المقدمات
الممهدات [كتاب المكاتب] [فصل
في اشتقاق المكاتب]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على محمد وعلى آله وبالله
أستعين وعليه أتوكل
كتاب المكاتب فصل
في اشتقاق المكاتب
الكتابة عتق الرجل عبده أو أمته على مال يؤديه إليه. وأخذت تسمية ذلك
كتابةً من كتب السيد لعبده بذلك كتابا. وكانت الكتابة متعارفة بين الناس في
الجاهلية قبل الإسلام، فأقرها الله تعالى في شرع نبيه محمد - عَلَيْهِ
السَّلَامُ -. فالأصل في جواز الكتابة كتاب الله وسنة نبيه- صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإجماع الأمة. فأما الكتاب فقوله تعالى: {وَالَّذِينَ
يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ
عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي
آتَاكُمْ} [النور: 33] . وأما السنة فمنها ما روي أن رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «المكاتب عبد ما بقي عليه من كتابته
درهم» . وما روي عنه أنه قال: «من كان مكاتبا على مائة درهم فقضاها كلها
إلا عشرة دراهم فهو عبد أو قال: على مائة أوقية فقضاها كلها إلا أوقية
واحدة فهو عبد» . وهذا كالنص منه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في
(3/171)
جواز المكاتبة لأن تعليق الأحكام بها يفيد
جوازها. وأما الإجماع فلا خلاف بين الأمة أن الكتابة جائزة بين العبد وسيده
إذا كانت على شروطها الجائزة. وإنما اختلفوا في شروطها وفي أحكامها، وفي
وجوبها على السيد إذا دعا إليها العبد، وفي لزومها للعبد إذا أباها ورد ذلك
السيد على ما سنورده إن شاء الله تعالى.
فصل وأول مكاتب كان في الإسلام «سلمان الفارسي، كاتبه أهله على مائتي
وَدِيَّة يحييها لهم، فقال له رسول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: إذا غرستها فأذنني، فلما غرسها أذنه فدعا له فيها فلم تمت
منها ودية واحدة» . وقيل: إن أول مكاتب كان في الإسلام مكاتب يكنى أبا مؤمل
قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أعينوا أبا مؤمل
فأعتق فقضى كتابته وفضلت عنده فضلة فاستفتى رسول الله - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - فقال: أنفقها في سبيل الله» . وقد كان يقال: المكاتب مهيأ له
الخير. وقيل: إن أول مكاتب كان في الإسلام مكاتب لعمر بن الخطاب يكنى أبا
أمية، فلما أتاه بأول نجم من نجومه قال له عمر بن الخطاب: خذه فاستعن به في
سائر نجومك، فقال له: أخر ذلك إلى آخر نجم، فقال له: أخشى ألا أدرك ذلك.
فصل فأما قول الله عز وجل: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ
خَيْرًا} [النور: 33] فإنه أمر والمراد به الندب والإرشاد لا الوجوب
والإلزام على مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجمهور أهل العلم. ومن مذهب
مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الأوامر محمولة على الوجوب لأنه الأظهر
(3/172)
من محتملاتها إلا أن يدل الدليل على أن
المراد غير الوجوب من ندب أو إباحة أو نهي أو تعجب أو دعاء، لأن هذه
المعاني كلها قد ترد بلفظ الأمر. قال الله عز وجل: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ
فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] . وقال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ
فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ} [الجمعة: 10] فهذا أمر والمراد به الإباحة.
وقال: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى
وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} [النساء: 8] فهذا أمر والمراد به
الندب والإرشاد وقال: {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} [الزمر: 15]
هذا أمر والمراد به النهي. وقَوْله تَعَالَى لإبليس: {وَأَجْلِبْ
عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ
وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ} [الإسراء: 64] . وقال تعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ
وَأَبْصِرْ} [مريم: 38] فهذا أمر والمراد به التعجب. وقال تعالى: {اهْدِنَا
الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] فهذا أمر والمراد به الرغبة
والطلبة، لأن أمر أحد لا يتوجه إلا لمن دونه.
