بداية المجتهد ونهاية المقتصد ط الحلبي

بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما
كتاب الحجر
والنظر في هذا الكتاب في ثلاثة أبواب الباب الأول في أصناف المحجورين.
(الثاني متى يخرجون من الحجر ومتى يحجر عليهم وبأي شروط يخرجون).
الثالث في معرفة أحكام أفعالهم في الرد والإجازة.
الباب الأول في أصناف المحجورين
أجمع العلماء على وجوب الحجر على الأيتام الذين لم يبلغوا الحلم لقوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} الآية.
واختلفوا في الحجر على العقلاء الكبار إذا ظهر منهم تبذير لأموالهم فذهب مالك والشافعي وأهل المدينة وكثير من أهل العراق إلى جواز ابتداء الحجر عليهم بحكم الحاكم وذلك إذا ثبت عنده سفههم وأعذر إليهم فلم يكن عندهم مدفع وهو رأي ابن عباس وابن الزبير.
وذهب أبو حنيفة وجماعة من أهل العراق إلى أنه لا يبتدأ الحجر على الكبار وهو قول إبراهيم وابن سيرين وهؤلاء انقسموا قسمين فمنهم من قال الحجر لا يجوز عليهم بعد البلوغ بحال وإن ظهر منهم التبذير.
ومنهم من قال إن استصحبوا التبذير من الصغر يستمر الحجر عليهم وإن ظهر منهم رشد بعد البلوغ ثم ظهر منهم سفه فهؤلاء لا يبدأ بالحجر عليهم.
وأبو حنيفة يحد في ارتفاع الحجر وإن ظهر سفهه خمسة وعشرين عاما.
وعمدة من أوجب على الكبار ابتداء الحجر أن الحجر على الصغار إنما وجب لمعنى التبذير الذي يوجد فيهم غالبا فوجب أن يجب الحجر على من وجد فيه هذا المعنى وإن لم يكن صغيرا قالوا ولذلك اشترط في رفع الحجر عنهم

(2/279)


مع ارتفاع الصغر إيناس الرشد قال الله تعالى :{فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} فدل هذا على أن السبب المقتضي للحجر هو السفه.
وعمدة الحنفية حديث حبان بن منقذ "إذ ذكر فيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يخدع في البيوع
فجعل له رسول الله صلى الله عليه وسلم الخيار ثلاثا" ولم يحجر عليه وربما قالوا الصغر هو المؤثر في منع التصرف بالمال بدليل تأثيره في إسقاط التكليف وإنما اعتبر الصغر لأنه الذي يوجد فيه السفه غالبا كما يوجد فيه نقص العقل غالبا ولذلك جعل البلوغ علامة وجوب التكليف وعلامة الرشد إذا كانا يوجدان فيه غالبا أعني العقل والرشد وكما لم يعتبر النادر في التكليف أعني أن يكون قبل البلوغ عاقلا فيكلف كذلك لم يعتبر النادر في السفه وهو أن يكون بعد البلوغ سفيها فيحجر عليه كما لم يعتبر كونه قبل البلوغ رشيدا.
قالوا وقوله تعالى :{ وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} الآية ليس فيها أكثر من
منعهم من أموالهم وذلك لا يوجب فسخ بيوعها وإبطالها.
والمحجورون عند مالك ستة الصغير والسفيه والعبد والمفلس والمريض والزوجة.
وسيأتي ذكر كل واحد منهم في بابه.
الباب الثاني
متى يخرجون من الحجر ومتى يحجر عليهم وبأي شروط يخرجون والنظر في هذا الباب في موضعين في وقت خروج الصغار من الحجر ووقت خروج السفهاء.
فنقول إن الصغار بالجملة صنفان ذكور وإناث وكل واحد من هؤلاء إما ذو أب وإما ذو وصي وإما مهمل وهم الذين يبلغون ولا وصي لهم ولا أب.
فأما الذكور الصغار ذوو الآباء فاتفقوا على أنهم لا يخرجون من الحجر إلا ببلوغ سن التكليف وإيناس الرشد منهم وإن كانوا قد اختلفوا في الرشد ما هو وذلك لقوله تعالى :{ وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} واختلفوا في الإناث فذهب الجمهور إلى أن حكمهن في ذلك حكم الذكور أعني بلوغ المحيض وإيناس الرشد وقال مالك هي في ولاية أبيها في المشهور

(2/280)


