النوادر والزيادات على ما في المدونة من غيرها من الأمهات

بسم الله الرحمن الرحيم
عونك اللهم

الجزء الأول من كتاب آداب القضاء
في الإجابة إلى القضاء وطلبه والتخلف عنه وما يحذر فيه وما يتقي ومن أول من استقضي
قال الله تبارك وتعالى: (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تبع الهوى فيضلك عن سبيل الله). قال أبو محمد: حدثني أ؛ مد بن محمد بن زياد الأعرابي قال: حدثني أبو داود سليمان بن الأشعث قال: حدثنا بسر بن عمرالزهراني، عن عبد الله بن جعفر، عن عثمان بن محمد الأعشى، عن المقبري، والأعرج عن أبي هريرة قال: من جعل قاضيا بين الناس فقد ذبح بغير سكين. ومن كتاب ابن سحنون: روى سحنون هذا الحديث عن ابن نافع، عن عثمان بن محمد، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله. [8/ 5]

(8/5)


ومن كتاب ابن دواود حدثنا ابن الأعرابي: روى بريدة الأسلمي، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: القضاة ثلاثة، واحد في الجنة، واثنان في النار، فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به، ورجل عرف الحق قدارى في الحكم فهو في النار، ورجل قضي في الناس على جهل فهو في النار.
ومنه: روى عمرو بن العاص، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: إذا حكم الحاكم فاجتهد، فأصاب، فله أجران، فإذا حكم، فاجتهد فأخطأ، فله أجر.
ومنه: قال أبو مسعود: كان يكره التسرع إلى القضاء.
ومنه: روى أنس، أن/ النبي صلى الله عليه وسلم، قال: من طلب القضاء، واستعان عليه، وكل إليه، ومن لم يطلبه، ولم يستعن عليه، أنزل الله ملكا يسدده.
روى عنه أبو موسى الأشعري، فقال: لا نستعمل أو لن نستعمل على عملنا من أراده.
ومن كتاب ابن سحنون: قال ابن القاسم قال مالك: بلغني أن عمر قال: لا يقوى على هذا الأمر أحد أخذه طائعا.
قال سحنون: أخبرنا ابن نافع، عن ابن أبي ذئب، عن المقبري، عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ستحرصون على الإمارة، وستكون ندامة وحسرة يوم القيامة، فنعمت المرضعة، وبئست الفاطمة. [8/ 6]

(8/6)


وحدثني ابن غانم، عن مالك، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن ابن هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، الدين النصيحة، قيل لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين ولعامتهم.
قال مالك: كان مما يتحدث به الناس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تسل الإمارة؛ فإنك إن أعطيتها عن غير مسألة تعن عليها، وإن أعطيتها عن مسئلة، توكل إليها.
ومن الواضحة: قال سليمان بن يسار: قال عمر رضي الله عنه: ليتني أنجو منها كفافا لا علي ولا لي.
وروى طاوس، عن حذيفة، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن أععتى الناس على الله، وأبعض الناس إلى الله، وأبعد الناس من الله يوم القيامة، رجل ولاه الله من أمة محمد شيئا، فلم يعدل فيهم.
قال طاوس: شر الناس عند الله يوم القيامة رجل أشركه الله في حكمه/ثم أدخل عليه الجور في عدله، وخير الناس عند الله يوم القيامة إمام مقسط.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: من ولى ولاية أحسن فيها أو أساء، أتى به يوم القيامةوقد غلت يمينه إلى عنقه. [8/ 7]

(8/7)


وروى ابن القاسم، وابن وهب، أن مكحولا، قال: لو خيرت بين القضاء وبين العمى، لاخترت العمي، ولو خيرت بين القضاء وبين ضرب عنفي، لاخترت ضرب عنقي.
روى مالك، أن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، قال: لو علمت بمكان رجل هو أقوى على هذا الأمر مني، لكان أن أقدم فتضرب رقبتي أحب إلي من أن أليه، فمن وليه بعدي فليعلم أنه سيزيده عليه القريب والبعيد، وأيم الله إن كنت لأقاتل الناس عن نفسي.
وروى ابن شهاب، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ما من أحد أقرب إلى الله مجلسا يوم القيامة بعد ملك مصطفى، أو نبي مرسل، من إمام عدل، ولا أبعد من الله من من إمام جائر يأخذ بحبه. قال ابن حبيب: يعني يحكم بهواه.
قال قتادة: إن موسى عليه السلام، قال: يا رب ما أقل ما وضعت في الأرض؟ قال: العدل.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: إن أقارب الوالي لينحتون أمانته كما تنحت الأصطوانة، حتى يبدو قلبه.
وروى مكحول، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: الولاية ملامة/، وأوسطها ندامة، وآخرها عذاب يوم القيامة، إلا من اتقى الله وعدل، وكيف يعدل الرجل مع قريبه. [8/ 8]

(8/8)


قال مطرف: قال مالك: قال يحي بن سعيد: وليت قضاء الكوفة وأنا أرى أنه ليس على الأرض شيء من العلم إلا وقد سمعته؛ فأول مجلس جلسته للقضاء، اختصم إلى رجلان في شيء، ما سمعت فيه شيئا.
قال مطرف: قال مالك وكتب سلمان إلى أبي الدرداء: بلغني أنك جعلت طبيبا تداوي؛ فإن كنت تبرئ فنعما لك، وإن كنت متطيبا، فاحذر أن تقتل إنسانا فتدخل النار. فكان أبو الدرداء إذا قضى بين اثنين، ثم أدبرا عنه، نظر إليهما، فقال: ارجعا إلى أعيدا علي قصتكما. متطيبا والله.
قال أبو قلابة: مثل القاضي العالم كالسابح في البحر، فكم عسى أن يسبح حتى يعرق! قال مطرف، عن مالك، قال: دعا عمر رجلا ليوليه فأبى، فجعل يريضه على الرضا ويأبى حتى قال: أنشدك الله يا أمير المؤمنين، أي ذلك تعلم خيرا لي؟ قال: أن لا تلي، قال فأعفني قال: قد فعلت.
قال مالك: قال لي عمر بن حسين: ما أدركت قاضيا استقضي بالمدينةإلا كاره القضاء، وكراهيته في وجهه.
وزاد في المجموعة: إلا قاضيين سماهما.
ومن الواضحة، والمجموعة، والعتبية، وكتاب ابن المواز: قال مالك: أول من استقضى معاوية، ولم يكن/ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا لأبي بكر، ولا لعمر، ولا لعثمان، رضي الله عنهم، قاض بل كان الولاة هم الذين يقضون، وأنكر قول أهل العراق، إن عمر رضي الله عنه استقضى شريحا، وقال: كيف يستقضي بالعراق، ولا يستقضي بالشام واليمن وغيرها كما قالوا؟ في العتبية: ومعاوية أول من جلس على المنبر، واستأذن الناس في ذلك، فقال: إني قد ثقلت. [8/ 9]

(8/9)


وروى العلاء بن كثير، أن عمر بن الخطاب نظر إلى شاب في وفد قدم عليه، فاستحلاه عمر، فأعجبه، فإذا هو يسأله القضاء، فقال له عمر: كدت أن تغرنا بنفسك، إن الأمر لا يقوى عليه من يحبه.
قال مالك، في المجموعة: ومن عيب القاضي أنه إذا عزل لم يرجع إلى مجلسه الذي كان يتعلم فيه.

في صفة القاضي، ومن يستوصب القضاء والفتيا وذكر شرائطه وإذا امتنع أن يلي
من الواضحة قال الليث: قال عمر: لا يصلح أن يلي هذا الأمر إلا حصيف العقل، قليل الغزة، بعيد الهمة، لا يطلع الناس منه على عورة، ولا يخشى في الله لومة لائم. قال ابن شهاب: قال عمر: لا يصلح أن يلي هذا الأمر إلا الشديد في غير عنف، اللين في غير ضعف، الجواد في غير سرف، البخيل في غير وكف، وربما قال: الممسك في غير بخل.
ومن المجموعة، وكتاب ابن المواز، وابن سحنون، بمعنى واحد، قال مالك: قال عمر بن عبد العزيز، لا ينبغي للرجل أن يكون قاضيا حتى يكون فيه خمس خلال: حتى يكون ورعا، ويكون فقيها، ويكون حليما، عالما بما كان قبله من الأقضية. وقال ابن زياد وابن حبيب، ورواه مطرف، وابن الماجشون، عن مالك.
وروى مثله أشهب، في المجموعة، وقاله عن عمر، ويكون عالما بالفقه والسنة، ذا نزاهة عن الطمع، مستخفا باللائمة، حليما عن الخصم، مستشيرا لذوي الأمر.
قال ابن حبيب، في رواية أخرى عن عمر، زاد فيهما: عاقلا صارما.
ومن كتاب محمد بن عبد الحكم: وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عامله بدمشق: أما بعد: فإني نظرت فلم أجد يصلح في الحكم إلا الرجل الجامع [8/ 10]

(8/10)


للفهم، العالم بأمر الله، القوي على أمر الناس، المستخف بسخطهم وملامتهم، ومن راقب الله، وكانت عقوبة الله أخوف في نفسه من أمر الناس، وهبه الله السلامة، فإن أهل الحق والبصيرة فيه، الملامة عنهم بطيئة.
ومن كتاب ابن سحنون قال سحنون: وإذا كان الرجل العالم فقيرا، وهو أعلم من بالبلد وأرضاهم، اسحق القضاء، ولكن لا ينبغي أن يجلس حتى يغنى، ويقضى عنه دينه.
قال سحنون: ولا يستقضي ولد الزنى، ولا يحكم في الزنى،/ كما أن القاضي لا يحكم لابنه. وكذلك في المجموعة عنه، قال أشهب في المجموعة: وذكر مثله ابن حبيب، عن مطرف وابن الماجشون، وأصبغ، قالوا: لا يستقضي إلا من يؤمن به في عفافه، وصلاحه، وفهمه، وعلمه بالسنة والآثار، ووجه الفقه الذي يؤخذ منه الكلام، ولا يصلح أن يكون صاحب حديث لا فقه له، أو فقيه لا حديث عنده، ولا يفتي إلا من كان هذا وصفه، إلا أن يخبر بشيء سمعه، ولا ينبغي وإن كان صالحا عفيفا بعد أن لا يكون له علم بالقضاء أو يولي. قالوا في كتاب ابن حبيب: فإن ما يخاف من الجهل مثل ما يخاف من الجور، قال مالك: ولا أرى خصال العلماء تجتمع اليوم في أحد، فإذا اجتمع منها خصلتان في رجل، رأيت أن يولي: العلم والورع. قال في المجموعة ابن القاسم، عن مالك: لا يستقضي من ليس بفقيه.
قال ابن حبيب: فإن لم يكن للرجل علم وورع، فعل وورع، فإنه بالعقل يسأل، وبالورع يعف، فإذا طلب العلم وجده، وإن طلب العقل لم يجده.
وقال أصبغ: إذا لم يجد الامام إلا رجلين؛ أحدهما عدل مأمون، لا علم له بالقضاء والسنة، والآخر عالم، وليس مثل الآخر في العدالة، وإن كان العالم لا بأس بحاله وعفافه، وإن كان دون الآخر في ذلك، فليول هو، وإن كان غير مرضي ولا موثوق في عفافه وصلاحه، ولقلة تقارقه ما لا ينبغي، فلا يولي هذا ولا هذا، فإن لم يجد/ غير هذين، ولى العدل القصير العلم وليجتهد ويستشير، وقد [8/ 11]

(8/11)


قال عمر رضي الله عنه: استشر في أمرك الذين يخشون الله. وإن وجد من يجمع العدل والعلم، فلا يولي غيره وإن لم يكن من أهل ذلك البلد.
ومن المجموعة، وكتاب ابن سحنون: قال ابن القاسم كره مالك أن يفتي الرجل حتى يستبحر في العلم، وقال: لا يفتي حتى يراه الناس أهلا للفتيا. قال سحنون: يريد: أهل النظر والمشورة والمعرفة، قال مالك: قال ابن هرمز، حتى يراه الناس أهلا للفتيا، ويرى هو نفسه أهلا لذلك.
قال مالك: قد كان الرجل يرحل إلى بلد في علم القضاء، وقال: علم القضاء ليس كغيره من العلم، ولم يكن ببلدنا أعلم من أبي بكر بن عبد الرحمن، أخذه من أبان، وأبان أخذه من أبيه عثمان، رضي الله عنه، قال ابن المواز: ولا ينبغي أن يستقضي إلا زكي، فهم، فطن، فقيه، متأن غير عجول.
ومن كتاب آخر، قال مالك: وكان عمر بن حسين، ممن يشاوره القضاة بالمدينة، قال في المجموعة: قال لي عمر بن حسين: ما أدركت قاضيا استقضى بالمدينة؛ إلا وكان القضاء وكراهيته في وجهه، إلا قاضيين سماها.
ومن كتاب آخر، قال: ولي بالكوفة قاض، فتخلف عنه بعض أصحابه، فلم يأته فعدله بعد ذلك، فقال لي: إن الأمر الذي صرت فيه لم أره عندك مصيبة فنعزيك، ولا هو عندي مكرمة فنهنيك.
ومن كتاب أصبغ: ولا بأس أن يولي القضاء محدود في زنى، أو في/ قرية، أو مقطوع في سرقة إذا كان في حال توبته اليوم مرضيا عدلا، وكان ذا علم، وليس هذا من ناحية الشهادات، وإن كانت شهادته لا تجوز في الزنى، فإن حكمه يجوز فيه، ألا ترى أن الحكام المسخوطين قد تجوز أحكامهم ما لم يحكموا بجور أو خطأ، ولا تجوز شهادتهم. قال أبو محمد: أعرف لسحنون: لا يولي المعتق القضاء خوفا أن تستحق رقبته، فتذهب أحكامهم. [8/ 12]

(8/12)


في الحكم بالعدل والاجتهاد وبماذا يقضي القاضي من الأصول والاجتهاد وفي مشورته للعلماء وفي شدته ولينه ورفقه وسياسته
قال الله تعالى (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى) وقال تبارك وتعالى: (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) وقال عز وجل: (كونوا قوامين لله شهداء بالقسط، ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى). قال اسماعيل القاضي: قال الحسن: أخذ عز وجل على الحكام ثلاثا: ألا يشتروا به غنا، ولا يتبعوا الهوى، ولا يخشوا فيه أحدا، وقال: (فلا تخشوا الناس واخشون) وقال: (وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب). قال الحسن: هو الفهم في القضاء، قال مالك: الخصوم والقضاء، قال مجاهد: الحكمة العقل، وفصل الخطاب: ما قال من شيء أنفذ، وقد ذكرنا في الباب الأول قول النبي صلى الله عليه وسلم: إذا اجتهد الحاكم فأصاب، فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ، فله أجر.
قال ابن حبيب/ وغيره: وهذا للحاكم العالم بالحكومة، المتحري للعدل. والحديث الآخر: القضاة ثلاثة؛ فواحد في الجنة، واثنان في النار فذكر اللذين في النار؛ الذي عرف الحق، فجار في الحكم، وآخر قضى بين الناس على جهل. [8/ 13]

(8/13)


وقال ابن حبيب: روى أبو موسى الأشعري، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: الحكام ثلاثة؛ إثنان في النار، وواحد في الجنة، حكم جهل فخسر، فأهلك أموال الناس، وأهلك نفسه، ففي النار، وحكم علم فعدل فهلك، وأهلك أموال الناس، وأهلك نفسه، ففي النار، وحكم علم؛ فعدل، فأحرز أموال الناس، وأحرز نفسه، ففي الجنة. قوله: فهل هذا بلغه أن القضاة ثلاثة؛ رجل خاف، فهو في النار ورجل تكلف فقضى بما لا يعلم، فهو في النار، ورجل علم فاجتهد فأصاب، فذلك ينجوا كفافا، لا له ولا عليه.
قال اسماعيل القاضي: قال إياس بن معاوية للحسن: بلغني أن القضاة ثلاثة. فذكر فيهم: ورجل اجتهد فأخطأ، فهو في النار، فقال الحسن: إن فيما قص الله تبارك وتعالى من ثناء داود وسليمان عليهما السلام: ما يرد قول هؤلاء الناس؛ يقول الله سبحانه: (وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث) الآية كلها قال عز وجل: (ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما) فأثنى على سليمان، ولم يذم داود عليهم السلام.
وقد روي في حديث معاذ: أن النبي صلى الله عليه وسلم، أذن له أن يجتهد رأيا فيما لم يكن في الكتاب والسنة وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: إن الله مع القاضي مالم يخفر أحد عهدا يسدده للحق ما لم ير غيره. وفي/ حديث عمر من رواية مالك: ما من قاض يقضي بالحق إلا كان عن يمينه ملك، وعن شماله ملك. [8/ 14]

(8/14)


وفي رسالة عمر إلى أبي موسى، في كتاب ابن سحنون، وفي غيره: وإذا أدلى إليك الخصم بحجته، فاقض إذا فهمت، ونفذ إذا قضيت، وقال: واس بين الناس في وجهك وفي مجلسك وعدلك، حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك، وقال: وإذا عرفت أهل الشغب، فأنكر وغير، فإنه من لم يزع الناس عن الباطل، لم يحملهم على الحق، ولا يمنعنك قضاء قضيت به اليوم، راجعت فيه نفسك، وهديت لرشدك أن ترجع فيه، وقاتل هواك كما تقاتل عدوك، واركب الحق غير مضار عليه، وإذا رأيت من الخصم العي والفهامة فسدده وفهمه وبصره في غير ميل معه، ولا جور على صاحبه، وقال: ثم شاور أهل الرأي من جلسائك وإخوانك، ثم عليك بشدة العقل فيما يتلجلج في نفسك مما ليس في القرآن، ولا في السنة، ثم اعرف الأشباه والأمثال والنظائر، وقس الأمور بعضها ببعض، ثم اعمد إلى أحبها إلى الله وأشبهها بالحق منه، واجعل لمن ادعى حقا غائبا أو بينة أمدا ينتهي إليه، فإن أحضر بينة، وإلا استحللت عليه القضية، وليس لوال ولا قاض أن يأخذ بظنه وعلمه، ولا بما شبه في حق أو حد دون أن يستحل ذلك ببينة عدل، وإياك والغضب القلق والزجر والتأذي بالناس، في/ الخصمومة.
ومن كتاب ابن سحنون: وقال مالك: وإذا كان ما يقضي فيه القاضي مما قد ظهر وعرف، وأحكمه الماضون، قضى به، وإن لم يبين له، وليس على ما وصفنا من ظهوره، فلا يعجل ويتثبت ويستأني، قال مالك: وما قضى مما في كتاب الله عز وجل، أو مما أحكمته سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو الحق لا شك فيه، وما كان من اجتهاد الرأي، فالله أعلم به، قال مالك: وليحكم بما في كتاب الله، فإن لم يكن فيه، فيما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا صحبته الأعمال، فإذا كان خبرا صحبت غيره الأعمال، قضى بما صحبته الأعمال، فإن لم يجد ذلك عن رسول [8/ 15]

(8/15)


