المقدمات
الممهدات [كتاب العتق] [ما جاء في العتق]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على محمد وبالله أستعين
وعليه أتوكل
كتاب العتق
ما جاء في العتق
قال الله عز وجل: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ
الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد: 4] والمن العتاقة. وقال تعالى: {فَلا
اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} [البلد: 11] {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ}
[البلد: 12] {فَكُّ رَقَبَةٍ} [البلد: 13] {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي
مَسْغَبَةٍ} [البلد: 14] {يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ} [البلد: 15] {أَوْ
مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد: 16] . معنى الكلام فلا اقتحم العقبة
وما أدراك ما العقبة لا بفك رقبة ولا بإطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا
مقربة أو مسكينا ذا متربة، لأن "لا" لا تأتي أبدا إلا مكررة، "مثل قوله عز
وجل: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى} [القيامة: 31] ومثل قوله: {فَلا خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 38] فجاءت في هذه الآية مفردة
لأن المعنى فيها هو ما ذكرناه من تكريرها في الجواب. فتفسير الآية: فلم
يقتحم هذا الإنسان الذي ظن أن لن يقدر عليه أحد والله يقدر عليه، وظن أن لم
يره أحد والله يراه، وقال إنه أهلك مالا لبدا أي كثيرا، يريد في عداوة
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد هداه الله النجدين، أي
أراه طريق الخير والشر وأنعم عليه أن جعل له عينين يبصر بهما حجج الله،
ولسانا وشفتين يعبر بهما عن نفسه العقبة ولا ركبها ولا اقتحمها ولا جازها
لا بفك رقبة ولا بإطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة أو مسكينا ذا
متربة.
(3/153)
والعقبة قيل فيها إنها الصراط، وقيل إنها
عقبة فيما بين الجنة والنار، وقيل: إنها عقبة في جهنم، وقيل: إنها عقبة على
جسر جهنم. وأظهر الأقوال أنها الصراط والله أعلم.
والإنسان قيل فيه إنه رجل من بني جمح ذو جلد وقوة يكنى أبا الأشدين.
وأعتق أبو بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سبعة كلهم يعذب في الله،
فقال له أبوه أبو قحافة: يا بني إني أراك تعتق رقابا ضعافا، فلو أنك إذ
فعلت ما فعلت أعتقت رقابا جلدا يمنعونك ويقومون دونك، فقال أبو بكر: يا أبت
إنما أريد ما أريد، فأنزل الله تبارك وتعالى في ذلك: {وَمَا لأَحَدٍ
عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} [الليل: 19] {إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ
رَبِّهِ الأَعْلَى} [الليل: 20] {وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل: 21] . يقول
الله تبارك وتعالى: لم يكن لأحد ممن أعتق عنده يد يكافئه عليها ولا نعمة
يجازيه بها، لكن فعل ذلك ابتغاء وجه ربه الأعلى، ولسوف يرضى في الآخرة
بجزيل ثواب الله عز وجل على ذلك ومجازاته عليه. وفي الصحيح من الحديث أن
النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أيما رجل أعتق امرأ
مسلما استنقذ الله بكل عضو منه عضوا منه من النار» ". وروي عنه أنه قال:
«أيما امرئ مسلم أعتق امرأ مسلما جعل الله وجاء كل عظم من عظامه عظما من
عظامه محرما من النار. وأيما امرأة مسلمة أعتقت امرأة مسلمة جعل الله وقاء
كل عظم من عظامها عظما من عظام محررها من النار» . وأنه قال: «من أعتق
أمتين كانتا له حجابا من النار» . ومن أعتق ذكرا فكذلك. فالرجل يفك رقبته
من النار على ما جاءت به الآثار بعتق عبد مسلم أو أمتين مسلمتين. والمرأة
تفك رقبتها من النار بعتق أمة مسلمة. «وسئل النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أي الرقاب أفضل؟ فقال: أغلاها ثمنا وأنفسها عند
أهلها» .
فصل وقد اختلف في هذا التفضيل هل هو على عمومه في جميع الرقاب مسلمين
(3/154)
كانوا أو كفارا، أو هل إنما ذلك عند
استوائهما في الكفر والإسلام؟ فروى زياد عن مالك أنه قال: أفضل الرقاب
أعلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها ولا أبالي أيهوديا كان أو نصرانيا أو ولد
زنى وفي كلٍّ أجر، والأجر في ذلك على قدر ما يجترح من ثمنه ومنفعته لله.