عنه حتى تتزوج ويدخل بها زوجها ويؤنس رشدها.
وروي عنه مثل قول الجمهور ولأصحاب مالك في هذا أقوال غير هذه قيل إنها في ولاية أبيها حتى يمر بها سنة بعد دخول زوجها بها وقيل حتى يمر بها عامان وقيل حتى تمر بها سبعة أعوام.
وحجة مالك أن إيناس الرشد لا يتصور من المرأة إلا بعد اختبار الرجال.
وأما أقاويل أصحابه فضعيفة مخالفة للنص والقياس أما مخالفتها للنص فإنهم لم يشترطوا الرشد وأما مخالفتها للقياس فلأن الرشد ممكن تصوره منها قبل هذه المدة المحدودة وإذا قلنا على قول مالك لا على قول الجمهور إن الاعتبار في الذكور ذوي الآباء البلوغ وإيناس الرشد فاختلف قول مالك إذا بلغ ولم يعلم سفهه من رشده وكان مجهول الحال فقيل عنه إنه محمول على السفه حتى يتبين رشده وهو المشهور وقيل عنه إنه محمول على الرشد حتى يتبين سفهه.
فأما ذوو الأوصياء فلا يخرجون من الولاية في المشهور عن مالك إلا بإطلاق وصية له من الحجر أي يقول فيه إنه رشيد إن كان مقدما من قبل الأب بلا خلاف أو بإذن القاضي مع الوصي إن كان مقدما من غير الأب على اختلاف في ذلك.
وقد قيل في وصي الأب إنه لا يقبل قوله في أنه رشيد إلا حتى يعلم رشده وقد قيل إن حاله مع الوصي كحاله مع الأب يخرجه من الحجر إذا آنس منه الرشد وإن لم يخرجه وصيه بالإشهاد وأن المجهول الحال في هذا حكمه حكم المجهول الحال ذي الأب.
وأما ابن القاسم فمذهبه أن الولاية غير معتبر ثبوتها إذا علم الرشد ولا سقوطها إذا علم السفه.
وهي رواية عن مالك وذلك من قوله في اليتيم لا في البكر والفرق بين المذهبين أن من يعتبر الولاية يقول أفعاله كلها مردودة وإن ظهر رشده حتى يخرج من الولاية وهو قول
ضعيف فإن المؤثر هو الرشد لا حكم الحاكم.
وأما اختلافهم في الرشد ما هو فإن مالكا يرى أن الرشد هو تثمير المال وإصلاحه فقط والشافعي يشترط مع هذا صلاح الدين.
وسبب اختلافهم:
هل ينطلق اسم الرشد على غير صالح الدين.
وحال البكر مع الوصي كحال الذكر لا تخرج من الولاية إلا بالإخراج ما لم تعنس على اختلاف في ذلك.
وقيل حالها مع الوصي كحالها مع الأب وهو قول ابن الماجشون.
ولم يختلف قولهم وإنه لا يعتبر فيها الرشد كاختلافهم في اليتيم.
وأما المهمل من

(2/281)


الذكور فإن المشهور أن أفعاله جائزة إذا بلغ الحلم كان سفيها متصل السفه أو غير متصل السفه معلنا به أو غير معلن.
وأما ابن القاسم فيعتبر نفس فعله إذا وقع فإن كان رشدا جاز وإلا رده.
فأما اليتيمة التي لا أب لها ولا وصي فإن فيها في المذهب قولين أحدهما أن أفعالها جائزة إذا بلغت المحيض.
والثاني أن أفعالها مردودة ما لم تعنس وهو المشهور.
الباب الثالث في معرفة أحكام أفعالهم في الرد والإجازة
والنظر في هذا الباب في شيئين أحدهما ما يجوز لصنف صنف من المحجورين من الأفعال وإذا فعلوا فكيف حكم أفعالهم في الرد والإجازة وكذلك أفعال المهملين الذين بلغوا الحلم أب ولا وصي وهؤلاء كما قلنا إما صغار وإما كبار متصلو الحجر من الصغر وإما مبتدأ حجرهم.
فأما الصغار الذين لم يبلغوا الحلم من الرجال ولا المحيض من النساء فلا خلاف في المذهب في أنه لا يجوز له في ماله معروف من هبة ولا صدقة ولا عطية ولا عتق وإن أذن له الأب في ذلك أو الوصي فإن أخرج من يده شيئا بغير عوض كان موقوفا على نظر وليه إن كان له ولي فإن رآه رشدا أجازه وإلا أبطله وإن لم يكن له ولي قدم له ولي ينظر في ذلك وإن عمل في ذلك حتى يلي أمره كان النظر إليه في الإجازة أو الرد.
واختلف إذا كان فعله سدادا ونظرا فيما كان يلزم الولي أن يفعله هل له أن ينقضه إذا آل الأمر إلى خلاف بحوالة الأسواق أو نماء فيما باعه أو نقصان فيما ابتاعه فالمشهور أن ذلك له وقيل إن ذلك ليس له ويلزم الصغير ما أفسد في ماله مما لم يؤتمن عليه.
واختلف فيما أفسد وكسر مما اؤتمن عليه ولا يلزمه بعد بلوغه ورشده عتق ما حلف بحريته في صغره وحنث به في صغره.
واختلف فيما حنث فيه في كبره وحلف به في صغره فالمشهور أنه لا يلزمه.
وقال ابن كنانة يلزمه ولا يلزمه فيما ادعي عليه يمين.
واختلف إذا كان له شاهد واحد هل يحلف معه فالمشهور أنه لا يحلف وروي عن مالك والليث أنه يحلف.
وحال البكر ذات الأب والوصي كالذكر ما لم تعنس على مذهب من يعتبر تعنيسها.
فأما السفيه البالغ فجمهور العلماء على أن المحجور إذا طلق زوجته أو خالعها

(2/282)


