المقدمات
الممهدات [كتاب التدبير] [القول في التدبير]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وبه أستعين وعليه أتوكل
كتاب التدبير
القول في التدبير
التدبير عقد من عقود الحرية يلزم من التزمه ويجب على من أوجبه على نفسه
لقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}
[المائدة: 1] . ولما روي من قول النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «المدبر لا
يباع ولا يوهب» . وهذا إذا كان التدبير مطلقا غير مقيد. فأما إن كان مقيدا
بسفر بعينه أو بمرض بعينه أو ما أشبه ذلك فاختلف فيه على ما سنذكره إن شاء
الله تعالى.
فصل وصفة التدبير المطلق اللازم أن يقول الرجل في عبده: هو مدبر أو حر عن
دبر مني، أو حر بعد موتي بالتدبير، أو حر بعد موتي لا يغير عن حاله وما
أشبه ذلك.
فصل واختلف إذا قال الرجل لعبده: أنت حر بعد موتي أو إذا مت ولم يزد على
هذا القول، هل هو محمول على الوصية حتى يتبين أنه أراد التدبير، أو محمول
على
(3/187)
التدبير حتى يتبين أنه أراد الوصية؟ فحمله
ابن القاسم على الوصية حتى يعلم أنه أراد التدبير، وحمله أشهب على التدبير
حتى يعلم أنه أراد الوصية. ولكلا القولين وجه من النظر. ولو قال: إن فعلت
كذا وكذا فعبدي حر بعد موتي ففعله لكان مدبرا لا رجوع فيه على قولهما جميعا
لوجوب العتق عليه بعد الموت بالحنث، وذلك منصوص عليه لابن القاسم في
المدونة وغيرها. فإذا دبر الرجل عبده تدبيرا مطلقا فقد لزمه ووجب عليه وليس
له أن يرجع عنه بقول ولا فعل على مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجميع
أصحابه، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه. وقال الشافعي وأبو ثور وأحمد بن حنبل
وإسحاق بن راهويه: هي وصية وله أن يرجع فيها. واحتجوا بحديث جابر «أن النبي
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - باع مدبرا» وبأن عائشة دبرت جارية
لها ثم باعتها. إلا أنهم اختلفوا بماذا يكون له الرجوع فيه، فقال الشافعي:
إنما يكون له أن يرجع فيه بأن يخرجه عن ملكه ببيع أو هبة أو صدقة. وأما إن
قال: قد رجعت في تدبيره ولم يخرجه عن ملكه حتى مات فليس برجوع منه ويعتق في
ثلثه. وقال أبو ثور: إذا قال: قد رجعت فيه فقد بطل تدبيره وإن مات وهو في
ملكه لم يعتق. والصحيح ما ذهب إليه مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن التدبير
لازم له وواجب عليه ليس له أن يرجع عنه بقول ولا يفعل لما قدمناه من ظاهر
القرآن. وما روي في ذلك عن النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بخلاف الوصية
وبالله التوفيق.
فصل والفرق بين التدبير والوصية أن التدبير عتق قد أوجبه لعبده على نفسه في
حياته إلى أجل آت لا محالة، أن لا يكون له الرجوع فيه بقول ولا فعل كالمعتق
إلى أجل، لأن العتق يقع عليه عند الموت واحتمال الثلث له بعقد السيد المعتق
له، كما يقع على المعتق إلى أجل عند حلول الأجل بعقد السيد المعتق له.
والموصى بعتقه لم يعقد السيد له عقد عتق في حياته، وإنما أمر أن يعتق عنه
بعد وفاته، فالعتق إنما يقع عليه بعد الموت من الموصي إليه، فهو كمن وكل
رجلا أن يبيع
(3/188)
عبده من فلان أو يهبن له أنَّ له أنْ يرجع
عن ذلك بما شاء من قول أو فعل ما لم ينفذ الوكيل أمره.
فصل ولا حجة للشافعي ومن ذهب مذهبه في إبطال التدبير وإجازة بيع المدبر
فيما رواه جابر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أنه باع
مدبرا» لأنه إنما هو حكاية فعل، فيحتمل أن يكون تدبيره مقيدا، ويحتمل أن
يكون كان عليه دين قبل التدبير فباعه عليه في الدين. وإذا احتمل الحديث هذه
الاحتمالات لم يكن لهم أن يحملوه على موضع الخلاف وإلا ولنا حمله على موضع
الوفاق.