فصل والدليل على أن مراد الله تعالى بقوله: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ
عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] الندب لا الوجوب إجماعٌ للأمة على
أنه غير واجب على أحد أن يعتق عبده ولا أن يبيعه. والكتابة لا تخلو من أن
تكون عتقا أو بيعا منه لعبده، وهي إلى العتق أقرب، لا ينتزع ماله ويعتقه،
وقد كان له أن ينتزعه ولا يعتقه، مع الإجماع أيضا على أنه ليس على من ملك
العبد أن يأذن له في التجارة، والكتابة إذن له منه فيها. ومما دل
(3/173)
على ذلك رده عز وجل أمر العبيد إلى السادة
بقوله عز وجل: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] ، فلم يجعل
للحكام في ذلك مدخلا، وما ليس للحكام فيه مدخل فيما تنازع الناس فيه ليس
بواجب، وإذا لم يجب ارتفع التنازع.
فصل فإذا سقط الوجوب ثبت أنه على الندب لأنه يفضي إلى العتق، والعتق فيه
أجر وثواب. ولم يصح أن يقال إنه على الإباحة لأن الإباحة إنما تكون فيما لا
أجر فيه ولا ثواب. وإن كان مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - قد احتج بقوله عز
وجل: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] ، {فَإِذَا قُضِيَتِ
الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ} [الجمعة: 10] وإنما احتج بذلك
لإسقاط الوجوب وهو الذي أراد، وبالله التوفيق.
فصل وقد اختلف في الخير الذي عنى الله في هذه الآية ما هو؟ فقالت طائفة:
المال، وقالت طائفة: القوة على الأداء، وقالت طائفة: الأمانة والدين، وقالت
طائفة: الصدق والوفاء. وهذان القولان متقاربان في المعنى لأن الأمانة
والصدق والوفاء من الدين. فيتحصل في الخير الذي عناه الله عز وجل بقوله:
{فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] ثلاثة
أقوال:
أحدها: أنه الخير في الدين من الصلاح والعفاف وإن لم يكن له مال ولا قدرة
على الاحتراف والكسب وكان إنما يؤدي كتابته مما يسأل ويتصدق به عليه، وهذا
هو أظهر الأقوال وأولاها بالصواب.
والثاني: أنه القوة على الأداء بالتحرف والكسب وإن لم يكن له مال. وأما إن
(3/174)
لم تكن له قدرة على التحرف والكسب وكان
إنما يؤدي كتابته إن كوتب مما يتصدق به عليه فيكره لسيده أن يكاتبه إذا
سأله ذلك. وهذا مذهب عبد الله بن عمر قال: يعطني أوساخ الناس.
والثالث: أنه يكون له مال، روي ذلك عن ابن عباس، وهذا أضعف الأقوال لأن
الله عز وجل قال: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] ولم يقل:
إن علمتم لهم خيرا.
فصل وكذلك قوله عز وجل: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ}
[النور: 33] هو على الندب لا على الوجوب. ومعناه عند مالك - رَحِمَهُ
اللَّهُ - أن يضع عنه من أجر كتابته شيئا يتعجل به عتقه. والذي يدل عليه
أنه غير واجب أن الله لم يحد فيه حدا في كتابه ولا على لسان نبيه- عَلَيْهِ
السَّلَامُ - ولو كان فرضا لكان محدودا؛ لأن الفرض لا يكون غير محدود بكتاب
أو سنة. فلما لم يوجد ذلك في الكتاب ولا ثبت فيه خبر مرفوع عن النبي -
عَلَيْهِ السَّلَامُ - دل على أن الناس يؤمرون به ولا يجبرون عليه بالحكم،
كالمتعة التي أمر الله بها فقال: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ
بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 241] وَقَالَ {لا
جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ
أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ
قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا
عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 236] وَقَالَ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ
قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ
تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا}
[الأحزاب: 49] فاستدل بهذه الآيات على أنها غير واجبة لكونها مطلقة غير
محدودة في الكتاب ولا في السنة.