الله صلى الله عليه وسلم، فيما أتاه عن أصحابه إن اجتمعوا، فإن اختلفوا، حكم بمن صحبت الأعمال قوله عنده، ولا يخالفهم جميعا ويبتدئ شيئا من رأيه، فإن لم يكن ذلك فيما ذكرنا، اجتهد رأيه وقاسه بما أتاه عنهم، ثم يقضي بما يجتمع عليه رأيه، ورأى أن الحق، فإن أشكل عليه، شاور رهطا من أهل الفقه ممن يستأهل أن يشاور في دينه ونظره وفهمه ومعرفته بأحكام من مضى وآثارهم، وقد شاور عمر وعثمان عليا رضي الله عنهم. قال سحنون: فإن اختلفوا فيما شاورهم، نظر إلى أشبه ذلك بالحق، فأنفذه، وإن رأى خلاف/ رأيهم، لم يعجل، ووقف وازداد نظرا، ثم يعمل من ذلك بالذي هو أشبه عنده بالحق، وقد بلغني عن بعض العلماء، قال: بقي القرآن موضعا للسنة، وبقيت السنة موضعا للرأي.
وفي المجموعة من أول كلام مالك، فيما يحكم به الحاكم، إلى آخره، إلا أنه نسبه إلى سحنون، وزاد: وليدع الخبر الذي صحبت غيره الأعمال، غير مكذب به، ولا معمول به. قال سحنون: وينبغي له إذا لم يستبن له الحكم ألا يعجل حتى يفكر وينظر، ويشاور فيه أهل الفقه الذين يستحقون أن يشاوروا.
قال أصبغ في كتابه: وإذا لم يجد الحكم في الكتاب، ولا في السنة، ولا فيما اجتمع عليه الصحابة، رضي الله عنهم، ولا فيما اختلفوا فيه، اجتهد رأيه، وشاور من يثق به، وقاس بالأصول، فإذا وداه اجتهاده بالتشبيه إلى شيء، وقدجاء حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو عن بعض الصحابة، رضي الله عنهم، فليترك ذلك الحديث، ويرد ذلك إلى الأصول.
وقال محمد بن عبد الحكم نحو قول أصبغ، أنه إذا لم يكن ذلك في كتاب الله، ولا في السنة، ولا في قول الصحابة، رضي الله عنهم، ولا في إجماع، اجتهد رأيا، ومثل الأشياء بعضها ببعض، والنظائر والأشباه، وشاور، ثم حكم وإن أشكل عليه الأمر، ولم يتبين له فيه شيء، تركه/ ولا يحكم وفي قلبه منه شك. [8/ 16]

(8/16)


ومن المجموعة والعتبية، من سماع أشهب، قيل لمالك: أيقضي إذا حضره الخصمان بما حضره ساعتئذ؟ قال: أما الأمر الذي قد عرفه، ومر عليه، وقضى به، فليقض به فيما رأى، وأما الأمر الذي لا يدري ما هو؟ ولم يفعله، فليتثبت، وينظر، وقال أشهب في المجموعة: ومطرف وعبد الملك في الواضحة: وينبغي للقاضي أن يقضي بما أمر الله في كتابه ولا أحكمت السنة خلافه، فيكون ذلك ناسخا له، ويكون نسخه في كتاب الله مجهولا، فإن لم يجد في كتاب الله فيما أتاه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مجتمعا عليه، فإن لم يجد، ففيما أتاه عن الصحابة رضي الله عنهم.
قال أشهب: فإن اختلفوا فيه، أخذ بقول أكثرهم. وقال في موضع آخر، وقاله معه مطرف، وابن الماجشون: وإن اختلفوا فيه نظر فيما أتاهم عن تابعهم، فقضى به، فإن لم يكن فيما جاءه عنهم أو اختلفوا فيه كاختلافهم: تخير من أقاويلهم أحسنها في نفسه.
قال أشهب في المجموعة: ولا يخالفهم أجمع، فإن لم يجد ذلك فيما ذكرناه، اجتهد رأيه إن كان للرأي أهلا، وقاسه بما جاءه عنهم، مع مشورة أهل المشورة، وأحب إلي ألا يقضي إلا عن مشورة، إلا أن يكون قد جرى على يديه، وشاور عليه، فليس عليه أن يشاور فيه آخر، إلا أن يشك/ فيه، فيشاور رهطا من أهل الفقه، قال ابن وهب: قال مالك: الحكم على وجهين، والذي بالقرآن والسنة، فذلك الصواب، فالذي يجهد العالم نفسه فيه فيما لم يأت فيه شيء، فلعله يوفق، وبات متكلف لم لا يفهم، فما أشبه ذلك أن لا يوفق. [8/ 17]

(8/17)


قال أشهب: وكان عثمان رضي الله عنه، إذا جلس للقضاء، احضر أربعة من الصحابة، ثم استشارهم، فإذا رأوا ما رأى، أمضاه، وقال: هؤلاء قضوا، لست أنا.
قال ابن نافع: قال مالك: كان عثمان فذكر نحوه.
قال أشهب: وينبغي للقاضي إن قدر على ذلك ألا يقضي إلا وعنده علماء من أهل الفقه، يأمرهم ألا يشتغلوا عن الفهم لما يدلي به عنده من الحجج، ولما يقضي به فيما فهم من ذلك وفهموا، ولا ينبغي لمن حضره منهم إذا بضى بشيء وزل فيه أن يدعه وإمضاءه ليكمله فيه بعد ذلك، لكن يرده مكانه في رفق ولين؛ لئلا يفوت القضاء به، فلا يقدر على رده، إلا أن يخاف الحصر من جلوسهم عنده، أو يشتغل قلبه بهم وبالحذر منهم حتى يكون ذلك نقصانا من فهمه، فأحب إلي أن لا يجلسوا إليه.
قال ابن المواز: ولا أحب له أن يقضي إلا بحضرة أهل العلم، ومشاورتهم، وإن قدر ألا ينظر بين اثنين في شيء إلا بمحضر عدول يحفظون إقرار الخصوم.
قال ابن سحنون: قال سحنون: ولا ينبغي للقاضي أن يكون معه في مجلسه من يشغله عن النظر/، كانوا أهل فقه أو غيرهم، فإن ذلك يدخل عليه الحصر والاهتمام بمن معه.
قال ابن حبيب: قال مطرف، وابن الماجشون: لا ينبغي للقاضي أن يجلس معه الفقهاء في مجلس قضائه، ولم يكن هذا فيما مضى، ولكن ليتخذهم مشيرين إذا ارتفع عن مجلس قضائه، شاورهم، وكذلك كان يفعل عمر رضي الله عنه.
قال ابن المواز: ولا يدع مشاورة أهل الفقه الذين يستحقون المشورة، وذلك بعد أن يتوجه الحكم لأحد الخصمين، قاله أشهب، في المجموعة: وقاله سحنون في كتاب ابنه. [8/ 18]

(8/18)


وينبغي للقاضي أن يشتد حتى يستنصف الحق، ولا يدع من حق الله شيئا، ويلين في غير ضعف.
قال أشهب: حيث ينبغي ذلك لغير ترك شيء من الحق، وينبغي له أن يعتذر إلى كل من يخاف أن يقع في نفسه منه شيء، ويبين ويقيس حتى يقوم الخصم وقد علم أنه فهم عنه حجته.
قال ابن حبيب: قال مطرف، وابن الماجشون: لا بأس أن يخبر القاضي الخصم إذا حكم عليه من أي وجه حكم عليه؛ إذا خاف ألا يكون فهم ذلك، وقد فعله عمر بن عبد العزيز، رضي الله عنه.
قال سحنون في كتاب ابنه: وينبغي للقاضي أن يتقدم إلى أعوانه والقوام عليه في الحرف على الناس، والشدة عليهم، ويأمرهم بالرفق واللين والقرب في غير ضعف.
ومن كتاب ابن سحنون، عن أبيه، قال: وإذا شهد العالم عند القاضي في شيء، فأعياه الحكم فيه، فأراد مشورة هذا العالم عند القاضي في ذلك، فلا يجوز أن يستشيره فيما شهد فيه /.
وفي كتاب ابن سحنون، وغيره: ومما كتب عمر رضي الله عنه، إلى أبي موسى، ورسالته إلى يزيد بن أبي سفيان، يشتملان من الأدب في القضاء، والموعظة، والوصية، على أمر كثير جامع، وفيه رسائل كتب بها سحنون إلى قضاته من نحو ذلك، تركت حكايتها على وجهها لطولها، فمن أرادها نظرها في موضعها موعبة إن شاء الله.
قال محمد بن عبد الحكم: وأحب إلي أن يجعل القاضي رجالا من إخوانه، ممن يثق بهم وبصدقهم ومعرفتهم، يخبرونه بما يقول الناس فيه من خلقه، وما ينكرون [8/ 19]

(8/19)


عليه من أمره، ومن حكم حكم به من قبول شاهد أورده وأنكروه، فما عرفوه به من ذلك سأل عنه، وفحص فيه، واستقصى، فإن ذلك قوة له على أمره، إن شاء الله تعالى.

في القاضي أين يقضي وعلى أي حال يقضي، ومما يقضي؟
قال أبو محمد عبد الله بن أبي زيد: واحتج بعض أصحابنا على قضاء القاضي في المسجد؛ بقول الله سبحانه: (إذ تسوروا المحراب) إلى قوله: (فاحكم بيننا بالحق).
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في المسجد.
ومن المجموعة، وكتاب ابن سحنون، وابن المواز: قال مالك: القضاء في المسجد من الحق والأمر القديم، وكان خلدة وقاضي عمر بن عمرالعزيز يقضيان في المسجد، وأراه حسنا؛ لأنه يرضى بالدون من المجلس، ويصل إليه الضعيف والمرأة، وهو أقرب على الناس في خصومتهم وشهودهم، فلا يحجبون عنه./ وإذا احتجب، لم يصل إليه الناس، ولكن لا يضرب في المسجد إلا الخمسة الأسواط، والعشرة، ونحوها، لا الحدود، ولا الضرب الكثير.
ومن الواضحة: قال مطرف، وابن الماجشون: وأحسن مجالسه للقضاء: رحاب المسجد الخارجة من غير تضييق للجلوس في غيرها.
وقد قال مالك: كان أمر من مضي من القضاة، لا يجلسون إلا في الرحاب الخارجة في المسجد، إما موضع الجنائز، وإما في رحبة دار مروان، وما كانت تسمى الأرحبة القضاء. [8/ 20]

(8/20)


قال مالك: وإني لأستحب ذلك في الأمصار من غير تضييق؛ ليصل إليه اليهودي والنصراني، والحائض، والضعيف، وأقرب إلى التواضع لله عز وجل، إن شاء الله، وحيث ما جلس القاضي المأمون فهو له جائز إن شاء الله.
وروى ابن حبيب، أن عمر بن عبد العزيز، كتب إلى القاسم بن عبد الرحمن، ألا يقضي في المسجد، فإنه يأتيك الحائض والمشرك.
ومن المجموعة: قال أشهب: ولا بأس أن يقضي في منزله وحيث أحب، وأ؛ سن ذلك وأحبه من غير تضييق لما سواه، أن يقضي حيث الجماعة جماعة الناس، وفي المسجد الجامع، إلا أن يعلم ضرر ذلك بالنصارى وأهل الملل، أو بالنساء في الحين الذي لا يجوز لهن دخول المسجد.
قال سحنون: قال غيره: إلا أن يدخل عليه في ذلك ضرر من قعوده في المسجد لكثرة الناس، حتى يشغله ذلك عن النظر والفهم، فليكن له موضع من المسجد/ يحول بينه وبين من يشغله، وكذلك فعل سحنون؛ اتخذ بيتا في المسجد الجامع، فكان يقعد فيه الناس، يحول بينه وبين كلامهم.
قال ابن حبيب: قال مطرف، وابن الماجشون: ولا بأس أن يتخذ القاضي أوقاتا يجلس فيها للناس، وينظر في ذلك بالذي هو أرفق به وبالناس، وليس القاضي بالمضيق عليه في هذا حتى يصير كالمملوك والأجير، ولا ينبغي للقاضي أن يجلس بين المغرب والعشاء، ولا في الاسحار، وما علمنا من فعله من القضاة، إلا أن يكون للأمر يحدث في تلك الأوقات، ويرجع إليه عن ذلك مما لابد له منه، ولما يحسن النظر في تلك الساعات، فلا بأس أن يأمر فيها وينهى ويأمر بالسجن، فيرسل الأمين أو الشرط، فأما على وجه الحكم لما نشبت فيه الخصومة، فلا.
ومن المجموعة: قال أشهب: لا بأس أن يقضي بين المغرب والعشاء، إذا كان لا يتكل عليه؛ من شاء جاء، ومن شاء ترك، وأما أن يحلف فيه الكارة، وتكلفه فيه الخصوم، فلا أرى ذلك. [8/ 21]

(8/21)


ولا بأس أن يقضي بعد الأذان بالظهر والعصر أو المغرب أو العشاء أو الصبح، أو يرسل إلى الخصم فيحضر في بعض هذه الساعات ثم يقضي عليه، إن شاء وإن أبي، ما لم يجعل ذلك مجلسا للعامة، فأما الفذ هكذا فلا بأس بذلك.
قال أشهب: ولا بأس أن يقضي في ساعات يلزمها نفسه طرفي النهار، ويزيد على ذلك ما بين الظهر والعصر، ويخفف بذلك عن نفسه بعض جلوسه في طرفي النهار، وإنما في ذلك/ كله الاجتهاد، فيما يدع ويعمل للعامة، فأما النظر في ذلك لنفسه: فليس ذلك له، وليس عليه أن يتعب نفسه فيقضي من بكرة إلى الليل وشبه ذلك، وإن كان ذلك لا يدخل عليه الضجر ولا قلة الفهم.
قال محمد بن عبد الحكم: ولا بأس إذا مل قبل وقت قيامه أن يحدث جلساءه في غير الحكم، يروح قلبه، ثم يعود إلى الحكم بين الناس، وقد روى ابن وهب، أن ابن شهاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: روحوا القلوب ساعة فساعة.
قال ابن المواز: قال أشهب عن مالك: ينبغي أن يكون جلوسه في ساعات من النهار؛ لأني أخاف أن يكثر فيخطئ، وليس عليه أن يتعب نفسه للناس النهار كله.
ومن كتاب ابن حبيب: قال مطرف، وابن الماجشون: لا ينبغي أن يقضي في الطريق من ممره إلى المسجد وإلى بيته، أو إلى غير ذلك قضاء يفصل الحكم فيه خصومة قد نشبت، ولا علمنا أحدا من القضاة فعل ذلك، إلا أن يكون أمر حدث له أو استغيث به أو رفع إليه وهو بتلك الحال، فلا بأس أن يأمر فيه وينهى، ويأمر بالسجن إذا رآه صوابا، فأما الحكم الفاصل فلا.
قال في كتاب محمد: ولا ينبغي أن يقضي وهو ماشي، ولا بأس أن يقضي [8/ 22]

(8/22)


وهو متكئ، وقال أشهب في المجموعة: وقال سحنون في كتاب ابنه: وقال أشهب في كتاب ابن المواز: لا بأس أن يقضي وهو ماش، إذا أم بشغله ذلك عن النظر.
قال أشهب، في المجموعة/: إذا لم يشغله المسير ووجه الناس والنظر إليهم. قال سحنون، في المجموعة وكتاب ابنه: لا ينبغي للقاضي أن يقضي وهو ماش، ولا وهو سائر، ولا يكلم أحد من الخصوم، ولا يقف معه؛ فإن ذلك يوهن خصمه، ويدخل عليه به سوء الظن.
ومن كتاب ابن سحنون، والواضحة: روى أبو بكر، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: لا يقضي القاضي وهو غضبان.
وقال ابن حبيب: وروى أنه عليه السلام، قال: لا يقضي إلا وهو شبعان ريان.
قال في كتاب ابن المواز: ولا أحب أن يخرج إلى الناس وهو جائع من غير أن يشبع جدا. محمد: يريد: لا يكون بطينا؛ لأن الجائع يسرع إليه الغضب، والبطين بطيئا.
وقال مالك في المجموعة: يكره للقاضي إن دخله هم، أو نعاس، أو ضجر، أن يقضي حينئذ، ولا ينبغي للقاضي أن يكثر ويتعب نفسه من طول الجلوس، إذا يخلط. قاله ابن سحنون، عن أبيه. [8/ 23]

(8/23)


وقال أشهب في المجموعة: ومطرف، وابن الماجشون، في كتاب ابن حبيب: لا ينبغي أن يقضي وبه من الضجر أو الغضب أو النعس.
في كتاب ابن حبيب وفي المجموعة: أو النعاس قال في كتاب ابن حبيب: أو الغرث يريد: الجوع، وفي المجموعة: أو الجوع، قالوا: أو الهم: ما يخاف على فهمه منه الإبطاء والتقصير عن الفهم لما يدلي إليه، وما كان ذلك خفيفا لا يضر به في فهمه، فلا بأس أن يقضي وذلك به.
قال ابن حبيب: قال مطرف، وابن الماجشون: ولا يقضي بين اثنين وبه من الغضب أو الضجر أو اللعس يريد: ضيق النفس/ أو الغرث يريد: الجوع أو الهم، ما يخاف على فهمه منه الإبطاء والتقصير عن الفهم، إلا أمر خفيف من ذلك لا يضر به في فهمه.
قال ابن سحنون، عن أبيه: وإذا دخله النعاس، فليكف عن النظر حتى يذهب عنه، ثم يقبل على النظر وهو متفرغ مستمع غير معجل للخصوم عن حجتهم، ولا مخيف، فإن الخوف يقطع حجة الرجل.
قال أشهب في المجموعة: قال سحنون في كتاب ابنه: ولا ينبغي إذا قعد الخصمان بين يديه أن يشغل نفسه عنهما بشيء، وليجعل فهمه وسمعه وبصره احتجاجهما، ولا ينبغي أن يقضي بينهما والخوف بين عنده بينهما.
قال أشهب: ولا يقضي حتى لا يشك أن قد فهم، فأما أن يظن أن قد فهم وهو يخاف أن لا يكون فهم لما يجد من النكول أو الحيرة، ولا ينبغي أن يقضي بينهما وهو يجد شيئا من ذلك، قال أشهب، في المجموعة: وقاله سحنون في كتاب ابنه. [8/ 24]

(8/24)


