بداية المجتهد ونهاية المقتصد ط الحلبي

 (بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما )
كتاب الشفعة
والنظر في الشفعة أولا في قسمين القسم الأول في تصحيح هذا الحكم وفي أركانه.
القسم الثاني في أحكامه.
(القسم الأول) فأما وجوب الحكم بالشفعة فالمسلمون متفقون عليه لما ورد في ذلك من الأحاديث الثابتة إلا ما يتأمل على من يرى لا بيع الشقص المشاع وأركانها أربعة الشافع والمشفوع عليه والمشفوع فيه وصفة الأخذ بالشفعة.
(الركن الأول) وهو الشافع ذهب مالك والشافعي وأهل المدينة إلى أن لا شفعة إلا للشريك ما لم يقاسم وقال أهل العراق الشفعة مرتبة فأولى الناس بالشفعة الشريك الذي لم يقاسم ثم الشريك المقاسم إذا بقيت في الطرق أو في الصحن شركة ثم الجار الملاصق وقال أهل المدينة لا شفعة للجار ولا للشريك المقاسم.
وعمدة أهل المدينة مرسل مالك عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وسعيد بن المسيب "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة فيما لم يقسم بين الشركاء فإذا وقعت الحدود بينهم فلا شفعة".

(2/256)


وحديث جابر أيضا "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة فيما لم يقسم فإذا وقعت الحدود فلا شفعة" خرجه مسلم والترمذي وأبو داود وكان أحمد بن حنبل يقول حديث معمر عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أصح ما روي في الشفعة.
وكان ابن معين يقول مرسل مالك أحب إلي إذ كان مالك إنما رواه عن ابن شهاب موقوفا وقد جعل قوم هذا الاختلاف على ابن شهاب في إسناده توهينا له وقد روي عن مالك في غير الموطأ عن ابن شهاب عن أبي هريرة ووجه استدلالهم من هذا الأثر ما ذكر فيه من أنه إذا وقعت الحدود فلا شفعة وذلك أنه إذا كانت الشفعة غير واجبة للشريك المقاسم فهي أحرى أن لا تكون واجبة للجار وأيضا فإن الشريك المقاسم هو جار إذا قاسم.
وعمدة أهل العراق حديث أبي رافع عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الجار أحق بصقبه" وهو حديث متفق عليه وخرج الترمذي وأبو داود عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: " جار الدار أحق بدار الجار" وصححه الترمذي ومن طريق المعنى لهم
أيضا أنه لما كانت الشفعة إنما المقصود منها دفع الضرر الداخل من الشركة وكان هذا المعنى موجودا في الجار وجب أن يلحق به ولأهل المدينة أن يقولوا وجود الضرر في الشركة أعظم منه في الجوار.
وبالجملة فعمدة المالكية أن الأصول تقتضي أن لا يخرج ملك أحد من يده إلا برضاه وأن من اشترى شيئا فلا يخرج من يده إلا برضاه حتى يدل الدليل على التخصيص وقد تعارضت الآثار في هذا الباب فوجب أن يرجح ما شهدت له الأصول ولكلا القولين سلف متقدم لأهل العراق من التابعين ولأهل المدينة من الصحابة.
(الركن الثاني) وهو المشفوع فيه اتفق المسلمون على أن الشفعة واجبة في الدور والعقار والأرضين كلها واختلفوا فيما سوى ذلك فتحصيل مذهب مالك أنها في ثلاثة أنواع أحدها مقصود وهو العقار من الدور والحوانيت والبساتين.
والثاني ما يتعلق بالعقار مما هو ثابت لا ينقل ولا يحول وذلك كالبئر ومحال النخل ما دام الأصل فيها على صفة تجب فيها الشفعة عنه وهو أن يكون الأصل الذي هو الأرض مشاعا بينه وبين شريكه غير مقسوم.
والثالث ما تعلق بهذه كالثمار وفيها عنه خلاف وكذلك كراء

(2/257)


الأرض للزرع وكتابة المكاتب.
واختلف عنه في الشفعة في الحمام والرحا وأما ما عدا هذا من العروض والحيوان فلا شفعة فيها عنده وكذلك لا شفعة عنده في الطريق ولا في عرصة الدار.
واختلف عنه في أكرية الدور وفي المساقاة وفي الدين هل يكون الذي عليه الدين أحق به وكذلك الذي عليه الكتابة وبه قال عمر بن عبد العزيز.
وروي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة في الدين" وبه قال أشهب من أصحاب مالك وقال ابن القاسم لا شفعة في الدين.
ولم يختلفا في إيجابها في الكتابة لحرمة العتق.
وفقهاء الأمصار على أن شفعة إلا في العقار فقط.
وحكي عن قوم أن الشفعة في البئر وفي كل شيء ما عدا المكيل والموزون ولم يجز أبو حنيفة الشفعة في البئر والفحل وأجازها في العرصة والطريق ووافق الشافعي مالكا في العرصة وفي الطريق وفي البئر وخالفاه جميعا في الثمار.
وعمدة الجمهور في قصر الشفعة على العقار ما ورد في الحديث الثابت من قوله عليه الصلاة والسلام "الشفعة فيما لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة" فكأنه قال الشفعة فيما تمكن فيه القسمة ما دام لم يقسم وهذا استدلال بدليل الخطاب وقد أجمع عليه في هذا الموضع فقهاء الأمصار مع اختلافهم في صحة الاستدلال به.
وأما عمدة من أجازها في كل شيء فما خرجه الترمذي عن ابن عباس "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الشريك شفيع والشفعة في كل شيء" ولأن معنى ضرر الشركة والجوار موجود في كل شيء وإن كان في العقار أظهر ولما لحظ هذا مالك أجرى ما يتبع العقار مجرى العقار.
واستدل أبو حنيفة على منع الشفعة في البئر بما روي " لا شفعة في بئر" ومالك حمل هذا الأثر على آبار الصحارى التي تعمل في الأرض الموات لا التي تكون في أرض متملكة.
(الركن الثالث) وأما المشفوع عليه فإنهم اتفقوا على أنه من انتقل إليه الملك بشراء من شريك غير مقاسم أو من جار عند من يرى الشفعة للجار.
واختلفوا فيمن انتقل إليه الملك بغير شراء فالمشهور عند مالك أن الشفعة إنما تجب إذا كان انتقال الملك بعوض كالبيع والصلح والمهر وأرش الجنايات وغير ذلك وبه قال الشافعي وعنه رواية ثانية أنها تجب بكل ملك انتقل

(2/258)


