بداية
المجتهد ونهاية المقتصد ط الحلبي (بسم
الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد
وعلى آله وصحبه وسلم تسليما)
كتاب القراض
ولا خلاف بين المسلمين في جواز القراض وأنه
مما كان في الجاهلية فأقره الإسلام.
وأجمعوا على أن صفته أن يعطي الرجل الرجل
المال على أن يتجر به على جزء معلوم يأخذه
العامل من ربح المال أي جزء كان مما يتفقان
عليه ثلثا أو ربعا أو نصفا وأن هذا مستثنى من
الإجارة المجهولة وأن الرخصة في ذلك إنما هي
لموضع الرفق بالناس وأنه لا ضمان على العامل
فيما تلف من رأس المال إذا لم يتعد وإن كان
اختلفوا فيما هو تعد مما ليس بتعد.
وكذلك أجمعوا بالجملة على أنه لا يقترن به شرط
يزيد في مجهلة الربح أو في الغرر الذي فيه وإن
كان اختلفوا فيما يقتضي ذلك من الشروط مما لا
يقتضي.
وكذلك اتفقوا على أنه يجوز بالدنانير والدراهم
واختلفوا في غير ذلك.
وبالجملة فالنظر فيه في صفته وفي محله وفي
شروطه وفي أحكامه ونحن نذكر في باب باب من هذه
الثلاثة الأبواب مشهورات مسائله.
الباب الأول في محله أما صفته فقد تقدمت وأنهم
أجمعوا عليها وأما محله فإنهم أجمعوا على أنه
جائز بالدنانير والدراهم واختلفوا في العروض
فجمهور فقهاء الأمصار على أنه لا يجوز القراض
بالعروض وجوزه ابن أبي ليلى وحجة الجمهور أن
(2/236)
رأس المال إذا
كان عروضا كان غررا لأنه يقبض العرض وهو يساوي
قيمة ما ويرده وهو يساوي قيمة غيرها فيكون رأس
المال والربح مجهولا.
وأما إن كان رأس المال ما به يباع العروض فإن
مالكا منعه والشافعي أيضا وأجازه أبو حنيفة.
وعمدة مالك أنه قارضه على ما بيعت به السلعة
وعلى بيع السلعة نفسها فكأنه قراض ومنفعة مع
أن ما يبيع به السلعة مجهول فكأنه إنما قارضه
على رأس مال مجهول.
ويشبه أن يكون أيضا إنما منع المقارضة
على قيم العروض لمكان ما يتكلف المقارض في ذلك
من البيع وحينئذ ينض رأس مال القراض وكذلك إن
أعطاه العرض بالثمن الذي اشتراه به ولكنه أقرب
الوجوه إلى الجواز ولعل هذا هو الذي جوزه ابن
أبي ليلى بل هو الظاهر من قولهم فإنهم حكوا
عنه أنه يجوز أن يعطى الرجل ثوبا يبيعه فما
كان فيه من ربح فهو بينهما وهذا إنما هو على
أن يجعلا أصل المال الثمن الذي اشترى به الثوب
ويشبه أيضا إن جعل رأس المال الثمن أن يتهم
المقارض في تصديقه رب المال بخرصه على أخذ
القراض منه.
واختلف قول مالك في القراض بالنقد من الذهب
والفضة فروى عنه أشهب منع ذلك وروى ابن القاسم
جوازه ومنه في المصوغ وبالمنع في ذلك قال
الشافعي والكوفي فمن منع القراض بالنقد شبهها
بالعروض ومن أجازه شبهها بالدراهم والدنانير
لقلة اختلاف أسواقها.
واختلف أيضا أصحاب مالك في القراض بالفلوس
فمنعه ابن القاسم وأجازه أشهب وبه قال محمد بن
الحسن وجمهور العلماء مالك والشافعي وأبو
حنيفة على أنه إذا كان لرجل على رجل دين لم
يجز أن يعطيه له قراضا قبل أن يقبضه أما العلة
عند مالك فمخافة أن يكون أعسر بماله فهو يريد
أن يؤخره عنه على أن يزيد فيه فيكون الربا
المنهي عنه وأما العلة عند الشافعي وأبي حنيفة
فإن ما في الذمة لا يتحول ويعود أمانة.
واختلفوا فيمن أمر رجلا أن يقبض دينا له على
رجل آخر ويعمل فيه على جهة القراض فلم يجز ذلك
مالك وأصحابه لأنه رأى أنه ازداد على العامل
كلفة وهو ما كلفه من قبضه وهذا على أصله أن من
اشترط منفعة زائدة في القراض أنه فاسد وأجاز
ذلك الشافعي والكوفي قالوا لأنه وكله على
القبض لا أنه جعل القبض شرطا في المصارفة فهذا
هو القول في محله.
وأما صفته فهي الصفة التي قدمناها.
(2/237)
الباب الثاني
في مسائل الشروط
وجملة ما لا يجوز من الشروط عند الجميع هي ما
أدى عندهم إلى غرر أو إلى مجهلة زائدة.
ولا خلاف بين العلماء أنه إذا اشترط أحدهما
لنفسه من الربح شيئا زائدا غير ما انعقد عليه
القراض أن ذلك لا يجوز لأنه يصير ذلك الذي
انعقد عليه القراض مجهولا وهذا هو الأصل عند
مالك في أن لا يكون مع القراض بيع ولا كراء
ولا سلف ولا عمل ولا مرفق يشترطه أحدهما
لصاحبه مع نفسه فهذه جملة ما اتفقوا عليه وإن
كانوا قد اختلفوا في التفصيل فمن ذلك اختلافهم
إذا شرط العامل الربح كله له فقال مالك يجوز
وقال الشافعي لا يجوز وقال أبو حنيفة هو قرض
لا قراض فمالك رأى أنه إحسان من رب المال
وتطوع إذ كان يجوز له أن يأخذ منه الجزء
القليل من المال الكثير والشافعي رأى أنه غرر
لأنه إن كان خسران فعلى رب المال وبهذا يفارق
القرض وإن كان ربح فليس لرب المال فيه شيء.
ومنها إذا شرط رب المال الضمان على العامل
فقال مالك لا يجوز القراض وهو فاسد وبه قال
الشافعي وقال أبو حنيفة وأصحابه القراض جائز
والشرط باطل.
وعمدة مالك أن اشتراط الضمان زيادة غرر في
القراض ففسد وأما أبو حنيفة فشبهه بالشرط
الفاسد في البيع على رأيه أن البيع جائز
والشرط باطل اعتمادا على حديث بريرة المتقدم.
واختلفوا في المقارض.