وقال أصبغ: عتق المسلم أفضل من عتق الكافر وإن كان أقل ثمنا منه، وإنما
يكون الأعلى ثمنا أفضل عند استوائهما في الكفر والإسلام. وإذا كانت
الرقبتان مسلمتين فالأعلى ثمنا أفضل وإن كانت الأخرى أفضل حالا، وهذا
التطوع. أما في الرقبة الواجبة فلا يجوز فيها على مذهب مالك - رَحِمَهُ
اللَّهُ - إلا مؤمنة وفي سماع أصبغ من كتاب الوصايا فيمن قال بعتق خيار
رقيقي أنه يعتق أعلاهم ثمنا حتى يستوعب الثلث، ورواه أبو زيد عن ابن القاسم
وقال أصبغ: إلا أن يستدل أنه أراد الخيار في الدين فيعتق الأفضل دينا.
[فصل في أقسام العتق]
فصل والعتق ينقسم على وجهين: تطوع وواجب.
فالتطوع ما يوقعه المعتق ابتداء بلفظ يوجب العتق دون سبب يقدمه.
وأما الواجب فهو ما يوقعه أو يقع لسبب أوجبه. وهو ينقسم على وجهين: مضمون
ومعين.
فأما المضمون فإنه يجب عند مالك وأصحابه بثلاثة أشياء:
أحدها: النذر، وهو أن يقول: لله علي أن أعتق عبدا أو كذا وكذا عبدا أو كل
عبد أملكه في بلد كذا أو إلى أجل كذا أو من صنف كذا شكرا على ما أولاه أو
على شيء يتمناه.
والثاني: اليمين وهو أن يقول: إن فعلت كذا أو كذا أو إن لم أفعله فعلي عتق
رقبة أو كذا وكذا رقبة أو كل لما أملكه في بلد كذا أو إلى أجل كذا أو من
صنف كذا.
والثالث: الفعل الذي أوجب الله تعالى به العتق وهو قتل الخطأ ووطء
(3/155)
المظاهر منها بعد الظهار. وليس العتق في
كفارة اليمين بواجب لأنه مخير بينه وبين الإطعام والكسوة، ثم الصيام لمن لم
يجد.
وأما المعين فإنه ينقسم إلى قسمين:
أحدهما: أن يكون في ملكه.
والثاني: ألا يكون في ملكه.
فأما ما كان في ملكه من العبيد فإن العتق يجب فيه بخمسة أشياء، وهي النذر،
واليمين، والإيلاء، وعتق البعض منه، والتمثيل.
فأما النذر وهو أن يقول: لله علي عتق رقبة عبدي هذا إن فعل الله كذا وكذا
وما أشبه ذلك، فيؤمر فيه بالعتق ولا يجبر عليه عند ابن القاسم. وقال أشهب:
إن لج وأبى أن يعتقه أعتق عليه. فوجه قول ابن القاسم أن عتقه بغير نية لا
وفاء فيه لنذره في إجباره على عتقه تفويت عليه للوفاء بنذره.
وأما اليمين فيجبر على العتق متى ما عثر عليه لوجوبه عليه بالحنث، إن كان
في الصحة فمن رأس المال، وإن كان في الفرض أو كانت يمينه على حنث فلم يفعل
حتى مات فمن الثلث.
وأما الإيلاء فيوجب للأمة العتق من رأس المال بعد الموت سواء كان في الصحة
أو المرض.
وأما عتق البعض من العبد فيوجب على سيده عتق سائره بالحكم ما لم يفلس أو
يموت، فإن أفلس أو مات قبل أن يحكم عليه بالعتق لم يعتق. واختلف إن مرض
فعثر على ذلك في المرض، فقيل: يعتق عليه في الثلث في مرضه، وقيل: لا يعتق
عليه فيه إلا بعد الموت. وقيل: إن كان له مال مأمون أعتق عليه في مرضه، وإن
لم يكن له مال مأمون لم يعتق عليه حتى يموت. وقيل: لا يعتق عليه حتى يصح،
فهي أربعة أقوال قائمة كلها من المدونة.
(3/156)
فصل واختلف إن أعتق بعض عبده في مرضه فقيل:
يعتق عليه جميعه في مرضه من الثلث. وقيل: يوقف ولا يعتق إلا بعد الموت من
الثلث، كانت له أموال مأمونة أو لم تكن. وقيل: إنما هذا إذا لم تكن له
أموال مأمونة، فإن كانت له أموال مأمونة عجل عتقه من رأس ماله، وهذا
الاختلاف كله في المدونة.
