شرح التلقين

باب صفة الاغتسال
قال القاضي رحمه الله: قد بينا أن الغسل من الجنابة وسائر ما ذكرناه معها فريضة. وهو مشتمل على مفروض ومسنون وفضيلة. فمفروضاته ثلاثة: وهي النية، وتعميم ظاهر البدن، وإمرار اليد على البدن مع الماء. وهذا عندنا من شروط كونه غسلًا فيستوي فيه الغسل والوضوء. إلا أن العادة قد جرت بذكره مع الغسل. ويفعل الغسل بما يفعل به الوضوء من الماء المطلق. وأما مسنوناته فهي المضمضة، والاستنشاق وفي تخليل اللحية روايتان: إحداهما الوجوب. والأخرى أنه سنة. وأما الفضيلة فهي أن يبدأ بغسل يديه ثم يتنظف من أذى إن كان عليه، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة. ثم يخلل أصول شعره (1) بالماء، ثم يغرف عليه ثلاثًا، ثم يفيض الماء على بدنه (2). ومن له شعر معقوص من رجل أو امرأة لم ينقضه. وأجرى الماء عليه ثم ضغثه بيديه (3).

قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل سبعة أسئلة: منها أن يقال:
1 - ما دليل إمرار اليد على البدن؟.
2 - وما دليل كون المضمضة والاستنشاق سنتين؟.
3 - وما وجه الاختلاف في تخليل اللحية؟.
4 - وما وجه البداية بالتنظيف من الأذى؟.
5 - وما معنى هذا التقييد بقوله وضوءه للصلاة؟
__________
(1) شعر رأسه - الغاني.
(2) بدنه كله - الغاني.
(3) بيده - الغاني.

(1/209)


6 - وهل يختلف في تخليل شعر الرأس كما اختلف في تخليل شعر اللحية؟.
7 - ولِمَ اختار أن يغرف عليه ثلاثًا؟.

فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: اختلف الناس (1) في إمرار اليد في الغسل. هل هو شرط في صحة الغسل أم لا؟ فذهب مالك والجمهور من أصحابه إلى أن ذلك شرط في صحة الغسل. وذهب أبو الفرج ومحمد بن عبد الحكم من أصحابنا إلى أن ذلك ليس من شرط في صحة الغسل. وبه قال أبو حنيفة والشافعي. والنكتة التي يدور عليها الخلاف (2)، اعتبار حقيقة هذا الاسم في اللغة. فزعم أصحابنا أن حقيقة الغسل في اللغة: صب الماء مع إمرار اليد. قالوا ولهذا تفرق العرب بين قولها (3) اغتسلت وانغمست. ولا وجه في الفرق بينهما، إلا أن الغسل يعتبر فيه مرور اليد، ولا يعتبر ذلك في الانغماس. ورجحوا مذهبهم أن الغسل باستدلال شرعي فقالوا الطهارة في ذمة المكلف حاصلة فلا يبرأ منها إلاَّ بوجه متفق عليه أو بدليل يدل على براءته. ولم يوجد ها هنا دليل، فاعتبر حصول الاتفاق. وزعم المخالفون أن صب الماء بمجرده يسمى غسلًا في اللغة وإن لم يصحبه مرور اليد. ولهذا يقولون غسلت الأمطار البقاع وغسل السيل موضع كذا، إذا أتى عليه، وأذهب ما فيه. وإن لم يكن مع ذلك مرور اليد (4). وهذا غير مستنكر في عرف التخاطب. ورجحوا مذهبهم أيضًا باستدلال شرعي، وهو قوله عليه السلام: فإذا وجدت الماء فأمسسه جلدك (5). فلم يوجب أكثر من الإمساس وذلك يحصل دون مرور اليد. وقوله عليه السلام:
__________
(1) الناس ساقطة -ق-.
(2) الاختلاف -ق-.
(3) قولها ساقطة -ح-.
(4) الواو ساقطة -ح-.
(5) روى أحمد بسنده إلى أبي قلابة عن رجل من بني عامر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي ذر: فإذا وجدت الماء فأمس بشرفك. ج 5 ص 147.
كما أخرجه أبو داود وسمى الرجل وهو عمرو بن بجدان. قال ابن القيم صححه الدارقطني وأخرجه البزار في مسنده عن أبي هريرة. وذكره ابن القطان في أحاديث ذكر أن أسانيدها صحاح. مختصر سنن أبي داود وتهذيب ابن القيم ج 1 ص 206/ 207.