يشترط رب المال عليه خصوص التصرف مثل أن يشترط
عليه تعيين جنس ما من السلع أو تعيين جنس ما
من البيع أو تعيين موضع ما للتجارة أو تعيين
صنف ما من الناس يتجر معهم فقال مالك والشافعي
في اشتراط جنس من السلع لا يجوز ذلك إلا أن
يكون ذلك الجنس من السلع لا يختلف وقتا ما من
أوقات السنة وقال أبو حنيفة يلزمه ما اشترط
عليه وإن تصرف في غير ما اشترط عليه ضمن.
فمالك والشافعي رأيا أن هذا الاشتراط من باب
التضييق على المقارض فيعظم الغرر بذلك و أبو
حنيفة استخف الغرر الموجود في ذلك كما لو
اشترط عليه أن لا يشتري جنسا ما من السلع لكان
على شرطه في ذلك بإجماع.
ولا يجوز القراض المؤجل عند الجمهور وأجازه
أبو حنيفة إلا أن يتفاسخا.
فمن لم يجزه
(2/238)
رأى أن في ذلك
تضييفا على العامل يدخل عليه مزيد غرر لأنه
ربما بارت عنده سلع فيضطر عند بلوغ الأجل إلى
بيعها فيلحقه في ذلك ضرر ومن أجاز الأجل شبه
القراض بالإجارة.
ومن هذا الباب اختلافهم في جواز اشتراط رب
المال زكاة الربح على العامل في حصته من الربح
فقال مالك في الموطأ لا يجوز ورواه عنه أشهب
وقال ابن القاسم ذلك جائز ورواه عن مالك وبقول
مالك قال الشافعي وحجة من لم يجزه أنه تعوض
حصة العامل ورب المال مجهولة لأنه لا يدري كم
يكون المال في حين وجوب الزكاة فيه وتشبيها
باشتراط زكاة أصل المال عليه أعني على العامل
فإنه لا يجوز باتفاق.
وحجة ابن القاسم أنه يرجع إلى جزء معلوم
النسبة وإن لم يكن معلوم القدر لأن الزكاة
معلومة النسبة من المال المزكى فكأنه اشترط
عليه في الربح الثلث إلا ربع العشر أو النصف
إلا ربع العشر أو الربع إلا ربع العشر وذلك
جائز وليس مثل اشتراطه زكاة رأس المال لأن ذلك
معلوم القدر غير معلوم النسبة فكان ممكنا أن
يحيط بالربح فيبقى عمل المقارض باطلا وهل يجوز
أن يشترط ذلك المقارض على رب المال في المذهب
فيه قولان قيل بالفرق بين العامل ورب المال
وقيل يجوز أن يشترطه العامل على رب المال ولا
يجوز أن يشترطه رب المال على العامل وقيل عكس
هذا.
واختلفوا في اشتراط العامل على رب المال غلاما
بعينه على أن يكون للغلام نصيب من المال
فأجازه مالك والشافعي وأبو حنيفة.
وقال أشهب من أصحاب مالك لا يجوز ذلك فمن أجاز
ذلك شبهه بالرجل يقارض الرجلين ومن لم يجز ذلك
رأى أنها زيادة ازدادها العامل على رب المال.
فأما إن اشترط العامل غلامه فقال الثوري لا
يجوز وللغلام فيما عمل أجرة المثل وذلك أن حظ
العامل يكون عنده مجهولا.
القول في أحكام القراض
والأحكام منها ما هي أحكام القراض الصحيح
ومنها ما هي أحكام القراض الفاسد وأحكام
القراض الصحيح منها ما هي من موجبات العقد
أعني أنها تابعة لموجب العقد.
ومختلف فيها هل هي تابعة أوغير تابعة ومنها
أحكام طوارئ تطرأ على العقد مما لم يكن موجبه
من نفس العقد مثل التعدي
(2/239)
والاختلاف وغير
ذلك.
ونحن نذكر من هذه الأوصاف ما اشتهر عند فقهاء
الأمصار.
ونبدأ من ذلك بموجبات العقد فنقول إنه أجمع
العلماء على أن اللزوم ليس من موجبات عقد
القراض وإن لكل واحد منهما فسخه ما لم يشرع
العامل في القراض.
واختلفوا إذا شرع العامل فقال مالك هو لازم
وهو عقد يورث فإن مات وكان للمقارض بنون أمناء
كانوا في القراض مثل أبيهم وإن لم يكونوا
أمناء كان لهم أن يأتوا بأمين وقال الشافعي
وأبو حنيفة لكل واحد منهم الفسخ إذا شاء وليس
هو عقد يورث.
فمالك ألزمه بعد الشروع في العمل لما فيه من
ضرر ورآه من العقود المورثة.
والفرقة الثانية شبهت الشروع في العمل بما بعد
الشروع في العمل.
ولا خلاف بينهم أن المقارض إنما يأخذ حظه من
الربح بعد أن ينض جميع رأس المال وأنه إن خسر
ثم اتجر ثم ربح جبر الخسران من الربح.
واختلفوا في الرجل يدفع إلى رجل مالا قراضا
فيهلك بعضه قبل أن يعمل فيه ثم يعمل فيه فيربح
فيريد المقارض أن يجعل رأس المال بقية المال
بعد الذي هلك هل له ذلك أم لا فقال مالك
وجمهور العلماء إن صدقه رب المال أو دفع رجل
مالا قراضا لرجل فهلك منه جزء قبل أن يعمل
فأخبره بذلك فصدقه ثم قال له يكون الباقي عندك
قراضا على الشرط المتقدم لم يجز حتى يفاصله
ويقبض منه رأس ماله وينقطع القراض الأول.
وقال ابن حبيب من أصحاب مالك إنه يلزمه في ذلك
القول ويكون الباقي قراضا وهذه المسألة هي من
أحكام الطوارئ ولكن ذكرناها هنا لتعلقها بوقت
وجوب القسمة وهي من أحكام العقد واختلفوا هل
للعامل نفقته من المال المقارض عليه أم لا على
ثلاثة أقوال فقال الشافعي في أشهر أقواله لا
نفقة له أصلا إلا أن يأذن له رب المال وقال
قوم له نفقته وبه قال إبراهيم النخعي والحسن
وهو أحد ما روي عن الشافعي وقال آخرون له
النفقة في السفر من طعامه وكسوته وليس له شيء
في الحضر وبه قال مالك وأبو حنيفة والثوري
وجمهور العلماء إلا أن مالكا قال إذا كان
المال يحمل ذلك وقال الثوري ينفق ذاهبا ولا
ينفق راجعا.
وقال الليث يتغدى في المصر ولا يتعشى وروي عن
الشافعي أن له نفقته في المرض والمشهور عنه
مثل قول الجمهور أن لا نفقة له
(2/240)
في المرض. وحجة
من لم يجزه أن ذلك زيادة منفعة في القراض فلم
يجز.
أصله المنافع.
وحجة من أجازه أن عليه العمل في الصدر الأول
ومن أجازه في الحضر شبهه بالسفر.