بعوض أو بغير عوض كالهبة لغير الثواب والصدقة ما عدا الميراث فإنه لا شفعة عند الجميع فيه باتفاق.
وأما الحنفية فالشفعة عندهم في المبيع فقط وعمدة الحنفية ظاهر الأحاديث وذلك أن مفهومها يقتضي أنها في المبيعات بل ذلك نص فيها لا في بعضها فلا بيع حتى يستأذن شريكه.
وأما المالكية فرأت أن كل ما انتقل بعوض فهو في معنى البيع ووجه الرواية الثانية أنها اعتبرت الضرر فقط.
وأما الهبة للثواب فلا شفعة فيها عند أبي حنيفة ولا الشافعي أما أبو حنيفة فلأن الشفعة عنده في المبيع وأما الشافعي فلأن هبة الثواب عنده باطلة وأما مالك فلا خلاف عنده وعند أصحابه في أن الشفعة فيها واجبة.
واتفق العلماء على أن المبيع الذي بالخيار أنه إذا كان الخيار فيه للبائع أن الشفعة لا تجب حتى يجب البيع.
واختلفوا إذا كان الخيار للمشتري فقال الشافعي والكوفيون الشفعة واجبة عليه لأن البائع قد صرم الشقص عن ملكه وأبانه منه وقيل إن الشفعة غير واجبة عليه لأنه غير ضامن وبه قال جماعة من أصحاب مالك.
واختلف في الشفعة في المساقاة وهي تبديل أرض بأرض فعن مالك في ذلك ثلاث روايات الجواز والمنع والثالث أن تكون المناقلة بين الأشراك أو الأجانب فلم يرها في الأشراك ورآها في الأجانب.
(الركن الرابع) في الأخذ بالشفعة والنظر في هذا الركن بماذا يأخذ الشفيع وكم يأخذ ومتى يأخذ فإنهم اتفقوا على أنه يأخذ في البيع بالثمن إن كان حالا واختلفوا إذا كان البيع إلى أجل هل يأخذه الشفيع بالثمن إلى ذلك الأجل أو يأخذ المبيع بالثمن حالا وهو مخير فقال مالك يأخذه بذلك الأجل إذا كان مليا أو يأتي بضامن مليء وقال الشافعي الشفيع مخير فإن عجل تعجلت الشفعة وإلا تتأخر إلى وقت الأجل وهو نحو قول الكوفيين وقال الثوري لا يأخذها إلا بالنقد لأنها قد دخلت في ضمان الأول قال ومنا من يقول تبقى في يد الذي باعها فإن بلغ الأجل أخذها الشفيع.
والذين رأوا الشفعة في سائر المعاوضات مما ليس ببيع فالمعلوم عنهم أنه يأخذ الشفعة بقيمة الشقص إن كان العوض مما ليس يتقدر مثل أن يكون معطى في خلع.
وأما أن يكون معطى في شيء

(2/259)


يتقدر ولم يكن دنانير ولا دراهم ولا بالجملة مكيلا ولا موزونا فإنه يأخذه بقيمة ذلك الشيء الذي دفع الشقص فيه وإن كان ذلك الشيء محدود القدر بالشرع أخذ ذلك الشقص بذلك القدر مثل أن يدفع الشقص في موضحة وجبت عليه أو منقلة فإنه يأخذه بدية الموضحة أو المنقلة.
وأما كم يأخذ.
فإن الشفيع لا يخلو أن يكون واحدا أو أكثر والمشفوع عليه أيضا لا يخلو أن يكون واحدا أو أكثر فأما أن الشفيع واحد والمشفوع عليه واحد فلا خلاف في أن الواجب على الشفيع أن يأخذ الكل أو يدع وأما إذا كان المشفوع عليه واحدا والشفعاء أكثر من واحد فإنهم اختلفوا من ذلك في موضعين أحدهما في كيفية قسمة المشفوع فيه بينهم.
والثاني إذا اختلفت أسباب شركتهم هل يحجب بعضهم بعضا عن الشفعة أم لا مثل أن يكون بعضهم شركاء في المال الذي ورثوه لأنهم أهل سهم واحد وبعضهم لأنهم عصبة.
(فأما المسألة الأولى) وهي كيفية توزيع المشفوع فيه فإن مالكا والشافعي وجمهور أهل المدينة يقولون إن المشفوع فيه يقتسمونه بينهم على قدر حصصهم فمن كان نصيبه من أصل المال الثلث مثلا أخذ من الشقص بثلث الثمن ومن كان نصيبه الربع أخذ الربع.
وقال الكوفيون هي على عدد الرؤوس على السواء وسواء في ذلك الشريك ذو وذو الحظ الأصغر.
وعمدة المدنيين أن الشفعة حق يستفاد وجوبه بالملك المتقدم فوجب أن يتوزع على مقدار الأصل أصله الأكرية في المستأجرات المشتركة والربح في شركة الأموال وأيضا فإن الشفعة إنما هي لإزالة الضرر والضرر داخل على كل واحد منهم على غير استواء لأنه إنما يدخل على كل واحد منهم بحسب حصته فوجب أن يكون استحقاقهم لدفعه على تلك النسبة.
وعمدة الحنفية أن وجوب الشفعة إنما يلزم بنفس الملك فيستوفي ذلك أهل الحظوظ المختلفة لاستوائهم في نفس الملك وربما شبهوا ذلك بالشركاء في العبد يعتق بعضهم نصيبه أنه يقوم على المعتقين على السوية أعني حظ من لم يعتق.
(وأما المسألة الثانية) فإن الفقهاء اختلفوا في دخول الأشراك الذين هم عصبة في الشفعة مع الأشراك الذين شركتهم من قبل السهم الواحد فقال مالك: أهل

(2/260)


السهم الواحد أحق بالشفعة إذا باع أحدهم من الأشراك معهم في المال من قبل التعصيب وأنه لا يدخل ذو العصبة في الشفعة على أهل السهام المقدرة ويدخل ذوو السهام على ذوي التعصيب مثل أن يموت ميت فيترك عقارا ترثه عنه بنتان وابنا عم ثم تبيع البنت الواحدة حظها فإن البنت الثانية عند مالك هي التي تشفع في ذلك الحظ الذي باعته أختها فقط دون ابني العم وإن باع أحد ابني العم نصيبه يشفع فيه البنات وابن العم الثاني وبهذا القول قال ابن القاسم.
وقال أهل الكوفة لا يدخل ذوو السهام على العصبات ولا العصبات على ذوي السهام ويتشافع أهل السهم الواحد فيما بينهم خاصة وبه قال أشهب.
وقال الشافعي في أحد قوليه يدخل ذوو السهام على العصبات والعصبات على ذوي السهام وهو الذي اختاره المزني وبه قال المغيرة من أصحاب مالك.
وعمدة مذهب الشافعي عموم قضائه صلى الله عليه وسلم بالشفعة بين الشركاء ولم يفصل ذوي السهم من عصبة.
ومن خصص ذوي السهام من العصبات فلأنه رأى الشركة مختلفة الأسباب أعني
بين ذوي السهام وبين العصبات فشبه الشركات المختلفة الأسباب بالشركات المختلفة من قبل محالها الذي هو المال بالقسمة بالأموال.
ومن أدخل ذوي السهام على العصبة ولم يدخل العصبة على ذوي السهام فهو استحسان على غير قياس ووجه الاستحسان أنه رأى أن ذوي السهام أقعد من العصبة.
وأما إذا كان المشفوع عليهما اثنين فأكثر فأراد الشفيع أن يشفع على أحدهما دون الثاني فقال ابن القاسم إما أن يأخذ الكل أو يدع وقال أبو حنيفة وأصحابه والشافعي له أن يشفع على أيهما أحب وبه قال أشهب فأما إذا باع رجلان شقصا من رجل فأراد الشفيع أن يشفع على أحدهما دون الثاني فإن أبا حنيفة منع ذلك وجوزه الشافعي.
وأما إذا كان الشافعون أكثر من واحد أعني الأشراك فأراد بعضهم أن يشفع ويسلم له الباقي في البيوع فالجمهور على أن للمشتري أن يقول للشريك إما أن تشفع في الجميع أو تترك وأنه ليس له أن يشفع بحسب حظه إلا أن يوافقه المشتري على ذلك وأنه ليس له أن يبعض الشفعة على المشتري إن لم يرض بتبعيضها.
وقال أصبغ من أصحاب مالك إن كان ترك بعضهم الأخذ بالشفعة رفقا بالمشتري لم يكن للشفيع إلا أن يأخذ حصته

(2/261)