مضى طلاقه وخلعه إلا ابن أبي ليلى وأبا يوسف وخالف ابن أبي ليلى في العتق فقال إنه ينفذ وقال الجمهور إنه لا ينفذ.
أما وصيته فلا أعلم خلافا في نفوذها.
ولا تلزمه هبة ولا صدقة ولا عطية ولا عتق ولا شيء من المعروف إلا أن يعتق أم ولده فيلزمه عتقها وهذا كله في المذهب وهل يتبعها مالها فيه خلاف قيل يتبع وقيل لا يتبع وقيل بالفرق بين القليل والكثير.
وأما ما يفعله بعوض فهو أيضا موقوف على نظر وليه إن كان له ولي فإن لم يكن له ولي قدم له ولي.
فإن رد بيعه الولي وكان قد أتلف الثمن لم يتبع من ذلك بشيء وكذلك إن أتلف عين المبيع.
وأما أحكام أفعال المحجورين أو المهملين على مذهب مالك فإنها تنقسم إلى أربعة أحوال فمنهم من تكون أفعاله كلها مردودة وإن كان فيها ما هو رشد.
ومنهم ضد هذا وهو أن تكون أفعاله كلها محمولة على الرشد وإن ظهر فيها ما هو سفه.
ومنهم من تكون أفعاله كلها محمولة على السفه ما لم يتبين رشده وعكس هذا أيضا أن تكون أفعاله كلها محمولة الرشد حتى يتبين سفهه.
فأما الذي يحكم له بالسفه وإن ظهر رشده فهو الصغير الذي لم يبلغ والبكر ذات الأب والوصي ما لم تعنس على مذهب من يعتبر التعنيس.
واختلف في حده اختلافا كثيرا من دون الثلاثين إلى الستين والذي يحكم له بحكم الرشد وإن علم سفهه فمنها السفيه إذا لم تثبت عليه ولاية من قبل أبيه ولا من قبل السلطان على مشهور مذهب مالك خلافا لابن القاسم الذي يعتبر نفس الرشد لا نفس الولاية والبكر اليتيمة المهملة على مذهب سحنون.
وأما الذي يحكم عليه بالسفه بحكم ما لم يظهر رشده فالابن بعد بلوغه في حياة أبيه على المشهور في المذهب وحال البكر ذات الأب التي لا وصي لها إذا تزوجت ودخل بها زوجها ما لم يظهر رشدها وما لم تبلغ الحد المعتبر في ذلك من السنين عند من يعتبر ذلك وكذلك اليتيمة التي لا وصي لها على مذهب من يرى أن أفعالها مردودة.
وأما الحال التي يحكم فيها بحكم الرشد حتى يتبين السفه فمنها حال البكر المعنس عند من يعتبر التعنيس أو التي دخل بها زوجها ومضى لدخوله الحد المعتبر من السنين عند من يعتبر الحد وكذلك حال الابن ذي الأب إذا بلغ وجهلت حاله على إحدى

(2/283)


الروايتين والابنة البكر بعد بلوغها على الرواية التي لا تعتبر فيها دخولها مع زوجها.
فهذه هي جمل ما في هذا الكتاب والفروع كثيرة.

(2/284)


(بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما).
كتاب التفليس
والنظر في هذا الكتاب فيما هو الفلس وفي أحكام المفلس فنقول إن الإفلاس في الشرع يطلق على معنيين أحدهما أن يستغرق الدين مال المدين فلا يكون في ماله وفاء بديونه.
والثاني أن لا يكون له مال معلوم أصلا وفي كلا الفلسين قد اختلف العلماء في أحكامهما.
فأما الحالة الأولى وهي إذا ظهر عند الحاكم من فلسه ما ذكرنا فاختلف العلماء في ذلك هل للحاكم
أن يحجر عليه التصرف في ماله حتى يبيعه عليه ويقسمه على الغرماء على نسبة ديونهم أم ليس له ذلك بل يحبس حتى يدفع إليهم جميع ماله على أي نسبة اتفقت أو لمن اتفق منهم وهذا الخلاف بعينه يتصور فيمن كان له مال يفي بدينه فأبى أن ينصف غرماءه هل يبيع عليه الحاكم فيقسمه عليهم أم يحسبه حتى يعطيهم بيده ما عليه فالجمهور يقولون يبيع الحاكم ماله عليه فينصف منه غرماءه أو غريمه إن كان مليا أو يحكم عليه بالإفلاس إن لم يف ماله بديونه ويحجر عليه التصرف فيه وبه قال مالك والشافعي بالقول الآخر قال أبو حنيفة وجماعة من أهل العراق.
وحجة مالك والشافعي حديث معاذ بن جبل "أنه كثر دينه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يزد غرماءه على أن جعله لهم من ماله" وحديث أبي سعيد الخدري "أن رجلا أصيب على عهد رسول الله في ثمر ابتاعها فكثر دينه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تصدقوا عليه فتصدق الناس عليه فلم يبلغ ذلك وفاء بدينه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا بذلك" وحديث عمر في القضاء على الرجل المفلس في حبسه وقوله فيه أما بعد فإن الأسيفع "أسيفع جهينة" رضي من دينه وأمانته بأن يقال سبق الحاج وأنه أدان معرضا فأصبح قدرين عليه فمن كان له عليه دين فليأتنا.
وأيضا من طريق المعنى فإنه إذا كان المريض

(2/284)