وأجمع علماء الأمصار على أنه لا يجوز للعامل
أن يأخذ نصيبه من الربح إلا بحضرة رب المال
وأن حضور رب المال شرط في قسمة المال وأخذ
العامل حصته وأنه ليس يكفي في ذلك أن يقسمه
بحضور بينة ولا غيرها.
القول في أحكام الطوارئ
واختلفوا إذا أخذ المقارض حصته من غير حضور رب
المال ثم ضاع المال أو بعضه فقال مالك إن أذن
له رب المال في ذلك فالعامل مصدق فيما ادعاه
من الضياع وقال الشافعي وأبو حنيفة والثوري ما
أخذ العامل يرده ويجبر به رأس المال ثم
يقتسمان فضلا إن كان هنالك.
واختلفوا إذا هلك مال القراض بعد أن اشترى
العامل به سلعة ما وقبل أن ينقده البائع.
فقال مالك البيع لازم للعامل ورب المال مخير
إن شاء دفع قيمة السلعة مرة ثانية ثم تكون
بينهما على ما شرطا من المقارضة وإن شاء تبرأ
عنها وقال أبو حنيفة بل يلزم ذلك الشراء رب
المال شبهه بالوكيل إلا أنه قال يكون رأس
المال في ذلك القراض الثمنين ولا يقتسمان
الربح إلا بعد حصوله عينا أعني ثمن تلك السلعة
التي تلفت أولا والثمن الثاني الذي لزمه بعد
ذلك.
واختلفوا في بيع العامل من رب المال بعض سلع
القراض فكره ذلك مالك وأجازه أبو حنيفة على
الإطلاق وأجازه الشافعي بشرط أن يكونا قد
تبايعا بما لا يتغابن الناس بمثله.
ووجهه ما كره من ذلك مالك أن يكون يرخص له في
السلعة من أجل ما قارضه فكأن رب المال أخذ من
العامل منفعة سوى الربح الذي اشترط عليه.
ولا أعرف خلافا بين فقهاء الأمصار أنه إن
تكارى العامل على السلع إلى بلد فاستغرق
الكراء قيم السلع وفضل عليه فضلة أنها على
العامل لا على رب المال لأن رب المال إنما دفع
ماله إليه ليتجر به فما كان من خسران في المال
فعليه وكذلك ما زاد على المال واستغرقه.
واختلفوا في العامل يستدين مالا فيتجر به مع
مال القراض فقال مالك: ذلك
(2/241)
لا يجوز وقال
الشافعي وأبو حنيفة ذلك جائز ويكون الربح
بينهما على شرطهما وحجة مالك أنه كما لا يجوز
أن يستدين على المقارضة كذلك لا يجوز أن يأخذ
دينا فيها.
واختلفوا هل للعامل أن يبيع بالدين إذا لم
يأمره به رب المال فقال مالك ليس له ذلك فإن
فعل ضمن وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة له
ذلك.
والجميع متفقون على أن العامل إنما يجب له أن
يتصرف في عقد القراض ما يتصرف فيه الناس غالبا
في أكثر الأحوال فمن رأى أن التصرف بالدين
خارج عما يتصرف فيه الناس في الأغلب لم يجزه
ومن رأى أنه مما يتصرف فيه الناس أجازه.
واختلف مالك والشافعي وأبو حنيفة والليث في
العامل يخلط ماله بمال القراض من غير إذن رب
المال فقال هؤلاء كلهم ما عدا مالكا هو تعد
ويضمن وقال مالك ليس بتعد.
ولم يختلف هؤلاء المشاهير من فقهاء الأمصار
أنه إن دفع العامل رأس مال القراض إلى مقارض
آخر أنه ضامن إن كان خسران وإن كان ربح فذلك
على شرطه ثم يكون للذي عمل شرطه على الذي دفع
إليه فيوفيه حظه مما بقي من المال وقال المزني
عن الشافعي ليس له إلا أجرة مثله لأنه عمل على
فساد.
القول في حكم القراض الفاسد
واتفقوا على أن حكم القراض الفاسد فسخه ورد
المال إلى صاحبه ما لم يفت بالعمل.
واختلفوا إذا فات بالعمل ما يكون للعامل فيه
في واجب عمله على أقوال أحدها أنه يرد جميعه
إلى قراض مثله وهي رواية ابن الماجشون عن مالك
وهو قوله وقول أشهب.
والثاني أنه يرد جميعه إلى إجارة مثله وبه قال
الشافعي وأبو حنيفة وعبد العزيز بن أبي سلمة
من أصحاب مالك وحكى عبد الوهاب أنها رواية عن
مالك.
والثالث أنه يرد إلى قراض مثله ما لم يكن أكثر
مما سماه وإنما له الأقل مما سمى أو من قراض
مثله إن كان رب المال هو مشترط الشرط على
المقارض أو الأكثر من قراض مثله أو من الجزء
الذي سمي له إن كان المقارض هو مشترط الشرط
الذي يقتضي الزيادة التي من قبلها فسد القراض
وهذا القول يتخرج رواية عن مالك.
والرابع أنه يرد إلى
(2/242)
قراض مثله في
كل منفعة اشترطها أحد المتقارضين على صاحبه في
المال مما ليس ينفرد أحدهما بها عن صاحبه وإلى
إجارة مثله في كل منفعة اشترطها أحد
المتقارضين خالصة لمشترطها مما ليست في المال
وفي كل قراض فاسد من قبل الغرر والجهل وهو قول
مطرف وابن نافع وابن عبد الحكم وأصبغ واختاره
ابن حبيب.
وأما ابن القاسم فاختلف قوله في القراضات
الفاسدة فبعضها وهو الأكثر قال إن فيها أجرة
المثل وفي بعضها قال فيها قراض المثل.
فاختلف الناس في تأويل قوله فمنهم من حمل
اختلاف قوله فيها على الفرق الذي ذهب إليه ابن
عبد الحكم ومطرف وهو اختيار ابن حبيب واختيار
جدي رحمة الله عليه.
ومنهم من لم يعلل قوله وقال إن مذهبه أن كل
قراض فاسد ففيه أجرة المثل إلا تلك التي نص
فيها قراض المثل وهي سبعة القراض بالعروض
والقراض بالضمان والقراض إلى أجل والقراض
المبهم وإذا قال له اعمل على أن لك في المال
شركاء وإذا اختلف المتقارضان وأتيا بما لا
يشبه فحلفا على دعواهما وإذا دفع إليه المال
على أن لا يشتري به إلا بالدين فاشترى بالنقد
أو على أن لا يشتري إلا سلعة كذا وكذا والسلعة
غير موجودة فاشترى غير ما أمر به.
وهذه المسائل يجب أن ترد إلى علة واحدة وإلا
فهو اختلاف من قول ابن القاسم وحكى عبد الوهاب
عن ابن القاسم أنه فصل فقال إن كان الفساد من
جهة العقد رد إلى قراض المثل وإن كان من جهة
زيادة ازدادها أحدهما على الآخر رد إلى أجرة
المثل والأشبه أن يكون الأمر في هذا بالعكس.