فصل وهكذا حكم من مثل بعبده في الصحة أو المرض فلم يعثر عليه حتى مرض أو
مات أو أفلس، لأن العبد لا يكون حرا بنفس المثلة حتى يحكم عليه بالعتق.
فصل وأما ما لم يكن في ملكه من العبيد فإن العتق يجب عليه فيه إذا ملكه
بخمسة أشياء، وهي: النذر، واليمين، وأن يكون ممن لا يحل له ملكه من أقاربه،
وأن يمثل بعبد يملك بعضه فيوجب ذلك عليه عتق جميعه حظه وحظ شريكه بالحكم لا
بنفس المثلة، وأن يعتق حظه من عبد بينه وبين شريكه فيوجب ذلك عليه عتق حظ
شريكه إذا اشتراه أو تقويمه عليه إن لم يشتره على ما ثبت في الحديث المأثور
في ذلك عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.
فصل واختلف إن لم يعثر عليه حتى مرض أو مات، فقيل إنه لا يقوم عليه بعد
الموت ولا في المرض، قاله بعض رواة مالك في المدونة. وقيل: إنه يقوم في
المرض ويعتق عليه فيه. وقيل إنه إنما يقوم عليه بعد الموت في الثلث. وقيل:
إنه إن كان له مال مأمون قوم عليه في مرضه، وإن لم يكن له مال مأمون لم
يقوم عليه إلا بعد موته. وقيل: إنه يقوم عليه في مرضه ولا يعتق عليه فيه
حتى يموت، فإذا مات عتق في ثلثه إن حمله الثلث، وإن لم يحمله كان ما بقي
لورثته. وقيل: إنه لا يقوم عليه في مرضه وتعرف قيمته، فإن مات من مرضه ذلك
ولم يصح منه كانت تلك
(3/157)
القيمة بعد الموت في الثلث. وقيل إنه إن
مات بحدثان ذلك ولم يَطُل قُوِّم عليه وأعتق من رأس ماله، وهي رواية أشهب
عن مالك في العتبية، ورواية مطرف وابن الماجشون عنه في الواضحة.
فصل وأما إن أعتق حظه من عبد بينه وبين شريكه في المرض ففي ذلك أربعة
أقوال:
أحدها: أنه يعجل عليه التقويم في المرض من الثلث.
والثاني: أنه لا يعجل ذلك عليه حتى يموت.
والثالث: الفرق بين أن يكون له مال مأمون أو لا يكون له مال مأمون؛ فإن كان
له مال مأمون قوم عليه في المرض، وإن لم يكن له مال مأمون لم يقوم عليه حتى
يموت، وهذا الاختلاف كله في المدونة.
والرابع: أنه لا يقوم عليه نصيب شريكه إلا من رأس ماله إن صح، وإن لم يصح
لم يقوم في الثلث على حال وعتق عليه فيه حظه وحده، وهو قول ابن الماجشون في
الواضحة.
فصل وتحصيل هذه المسألة بتلخيص أن تقول فيها: اختلف في الرجل يعتق شقصا من
عبده أو شقصه من عبد بينه وبين شريكه في صحته ثم يمرض قبل أن يعتق عليه
بقية عبده أو قبل أن يقوم عليه حظ شريكه فيعثر على ذلك في مرضه على ثلاثة
أقوال:
أحدها: قول ابن القاسم في المدونة: إنه يعتق عليه بقية عبده، ويقوم عليه حظ
شريكه في الثلث. قيل: في المرض، وقيل: بعد الموت لا في المرض، وقيل: إن
كانت له أموال مأمونة أعتق عليه بقية عبده في المرض وقوم عليه حظ شريكه في
الثلث. وإن لم تكن له أموال مأمونة لم يعتق عليه بقية عبده، ولا يقوم حظ
شريكه
(3/158)
إلا بعد موته. وقيل: إنه إذا أعتق شقصه من
عبد بينه وبين شريكه يحكم عليه بالتقويم في المرض ولا يعتق حتى يموت، فإن
مات أعتق في ثلثه حظ شريكه الذي قوم عليه أو ما حمل الثلث منه ويبقى شريكه
عليه في المرض إلا برضاه، إذ لا يدري هل يخرج من الثلث أم لا. فمن حجته ألا
يقوم نصيبه سائره رقيقا لورثته، وهو قول أصبغ. والنظر يوجب ألا يعجل تقويم
نصيب إلا إلى عتق متيقن. وقد قيل: إنه تعرف قيمته في المرض ولا يقوم عليه
حتى يموت، فإن مات جعلت تلك القيمة في ثلثه، فإن لم يحملها الثلث نفذ من
ذلك ما حمل الثلث وما لم يحمل الثلث بقي رقيقا للشريك الذي لم يعتق.