جامع في أدب القاضي وفي بيعه وشرائه وحضوره الجنائز وإجابته الدعوة وقبوله الهدية وحديثه في مجلس قضائه وقيامه عنه وكلامه في العلم وغير ذلك
قال أشهب في المجموعة: ولا ينبغي للقاضي أن يتشاغل بالاحاديث في مجلس قضائه، إلا أن يريد بذلك إجمام نفسه، ورجوع فهمه إليه، أو الزيادة، ولا ينبغي له أن يسرع القيام من مجلس قضائه تشاغلا بما يجب أن يؤثر من حوائجه/ قال ابن حبيب: قال مطرف وابن الماجشون: وإنما يجلس الرجل عند القاضي، فيسأله عما يريد، فقال حيث لا يعلم أقضيتك واقتدى بك قال: فيقيمه ولا يقعده، والجلوس عند القاضي من حيل المتشاكلين للناس، إلا أن يكون عنده معروفا مأمونا، فيدعه. وقاله أصبغ. وقال أصبغ في كتابه لا أحب أن يترك من يقعد إليه إن لم يكن فيه منافع، ولا يقعد عنده إلا التقى البار، فإن خاف أن يحقره في قضائه أو يضر به، فلا يقعده، قال مطرف، وابن الماجشون: ولا يتشاغل بالأحاديث في مجلس قضائه، وإن أراد بذلك إجمام نفسه، وإذا وجد الفترة، فليقم ويدخل بيته، أو يرفع الناس عنه ويدع مجلس قضائه، ويجلس مع من يحب للحديث ولما أراد من إجمام نفسه، فأما وهو يقضي فلا ينبغي ذلك، قالا: وإذا عرضت له حاجة، فلا بأس أن يقوم عن مجلس قضائه، وينظر في حاجته، ولا ينبغي أن يقوم للذة تعرض له.
قال محمد بن عبد الحكم: ولا ينبغي أن يجلس أيام النحر، ولا يوم الفطر وما قاربه مما لا يضر فيه بالناس في حوائجهم، وما لا بد لهم منه، وكذلك يوم عرفه، ويوم التروية مما جرى عليه أمر الناس، ولا يعتكف القاضي؛ لأنه لا ينظر بين الناس في اعتكافه، وإذا كان الطين والوحل فأضره ذلك، ترك الجلوس فيه، [8/ 25]

(8/25)


وأحب إلي ألا يجلس يوم خروج الناس إلى الحج بمصر، لكثرة من يشتغل يومئذ في تشييع الحاج، وإذا كان بلدا فيه يوما يجتمع فيه مثل هذا، فليترك الجلوس يومئذ.
ومن المجموعة، ومن كتاب ابن حبيب: قال مطرف، وابن الماجشون، وأصبغ: ولا ينبغي أن يشتغل في مجلس قضائه بالبيع والابتياع لنفسه أو لغيره على وجه العناية منه.
قال ابن عبدوس، ابن سحنون: قال سحنون: وقال ابن حبيب في كتابه: قال مطرف، وابن الماجشون: إلا ما خف شأنه وقل شغله والكلام فيه. قال سحنون: وتركه أفضل، وقال مطرف، وأشهب، وابن الماجشون: وما باع، جاز بيعه، ولا يرد منه شيء، قال سحنون: ولا بأس بذلك في غير مجلس القضاء، قال ابن الماجشون، ومطرف: لنفسه ولغيره. قال مطرف، وابن الماجشون: في بيعه وابتياعه في مجلس قضائه: إنه لا ينفذ إلا أن يكون قهره على ذلك، أو أكرهه أو يهضمه، وليس هذا بعدل، وبيعه وابتياعه على هذا مردود، كان في مجلس قضائه، أو حيث كان. قال أشهب: إن عزل والبائع والمبتاع مقيم بالبلد لا يخاصمه، ولا ينكر مخاصمته لأحد، فلا حجة له عليه، والبي ماض، وكتب عمر إلى بعض عماله: لا تسار ولا تضار، ولا تبيع ولا تبتع، ولا تقض بين اثنين وأنت غضبان، ومن كتاب ابن حبيب: وكتب عمر بن عبد العزيز، أن تجارة الولاة لهم مفسدة، وللرعية مهلكة. قال عبد الله بن عمرو بن العاص: يقال: من أشراط الساعة تجارة الساعة.
قال أشهب في المجوعة: فأما أن يبيع مال/ ميت في مجلس قضائه على ما يبيع عليه السلاطين أموال من أوصى إليهم في سلطانهم، أو من مات من غير [8/ 26]

(8/26)


وصية، فكان القائم بأمر من غاب من ورثته، أو كان صغيرا، فذلك جائز لا بأس به.
قال في كتاب ابن المواز: وقال أشهب في المجموعة ومطرف وابن الماجشون، في كتاب ابن حبيب، وقال سحنون، في كتاب ابنه: إنه لا بأس للقاضي بحضور الجنائز، قال: إلا في كتاب ابن المواز: وبعيادته المرضى.
قال أشهب، ومطرف، وابن الماجشون: وتسليمه على أهل المجالس، ورده على من سلم عليه، لا ينبغي له إلا ذلك، قال مطرف، وابن الماجشون: لا ينبغي للقاضي أن يجيب الدعوة، إلا في الوليمة وحدها؛ للحديث؛ ثم إن شاء أكل أول ترك، ذلك أحب إلينا من غير تحريم، ولا يضيق عليه أن أكل، لكن ذلك عندنا أنزه له.
قال أشهب في المجموعة: لا بأس أن يجيب الدعوة العامة إن كانت وليمة، أو صنيع عام، لفرح كان، فأما أن يدعي مع عامة لغير فرح كان، فلا يجيب، وكأنه دعي خاصة؛ لأن الداعي له لعله جعل دعوته في غير حق وجب عليه ولا شرر دافع به لما أحب من دعائه القاضي.
قال سحنون في كتاب ابنه: يجيب الدعوة العامة، ولا يجيب الخاصة، وإن تنزه عن مثل هذا، فهو أحسن.
قال في كتاب ابن المواز:/ كره له أن يجيب أحدا، فهو في الدعوة الخاصة أشد من دعوة العرس.
وكره مالك لأهل الفضل أن يجيبوا كل من دعاهم. [8/ 27]

(8/27)


قال ابن حبيب: قال مطرف، وابن الماجشون: وكل ما لزم القاضي من النزاهات في جميع الأشياء وهو أجمل به وأولى، وأنا لنحب هذا لذي المروءة والهدي أن لا يجيب إلا في الوليمة، إلا أن يكون الأخ في الله، أو خاصة أهله، أو ذي قرابته، فلا بأس بذلك، قال: لا ينبغي له أن يكثر الرحال عليه، ولا الركاب معه، ولا المستمعون له في غير ما خاصة كانت منهم له قبل ذلك، إلا أن يكونوا أهل عز وجل، وأهل فضل في أنفسهم، فلا بأس بذلك. قال: وأما الهدية، فلا ينبغي له أن يقبلها من أحد، وممن كانت تجري بينه وبينه قبل ذلك، ولا من قريب، ولا من صديق، ولا من أحد وإن كافأ بأضعافها، إلا الوالد والولد وأشباههم من خاصة القرابة التي يجمع من حرمه، إلا أصدقاء هو أخص من الهدية.
قال أشهب في المجموعة: لا ينبغي أن يقبل الهدية من خصم، وإن كان خاصا به، أو من قريب له، وإن كافأه بها، ولا ينبغي أن يقبلها من غير خصم، إلا أن يكافئه بمثلها. قال: وإن كان يهاديه قبل ذلك، فإن التهمة جارية فيه، وكذلك في ذي الرحم وغيره، فلا يقبلها إلا أن يكافئه بمثلها. قال سحنون: إلا من ذي رحم محرم: أبويه، وابنته، وخالته، وعمته، وبنت أخيه/، ومن لا تدخل عليه به الظنة؛ لشدة الدخلة والتافئة بينهما. وكذلك ذكر عنه ابنه، وفي كتاب ابن المواز: مثله. قال ابن عبدوس: قال سحنون: حديث إن في بعض الكتب: الهدية تطفئ نور الحكماء.
قال ربيعة: إياك والهدية، فإنها ذريعة الرشوة، وعلة الطلب.
قال محمد بن عبد الحكم: لا تقبل الهدية ممن يخاصم عنك، ولا بأس أن يقبلها من إخوانه الذين يعرف له القبول منهم قبل أن يستقضي وقد كان عمر [8/ 28]

(8/28)


يقبل الهدية من إخوانه، وقد أهدي إليه أبي بن كعب، وكان له عليه سلف، فلم يقبلها لذلك، ولا بأس أن يتسلف من بعض إخوانه ممن يعرف أنه السلف منه، وأن يستعين بإخوانه في حوائجه.
قال ابن حبيب: قال مطرف، وابن الماجشون: ولا ينبغي للقاضي أن يتضاحك مع الناس، وينبغي له أن تكون فيه عبوسة بغير غضب، وأن يلزم التواضع والتقرب في غير وهن ولا ضعف، ولا ترك لشيء من الحق، وليتقدم إلى أعوانه والقوام عليه في الحرف على الناس والشدة عليهم، ويأمرهم بالرفق واللين، والقرب منهم في غير ضعف ولا تقصير مما ينبغي لهم، ولو كان يستغني عن الأعوان، لكان أحب إلينا، ولم يكن لأبي بكر، وعمر أعوان ولا قوام، وكان عمر يطوف وحده، إلا أن يضطر إلى الأعوان، فليخفف منهم ما استطاع، وينبغي له أن يمنع من رفع/ الصوت عنده، فإن ذلك مما يحيره، قالا: وليتنزه عن طب الحوائج والعواري من ماعون، ودابة يركبها، ونحوه، أو السلف، أو أن يقارض أحدا، وأن يبضع مع أحد أو يبايعه، والتنزه عن ذلك أحب إلينا، إلا مما لا يجد منه بدا، وإن فعل شيئا من ذلك فخفيف، ما لم يكن بينه وبين من يخاصمه عنده أو عن أحد يجر إلى من يخاصم عنده، وقاله أصبغ.
قال محمد بن عبد الحكم: ولا بأس أن يطلع ضيعته، فيقيم اليومين والثلاثة إن احتاج إلى ذلك.
ومن المجموعة: قال ابن القاسم، عن مالك: وإن سمع قاذفا برجل ومعه غيره، أقام عليه حد الفرية/، ولم يجز عفو عن القاذف إلا أن يريد سترا. وقد روي عن مالك، في غير المجموعة: أنه يقبل عفوه، وإن لم يرد سترا، وأما في الأب، فيقبل عفوه فيه على كل حال. [8/ 29]

(8/29)


قال ابن القاسم: وإن رأى من يغتصب مالا، فلا يحكم عليه وهو شاهد، فإن كان معه آخر، فلا يحكم إلا بشاهده مع يمينه، وإن لم يكن غيره، شهد له عند غيره، وحلف معه.

في اتخاذ القاضي كاتبا أو قاسما وأرزاق القضاة والعمال والقسام
من المجموعة وغيرها: قال ابن القاسم: قال مالك: لا يستكتب القاضي أحدا من أهل الذمة في شيء من أمور المسلمين، قال ابن القاسم: ولا يتخذه قاسما، ولا يتخذ في ذلك عبدا ولا مكاتبا، ولا يتخذ في شيء من أمور المسلمين إلا العدول المرضيين.
قال مالك: وكان خارجة بن زيد، ومجاهد يقسمان، ولا يأخذان أجرا.
قال أشهب: وينبغي للقاضي أن يتخذ كاتبا من أهل العفاف، ثم يعقده معه، وهو في سعة أن يجلس حيث جلس بقرب منه أو بعد، فإن استحب هو نفسه إيقاع الشهادات، فذلك حسن، وإن أوقعها كاتبه، وهو ينظر، أجزأه.
ومن كتاب ابن المواز: وينبغي أن يكون كاتبه فقيها عدلا، ويكتب بين يديه/، فينظر فيما يكتب.
قال سحنون، في كتاب ابنه نحول قول مالك الذي ذكرنا، في أن لا يتخذ كاتبا إلا من المسلمين، ومن أهل الصلاح والعفاف.
قال ابن حبيب: قال مطرف، وابن الماجشون، وأصبغ: لا يستكتب إلا المرضي العدل، وإن لم يغب له على كتاب.
قال أصبغ في كتابه، ويكون مرضيا مثله أو فوقه، ولا يغيب له على كتابه. [8/ 30]

(8/30)


قال أصبغ في كتابه، وفي كتاب ابن حبيب: وحق على الإمام أن يوسع على القاضي في رزقه، ويجعل له قومة يقومون بأمره، ويدفعون عنه الناس، وينبغي له أن يجري ثمنا لرقوق يدون فيها أقضيته وشهاداته إذا كان عند نفسه، ويجري له ثمنا لمصابيح ينظر بها بالليل في أمور الناس ويدبرها، ولا ينبغي له أن يأخذ رزقه إلا من الخمس، أو الجزية، أو عشور أهل الذمة.
قال أصبغ: إن طاب مجيء ذلك بغير ظلم ولا تعدي، ولا يرتزق من صدقة ولا عشور، ولا يحل ذلك له، وبلغني أن أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، كان قاضيا بالمدينة، فارتزق من العشور أو الصدقة، فلما ولي عمر بن عبد العزيز، كتب بعزله، فاعتذر بعض العذر، وفرض له من فدك.
قال أصبغ: وأراها كان فيها ذمة، قال ابن حبيب: وكان مسروق لا يأخذ على القضاء رزقا.
قال أبو محمد: وقد ذكرت في باب صفة القاضي قول سحنون: والقاضي إن كان فقيرا: لا يجلسه الإمام حتى يغنيه/،ويقضي دينه، ويكفيه جميع ما يحتاج إليه.
قال سحنون في كتاب ابنه: ولا بأس أن يكلف الطالب صحيفة يكتب فيها حجته وشهادة شهوده.
قال مالك: ولا بأس بإرزاق القضاة من بيت المال، وأما العمال؛ فإن عملوا على حق، فلا بأس بارتزاقهم.
قال أشهب في المجموعة: وأرى أن يرتزق من كان في عمل المسلمين من الفيء على قدره في أمانته وجزائه إذا جبى من موضعه، ووضع في موضعه، فأما إن كان لا يخرج في مكروه. [8/ 31]

(8/31)


قال مالك: ولا أرى أن يأخذ قسام القاضي على القسم أجرا. قال ابن القاسم: وقسام المغانم عندي مثله، فإنما كره مالك ارتزاق القسام؛ لأنها إنما تؤخذ من أموال اليتامى، وفي موضع آخر: لأنه إنما يفرض لهم من أموال الناس، ولا بأس أن يرتزقوا من بيت المال. قال مالك: وكذلك أشياء من أمور الناس بيوتهم بيعت فيهم، فإنما رزقهم من بيت المال.
ومن العتبية، قال ابن القاسم، عن مالك: كان زياد بن عبد الله يبعث شرطا في الأمر يكون بين الناس من المناهل، ويجعل لهم أموالهم جعلا، فنهيته عن ذلك، وقلت: إنما يرزقهم السلطان فقيل له: فإن صاحب السوق جعل لمن ولى عليهم شركا معهم فيما اشتروا. قال: ما أمرته بذلك، وهذه يخاف عليها ما يخاف. وذكر فيها تفسيرا.
قال ابن القاسم: ولو واجر قوم قاسما لأنفسهم، لم أربه بأسا/ كما قال مالك في كتاب الوثيقة: أرى أجرها عليهم.
قال سحنون: ولا بأس أن يرزق القسام من بيت المال، فإن لم يكن لهم رزق، فلا بأس أن يؤاجروا أنفسهم في ذلك.
قال ابن الماجشون، في قاسم الغنيمة: إن فعل ذلك احتسابا ينوي الأجر، ولا يأخذ فيما عمل شيئا، إلا من الله سبحانه، وإن استؤجر، فله أجرته، ولا أعلمها تحرم عليه، وكذلك القاسم؛ جعله فيما قسم من أموال اليتامى، وليس ذلك على السلطان، ولم يزل ذلك بالمدينة، وإن احتسب فله أجره على الله سبحانه.
قال أشهب عن مالك: كان الناس هاهنا عندنا يقتسمون بغير جعل، قيل: فتكرهه؟ قال: من احتسب فهو خير له، ولا أحرمه. وهذا لابد منه، وكان القضاة عندنا يخبرون الورثة من يقسم بينهم، فمن دعوه إليه، بعثه إذا كان رضيا. [8/ 32]

(8/32)


قال ابن حبيب: قال أصبغ: وإذا بعث القاضي قاسما يقسم بين ورثة فيهم صغير، أو غائب، فليأمره أن لا يشهد فيه حتى يرفعه إليه لينظر فيه، فإن رآه صوابا، أمضاه، إن كان مأمونا عنده، واثنان أحب إلي، والواحد يجزئ، وينبغي أن يجعل للصغير أو الغائب وكيلا يقوم مقامه في القسم.
قال سحنون في كتاب ابنه: ويرتزق القاضي من بيت المال لا من الصدقات والعشور، لا هو ولا كاتب ولا قاسم، ولا ينبغي له إذا اتخذ قساما أن يكره الناس على قسمهم خاصة.
قال سحنون: وأيما قوم اصطلحوا على قسمة غير هؤلاء القسام، فذلك جائز، إلا أن يكون فيهم/ غائبا وصغيرا، فالسلطان ينظر في ذلك لهم، وأجر القاسم إذا استؤجر على عددهم سواء، لا على الأنصباء.
قال ابن سحنون: وقد قسم سحنون للناس احتسابا، ولم يرزقهم شيئا من بيت مالهم، فلم يقبل رزقا ولا كسوة ولا حملانا ولا خاتما وضعه في يده، وسمعته يقول للأمير الذي ولاه: والله لو أعطيتني جميع ما في بيت المال ما قبلته، وكان تركه لأخذه من غير تحريم، ويقول: لو أخذته، لجاز. وكان يأخذ الأرزاق لأعوانه وكتابه، وكلم الأمير لهم حتى أجرى ذلك لهم، وسأله أن يعطيهم ذلك من جزية اليهود، وكلمه حتى أجرى لقضاته أرزاقهم، ثم كلمه في الزيادة لهم، فزادهم، وإذا أبطأت عليهم، كلمه لهم في تعجيلها. وقد قال عمر: أغنوهم بالعمالة عن الخيانة.
ومن كتاب آخر، روي أن عمر بن عبد العزيز، أجرى للقاضي رزقا؛ أربع مائة دينار في السنة، وكان يوسع في الرزق على عماله، وقد ولاه شيئا من أمور المسلمين، وكان يقول: ودلهم قليل إذا أقاموا كتاب الله وعدلوا. [8/ 33]

(8/33)


قال ابن سحنون عن أبيه: أنه كلم الأمير في استعجال أرزاقهم: كتابه وأعوانه لما مطلوا بذلك، وقال له: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أعطوا الأجير حقه قبل أن يجف عرقه. فنحن نرى لهذا الحديث أن سافي التفليس بحق الأجراء قبل دين الغرماء فيما عمل الأجراء من عمل المفلس.
ما ينبغي للقاضي أن يعمل عند ما يلي من استعداد من يعينه على أمره، و ... ذكر سيرته في دخول/ الخصوم إليه، وقسم أيامه، وخصومة النساء والرجال، والمسافر والحاضر، وذكر الطابع وجلب الخصم، وكتب الرفع وغير ذلك من سيرته
قال ابن سحنون: لما ولي سحنون القضاء، وبعد أن أدير عليه حولا وغلظ عليه، وخاف الأمير عليه، وأبى من غرمه عليه ما أخافه وأنصفه في قوله، وخاف أن يكون أمر لزمه لا يقوم غيره في مقامه، فولي يوم الاثنين، لثلاثة أيام مضت من شهر رمضان سنة أربع وثلاثين ومائتين، فأقام أياما بعد أن ولي لا ينظر بين الناس في شيء؛ يلتمس أعوانا، فقعد للناس يوم الأحد لتسعة أيام مضت من شهر رمضان.
وقيل: إنه لما دخل المسجد الجامع، بدأ فركع ركعتين، ثم دعا بدعاء كثير، فروي أنه إنما يدعو بالتوفيق والتسديد والعون على ما قلده، فقعد بعد ما ركع متربعا، وأمر الناس فكتبوا أسماءهم في بطائق، ثم أخبطت تلك البطائق، ثم دعا الأول فالأول ممن يخرج اسمه، فإذا دعا برجل فاستعدى على رجل بحاضرة مدينة القيروان، أو بقصر محمد بن الأغلب، وهو على ثلاثة أميال من المدينة، أعداه على [8/ 34]