فصل فإن قالوا: الأحاديث إنما تنقل للفائدة فلو حمل الحديث على الوفاق لم
تكن فيه فائدة لأن موضع الوفاق مستفاد بالإجماع ففي حمله على موضع الخلاف
فائدة مجردة قيل لهم: هذا تحكم، لأنه قد ينقل ما يفيد كما ينقل ما يؤكد ما
قد استفيد، ولعل هذا الحديث هو الشرع الذي صدر عنه الإجماع الذي قد استفدنا
معرفته. وإذا كان الأمر على ذلك فلا يصح أن يحمل على ما يستفاد منه فائدة
مجردة دون ما استفدناه بالإجماع مع احتماله للموضعين بغير دلالة.
وإنما كان يصح لهم التعلق بالحديث لو كان لفظا عاما مثل أن يقول: بيع
المدبر جائز لحق حمله على عمومه في جميع المواضع حتى يأتي ما يخصه. وأما
وليس بلفظ عام وإنما هو حكاية فعل فلا.
فصل ومما يدل على صحة ما ذهبنا إليه من حمل هذا الحديث الذي ورد مجملا على
موضع يجوز فيه بيع المدبر عندنا وعندهم أنه قد روي هذا الحديث مفسرا، فرواه
الأعمش عن سلمة بن كهيل «عن جابر قال: أعتق رجل من الأنصار عبدا له عن دبر
يسمى مذكورا قبطيا وكان محتاجا وعليه دين فباعه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمائة
(3/189)
درهم وقال: اقض دينك» . ونحن نجيز بيع
المدبر إذا صادف عقد تدبيره دينا على سيده. وقد روي أيضا من طريق جابر بن
عبد الله «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - باع مدبرا
في دين» . واختلفت تأويلات أصحابنا، فمنهم من قال إن الحديث الأول يفسره
لأنه هو بعينه، ومنهم من قال: هو حديث آخر، ومعناه أنه باعه بعد الموت في
دين، إذ لم يذكر في الحديث أنه باعه عليه في حياته. وولاية النبي -
عَلَيْهِ السَّلَامُ - بيعه من أدل دليل على أنه إنما باعه عليه في حق
لازم، لأن الإمام لا يلي بيع مال أحد إلا في موضع الحكم. فإن كان بيعه عليه
في حياته فلدين سبق التدبير والله أعلم. وقد روي أيضا من رواية جابر بن عبد
الله عن «النبي - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه باع خدمة المدبر» فيحتمل أن
يكون هذا معنى الحديث وإنما تجوز الراوي في اللفظ إذ الإجارة بيع من
البيوع. وكذلك حديث عائشة الذي احتجوا به في إجازة بيع المدبر لا حجة لهم
فيه لأن السحر الذي فعلته يوجب القتل فكيف بالبيع. ويحتمل أن يكون العتق
يبطل بقصدها إلى استعجاله قبل وقته بما لا يجوز لها كالنكاح في العدة يمنع
من النكاح بعدها، وكالقاتل عمدا يمنع الميراث، لأنه أراد استعجاله قبل أن
يجب له. وأيضا فقد روي أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رد بيع
هذه المدبرة وطلبها فلما لم يجدها جعل ثمنها في مدبرة. وحكمه- رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - بذلك في ملأ خير القرون وهم حضور متوافرون دليل على
إجماعهم على أن بيع المدبرة لا يجوز، والإجماع أصل يجب المصير إليه والعمل
به.
فصل ومما احتج به أصحابنا في وجوب التدبير والمنع من بيعه أن المدبر لما
انتقل اسمه بعقد الحرية الذي عقد له سيده وجب أن ينتقل حكمه وألا يجوز بيعه
كالمكاتب لما انتقل اسمه انتقل حكمه ولم يجز بيعه.
(3/190)
فصل وقد استدل بعض أهل العلم على الفرق بين
الوصية والتدبير بالإجماع على أن المدبر لا يرجع فيه بالقول وأن الوصية
يرجع فيها بالقول، وليس ذلك بصحيح، لأن أبا ثور يجيز الرجوع في التدبير
بالقول على ما حكيناه.