والثاني: قول بعض الرواة في المدونة: إنه لا يعتق عليه في الثلث بقية عبده
ولا يقوم عليه فيه حظ شريكه.
والثالث: قول ابن الماجشون في الواضحة إنه يقوم عليه في الثلث حظ شريكه على
ما ذكرناه من الاختلاف في تعجيل التقويم أو تأخيره ولا يعتق عليه فيه بقية
عبده. واتفقوا فيما علمت أنه إن لم يعثر على ذلك حتى مات أنه لا يعتق عليه
بعد الموت بقية عبده ولا يقوم عليه حظ شريكه لا من رأس المال ولا من الثلث،
وهذا إذا طال، واختلف إذا لم يطل على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه لا يعتق عليه بعد الموت بقيته ولا يقوم عليه حظ شريكه لا من رأس
المال ولا من الثلث، وهو ظاهر ما في المدونة.
والثاني: أنه يقوم عليه بعد الموت حظ شريكه إن كان موته بحدثان عتق نصيبه؛
لأن ذلك حق قد وجب لشريكه، ولا يعتق عليه بقية عبده إن كان العبد كله له،
وهو قول مالك في رواية أشهب عنه في العتبية، وفي رواية مطرف وابن الماجشون
عنه في الواضحة.
والثالث: أنه يعتق عليه بعد الموت بقية عبده إن كان العبد كله له ويقوم
عليه نصيب شريكه إن غافلة الموت. حكى هذا القول ابن حبيب عن مالك وأصحابه
(3/159)
ولم يذكر فيه اختلافا. وظاهر ما في المدونة
يخالفه وأما التفليس فلا اختلاف في أنه يسقط التقويم والتتميم.
وأما إن أعتق الرجل شقصا من عبده أو شقصه من عبد بينه وبين شريكه في المرض
فلا خلاف بينهم في أن ذلك كله يكون من الثلث ما أعتق منه وما بقي إن مات من
ذلك المرض ولم يصح منه. واختلف هل ينظر في ذلك في حال المرض أو يؤخر النظر
فيه حتى يموت على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه ينظر في ذلك في حال المرض فيعتق جميع العبد في الثلث إن كان له،
ويقوم عليه كحظ شريكه فيه إن كان له فيه شريك.
والثاني: أنه لا ينظر في ذلك إلا بعد الموت.
والثالث: الفرق بين أن يكون له مال مأمون أو لا يكون له مال مأمون، فإن كان
له مال مأمون عتق عليه في المرض جميعه إن كان له، وقوم عليه فيه حظ شريكه
إن كان له فيه شريك. وإن لم يكن له مال مأمون لم ينظر في ذلك إلا بعد الموت
وهو أحد قولي مالك في المدونة. وذهب ابن الماجشون إلى أنه إذا أعتق شقصا له
من عبد في مرضه لم يقوم عليه حظ شريكه في المرض ولا بعد الموت إن مات من
مرضه ذلك ولم يصح، بخلاف إذا كان العبد كله له فأعتق بعضه، وبالله التوفيق.
وهو المستعان.
فصل وحال إيقاع العتق ينقسم على ثلاثة أقسام: أحدها: العتق في الصحة.
والثاني: العتق في المرض.
والثالث: العتق بعد الموت.
(3/160)
فصل فأما العتق في الصحة فإنه يكون على
وجوه، مُبَتَّلا، أو مؤجلا بغير يمين، وبيمين. فأما المبتل بغير يمين فهو
أن يقول: عبدي حر. ولا يزيد على ذلك، أو يقول: هو حر لله، أو: هو حر لوجه
الله؛ أو يقول: هو لله، أو: لوجه الله. ولا يقول: حر. وكذلك إن قال ذلك في
عضو من أعضائه فإن الحرية تلزمه بذلك في جميعه كالطلاق سواء. فإن قال:
كلامه حر أو شعره حر أو ما أشبه ذلك مما يبين منه وينفصل عنه جرى ذلك على
الاختلاف في الطلاق، فيلزمه العتق على مذهب أصبغ، ولا يلزمه ذلك على مذهب
سحنون.