محجورا عليه لمكان ورثته فأحرى أن يكون المدين محجورا عليه لمكان الغرماء وهذا القول هو الأظهر لأنه أعدل.
والله أعلم.
وأما حجج الفريق الثاني الذين قالوا بالحبس حتى يعطي ما عليه أو يموت محبوسا فيبيع القاضي حينئذ ماله ويقسمه على الغرماء فمنها حديث جابر بن عبد الله حين استشهد أبوه بأحد وعليه دين فلما طالبه الغرماء قال جابر "فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فكلمته فسألهم أن يقبلوا مني حائطي ويحللوا أبي فأبوا فلم يعطهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حائطي قال ولكن سأغدو عليك قال فغدا علينا حين أصبح فطاف بالنخل فدعا في ثمرها بالبركة قال فجذذتها فقضيت منها حقوقهم وبقي من ثمرها بقية" بما روي أيضا أنه مات أسيد بن الخضير وعليه عشرة آلاف درهم فدعا عمر بن الخطاب غرماءه فقبلهم أرضه وأربع سنين مما لهم عليه.
قالوا فهذه الآثار كلها ليس فيها أنه بيع أصل في دين.
قالوا ويدل على حبسه قوله صلى الله عليه وسلم "لي الواجد يحل عرضه وعقوبته قالوا والعقوبة" هي حبسه.
وربما شبهوا استحقاق أصول العقار عليه باستحقاق إجازته وإذا قلنا إن المفلس محجور عليه فالنظر في ماذا يحجر عليه وبأي ديون تكون المحاصة في ماله وفي أي شيء من ماله تكون المحاصة وكيف تكون.
فأما المفلس فله حالان حال في وقت الفلس قبل الحجر عليه وحال بعد الحجر.
فأما قبل الحجر فلا يجوز له إتلاف شيء من ماله عند مالك بغير عوض إذا كان مما لا يلزمه ومما لا تجري العادة بفعله وإنما اشترط إذا كان مما لا يلزمه لأن له أن يفعل ما يلزم بالشرع وإن لم يكن
بعوض كنفقته على الآباء المعسرين أو الأبناء وإنما قيل مما لم تجر العادة بفعله لأن له إتلاف اليسير من ماله بغير عوض كالأضحية والنفقة في العيد والصدقة اليسيرة وكذلك تراعى العادة في إنفاقه في عوض كالتزوج والنفقة على الزوجة ويجوز بيعه وابتياعه ما لم تكن فيه محاباة وكذلك يجوز إقراره بالدين لمن لا يتهم عليه.
واختلف قول مالك في قضاء بعض غرمائه دون بعض وفي رهنه.
وأما جمهور من قال بالحجر على المفلس فقالوا هو قبل الحكم كسائر الناس وإنما ذهب الجمهور لهذا لأن الأصل هو جواز الأفعال حتى يقع الحجر ومالك كأنه اعتبر المعنى

(2/285)


نفسه وهو إحاطة الدين بماله لكن لم يعتبره في كل حال لأنه يجوز بيعه وشراؤه إذا لم يكن فيه محاباة ولا يجوزه للمحجور عليه.
وأما حاله بعد التفليس فلا يجوز له فيها عند مالك بيع ولا شراء ولا أخذ ولا عطاء لا يجوز إقراره بدين في ذمته لقريب ولا بعيد.
قيل إلا أن يكون لواحد منهم بينة وقيل يجوز لمن يعلم منه إليه تقاض.
واختلف في إقراره بمال معين مثل القراض والوديعة على ثلاثة أقوال في المذهب بالجواز والمنع.
والثالث بالفرق بين أن يكون على أصل القراض أو الوديعة ببينة أو لا تكون فقيل إن كانت صدق وإن لم تكن لم يصدق.
واختلفوا من هذا الباب في ديون المفلس المؤجلة هل تحل بالتفليس أم لا فذهب مالك إلى أن التفليس في ذلك كالموت وذهب غيره إلى خلاف ذلك.
وجمهور العلماء على أن الديون تحل بالموت وقال ابن شهاب مضت السنة بأن دينه قد حل حين مات.
وحجتهم أن الله تبارك وتعالى لم يبح التوارث إلا بعد قضاء الدين فالورثة في ذلك بين أحد أمرين إما أن لا يريدوا أن يؤخروا حقوقهم في المواريث إلى محل أجل الدين فيلزم أن يجعل الدين حالا وإما أن يرضوا بتأخير ميراثهم حتى تحل الديون فتكون الديون حينئذ مضمونة في التركة خاصة لا في ذممهم بخلاف ما كان عليه الدين قبل الموت لأنه كان في ذمة الميت وذلك يحسن في حق ذي الدين.
ولذلك رأى بعضهم أنه إن رضي الغرماء بتحمله في ذممهم أبقيت الديون إلى أجلها وممن قال بهذا القول ابن سيرين واختاره أبو عبيد من فقهاء الأمصار لكن لا يشبه الفلس في هذا المعنى الموت كل الشبه وإن كانت كلا الذمتين قد خربت فإن ذمة المفلس يرجى المال لها بخلاف ذمة الميت.
وأما النظر فيما يرجع به أصحاب الديون من مال المفلس فإن ذلك يرجع إلى الجنس والقدر.
أما ما كان قد ذهب عين العوض الذي استوجب من قبله الغريم على المفلس فإن دينه في ذمة المفلس.
وأما إذا كان عين العوض باقيا بعينه لم يفت إلا أنه لم يقبض ثمنه فاختلف في ذلك فقهاء الأمصار على أربعة أقوال الأول أن صاحب السلعة أحق بها على كل حال إلا أن يتركها ويختار المحاصة وبه قال الشافعي وأحمد وأبو ثور.
القول الثاني ينظر إلى قيمة السلعة يوم الحكم

(2/286)