فقط ولا خلاف في مذهب مالك أنه إذا كان بعض الشفعاء غائبا وبعضهم حاضرا فأراد الحاضر أن يأخذ حصته فقط أنه ليس له ذلك إلا أن يأخذ الكل أو يدع فإذا قدم الغائب فإن شاء أخذ وإن شاء ترك.
واتفقوا على أن من شرط الأخذ بالشفعة أن تكون الشركة متقدمة على البيع.
واختلفوا هل من شرطها أن تكون موجودة في حال البيع وأن تكون ثابتة قبل البيع (فأما المسألة الأولى) وهي إذا لم يكن شريكا في حال البيع وذلك يتصور بأن يكون يتراخى عن الأخذ بالشفعة بسبب من الأسباب التي لا يقطع له الأخذ بالشفعة حتى يبيع الحظ الذي كان به شريكا فروى أشهب أن قول مالك اختلف في ذلك فمرة قال له الأخذ بالشفعة ومرة قال ليس له ذلك واختار أشهب أنه لا شفعة له وهو قياس قول الشافعي والكوفيين لأن المقصود بالشفعة إنما هو إزالة الضرر من جهة الشركة وهذا ليس بشريك.
وقال ابن القاسم له الشفعة إذا كان قيامه في أثره لأنه يرى أن الحق الذي وجب له لم يرتفع ببيعه حظه.
(وأما المسألة الثانية) فصورتها أن يستحق إنسان شقصا في أرض قد بيع منها قبل وقت الاستحقاق شقص ما هل له أن يأخذ بالشفعة أم لا فقال قوم له ذلك لأنه وجبت له الشفعة بتقدم شركته قبل البيع ولا فرق في ذلك كانت يده عليه أو لم تكن وقال قوم لا تجب له الشفعة لأنه إنما ثبت له مال الشركة يوم الاستحقاق قالوا ألا ترى أنه لا يأخذ الغلة من المشتري فأما مالك فقال إن طال الزمان فلا شفعة وإن لم يطل ففيه الشفعة وهو استحسان.
وأما متى يأخذ وهل له الشفعة فإن الذي له الشفعة رجلان حاضر أو غائب.
فأما الغائب فأجمع العلماء على أن الغائب على شفعته ما لم يعلم ببيع شريكه.
واختلفوا إذا علم وهو غائب فقال قوم تسقط شفعته وقال قوم لا تسقط وهو مذهب مالك والحجة له ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث جابر أنه قال "الجار أحق بصقبه" أو قال "بشفعته ينتظر بها إذا كان غائبا" وأيضا فإن الغائب في الأكثر معوق عن الأخذ بالشفعة فوجب عذره.
وعمدة الفريق الثاني أن سكوته مع العلم قرينة تدل على رضاه بإسقاطها.
وأما الحاضر فإن الفقهاء اختلفوا

(2/262)


في وقت وجوب الشفعة له فقال الشافعي وأبو حنيفة هي واجبة له على الفور بشرط العلم وإمكان الطلب فإن علم وأمكن الطلب ولم يطلب بطلت شفعته إلا أن أبا حنيفة قال إن أشهد بالأخذ لم تبطل وإن تراخى.
وأما مالك فليست عنده على الفور بل وقت وجوبها متسع.
واختلف قوله في هذا الوقت هل هو محدود أم لا فمرة قال هو غير محدود وأنها لا تنقطع أبدا إلا أن يحدث المبتاع بناء أو تغييرا كثيرا بمعرفته وهو حاضر عالم ساكت ومرة حدد هذا الوقت فروي عنه السنة وهو الأشهر وقيل أكثر من سنة وقد قيل عنه أن الخمسة أعوام لا تنقطع فيها الشفعة.
واحتج الشافعي بما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال :" الشفعة كحل العقال" وقد روي الشافعي أن أمدها ثلاثة أيام.
وأما من لم يسقط الشفعة بالسكوت واعتمد على أن السكوت لا يبطل حق امرئ مسلم ما لم يظهر من قرائن أحواله ما يدل على إسقاطه وكان هذا أشبه بأصول الشافعي لأن عنده أنه ليس يجب أن ينسب إلى ساكت قول قائل وإن اقترنت به أحوال تدل على رضاه ولكنه فيما أحسب اعتمد الأثر.
فهدا هو القول في أركان الشفعة وشروطها المصححة لها وبقي القول في الأحكام.
القسم الثاني القول في أحكام الشفعة
وهذه الأحكام كثيرة ولكن نذكر منها ما اشتهر فيه الخلاف بين فقهاء الأمصار فمن ذلك اختلافهم في ميراث حق الشفعة فذهب الكوفيون إلى أنه لا يورث كما أنه لا يباع وذهب مالك والشافعي وأهل الحجاز إلى أنها موروثة قياسا على الأموال وقد تقدم.
سبب الخلاف في هذه المسائل في مسألة الرد بالعيب.
ومنها اختلافهم في عهدة الشفيع هل هي على المشتري أو على البائع فقال مالك والشافعي هي على المشتري وقال ابن أبي ليلى هي على البائع وعمدة مالك أن الشفعة إنما وجبت للشريك بعد حصول ملك المشتري وصحته فوجب أن تكون عليه العهدة.
وعمدة الفريق الآخر أن الشفعة إنما وجبت للشريك بنفس البيع فطروها على البيع فسخ له وعقد لها.
وأجمعوا على أن الإقالة لا تبطل الشفعة من رأى أنها بيع ومن رأى أنها

(2/263)


فسخ أعني الإقالة واختلف أصحاب مالك على من عهدة الشفيع في الإقالة فقال ابن القاسم على المشتري وقال أشهب هو مخير.
ومنها اختلافهم إذا أحدث المشتري بناء أو غرسا أو ما يشبه في الشقص قبل قيام الشفيع ثم قام الشفيع
بطلب شفعته فقال مالك لا شفعة إلا أن يعطي المشتري قيمة ما بنى وما غرس وقال الشافعي وأبو حنيفة هو متعد وللشفيع أن يعطيه قيمة بنائه مقلوعا أو يأخذه بنقضه.
والسبب في اختلافهم:
تردد تصرف المشفوع عليه العالم بوجوب الشفعة عليه بين شبهة تصرف الغاصب وتصرف المشتري الذي يطرأ عليه الاستحقاق وقد بني في الأرض وغرس وذلك أنه وسط بينهما فمن غلب عليه شبه الاستحقاق لم يكن له أن يأخذ القيمة ومن غلب عليه شبه التعدي قال له أن يأخذه بنقضه أو يعطيه قيمته منقوضا.
ومنها اختلافهم إذا اختلف المشتري والشفيع في مبلغ الثمن فقال المشتري اشتريت الشقص بكذا وقال الشفيع بل اشتريته بأقل ولم يكن لواحد منهما بينة فقال جمهور الفقهاء القول قول المشتري لأن الشفيع مدع والمشفوع عليه مدعى عليه.
وخالف في ذلك بعض التابعين فقالوا القول قول الشفيع لأن المشتري قد أقر له بوجوب الشفعة وادعى عليه مقدارا من الثمن لم يعترف له به.
وأما أصحاب مالك فاختلفوا في هذه المسألة فقال ابن القاسم القول قول المشتري إذا أتى بما يشبه باليمين فإن أتى بما لا يشبه فالقول قول الشفيع.
وقال أشهب إذا أتى بما يشبه فالقول قول المشتري بلا يمين وفيما لا يشبه باليمين.
وحكي عن مالك أنه قال إذا كان المشتري ذا سلطان يعلم بالعادة أنه يزيد في الثمن قبل قول المشتري بغير يمين وقيل إذا أتى المشتري بما لا يشبه رد الشفيع إلى القيمة وكذلك فيما أحسب إذا أتى كل واحد منهما بما لا يشبه واختلفوا إذا أتى كل واحد ببينة وتساوت العدالة فقال ابن القاسم يسقطان معا ويرجع إلى الأصل من أن القول قول المشتري مع يمينه.
وقال أشهب البينة بينة المشتري لأنها زادت علما.