والفرق بين الأجرة وقراض المثل أن الأجرة
تتعلق بذمة رب المال سواء أكان في المال ربح
أو لم يكن وقراض المثل هو على سنة القراض إن
كان فيه ربح كان للعامل منه وإلا فلا شيء له.
القول في اختلاف المتقارضين
واختلف الفقهاء إذا اختلف العامل ورب المال في
تسمية الجزء الذي تقارضا عليه فقال مالك القول
قول العامل لأنه عنده مؤتمن وكذلك الأمر عنده
في جميع دعاويه إذا أتى بما يشبه وقال الليث
يحمل على قراض مثله وبه قال مالك إذا أتى بما
لا يشبه وقال أبو حنيفة وأصحابه القول قول
(2/243)
رب المال وبه
قال الثوري وقال الشافعي يتحالفان ويتفاسخان
ويكون له أجرة مثله.
وسبب اختلاف مالك وأبي حنيفة اختلافهم في سبب
ورود النص بوجوب اليمين على المدعى عليه هل
ذلك لأنه مدعى عليه أو لأنه في الأغلب أقوى
شبهة فمن قال لأنه مدعى عليه قال القول قول رب
المال ومن قال لأنه أقواهما شبهة في الأغلب
قال القول قول العامل لأنه عنده مؤتمن وأما
الشافعي فقاس اختلافهما على اختلاف المتبايعين
في ثمن السلعة.
وهذا كاف في هذا الباب.
(2/244)
(بسم الله
الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى
آله وصحبه وسلم تسليما )
كتاب المساقاة
القول في المساقاة
أما أولا ففي جوازها.
والثاني في معرفة الفساد والصحة فيها.
والثالث في أحكامها.
القول في جواز المساقاة
فأما جوازها فعليه جمهور العلماء مالك
والشافعي والثوري وأبو يوسف ومحمد بن الحسن
صاحبا أبي حنيفة وأحمد وداود وهي عندهم
مستثناة بالسنة من بيع ما لم يخلق ومن الإجارة
المجهولة قال أبو حنيفة لا تجوز المساقاة
أصلا.
وعمدة الجمهور في إجازتها حديث ابن عمر الثابت
"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دفع إلى
يهود خيبر نخل خيبر وأرضها على أن يعملوها من
أموالهم ولرسول الله صلى الله عليه وسلم شطر
ثمرها" خرجه البخاري ومسلم وفي بعض رواياته
أنه صلى الله عليه وسلم ساقاهم على نصف ما
تخرجه الأرض والثمرة وما رواه مالك أيضا من
مرسل سعيد بن المسيب "أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال ليهود خيبر يوم افتتح خيبر:
"أقركم على ما أقركم الله على أن الثمر بيننا
وبينكم " قال وكان رسول الله صلى الله عليه
وسلم
(2/244)
يبعث عبد الله
بن رواحة فيخرص بينه وبينهم ثم يقول :"إن شئتم
فلكم وإن شئتم فلي" وكذلك مرسله أيضا عن
سليمان بن يسار في معناه.
وأما أبو حنيفة ومن قال بقوله فعمدتهم مخالفة
هذا الأثر للأصول مع أنه حكم مع اليهود
واليهود يحتمل أن يكون أقرهم على أنهم عبيد
ويحتمل أن يكون أقرهم على أنهم ذمة إلا أنا
إذا أنزلنا أنهم ذمة كان مخالفا للأصول لأنه
بيع ما لم يخلق وأيضا فإنه من المزابنة وهو
بيع التمر بالتمر متفاضلا لأن القسمة بالخرص
بيع الخرص واستدلوا على مخالفته للأصول بما
روي في حديث عبد الله بن رواحة أنه كان يقول
لهم عند الخرص "إن شئتم فلكم وتضمنون نصيب
المسلمين وإن شئتم فلي وأضمن نصيبكم" وهذا
حرام بإجماع.
وربما قالوا أن النهي الوارد عن المخابرة هو
ما كان من هذا الفعل بخيبر.
والجمهور يرون أن المخابرة هي كراء الأرض ببعض
ما يخرج منها قالوا ومما يدل على نسخ هذا
الحديث أو أنه خاص.
باليهود ما ورد من حديث رافع وغيره من النهي
عن كراء الأرض بما يخرج منها لأن المساقاة
تقتضي جواز ذلك وهو خاص أيضا في بعض روايات
أحاديث المساقاة ولهذا المعنى لم يقل بهذه
الزيادة مالك ولا الشافعي أعني بما جاء من
"أنه صلى الله عليه وسلم ساقاهم على نصف ما
تخرجه الأرض والثمرة" وهي زيادة صحيحة وقال
بها أهل الظاهر.
القول في صحة المساقاة
والنظر في الصحة راجع إلى النظر في أركانها
وفي وقتها وفي شروطها المشترطة في أركانها.
وأركانها أربعة المحل المخصوص بها والجزء الذي
تنعقد عليه.
وصفة العمل الذي تنعقد عليه.
والمدة التي تجوز فيها وتنعقد عليها.
(الركن الأول في محل المساقاة ) واختلفوا في
محل المساقاة فقال داود لا تكون المساقاة إلا
في النخيل فقط وقال الشافعي في النخل والكرم
فقط وقال مالك تجوز في كل أصل ثابت كالرمان
والتين والزيتون وما أشبه ذلك من غير ضرورة
وتكون في الأصول غير الثابتة كالمقاثئ والبطيخ
مع عجز صاحبها عنها وكذلك الزرع ولا تجوز في
شيء من البقول عند الجميع إلا ابن دينار فإنه
أجازها فيه إذا نبتت قبل أن تستغل.
فعمدة من قصره على
(2/245)
النخل أنها
رخصة فوجب أن لا يتعدى بها محلها الذي جاءت
فيه السنة.
وأما مالك فرأى أنها رخصة ينقدح فيها سبب عام
فوجب تعدية ذلك إلى الغير.
وقد يقاس على الرخص عند قوم إذا فهم أعم من
الأشياء التي علقت الرخص بالنص بها وقوم منعوا
القياس على الرخص وأما داود فهو يمنع القياس
على الجملة فالمساقاة على أصوله مطردة وأما
الشافعي فإنما أجازها في الكرم من قبل أن
الحكم في المساقاة هو بالخرص وقد جاء في حديث
عتاب بن أسيد الحكم بالخرص في النخل والكرم
وإن كان ذلك في الزكاة فكأنه قاس المساقاة في
ذلك على الزكاة والحديث الذي ورد عن عتاب بن
أسيد هو "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
بعثه وأمره أن يخرص العنب وتؤدى زكاته زبيبا
كما تؤدي زكاة النخل تمرا" ودفع داود حديث
عتاب بن أسيد لأنه مرسل ولأنه انفرد به عبد
الرحمن بن إسحاق وليس بالقوي.