(3/175)
وقد قال بعض الناس: يوضع عنه الربع من
كتابته، وقائل هذا القول لم ير ذلك واجبا. واختار بعض الناس أن يوضع عنه
آخر نجم من نجومه. ومنهم رأى أن يعطيه من عنده من غير مال الكتابة. وقد
قيل: إن الخطاب في ذلك إنما هو للولاة أن يعطوهم من الزكاة لا للسادة لقول
الله تعالى: {وَفِي الرِّقَابِ} [التوبة: 60] . وقد روي أن رسول الله-
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أعان مكاتبا في رقبته أظله
الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله» .
فصل فليس على السيد أن يكاتب عبده إذا ابتغى ذلك منه بقليل ولا بكثير وإن
علم فيه خيرا، ولا أن يضع عنه إن كاتبه شيئا إلا أن يشاء. هذا قول مالك
وجميع أصحابه وجمهور أهل العلم. ومن أهل العلم من حمل أمر الله تعالى
بالكتابة على الوجوب، وهم أهل الظاهر فقالوا: يلزم الرجل أن يكاتب عبده إذا
ابتغى منه الكتابة بقيمته فأكثر، وروي ذلك عن ابن عباس.
والصحيح ما ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجمهور أهل العلم على ما
بيناه. وذهب الشافعي إلى أنه لا يجب على السيد أن يكاتب عبده إذا سأله ذلك،
وأنه إذا كاتبه وجب أن يجبر على أن يضع عنه مما عقد عليه الكتابة شيئا ما
كان. قال: وهذا والله أعلم عندي مثل قوله عز وجل: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ
مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 241] لأن من مذهبه إيجاب المتعة. قال:
فإن مات السيد قبل أن يضع جبر ورثته على ذلك، وإن كانوا صغارا وضع عنهم
الحاكم أقل ما يقع عليه اسم الشيء في كتابته فجعل الشافعي الفرع أوجب من
الأصل وليس اسم الشيء من كتابته، فجعل الشافعي
(3/176)
الفرع أوجب من الأصل. وليس يكاد شيء من
كلام العرب يعطف بعضه على بعض يكون أوله غير واجب وآخره واجبا، هذا لا يكاد
يعرف. وإنما المعروف من كلامهم أن يكون أوله واجبا وآخره غير واجب. قال
الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ
وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل: 90] فبدأ بالعدل وهو واجب، ثم ذكر
الإحسان بعده وهو غير واجب. وقال تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ
قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ
مَا فَرَضْتُمْ إِلا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ
عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلا تَنْسَوُا
الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237] فيبدأ بالواجب ثم ذكر التفضل بعده.
فصل ومما يدل على فساد قول الشافعي أن الشيء المعلوم إذا أسقط منه شيء
مجهول عاد مجهولا غير معلوم، فكيف يصح أن يُكتَب على العبد أربعة آلاف درهم
في التمثيل ويُشهد بها عليه وهي أقل من أربعة آلاف قد حلموا على ذلك وحكم
الكتاب أن يكون عدلا بين المتعاملين وإن كان الذي كتب السيد على عبده وأشهد
به عليه حقا فليس يجب أن يسقط عن العبد شيء منه، وإن كان باطلاً فالكتابة
منفسخة، وما أشهدا به على أنفسهما كذب. وأيضا فإن الشافعي يزعم أن المكاتب
عبد ما بقي عليه من كتابته درهم فإن كان يعني من جميع ما كاتبه عليه فقد
ترك قوله، وإن كان يعني مما تبقى عليه من الكتابة بعد وضع ما يجب وضعه،
فالواجب أن يكون ما يوضع عنه معلوما في أصل الكتابة حتى يعلم الحال التي
يعتق فيها من الحال التي لا يعتق فيها، لأنها حال معلومة تتعلق بها أحكام
كثيرة، فلا بد أن تكون معلومة كما كانت الكتابة معلومة، والشافعي يجعلها
مجهولة.