(2/264)


(بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما )
كتاب القسمة
والأصل في هذا الكتاب قوله تعالى :{ وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى} وقوله {مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً} وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "أيما دار قسمت في الجاهلية فهي على قسم الجاهلية وأيما دار أدركها الإسلام ولم تقسم فهي على قسم الإسلام".
والنظر في هذا الكتاب في القاسم والمقسوم عليه والقسمة والنظر في القسمة في أبواب.
الباب الأول في أنواع القسمة الثاني في تعيين محل نوع نوع من أنواعها أعني ما يقبل القسمة وما لا يقبلها وصفة القسمة فيها وشروطها أعني فيما يقبل القسمة الثالث في معرفة أحكامها.
الباب الأول في أنواع القسمة
والنظر في القسمة ينقسم أولا إلى قسمين قسمة رقاب الأموال.
والثاني منافع الرقاب.
(القسم الأول من هذا الباب) فأما قسمة الرقاب التي لا تكال ولا توزن فتنقسم بالجملة إلى ثلاثة أقسام قسمة قرعة بعد تقويم وتعديل.
وقسمة مراضاة بعد تقويم وتعديل.
وقسمة مراضاة بغير تقويم ولا تعديل.
وأما ما يكال أو يوزن فبالكيل والوزن.
(القسم الثاني) وأما الرقاب فإنها تنقسم إلى ثلاثة أقسام ما لا ينقل ولا يحول وهي الرباع والأصول.
ما ينقل ويحول وهذان قسمان إما غير مكيل ولا موزون وهو الحيوان والعروض وإما مكيل أو موزون.
ففي هذا الباب ثلاثة فصول الأول في الرباع.
والثاني في العروض.
والثالث في المكيل والموزون.
الفصل الأول في الرباع
فأما الرباع والأصول فيجوز أن تقسم بالتراضي وبالسهمة إذا عدلت

(2/265)


بالقيمة اتفق أهل العلم على ذلك اتفاقا مجملا وإن كانوا اختلفوا في محل ذلك وشروطه والقسمة لا تخلو أن تكون في محل واحد أو في محال كثيرة فإذا كانت في محل واحد فلا خلاف في جوازها إذا انقسمت إلى أجزاء متساوية بالصفة ولم تنقص منفعة الأجزاء بالانقسام ويجيز الشركاء على ذلك.
وأما إذا انقسمت إلى ما لا منفعة فيه فاختلف في ذلك مالك وأصحابه فقال مالك إنها تنقسم بينهم إذا دعا أحدهم إلى ذلك ولو لم يصر لواحد منهم إلا ما لا منفعة فيه مثل قدر القدم وبه قال ابن كنانة من أصحابه فقط وهو قول أبي حنيفة والشافعي.
وعمدتهم في ذلك قوله تعالى :{ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً} وقال ابن القاسم لا يقسم إلا أن يصير لكل واحد في حظه ما ينتفع به من غير مضرة داخلة عليه في الانتفاع من قبل القسمة وإن كان لا يراعى في ذلك نقصان الثمن.
وقال ابن الماجشون يقسم إذا صار لكل واحد منهم ما ينتفع به وإن كان من غير جنس المنفعة التي كانت في الاشتراك أو كانت أقل.
وقال مطرف من أصحابه إن لم يصر في حظ كل واحد ما ينتفع به لم يقسم وإن صار في حظ بعضهم ما ينتفع به وفي حظ بعضهم ما لا ينتفع به قسم وجبروا على ذلك سواء دعا إلى ذلك صاحب النصيب القليل أو الكثير وقيل يجبر إن دعا صاحب النصيب القليل ولا يجبر إن دعا صاحب النصيب الكثير وقيل بعكس هذا وهو ضعيف.
واختلفوا من هذا الباب فيما إذا قسم انتقلت منفعته إلى منفعة أخرى مثل الحمام.
فقال مالك يقسم إذا طلب ذلك أحد الشريكين وبه قال أشهب وقال ابن القاسم لا يقسم وهو قول الشافعي.
فعمدة من منع القسمة قوله صلى الله عليه وسلم " لا ضرر ولا ضرار" وعمدة من رأى القسمة قوله تعالى :{مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً} ومن الحجة لمن لم ير القسمة حديث جابر عن أبيه " لا تعضية على أهل الميراث إلا ما حمل القسم".
والتعضية التفرقة يقول لا قسمة بينهم.
وأما إذا كان الرباع أكثر من واحد فإنها لا تخلو أيضا أن تكون من نوع واحد أو مختلفة الأنواع فإذا كانت متفقة الأنواع فإن فقهاء الأمصار في ذلك مختلفون فقال مالك إذا كانت متفقة الأنواع قسمت بالتقويم والتعديل والسهمة وقال أبو حنيفة والشافعي بل يقسم كل عقار على حدته

(2/266)


فعمدة مالك أنه أقل للضرر الداخل على الشركاء من القسمة.
وعمدة الفريق الثاني أن كل عقار تعينه بنفسه لأنه تتعلق به الشفعة.
واختلف أصحاب مالك إذا اختلفت الأنواع المتفقة في النفاق وإن تباعدت مواضعها على ثلاثة أقوال وأما إذا كانت الرباع مختلفة مثل أن يكون منها دور ومنها حوائط ومنها أرض فلا خلاف أنه لا يجمع في القسمة بالسهمة.
ومن شرط قسمة الحوائط المثمرة أن لا تقسم مع الثمرة إذا بدأ صلاحها باتفاق في المذهب لأنه يكون بيع الطعام بالطعام على رؤوس الثمر وذلك مزابنة.
وأما قسمتها قبل بدو الصلاح ففيه اختلاف بين أصحاب مالك أما ابن القاسم فلا يجيز ذلك قبل الإبار بحال من الأحوال ويعتل لذلك لأنه يؤدي إلى بيع طعام بطعام متفاضلا ولذلك زعم أنه لم يجز مالك شراء الثمر الذي لم يطب بالطعام لا نسيئه ولا نقدا وأما إن كان بعد الإبار فإنه لا يجوز عنده إلا بشرط أن يشترط أحدهما على الآخر أن ما وقع من الثمر في نصيبه فهو داخل في القسمة وما لم يدخل في نصيبه فهم فيه على الشركة.
والعلة في ذلك عنده أنه يجوز اشتراط المشتري الثمر بعد الإبار ولا يجوز قبل الإبار فكأن أحدهما اشترى حظ صاحبه من جميع الثمرات التي وقعت له في القسمة بحظه من الثمرات التي وقعت لشريكه واشترط الثمر.
وصفة القسم بالقرعة أن تقسم الفريضة وتحقق وتضرب إن كان في سهامهم كسر إلى أن تصح السهام ثم يقوم كل موضع منها وكل نوع من غراساتها ثم يعدل على أقل السهام بالقيمة فربما عدل جزء من موضع ثلاثة أجزاء من موضع آخر على قيم الأرضين ومواضعها فإذا قسمت على هذه الصفات وعدلت كتبت في بطائق أسماء الأشراك وأسماء الجهات فمن خرج اسمه في جهة أخذ منها وقيل يرمى بالأسماء في الجهات فمن خرج اسمه في جهة أخذ منها فإن كان أكثر من ذلك السهم ضوعف له حتى يتم حظه فهذه هي حال قرعة السهم في الرقاب.
والسهمة إنما جعلها الفقهاء في القسمة تطيبا لنفوس المتقاسمين وهي قوما في الشرع في مواضع منها قوله تعالى :{فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} وقوله { وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} ومن ذلك الأثر الثابت الذي جاء فيه "أن رجلا أعتق ستة أعبد عند موته فأسهم رسول الله صلى الله عليه