فصل ومما يدل على صحة ما ذهب إليه مالك من أن المدبر لا يجوز بيعه أن عقود
العتق على ضربين: ضرب منها علق العتق فيه بصفة آتية لا محالة كمجيء الشهر
وموت زيد وما أشبه ذلك، فهذا الضرب لا يجوز فيه بيع العبد. وضرب علق فيه
بصفة يجوز أن يقع ويجوز أن لا يقع، كقدوم زيد وما أشبه ذلك. فهذا يجوز
البيع فيه على الأشهر من الأقاويل ما لم يحصل الصفة والمدبر من الضرب الأول
لأن العتق معلق فيه بصفة آتية لا محالة وهي موت السيد، فوجب ألا يجوز بيعه،
وأشبه أم الولد أيضا التي لا يجوز بيعها لتعلق عتقها بموت سيدها. فإن قال
قائل: إذا جاز بيع المدبر فكان بخلاف المعتق إلى أجل، لأن التدبير يعتق من
الثلث والمعتق إلى أجل من رأس المال. ولما كان المدبر يعتق من الثلث وجب أن
يجوز بيعه كالموصى بعتقه. قيل له: ليس هذا بصحيح لأن كون الموصى بعتقه من
الثلث ليس هو العلة في جواز بيعه. والدليل على ذلك أن من أعتق عبده إلى أجل
يعلم أنه لا يبلغه عمر السيد وقد يبلغه عمر العبد يعتق من الثلث ولا يجوز
بيعه، ووجود العلة مع عدم الحكم مفسر لها لا محالة، وهذا بين.
فصل وإنما كان المدبر من الثلث لأن السيد يتهم على أن يستخدم عبده طول
حياته ثم يعتقه من رأس ماله بعد وفاته فيبطل الميراث الذي أوجبه الله
للورثة. ومن أهل العلم من لا يراعي هذه التهمة فيراه من رأس المال وهو قول
داود. ويرده ما روى أبو قلابة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: «المدبر من الثلث» . وقد احتج ابن القصار للزوم عقد
(3/191)
التدبير للمدبرة بسراية التدبير إلى ولدها
وكونه مدبرا معها، وحكم أن ذلك إجماع بخلاف الوصية. واحتجاجه بذلك لا يلزم،
إذ ليس بإجماع، فقد حكى أبو بكر بن المنذر في كتاب الأشراف له عن عمر بن
عبد العزيز وعطاء وجابر بن زيد أنهم مملوكون، واحتج جابر بن زيد بأن ذلك
بمنزلة الحائط يتصدق به الرجل إذا مات، فله ثمرته ما عاش، فحكم لولد
المدبرة بحكم الغلة. وكان الشافعي يقول: فيها قولان.
أحدهما: أنهم بمنزلة أمهم.
والقول الثاني: كما قال جابر بن زيد. ومالَ المُزَنِي إلى قول جابر بن زيد.
قال: هو أشبههما بقول الشافعي.
قلت: وكذلك اختلف أيضا في ولد المدبر من أمته، فقال مالك على أصله: إنهم
بمنزلته مدبرون معه. وروي عن عبد الله بن عمر أنهم بمنزلة أمهم، وبه قال
عطاء والزهري والأوزاعي والليث بن سعد. وإذا حكموا لهم بحكم أمهم فهم
مملوكون بمنزلة مال المدبر، لسيده انتزاعهم منه ما لم يمرض أو يموت. وفي
المدونة ليحيى بن سعيد قول ثالث: أن المدبر لا يباع وسيده أولى بماله ما
كان حيا، فإذا توفي سيده فمال المدبر له وولده من أمته لورثة سيده، لأن
ولده ليس من ماله. هذا نص قوله، فلم يحكم لولده من أمته بحكمه فيكون مدبرا
معه كقول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ولا حكم له بحكم أمه، إذ لو حكم له
بحكم أمه كما قال ابن عمر وعطاء والزهري والأوزاعي لوجب إذا لم ينتزعه
السيد حتى مرض أو مات أن يكون تبعا للمدبر كماله، إن حمله الثلث أعتقوا
عليه، وإن لم يحمله الثلث أعتق منه ما حمل الثلث وأُقدَّ ولده بيده. ويحتمل
أن يريد يحيى بن سعيد أن ولده من أمته ولد له قبل التدبير فلا يكون قوله
على هذا التأويل مخالفا لقول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
فصل قد مضى الكلام في التدبير المطلق. وأما التدبير المقيد وهو أن يقيد
تدبيره
(3/192)
بمرض أو سفر أو ما أشبهه ذلك مما قد يكون
ولا يكون، مثل أن يقول: أنت مدبر إن مت من مرضي هذا أو في سفري هذا أو في
هذا البلد، أو أنت مدبر إذا قدم فلان وما أشبه ذلك، فاختلف فيه. روى أصبغ
عن ابن القاسم في كتاب المدبر من العتبية أنها وصية وليس بتدبير إلا أن يرى
أنه أراد بذلك التدبير وقصده، فله على هذه الرواية أن يرجع عنه في مرضه ذلك
ويبيعه إن شاء. وفي كتاب محمد بن المواز لابن القاسم، وكتاب محمد بن سحنون
لابن القاسم وابن كنانة أنه تدبير لازم لا رجوع فيه، معناه عندي إن مات من
مرضه ذلك.