(3/177)
فصل وإذا قال: إن الذي يجب أن يسقط عنه من
آخر كتابته أقل ما يقع عليه اسم شيء فقد يجوز أن يجعله دانق فضة من عشرة
آلاف درهم أو حبة. وتأويل أمر الله على هذا بعيد لا يجوز في عقل عاقل، ولو
أنعم النظر قائل هذا القول لما قاله، والله أعلم.
فصل ومن مذهب الشافعي أن المكاتب لا يعتق بأداء جميع الكتابة إلا أن يشترط
جميع ذلك لنفسه في عقد الكتابة. وعند مالك وأبي حنيفة وأصحابهما وجمهور أهل
العلم أن المكاتبة يعتق إذا أدى جميع الكتابة وإن لم يشترط ذلك، ولا يضره
عندهم ألا يقول له مولاه في حين كتابته إذا أديت إلي جميع كتابتك فأنت حر
لأن ذلك مفهوم من فعلهما وقصدهما وإن لم يذكراه.
فصل وفقهاء الأمصار متفقون على أن المكاتب عبد ما بقي عليه من كتابته شيء
على ما ورد في السنة الثابتة عن النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-. وأما السلف قبلهم فقد روي عنهم في ذلك اختلاف كثير. منه أن المكاتب إذا
عقدت له الكتابة فهو غريم من الغرماء لا يرجع إلى الرق أبدا لأنه قد ابتاع
نفسه من سيده بثمن معلوم إلى أجل معلوم، وهذا قول شاذ ترده السنة الثابتة
عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في قصة بريرة من حديث عائشة وغيرها، رواه
مالك عن هشام بن عروة عن أبيه «عن عائشة أنها قالت: جاءتني بريرة فقالت:
إني كاتبت أهلي على تسع أواقٍ في كل عام أوقية، فأعينيني فقالت عائشة: إن
أحب أهلك [أن أعدها لهم ويكون ولاؤك لي فعلت. وفي حديث يحيى ابن سعيد
(3/178)
عن عمرة عن عائشة إن أحب أهلك] أن أصب لهم
ثمنك صبة واحدة وأعتقك فعلت» . فهذا يدل أن المكاتب عبد ما لم يؤد كتابته،
وأنه لو كان بعقد كتابته حرا غريما من الغرماء لم يجز بيعه عند أحد من
العلماء. وقول ثان أنه إذا عجز يعتق منه بقدر ما أدى ويورث ويرث، ويؤدي إن
قتل بقدر ما أدى. وفي هذا حديث يرويه ابن أبي كثير عن عكرمة عن ابن عباس أن
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يؤدي المكاتب بقدر
ما أدى دية حر وبقدر ما رق منه دية عبد» . وهو قول علي بن أبي طالب. وقول
ثالث: أنه إذا شطر كتابته فهو غريم من الغرماء لا يرجع إلى الرق أبدا. وروي
هذا القول عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وقول رابع: أنه إذا
أدى الثلث فهو غريم من الغرماء، روي ذلك عن ابن مسعود وشريح، وقول خامس:
أنه إذا أدى الثلاثة الأرباع فهو غريم، روي ذلك عن عطاء. وقول سادس: أن
المكاتب إذا أدى قيمته فهو غريم، روي هذا أيضا عن ابن مسعود وشريح.
فصل واختلف هل للسيد أن يجبر عبده على الكتابة أم لا على قولين، فروي عن
مالك أن له أن يكاتبه كرها، حكاه عنه إسماعيل القاضي في كتاب الأحكام له،
وهو الذي يأتي على مذهبه في المدونة، لأنه إذا كان له أن يعتقه بتلا على
مال يجعله- عليه بعد العتق دينا ويلزمه ذلك فأحرى أن تلزمه الكتابة، وهو
ظاهر رواية أشهب عن مالك في سماعه من العتبية. واختلف قول ابن القاسم في
ذلك، فله في المكاتب من المدونة في الذي يكاتب عبده على نفسه وعلى عبد
للسيد غائب إن الكتابة تلزمه ويتبع بها شاء أو أبى. وقال في العتق الثاني
منها في الذي يقول لعبده
(3/179)
أنت حر على أن تدفع إلي كذا وكذا إلى أجل
كذا وكذا أو لم يسم الأجل: إنه لا يكون حرا إذا لم يقبل ذلك العبد. وذلك
خلاف لقوله في إجازة الكتابة على الغائب. وحكى ابن حبيب الاختلاف في ذلك
أيضا وبالله التوفيق.