(2/267)


وسلم بينهم فأعتق ثلث ذلك الرقيق".
وأما القسمة بالتراضي سواء أكانت بعد تعديل وتقويم أو بغير تقويم وتعديل فتجوز في الرقاب المتفقة والمختلفة لأنه بيع من البيوع وإنما يحرم فيها ما يحرم في البيوع.
الفصل الثاني في العروض
وأما الحيوان والعروض فاتفق الفقهاء على أنه لا يجوز قسمة واحد منهما للفساد الداخل في
ذلك.
واختلفوا إذا تشاح الشريكان في العين الواحدة منهما ولم يتراضيا بالانتفاع بها على الشياع وأراد أحدهما أن يبيع صاحبه معه فقال مالك وأصحابه يجبر على ذلك فإن أراد أحدهما أن يأخذه بالقيمة التي أعطي فيها أخذه وقال أهل الظاهر لا يجبر لأن الأصول تقتضي أن لا يخرج ملك أحد من يده إلا بدليل من كتاب أو سنة أو إجماع.
وحجة مالك أن في ترك الإجبار ضررا وهذا من باب القياس المرسل وقد قلنا في غير ما موضع إنه ليس يقول به أحد من فقهاء الأمصار إلا مالك ولكنه كالضروري في بعض الأشياء.
وأما إذا كانت العروض أكثر من جنس واحد فاتفق العلماء على قسمتها على التراضي واختلفوا في قسمتها بالتعديل والسهمة فأجازها مالك وأصحابه في الصنف الواحد ومنع من ذلك عبد العزيز بن أبي سلمة وابن الماجشون.
واختلف أصحاب مالك في تمييز الصنف الواحد الذي تجوز فيه السهمة من التي لا تجوز فاعتبره أشهب بما لا يجوز تسليم بعضه في بعض.
وأما ابن القاسم فاضطرب فمرة أجاز القسم بالسهمة فيما لا يجوز تسليم بعضه في بعض فجعل القسمة أخف من السلم ومرة منع القسمة فيما منع فيه السلم وقد قيل إن مذهبه أن القسمة في ذلك أخف وأن مسائله التي يظن من قبلها أن القسمة عنده أشد من السلم تقبل التأويل على أصله الثاني.
وذهب ابن حبيب إلى أنه يجمع في القسمة ما تقارب من الصنفين مثل الخز والحرير والقطن والكتان.
وأجاز أشهب جمع صنفين في القسمة بالسهمة مع التراضي وذلك ضعيف لأن الغرر لا يجوز بالتراضي.

(2/268)


الفصل الثالث في معرفة أحكامها
فأما المكيل والموزون فلا تجوز في القرعة باتفاق إلا ما حكى اللخمي والمكيل أيضا لا يخلو أن يكون صبرة واحدة أو صبرتين فزائدا فإن كان صنفا واحد فلا يخلو أن تكون قسمته على الاعتدال بالكيل أو الوزن إذا دعا إلى ذلك أحد الشريكين ولا خلاف في جواز قسمته على التراضي على التفضيل البين كان ذلك من الربوي أو من غير الربوي أعني الذي لا يجوز فيه التفاضل ويجوز ذلك بالكيل المعلوم والمجهول ولا يجوز قسمته جزافا بغير كيل ولا وزن.
وأما إن كانت قسمته تحريا فقيل لا يجوز في المكيل ويجوز في الموزون ويدخل في ذلك من الخلاف ما يدخل في جواز بيعه تحريا وأما إن لم يكن ذلك من صبرة واحدة وكانا صنفين فإن كان ذلك مما لا يجوز فيه التفاضل فلا تجوز قسمتها على جهة الجمع إلا بالكيل المعلوم فيما يكال وبالوزن بالصنجة المعروفة فيما يوزن لأنه إذا كان بمكيال مجهول لم يدر كم يحصل فيه من الصنف الواحد إذا كانا مختلفين من الكيل المعلوم وهذا كله على مذهب مالك لأن أصل مذهبه أنه يحرم التفاضل في الصنفين إذا تقاربت منافعهما مثل القمح والشعير وأما إن كان مما يجوز فيه التفاضل فيجوز قسمته على الاعتدال والتفاضل البين المعروف بالمكيال المعروف أو
الصنجة المعروفة أعني على جهة الجمع وإن كانا صنفين وهذا الجواز كله في المذهب على جهة الرضا.
وأما في واجب الحكم فلا تنقسم كل صبرة إلا على حدة وإذا قسمت كل صبرة على حدة جازت قسمتها بالمكيال المعلوم والمجهول فهذا كله هو حكم القسمة التي تكون في الرقاب.
القول في القسم الثاني وهو قسمة المنافع
فأما قسمة المنافع فإنها لا تجوز بالسهمة على مذهب ابن القاسم ولا يجبر عليها من أباها ولا تكون القرعة على قسمة المنافع.
وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنه يجبر على قسمة المنافع وقسمة المنافع هي عند الجميع بالمهايأة وذلك إما بالأزمان وإما بالأعيان.
أما قسمة المنافع بالأزمان فهو أن ينتفع

(2/269)


كل واحد منهما بالعين مدة مساوية لمدة انتفاع صاحبه.
وأما قسم الأعيان بأن يقسما الرقاب على أن ينتفع كل واحد منهما بما حصل له مدة محدودة والرقاب باقية على أصل الشركة.
وفي المذهب في قسمة المنافع بالزمان اختلاف في تحديد المدة التي تجوز فيها القسمة لبعض المنافع دون بعض للاغتلال أو الانتفاع مثل استخدام العبد وركوب الدابة وزراعة الأرض وذلك أيضا فيما ينقل ويحول أو لا ينقل ولا يحول.
فأما فيما ينقل ويحول فلا يجوز عند مالك وأصحابه في المدة الكثيرة ويجوز في المدة اليسيرة وذلك في الاغتلال والانتفاع.
وأما فيما لا ينقل ولا يحول فيجوز في المدة البعيدة والأجل البعيد وذلك في الاغتلال والانتفاع.
واختلفوا في المدة اليسيرة فيما ينقل ويحول في الاغتلال فقيل اليوم الواحد ونحوه وقيل لا يجوز ذلك في الدابة والعبد.
وأما الاستخدام فقيل يجوز في مثل الخمسة الأيام وقيل في الشهر وأكثر من الشهر قليلا.
وأما التهايؤ في الأعيان بأن يستعمل هذا دارا مدة من الزمان وهذا دارا تلك المدة بعينها فقيل يجوز في سكني الدار وزراعة الأرضين ولا يجوز ذلك في الغلة والكراء إلا في الزمان اليسير وقيل يجوز على قياس التهايؤ بالأزمان وكذلك القول في استخدام العبد والدواب يجري القول فيه على الاختلاف في قسمتها بالزمان.
فهذا هو القول في أنواع القسمة في الرقاب وفي المنافع وفي الشروط المصححة والمفسدة.
وبقي من هذا الكتاب القول في الأحكام.
القول في الأحكام
والقسمة من العقود اللازمة لا يجوز للمتقاسمين نقضها ولا الرجوع فيها إلا بالطوارئ عليها.
والطوارئ ثلاثة غبن أو وجود عيب أو استحقاق.
فأما الغبن فلا يوجب الفسخ إلا في قسمة القرعة باتفاق في المذهب إلا على قياس من يرى له تأثيرا في البيع فيلزم على مذهبه أن يؤثر في القسمة.
وأما الرد بالعيب فإنه لا يخلو على مذهب ابن القاسم أن يجد العيب في جل نصيبه أو في أقله فإن وجده في جل نصيبه فإنه لا يخلو أن يكون النصيب الذي حصل لشريكه قد فات أو لم يفت فإن كان قد فات رد الواجد للعيب نصيبه على الشركة وأخذ من شريكه نصف قيمة نصيبه يوم قبضه وإن كان