بالتفليس فإن كانت أقل من الثمن خير صاحب السلعة بين أن يأخذها أو يحاص الغرماء وإن كانت أكثر أو مساوية للثمن أخذها بعينها وبه قال مالك وأصحابه.
والقول الثالث تقوم السلعة بين التفليس فإن كانت قيمتها مساوية للثمن أو أقل منه قضي له بها أعني للبائع وإن كانت أكثر دفع إليه مقدار ثمنه ويتحاصون في الباقي وبهذا القول قال جماعة من أهل الأثر.
والقول الرابع أنه أسوة الغرماء فيها على كل حال وهو قول أبي حنيفة وأهل الكوفة والأصل في هذه المسألة ما ثبت من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" أيما رجل أفلس فأدرك الرجل ماله بعينه فهو أحق به من غيره" وهذا الحديث خرجه مالك والبخاري ومسلم وألفاظهم متقاربة وهذا اللفظ لمالك فمن هؤلاء من حمله على عمومه وهو الفريق الأول ومنهم من خصصه بالقياس وقالوا إن معقوله إنما هو الرفق بصاحب السلعة لكون سلعته باقية وأكثر ما في ذلك أن يأخذ الثمن الذي باعها به فإما أن يعطى في هذه الحال الذي اشترك فيها مع الغرماء أكثر من ثمنها فذلك مخالف لأصول الشرع وبخاصة إذا كان للغرماء أخذها بالثمن كما قال مالك.
وأما أهل الكوفة فردوا هذا الحديث بجملته لمخالفته للأصول المتواترة على طريقتهم في رد خبر الواحد إذا خالف الأصول المتواترة لكون خبر الواحد مظنونا والأصول يقينية مقطوع بها كما قال عمر في حديث فاطمة بنت قيس ما كنا لندع كتاب الله وسنة نبينا لحديث امرأة.
ورواه عن علي أنه قضى بالسلعة للمفلس وهو رأي ابن سيرين وإبراهيم من التابعين.
وربما احتجوا بأن حديث أبي هريرة مختلف فيه وذلك أن الزهري روى عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" أيما رجل مات أو أفلس فوجد بعض غرمائه ماله بعينه فهو أسوة الغرماء" وهذا الحديث أولى لأنه موافق للأصول الثابتة.
قالوا وللجمع بين الحديثين وجه وهو حمل ذلك الحديث على الوديعة والعارية.
إلا أن الجمهور دفعوا هذا التأويل بما ورد في لفظ حديث أبي هريرة في بعض الروايات من ذكر البيع.
وهذا كله عند الجميع بعد قبض المشتري السلعة فأما قبل القبض فالعلماء متفقون أهل الحجاز وأهل العراق أن صاحب السلعة أحق بها لأنها في ضمانه واختلف

(2/287)


القائلون بهذا الحديث إذا قبض البائع بعض الثمن فقال مالك إن شاء أن يرد ما قبض ويأخذ السلعة كلها وإن شاء حاص الغرماء فيما بقي من سلعته وقال الشافعي بل يأخذ ما بقي من سلعته بما بقي من الثمن وقالت جماعة من أهل العلم داود وإسحاق وأحمد إن قبض من الثمن شيئا فهو أسوة الغرماء.
وحجتهم ما روى مالك عن ابن شهاب عن أبي بكر بن عبد الرحمن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" أيما رجل باع متاعا فأفلس الذي ابتاعه ولم يقبض الذي باعه شيئا فوجده بعينه فهو أحق به وإن مات الذي ابتاعه فصاحب المتاع أسوة الغرماء" وهو حديث وإن أرسله مالك فقد أسنده عبد الرزاق وقد روي من طريق الزهري عن أبي هريرة فيه زيادة بيان.
وهو قوله فيه "فإن كان قبض من ثمنه شيئا فهوأسوة الغرماء" ذكره أبو عبيد في كتابه في الفقه وخرجه.
وحجة الشافعي أن كل السلعة أو بعضها في الحكم واحد ولم يختلفوا أنه إذا فوت المشتري بعضها أن البائع أحق بالمقدار الذي أدرك من سلعته إلا عطاء فإنه قال إذا فوت المشتري بعضها كان البائع أسوة الغرماء.
واختلف الشافعي ومالك في الموت هل حكمه حكم الفلس أم لا فقال مالك هو في الموت أسوة الغرماء بخلاف الفلس وقال الشافعي الأمر في ذلك واحد.
وعمدة مالك ما رواه عن ابن شهاب عن أبي بكر وهو نص في ذلك وأيضا من جهة النظر إن فرقا بين الذمة في الفلس والموت وذلك أن الفلس ممكن أن تثرى حاله فيتبعه غرماؤه بما بقي عليه وذلك غير متصور في الموت.
وأما الشافعي فعمدته ما رواه ابن أبي ذئب بسنده عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيما رجل مات أو أفلس فصاحب المتاع أحق به" فسوى في هذه الرواية بين الموت والفلس.
وقال وحديث ابن أبي ذئب أولى من حديث ابن شهاب لأن حديث ابن شهاب مرسل وهذا مسند ومن طريق المعنى فهو مال لا تصرف فيه لمالكه إلا بعد أداء ما عليه فأشبه مال المفلس وقياس مالك أقوى من قياس الشافعي وترجيح حديثه على حديث ابن أبي ذئب من جهة أن موافقة القياس له أقوى وذلك أن ما وافق من الأحاديث

(2/288)


