث أموالكم عند موتكم زيادة في أعمالكم» فأخبر أن الرجل ليس
له عند الموت إلا الثلث فدل على منع ما زاد عليه، ولأن الأصول دالة على أن
حضور سبب الموت بمنزلة حضور الموت بعينه، بدليل أنه لو أعتق لكان من الثلث،
ولو وهب لوارثه شيئا لم يجز ذلك، إذ لا يجوز أن يوصي له. وإذا كان كذلك ثم
لم يجز أن يوصي بعد الموت بأكثر من الثلث، كذلك لا يجوز له أن يهب في المرض
أكثر من الثلث. .
(3/126)
|