واختلفوا إذا كان مع النخل أرض بيضاء أو مع
الثمار هل يجوز أن تساقى الأرض مع النخل بجزء
من النخل أو بجزء من النخل وبجزء مما يخرج من
الأرض فذهب إلى جواز ذلك طائفة وبه قال صاحبا
أبي حنيفة والليث وأحمد والثوري وابن أبي ليلى
وجماعة وقال الشافعي وأهل الظاهر لا تجوز
المساقاة إلا في الثمر فقط وأما مالك فقال إذا
كانت الأرض تبعا للثمر وكان الثمر أكثر ذلك
فلا بأس بدخولها في المساقاة اشترط جزءا خارجا
منها أو لم يشترطه وحد ذلك الجزء بأن يكون
الثلث فما دونه أعني أن يكون مقدار كراء الأرض
الثلث من الثمر فما دونه ولم يجز أن يشترط رب
الأرض أن يزرع البياض لنفسه لأنها زيادة
ازدادها.
عليه وقال الشافعي ذلك جائز.
وحجة من أجاز المساقاة عليهما جميعا أعني على
الأرض بجزء مما يخرج منها حديث ابن عمر
المتقدم وحجة من لم يجز ذلك ما روي من النهي
عن كراء الأرض بما يخرج منها في حديث رافع بن
خديج وقد تقدم
(2/246)
ذلك وقال أحمد
بن حنبل أحاديث رافع مضطربة الألفاظ وحديث ابن
عمر أصح.
وأما تحديد مالك ذلك بالثلث فضعيف وهو استحسان
مبني على غير الأصول لأن الأصول تقتضي أنه لا
يفرق بين الجائز من غير الجائز بالقليل
والكثير من الجنس الواحد.
ومنها اختلافهم في المساقاة في البقل فأجازها
مالك والشافعي وأصحابه ومحمد بن الحسن وقال
الليث لا تجوز المساقاة في البقل وإنما أجازها
الجمهور لأن العامل وإن كان ليس عليه فيها سقي
فيبقى عليه أعمال أخر مثل الإبار وغير ذلك
وأما الليث فيرى السقي بالماء هو الفعل الذي
تنعقد عليه المساقاة ولمكانه وردت الرخصة
فيها.
(الركن الثاني) وأما الركن الذي هو العمل فإن
العلماء بالجملة أجمعوا على أن الذي يجب على
العامل هو السقي والإبار.
واختلفوا في الجذاذ على من هو وفي سد الحظار
وتنقية العين والسانية.
أما مالك فقال في الموطأ السنة في المساقاة
التي يجوز لرب الحائط أن يشترطه سد الحظار وخم
العين وشرب الشراب وإبار النخل وقطع الجريد
وجذ الثمر هذا وأشباهه هو على العامل وهذا
الكلام يحتمل أن يفهم منه دخول هذه في
المساقاة بالشرط ويمكن أن يفهم منه دخولها
فيها بنفس العقد.
وقال الشافعي ليس عليه سد الحظار لأنه ليس من
جنس ما يؤثر في زيادة الثمرة مثل الإبار
والسقي.
وقال محمد بن الحسن ليس عليه تنقية السواني
والأنهار.
وأما الجذاذ فقال مالك والشافعي هو على العامل
إلا أن مالكا قال إن اشترطه العامل على رب
المال جاز وقال الشافعي لا يجوز شرطه وتنفسخ
المساقاة إن وقع وقال محمد بن الحسن الجذاذ
بينهما نصفان وقال المحصلون من أصحاب مالك إن
العمل في الحائط على وجهين عمل ليس تأثير في
إصلاح الثمرة وعمل له تأثير في إصلاحها والذي
له تأثير في إصلاحها منه ما يتأبد ويبقى بعد
الثمر ومنه ما لا يبقى بعد الثمر.
فأما الذي ليس له تأثير في إصلاح الثمر فلا
يدخل في المساقاة لا بنفس العقد ولا بالشرط
إلا الشيء اليسير منه.
وأما ما له تأثير في إصلاح الثمر ويبقى بعد
الثمر فيدخل عنده بالشرط في المساقاة لا بنفس
العقد مثل إنشاء حفر بئر أو إنشاء ظفيرة للماء
أو إنشاء غرس أو إنشاء بيت يجنى فيه الثمر.
وأما ما له تأثير في إصلاح الثمر ولا يتأبد
فهو لازم بنفس
(2/247)
العقد وذلك مثل
الحفر والسقي وزبر الكرم وتقليم الشجر
والتذكير والجذاذ وما أشبه ذلك وأجمعوا على أن
ما كان في الحائط من الدواب والعبيد أنه ليس
من حق العامل.
واختلفوا في شرط العامل ذلك على المساقي فقال
مالك يجوز ذلك فيما كان منها في الحائط قبل
المساقاة.
وأما إن اشترط فيها ما لم يكن في الحائط فلا
يجوز وقال الشافعي لا بأس بذلك وإن لم يكن في
الحائط وبه قال ابن نافع من أصحاب مالك وقال
محمد بن الحسن لا يجوز أن يشترطه العامل على
رب المال ولو اشترطه رب المال على العامل جاز
ذلك.
ووجه كراهيته ذلك ما يلحق في ذلك من الجهل
بنصيب رب المال ومن أجازه رأى أن ذلك تافه
ويسير ولتردد الحكم بين هذين الأصلين استحسن
مالك ذلك في الرقيق الذي يكون في الحائط في
وقت المساقاة ومنعه في غيرهم لأن اشتراط
المنفعة في ذلك أظهر وإنما فرق محمد بن الحسن
لأن اشتراطهما على العامل هو من جنس ما وجب
عليه من المساقاة وهو العمل بيده.
واتفق القائلون بالمساقاة على أنه إن كانت
النفقة كلها على رب الحائط وليس على العامل
إلا ما يعمل بيده أن ذلك لا يجوز لأنها إجارة
بما لم يخلق فهذه هي صفات هذا الركن والشروط
الجائزة فيه من غير الجائزة.
(الركن الثالث) وأجمعوا على أن المساقاة تجوز
بكل ما اتفقا عليه من أجزاء الثمر فأجاز مالك
أن تكون الثمرة كلها للعامل كما فعل في القراض
وقد قيل إن ذلك منحة لا مساقاة وقيل لا يجوز.
واتفقوا على أنه لا يجوز فيها اشتراط منفعة
زائدة مثل أن يشترط أحدهما على صاحبه زيادة
دارهم أو دنانير ولا شيئا من الأشياء الخارجة
عن المساقاة إلا الشيء اليسير عند مالك مثل سد
الحظار وإصلاح الظفيرة وهي مجتمع الماء ولا
يجوز عند مالك أن يساقي على حائطين أحدهما على
جزء والآخر على جزء آخر واحتج بفعله عليه
الصلاة والسلام في خيبر وذلك أنه ساقى على
حوائط مختلفة بجزء واحد وفيه خلاف.