المتعارضة قياس المعنى فهو أقوى مما وافقه قياس الشبه أعني أن القياس الموافق لحديث الشافعي هو قياس شبه والموافق لحديث مالك قياس معنى ومرسل مالك خرجه عبد الرزاق.
فسبب الخلاف تعارض الآثار في هذا المعنى والمقاييس وأيضا فإن الأصل يشهد لقول مالك في الموت أعني من باع شيئا فليس يرجع إليه فمالك رحمه الله أقوى في هذه المسألة والشافعي إنما ضعف عنده فيها قول مالك لما روي من المسند المرسل عنده لا يجب العمل به.
واختلف مالك والشافعي فيمن وجد سلعته بعينها عند المفلس وقد أحدث زيادة مثل أن تكون أرضا يغرسها أو عرصة يبنيها فقال مالك العمل الزائد فيها هو فوت ويرجع صاحب السلعة شريك الغرماء.
وقال الشافعي بل يخير البائع بين أن يعطي قيمة ما أحدث المشتري في سلعته ويأخذها أو أن يأخذ أصل السلعة ويحاص الغرماء في الزيادة وما يكون فوتا مما لا يكون فوتا في مذهب مالك منصوص في كتبه المشهورة.
وتحصيل مذهب مالك فيما يكون الغريم به أحق من سائر الغرماء في الموت والفلس أو في الفلس دون الموت أن الأشياء المبيعة بالدين تنقسم في التفليس ثلاثة أقسام عرض يتعين وعين اختلف فيه هل يتعين فيه أم لا وعمل لا يتعين.
فأما العرض فإن كان في يد بائعه لم يسلمه حتى أفلس المشتري فهو أحق به في الموت والفلس وهذا ما لا خلاف فيه.
وإن كان قد دفعه إلى المشتري ثم أفلس وهو قائم بيده فهو أحق به من الغرماء في الفلس دون الموت.
ولهم عنده أن يأخذوا سلعته بالثمن.
وقال الشافعي ليس لهم.
وقال أشهب لا يأخذونها إلا بزيادة
يحطونها عن المفلس وقال ابن الماجشون إن شاءوا كان الثمن من أموالهم أو من مال الغريم وقال ابن كنانة بل يكون من أموالهم وأما العين فهو أحق بها في الموت أيضا والفلس ما كان بيده.
واختلف إذا دفعه إلى بائعه فيه ففلس أو مات وهو قائم بيده يعرف بعينه فقيل إنه أحق به كالعروض في الفلس دون الموت وهو قول ابن القاسم وقيل إنه لا سبيل له عليه وهو أسوة الغرماء وهو قول أشهب والقولان جاريان على الاختلاف في تعيين العين وأما إن لم يعرف بعينه فهو أسوة الغرماء في الموت والفلس.
وأما العمل الذي لا يتعين فإن أفلس المستأجر قبل أن يستوفي عمل الأجير كان الأجير أحق بما عمله

(2/289)


في الموت والفلس جميعا كالسلعة إذا كانت بيد البائع في وقت الفلس وإن كان فلسه بعد أن استوفى عمل الأجير فالأجير أسوة الغرماء بأجرته التي شارطه عليها في الفلس والموت جميعا على أظهر الأقوال إلا أن تكون بيده السلعة التي استؤجر على عملها فيكون أحق بذلك في الموت والفلس جميعا لأنه كالرهن بيده فإن أسلمه كان أسوة الغرماء بعمله إلا أن يكون له فيه شيء أخرجه فيكون أحق به في الفلس دون الموت وكذلك الأمر عنده في فلس مكتري الدواب إن استكرى أحق بما عليه من المتاع في الموت والفلس جميعا وكذلك وهذا كله شبهه مالك بالرهن.
وبالجملة فلا خلاف في مذهبه أن البائع أحق بما في يديه في الموت والفلس وأحق بسلعته القائمة الخارجة عن يده في الفلس دون الموت.
وأنه أسوة الغرماء في سلعته إذا فاتت وعندما يشبه حال الأجير عند أصحاب مالك.
وبالجملة البائع منفعة بالبائع الرقبة.
فمرة يشبهون المنفعة التي عمل بالسلعة التي لم يقبضها المشتري فيقولون هو أحق بها في الموت والفلس ومرة يشبهونه بالتي خرجت من يده ولم يمت فيقولون هو أحق بها في الفلس دون الموت.
ومرة يشبهون ذلك بالموت الذي فاتت فيه فيقولون هو أسوة الغرماء.
ومثال ذلك اختلافهم فيمن استؤجر على سقي حائط فسقاه حتى أثمر الحائط ثم أفلس المستأجر فإنهم قالوا فيه الثلاثة الأقوال.
وتشبيه بيع المنافع في هذا الباب ببيع الرقاب هو شيء فيما أحسب انفرد به مالك دون فقهاء الأمصار وهو ضعيف لأن قياس الشبه المأخوذ من الموضع المفارق للأصول يضعف ولذلك ضعف عند قوم القياس على موضع الرخص ولكن انقدح هنالك قياس علة فهو أقوى ولعل المالكية تدعي وجود هذا المعنى في القياس ولكن هذا كله ليس يليق بهذا المختصر.
ومن هذا الباب اختلافهم في العبد المفلس المأذون له في التجارة هل يتبع بالدين في رقبته أم لا فذهب مالك وأهل الحجاز إلى أنه إنما يتبع بما في يده لا في رقبته ثم إن أعتق أتبع بما بقي عليه.
ورأى قوم أنه يباع.
ورأى قوم أن الغرماء يخيرون بين بيعه وبين أن يسعى فيما بقي عليه من الدين وبه قال شريح.
وقالت طائفة بل يلزم سيده ما عليه وإن لم يشترطه.
فالذين لم يروا