وهذا الاختلاف يقوم من المدونة من اختلاف ابن القاسم ومالك في الرجل يقول
لعبده: أنت حر إذا قدم فلان، فقال مالك: ليس له أن يبيعه حتى ينظر هل يقدم
فلان أم لا. وقال ابن القاسم: لا أرى ببيعه بأسا. فكذلك لو قال لعبده: أنت
مدبر إذا قدم فلان يلزمه التدبير على قول مالك من ساعته بشرط قدوم فلان،
ولا يكون له أن يبيعه ولا أن يرجع فيه بقول حتى ييأس من قدوم فلان. وعلى
قول ابن القاسم لا يكون تدبيرا وإنما هي وصية، فكأنه قال إذا قال: إذا قدم
فلان أو إن قدم فلان فيعتق عني عبدي فلان بعد موتي، فيكون له أن يبيعه وأن
يرجع فيه بالقول إن شاء، فيقول قبل قدوم فلان وبعد قدومه: قد رجعت عن عتق
فلان، بخلاف قوله: أنت حر إذا قدم فلان، هذا لا يكون له- على مذهب ابن
القاسم - أن يرجع فيه بالقول، وإنما له أن يبيعه لأنه يشبه اليمين، فإذا
بقي في ملكه حتى قدم فلان لزمه العتق.
فصل ومما يبين ما ذهبنا إليه من إقامة الاختلاف من المدونة في مسألة
التدبير المقيد بشيء قد يكون ولا يكون، أنه لو قيد تدبير عبده بصفة آتية لا
محالة مثل أن يقول له: إذا مات فلان فأنت مدبر عني أو إذا انقضى العام فأنت
مدبر عني للزمه التدبير ولم يكن له فيه رجوع باتفاق، كما يلزمه العتق إلى
أجل آت لا محالة باتفاق. وبالله تعالى التوفيق.
(3/193)
فصل والمدبر على وجهين:
مدبر في الصحة.
ومدبر في المرض. وهما جميعا- على مذهب مالك - من الثلث، إلا أنه يُبَدِّئ
مدبر الصحة على مدبر المرض إذا ضاق الثلث عنهما، ويدخل المدبر في الصحة
فيما علم وفيما لم يعلم من المال. واختلف في مدبر المرض فقيل: إنه يدخل
فيما علم وفيما لم يعلم، وقيل: إنه لا يدخل إلا فيما علم. وإذا مات سيد
المدبر ولم يحمل ثلثه المدبر عتق منه ما حمل الثلث وكان باقيه للورثة ولم
يجب عليه السعي في افتكاك رقبته كما يقوله أبو حنيفة في ذلك. وإن لم يكن له
مال غيره عتق ثلثه، وإن كان عليه دين بيع فيه إن أحاط الدين به، وإن لم يحط
به بيع منه قدر الدين وأعتق منه ثلث باقيه. وقال أبو حنيفة: إنه لا يباع في
الدين ويسعى فيه للغرماء فإذا أدى ما لهم خرج حرا، ذكر ذلك عبد الوهاب في
المعونة.
فصل وللرجل أن يطأ مدبرته لأن ذلك لا ينقص تدبيرها بل يؤكده، لأنها قد تحمل
فتكون أم ولد وهو أقوى من التدبير، بخلاف المكاتبة لأنها تستعجل العتق
بالأداء فليس له أن ينقض ذلك عليها. وله أن يستخدم مدبرته ويؤاجرها بخلاف
أم الولد إذ ليس له فيها إلا الاستمتاع بالوطء طول حياته، وقد ثبتت لها
حرية بالإيلاد لا يبطلها دين ولا غيره.
وبالله التوفيق ولا شريك له.
(3/194)
|