وأكثر العلماء على أن القسمة بين العامل
والمساقي في الثمر لا تكون إلا بالكيل وكذلك
في الشركة وأنها لا تجوز بالخرص وأجاز قوم
قسمتها بالخرص.
واختلف في ذلك أصحاب مالك واختلفت الرواية عنه
فقيل يجوز وقيل لا يجوز من الثمار في الربوية
ويجوز في غير ذلك وقيل يجوز بإطلاق إذا
(2/248)
اختلفت حاجة
الشريكين.
وحجة الجمهور أن ذلك يدخله الفساد من جهة
المزابنة ويدخله بيع الرطب بالتمر وبيع الطعام
بالطعام نسيئة.
وحجة من أجاز قسمتها بالخرص تشبيهها بالعرية
وبالخرص في الزكاة وفيه ضعف.
وأقوى ما اعتمدوا عليه في ذلك ما جاء من الخرص
في مساقاة خيبر من مرسل سعيد بن المسيب وعطاء
بن يسار.
(الركن الرابع ) وأما اشتراط الوقت في
المساقاة فهو صنفان وقت هو مشترط في جواز
المساقاة ووقت هو شرط في صحة العقد وهو المحدد
لمدتها.
فأما الوقت المشترط في جواز عقدها فإنهم
اتفقوا على أنها تجوز قبل بدو الصلاح.
واختلفوا في جواز ذلك بعد بدو الصلاح.
فذهب الجمهور من القائلين بالمساقاة على أنه
لا يجوز بعد بدو الصلاح.
وقال سحنون من أصحاب مالك لا بأس بذلك.
واختلف قول الشافعي في ذلك فمرة قال لا يجوز
ومرة قال يجوز وقد قيل عنه إنها لا تجوز إذا
خلق الثمر.
وعمدة الجمهور أن مساقاة ما بدا صلاحه من
الثمر ليس فيه عمل ولا ضرورة داعية إلى
المساقاة إذ كان يجوز بيعه في ذلك الوقت.
قالوا وإنما هي إجارة إن وقعت.
وحجة من أجازها أنه إذا جازت قبل أن يخلق
الثمر فهي بعد بدو الصلاح أجوز ومن هنا لم تجز
عندهم مساقاة البقول لأنه يجوز بيعها أعني عند
الجمهور.
وأما الوقت الذي هو شرط في مدة المساقاة فإن
الجمهور على أنه لا يجوز أن يكون مجهولا أعني
مدة غير مؤقتة وأجاز طائفة أن يكون إلى مدة
غير مؤقتة منهم أهل الظاهر.
وعمدة الجمهور ما يدخل في ذلك من الغرر قياسا
على الإجارة وعمدة أهل الظاهر ما وقع في مرسل
مالك من قوله صلى الله عليه وسلم: "أقركم ما
أقركم الله" وكره مالك المساقاة فيما طال من
السنين وانقضاء السنين فيها هو بالجذ لا
بالأهلة.
وأما هل اللفظ شرط في هذا العقد فاختلفوا في
ذلك فذهب ابن القاسم إلى أن من شرط صحتها أن
لا تنعقد إلا بلفظ المساقاة وأنه ليس تنعقد
بلفظ الإجارة وبه قال الشافعي وقال غيرهم
تنعقد بلفظ الإجارة وهو قياس قول سحنون.
(2/249)
القول في أحكام
الصحة
والمساقاة عند مالك من العقود اللازمة باللفظ
لا بالعمل بخلاف القراض عنده الذي ينعقد
بالعمل لا باللفظ وهو عند مالك عقد موروث
ولورثة المساقي أن يأتوا بأمين يعمل إن لم
يكونوا أمناء وعليه العمل إن أبى الورثة من
تركته وقال الشافعي إذا لم يكن له تركة سلم
إلى الورثة رب المال أجرة ما عمل وفسد العقد
وإن كانت له تركة لزمته المساقاة.
وقال الشافعي تنفسخ المساقاة بالعجز ولم يفصل.
وقال مالك إذا عجز وقد حل بيع الثمر لم يكن له
أن يساقي غيره ووجب عليه أن يستأجر من يعمل
وإن يكن له شيء استؤجر من حظه من الثمر وإذا
كان العامل لصا أو ظالما لم ينفسخ العقد بذلك
عند مالك.
وحكي عن الشافعي أنه قال يلزمه أن يقيم غيره
للعمل وقال الشافعي إذا هرب العامل قبل تمام
العمل استأجر القاضي عليه من يعمل عمله.
ويجوز عند مالك أن يشترط كل واحد منهما على
صاحبه الزكاة بخلاف القراض ونصابهما عنده نصاب
الرجل الواحد بخلاف قوله في الشركاء.
وإذا اختلف رب المال والعامل في مقدار ما وقعت
عليه المساقاة من الثمر فقال مالك القول قول
العامل مع يمينه إذا أتى بما يشبه وقال
الشافعي يتحالفان ويتفاسخان وتكون للعامل
الأجرة شبههه بالبيع وأوجب مالك اليمين في حق
العامل لأنه مؤتمن ومن أصله أن اليمين تجب على
أقوى المتداعيين شبهة.
وفروع هذا الباب كثيرة لكن التي اشتهر الخلاف
فيها بين الفقهاء هي هذه التي ذكرناها.
أحكام المساقاة الفاسدة
واتفقوا على أن المساقاة إذا وقعت على غير
الوجه الذي جوزها الشرع أنها تنفسخ ما لم تفت
بالعمل.
واختلفوا إذا فاتت بالعمل ماذا يجب فيها فقيل
إنها ترد إلى إجارة المثل في كل نوع من أنواع
الفساد وهو قياس قول الشافعي وقياس إحدى
الروايتين عن مالك وقيل إنها ترد إلى مساقاة
المثل بإطلاق وهو قول ابن الماجشون وروايته عن
مالك وأما ابن القاسم فقال في بعضها
(2/250)
ترد إلى مساقاة
مثلها وفي بعضها إلى إجارة المثل.
واختلف التأويل عنه في ذلك فقيل في مذهبه إنها
ترد إلى إجارة المثل إلا في أربع مسائل فإنها
ترد إلى مساقاة مثلها إحداها المساقاة في حائط
فيه تمر قد أطعم.
والثانية إذا اشترط المساقي على رب المال أن
يعمل معه.
والثالثة المساقاة مع البيع في صفقة واحدة.
والرابعة إذا ساقاه في حائط سنة على الثلث
وسنة على النصف.