فصل وإن قال: أنت سائبة فمذهب ابن القاسم أنه حر إن أراد بذلك الحرية
وولاؤه لجميع المسلمين، وذلك مكروه عنده لنهي رسول الله عه عن بيع الولاء
وهبته. وقال أصبغ: ذلك جائز ولا كراهية فيه كالذي يعتق عبده عن غيره فيكون
الولاء للمعتق عنه ولا يكره ذلك له، وهو حر أراد الحرية أو لم يردها. وقال
ابن الماجشون: لا يجوز عتق السائبة، فإن فعل فالولاء له إن عرف، وإن جهل
فولاؤه لجميع المسلمين. وبالله التوفيق.
فصل وأما المؤجل بغير يمين فإنه على وجهين:
أحدهما: أن يكون الأجل مجهولا.
والثماني: أن يكون معلوما.
فأما المجهول فإنه ينقسم على ثلاثة أقسام:
أحدها: أن يجهل إتيانه فلا يُدرَى إن كان يأتي أو لا يأتي لجواز الوجهين
جميعا من غير أن يغلب أحدهما على صاحبه، أو يكون الأغلب منهما أنه لا يأتي.
والثاني: أن يجهل إتيانه فلا يدرى إن كان يأتي أو لا يأتي والأغلب أنه
يأتي.
(3/161)
والثالث: أن يجهل وقت إتيانه ويعلم أنه
يأتي.
فأما القسم وهو أن يجهل إتيانه لاحتمال أن يأتي وألا يأتي من غير أن يغلب
أحد الأمرين على صاحبه، أو يكون الأغلب منها أنه لا يأتي، مثل أن يقول: إذا
قدم فلان فأنت حر وما أشبه ذلك فإن العتق في ذلك ليس بواجب للعبد إلا أن
يأتي الأجل وسيده حي لم يمت ولا خرج عن ملكه. وقد اختلف إذا أراد السيد أن
يبيعه هل له ذلك أم لا على قولين:
أحدهما: أن ذلك ليس له، وهو قول مالك في المدونة.
والثاني: أن ذلك له، وهو قول ابن القاسم فيها.
وأما القسم الثاني وهو أن يجهل إتيانه فلا يدرى إن كان يأتي أو لا يأتي
وإلا غلب أنه يأتي، مثل أن يقول: عبدي حر إذا وضعت فلانة وهي حامل. وإذا
حاضت الغير يائسة من المحيض. أو إذا خسفت الشمس أو القمر وما أشبه ذلك،
فحكمه عند أشهب حكم القسم الأول على أصله في مساواته بينهما في الطلاق.
فإذا حاضت فلانة أو وضعت أو خسفت الشمس والقمر على مذهبه في صحته كان حرا
من رأس المال، وإن حاضت في مرضه كان حرا من الثلث، وإن لم تحض إلا بعد موته
فلا حرية له، وذلك له منصوص عليه في سماع أبي زيد من كتاب الولاء. وروى
مثله ابن وهب عن مالك. وأما على مذهب ابن القاسم فالعبد معتق إلى وضع فلانة
وما أشبه ذلك من رأس المال وضعت في حياة المعتق أو بعد وفاته، على أصله
فيمن طلق زوجته إلى مثل ذلك الأجل أن الطلاق يعجل عليه كالأجل الآتي لا
محالة.
وأما القسم الثالث وهو أن يجهل وقت إتيانه ويعلم أنه يأتي مثل قوله إذا مات
فلان أو إذا أمطرت السماء أو ما أشبه ذلك فأنت حر؛ فإن هذا يكون العبد حرا
إلى ذلك الأجل من رأس المال، أتى الأجل قبل موت السيد أو بعده، وليس له أن
يبيع
(3/162)
ولا يطأ إن كانت أمته، وما ولد له من أمته
من ولد أو لها إن كانت أمة دخل في اليمين، ولا خلاف في هذا القسم بينهم.
وبالله التوفيق.
فصل وأما الأجل المعلوم وهو مثل أن يقول: أنت حر إلى شهر أو إلى سنة أو إلى
سنتين أو ما أشبه ذلك فإنه لا يخلو من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن لا يبلغه عمر واحد منهما أو لا يبلغه عمر العبد.