فصل والذي اختار ابن بكير وإسماعيل القاضي أن للسيد أن يجبر عبده على
الكتابة، لأنه إذا كان للسيد أن يؤاجر عبده السنة أو السنتين ويأخذ الأجرة
وهو باق على رقه، فمكاتبته مدة معلومة على مقدار ما يعلم أنه يطيق أداءه في
تلك المدة من عمله واكتسابه لازم له ليس له أن يمتنع منه، لأن ذلك يفضي به
إلى الحرية من غير ضرر يلحقه فيه.
وتعلق من منع من ذلك بظاهر قول الله عز وجل: {فَضْلِهِ وَالَّذِينَ
يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ
عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] فقال: في هذا دليل على أنه لا
يكاتب إذا لم يبتغ الكتابة، وهذا بعيد، لأن السيد إذا كان مرغبا في كتابة
عبده إذا سأله ذلك مأجورا عليه فهو في مكاتبته إياه من غير أن يسأله
الكتابة أعظم أجرا وأكثر ثوابا، وليس للعبد أن يمتنع من ذلك للعلة التي
قدمناها. واعتل أيضا من منع ذلك بأن السيد يتهم على إسقاط نفقته التي كانت
تلزمه عن نفسه، وهي علة ضعيفة، لأنه وإن سقطت عنه نفقته فقد منع نفسه من
استخدامه وأخذِ خراجه، لأنا لا نقول: إن له أن يجبر على الكتابة إلا من
يقوى عليها ولا يضعف عنها.
(3/180)
فصل فإن قال الرجل لعبده: أنت حر بتلا
وعليك كذا وكذا؛ لزمه المال في قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَبِل العبد
أو لم يَقْبل، ويسقط عنه في قول ابن القاسم. ولابن القاسم في آخر العتق
الثاني مثل قول مالك هذا. وقال ابن نافع: لا يكون حرا ويكون المال دينا
عليه إلا أن يقبل ذلك ويرضى به. وأما إن قال: أنت حر على أن عليك كذا وكذا؛
ففي ذلك ثلاثة أقوال:
أحدها: قول مالك في كتاب المكاتب من المدونة أنه العبد حر والمال عليه
بمنزلة قوله: أنت حر بتلا وعليك كذا وكذا.
والثاني: رواية يحيى عن ابن القاسم في كتاب المكاتب أن العبد بالخيار إن
شاء أن يعجل له الحرية ويكون غريما بما سمي من المال فذلك له، وإن كره أن
يكون غريما بها فلا عتاقة له.
والثالث: قول ابن القاسم في العتق الثاني من المدونة: إن قبل كان حرا إذا
أدى المال كالكتابة، وإن لم يقبل فلا حرية له، إلا أن يفرق على مذهبه بين
قوله: أنت حر على أن عليك كذا وكذا، وأنت حر على أن تدفع إلي كذا وكذا،
وفُرِّق بين ذلك. ولا تفرقة بينهما وجهٌ وهو أنه إذا قال: على أن تدفع فقد
جعل الدفع إليه وإذا قال: على أن عليكم فقد ألزمه ذلك ولم يجعله إليه. وقد
قيل: إن هذين اللفظين سواء بخلاف قوله: على أن تؤدي إلي كذا وكذا. والصواب
ألا فرق بين أن يقول على أن تدفع أو على أن تؤدي. ويتخرج في المسألة قول
رابع وهو أن يكون حرا إذا أدى المال شاء أو أبى على مذهب من يؤاجر العبد
على الكتابة، وقد بينا ذلك.