وقيل إن الأصل عنده في ذلك أن المساقاة إذا
لحقها الفساد من قبل ما دخلها من الإجارة
الفاسدة أو من بيع الثمر من قبل أن يبدو صلاحه
وذلك مما يشترطه أحدهما على صاحبه من زيادة رد
فيها إلى أجرة المثل مثل أن يساقيه على أن
يزيد أحدهما صاحبه دنانير أو دراهم وذلك أن
هذه الزيادة إن كانت من رب الحائط كانت إجارة
فاسدة وإن كانت من العامل كانت بيع الثمر قبل
أن يخلق.
وأما فساده من قبل الغرر مثل المساقاة على
حوائط مختلفة فيرد إلى مساقاة المثل وهذا كله
استحسان جار على غير قياس.
وفي المسألة قول رابع وهو أنه يرد إلى مساقاة
مثله ما لم يكن أكثر من الجزء الذي شرط عليه
إن كان للمساقي أو أقل إن كان الشرط للمساقى
وهذا كاف بحسب غرضنا.
(2/251)
(بسم الله
الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى
آله وصحبه وسلم تسليما )
كتاب الشركة
والنظر في الشركة في أنواعها وفي أركانها
الموجبة للصحة في الأحكام ونحن نذكر من هذه
الأبواب ما اتفقوا عليه وما اشتهر الخلاف فيه
بينهم على ما قصدناه في هذا الكتاب.
والشركة بالجملة عند فقهاء الأمصار على أربعة
أنواع شركة العنان وشركة الأبدان وشركة
المفاوضة.
وشركة الوجوه.
واحدة منها متفق عليها وهي شركة العنان وإن
كان بعضهم لم يعرف هذا اللفظ وإن كانوا
اختلفوا في بعض شروطها على ما سيأتي بعد.
والثلاثة مختلف فيها ومختلف في بعض شروطها عند
من اتفق منهم عليها.
القول في شركة العنان
وأركان هذه الشركة ثلاثة الأول محلها من
الأموال.
والثاني في معرفة
(2/251)
قدر الربح من
قدر المال المشترك فيه.
الثالث في معرفة قدر المال من الشريكين من قدر
المال.
(الركن الأول ) فأما محل الشركة فمنه ما
اتفقوا عليه ومنه ما اختلفوا فيه فاتفق
المسلمون على أن الشركة تجوز في الصنف الواحد
من العين أعني الدنانير والدراهم وإن كانت في
الحقيقة بيعا لا تقع فيه مناجزة ومن شرط البيع
في الذهب وفي الدارهم المناجزة لكن الإجماع
خصص هذا المعنى في الشركة وكذلك اتفقوا فيما
أعلم على الشركة بالعرضين يكونان بصفة واحدة
واختلفوا في الشركة بالعرضين المختلفين
وبالعيون المختلفة مثل الشركة بالدنانير من
أحدهما والدراهم من الآخر وبالطعام الربوي إذا
كان صنفا واحدا فههنا ثلاث مسائل (المسألة
الأولى ) فأما إذا اشتركا في صنفين من العروض
أو في عروض ودراهم أو دنانير فأجاز ذلك ابن
القاسم وهو مذهب مالك وقد قيل عنه إنه كره
ذلك.
وسبب الكراهية اجتماع الشركة فيها والبيع وذلك
أن يكون العرضان مختلفين كأن كل واحد منهما
باع جزءا من عرضه بجزء من العرض الآخر ومالك
يعتبر في العروض إذا وقعت فيها الشركة القيم
والشافعي يقول لا تنعقد الشركة إلا على أثمان
العروض وحكى أبو حامد أن ظاهر مذهب الشافعي
يشير إلى أن الشركة مثل القراض لا تجوز إلا
بالدراهم والدنانير قال والقياس أن الإشاعة
فيها تقوم مقام الخلط.
(المسألة الثانية) وأما إن كان الصنفان مما لا
يجوز فيهما النساء مثل الشركة بالدنانير من
عند أحدهما والدراهم من عند الآخر أو
بالطعامين المختلفين فاختلف في ذلك قول مالك
فأجازه مرة ومنعه مرة وذلك لما يدخل الشركة
بالدراهم من عند أحدهما والدنانير من عند
الآخر من الشركة والصرف معا وعدم التناجز ولما
يدخل الطعامين المختلفين من الشركة وعدم
التناجز وبالمنع قال ابن القاسم ومن لم يعتبر
هذه العلل أجازها.
(المسألة الثالثة) وأما الشركة بالطعام من صنف
واحد فأجازها ابن القاسم قياسا على إجماعهم
على جوازها في الصنف الواحد من الذهب أو الفضة
ومنعها مالك في أحد قوليه وهو المشهور بعدم
المناجزة الذي يدخل فيه إذ
(2/252)
رأى أن الأصل
هو أن لا يقاس على موضع الرخصة بالإجماع وقد
قيل إن وجه كراهية مالك لذلك أن الشركة تفتقر
إلى الاستواء في القيمة والبيع يفتقر إلى
الاستواء في الكيل فافتقرت الشركة بالطعامين
من صنف واحد إلى استواء القيمة والكيل وذلك لا
يكاد يوجد فكره مالك ذلك فهذا هو اختلافهم في
جنس محل الشركة.
واختلفوا هل من شرط مال الشركة أن يختلطا إما
حسا وإما حكما.
مثل أن يكونا في صندوق واحد وأيديهما مطلقة
عليهما وقال الشافعي لا تصح الشركة حتى يخلطا
ماليهما خلطا لا يتميز به مال أحدهما من مال
الآخر وقال أبو حنيفة تصح الشركة وإن كان مال
كل واحد منهما بيده.
فأبو حنيفة اكتفى في انعقاد الشركة بالقول
ومالك اشترط إلى ذلك اشتراك التصرف في المال
والشافعي اشترط إلى هذين الاختلاط والفقه أن
بالاختلاط يكون عمل الشريكين أفضل وأتم لأن
النصح يوجد منه لشريكه كما يوجد لنفسه فهذا هو
القول في هذا الركن وفي شروطه.
(فأما الركن الثاني) وهو وجه اقتسامها الربح
فإنهم اتفقوا على أنه إذا كان الربح تابعا
لرؤوس الأموال أعني إن كان أصل مال الشركة
متساويين كان الربح بينهما نصفين.
واختلفوا هل يجوز أن يختلف رؤوس أموالهما
ويستويان في الربح فقال مالك والشافعي ذلك لا
يجوز وقال أهل العراق يجوز ذلك.
وعمدة من منع ذلك أن تشبيه الربح بالخسران
فكما أنه لو اشترط أحدهما جزءا من الخسران لم
يجز كذلك إذا اشترط جزءا من الربح خارجا عن
ماله وربما شبهوا الربح بمنفعة العقار الذي
بين الشريكين أعني أن المنفعة بينهما تكون على
نسبة أصل الشركة.