(8/34)


خصمه بطابع يعطيه إياه، وإن كان صاحبه حاضرا، أدخلهما وأجلسهما بين يديه على الاعتدال في مجلسهما وكان لا يدفع كتاب عدوا ولا طابع إلى أحد من المسملين، إلا بين يديه، ولا يغيب على ذلك أحد من أعوان، فإذا أتى بصاحبه، أمر بأخذ الطابع منه، وإذا أتى إليه بلا طابع/، لم يأخذه، أدب الذي جاء بخصمه بغير طابع دفعه إليه، وكان يوم الثلاثاء والأربعاء بعد صلاة العصر قرب المساء يأمر برفع الدعوى، ويدخل أصحاب الطوابع، ثم يأمر من يعطيه طابعا ألا يوقعها، أو لغير ذلك بين الناس، وجعل يوم السبت والأحد والاثنين لمن يبتدئ بينة يوقعها، أو لغير ذلك بين الناس، ويعطي الطوابع بالعشي في هذه الأيام من بعد العصر، وأصحاب الالطاخ الذين يطلبون كتاب العدوى. كتاب عدوى لجلب خصم إلا بلطخ من شاهد عدل، مزكى، فيأمر كاتبه فيكتب له كتاب عدوى إلى أمينه، وكان قد اتخذ في بعض المواضع أمينين،؟ في بعضها أمين، وكان أكثر عدالته، وكان في من ولى رجل سمع بعض كلام أهل العراق، فأمره ألا يحكم إلا بمذهب أهل المدينة.
قال سحنون: وينبغي للقاضي أن يقدم النساء على حدة، والرجال على حدة، وأرى أن يجعل لكل قوم يوما بقدر ما يرى من كثرة الخصوم، فلا بأس به.
قال أشهب في المجموعة: إن رأى أن يبدأ بالنساء في كل يوم، أو بالرجال، فذلك على الاجتهاد؛ إما لكثرة النساء على الرجال، فيبدأ بالرجال، وإما لكثرة الرجال، فيبدا بالنساء ويبدأ لهؤلاء يوم ولهؤلاء يوم أحب إلي إذا جمعتهم الأيام من أن يؤثر أحدهما بالتبدية، ولا ينبغي للقاضي أن يقدم الرجال والنساء مختلطين، ألا ترى النساء في الطواف وفي الصلاة خلف الرجال، وفي الجنائز/ أمامهم، وإن رأى أن يجعل للنساء يوما معلوما أو يومين فعل. [8/ 35]

(8/35)


قال مطرف، وابن الماجشون، في كتاب ابن حبيب: يفعل ذلك باجتهاده. قال محمد بن عبد الحكم: وأحب إلي أن يفرد للنساء يوما، وإن كان لا بد أن يخاصمهن الرجال، فذلك أقل لمخالطتهن الرجال، فإن احتاج إلى كشف وجه امرأة ليعرف بها، أو ليشهد شهودا عليها، كشف وجهها بيد أيدي العدول من أصحابه، وإن كان بحضرته من الخصوم من لا يشهد عليها، أمر بتنحيتهم، وكذلك إن كان على رأسه من لا يأمنه على ذلك، لا ينبغي أن يستعين بأحد لا يؤمن في كل شيء، ولا يجلس النساء مع الرجال، وليفرق بينهم في المجلس لا يلصق بعضهم ببعض، ويجعل للنصارى يوما أو عشية أو وقتا من بعض الأيام بقدر قلتهم وكثرتهم، يجلس لهم في غير المسجد، وإذا كانت الخصومة في الفروج مثل طلاق امرأة، أو عتق جارية، فلا بأس أن يسمع البينة في ذلك، ويؤثرها على أهل الدعوى، ويسمعها في غير مجلس الحكم، فإذا كان في ذلك ما توقف به المرأة والجارية، فعل حياطة للفروج، ثم ينظر بعد في ذلك كما ينظر في غيره.
قال سحنون: والغرباء وأهل المصر سواء، إلا أن يرى غير ذلك في الغرباء باجتهاده مما لا يدخل على أهل المصر منه ضرر. وقال أشهب مثله، وزاد: وإن رأى أن يجعل للغرباء يوما، ولغيرهم يوما ويومين، فذلك له، وإن رأى أن يبدأ بالغرباء كل يوم فعل، وإن كثروا، فلا يبدأ بهم كل يوم، وليجعل لهؤلاء دعوة، ولهؤلاء دعوة. ثم يبدأ منهم بطائفة في/ أول يوم، ثم يميل إلى أهل المصر حتى يقوم، ثم يبدأ اليوم الثاني بباقيهم، ثم يميل إلى أهل المصر يفعل ذلك حتى تنقضي لك الدعوة، فإن خاصم فيما بين ذلك من لم يكن كتب اسمه في الدعوة، فهو مخير في إثباته في أول من يدعو، أو في وسط، أو في آخر، أو في تركه حتى ينقضي جميع من كتب في الدعوة باجتهاده، وليس من جاء ويخاف أن يفوت أمره، كالذي في أمره أناة ولا يخاف فوته. [8/ 36]

(8/36)


قال ابن حبيب: قال مطرف، وابن الماجشون: من شأن القضاة تقديم الغرباء، وتعجيل سراحهم، وترك الأسوة بينهم وبين المقيمين.
قال أشهب وسحنون في المجموعة: ويقدم الناس على منازلهم؛ الأول فالأول. قال أشهب: إن رأى ذلك. قال سحنون: وقدر عليه، وكانوا قليلا، ولا يقدم رجل لفضل منزلته وسلطانه.
وقال أشهب: إن رأى إدخالهم جميعا، ثم يدعو من رأى باجتهاده، ليس الضعيف كالقوي، ولا الغريب كالمقيم، ولا من نظر في أمره كمن لم ينظر فيه، وآخر إن دعاه قطع أمره، وآخر يخاف في تأخير أمره الضرر به، يأخذ في ذلك لنفسه ولرعيته بجهد رأيه.
قال سحنون فيه، وفي كتاب ابنه: وإن كثروا كتب أسماءهم في بطائق أو غيرها، ثم ألقوها، ثم يدعو بهم على ذلك، فمن جاء بعد ذلك، كان النظر لهم بعدهم، والغرباء وأهل المصر سواء، إلا أن يرى رأيه في الغرباء، كما ذكرنا.
قال ابن حبيب: قال مطرف وابن الماجشون: يفعل في دعوى الخصوم بالذي هو أعدل وأحسن، والكتاب أعدل، ومن أوسط ومن آخر ليس علي جهة ما كتبوا/، وإن قلوا فلا بأس أن يتصفحهم، فيدعو من رأى باجتهاده حتى يأتي عليهم.
قال محمد بن عبد الحكم: وأحب إلي أن يجعل للبينات يوما؛ لأنه يضر بهم الانتظار حتى يصاح بالخصم، فإن لم يفعل، فلا حرج.
ومن كتاب أصبغ: وإن كان في أعوانه ثقة يرضاه، ولا تقديم الخصوم إليه على منازلهم، فإن لم يكن، فهو نفسه، وإن عجز أو كثر عليه، جعل لذلك من يرضاه.
قال ابن حبيب، عن مطرف، وابن الماجشون: قلت لهما: إن بعض القضاة يجعل لنفسه يوما في الجمعة لا يقضي فيه. فقالا: لا ينبغي ذلك، وما هو [8/ 37]

(8/37)


من فعل القضاة عندنا، ولا كن لا بأس أن ينظر لنفسه في كل الأيام في أموره من أمر دنياه وحوائجه التي تصلحه ولابد منها، ينظر فيها في غير حين يقضي فيه.
وقال مالك لبعض من كان يحكم بالمدينة ممن يلي السوق: واجعل لجوسك للقضاء ساعات يعرفها الناس منك، فيأتوك فيها، وخفف عن نفسك بالنظر في غير ذلك.
قال مالك: كان يقال: إذا قل الكلام أصيب الجواب، وإذا كثر الكلام كان من صاحبه فيه الخطأ.
قالا: ولا بأس أن يقضي في رمضان، وفي الشهور كلها، إلا أيام العيد، وبلغنا أن عمر بن عبد العزيز كتب ألا يقضي في العيد، إلا أن تكون أمورا يخاف فيها الفوت مما لا يسعه تأخير النظر فيه، فلينظر فيه وإن كان يوم الفطر أو يوم الأضحى.
قال سحنون في المجموعة وكتاب ابنه: ولا ينبغي أن يكتب عن رجل حجتين أو أكثر في مجلس واحد، إلا أن يقل الناس عنده، فلا يشغله ذلك عنهم. قال في كتاب ابنه: وقد قيل: إنه ينظر في ذلك، قال سحنون فيهما: ولا ينبغي أن يكثر كتب الرفع لكل من جاءه إلا بلطخ من شهادة أو سماع، وإلا فلا يفعل، ولعله يشخص الرجل البعيد ولا شيء له. قال أصبغ عليه: أو يدعي بشيء يسير، فيعطيه إياه ويرتفع وإن لم يكن له.
قال ابن حبيب: قال أصبغ: ولا يكتب في دفع خصم إلا إلى أهل العدل والأمانة، ويكتب إلى العدول أن يأمروهما بالتناصف، فإذا أبيا فانظروا في المدعى فإن سبب لحقه سببا، وظهر لطلبه وجه ولم يتبين أنه يريد تغييب خصمه واللدد به، فارفعه إلي معه، وإلا فلا يرفعوه، وهذا في المكان القريب الذي لا مؤنة فيه على الخصمين، ولا على البينة، فأما المكان البعيد، فلا يرفع منه، وليكتب إلى من [8/ 38]

(8/38)


يرضاه من أهل العدل والعلم: انظر في أمرهما، واسمع البينة، وانظر في جميع منافعهما، ثم اكتب إلي ما يصح عندك لينظر فيه، فإذا جاءه معه الكتاب ونظر فيه: فإن رأى أن يكلفه إنفاذ الحكم بينهم فعل، وإن رأى أن يرجع إليه المتداعيين لينفذ بينهما الحكم فعل، ولا يرجع البينة، فإن لم يرفع القاضي من مكاتب هناك، وذكر له الطالب رجلا أو رجالا يكتب إليهم، فليأمره يأتيه بمن يعرف بهم، فإن ثبت عنه عدالتهم، كتب إليهم، وإلا كتب إلى عامل البلد إن وثق به، فإن لم يكن مأمونا ولا وجد من يكتب إليه/، كتب إلى المطلوب أن فلانا ذكر كذا فتناصفا، وإلا فاقدم معه، فإن قدم وإلا بعث من يأتيه به إن كان المكان قريبا. وقال محمد بن عبد الحكم: وإذا استعدى رجل على رجل بدعوى عند الحاكم، فإن كان في المصر أو قريبا منه، أعطاه طابعا في جلبه أو رسولا، وإن كان بعيدا عن المصر، لم يجلبه إلا أن يشهد عليه شاهدان أو شاهد، فإذا ثبت عنده، كتب إلى من يثق به من أمنائه: إما أنصفه، وإلا فليرتفع معه، وأما الغريب من المدينة مثل أن يأتي ثم يرجع ويبين في منزله، والطريق مأمونة، فهذا يرفع بالدعوى، كالذي في المصر، والذي يجلب من مكان بعيد أن يأتي في البر والبحر ما لم يرد التطويل والمدافعة، فلا يمكن من ذلك.
قال أصبغ في كتابه: وإذا قضى بين الخصمين في أمر اختصما فيه، ثم أخذا في حجة أخرى وخصومة أخرى، فإن كان بين يديه غيرها، لم يسمع منهما حتى يفرغ ممن بين يديه ويقيمهما، إلا أن يكون شيء لا ضرر فيه بمن حضر من الناس، فلا بأس أن يسمع منهما. [8/ 39]

(8/39)


في إنصاف الخصمين والعدل بينهما في اللحظ واللفظ، والمسألة، والاستماع، والمجلس، وغير ذلك، وهل يخص أحدهما بشيء؟ وهل يبدؤهما بالسؤال؟ وهل يأمرهما بالصلح؟ وغير ذلك من سيرته
من كتاب ابن حبيب: وروى مكحول أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن ابتلى أحدكم بالقضاء، فلا يرفع صوته على أحد/ الخصمين دون الآخر.
أخبرنا ابن الأعرابي، عن أبي داود، قال: حدثنا أحمد بن متيع، قال: حدثنا عبد الله بن المبارك، قال: حدثنا مصعب بن ثابت، عن عبد الله بن الزبير، قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن الخصمين يقعدان بين يدي الحكم.
ومن المجموعة: قال أشهب: ويلزم القاضي انصاف الخصمين في مجلسهما منه، وليجلسهما بين يديه، وإن كان شأنه ابن المجالس، جلس الخصم منه فذلك واسع إن كان كذلك فعله في غيرها. ما لم بحف في أحدهما بصداقة أو قرابة، فإن كان ذلك، أجلسهما منه مجلسا واحدا.
ومن كتاب ابن حبيب: قال أصبغ، في الخصمين، أحدهما ذمي: فليكن مجلسهما واحدا من القاضي، فإن أبى ذلك المسلم وهو الطالب، فلا ينظر له حتى يساويه في المجلس فيرضى بالحق. [8/ 40]

(8/40)


فإن كان الذمي الطالب: قال للمسلم: إما أن تساويه في المجلس، وإلا نظرت له، وسمعت منه، ولم ألتفت عليك، ولم أسمع منك. فإن فعل، وإلا نظر له.
قال مطرف، وابن الماجشون: وينبغي أن يكون مجلس الخصمين منه واحدا، معتدلين فيه، قال: وقاله أشهب، في المجموعة، وسحنون، في كتاب ابنه.
وينبغي أن ينصف الخصمين في مجلسهما منه، وفي النظر إليهما، واستماعه منهما، ولا ينبغي له أن يرفع صوته على أحدهما ما لم يرفعه على الآخر، إلا من نظر إليه منهما إغلاظا عليه للدد فذلك جائز، قال أشهب: إذا علم الله/ منه أنه لو كان ذلك من صاحبه، فعل به مثله.
قال أشهب، وسحنون: ولا ينظر إلى أحدهما بوجه أطلق مما يلقى به الآخر. ومن كتاب ابن حبيب، وهو لأشهب: وله الشد على عضد أحدهما إذا رأى ضعفه عن صاحبه، وخوفه منه؛ ليبسط أمله في الانصاف، وحسن رجائه للعدل، ولا بأس أن يلقنه حجة له عمي عنها، وإنما يكره تلقين أحدهما حجة الفجور، وكان الله عز وجل يعلم أن لو كان لصاحبه، لم يلقنه إياها. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: من ثبت عيا في خصم منه حتى يفهمها، ثبت الله قدمه يوم تزل الأقدام".
قال محمد بن عبد الحكم: لا بأس أن يلقنه حجة لا يعرفها. وقال سحنون في المجموعة، وكتاب ابن سحنون: لا ينبغي أن يشد عضد أحدهما، ولا يلقنه حجة. [8/ 41]

(8/41)


قال ابن حبيب: قال مطرف، وابن الماجشون: لا ينبغي للقاضي إذا جلس بين يديه خصمان، أو شهيدان أن يسأل أحدهما عن حاله، ولا عن غيره، ولا عن شيء من أموره في مجلسهما ذلك؛ لأن ذلك يكسر في ورع الخصم، ولا بأس إذا أقر أحد الخصمين في الخصومة بشيء للآخر فيه منفعة أن ينبهه ويقول: هذا لك فيه منفعة، هات قرطاسك أكتب لك فيه، ولا ينبغي له ترك ذلك، وليفعل ذلك لجيمع الخصوم. وقاله كله أصبغ في كتابه.
ومن المجموعة: قال ابن وهب: قال مالك: لا أرى للوالي أن يلح على أحد أن يعرض عن خصومته، أو أن يصالح.
قال ابن سحنون: وتخاصم/ إلى سحنون رجلان من أصحابه صالحان، فأقامها، ولم يسمع منهما، وقال: استرا على أنفسكما، ولا تطلعاني من أمركما على ما ستر عليكما. وروى ابن حبيب، عن الحكم بن عييينة أن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، قال: رددوا القضاء بين ذوي الأرحام حتى يصطلحوا، فإن فصل القضاء يورث بينهم الضغائن.
قال ابن سحنون عن أبيه، من سؤال حبيب: وإن كام الخصمان في أمرهما شبه فلا بأس بالصح.
قال أشهب في المجموعة، وسحنون في كتاب ابنه: ولا ينبغي له أن يسارر أحد الخصمين، ولا يضار بأحدهما ولا بهما في قضائه.
ومن المجموعة: قال أشهب: وأشر ذلك مساررته أحدهما، ولا أحب أن يساررها جميعا إذا كان كل واحد منهما لا يسمع ما يسارر به الآخر، وإن أسمع أحدهما ما يسار به الآخر، ولم يسمع الآخر، فهو أشر، وإن سارهما جميعا بكلام واحد، فلا بأس بذلك ما ل يسارهما بالقضاء بينهما، فإنه لا ينبغي أن يقضي بين المسلمين سرا، بل ينبغي الاشهار به، ولا يكتب إلى أحدهما بطاقة دون [8/ 42]

(8/42)


صاحبه، وإن كتبها إليهما، فلا بأس، ولا ينبغي أن يكتب إلى كل واحد منهما بطاقة، إلا أن يقرأها علانية.
قال ابن حبيب: قال مطرف، وابن الماجشون: لا يسارهما ولا أحدهما، ولا يكتب إليهما، أو إلى أحدهما لجمعهما في كتاب أو فوق الكتاب، وهذا ليس من الصلابة ورفع المهابة، ومن السخافة، ولينتزعه، وإن احتاج إليه، ولا يمكن أحدهما/ من أذنه يساره، ولا يقرأ له بطاقة إلا أن يقرأها علانية.
قال أشهب: ولا بأس أن يشاور في مجلس قضائه من لا خصومة له، وكذلك إن كتب إليه القاضي بطاقة، أو كتب هو إلى القاضي، وأما من له خصومة، فلا ينبغي ذلك له وإن لم يحضر خصومة.
قال سحنون في كتاب ابنه وفي المجموعة: ولا ينبغي أن يضيف أحد الخصمين، ولا يخلو معه، ولا يكلم أحدا من الخصوم، ولا يقف معه، فإن ذلك مما يدهن خصومه، ويدخل عليه سوء الظن، ولا يخلو معه في منزله، قال محمد بن عبد الحكم: إلا أن يكون من أهل المشورة في غير ذلك قبل الخصومة، فلا بأس أن يخلو معه للمشورة.
قال ابن حبيب: قال أصبغ: لا بأس أن يخلو الناس، وأكره أن يضيف الخصم عند نفسه، فإن أراد الاحسان إليه، وصله حيث هو إلا أن يضيف الخصمين جميعا.
قال مطرف وابن الماجشون: ولا يسمع من أحد الخصمين إلا بمحضر صاحبه، إلا أن يعرف من المتخلف لددا في تخلفه، ويشكو إليه، فيسمع منه. [8/ 43]