(2/290)


بيع رقبته قالوا إنما عامل الناس على ما في يده فأشبه الحر والذين رأوا بيعه.
شبهوا ذلك بالجنايات التي يجني وأما الذين رأوا الرجوع على السيد بما عليه من الدين فإنهم شبهوا ماله بمال السيد إذ كان له انتزاعه.
فسبب الخلاف هو تعارض أقيسة الشبه في هذه المسألة ومن هذا المعنى إذا أفلس العبد والمولى معا بأيهما يبدأ هل بدين العبد أم بدين المولى فالجمهور يقولون بدين العبد لأن الذين داينوا العبد إنما فعلوا ذلك ثقة بما رأوا عند العبد من المال والذين داينوا المولى لم يعتدوا بمال العبد ومن رأى البدء بالمولى قال لأن مال العبد هو في الحقيقة للمولى.
فسبب الخلاف تردد مال العبد بين أن يكون حكمه حكم مال الأجنبي أو حكم مال السيد.
وأما قدر ما يترك للمفلس من ماله فقيل في المذهب يترك له ما يعيش به هو وأهله وولده الصغار الأيام وقال في الواضحة والعتبية الشهر ونحوه ويترك له كسوة مثله وتوقف مالك في كسوة زوجته لكونها هل تجب لها بعوض مقبوض وهو الانتفاع بها أو بغير عوض وقال سحنون لا يترك له كسوة زوجته وروى ابن نافع عن مالك أنه لا يترك له إلا ما يواريه وبه قال ابن كنانة.
واختلفوا في بيع كتب العلم عليه على قولين وهذا مبني على كراهية بيع كتب الفقه أو لا كراهية ذلك.
وأما معرفة الديون التي يحاص بها من الديون التي لا يحاص بها على مذهب مالك فإنها تنقسم أولا إلى قسمين أحدهما أن تكون واجبة عن عوض.
والثاني أن تكون واجبة من غير عوض.
فأما الواجبة عن عوض فإنها تنقسم إلى عوض مقبوض وإلى عوض غير مقبوض فأما ما كانت عن عوض مقبوض وسواء كانت مالا أو أرش جناية فلا خلاف في المذهب أن محاصة الغرماء بها واجبة.
وأما ما كان عن عوض غير مقبوض فإن ذلك ينقسم خمسة أقسام أحدها أن لا يمكنه دفع العوض بحال كنفقة الزوجات لما يأتي من المدة والثاني أن لا يمكنه دفع العوض ولكن يمكنه دفع ما يستوفي فيه مثل أن يكتري الرجل الدار بالنقد أو يكون العرف فيه النقد ففلس المكتري قبل أن يسكن أو بعد ما سكن بعض السكنى وقبل أن يدفع الكراء
والثالث أن يكون دفع العوض يمكنه ويلزمه

(2/291)


كرأس مال السلم إذا أفلس المسلم إليه قبل دفع رأس المال.
والرابع أن يمكنه دفع العوض ولا يلزمه مثل السلعة إذا باعها ففلس المبتاع قبل أن يدفعها إليه البائع.
والخامس أن لا يكون إليه تعجيل دفع العوض مثل أن يسلم الرجل إلى رجل دنانير في عروض إلى أجل فيفلس المسلم قبل أن يدفع رأس المال وقبل أن يحل أجل السلم.
فأما الذي لا يمكنه دفع العوض بحال فلا محاصة في ذلك إلا في مهور الزوجات إذا أفلس الزوج قبل الدخول.
وأما الذي لا يمكنه دفع العوض ويمكنه دفع ما يستوفي منه مثل المكتري يفلس قبل دفع الكراء فقيل للمكري المحاصة بجميع الثمن وإسلام الدار للغرماء وقيل ليس له إلا المحاصة بما سكن ويأخذ داره وإن كان لم يسكن فليس له إلا أخذ داره.
وأما ما يمكنه دفع العوض ويلزمه وهو إذا كان العوض عينا فقيل
يحاص به الغرماء في الواجب له بالعوض ويدفعه وقيل هو أحق به وعلى هذا لا يلزمه دفع العوض.
وأما ما يمكنه دفع العوض ولا يلزمه فهو بالخيار بين المحاصة والإمساك وذلك هو إذا كان العوض عينا.
وأما إذا لم يكن إليه تعجيل العوض مثل أن يفلس المسلم قبل أن يدفع رأس المال وقبل أن يحل أجل السلم فإن رضي المسلم إليه أن يعجل العروض ويحاصص الغرماء برأس مال السلم فذلك جائز إن رضي بذلك الغرماء فإن أبى ذلك أحد الغرماء حاص الغرماء برأس المال الواجب له فيما وجد للغريم من مال وفي العروض التي عليه إذا حلت لأنها من مال المفلس وإن شاءوا أن يبيعوها بالنقد ويتحاصوا فيها كان ذلك لهم.
وأما ما كان من الحقوق الواجبة عن غير عوض فإن ما كان واجب بالشرع بل بالالتزام كالهبات والصدقات فلا محاصة فيها.
وأما ما كان منها واجبا بالشرع كنفقة الآباء والأبناء ففيها قولان أحدهما أن المحاصة لا تجب بها وهو قول ابن القاسم والثاني أنها تجب بها إذا لزمت بحكم من السلطان وهو قول أشهب.
وأما النظر الخامس وهو معرفة وجه التحاص فإن الحكم في ذلك أن يصرف مال الغريم من جنس ديون الغرماء وسواء أكان مال الغرماء من جنس واحد أو من أجناس مختلفة إذ كان لا يقتضي في الديون إلا ما هو من جنس الدين إلا أن يتفقوا من ذلك على شيء يجوز.
واختلفوا من هذا الباب في فرع طارئ وهو إذا