(2/270)


لم يفت انفسخت القسمة وعادت الشركة إلى أصلها وإن كان العيب في أقل ذلك رد ذلك الأقل على أصل الشركة فقط سواء فات نصيب صاحبه أو لم يفت ورجع على شريكه بنصف قيمة الزيادة ولا يرجع في شيء مما في يده وإن كان قائما بالعيب.
وقال أشهب والذي يفيت الرد قد تقدم في كتاب البيوع.
وقال عبد العزيز بن الماجشون وجود العيب يفسخ القسمة التي بالقرعة ولا يفسخ التي بالتراضي لأن التي بالتراضي هي بيع.
وأما التي بالقرعة فهي تمييز حق وإذا فسخت بالغبن وجب أن تفسخ بالرد بالعيب.
وحكم الاستحقاق عند ابن القاسم حكم وجود العيب إن كان المستحق كثيرا وحظ الشريك لم يفت رجع معه شريكا فيما في يديه وإن كان قد فات رجع عليه بنصف قيمة ما في يديه وإن كان يسيرا رجع عليه بنصف قيمة ذلك الشيء.
وقال محمد إذا استحق ما في يد أحدهما بطلت القسمة في قسمة القرعة لأنه قد تبين أن القسمة لم تقع على عدل كقول ابن الماجشون في العيب.
وأما إذا طرأ على المال حق فيه مثل طوارئ الدين على التركة بعد القسمة أو طرو الوصية أو طرو وارث فإن أصحاب مالك اختلفوا في ذلك.
فأما إن طرأ الدين قيل في المشهور في المذهب وهو قول ابن القاسم إن القسمة تنتقض إلا أن يتفق الورثة على أن يعطوا الدين من عندهم وسواء أكانت حظوظهم باقية بأيديهم أو لم تكن هلكت بأمر من السماء أو لم تهلك.
وقد قيل أيضا إن القسمة إنما تنتقض بيد من بقي في يده حظه ولم تهلك بأمر من السماء وأما من هلك حظه بأمر من السماء فلا يرجع عليه بشيء من الدين ولا يرجع هو على الورثة بما بقي بأيديهم بعد أداء الدين وقيل بل تنتقض القسمة ولا بد لحق الله تعالى لقوله:{ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} وقيل بل تنتقض إلا في حق من أعطي منه ما ينوي به من الدين وهكذا الحكم في طرو الموصى له على الورثة.
وأما طرو الوارث على الشركة بعد القسمة وقبل أن يفوت حظ كل واحد منهم فلا تنتقض القسمة وأخذ من كل واحد حظه إن كان ذلك مكيلا أو موزونا وإن كان حيوانا أو عروضا انتقضت القسمة.
وهل يضمن كل واحد منهم ما تلف في يده بغير سبب منه فقيل يضمن وقيل لا يضمن.

(2/271)


(بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما )
كتاب الرهون
والأصل في هذا الكتاب قوله تعالى :{وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} والنظر في هذا الكتاب في الأركان وفي الشروط وفي الأحكام والأركان هي النظر في الراهن والمرهون والمرتهن والشيء الذي فيه الرهن وصفة عقد الرهن.
(الركن الأول) فأما الراهن فلا خلاف أن من صفته أن يكون غير محجور عليه من أهل السداد والوصي يرهن لمن يلي النظر عليه إذا كان ذلك سدادا ودعت إليه الضرورة عند مالك.
وقال الشافعي يرهن لمصلحة ظاهرة ويرهن المكاتب والمأذون عند مالك.
قال سحنون فإن ارتهن في مال أسلفه لم يجز وبه قال الشافعي.
واتفق مالك والشافعي على أن المفلس لا يجوز رهنه وقال أبو حنيفة يجوز واختلف قول مالك في الذي أحاط الدين بماله هل يجوز رهنه أعني هل يلزم أم لا يلزم فالمشهور عنه أنه يجوز أعني قبل أن يفلس.
والخلاف آيل إلى هل المفلس محجور عليه أم لا وكل من صح أن يكون راهنا صح أن يكون مرتهنا.
(الركن الثاني) وهو الرهن قالت الشافعية يصح بثلاثة شروط الأول أن يكون عينا فإنه لا يجوز أن يرهن الدين.
الثاني أن لا يمتنع إثبات يد الراهن على المرتهن عليه كالمصحف ومالك يجيز رهن المصحف ولا يقرأ فيه المرتهن والخلاف مبني على البيع.
الثالث أن تكون العين قابلة للبيع عند حلول الأجل ويجوز عند مالك أن يرتهن ما لا يحل بيعه في وقت الارتهان كالزرع والثمر لم يبد صلاحه ولا يباع عنده في أداء الدين إلا إذا بدا صلاحه وإن حل أجل الدين وعن الشافعي قولان في رهن الثمر الذي لم يبد صلاحه ويباع عنده عند حلول الدين على شرط القطع قال أبو حامد
والأصح جوازه ويجوز عند مالك رهن ما لم يتعين كالدنانير والدراهم إذا طبع عليها وليس من شرط الرهن أن يكون ملكا للراهن لا عند مالك ولا عند الشافعي

(2/272)


بل قد يجوز عندهما أن يكون مستعارا.
واتفقوا على أن من شرطه أن يكون إقراره في يد المرتهن من قبل الراهن.
واختلفوا إذا كان قبض المرتهن له بغصب ثم أقره المغصوب منه في يده رهنا فقال مالك يصح أن ينقل الشيء المغصوب من ضمان الغصب إلى ضمان الرهن فيجعل المغصوب منه الشيء المغصوب رهنا في يد الغاصب قبل قبضه منه وقال الشافعي لا يجوز بل يبقى على ضمان الغصب إلا أن يقبضه.
واختلفوا في رهن المشاع فمنعه أبو حنيفة وأجازه مالك والشافعي والسبب في الخلاف هل تمكن حيازة المشاع أم لا تمكن الركن الثالث وهو الشيء المرهون فيه وأصل مذهب مالك في هذا أنه يجوز أن يؤخذ الرهن في جميع الأثمان الواقعة في جميع البيوعات إلا الصرف ورأس المال في السلم المتعلق بالذمة وذلك لأن الصرف من شرطه التقابض.
فلا يجوز فيه عقدة الرهن وكذلك رأس مال السلم وإن كان عنده دون الصرف في هذا المعنى.
وقال قوم من أهل الظاهر لا يجوز أخذ الرهن إلا في السلم خاصة أعني في المسلم فيه وهؤلاء ذهبوا إلى ذلك لكون آية الرهن واردة في الدين في المبيعات وهو السلم عندهم فكأنهم جعلوا هذا شرطا من شروط صحة الرهن لأنه قال في أول آية { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} ثم قال {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ } فعلى مذهب مالك يجوز أخذ الرهن في السلم وفي القرض وفي الغصب وفي قيم المتلفات وفي أروش الجنايات في الأموال وفي جراح العمد الذي لا قود فيه كالمأمومة والجائفة.
وأما قتل العمد والجراح التي
يقاد منها فيتخرج في جواز أخذ الرهن في الدية فيها إذا عفا الولي قولان أحدهما أن ذلك يجوز وذلك على القول بأن الولي مخير في العمد بين الدية والقود.
والقول الثاني أما ذلك لا يجوز وذلك أيضا مبني على أن ليس للولي إلا القود فقط إذا أبى الجاني من إعطاء الدية.
ويجوز في قتل الخطأ أخذ الرهن ممن يتعين من العاقلة وذلك بعد الحلول ويجوز في العارية التي تضمن ولا يجوز فيما لا يضمن ويجوز أخذه في الإجارات