(8/43)


قال في كتاب ابن المواز: ولا يضيف أحد الخصمين وإن صح، ثم ذكر نحو قول ابن سحنون، ومثله لأشهب في المجموعة، وقال: لا يتعمد الخلوة في غير منزله، فإما أن يلتقيا في غير منزله، أو موضع على غير تعمد، فلا بأس به.
ومن العدل بين الخصمين أن لا يجيب أحدهما في غيبة الآخر، إلا أن يعرف لددا من المتخلف، أو لم يكن يعرف وجه خصومة المدعي، فلا بأس أن يستمع منه حتى يعلم أمره، وإذا جاء أحدهما/ ولم يحضر الآخر، فلا يسمع منه حجته، وليأمره بإحضار خصمه، أو يعطيه طينه، أو يكتب بجلبه؛ إلا أن يكون لم يعلم ما خصومتهما، فلا بأس أن يسمع منه.
قال ابن حبيب: قال أصبغ: وإن كان أحد الخصمين ذميا فليكن مجلسهما من القاضي سواء، فإن أبى ذلك المسلم، وهو الطالب، لم ينظر له في ذلك حتى يساويه في المجلس، وإن كان الذمي الطالب، قال للمسلم: إما ساويته في المجلس، وإلا سمعت منه، ولم أسمع منك، ولم أنظر إليك، فإن فعل، وإلا نظر له، فإن رأى له حقا، أنفذه له.
قال محمد بن عبد الحكم: وإذا كان أحد الخصمين لولاية أو غيرها، فجبن عنه خصمه، فلا بأس أن يعلمه القاضي أنه لا ينتفع بذلك عنده، ولا يضره في خصومته حتى يذهب عن الجبن، ويتكلم حجته.
ومن كتاب أصبغ: ويكره أن يدخل عليه أحد من الخصوم في بيته، وإن كان رجل من إخوانه قد كان يغشاه قبل ذلك، إذا كان على الاختصاص ليس بأمر عام، ولا يكره له عيادة أحد الخصمين، ولا شهود جنازة بعض أوليائه. قال مطرف، وابن الماجشون: ولا ينبغي أن يدخل عليه أحد الخصمين، لا في مجلس قضائه، ولا في خلوته، ولا وحده، ولا في جماعة وإن كان خاصته، ولا بأس إذا [8/ 44]

(8/44)


جلس خارجا في غير مجلس قضائه، وحيث يأتيه الناس ويجلسون معه، أن يجلس إليه أحد الخصمين.
ومن المجموعة: قال أشهب: وإذا جلس الخصمان بين يديه، فلا بأس بمسألته إياهما، فيقول: ما لكما؟ أو: ما خصومتكما؟ / أو: ما تطلبان؟ أو: يتركهما حتى يبتدئانه بالمنطق، ذلك اوسع، غير أنه إذا تكلم المدعي، أسكت المدعي عليه، واستمع من المدعي حتى يسمع حجته، ثم يأمره بالسكوت، ويستنطق الآخر؛ وذلك ليفهم حجة كل واحد منهما، وإن تكلما جميعا، إلتبس عليه، ولا ينبغي أن يبتدئ أحدهما فيفرده، فيقول له: مالك؟ أو: تكلم. أو: ما تريد؟ إلا أن يكون علم أنه المدعي، فلا بأس بذلك، وإذا علم المدعي منهما، فلا يبتدئ المدعى عليه، ولا بأس إذا جلسا إليه ولم يدر المدعي أن يقول: أيكما المدعي؟ فإن قالا: هذا. سأله عن دعواه، وأسكت صاحبه، وإن قال أحدهما: أنا المدعي، وسكت صاحبه، فلم ينكر، فلا بأس أن يسأله عن دعواه، وأحب إلي أن لا يسأله حتى يقر له الخصم الآخر بذلك، وإن قال أحدهما: المدعي هذا، فلم ينكره خصمه، فلا بأس أن يسأله عن دعواه، ولا أحب أن يعنى بمسألته عن ذلك؛ لأنه مبدأ في إقرار صاحبه بالكلام، فإن كان لا يرد ذلك، فليس على ما قال صاحبه، فإذا قيل له: تكلم، قال: لست بالمدعي. وإن قاما على هذا يقول كل واحد منهما للآخر: هذا المدعي: فللقاضي أن يقيمهما عنه حتى يأتي أحدهما إلا الخصوم، فيكون هو الطالب، وقاله أصبغ، في كتاب ابن حبيب.
قال محمد بن عبد الحكم: وإذا قال كل منهما: أنا المدعي. فإن كان أحدهما الذي استعدى وجلب الآخر إلى القاضي، سمع منه أولا، وإن لم يدر من [8/ 45]

(8/45)


جلب صاحبه إليه، لم أبال استعدى وجلب بأيهما بدأ، وإن كان أحدهما ضعيفا/، فأحب إلي أن يبدأ بالآخر.
قال ابن حبيب: قال أصبغ: وإذا تكلم وأدلي بحجته، قال للآخر: تكلم، فإن تكلم، نظر في ذلك، وإن سكت أو تكلم، فقال: لا أخاصمه إليك. قال له القاضي: إما خاصمت، وإلا أحلفت هذا المدعي على دعواه، وحكمت له، فإن تكلم، نظر في حجته، وإن لم يتكلم، أحلب الآخر، وقضى له بحقه إن كان ما يستحق مع نكول المطلوب إن ثبتت الخلطة؛ لأن نكوله عن التكلم نكول عن، وإن كان مما لا يثبت إلا بالبنية، دعاه بالبينة عنه حتى يتكلم، ولكن يسمع من صاحبه ويحمل الحكم عليه إذا تبين له الفصل، ومن كتاب محمد بن عبد الحكم، ذكر نحو ما تقدم من معرفته للمدعي منهما، وقال: وإذا أقر له له المطلوب بشيء أمره أن يشهد عليه ليلا ينكر.
قال أصبغ في كتابه: وإذا تقدما إليه؛ فقال أحدهما: أنا اتخذت المكان، وهو لي. وقال الآخر: مثل ذلك، سمع من أيهما شاء، بلا ميل ولا هوى.
قال ابن سحنون: وكان سحنون إذا تشاغب الخصمان بين يديه، أغلظ عليهما، وربما أمر القومة فزجروهما بالدرة، وربما تشاغبا حتى لا يفهم عنهما، فيقول: قوما فإني لا أفهم عنكما، وعودا إلي. وذلك عند قيامه من مجلسه، وكان إذا تكلم المدعي، منع الآخر من الكلام حتى يفرغ من مسألة خصمه عن ما ذكر المدعي، منع الآخر من الكلام حتى يفرغ من مسألة خصمه عن ماه ذكر المدعي، فإذا تكلم منع المدعي من الكلام حتى يفرغ من حجته، ومن نهاه عن الكلام: فلم يفعل، وألح فخلط على صاحبه، ويمنعه من/من الكلام، ويكثر معارضته في كلامه، أمر بأدبه. [8/ 46]

(8/46)


ومن كتاب ابن سحنون: قال: وكان سحنون إذا حضر المدعي وخصمه وبينة، أمرهم بالقعود، ثم يسمع دعوى المدعي وإنكار المنكر، ويكون مقعد الكاتب بالقرب منه، فإذا كتب دعوى المدعي، وإنكار المنكر، عرض ذلك عليه، فإن كان ما كتب الكاتب موافقا لما كان منهما، أقر ذلك، وإن أنكر شيئا غيره، ثم يسأل البينة عن شهادتهم، فإن كانت مخالفة لدعوى المدعي، لم يأمر الكاتب أن يكتبها، وأخرجهم، وإن وافقت دعواه، كتبها.
ومن المجموعة: قال ابن أبي حاز في الرجل يأتي القاضي فيخبره بالخصومة فيما بينه وبين خصم: ولا ينبغي للقاضي أن يخبره بما يقضي به له ولا عليه، حتى يحضر خصمه، فيختصمان عنده، ثم يقضي بينهما.
وكان سحنون، رحمة الله عليه، إذا أتاه الرجل يسأله عن مسألة من مسائل الأحكام، لم يحببه، وقال: هذه مسألة خصومة، إلا أن يكون رجلا يعلم أنه متفقة، فيسأل على جهة التعليم، فيجيبه، أو مسائل الوضوء، والصلاة، والزكاة. قال مطرف، وابن الماجشون، في كتاب ابن حبيب: والصلاة، والطلاق، والنكاح، والعتق. وأما في الدعوات، والمواريث، والأقضية، وما يعلم أنه من خصومات الناس، فلا يجيب في ذلك إلا المتفقة.
قالا: ولا بأس أن يجلس في مجالس العلماء، فيعلم إن كان يتعلم منه أو يتعلم إن كان متعلما، فكل ذلك حسن، وكان يقال: من عيب القاضي أنه إذا عزل/، لم يرجع إلى الموضع الذي يتعلم فيه العلم.
وقال مالك في المختصر: لا يفتي القاضي في مسائل القضاء، وأما في غير ذلك، فلا بأس به. [8/ 47]

(8/47)


باب سيرة القاضي في البينة وكتاب الشهادة وسماعها وفي الشاهديشك أو يزيد في الشهادة، وهل يعرفهم أو يكلفهم إخراج إمرأة شهدوا عليها من بين نساء؟ أو دابة من دواب؟ وتحديد ما شهدوا به من ربع، والوقوف على ما لم يجدوا، أو غير ذلك في سيرته، وهل يركب القاضي إلى شيء ينظر إليه إذا أشكل الأمر فيه؟
من كتاب ابن سحنون قال: كان سحنون إذا أخذ الشاهد في نص الشهادة، أمر الخصمين ألا يعرضا بشي، لا المدعي بتلقين، ولا المدعي عليه بتوبيخ، فإن فعل أحدهما ذلك بعد النهي، أمر بأدبه، وكان إذا خلط الشاهد في شهادته، أعرض عنه، ولم يلقنه، وأمر الكاتب أن لا يكتب، وربما قال له: تثبت ثم يردده، فإذا ثبت شهادته، أمر كاتبه فكتب لفظ الشاهد، ولا يزيد على ذلك، ولا يحسن الشهادة، وكان إذا دخل عليه الشاهد وقد رعب منه، أعرض عنه حتى يذهب روعه، فإذا طال ذلك به، قال له: هون، فإنه ليسمعي سوط، ولا عصي، فليس عليك بأس، قل ما علمت، ودع ما لم تعلم.
ومن المجموعة لأشهب، ومثله لمطرف، وابن الماجشون، من رواية ابن حبيب، قالوا: فإن استخف القاضي إيقاع الشهادات بنفسه، فذلك حسن/، وإن أوقعها كاتبه، وكان مأمونا وهو ينظر، أجزأه ذلك، وإن أوقع الناس شهادتهم أنفسهم، فذلك جائز، وذلك أحب إلينا، قال مطرف، وابن الماجشون: يمكنون من إيقاع شهادتهم، ثم يرفعونها موقعة، وهل فعل الناس عندنا بالمدينة قديما وحديثا: قالوا أجمعون: لأنه ربما أخجله مجلس القاضي، فلا يقوم بشهادته قال أشهب: إلا أن يتهم القاضي أحدا من الشهود إن كان للتهمة أهلا، فيكون له [8/ 48]

(8/48)


إيقاع شهادته عنده، ولا يقبلها منه مرفوعة في رقعة، ويكشفه عن تلك الشهادة، ويختبره بكل ما استطاع حتى يقع منه على حقيقة أمر أو يردها.
قال مطرف وابن الماجشون: وإذا أمر كاتبه فوقع الشهادة وهو عنده كاتب ثقة، فلا بأس. وأحب إلينا أن ينظر إذا أوقعها كاتبه.
قال سحنون في كتاب ابنه: وينبغي للقاضي أن يعرض كتاب الشهادة بعد ما يكتبه الكاتب، ويقرأها على الشاهد، ثم يطبع عليها فيرفعها في موضع رفع الكتب. قال: ولا ينبغي أن يلقن شاهدا، ولكن يدعه يشهد بما عنده، فإن كانت شهادته جائزة، قبلها، وإن كانت غير جائزة، ردها. قال في موضع آخر: وإن أشكل عليه، كتبها حتى ينظر. وكذلك قال أشهب في المجموعة، وقال أيضا؛ لا يلقن الشاهد ولا يحجبه، ويدعه يشهد بما عنده، ويرفق به في مسألته استفهامه، ولا ينبغي له أن يفرق الشهود إلا عن تهمة،/ فيفعله في رفق، ويكشفها كشفا رفيقا عن كل ما يريد حتى يتضح له برأيهما من تهمته؛ أو يحق الريبة عليهما، فيطرح شهادتهما. وقاله محمد بن عبد الحكم.
قال سحنون: ولا يقول القاضي للشاهد: أتشهد بكذا؟ فهذا تلقين.
قال محمد بن عبد الحكم: وإذا كان الشهود عدولا، فنسي أحدهما، فلا بأس أن يذكره الآخر، ويصف له الموضع، ومن أشهد فيه، فإن ذكر قبل منه؛ لقول الله سبحانه: (فتذكر إحداهما الأخرى) وقوله: (أن تضل) يريد: أن تنسى.
ومن كتاب أصبغ: وإذا اتهم القاضي الشهود على الغلط، فلا يفرق بينهم، سأله الخصم أو لم يسأله، ولا يدخل عليهم في ذلك رعبا؛ لأنه إذا قصد الشاهد بهذا رعب واختلط عقله، ولكن يسمع منهم، ويسأل عنهم، وإذا شهدوا على [8/ 49]

(8/49)


امرأة، فيسأل القاضي أن يدخلها في جماعة نساء، فليس ذلك على الشهود، وكذلك إن شهدوا على دابة، فلا يمتحنهم بإدخالها في دواب، وإن سأله فيه الخصم، فلا يفعل.
قال ابن حبيب: قال مطرف، وابن الماجشون: ولا يحلف القاضي الشاهد، عدلا كان أو غير عدل. وقاله أصبغ. أما العدل: فقوله كاف، وغير العدل لا ينفع فيه اليمين.
قال أشهب في المجموعة، وذكر مثله ابن سحنون عن أبيه، وقال في كتاب ابن المواز، وكتاب ابن حبيب، عن مطرف، وابن الماجشون، بمعنى واحد، واللفظ لأشهب، قالوا: ينبغي للقاضي إذا شهد/ الشاهد عنده، أن يكتب اسمه، ونسبه ومكسبه، والمسجد الذي يصلي فيه، ويكتب حليته وصفته قال ابن المواز: إن لم يكن معروفا. وفي موضع آخر، عن سحنون: وإن عرف بالكنية، كتب كنيته، وكان ما يعرف به من صنعه وغيرها، وهل يسكن في ملكه أو في ملك غيره. قالوا: لئلا يتسمى غير العدل بغير اسمه، وينتسب إلى غير نسبه، فيزكي عليه.
قالوا: ويكتب الشهر الذي يشهد فيه، والسنة، ويجعل صحيفة الشهادة في دويانه؛ لئلا يسقط المشهود له شهادته، فيزيد فيها الشاهد أو ينقص.
قال سحنون في كتاب ابنه: ويوصل ذلك إلى من يكشف له.
ومن كتاب ابن سحنون، قال سحنون: وإذا سمع دعوى وإنكار المنكر، ثم سمع شهادة البينة؛ فإن كانت مخالفة لدعوى المدعي لم يكتبها، وإن وافقت دعواه، أمر الكاتب فكتبها، فيكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، قال القاضي فلان ابن فلان: حضرني فلان بن فلان الفلاني بخصمه فلان، فينسبه أيضا، فادعى عليه كذا، فسألت فلانا عن دعواه، فأنكرها، فسألت فلانا البينة على دعواه، فأ؛ ضرني فلان بن فلان، فيذكر مسكنه حيث هو، وبقرب من يسكن، وأين يسكن، في حانوته، وصنعته، ويذكر حليته، فشهد أنه يعرف الدار التي تنازعا [8/ 50]

(8/50)


فيها، وهي بيد فلان، فينص شهادته، ويستقصي الحدود والمواريث، ويذكر في/ الوراثة: لا يعلم له وارثا غير من ذكرنا، ولا يعلمه أحدث فيها ما يزيل ملكه عنها، وإن شهد معه آخر بمثله، قال: وشهد بمثل ذلك فلانا، فينسبه، ويذكر من صنعته وحليته ومسكنه وغير ذلك ما ذكر من الأول، وإن خالفه في بعض الشهادة في حد، أو ذكر وارث، أو نقص، فليكتب ذلك بقول: إلا أنه قال في الحد: كذا وكذا وكذا. وإن قال أحدهما: وإذا وقفت عليها حددتها. كتب كذلك، ويكتب فيما يخالفه في ذكر المواريث: ما يخالفه فيه، وإذا فرغ من كتاب الشهادة، أمر بها فقرئت شهادتهم عليهم، وهو يستمع، فإن مر به شيء مما كتب الكاتب خلاف ما فهم عن الشاهد أولا في نص شهادته، مما يهم فيه الكاتب، رده عليه بمحضر الشاهد، فإذا قرئت شهادتهم عليهم، طوى الكتاب، وجعله في إضبارة، ولا يطبع على الكتاب الذي فيه الشهادة، ويكتب على ظهر الكتاب: خصومة فلان بن فلان، ويؤرخ الشهر والسنة، ويدخل الأضبورات في جراب، ويطبع عليه قال: وإذا كثرت الكتاب، جعلها نوب دعوات، فجعل يوم الثلاثاء والأربعاء للدعوات لمن يوقع بينة، وأسباب خصومة، فيدعوهم على ما يخرج من أسمائهم في الدعوات، وجعل في كل دعوة خمسين شاهدا، وكاتب ثلاث دعوات: أولى وثانية وثالثة/، فكل من جاء بعد، فكتب الأول فالأول، فإذا خرج اسم الرجل، نادى العون باسمه واسم أبيه، فإن حضر، دخل مع خصمه، فإذا دخل أخذ كتابه، فنظر فيه، وفيما فيه من بينة، وفيدبره فيأمر المدعي بزيادة بينة، أو مزكين، أو يبين له العقل، فيأمر به، فإن كان ما يعقله بمدينة القيروان، أمر أحد أعوانه بذلك، فإن سأله المعقول عليه تأخيره أياما لإخراج ماله في الدار، أخره اليومين والثلاثة، وإن سأله أن يترك فيها ما سهل عليه إخراجه، فعل ذلك له، ثم [8/ 51]

(8/51)