فصل والكتابة جائزة على ما تراضى عليه العبد وسيده من قليل أو كثير، وتجوز
(3/181)
على مذهب مالك حالة ومؤجله. فإن وقعت
مسكوتا عليها نجمت، لأن العرف في الكتابة أن تكون مؤجلة منجمة. هذا قول
متأخري أصحابنا. وقال ابن أبي زيد في رسالته: والكتابة جائزة على ما رضيه
العبد وسيده من المال منجما. فظاهر قوله أن الكتابة لا تكون إلا منجمة،
وليس ذلك بصحيح على مذهب مالك. وإنما صنع من الكتابة الحالة ولم يجزها أبو
حنيفة وأصحابه، وأجازها بعضهم على نجم واحد، ومنهم من قال: لا تجوز على أقل
من نجمين. والذي يدل على صحة مذهب مالك في ذلك قول الله عز وجل:
{فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] فأطلق ولم
يقيد مكاتبة من مكاتبة، فظاهره يفيد إباحة الكتابة الحالة والمؤجلة.
[فصل في الكتابة بالغرر والمجهول]
فصل ولا تجوز الكتابة بالغرر والمجهول، إلا أنه يستخف فيها ما لا يستخف في
البيوع، فتجوز الكتابة على وصفين غير موصوفين، وعلى عبد فلان وما أشبه ذلك
وإن كان لا يجوز في البيوع.
فصل وهذا فيه تفصيل: أما الكتابة إلى أجل مجهول أو بغرر أو مجهول إلا ما
يستخف من الغرر اليسير الذي ذكرناه فإن كان الغرر في حقهما أو في حق السيد
منها، مثل أن يقول: أكاتبك إلى موت فلان بكذا وكذا لشيء معلوم أو إلى أجل
معلوم بعبد آبق أو بعير شارد أو جنين في بطن أمه لفلان إن قدرت على شيء من
ذلك كله في الأجل بهبة أو ميراث، أو بلؤلؤ غير موصوف وما أشبه ذلك فلا يجوز
قولا واحدا. وأما إن كان الغرر في حق المكاتب منها مثل أن يكاتبه إلى أجل
معلوم على عبد فلان أو على أن يأتيه بعبده الآبق أو يقول له كاتبتك على أن
تقوم لي على هذه البقرات فإن بلغت كذا وكذا إلى أجل كذا فأنت حر، فيتخرج
ذلك كله على
(3/182)
قولين لدخول الخلاف من بعضهم في بعض؛ لم
يجز ابن القاسم في سماع يحيى الكتابة في مسألة البقرات حسبما يأتي القول
عليه في موضعه من شرح كتاب المكاتب من العتبية. وأجاز في سماع أبي زيد منه
الكتابة على طلب العبد الآبق وأجاز في المدونة الكتابة على عبد فلان، ولم
يجز ذلك أشهب. وأما إن كان للعبد عبد أَبَق فكاتبه سيده عليه فإن برئ منه
إليه الآن فهو حر والعبد الآبق للسيد وجده أو لم يجده، لأن مقتضى الأمر
إنما هو أعتق عبده وانتزع منه عبده الآبق. وأما إن لم يبرأ إليه منه وإنما
كاتبه على أن يطلبه فيجيئه به، فإن وجده وجاء به في الأجل خرج حرا، وإن حل
الأجل ولم يجده رجع رقيقا على حكم الكتابة إذا عجز المكاتب، فهو بمنزلة إذا
كاتبه على أن يجيئه بعبده الآبق يجري ذلك على الاختلاف الذي ذكرناه، وبالله
التوفيق.
فصل وإذا كاتب الرجل عبده فقد أحرز ماله عن سيده، فليس له أن ينتزعه منه،
وهو كالمأذون له في التجارة فيجوز بيعه وشراؤه ومقاسمته شركاءه وإقراره
بالدين لمن لا يتهم عليه، وليس له أن يهب ولا أن يتصدق ولا أن يعتق إلا
بإذن سيده. وقد قيل: إنه لا يجوز لسيده أن يأذن له في ذلك لأنه داعية إلى
أن يرق نفسه. وليس له أن ينكح ولا أن يسافر إلا بإذن سيده. وهذا قول مالك
في موطئه. قال في المدونة: إلا أن يكون سفرا قريبا.