(2/292)


هلك مال المحجور عليه بعد الحجر وقبل قبض الغرماء ممن مصيبته فقال أشهب مصيبته من المفلس وقال ابن الماجشون مصيبته من الغرماء إذا وقفه السلطان.
وقال ابن القاسم ما يحتاج إلى بيعه فضمانه من الغريم لأنه إنما يباع على ملكه وما لا يحتاج إلى بيعه فضمانه من الغرماء مثل أن يكون المال عينا والدين عينا وكلهم روى قوله عن مالك وفرق أصبغ بين الموت والفلس فقال المصيبة في الموت من الغرماء وفي الفلس من المفلس.
فهذا هو القول في أصول أحكام المفلس الذي له من المال ما لا يفي بديونه.
وأما المفلس الذي لا مال له أصلا فإن فقهاء الأمصار مجمعون على أن العدم له تأثير في إسقاط الدين إلى وقت ميسرته إلا ما حكي عن عمر بن عبد العزيز أن لهم أن يؤاجروه وقال به أحمد من فقهاء الأمصار وكلهم مجمعون على أن المدين إذا ادعى الفلس ولم يعلم صدقه أنه يحبس حتى يتبين صدقه أو يقر له بذلك صاحب الدين فإذا كان ذلك خلي سبيله.
وحكي عن أبي حنيفة أن لغرمائه أن يدوروا معه حيث دار وإنما صار الكل إلى القول بالحبس في الديون وإن كان لم يأت في ذلك أثر صحيح لأن ذلك أمر ضروري في استيفاء الناس حقوقهم بعضهم من بعض وهذا دليل على القول بالقياس الذي يقتضي المصلحة وهو الذي يسمى بالقياس المرسل.
وقد روي أن النبي عليه الصلاة والسلام "حبس رجلا في تهمة" خرجه فيما أحسب أبو داود.
والمحجورون عند مالك السفهاء والمفلسون والعبيد والمرضى والزوجة فيما فوق الثلث لأنه يرى أن للزوج حقا في المال وخالفه في ذلك الأكثر.
وهذا القدر كاف بحسب غرضنا في هذا الكتاب.

(2/293)


بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم وتسليما
كتاب الصلح
والأصل في هذا الكتاب قوله تعالى :{ وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} وما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام مرفوعا وموقوفا على عمر "إمضاء الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا " واتفق المسلمون على جوازه على الإقرار واختلفوا في جوازه على الإنكار فقال

(2/293)


مالك وأبو حنيفة يجوز على الإنكار وقال الشافعي لا يجوز على الإنكار لأنه من أكل المال بالباطل عوض.
والمالكية تقول فيه عوض وهو سقوط الخصومة واندفاع اليمين عنه ولا خلاف في مذهب مالك أن الصلح الذي يقع على الإقرار يراعى في صحته ما يراعى في البيوع فيفسد بما تفسد به البيوع من أنواع الفساد الخاص بالبيوع ويصح بصحته وهذا هو مثل أن يدعي إنسان على آخر دراهم فيصالحه عليها بعد الإقرار بدنانير نسيئة وما أشبه هذا من البيوع الفاسدة من قبل الربا والغرر.
وأما الصلح على الإنكار فالمشهور فيه عن مالك وأصحابه أنه يراعى فيه من الصحة ما يراعى في البيوع مثل أن يدعي إنسان على آخر دراهم فينكر ثم يصالحه عليها بدنانير مؤجلة فهذا لا يجوز عند مالك وأصحابه وقال أصبغ هو جائز لأن المكروه فيه من الطرف الواحد وهو من جهة الطالب لأنه يعترف أنه أخذ دنانير نسيئة في دراهم حلت له.
وأما الدافع فيقول هي هبة مني.
وأما إن ارتفع المكروه من الطرفين مثل أن يدعي كل واحد منهما على صاحبه دنانير أو دراهم فينكر كل واحد منهما صاحبه ثم يصطلحان على أن يؤخر كل واحد منهما صاحبه فيما يدعيه قبله إلى أجل فهذا عندهم هو مكروه.
أما كراهيته فمخافة أن يكون كل واحد منهما صادقا
فيكون كل واحد منهما قد أنظر صاحبه لإنظار الآخر إياه فيدخله أسلفني وأسلفك.
وأما وجه جوازه فلأن كل واحد منهما إنما يقول ما فعلت إنما هو تبرع مني وما كان يجب علي شيء وهذا النحو من البيوع قيل إنه يجوز إذا وقع وقال ابن الماجشون يفسخ إذا وقع عليه أثر عقده فإن طال مضى فالصلح الذي يقع فيه مما لا يجوز في البيوع هو في مذهب مالك على ثلاثة أقسام صلح يفسخ باتفاق وصلح يفسخ باختلاف وصلح لا يفسخ باتفاق إن طال وإن لم يطل فيه اختلاف.

(2/294)