والثاني: أن يبلغه عمرهما جميعا.
والثالث: أن يبلغه عمر العبد ولا يبلغه عمر السيد.
فأما إذا لم يبلغه عمر واحد منهما أو لم يبلغه عمر العبد فلا حرية له، لأنه
بمنزلة من قال لعبده: أنت حر بعد موتك. وأما إذا بلغه عمرهما جميعا فهو
معتق إلى ذلك الأجل من رأس المال، وليس له بيعه، ولا وطؤها إن كانت أمة.
وأما إن بلغه عمر العبد ولم يبلغه عمر السيد فإنه بمنزلة المدبر يعتق إلى
ذلك الأجل من الثلث ولا يرده الدين المستحدث إلا بعد الموت.
فصل فإن كان العتق المبتل أو المؤجل بيمين فإن الحالف يلزمه إذا حنث من بتل
أو عتق إلى أجل بغير يمين إلا في وجه واحد فإن قول مالك اختلف فيه، وذلك
إذا حلف الرجل على عبده بحريته ألا يفعل فعلا فحنثه وفعل ذلك الفعل. واختلف
في ذلك قول عمر بن عبد العزيز، رويت عنه في ذلك قضيتان، قضى أولا بعتق
العبد، ثم قضى بإرقاقه وقال: أخاف أن يكون ذلك ذريعة للعبيد إلى عصيان
سادتهم، وقال به بعض الناس في الطلاق، ووقع مثله في المبسوطة لأشهب، وفي
مواضع أخر منها، منها قول مالك وأصحابه إن الطلاق يلزم.
(3/163)
فصل وإنما لزم العتق باليمين لأن الله عز
وجل يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}
[المائدة: 1] واليمين بالعتق من العقود، فوجب الوفاء به. وهذا صحيح على أصل
مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن أصل مذهبه أن كل من حلف بما لله فيه طاعة
يلزمه في اليمين كما يلزمه في النذر، ومن حلف بما ليس لله فيه طاعة أو له
فيه معصية فلا يلزمه في اليمين كما لا يلزمه في النذر، لقول رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر
أن يعصي الله فلا يعصه» .
فصل ولا يخرج على هذا الأصل إلا الطلاق، فإن الطلاق يلزم باليمين ولا يلزم
بالنذر. وإنما كان ذلك لأن القائل لامرأته: أنت طالق إن دخلت الدار قد أوجب
الطلاق على نفسه بشرط دخول الدار، فهو بمنزلة أن يوجبه على نفسه ابتداء
بغير شرط. والطلاق ليس مما ينذر لله ولا يتقرب به إليه فلذلك لم يلزم
بالنذر.
فصل ولزوم الطلاق باليمين مما أجمع عليه أهل العلم واتفقوا عليه ولم
يختلفوا فيه. وأما العتق وسائر أفعال البر بيمين فإن أهل العلم اختلفوا في
لزوم ذلك اختلافا كثيرا. فمنهم من لم يلزم شيئا من ذلك باليمين وأوجب على
الحالف به كفارة يمين. ومنهم من لم يلزمه شيئا من ذلك باليمين ولا أوجب
عليه كفارة يمين. وعلة من لم يلزم شيئا من ذلك باليمين أن الحالف بها لم
يرد النذر بذلك ولا القربة به، وإنما قصد إلى منع نفسه مما حلف عليه. فلا
يلزمه أن يخرج لله مما لم يرد به القربة إليه، لقول رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الأعمال بالنيات» . وقوله: «من كانت هجرته
إلى الله
(3/164)
ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله. ومن كانت
هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه» .
فصل ولو خرجت يمينه بشيء من هذه الأشياء مخرج النذر لله والشكر له
لَلَزِمته باتفاق وإجماع. وذلك مثل أن يحب الولد أو قدوم أبيه أو دخول مكة
وما أشبه ذلك فيقول: إن رزقني الله ولدا، أو قدم أبي، أو وصلت إلى مكة فعلي
كذا وكذا لشيء يذكره من صيام أو صدقة أو مشي أو عتق أو ما أشبه ذلك. ومنهم
من ألزم العتق باليمين قياسا على الطلاق ولم يلزم سائر الطاعات به. وليس
بقياس صحيح، لأن الطلاق ليس مما ينذر لله ويوفى له به ويتقرب إليه. ومنهم
من ألزم العتق وسائر الطاعات التي يتقرب بها إلى الله باليمين قياسا على
النذر، وهو قول مالك وأصل مذهبه. وقد شذت له مسائل عن هذا الأصل يجب ردها
بالقياس عليه: من ذلك قوله: إن من حلف بصدقة شيء من ماله على رجل بعينه إنه
يؤمر بذلك ولا يجبر عليه بالحكم، ولا فرق في القياس بين ذلك وبين أن يحلف
بعتق عبد بعينه، وإنما فرق بينهما مراعاة لقول من لا يوجب عليه الصدقة
باليمين وقوة الاختلاف في ذلك.