(1/210)


إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات من ماء ثم تفيض عليك الماء فإذا أنت قد طهرت (1). فأخبرها بما يكفي وهو إفاضة الماء وذلك يحصل دون إمرار اليد. ثم أكد ذلك بقوله فإذا أنت قد طهرت. فإن قيل فإن لم تبلغ يداه لموضع من جسده ما حكم ذلك الموضع؟ قيل إذا لم يمكنه أن يتلطف في ذلك باستعمال ثوب وشبهه، أو استنابة يد غيره فإن ذلك ساقط عنه ولا يخاطب في ذلك بما لا يقدر عليه. لأن ذلك من تكليف ما لا يطاق. وذلك مرفوع ها هنا. فإن قيل إذا كان من شرط صحة الغسل عند الجمهور منكم مرور اليد. ومتى لم يمر لم بسم غاسلًا، فيجب أن لا يكتفي بهذا الغسل المبعض بل ينتقل للتيمم. قيل ذا غلط لأنا قدمنا أن الغسل عند أكثر فقهاء الأمصار لا يشترط فيه مرور اليد مع الاختيار والقدرة. فكيف بهذا *مع الضرورة والعجز؟ مع أن الشرع ورد بالمسح على الجبيرة لمشقة وصول الماء إليها. وإن كان ممكنًا وصوله (2) * فكيف بهذا الذي هو فوق المسح، ومرور اليد فيه خارج عما يمكن؟ ولو قطع بعض الجسد لم يتغير الحكم في غسل بقية الجسد. فكذلك ما تعذر ها هنا لا يتغير به الحكم في بقية الجسد. وإن كان يمكنه التلطف في ذلك بتطلب من ينوب عنه فهل عليه تطلبه؟ ظاهر المذهب أنه على ثلاثة أقوال: أحدها أن ذلك عليه لأنه شرط في صحة الطهارة فلا يسامح بإهماله، والاقتصار على ما دونه مع القدرة على تحصيل الشرط، كما على المكلف أن يتطلب الماء ولا ينتقل إلى التراب حتى ييأس. والثاني ليس عليه تطلب ذلك لأن تطلب ذلك يشق، وتكليفه (3) من الحرج. والحرج مرفوع. ولا يصح قياسه على تطلب الماء لأن التطهر بالتراب مع القدرة على الماء لا يصح. وترك التدليك مع القدرة عليه تصح معه الطهارة عند جمهور فقهاء الأمصار. فسهل الأمر فيه. والثالث:
__________
(1) إنما يكفيك أن تحثي على رأسك الماء ثلاث حثيات ثم تفيضي عليك الماء فإذا أنت قد طهرت. طرف من حديث. رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم.
الهداية ج 2 ص 11.
(2) ما بين القوسين ساقط من -ح-.
(3) تكليف -ح-.

(1/211)


التفرقة بين القليل والكثير فإن كان الذي لا تناله يده (1) أكثر الجسد فعليه تطلب ذلك وإن كان أقل الجسد ومما لا بال له فيه عفي له (2) عن التطلب كما عفي عن العمل اليسير في الصلاة. ذهب إلى هذا أبو الحسن بن القصار.
والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: أما المضمضة والاستنشاق فاختلف الناس فيهما. فذهب مالك إلى أنهما سنتان في الغسل. وذهب أبو حنيفة إلى أنهما فريضتان فيه. والنكتة التي يدور عليها الخلاف، اعتبار كونهما من ظاهر الجسم فيجب غسلهما كالساق أو العضد. أو هما من باطن الجسم فلا يجب غسلهما كداخل الصماخ.
فرجح من نفى الوجوب مذهبه بقوله عليه السلام: إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات من ماء ثم تفيضي عليك (3). ولم يأمر بالمضمضة والاستنشاق مع قصده بهذا الحديث التعليم. والتعليم يستقصى فيه البيان.
ورجح من أثبت الوجوب مذهبه بقوله عليه السلام: فإذا وجدت الماء فامسسه (4) جلدك، وقد قال ثعلب: داخل الفم جلد -قيل: قد خولف ثعلب في هذا، فلا يسلم ما قال. وقد تعلقوا بأحاديث لم يسلم لهم صحتها أيضًا، فلا وجه للاشتغال بتأويلها.

والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: النكتة التي يدور عليها الخلاف في تخليل اللحية قريب مما ذكرناه في المضمضة. وذلك أن شعر اللحية يستر الذقن. فهل ينتقل حكم الذقن إليه، ويلحق الذقن بباطن الجسم فيكون التخليل غير واجب. أو يبقى حكم الذقن على ما كان قبل من إيصال الماء إليه على حسب الإمكان؟ وقد رجح من أثبت الوجوب مذهبه بما روي أنه عليه السلام: كان يخلل أصول شعره في غسل الجنابة (5). ولم يخص شعرًا دون شعر. فأن
__________
(1) يداه -ق-.
(2) له ساقطة -ق-.
(3) سبق تخريجه.
(4) تقدم تخريجه.
(5) روى البخاري بسنده إلى عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها في وصفها لغسل رسول الله=

(1/212)


قيل فيلزم على هذا تخليل شعر اللحية في الطهارة الصغرى. قيل قدمنا أن ذلك اختلف فيه أيضًا. على أن من الناس من فرق بينهما، بأن الطهارة الصغرى خفف الأمر فيها حتى جاز استعمال البدل فيها اختيارًا، بمسح الخفين النائب عن غسل الرجلين. ولم يرد مثل ذلك في الطهارة "الكبرى" فلهذا صح أن يقال أن الشعر ينوب غسله عن غسل البشرة في الطهارة الصغرى. ولا ينوب عن ذلك في الطهارة الكبرى.
وقد رجح من نفى الوجوب مذهبه، بأنه قد اتفق على أنه ليس على المتيمم إيصال التراب إلى البشرة، ولو كان الفرض لم ينتقل عنها إلى الشعر لوجب تخليل الشعر في التيمم ومباشرة البشرة على حسب الإمكان. فلما لم يجب ذلك في طهارة التراب لم يجب مثل ذلك في طهارة الماء. وقد رأى بعض شيوخنا أن فائدة التخليل استيعاب غسل الشعر. فإنه ربما منع الأعلى منه وصول الماء لما تحته. ولم ير أن فائدته إيصال الماء إلى البشرة. وهذا الذي قاله إنما يستمر على رواية ابن وهب عن مالك أن تخليل اللحية من الجنابة واجب. وليس إيصال الماء إلى البشرة التي تحت الشعر بواجب. والطريقة الأولى التي قدمنا هي التي عليها الحذاق.

والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: إنما اختار البداية بغسل مواضع الأذى، لأنه يفتقر إلى تطهيرها من الجنابة. وتطهير العضو من الجنابة، إنما يكون بعد إزالة النجاسة عنه. فإذا غسل عنه النجاسة، فقد قال بعض شيوخنا يغسله بنية الجنابة ليأمن من مس ذكره في أثناء طهارته. فيسلم بذلك من نقض الطهارة الصغرى. ويأمن من انتقاضها إذا قدم ذلك. ولو غسل ذلك بنية الجنابة وإزالة النجاسة معًا، لأجزأه ذلك عنده. وهذا فيه مطعن متى اعتقد المغتسل أن إزالة النجاسة ليست بفرض، على ظاهر أحد القولين. لأن جمعها (1) على هذا القول مع غسل الجنابة، جمع بين فرض ونفل، وقصد إليهما معًا. وذلك لا
__________
= - صلى الله عليه وسلم -: ثم يدخل أصابعه في الماء فيخلل بها أصول الشعر. فتح الباري ج 1 ص 376. وأخرجه أحمد بسنده إليها إلى أن قالت: ثم يخلل أصول شعره حتى إذا ظن أنه قد استبرأ البشرة اغترف ثلاث غرفات. الفتح الرباني ج 2 ص 628.
(1) جمعهما -ق-.