يعقلها، أو يطبع عليها، ويكون المفتاح عنده، وكذلك الحانوت، وربما تنازعا في متاع الحانوت، فيأتياه ومفاتحه بأيديهما، فيأمر من يغلقه، ويكون عنده المفاتيح حتى ينظر بينهما إن خاف على ما في الحانوت، أو يخلو به أحدهما قبل النظر فيه، وإن كان ما يفعل في غير الحاضرة، كتب إلى أمنائه في عقل ذلك.
وسأله حبيب، عمن قامت له بينة، فجرحهم المطلوب، فأراد الطالب تجريح من يجرح شهوده، فذلك له، وليعرفه القاضي بأسمائهم إن طلب ذلك.
ومن كتاب ابن حبيب: قال مطرف، وابن الماجشون، عن القاضي يحكم لرجل على رجل بأرض: أيسأل البينة عن حدها وصفتها، ويكتب حكمه على ذلك، أو ما يكلفهم أن يقفوا عليها، فيحوزوا ما عرفوا منها، ويكتب إلى عدول يرضاهم، أن يرفعوا/ ما ذكرت البينة إلى المحكوم عليه، قال: إن عرفوا صفتها وحدودها المحيطة بها، كتب ذلك، وحكم به، ولا يكلفهم الوقوف عليها، وإذا حكم له بذلك، وشاء أن يكتب له كتابا إلى من يرضاه في الموضع؛ ليدفع إليه ما في الحكم، فإن عرض في ذلك عارض غير المقضي عليه، فليدفعه إليه، وإن لم يعرف صفة الأرض ولا حدودها بالصفة، وهم يعرفوا حوزها، فإن طاعوا بالخروج إلى الأرض، فليحوزوه ما شهدوا بماله منها، وكتبوا ذلك بمحضر عدول الوضع، ولا يكتب الحكم للمحكوم حتى يؤتي بهذا الحوز، فيذكره للمقضي عليه، فإن لم يدفع شيئا من ذلك بحجة، أنفذ قضاءه على ذلك، فإن أبوا الشهود الخروج، لم يكرههم، وإن قربت، إلا أن يكون معه في مدينة، ولكنه يكلف المشهود له أن يأتيه بمن يعرف حدود هذه الدار أو الأرض التي شهد له بها الشهود، فإن جاء بمن يحدها، وإن لم يشهدوا بالملك، أنفذ له القضاء، وإن لم يجد بينة بالحدود، فليكتب له القاضي أن يكتب بما شهدت له بينته إلى سلطان تلك [8/ 52]

(8/52)


القرية، أو عدول من أهلها إن لم يرض سلطانها، ويأمره أن يسأل أهل العدل عن حدود تلك الأرض، فيكتب بما صح من ذلك، ثم يمضيه على ذلك. وقاله أصبغ.
قال مطرف، وابن الماجشون: ولو كتب إلا أمنائه بدفع ما حد الشهود من الأرض، ودفعوه إليه، ثم قام/ المقضي عليه ثم بعد عزل القاضي، فقال: أخرج ذلك من يدي بغير، حق قالا: فإن لم تقم للمحكوم له بينة على إشهار القاضي على أصل الحكم، وعلى أمره أمناء بدفع ذلك، وعلى أن الأمناء فعلوا ذلك، وثبت ذلك بشهادة غير الأمناء، فإن لم يثبة له هذا، لم ينفذ له الحكم، ورد، ولو شهد له على أصل الحكم فقط، نفعه ذلك، وأنفذ له اليوم بدءا، وإن لم يشهد له على أصل الحكم، وشهد له على أصل على أمر أمناءه، أو كتب إليهم بدفع ذلك، وقد عرفت الخصومة بينهما في ذلك، فذلك ينفعه أيضا، وأنفذ له اليوم، وإن لم يشهد له على أصل الحكم، ولا على الأمر بدفع ذلك إليه، وشهد له أن الأمناء دفعوا ذلك إليه، وزعموا أن القاضي أمرهم بذلك، لم ينفع ذلك المحكوم له، وعادا على ابتداء الخصوم، فيرد الحق في يد المحكوم عليه، وكذلك لو لم يعرف ذلك إلا بشهادة الأمناء؛ لأنهم شهدوا على فعل أنفسهم، قلت لمطرف: فإن قال المحكوم له للمحكوم عليه: قد استسلمت في دفع ذلك إلى قول الأمناء بعد إشهاد من القاضي على حكمه، أو على كتابه إلى الأمناء، فإن أشهد المحكوم عليه يومئذ سرا، إنما استسلم بشيء ذكره من القاضي من ممالأة، وشبه ذلك، فقام بعد عزله أو موته، لم يضره حكم الأمناء عليه، واستسلامه لهم فيما فعل، وإن لم يشهد سرا بذلك، فليحلف: ما كان استسلامه لذلك إقرارا منه بحق، ثم يكون/ الأمر على ما وصفت لك. وهذا فيما كان بحدثانه، فأما ما طال زمانه طولا في مثله الحيازة، فلا قول له بعد ذلك، إلا الصغير والغائب، فهما على حجتهما، إلا أن يترك الغائب الكلام في ذلك بعد قدومه، والصغير بعد بلوغه حتى يطول مثل [8/ 53]

(8/53)


ما طال في الكبير الحاضر، فلا كلام لهما بعد ذلك. وقال أصبغ نحو قول مطرف. وقاله ابن القاسم.
قال أصبغ في الكبير الحاضر: هو معذور في تركه القيام والدفع؛ لأنه حكم حكم به عليه، ولعله رآه لازما له، فهو عذر وإن طال زمانه ما لم يتفاحش طوله حتى يرى أنه منه رضى تسليما، فيلزمه ذلك.
قال أصبغ: وأما الصغير والغائب: فهما على حقهما أبدا، قال ابن حبيب: وهذا أحب إلي؛ لأن كل الناس لا يعرف أن هذا فعل من كتب إليه القاضي، لا يلزم إلا بإشهاد من القاضي، وإن كان ابن القاسم قد كان يقطع حجة الكبير إذا لم يتكلم مكانه، وقول أصبغ أحج، وبه أقول.
قال أبو محمد: وهذه المسألة من أولها لابن القاسم، قد كتبت مستوعبة في باب شهادة كتاب القاضي وأمنائه والقسام.
قال مطرف: وإذا كتب القاضي إلى قوم يأمرهم بتنفيذ كتابه في هذا، فأنفذه بعضهم، وأبي الباقون النظر فيه، وقد أشهد القاضي على كتابه بذلك، وأشهد المنفذون على تنفيذه، قال: لا يجوز ذلك بحال حتى يجتمعوا على إنفاذ ذلك، ولو مات القاضي، أو عزل/ قبل إنفاذهم: قال: فليكفوا عن إنفاذ ذلك حتى يأمرهم به من ولي بعده، وحق عليه أن ينفذ ذلك إذا شهد عنده عليه وقاله أصبغ.
وقال أصبغ في المجموعة: وإذا كتب الشهادة، فليختمها ويضعها بموضع يثق به حتى ينفذ قضاءه، وكذلك في كتاب ابن المواز.
ومن المجموعة وكتاب ابن حبيب: قال أشهب، عن مالك، في القاضي، قال في كتاب ابن حبيب: يكتب شهادة القوم في الكتاب أو الأمر – يريد من أمر الخصمين- قال، في المجموعة يؤتي بالكتاب فيفضه، ويعلم على الشهادة.
قال، في الكتابين: ثم يختم الكتاب ويدفعه إلى صاحبه، ثم يؤتي به فيعرفه بخاتمة، [8/ 54]

(8/54)


هل يجيزه بغير بينة والخواتم، ربما علم عليها؟ قال: هو أعلم، وأحب إلي أن يكون الكتاب عنده، وكان الكبيري لا يلي كتبه إلا هو نفسه.
قال ابن حبيب: قال أصبغ: فأرى أن يجيز ما فيه إذا عرفه وعرف خاتمه.
قال محمد بن عبد الحكم: وكان من شأن الأئمة أن يجروا مع أرزاق القضاة شيئا للقراطيس والصحف، حتى لا يكلف الطالب أن يأتي بذلك، فإن لم يجر لذلك شيء، قيل للطالب: إن جئت بما تكتب به الشهادة، وإلا لم أسمعها ظاهرا، لأنه ليس كل شهادة تضبط، وكذلك يأمره بصحيفة يكتب فيها حكمه. قال سحنون، وابن المواز: ولا بأس أن يكلف القاضي الطالب صحيفة وقرطاسا يكتب فيها خصومته وحجته/ وشهادة شهوده، ثم يطويها ويختمها بخاتمه، قال ابن المواز: إلا أن يخشى أن يكون تكليفه ذريعة لغيره ممن لا يتوثق به.
قال أبو محمد: أراه يريد لغير هذا القاضي أن ينسب بذلك إلى أمر.
قال ابن المواز، وسحنون: ويكون المحضر الذي فيه شهادة الشهود عند القاضي في موضع يثق به. قال سحنون: حتى ينفذ القضاء، فإذا أنفذه، دفع إليه القضية.
قال سحنون في المجموعة وكتاب ابنه: يختم عليه، ويكتب عليه: خصومة فلان وفلان، في شهر كذا في سنة كذا. ويجعل خصومة كل شهر على حدة، ولا يخلط ذلك. قال: ويتولى سؤال الشهود، ثم يكتب شهادتهم، ويكتب بين يديه ويعرضها بعد أن يكتبها ويقرأها على الشاهد. ثم ذكر نحو ما ذكر عنه ابنه متقدما.
قال ابن سحنون عن أبيه: وإذا هلكت شهادة الشهود من ديوان القاضي، يشهد عدلان أن شهوده فلان وفلان شهدوا له بكذا، فليقبل ذلك القاضي؛ لأنها [8/ 55]

(8/55)


كشهادة على شهادة، إذا أثبتا الشهادة ولو لم يكتبها القاضي، فلا ينبغي أن يقبل شهادة كاتبه على أحد، أنه شهد عنده. قال أبو محمد: أرى سحنون يريد في شهادة بينة شهدت بكذا. يريد: والبينة الأولى قد ماتت، أو غابوا أو مرضوا. وذكر ابن المواز مثل ما ذكر سحنون من الشهادة على أن الشهود/ شهدوا بكذا، قال: ولا تجوز في هذا شهادة الكتاب على أحد أنه شهد عند القاضي.
قال ابن سحنون عن أبيه: وإذا كتب القاضي شهادتهم، ثم قرأ ذلك على المشهود له بعد أيام، فقال: لم يكتب كل ما شهدوا لي به. أو قال: نسوا، ونقصوا، وأنا أعيدهم. لم يكن للقاضي أن يعيدهم له.
وإن شهد عنده رجلان أن فلانا أخو فلان الميت، فسألهما القاضي، أكان أخوه لأبيه وأمه؟ فقالا: أمهلنا. فتذكروا آخر اليوم، فلم يحضرنا علم ذلك الساعة.
قال سحنون: إذا قالا: إن عندنا سبب ذلك، فأخرنا نتذكر. فله أن يؤخرهما اليوم ونحوه، إذا كان شهيدين عدلين، ولو لم يقل الشاهد: عندي سبب من ذلك، ولكنه قال: ما أذكر الساعة، وما أعلم، وأخرني. فتذكر، فذلك له.
وقد سأل القاضي القسم، وقد شهد عنده عن شيء في الشهادة، فقال: لا أذكر، ثم رجع من بعض الطريق إلى القاضي، فذكر، فقبل القاضي شهادته، وقد اختلف قول مالك في هذا، قال سحنون في كتاب ابنه: وأخبرني ابن نافع، أن شهادته جائزة، جاء بها في قرب ذلك، ولكن الشاهد مبرزا في العدالة؛ لأن القاضي قد أجاز شهادة القاسم لعدله وفضله، فأرى إذا كان عدلا مبرزا أن يمهله القاضي اليوم ونحوه، ويجيز شهادته إن ذكر شيئا. [8/ 56]

(8/56)


قال محمد بن عبد الحكم: وأرى أن يجعل نسخة في ديوانه، ونسخة/ بيد الطالب، يطبع عليها ليخاصم بها، فإذا أراد الحكم: أخرج التي في ديوانه فقابل بها، وحكم عليه.
قال أبو محمد: وبلغني عن بعض القضاة، وهو ابن طالب، أنه ربما كتب المحضر الذي فيه الشهادة نسختين، فيجعل واحدة في ديوانه، ويعطي للمشهود عليه؛ ليقف على ما شهد عليه به لهما، ويبحث عن منافعه فيه وحجته، وأظن ذلك في الأمر المشكل، وما يحتاج إلى الفحص عنه، والنظر فيه.
قال ابن حبيب: قال أصبغ: ولا بأس إذا كان شيء يتشاجر فيه، ويختلط أمره، ويطول فيه الخصوم، ولا يجد سبيلا إلى معرفته إلا بمعاينة: أن يركب القاضي إليه حتى ينظر إليه مع الناس، وقد يكون هذا الشيء من الغرر وشبهه. وقد فعله عثمان بن عفان رضي الله عنه. وقال محمد بن عبد الحكم: إذا أشكل الأمر ولم تتحقق صيغته. وشهادة البينة بغير محضر الخصم، فالكلام مستوعب في كتاب الأقضية.
في كشف القاضي عن البينة، وفيمن يكشف له
في المجموعة وكتاب ابن سحنون: قال أشهب: وينبغي للقاضي أن يتخذ رجلا صالحا مأمونا متنبها، أو رجلين بهذه الصفة، فيسألان عن الشهود في السر في مساكنهم، وأعمالهم. قال سحنون: ولا يكلف ذلك إلا من يثق به بدينه، وعقله، وأمانته، واحتياطه، ومن هو منه على يقين في حسن نظره لنفسه في دينه، وما حمل من ذلك، فطن غير مخدوع، فربما زكى/ الفاضل من ليس بعدل لقلة نظره، وإن كانا رجلين، فهو أحسن، وإن قدر أن لا يعرف من يسأل له، فذلك حسن. [8/ 57]

(8/57)


قال في كتاب ابنه: وإن جاءه تزكية رجل من رجل عنده ثقة، وأتاه عن ثقة آخر: أنه غير عدل، أعاد المسألة، فإذا اجتمع رجلان على التزكية فطنان متنبهان غير مخدوعين، أمضى ذلك، ولا يأخذ بقول رجل واحد على الفساد، وإن اجتمع نفر على التزكية، واجتمع رجلان على الفساد، أخذ بقولهما إن كان عدلين مبرزين.
وهذا كله يحكيه ابن سحنون، عن أبيه.
ومن المجموعة: قال أشهب: ولا ينبغي للمكشف أن يسأل رجلا واحدا أو اثنين، وليسأل الثلاثة والأربعة أو أكثر إن قدر، ومثله من أول الكلام عن ابن حبيب، عن مطرف، وابن الماجشون، إلا أنهما قالا: ولكن يسأل الاثنين والثلاثة، ولا يقتصر على سؤال واحد. قال أشهب في المجموعة: حيف أن يزكيه من أهل وده، بخلاف ما يعلمه عليه اثنان وثلاثة من غيرهم، ويسأل عنه عدولا، فيجرحه، قال: لا ينبغي للقاضي أن يضع أذنه للناس في الناس حتى يقبل كل ما أتوا به، فإن عداوة بعضهم لبعض تحملهم على ذلك، وقد لا يعلم بعدواته أداه، ومنهم من يدمن من يقول، ثم يصدق هو قوله، ومنهم من يتخذ ذلك صناعة ليستأكل الناس به، ومنهم من يأتيه على النصرة، فلا يقبل شيئا من هذا قبولا يعتقد عليه، ولكن يعي ذلك، ثم يكشف عن المقول/ ذلك فيه، وعن عداوة إن كانت. قال الله سبحانه "فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة". قال: وإن بعث القاضي إلى من لا يشك في عدله من العلماء ببلدة، فجمع منهم أئمة وسألهم عن معرفتهم بالناس، فما اجتمعوا عليه منهم من أهل العدالة، استجاز شهادته، ومن لم يعرفوه عدله له من قد عرفوه، رأيت ذلك حسنا.
قال محمد بن عبد الحكم: ومن الناس من لا يحتاج أن يسأل عنه لاشتهار عدالته، ومنهم من لا يسأل عنه لشهرته بغير العدالة، وإنما يسأل عن ما أشكل [8/ 58]

(8/58)


عليه، وقد شهد ابن أبي حازم عند قاضي المدينة أو عاملها، فقال: أما الاسم فاسم عدل، ولكن من يعرف أنك ابن أبي حازم؟ فأعجب ذلك مشايخنا.
قال ابن حبيب، عن مطرف، وابن الماجشون: ولا يكتب في الكشف عن ما لا يعرف إلى إلا قاض يعرف حاله، ويثق باحتياطه، ويكون على يقين من حسن نظره في دينه، وما حمل من ذلك، فإن لم يكن عنده، فلا يكلفه ذلك، ولكن إن كان في الكورة رجال يرضى حالهم، ويأمن غفلتهم، كاتبهم، فإن لم يكن إلا واحد على هذه الصفة، كتب إليه، وقبل ما أتاه منه أو منهم، ويكتفي برسوله إليهم أو إليه إذا كان مأمونا، وإن سار الخصم بالكتاب، فلا يقبله منه إلا بشاهدين: أنه كتاب القاضي أو الأمين أو الأمناء المكتوب إليهم. وقاله ابن القاسم، وأصبغ، قالا: وينبغي إذا وثق بعدل الرجل وصلاحه ومعرفته بأهل مكانه، وبوجوه العدالة، أن يسأله عن الناس، فيعرف به من/ جهل عدالته وجرحته، وهذا كله من تعديل السر الذي ينبغي أن يفعله، وينبغي أن يكون مع ذلك تعديل العلانية، يدعو إلى ذلك المشهود له فذاك أقوى له، وقد يجزئ تعديل السر عن تعديل العلانية، ولا أحب أن يجتزئ بتعديل العلانية عن السر. وذكر في كتاب الشهادات بقية القول في التعديل والتجريح مستوعبا.
قال ابن الماجشون، في القاضي يكتب إلى قاض بعدالة شاهد يشهد عند المكتوب إليه: فذلك جائز إن كان الشاهد من عمل الكاتب بعدالته، وكما لو كتب إليه أنه حكم، ويجتزئ في ذلك بقوله وحده، وسواء ابتدأه بالكتاب إليه بتعديله، أو سأله عنه المكتوب إليه، أو سأله في ذلك المشهود له أحدهما أو لم يسأله، وأما إن كان من غير عمله، فهو كغيره من الناس في تعديله، فإن كان هو ابتدأه بالسؤال عنه بمشافهة أو مكاتبة قبل وحده، وإن كان الكاتب هو المبتدئ بخبره بعدالته بمشافهة أو مكاتبة، فهو كمزكي واحد، ويلتمس مزكي [8/ 59]

(8/59)