(2/273)


ويجوز في الجعل بعد العمل ولا يجوز قبله ويجوز الرهن في المهر ولا يجوز في الحدود ولا في القصاص ولا في الكتابة وبالجملة فيما لا تصح فيه الكفالة.
وقالت الشافعية المرهون فيه له شرائط ثلاث أحدها أن يكون دينا فإنه لا يرهن في عين.
والثاني أن يكون واجبا فإنه لا يرهن قبل الوجوب مثل أن يسترهنه بما يستقرضه ويجوز ذلك عند مالك.
والثالث أن لا يكون لزمه متوقعا أن يجب وأن لا يجب كالرهن في الكتابة وهذا المذهب قريب من مذهب مالك.
القول في الشروط
وأما شروط الرهن فالشروط المنطوق بها في الشرع ضربان شروط صحة وشروط فساد.
فأما شروط الصحة المنطوق بها في الرهن أعني في كونه رهنا فشرطان أحدهما متفق عليه بالجملة ومختلف في الجهة التي هو بها شرط وهو القبض.
والثاني مختلف في اشتراطه.
فأما القبض فاتفقوا بالجملة على أنه شرط في الرهن لقوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} واختلفوا هل هو شرط تمام أو شرط صحة وفائدة الفرق أن من قال شرط صحة قال ما لم يقع القبض لم يلزم الرهن الراهن ومن قال شرط تمام قال يلزم العقد ويجبر الراهن على الإقباض إلا أن يتراخى المرتهن عن المطالبة حتى يفلس الراهن أو يمرض أو يموت فذهب مالك إلى أنه من شروط التمام وذهب أبو حنيفة والشافعي وأهل الظاهر إلى أنه من شروط الصحة.
وعمدة مالك قياس الرهن على سائر العقود اللازمة بالقول.
وعمدة الغير قوله تعالى :{فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} وقال بعض أهل الظاهر لا يجوز الرهن إلا أن لا يكون هنالك كاتب لقوله تعالى:ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة ولا يجوز أهل الظاهر أن يوضع الرهن على يدي عدل وعند مالك أن من شرط صحة الرهن استدامة القبض وأنه متى عاد إلى يد الراهن بإذن المرتهن بعارية أو وديعة أو غير ذلك فقد خرج من اللزوم.
وقال الشافعي ليس استدامة القبض من شرط الصحة فمالك عمم الشرط على ظاهره فألزم من قوله تعالى :{فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} وجود القبض واستدامته.
والشافعي يقول إذا وجد القبض فقد صح الرهن وانعقد فلا يحل ذلك

(2/274)


إعارته ولا غير ذلك من التصرف فيه كالحال في البيع وقد كان الأولى بمن يشترط القبض في صحة العقد أن يشترط الاستدامة ومن لم يشترطه في الصحة أن لا يشترط الاستدامة.
واتفقوا على جوازه في السفر.
واختلفوا في الحضر فذهب الجمهور إلى جوازه.
وقال أهل الظاهر و مجاهد لا يجوز في الحضر لظاهر قوله تعالى :{ وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ} الآية.
وتمسك الجمهور بما ورد من "أنه صلى الله عليه وسلم رهن في الحضر" والقول في استنباط منع الرهن في الحضر من الآية هو من باب دليل الخطاب.
وأما الشرط المحرم الممنوع بالنص فهو أن يرهن الرجل رهنا على أنه إن جاء بحقه عند أجله وإلا فالرهن له فاتفقوا على أن هذا الشرط يوجب الفسخ وأنه معنى قوله عليه الصلاة والسلام "لا يغلق الرهن".
القول في الجزء الثالث من هذا الكتاب
وهو القول في الأحكام وهذا الجزء ينقسم إلى معرفة ما للراهن من الحقوق في الرهن وما عليه وإلى معرفة ما للمرتهن في الرهن وما عليه وإلى معرفة اختلافهما في ذلك وذلك إما من نفس العقد وإما لأمور طارئة على الرهن ونحن نذكر من ذلك ما اشتهر الخلاف فيه بين فقهاء الأمصار والاتفاق.
أما حق المرتهن في الرهن فهو أن يمسكه حتى يؤدي الراهن ما عليه فإن لم يأت به عند الأجل كان له أن يرفعه إلى السلطان فيبيع عليه الرهن وينصفه منه إن لم يجبه الراهن إلى البيع وكذلك إن كان غائبا.
وإن وكل الراهن المرتهن على بيع الرهن عند حلول الأجل جاز وكرهه مالك إلا أن يرفع الأمر إلى السلطان.
والرهن عند الجمهور يتعلق بجملة الحق المرهون فيه وببعضه أعني أنه إذا رهنه في عدد ما فأدى منه بعضه فإن الرهن بأسره يبقى بعد بيد المرتهن حتى يستوفي حقه وقال قوم بل يبقى من الرهن بيد المرتهن بقدر ما يبقى من الحق وحجة الجمهور أنه محبوس بحق فوجب أن يكون محبوسا بكل جزء منه أصله حبس التركة على الورثة حتى يؤدوا الدين الذي على الميت وحجة الفريق الثاني أن جميعه محبوس بجميعه فوجب أن يكون أبعاضه محبوسة بأبعاضه أصله الكفالة.

(2/275)


ومن مسائل هذا الباب المشهورة اختلافهم في نماء الرهن المنفصل مثل الثمرة في الشجر المرهون ومثل الغلة ومثل الولد هل يدخل في الرهن أم لا فذهب قوم إلى أن نماء الرهن المنفصل لا يدخل شيء منه في الرهن أعني الذي يحدث منه في يد المرتهن وممن قال بهذا القول الشافعي وذهب آخرون إلى أن جميع ذلك يدخل في الرهن وممن قال بهذا القول أبو حنيفة والثوري وفرق مالك فقال ما كان من نماء الرهن المنفصل على خلقته وصورته فإنه داخل في الرهن كولد الجارية مع الجارية وأما ما لم يكن على خلقته فإنه لا يدخل في الرهن كان متولدا عنه كثمر النخل أو غير متولد ككراء الدار وخراج الغلام.
وعمدة من رأى أن نماء الرهن وغلته للراهن قوله عليه الصلاة والسلام "الرهن محلوب ومركوب" قالوا ووجه الدليل من ذلك أنه لم يرد بقوله مركوب ومحلوب أي يركبه الراهن ويحلبه لأنه كان يكون غير مقبوض وذلك مناقض لكونه رهنا فإن الرهن من شرطه القبض قالوا ولا يصح أيضا أن يكون معناه أن المرتهن يحلبه ويركبه فلم يبق إلا
أن يكون المعنى في ذلك أن أجرة ظهره لربه ونفقته عليه.
واستدلوا أيضا بعموم قوله عليه الصلاة والسلام " الرهن ممن رهنه له غنمه وعليه غرمه" قالوا ولأنه نماء زائد على ما رضيه رهنا فوجب أن لا يكون له إلا بشرط زائد.
وعمدة أبي حنيفة أن الفروع تابعة للأصول فوجب لها حكم الأصل ولذلك حكم الولد تابع لحكم أمه في التدبير والكتابة وأما مالك فاحتج بأن الولد حكمه حكم أمه في البيع أي هو تابع لها وفرق بين الثمر والولد في ذلك بالسنة المفرقة في ذلك وذلك أن الثمر لا يتبع بيع الأصل إلا بالشرط وولد الجارية يتبع بغير شرط.
والجمهور على أن ليس للمرتهن أن ينتفع بشيء من الرهن وقال قوم إذا كان الرهن حيوانا فللمرتهن أن يحلبه ويركبه بقدر ما يعلفه وينفق عليه وهو قول أحمد وإسحاق واحتجوا بما وراء أبو هريرة عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال :" الرهن محلوب ومركوب".
ومن هذا الباب اختلافهم في الرهن يهلك عند المرتهن ممن ضمانه فقال قوم الرهن أمانة وهو من الراهن والقول قول المرتهن مع يمينه أنه ما فرط فيه وما جنى عليه وممن قال بهذا القول الشافعي وأحمد وأبو ثور وجمهور أهل الحديث وقال