(1/213)


يصح. وقد أشرنا في الكلام على من اغتسل للجنابة، والجمعة معًا إلى هذا.
والجواب على السؤال الخامس: أن يقال: أما افتتاح غسل الجنابة بالطهارة الصغرى فقد ورد به الخبر، أنه فعله عليه السلام (1). وقد اختلف النقل عنه هل أكمل وضوءه أو أخر غسل رجليه إلى فراغه؟ فروت عائشة أنه توضأ كما يتوضأ للصلاة (2).
وأشارت بهذا التقييد إلى خلاف الرواية الأخرى. ولهذا أشار القاضي أبو محمَّد بالتقييد الذي قيد (3)؛ لأنه التقييد الذي قيدت به عائشة رضي الله عنها ليشعر بذلك أن المختار رواية عائشة. وقد روى ابن زياد عن مالك ليس العمل على تأخير غسل الرجلين. وإن كان قد روي عنه في المبسوط: واسع أن يؤخر ذلك حتى يفرغ من غسله. أخذا منه بحديث ميمونة (4) أنه أخر غسل رجليه. ولأنه لما افتتح الطهارة الكبرى بغسل وجهه، وهو أول عضو من الطهارة الصغرى، ختمها بغسل رجليه وهو آخر عضو من الطهارة الصغرى، لتحصل الكبرى متابعة لأعضاء الوضوء، وحاصلة بين أثنائها. ومقتضى الرواية الأولى أنه يأتي بالوضوء على ما هو عليه، ثم بعد ذلك يستأنف تخليل اللحية وشعر الرأس. لأن التخليل ليس من خصائص الوضوء. وقد قال ابن زياد عنه: لو أخر غسل رجليه لأعاد الوضوء عند فراغه من غسله. وهذا مراعاة لما قلناه من الإتيان به على وجهه، والتحفظ على الموالاة فيه. ومقتضى الرواية الثانية التي سامح فيها بتأخير غسل الرجلين، أنه إذا غسل وجهه خلل أصول شعر لحيته ثم يغسل لحيته. ثم يغسل يديه. ثم يخلل شعر رأسه. هكذا ذكر بعض شيوخنا. لأنه لما
__________
(1) أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما - نيل الأوطار ج 1 ص 286/ 289.
(2) أخرجه البخاري - الفتح ج 1 ص 376.
(3) قصد -ح-.
(4) رواه أحمد عن ميمونة رضي الله عنها وفي ختام وصفها لغسله أنه أفاض الماء على سائر جسده ثم تنحى فغسل رجليه. الفتح الرباني ج 2 ص 129. ورواه البخاري قالت: توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وضوءه للصلاة غير رجليه وغسل فرجه وما أصابه من الأذى ثم أفاض عليه الماء ثم نحى رجليه فغسلهما. الفتح ج 1 ص 376.

(1/214)


سامح بتأخير غسل الرجلين لم يراع أن يؤتى بالوضوء على صفته. وإذا لم يراع ذلك أدخل فيه ما ليس من خصائصه وهو التخليل. وهذه الطريقة التي تستمر على القول بأن المتوضئ في ابتداء غسله ينوي بغسل أعضاء وضوئه غسل الجنابة. وإنما قُدّمت على بقية الجسد لما لها من الحرمة عليه. بكونها محلًّا لطهارة أخرى. وإلى هذا كان يذهب من شافهته من شيوخنا المحققين.

والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: أما تخليل شعر الرأس فإنه يختلف فيه كما اختلف في تخليل شعر اللحية. هكذا ذكر القاضي أبو محمَّد في غير هذا الكتاب. وأنت إذا اعتبرت ما قدمناه من وجه الاختلاف في شعر اللحية وصح له (1) حكم شعر الرأس فلا معنى لإعادته.
والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: إنما اختار أن يغرف الماء ثلاثًا لأنه القدر المختار في الطهارة الصغرى *فأجراه على هذه الطريقة* (2) لتجري العبادات مجرى واحدًا.
__________
(1) لك -ح-.
(2) ما بين النجمين ساقط -ح-.

(1/215)