فصل والكتابة من العقود اللازمة، فإذا عقد السيد لعبده الكتابة لزمهما
العقد ولم يكن لأحدهما خيار في حله، ليس للسيد أن يفسخ كتابة عبده باختياره
إذا أبى العبد
(3/183)
ولا للعبد أن يُعجِّز نفسه باختياره إذا
أبى السيد وله مال ظاهر. فإن رضي العبد وسيده بفسخ الكتابة وله مال ظاهر
فلا يخلو من أن يكون للمكاتب ولد في الكتابة أو لا يكون له ولد. فأما إن
كان له ولد فليس لهما ذلك لتعلق حق الولد في العقد، وأما إن لم يكن له ولد
فذلك على قولين:
أحدهما: أن ذلك ليس لهم أو، وهو قول مالك في المدونة. ووجه ذلك أن الكتابة
تتعلق بها ثلاثة حقوق: حق لكل واحد من المتعاقدين، وحق لله تعالى وهو حرمة
العتق. فإن رضي المتعاقدان بإسقاط حقهما لم يسقط لذلك حق الله تعالى،
كالعبد بين الرجلين يعتق أحدهما نصيبه وهو موسر فيرضى شريكه والعبد بترك
التقويم؛ فلا يجوز ذلك لأن فيه إسقاط حق الله تعالى في إكمال الحرية.
الثاني: أن ذلك لهما، وهو قول ابن كنانة وابن نافع. ووجهه أن الحق في عقد
الكتابة للمتعاقدين لا يتعداهما، فإذا رضيا بإسقاطه جاز، كتقابل المتابعين.
وذهب الشافعي إلى أنه للعبد أن يعجز نفسه أي وقت شاء، شاء سيده أو أبى وإن
كان له مال ظاهر. وحجته أن حق المكاتب لما كان في الكتابة أغلب من حق سيده
لم تكن الكتابة لازمة في حقه، كالنكاح لما كان حق الزوج مغلبا فيه لم يكن
العقد لازما في حقه. وهذا كله غير صحيح، لأن في الكتابة حق لله وحق للسيد،
فلا نسلم أن حق المكاتب أغلب. ولو سلمنا ذلك لم يجب إذا غاب أحد الحقين أن
يسقط من غير عذر. ألا ترى أن الزوج وإن ملك الطلاق فإنه لا يملك به إسقاط
حق الزوجة من المهر إن سمي، وإنما أسقط به حق نفسه. وفي تعجيز العبد نفسه
إسقاط حق السيد من العوض الذي تراضيا عليه.
فصل وأما التعجيز إذا لم يكن له مال ظاهر فلا يخلو من ثلاثة أحوال:
(3/184)
أحدها: أن يتراضيا على ذلك العبد وسيده.
والثاني: أن يدعو إلى ذلك العبد ويأبى السيد.
والثالث: أن يدعو إلى ذلك السيد ويأبى العبد.
أما إذا تراضيا على ذلك العبدُ وسيدُه فذلك جائز لأن حق الله قد ارتفع
بالعذر وهو ظهور العجز، ولا يحتاج في ذلك إلى الرفع إلى السلطان على ما في
المدونة.
وقد قيل إنه لا يعجز إلا بالسلطان، لأن حق الله تعالى لا يُصدَّقان على
إسقاطه ولا يسقط إلا بعد نظر السلطان واجتهاده.
وأما إن دعا إلى ذلك العبد وأبى السيد فله أن يعجز نفسه دون السلطان لأنه
موضع لا مدخل فيه للاجتهاد ولا يفتقر فيه إلى حكم.
وأما إن دعا إلى ذلك السيد وأبى العبد فليس له أن يعجزه إلا بالسلطان بعد
التلوم والاجتهاد، وبالله التوفيق.
(3/185)
|