آخر معه، وكل ما يبتدئ القاضي السؤال عنه، والكشف عن الأمور، فله أن يقبل فيه قول الواحد، وما لم يبتدئ هو، وإنما يبتدأ به إليه في ظاهر أو باطن، فلابد من شاهدين فيه، وإذا سأله المشهود له أن يرد عدالة شهوده إلى قاضي البلد الذين هم به، فلا يمكنه من ذلك، ولا تعدل البينة إلا حيث شهدت. وقاله كله مطرف، وأصبغ. وقاله ابن وهب، وذكر عدالة الغائب وتجريحه، / في باب كتب القضاة إلى القضاة.
ومن كتاب ابن سحنون: وكان سحنون إذا شهد عنده الشاهد وهو معروف مشهور، قبل التزكية فيه، وإن لم يحضر، وإذا لم يكن مشهورا، لم يقبل التزكية إلا بمحضره في المشهور، ويكتب التزكية أسفل من الشهادة، ويكتب: زكي فلان فلانا بمحضره إن حضر، أو بغير محضره إن لم يحضر، في المشهور، ويحلي المزكين، ويصف مواضعهم وصناعتهم، كما يفعل في الشهود، ولا يقبل شهادة الشهود حتى يسأل عنهم في السر.
وإذا زكي الرجل في العلانية عنده عدلا مشهورا بالعدالة، لم يسأل عنه في السر، وإذا كان في البينة من يعرفه بالعدالة، قال للمدعي: زك شهودك، إلا فلان. وكان يسأل عن المزكين في السر، وكان يقبل قول من يثق به، ومن يتولى له الكشف، ولا يولي ذلك إلا من يعرفه بالدين والعدالة.
فيمن يكلفه القاضي نظر العيب، وقياس الجراح، أو يترجم عن الأعجمي، أو يحسب له تركته، أو يقوم له قيمة، هل يقبل قوله وحده؟ وقول القائف الواحد
ومن العتبية: قال أشهب، ابن نافع، عن مالك، في القاضي يأتيه القوم بينهم خصومة في قسم، فيولي رجلا حساب ذلك، ثقة عنده، فيخبره بما صار [8/ 60]

(8/60)


لكل واحد، هل عليه أن يقف من ذلك على ما وقف أو ينفذ قوله؟ قال: ليس عليه تفتيش هذا، ونرجو أن يكون من ذلك في سعة إن كان الرجل عدلا، وليدع / الورثة إلى الرضا برجل، ثم يوليه حسابهم، وقالا عن مالك: قال ابن حبيب مثله.
عن مطرف، وابن الماجشون: إذا اختصم إليه من لا يتكلم بالعربية، ولا يفقه كلامه، فليترجم له عنهم رجل ثقة مسلم مأمون، واثنان أحب إلينا، والواحد يجزئ، ولا تقبل ترجمة كافر أو عبد أو مسخوط، ولا بأس أن تقبل ترجمة امرأة إذا كانت عدلة. قال مطرف، وابن الماجشون: إذا لم يجد من الرجال من يترجم له: قالوا: إذا كان ذلك مما تقبل فيه شهادة النساء، وامرأتان ورجل أحب إلينا.
قال أشهب في المجموعة: أو رجلان، ولأنه موضع شهادة.
قال سحنون في كتاب ابنه، والمجموعة: لا تقبل ترجمة النساء، ولا ترجمةرجل واحد، ولا ترجمة من لا تجوز شهادته؛ لأن ما لم يفهم، كالغائب عنه.
قال محمد بن عبد الحكم: ولا يترجم له عن الخصم الآخر إلا عدل. وإذا أقر عنده بشيء، فأحب إلي أن يجعل شاهدين على إقراره، يحكيان ذلك عنه، وأما في غير ذلك، فواحد يجزئ، والاثنين أحب إلينا.
قال في العتبية سأل ابن كنانة مالكا عن القاضي يتخذ لقياس جراحات الناس، أيجزئ فيه رجل واحد؟ قال: إن وجد عدلين فليجعلهما، وإن لم يجد إلا رجل، أجزأه إن كان عدلا.
قال ابن حبيب: قال ابن الماجشون: أما ما اختصم فيه في عيوب العبيد، أو عيوب الإماء التي لا تطلع عليها إلا النساء، ولم يفت العبد ولا الأمة، فليبعثه [8/ 61]

(8/61)


إلى يرضاه أو يثق بنظره بالعيب وغيره من السعاف، والطحال، والبرص المشكوك فيه/، وله أن يأخذ في ذلك بمخبر واحد، وبقول الطبيب وإن كان على غير الإسلام؛ إذ ليس على وجه الشهادة، ولكنه علم يأخذه عمن يبصره من مرضي أو مسخوط واحد أو اثنين، وإن غاب العبد، أو مات، لم يقبل في ذلك إلا ما يقبل في الشهادات، وكذلك عيوبه؛ لأنه يكتفي بقول من يرضى من النساء، وإن كانت امرأة واحدة لا اثنتين على جهة الشهادة، وإن فاتت الأمة، لم يقبل إلا امرأتين بمعنى الشهادة، وذلك فيما هو من عيوبهن تحت الثياب من البرص والقرنه .. والعذرة والنفاس، والعيوب الباطنة، والمرأتين في هذا كرجلين، والقائس في الجراح يجزئ منه الواحد إذا أمره الإمام بنظر الشجة أو الجراح وعورها، وما اسمها، وأحب إلي أن ينصب لمثل هذا عدلا، وإن لم ينصب أحدا، اكتفى بأن يرسل المجروح إلى من يرضاه ويثق بنظره، وإن لم يجد إلا طبيبا فهو كما ذكرن في العيوب، وأما ما قلت، فلا يقبل فيه إلا ما يقبل في الشهادة، وقد أفردنا لشهادة القاسم والكاتب بابا.
من المجموعة: قال ابن القاسم، وأشهب، وعبد الملك: ولا يقطع السارق بتقويم رجل واحد للمسروق حتى يقوماه عدلان، قال أشهب عن مالك: وكذلك لا يؤخذ بقول قائف واحد، قال أشهب: ولا يقبل إلا من عدل من القافة.
قال أشهب: وتجوز شهادة القائف الواحد إن لم يجد غيره، فإن وجد غيره، لم يجز إلا شهادة اثنين. وروى مالك بن خالد عن/ ابن القاسم، في العتبية أنه يقبل شهادة الغائب الواحد، قال ابن القاسم: وقد اختلف فيه. [8/ 62]

(8/62)


وقال مالك: لا يقبل إلا اثنان. وقد ذكرنا قول القاسم بين الورثة والكاتب للقاضي، وشهادتهما إلا فيما وليا في باب مفرد.

في الخصم يلد أو يشتم القاضي أو الشاهد هل يؤدب على ذلك؟
من المجموعة: قال ابن القاسم: قال مالك في الذي يتناول القاضي بالكلام. يقول: ظلمني: قال ذلك يختلف. ولم يفسره. ووجه قوله: أنه إذا أراد بذلك أذاه، وكان القاضي من أهل الفضل، فله أن يعاقبه، ولقد تخاصم أهل الشرق في الأذى. وفي كتاب ابن المواز نحوه. محمد: وكذلك إن أبى مما قضى عليه.
قال سحنون في المجموعة: ويؤدبه القاضي لنفسه، ولا يرفعه إلى الإمام. قال ابن حبيب: قال مطرف وابن الماجشون: ينبغي للقاضي إن لمزه أحد الخصوم بما يكره، أن يؤدبه، ويعزر نفسه، فإن تعزيز سلطان الله من تعزيز الله تعالى، والأدب في مثل هذا أمثل من العفو، وليخف الناس بلزوم الحق واتباعه، فلا شيء أخوف لهم من إبداء الحق على أهوائهم.
ومن المجموعة: قال ابن القاسم: قال مالك: إذا لم أحد الخصمين لصاحبه، فعرف بذلك القاضي، قال: إذا تبين منه ونهاه فأرى أن يعاقبه.
قال ابن سحنون: وكان سحنون إذا تبين له لداد أحد الخصمين، وسمع الكذبعلى خصمه ولم يأخذ مخرجه، ضربه، وربما سجنه. قال ابن المواز/: يعاقبه بالسوط، والسجن. [8/ 63]

(8/63)


قال ابن حبيب، عن مطرف، وابن الماجشون: إذ شتم الخصم صاحبه، يقول: يا فاجر، يا ظالم، ونحو ذلك، فيلزجر ويضرب على مثل هذا، ما لم يكن فلتة من ذي مروءة، فليتجاف عن ضربه حتى يكون جلوسهم عنده بدعة حسنة وصمت ووقار وحلم، فإنه من لم ينصف الناس في أعراضهم، لم ينصفهم في أقوالهم.
قال سحنون، في كتاب ابنه، والمجموعة: إذا تناول الخصم أحد الشاهدين بما لايصلح؛ يقول: شهدتم علي بزور، أو بما يسألكم الله عنه. أو يقول: ما أنت من أهل العدل، ولا من أهل الدين. فلا يمكن الخصم من هذا لأهل الفضل، والقدر، والعدالة، ويكون أيضا على قدر القائل والمقول له؛ فمنهم معروف بالأذى، معاود له، فأدبه بقدر جرمه، وشدة ما انتهك من حرمة الرجل على قدر الرجل المنتهك حرمته في فضله وعدالته، وعلى قدر الشاتم في أذى الناس، وما عرف منه، وإن كان ممن ذلك منه فلتة، أو زلة، وهو من أهل الفضل، وكانت ضارها، فليتجاف عنه، ويشدد عليه، وليتقدم إليهم في ذلك، وذلك بعد التقدمة أبين وأشد.
قال ابن كنانة، في المجموعة: إذا قال الخصم لشاهد: شهدت علي بالزور. فإن عنى أن ما شهدت به علي باطل، فلا يعاقب، وإن كان إنما قصد أذاه، والشهرة له، نكله الإمام بقدر حال الشاهد والمشهود عليه.
قال محمد بن عبد الحكم: وإذا قال الخصم للقاضي: اتق الله. فلا ينبغي، ولا يضيق بذلك، ولا يكثر/ عليه، وليتثبت، وينظر، ويجيبه صوابا لينا، مثل أن يقول: رزقني الله تقواه. أو يقول: ما أمرت إلا بخير، وعلينا وعليك أن نتقي الله.
وليبين له من أين يحكم؟ وكذلك لو قال له: اذكر الله. فإن بان له أمر، فقال له: إن من تقواي الله أن آخذ منك الحق إذا بان لي. أو يقول: ولولا تقوى الله ما حكمت عليك. من غير أن يظهر عليه لذلك غضب. [8/ 64]

(8/64)


في القاضي وما يحكم فيه بعلمه أو بما أقر به الخصم عنده أو ما يرى، وشهادة البينة تشهد أن فلانا القاضي حكم بشهادتهما
ومن المجموعة قال أشهب: عن مالك، في القاضي تكون عنده شهادة الرجل، فإن لا يقضي بشهادته. وقال عنه ابن القاسم: وإذا رأى حدا من حدود الله تعالى، فلا يقمه بعلمه، وكذلك إن كان معه غيره، ولا يتم الحكم إلا به، فلا يقمه، وليرفع ذلك إلى غيره، ويكون شاهدا.
قال ابن كنانة: إذا سمع قاض بالرجل، أو رأى رجلا سكرانا، فليرفع ذلك إلى غيره، ثم شهد، وكذلك إن كان معه رابع أربعة في الزنى. وقاله أشهب. وإن كان أربعة سواه، أقام الحد هو.
ومن كتاب ابن سحنون، وابن وهب: أن الصديق، رضي الله عنه، قال: لو رأيت رجلا على حد من حدود الله، ما أحدته، ولا دعوت إليه حتى يكون معي غيري.
قال أصبغ في كتابه: لا يقضي بعلم علمه قبل أن يلي، أو بعد، وإن كان في مجلس قضائه. وقاله/ مالك: فأما إذا جلس الخصمان إليه، فأقر أحدهما بشيء، وسمعه، فجائز له أن يقضي به بينهما، ولو كان غير هذا لاحتاج إلى أن يحضر معه شاهدين أبدا يشهدان على الناس. وكذلك قال ابن الماجشون في المجموعة، وبه يأخذ سحنون.
ومن كتاب ابن المواز، وغيره: قال ابن القاسم، وأشهب: لا يقضي القاضي بذلك، لا بما أقر عنده في مجلس القضاء، أو غيره، لا في حد ولا في غيره.
محمد بن المواز: وليس بين أصحاب مالك في هذا اختلاف علمناه. وقاله مالك. قلت: أفيشهد بذلك عليه عند غيره؟ قال: أما شهادة عنده عليه غير [8/ 65]

(8/65)


الإقرار في المخاصمة، فليرفع ذلك، ولم أر أنه يقضي بها، وأما إقراره عنده في المخاصمة، فاختلف فيه قول ابن القاسم؛ فقال: لا يجوز وإن عزل. وقال: يجوز. والأول أحب إلينا؛ لأنه كأنه يثبت حكم نفسه، فإن جهل فأنفذ عليه هو حكمه بما أقر به عنده في مجلس الحكم، ولو شهد عليه بذلك غيره، فلينقض هو ذلك ما لم يعزل، فأما غيره من القضاة، فلا أحب له نقضه في الإقرار خاصة في مجلس، وأما ما كان من ذلك قبل أن يستقضي، أو رآه، وهو رآه. وهو قاض نفسه، أو سمعه من طلاق، أو زنى، أو غصب، أو أخذ مال وهو قاض، أو قبل القضاء، فلا ينفذ منه شيء، فإن نفذ منه شيء، فلا ينفذه أحد غيره من الحكام، ولينقضه، وإن كان عنده في إقراره قوم عدول، فإنه يؤخذ بما كان للناس، وقد اختلف فيما كان لله تبارك وتعالي، فقيل: لا يقبل/ منه رجوعه إلا يعذر بين. وقيل: يقبل منه.
قال ابن القاسم في المجموعة: وإن رآه الخليفة على حد، رفعه إلى قاضيه، وكل ما ذكر من أول المسألة، عن ابن القاسم، روي مثله عيسى بن دينار عنه.
قال أشهب في كتاب محمد: لا يقام هذا الحد أبدا، وأراه عذرا. قال عبد الملك في المجموعة، وكتاب ابن المواز: وينبغي أن يشهد بما فيه شاهد عند أمثاله من أمير له، أو قاض، أو من تحته، وقد تحاكم عمر رضي الله عنه، إلى أبي، حكم عليه باليمين، فأخذ يحلف في سواك في يديه: إن هذا من أراك. ليري إباحة اليمين للمحق.
قال في كتاب ابن المواز: وإذا أخذ صاحب الشرط سكرانا، فسجنه، وشهد عليه هو وآخر معه، فلا تجوز شهادته؛ لأنه صار خصما، ولو رفعه قبل سجنه، جازت شهادته عليه إن كان عدلا مع آخر، وإن شهد السلطان وآخر [8/ 66]

(8/66)


معه: إن هذا سرق متاعا لهذا السلطان، ولابنه أو لغيره، فلا يقطعه، وليرفعه إلى من فوقه، أو إلى من ليس ولايته من قبله، وإن شهد رجلان سواه أنه سرق متاع السلطان، قطعه، ولم يعرف حتى يرفعه إلى غيره.
ومن كتاب ابن سحنون: وإذا رأى القاضي في غير مصره شيئا من حقوق الناس، أو رآه في مصره، فلا يقضي فيه إلا أن تشهد عليه بينة غيره عنده في مصره الذي ينفذ فيه حكمه، أو شهد هو به مع غيره عنده من هو فوقه.
ومن المجموعة: قال ابن القاسم، عن مالك: وإن سمع قاذفا برجل ومعه غيره، أقام عليه حد الفرية/، ولم يجز عفو عن القاذف إلا أن يريد سترا. وقد روي عن مالك، في غير المجموعة: أنه يقبل عفوه، وإن لم يرد سترا، وأما في الأب، فيقبل عفوه فيه على كل حال.
قال ابن القاسم: وإن رأى من يغتصب مالا، فلا يحكم عليه وهو شاهد، فإن كان معه آخر، فلا يحكم إلا بشاهده مع يمينه، وإن لم يكن غيره، شهد له عند غيره، وحلف معه.
ومن كتاب ابن سحنون: عن أبيه: وإذا وجد القاضي في ديوانه صحيفة فيها شهادة بينة لا يحفظ أنهم شهدوا عنده، فليقض بذلك بعد أن يكون فيها من الصفة ما وصفت لك في قمطره وتحت خاتمه وخط يده، وإلا أضر ذلك بالناس، وهذا مذكور في باب بعد هذا.
ومن المجموعة: قال مالك، وابن القاسم، وأشهب: الإقرار عند القاضي في سلطانه، أو قبل سلطانه سواء وكذلك في إقرار الخصوم عنده، لا يحكم بشيء من ذلك. قال أشهب: وإن ما وجد في ديوانه مكتوبا من إقرار الخصوم عنده، فإن قامت على ذلك بينة، أنفذها، وإن لم يكن إلا هو وكاتب عدل، شهدا عند من هو فوقه، فأجازه، وإن وجده قضى بشهادته مع يمين الطالب. [8/ 67]

(8/67)


وقال ابن الماجشون نحو ما ذكرنا عن أصبغ في كتابه قبل هذا: أنه لا يحكم بعلمه قبل أن يلي أو بعد مما يرى أو يسمع من العلم؛ لأنه كالشاهد لنفسه؛ إذ يمضي بشهادته نفسه، فأما ما أقر به الخصوم عنده في خصومتهم، ليقض به، قال سحنون: هذا أحب إلي/ من قول ابن القاسم، وأشهب.
قال سحنون في كتاب ابنه: وإذا رأى القاضي وهو في مجلس القضاء أو غيره، أو قبل أن يلي من يغصب رجل مالا، أو يقذفه، أو يعقد معه بيعا، أو يجرحه، أو يقتله، أو يعتق، أو ينكح، فهو شاهد في هذا كله ولا ينفذه، وليشهد به عنده غيره، فيقضي له إن كان معه غيره.
قال ابن حبيب، عن ابن الماجشون نحو ما ذكر عنه ابن عبدوس، وقال فيما علمه في غير مجلس قضائه: إن لم يكن أمير فوقه، ولا وال تحته، ولا صاحب شرطة، ولا أمير يحكم بين الناس، فلا بأس أن يرفع ذلك إلى رجل من رعيته.
وقال: وإن أبي المطلوب أن يواضعه عند من رأى القاضي أو يواضعه عنده، وليس بالبلد ناظرا غيره، فواجب أن يجبر الخصمين على التراضي برجل يتحاكمان إليه، ثم يضع شهادته عنده، فيحكم بما ظهر، وأما ما أقر به الخصوم في مجلسه، فله هو أن يحكم به. قال ابن الماجشون في كتاب ابن حبيب، والمجموعة: وقاله ابن المواز، وأما معرفته للشاهد بجرحة أو عدالة، فلينفذه بعلمه. وقاله ابن كنانة، ولا يكلف من علم عدالته تعديلا.
قال ابن الماجشون: وإذا علم من الشاهد جرحة، وعدله عنده المعدلون، فلا يقبله بحال، لأنه مما إليه خاصة، كما يمضي علمه بعدالته. وقاله أشهب. وقال: وأحب إلي أن يرفع شهادته إلى من هو فوقه، فيخبره فيه بعلمه، فيكون شاهدا عليه عند غيره، فتجوز شهادته عند المرفوع إليه، أو تسقط؛ لأن إسقاطه الرجل/ بعلمه يستشفع عليه، ولا ينبغي له أن يكون حكما بشهادته.
قال ابن الماجشون في الكتابين: ولو كان لا ينفذ في التجريح والتزكية عليه [8/ 68]