[فصل في اليمين بالعتق]
فصل واليمين بالعتق على وجهين:
أحدهما: أن يحلف على فعل نفسه.
والثاني: أن يحلف على فعل غيره.
فأما الوجه الأول وهو أن يحلف على فعل نفسه فلا يخلو من وجهين: أحدهما: أن
يحلف ألا يفعل فعلا.
والثاني: أن يحلف أن يفعله.
(3/165)
فأما الوجه الأول وهو أن يحلف بعتق عبده
ألا يفعل فعلا فإنه على بر، وله أن يبيع العبد ويطأ الأمة إن كانت أمة. فإن
لم يخرج العبد أو الأمة من ملكه حتى فعل الفعل الذي حلف عليه ألا يفعله
لزمه الحنث وعتق عليه العبد أو الأمة. واختلف قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ
- فيما ولد للعبد من أمته أو للأمة من ولد بعد اليمين هل يدخل في العتق أم
لا على قولين واختار ابن القاسم وأصبغ ألا يدخل الولد في اليمين لأنه على
بر.
وأما الوجه الثاني وهو أن يحلف أن يفعل فعلا فإنه لا يخلو من وجهين:
أحدهما: أن يضرب أجلا.
والثاني: ألا يضرب أجلا.
فأما إن ضرب أجلا فليس له أن يبيع حتى يحل الأجل لأنه مرتهن باليمين.
واختلف قول ابن القاسم هل له أن يطأ إن كانت أمة على قولين:
فله في المدونة أن له أن يطأ لأنه على بر. وروى عنه عيسى أنه ليس له أن يطأ
وهو قول بعض الرواة في المدونة لأنه لا يجوز له أن يطأ إلا ما له أن يبيع.
وأما إذا لم يضرب أجلا فليس له أن يطأ ولا يبيع لأنه على حنث، وما ولد لها
من ولد، أو له من أمته إن كان عبدا فإنهم يدخلون في اليمين. هذا هو المشهور
في المذهب من قول مالك وأصحابه. وقال المغيرة: إنهم لا يدخلون في اليمين.
وقد وقع في المبسوطة أن قول مالك اختلف في ذلك، وهو وهم في الرواية والله
أعلم. وإنما اختلف قول مالك في الذي يكون الحالف به على بر على ما قدمناه،
وبالله التوفيق.
فصل فإذا باع العبد أو الأمة قبل أن يبر فيهما بما حلف عليه رد البيع ووقفت
حتى يبر أو يموت فيعتق في ثلثه، إلا أن يفوت عند المشتري بعتق أو اتخاذ أم
ولد. ففي سماع عيسى أنها لا ترده وفي سماع أصبغ أنها ترد إلى البائع ويرد
الثمن على المشتري.
(3/166)
فصل وأما الحالف على فعل غيره فلا يخلو
أيضا من وجهين:
أحدهما: أن يحلف عليه بعتق عبده ألا يفعل فعلا.
والثاني: أن يحلف عليه بعتق عبده أن يفعل فعلا.