وعمدة أهل العراق تشبيه الشركة بالقراض وذلك
أنه لما جاز في القراض أن يكون للعامل من
الربح ما اصطلحا عليه والعامل ليس يجعل مقابله
إلا عملا فقط كان في الشركة أحرى أن يجعل
للعمل جزء من المال إذا كانت الشركة مالا من
كل واحد منهما وعملا فيكون ذلك الجزء من الربح
مقابلا لفضل عمله على عمل صاحبه فإن الناس
يتفاوتون في العمل كما يتفاوتون في غير ذلك.
(وأما الركن الثالث) الذي هو العمل فإنه تابع
كما قلنا عند مالك للمال
(2/253)
فلا يعتبر
بنفسه وهو عند أبي حنيفة يعتبر مع المال وأظن
أن من العلماء من لا يجيز الشركة إلا أن يكون
مالاهما متساويين التفاتا إلى العمل.
فإنهم يرون أن العمل في الغالب مستو فإذا لم
يكن المال بينهما على التساوي كان هنالك غبن
على أحدهما في العمل ولهذا قال ابن المنذر
أجمع العلماء على جواز الشركة التي يخرج فيها
كل واحد من الشريكين مالا مثل مال صاحبه من
نوعه أعني دراهم أو دنانير ثم يخلطانهما حتى
يصيرا مالا واحدا لا يتميز
على أن يبيعا ويشتريا ما رأيا من أنواع
التجارة وعلى أن ما كان من فضل فهو بينهما
بنصفين وما كان من خسارة فهو كذلك وذلك إذا
باع كل واحد منهما بحضرة صاحبه واشتراطه هذا
الشرط يدل على أن فيه خلافا والمشهور عند
الجمهور أنه ليس من شرط الشركاء أن يبيع كل
واحد منهما بحضرة صاحبه.
القول في شركة المفاوضة
واختلفا في شركة المفاوضة فاتفق مالك وأبو
حنيفة بالجملة على جوازها وإن كان اختلفوا في
بعض شروطها وقال الشافعي لا تجوز.
ومعنى شركة المفاوضة أن يفوض كل واحد من
الشريكين إلى صاحبه التصرف في ماله مع غيبته
وحضوره وذلك واقع عندهم في جميع أنواع
الممتلكات.
وعمدة الشافعي أن اسم الشركة إنما ينطلق على
اختلاط الأموال فإن الأرباح فروع ولا يجوز أن
تكون الفروع مشتركة إلا باشتراك أصولها وأما
إذا اشترط كل واحد منهما ربحا لصاحبه في ملك
نفسه فذلك من الغرر ومما لا يجوز وهذه صفة
شركة.
المفاوضة.
وأما مالك فيرى أن كل واحد منهما قد باع جزءا
من ماله بجزء من مال شريكه ثم وكل واحد منهما
صاحبه على النظر في الجزء الذي بقي في يده.
والشافعي يرى أن الشركة ليست هي بيعا ووكالة.
وأما أبو حنيفة فهو ههنا على أصله في أنه لا
يراعى في شركة العنان إلا النقد فقط.
وأما ما يختلف فيه مالك وأبو حنيفة من شروط
هذه الشركة فإن أبا حنيفة يرى أن من شرط
المفاوضة التساوي في رؤوس الأموال وقال مالك
ليس من شرطها ذلك تشبيها بشركة العنان وقال
أبو حنيفة لا يكون لأحدهما شيء
(2/254)
إلا أن يدخل في
الشركة وعمدتهم أن اسم المفاوضة يقتضي هذين
الأمرين أعني تساوي المالين وتعميم ملكهما.
القول في شركة الأبدان
وشركة الأبدان بالجملة عند أبي حنيفة
والمالكية جائزة ومنع منها الشافعي.
وعمدة الشافعية أن الشركة إنما تختص بالأموال
لا بالأعمال لأن ذلك لا ينضبط فهو غرر عندهم
إذ كان عمل كل واحد منهما مجهولا عند صاحبه.
وعمدة المالكية اشتراك الغانمين في الغنيمة
وهم إنما استحقوا ذلك بالعمل.
وما روي من أن ابن مسعود شارك سعدا يوم بدر
فأصاب سعد فرسين ولم يصب ابن مسعود شيئا فلم
ينكر النبي صلى الله عليه وسلم عليهما.
وأيضا فإن المضاربة إنما تنعقد على العمل فجاز
أن تنعقد عليه الشركة وللشافعي أن المفاوضة
خارجة عن الأصول فلا يقاس عليها وكذلك يشبه أن
يكون حكم الغنيمة خارجا عن الشركة ومن شرطها
عند مالك اتفاق الصنعتين والمكان وقال أبو
حنيفة تجوز مع اختلاف الصنعتين فيشترك عنده
الدباغ والقصار ولا يشتركان عند مالك.
وعمدة مالك زيادة الغرر الذي يكون عند اختلاف
الصنعتين أو اختلاف المكان.
وعمدة أبي حنيفة جواز الشركة على العمل.
القول في شركة الوجوه
وشركة الوجوه عند مالك والشافعي باطلة وقال
أبو حنيفة جائزة وهذه الشركة هي الشركة على
الذمم من غير صنعة ولا مال.
وعمدة مالك والشافعي أن الشركة إنما تتعلق على
المال أو على العمل وكلاهما معدومان في هذه
المسألة مع ما في ذلك من الغرر لأن كل واحد
منهما عاوض صاحبه بكسب غير محدود بصناعة ولا
عمل مخصوص وأبو حنيفة يعتمد أنه عمل من
الأعمال فجاز أن تنعقد عليه الشركة.
القول في أحكام الشركة الصحيحة
وهي من العقود الجائزة لا من العقود اللازمة
أي لأحد الشريكين أن
(2/255)
ينفصل من
الشركة متى شاء وهي عقد غير موروث ونفقتهما
وكسوتهما من مال الشركة إذا تقاربا في العيال
ولم يخرجا عن نفقة مثلهما ويجوز لأحد الشريكين
أن يبضع وأن يقارض وأن يودع إذا دعت إلى ذلك
ضرورة ولا يجوز له أن يهب شيئا من مال الشركة
ولا أن يتصرف فيه إلا تصرفا
يرى أنه نظر لهما.
وأما من قصر في شيء أو تعدى فهو ضامن مثل أن
يدفع مالا من التجارة فلا يشهد وينكره القابض
فإنه يضمن لأنه قصر إذ لم يشهد وله أن يقبل
الشيء المعيب في الشراء وإقرار أحد الشريكين
في مال لمن يتهم عليه لا يجوز وتجوز إقالته
وتوليته ولا يضمن أحد الشريكين ما ذهب من مال
التجارة باتفاق ولا يجوز للشريك المفاوض أن
يقارض غيره إلا بإذن شريكه ويتنزل كل واحد
منهما منزلة صاحبه فيما له وفيما عليه في مال
التجارة وفروع هذا الباب كثيرة.
(2/256)
|