(2/276)


قوم الرهن من المرتهن ومصيبته منه وممن قال بهذا القول أبو حنيفة وجمهور الكوفيين.
والذين قالوا بالضمان انقسموا قسمين فمنهم من رأى أن الرهن مضمون بالأقل من قيمته أو قيمة الدين وبه قال أبو حنيفة وسفيان وجماعة.
ومنهم من قال هو مضمون بقيمته قلت أو كثرت.
وأنه إن فضل للراهن شيء فوق دينه أخذه من المرتهن وبه قال علي بن أبي طالب وعطاء وإسحاق.
وفرق قوم بين ما لا يغاب عليه مثل الحيوان والعقار مما لا يخفى هلاكه وبين ما يغاب عليه من العروض فقالوا هو ضامن فيما يغاب عليه ومؤتمن فيما لا يغاب عليه.
وممن قال بهذا القول مالك والأوزاعي وعثمان البتي إلا أن مالكا يقول إذا شهد الشهود بهلاك ما يغاب عليه من غير تضييع ولا تفريط.
فإنه لا يضمن وقال الأوزاعي وعثمان البتي بل يضمن على كل حال قامت بينة أو لم تقم ويقول مالك قال ابن القاسم.
ويقول عثمان والأوزاعي قال أشهب.
وعمدة من جعله أمانة غير مضمون حديث سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" لا يغلق الرهن وهو ممن رهنه له غنمه وعليه غرمه" أي له غلته وخراجه.
وعليه افتكاكه ومصيبته منه.
قالوا وقد رضي الراهن أمانته فأشبه المودع عنده.
وقال المزني من أصحاب الشافعي محتجا له قد قال مالك ومن تابعه إن الحيوان وما ظهر هلاكه أمانة فوجب أن يكون كله كذلك.
وقد قال أبو حنيفة إن ما زاد من قيمة الرهن على قيمة الدين فهو أمانة فوجب أن يكون كله أمانة ومعنى قوله عليه الصلاة والسلام عند مالك ومن قال بقوله "وعليه غرمه" أي نفقته.
قالوا ومعنى ذلك قوله عليه الصلاة والسلام "الرهن مركوب ومحلوب" أي أجرة ظهره لربه.
ونفقته عليه.
وأما أبو حنيفة وأصحابه
فتأولوا قوله عليه الصلاة والسلام "له غنمه وعليه غرمه " أن غنمه ما فضل منه على الدين.
وغرمه ما نقص.
وعمدة من رأى أنه مضمون من المرتهن أنه عين تعلق بها حق الاستيفاء ابتداء فوجب أن تسقط بتلفه أصله تلف المبيع عند البائع إذا أمسكه حتى يستوفي الثمن وهذا متفق عليه من الجمهور وإن كان عند مالك كالرهن وربما احتجوا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا ارتهن فرسا من رجل فنفق في يده فقال عليه الصلاة والسلام"للمرتهن: ذهب حقك".
وأما تفريق مالك بين ما يغاب

(2/277)


عليه وبين ما لا يغاب عليه فهو استحسان ومعنى ذلك أن التهمة تلحق فيما يغاب عليه ولا تلحق فيما لا يغاب عليه.
وقد اختلفوا في معنى الاستحسان الذي يذهب إليه مالك كثيرا فضعفه قوم وقالوا إنه مثل استحسان أبي حنيفة وحددوا الاستحسان بأنه قول بغير دليل.
ومعنى الاستحسان عند مالك هو جمع بين الأدلة المتعارضة وإذا كان ذلك كذلك فليس هو قول بغير دليل.
والجمهور على أنه لا يجوز للراهن بيع الرهن ولا هبته.
وأنه إن باعه فللمرتهن الإجازة أو الفسخ.
قال مالك وإن زعم أن إجازته ليتعجل حقه حلف على ذلك وكان له.
وقال قوم يجوز بيعه.
وإذا كان الرهن غلاما أو أمة فأعتقها الراهن فعند مالك أنه إن كان الراهن موسرا جاز عتقه وعجل للمرتهن حقه وإن كان معسرا بيعت وقضى الحق من ثمنها.
وعند الشافعي ثلاثة أقوال الرد والإجازة والثالث مثل قول مالك.
وأما اختلاف الراهن والمرتهن في قدر الحق الذي وجب به الرهن فإن الفقهاء اختلفوا في ذلك فقال مالك القول قول المرتهن فيما ذكره من قدر الحق ما لم تكن قيمة الرهن أقل من ذلك فما زاد على قيمة الرهن فالقول قول الراهن.
وقال الشافعي وأبو حنيفة والثوري وجمهور فقهاء الأمصار القول في قدر الحق قول الراهن.
وعمدة الجمهور أن الراهن مدعى عليه والمرتهن مدع فوجب أن تكون اليمين على الراهن على ظاهر السنة المشهورة.
وعمدة مالك ههنا أن المرتهن وإن كان مدعيا فله ههنا شبهة بنقل اليمين إلى حيزه وهو كون الرهن شاهدا له ومن أصوله أن يحلف أقوى المتداعيين شبهة وهذا لا يلزم عند الجمهور لأنه قد يرهن الراهن الشيء وقيمته أكثر من المرهون فيه.
وأما إذا تلف الرهن واختلفوا في صفته فالقول ههنا عند مالك قول المرتهن لأنه مدعى عليه وهو مقر ببعض ما ادعي عليه وهذا على أصوله فإن المرتهن أيضا هو الضامن فيما يغاب عليه.
وأما على أصول الشافعي فلا يتصور على المرتهن يمين إلا أن يناكره الراهن في إتلافه.
وأما عند أبي حنيفة فالقول قول المرتهن في قيمة الرهن وليس يحتاج إلى صفة لأن عند مالك يحلف على الصفة وتقويم تلك الصفة.
وإذا اختلفوا في الأمرين جميعا أعني في صفة الرهن وفي مقدار الرهن كان القول قول المرتهن في صفة

(2/278)


الرهن وفي الحق ما كانت قيمته الصفة التي حلف عليها شاهدة له وفيه ضعف.
وهل يشهد الحق لقيمة الرهن إذا اتفقا في الحق واختلفا في قيمة الرهن في المذهب فيه قولان والأقيس الشهادة لأنه إذا شهد الرهن للدين شهد الدين للمرهون.
وفروع هذا الباب كثيرة وفيما ذكرناه كفاية في غرضنا.

(2/279)