فأما إذا حلف عليه ألا يفعل فعلا مثل أن يقول: عبدي حر إن دخل فلان الدار
أو إن قدم أبي وما أشبه ذلك، فهو كالحالف على نفسه ألا يفعل فعلا بعتق
عبده. وأما إذا حلف عليه بعتق عبده أن يفعل فعلا، مثل أن يقول عبدي حر إن
لم يحج أبي أو إن لم يقدم فلان أو إن لم يهب لي دينارا وما أشبه ذلك. فإن
سمى أجلا كان ذلك كالحالف على فعل نفسه في جميع الوجوه، وإن لم يسم أجلا
فإن قول ابن القاسم اختلف في ذلك، فمرة قال: إنه كالحالف على نفسه في
الوجوه كلها، ومرة جعله بخلاف الحالف على نفسه فقال: إنه يُتلوم له على قدر
ما يرى أنه أراد بيمينه. واختلف هل له أن يطأ إن كانت أمة في أيام التلوم،
فقال ابن القاسم: لا يطأ، وإن مات عتقت في ثلثه؛ لأنه مات على حنث وقال
أشهب في كتاب ابن المواز: إنه يطأ في أيام التلوم، وهو على قياس قوله في
المدونة: إنه لا يعتق إذا مات في التلوم. ومرة فرق بين قوله: عبدي حر إن لم
يحج فلان، وعبدي حر إن لم يهب لي فلان دينارا، فيتلوم له في قوله: عبدي حر
إن لم يهب لي فلان دينارا، ولا يتلوم له في قوله: عبدي حر إن لم يحج فلان،
ولكن يمنع من بيعه ومن الوطء إن كانت أمة، وهي رواية عيسى عن ابن القاسم في
كتاب الأيمان بالطلاق من العتبية.
فصل وإذا أنذر الرجل العتق فقال: لله علي أن أعتق عبدي هذا، أو: لله علي
نذر عتق عبدي هذا، أو قال: لله علي عتق رقبة أو نذر عتق رقبة، فإن ذلك لازم
لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من نذر أن يطيع
الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه» . إلا أنه لا يحكم عليه بعتقه
على مذهب مالك. وإنما لم يحكم عليه
(3/167)
بعتقه على مذهبه لأن العتق لم يقع عليه
بعد. وإنما نذر أن يعتقه فوجب عليه الوفاء لله بنذره، والوفاء لا يحصل إلا
بنية التقرب بعتقه والوفاء لله بنذره. فلو أعتق عليه بغير اختياره لم يكن
ذلك وفاء لنذره لعدم نيته التقرب بعتقه، وكان قد حيل بينه وبين الوفاء
بالنذر، إذ لا يستطيع أن يعتقه مرة أخرى إن كانت الرقبة بعينها، فهذه علة
مالك في منعه من الحكم عليه بالمعتق. والله أعلم. وقال أشهب: يؤمر أن
يعتقه، فإن وعد بذلك ترك وتلوم له، وإن أبى من عتقه وقال: لا أعتقه ولا أفي
لله بنذري فيه؛ عتق عليه. وقول مالك هو القياس، ومذهب أشهب استحسان. وكذلك
لو نذر أن يعتق رقبة معينة لم يحكم عليه بعتق رقبة لأنه لو حكم عليه بها لم
تجزه عن الرقبة الواجبة عليه وكان عليه أن يعتق رقبة ثانية بنية التقرب لله
والوفاء بالنذر.
فصل وأما العتق في المرض فيكون في الثلث بإجماع من أهل العلم، ويوقف حتى
يموت ولا ينفد عتقه في حال المرض إلا أن تكون له أموال مأمونة على الاختلاف
في مراعاة المال المأمون. والأصل في ذلك ما ثبت «أن رجلا أعتق ستة أعبد له
عند موته فأسهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهم
فأعتق ثلث تلك الرقيق» . وإنما اختلف الناس في هبات المريض وصدقاته، فالذي
ذهب إليه مالك وفقهاء الأمصار وجمهور أهل العلم أن ذلك من الثلث. وذهب أهل
الظاهر إلى أن هباته وأعطياته جائزة، وأن تصرفه صحيح في ماله. ودليلنا
العتق أنه من الثلث، وهبة المريض لوارثه أنها لا تجوز. وإنما لم تجز له
الهبة في المرض لأن الوصية لا تجوز له، فكذلك الأجنبي لا يكون له أكثر من
الثلث، لأن الزائد على الثلث لا يجوز له بعد الوصية. فإن عارض معارض في هبة
المريض لوارثه دليلنا عليه بإجماع الصحابة في قول أبي بكر لعائشة: لو حددته
أو حزته لكان لك، وإنما هو اليوم مال الوارث.
فصل وأما العتق بعد الموت فإنه من الثلث بإجماع، وهو يكون على أربعة أوجه:
(3/168)
وجهان لا يصح الرجوع فيهما، وهو المدبر في
الصحة والمدبر في المرض.
ووجهان يصح الرجوع فيهما، وهما الوصية بالعتق، واليمين التي يكون فيها على
حنث بالعتق، لأن الرجوع عنه بأن يبر بفعل ما حلف عليه ليفعلنه. وبالله
تعالى التوفيق.
(3/169)
|