(8/68)


ما أجاز عدلا ولا مسخوطا إلا بشاهدين، ولا أجاز الشاهدان إلا بشاهدين، فاستحال الأمر وبطل.
قال ابن القاسم، وابن كنانة، في المجموعة: إذا علم منه الجرحة يأتي بمعدل، ولا يقبله منه. وقاله ابن القاسم في المجموعة، وقاله أصبغ في كتاب ابن المواز وكتاب ابن حبيب، ومعنى ذلك: إذا شهد عنده بحدثان ما علم منه، فأما إن طال زمان ذلك وتقادم، فلا يطرح شهادته بما علم منه، فلعله قد تاب اجتهد في الخير، وكذلك في العتبية، في رواية عيسى، قال عيسى: معناه مثل ما قال أصبغ سواء.
قال سحنون في كتاب السير: لو شهد عندي عدلان مشهوران بالعدالة، وأنا أعلم بخلاف ما شهدا به، لم يجز لي أن أحكم بشهادتهما، ولم يجز لي ردها لظاهر عدالتهم، ولكن أرفع ذلك إلى الأمير الذي هو فوقي، وأشهب بما علمت، وغيري بما علم، فيرى رأيه.
ولو شهد شاهدان ليسا بعدلين على أمر علم أنه حق، فلا يقضي بشهادتهما؛ لأني أقول في كتاب حكم: بعد أن صحت عندي عدالتهما، وإنما صحت عندي جرحتهما.
وقال عبد الملك في المجموعة: ولو شهد عند الحكام شاهدان؛/ إما مجرحان، وإما من لا يقبلهما إلا بتعديل فيما يعلم القاضي أنه الحق، فلا ينفع ذلك علمه بأن ذلك حق، وليكلفه التعديل، وأما إن شهد عدلان فيما يعلم أنه باطل، إما وهما أو غلطا، فلا ينبغي له أن يمضي باطلا بعلمه، ولا يبطل الشهادة، ولكن يرفع علمه إلى غيره من الحكام، فيؤدي له شهادته. وقاله ابن كنانة، وكذلك في كتاب ابن حبيب، عن ابن الماجشون. [8/ 69]

(8/69)


ومن كتاب ابن المواز: قلت: إذا شهد عنده عدول في أمر يعلم خلاف ما شهدوا به أيتوقف؟ قال: وقوفه رد لشهادة العدول، ولكن تنفذ شهادتهم بعد الانتظار اليسير، واستحسن لو خلا بهم، فأعلمهم بعلمه وشهادته، فلعله ينكشف لهم أو له ما وراء ذلك، فإن لم يكن ذلك، فليحكم بشهادتهم، وليعلم المشهود عليه أن له عنده شهادة، فيرفع ذلك المحكوم عليه إلى من فوقه، فإن لم يكن له أحد إلا تحته، فقول أشهب: إنه لا يجيز رفع ذلك إلى من تحته. وأجاز ذلك عبد الملك، واحتج بفعل عمر، رضي الله عنه.
ومن كتاب ابن المواز: وإذا شهد عنده عدل معروف بالعدالة، والقاضي يعلم أنه شهد بباطل، وأن الحق غير ما شهد به، فلا يحكم بذلك، ولا يبطل الشهادة، وليرفع القاضي شهادته إلى غيره، ويشهد بتلك الشهادة للقائم بها.
قال أبو محمد: قوله: إنه شهد بباطل. ليس يعني أن القاضي علم جرحة فيه، ولا تعمد كذبا، ولكن القاضي قال ذلك الحق بوجه ما، ولو علم منه جرحة، لجاز له أن يسقط شهادته بعلمه/، إلا ما استحسن أشهب فيما تقدم ذكره.
قال في المجموعة المغيرة وأشهب في البينة تشهد بحق لرجل، والقاضي يعلم بينهما غيره. وقال أشهب: فيشهد عنده بما يعلم.
قيل لهما: فلو جاز للقاضي أن لا يأخذ له بينة إذا علم أنه مبطل، ولم يجز له أن يعطي بعلمه إذا لم يعلم ذلك غيره؛ فقالا: لأن القاضي يجوز له أن يترك القضاء بعلمه، ولا يجوز له أن يحكم في شيء لأحد على أحد بعلمه، الذي قامت له البينة بحقه لا يقول: نزع مني حقي، وإنما يقول: لم يقض لي بحقي.
وأما ما يجده القاضي في ديوانه من إقرار وشهادة، فمكتوب في باب بعد هذا. وفي القاضي يقول: قد حكمت لفلان، ولا يعرف ذلك إلا من قوله.
ومن المجموعة: قال ابن القاسم، في شهيدين شهدا عند القاضي أن فلانا الذي كان قاضيا، وقد مات أو عزل، قد قضى لهذا الرجل بكذا وكذا بشهادتنا، [8/ 70]

(8/70)


وأشهدنا على قضائه: أن شهادتهما جائزة في هذا كله إن كانا عدلين، ويصير كشهادة مبتدأة.

في شهادة كاتب القاضي على ما كتب، وأمينه على ما ائتمن عليه، ومن أمره بالقسم على قسمه، وشهادة الطالب على شهادة من شهد عند القاضي في ديوانه، أو على حكم حكم به
من المجموعة: قال أشهب: وإذا ملك ما في ديوان القاضي/ بشهادة رجلين لرجل، ومن يد الرجل، فشهد كاتبان للقاضي، أو غيرهما على شهادة الشاهدين بذلك، فلينفذها، إلا أن يكون الشاهدان حاضرين، فليعدهما حتى يشهدا.
قال ابن القاسم: وإن شهد القسام فيما قسموا، لم تجز شهادتهما، كالقاضي يشهد على حكمه.
قال سحنون: تجوز شهادة كاتب القاضي في قضاء كتبه بيده، عزل عن الكتابة أو لم يعزل، يقول: كتبته بيدي إذا كنت كاتبا، أو: أنا شاهد على ما فيه، بخلاف قسام القاضي، أولئك يشهدون على فعل أنفسهم، وكذلك في كتاب ابن المواز، يشهد الكاتب وهو كاتب، أو بعدما عزل في الإقرار في مجلس الحكم، وفي شهادة عنده، بخلاف القسام. [8/ 71]

(8/71)


قال عبد الملك في المجموعة في من أقام شاهدا من كتاب الحكام، أنه كتب شهادة رجل، قال: ذلك يجوز، كأنه شاهد على شاهد إن كان عليه آخر، وإن لم يكن، قال له: اشهد. فقد قال مثل ذلك حين جاء يشهد، فكأنه أشهده، فإذا كان معه شاهد على معرفة خط الشاهد، أو بإشهاد من الشاهد له حيي الشاهد، ولا ينقل ذلك واحد.
قال ابن المواز: اختلف قول مالك، في الشهادة على خط الشاهد؛ فقال: لا يقضي بذلك كما لو سمعه يذكر شهادته، ولم يقل: اشهد على شهادتي. وعلى هذا أكثر أصحابه.
وقال أيضا، إنه يحكم بذلك. والأول أحب إلينا. وهذا مستوعب في كتاب الشهادات.
ومن المجموعة: قال عبد الملك، في المحلف الذي يرتزق، والقاسم الذي/ يؤاجر، شهادتهما جائزة فيما توليا.
قال ابن القاسم، في قوم كتب إليهم القاضي، أنه قضى لرجل بأرض، وسمى لهم البينة الذين حكم بهم، وأمرهم أن يحضروا البينة ليحدوا الأرض، ويدفعوها إلى المقضي له بها، فيفعلوا، ثم يعزل القاضي، أو يموت، فليشهد أولئك أنهم أنفذوا للمقضي له كتاب القاضي بالقضاء في تلك الأرض، ودفعوها إليه كما أمرهم، فلا تجوز شهادتهم، وهم كقاض كتب إليه قاض أنه قضى لفلان، فلا تجوز شهادته حتى يكون قد أشهد على إنفاذ ذلك شهودا غيره، وكذلك وكلاؤهم بمنزلة قضاة معه، قال: ولو أنفذوا كتابه، فلما عزل، وولي غيره، قام من أخرجت الأرض من يده، قال: ومن يعلم أن القاضي كتب ذلك الكتاب، قال: فإما الحاضر لذلك، ولم يدفع ولا تكلف، فهو يقضي به عليهم، لجاز علمه، فذلك [8/ 72]

(8/72)


جائز عليه، وأما الغائب، والصغير، والضعيف؛ فإنه ينظر فيه، فإن كان قد طالت به الحيازة حتى يرى أن قد مات شهوده، وغابوا، فذلك جائز عليه، وإن كان بحدثان ذلك، فلا يجوز ذلك حتى يشهد أنك كاتب القاضي قد ثبت عندهم، أو يكون قد أشهدوا على ما أتاهم من القاضي بما ثبت عندهم بشهادة من شهد عندهم من إنفاذ القاضي لمن أنفذه، فيجوز، وذلك كما لو أشهد القاضي على ما يأتيه من كتب القضاة بما ثبت عنده فيها.
قال ابن حبيب: قال ابن القاسم: وتجوز شهادة القاسم الواحد على ما قسم؛ إذا كان القاضي قد بعثه/ لذلك، ونصبه للقسم، فما نقل من ذلك إلى القاضي فلينفذه بقوله إذا شهد بذلك عند هذا القاضي الذي أمره، وأما عند غيره، فلا يجوز وحده، ولا مع غيره، وكذلك يقبل قول الطبيب والعاقل فيما كلفه القاضي، وقول المرأة فيما ينظره النساء، وينفذه.
وسحنون لا يجيز شهادة القاسم ولا قاسمين على قسمهما، قال: ولا يشهد أحد على فعل نفسه.
قال ابن حبيب: قال ابن الماجشون: وكذلك من أمره القاضي أن يحلف رجلا، فقال: قد حلفته. والطالب ينكر ذلك، فقوله نافذ، وكذلك شهادة كاتب القاضي فيما أمره أن يكتبه من أموره، ومثل العقل، والقسم، والإحلاف، والكتاب، والنظر إلى العيب، وشبهه فمأموره مقبول القول؛ لأنه كيده وكعقله. قال أبو محمد: وقال النبي صلى الله عليه وسلم: واغد يا أنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت، فارجمها فاستكفاه أمرا، وأمر بإنفاذه على ما علم.
قال ابن الماجشون: ولا يضرهم ما يأخذون من الرزق؛ لأن الإمام أجرى لهم ذلك، كما يرتزق القاضي، وينفذ الأمور بقوله.
وهذا
المعنى مستوعب في باب من يكلفه القاضي نظر العيوب. [8/ 73]

(8/73)


في القاضي يحكم لنفسه أو لولده أو لمن يتهم عليه، وكيف إن حكم بشهادتهم وهو تعلم عدالته؟
من المجموعة، وكتاب ابن سحنون: قال أشهب: لا يجوز قضاء القاضي إلا فيما تجوز فيه شهادته، ولا يجوز أن يقضي لنفسه، ولا لزوجته، ولا لولده، ولا لولد ولده،/ قال سحنون: من قبل الرجال والنساء، ولا لأمه، ولا لأبيه، قالا: ولا لأجداده. قال سحنون: من قبل الرجال النساء. قالا: ولا لمكائبه، ولا لمدبره، وأم ولده.
قال أشهب: وتجوز لمن سواهم من قرابته.
قال سحنون: وأصل هذا أن من لا تجوز شهادته عليه، فلا يجوز أن يقضي عليه، ولا أن يحكم برد شهادته، ولينفذ شهادته غيره إذا ولي في ذلك الشيء وفي غيره. وقاله ابن المواز، إذا ثبت أن بينه وبين القاضي الذي رد شهادته عداوة.
قال ابن سحنون عن أبيه: يجوز قضاؤه لأخيه، وعمه، وابن أخيه، وابن أخته، ابن عمه، وخاله، وابن خاله، وكل رحم من رضاع أو نسب مما تجوز شاهدتهم، وما لا تجوز فيه شهادته لهم، فقضاؤه لا يجوز لهم فيه.
وقال ابن المواز مثله، إلا أنه قال في أخيه وعمه: إن كان القاضي بين العدالة مبرزا جاز قضاؤه.
وقال ابن المواز: إذا حكم القاضي، فأقام المحكوم عليه بينة أن القاضي عدو له، فلا يجوز قضاؤه عليه.
قيل: هل يصلح أن يقضي بين ولده وخصم ولده؟ قال: لا يصلح أن يقضي له، ولا لمن لا يجوز أن يشهد له، وأما من يشهد له، فيجوز أن يحكم له في الحقوق ما لم يعظم ذلك جدا، ولا يجوز في قصاص. [8/ 74]

(8/74)


وقال ابن حبيب: قال مطرف: وكل من لا يجوز للحاكم أن يشهد له، فلا يجوز حكمه له، وهم الآباء، وإن بعدوا، والأبناء وإن سفلوا، وزوجته، ويتيمه الذي يلي هو ماله.
قال ابن الماجشون: يجوز حكمه لمن لا يجوز له شهادته؛ من أب وابن، إلا ولده الصغير،/ أو يتيما، أو زوجته، فأما غير هؤلاء الثلاثة، فحكمه له وعليه جائز؛ وقال أصبغ مثل قول مطرف إذا قال: ثبت عندي. ولا يدري أثبت أو لم يثبت، ولم يحضر الشهود، وكانت الشهادة ظاهرة لحق بين، فحكمه له جائز، ما عدا الثلاثة الذين ذكر ابن الماجشون، ورأيت في كتاب أصبغ، أنه يجوز قضاؤه لكل أحد وعليه، من ولاه مثله أو عليه، أو قرابة، أو ولد، أو زوجة، أو أخ، أو مكائب، أو مدبر، إذ صح الحكم، وكان من أهل القيام بالحق، لا من أهل التهم، وهو قد يحكم للخليفة وهو فوقه، فهو أتهم فيه لتوليته إياه، وحكمه له جائز. ثم قال في كتابه هذا: ولا ينبغي للقاضي أن يطلب حقا، أو يطلب هو له، أو أحد من عترته وخصمه وإن رضي الخصم، بخلاف رجلين رضيا بحكم أجنبي، فينفذ ذلك. وقال في موضع آخر: ينبغي أن يرفع ذلك إلى غيره، وإن رضي الخصم أن يقضي بينه وبين نفسه، فلا أحب ذلك للقاضي أن يفعله، فإن فعل، فليشهد على رضائه، ويحكم بالعدل ويجتهد، وإن قضى لنفسه أو لمن لا يجوز له قضاؤه، فليذكر في حكمه القصة كلها، ويذكر رضاه بالخصومة عنده، ويقوع شهادة من شهد برضائه، وإذا قضى في ذلك لنفسه، أو لمن لا يجوز له قضاؤه باختلاف من العلماء غير شاذ، فأحب له إن رأى أفضل منه أن يفسخ حكمه، فإن لم يفعل حتى مات، أو عزل، فلا يفسخه غيره إلا في خطأ بين، وإن حكم على نفسه، أو على من لا يجوز حكمه عليه، باختلاف غير شاذ/، فلا أحب له أن يفسخه؛ لأنه يتهم فيه. قال: وإذا رضى خصم القاضي أن يخاصم عنده، هل يوكل القاضي وكيلا يقوم بحجته؟ قال: يفعل من ذلك ما رآه أقرب إلى الحق، وأقطع للظنة. قال أيضا: ولا يجوز حكمه لنفسه بحال، ولا ينبغي أن يفعل ذلك برضاء الخصم أو بغير رضائه، كان خصمه مليا أو عديما. [8/ 75]

(8/75)


ومن المجموعة: قال أشهب: وإذا أخذ القاضي رجلا بسرقة، فله قطع يد سارقه، ولا يحكم عليه بالمال. وكذلك في كتاب ابن المواز، قال في المجموعة: وكذلك في محارب قطع عليه الطريق، فليحكم عليه بحكم المحارب، ولا يرفعه إلى غيره، ولو جاء تائبا سقط عنه حكم الله سبحانه، ولا يستفيد السلطان منه إن خرجه إلا بإقراره، ولا بينة حتى يرفعه إلى فوقه، وكذلك لو كان السلطان أحد الشاهدين عليه بالحرابة وقطع الطريق عليه، وأخذ قبل أن يتوب، فلا بأس أن يقيم عليه حد الله سبحانه، وأحب إلي رفع ذلك إلى من فوقه.
قال محمد ابن عبد الحكم: قال ابن القاسم، وأشهب: وإذا سرق من بيت القاضي سارق، وقامت عليه بذلك عنده بينة، فله قطعه؛ لأنه حد الله سبحانه، قال محمد بن عبد الحكم: لا يقطعه، وليرفعه إلى من يجوز حكمه عليه، ألا ترى لو شهد هو وآخر على سرقته تلك، لم يجز أن يشهد لنفسه، وإن كان ذلك حدا من حدود الله سبحانه، وكرجل شهد هو وآخر على سرقة سرقت من أحدهما، وكما لا تجوز شهادته في غرم/ القيمة في ملإ السارق، فكذلك في هذا، ولو شهد اثنان على أنه سرق، فقالا للحكم: اقطعه ولا تقضي لنا بمال.
قال سحنون في المجموعة، وكتاب ابنه: إذا سمع الإمام قوما سكارى في دار في طريقه، معهم المزامير والغناء، فينبغي له أن يأمر شرطة فيدخلون عليهم، ويخرجونهم، ويقيم عليهم ما يجب عليهم.
قال ابن حبيب، عن مطرف، وابن الماجشون، وأصبغ: إذا خاصم عنده خصمان له قبل أحدهما دين، فلا بأس أن يقضي بينهما، وإن كان غريمه مليا، وإن كان عديما، لم يجز له أن ينظر بينهما، والحكم بينهما، كالشهادة.
قال مطرف، وابن الماجشون: وإذا شهد عند القاضي أبوه، وابنه، ومن لا تجوز له شهادته، فله أن يسمع شهادته ويقبلها على علمه بعدالته إن علمه، بخلاف تعدليه إياه عند غيره. [8/ 76]

(8/76)


قال سحنون في العتبية: إذا شهد عنده ابنه أو ولد ولده، لم أر أن يجوز شهادتهما، إلا أن يكون مبرزين في العدالة، وبيان الفضل، فليجوزهما.
قال أبو محمد: وقد جرى في باب ما يحكم فيه القاضي بعلمه من معاني هذا الباب، وتكرر فيه بعضه.
قال ابن الماجشون، ومطرف، في القاضي يكون له قبل أحد شيء، أو يكون عليه لأحد، فليرفع ذلك إلى غيره، ويوكل من يخاصم عنه، أو يخاصم لنفسه، فإن رضى خصمه بحكمه في ذلك، فلا يقبل منه، ولا يقضي لنفسه، ولا يجوز ذلك، وإن أراد أن يقضي عليها، كان كالإقرار منه بدعوى خصمه عليه.
تم الجزء الأول بحمد الله وعونه [8/ 77]

(8/77)


صفحة بيضاء

(8/78)