شرح التلقين

باب المياه وأحكامها
قال القاضي رحمه الله: الأصل في المياه كلها، الطهارة والتطهير على اختلاف صفاتها ومواضعها. من سماء أو أرض أو بحر أو نهر أو عين أو بئر ملح أو عذب جار (1) أو راكد. كان باقيًا على أصل مياعته، أو ذائبًا بعد جموده، إلا ما تغيرت أوصافه، التي هي اللون، والطعم، والريح، أو أحدها من مخالطة ما ينفك عنه غالبًا. وبما ليس بقرار له. ولا متولد عنه. فما تغير بذلك، فإنه خارج عن أصله. ثم المخالطة على ضربين: طاهر ونجس. فالطاهر يسلبه التطهير فقط، فيصير طاهرًا غير مطهر كسائر المائعات. والنجس يسلبه في الصفتين جميعًا، الطهارة والتطهير. ويصير به نجسًا من غير حد في ذلك مضروب، ولا مقدار موقوف، سوى أنه يكره استعمال القليل منه الذي لا مادة له، ولا أصل، إذا خالطته نجاسة ولم تغيره، كماء الجب والجرة وسائر الأواني، وآبار الدور الصغار. ولا يكره في الكثير كالحياض والغدر الكبار. ويجمع أوصافه أن يقال الماء على ضربين: مطلق ومضاف. فالتطهير هو بالمطلق دون المضاف. فالمطلق ما لم يتغير أحد أوصافه بما ينفك (2) عنه غالبًا بما ليس بقرار له، ولا متولد عنه فيدخل في ذلك الماء القراح. وما تغير بالطين لأنه قراره، وكذلك ما يجري على الكبريت، وما تغير بطول المكث، لأنه متولد عن مكثه. وما تغير بالطحلب؛ لأنه من باب مكثه، وما انقلب (3) عن العذوبة إلى الملح؛ لأنه من أرضه، وطول إقامته. ويدخل فيه الماء المستعمل
__________
(1) ساقطة -الغاني.
(2) ينقل -ق-.
(3) انتقل -ق-.

(1/216)


على كراهة منا له (1). وكذلك القليل الذي لم تغيره النجاسة. والمضاف (2) نقيض المطلق. وهو ما تغيرت أوصافه أو أحدها من مخالحالة ينفك عنه غالبًا. وهو على ضربين مضاف نجس، ومضاف طاهر. وذلك بحسب المخالط له. وما تغير بزعفران، أو عصفر، أو كافور أو بغير (3) ذلك من الطيب أو بلبن، أو خل، أو بشيء من المائعات أو الجامدات (4) فهو طاهر غير مطهر.

قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل عشرة أسئلة منها أن يقال:
1 - ما حكم الماء؟.
2 - وما الدليل على أن أصله الطهارة أو التطهير؟.
3 - وهل (5) تغير الرائحة كتغير اللون؟.
4 - وما حكم القليل الذي لم تغيره النجاسة الحالة به؟.
5 - وما حكم القليل الذي لم يغيره الطاهر الحال به؟.
6 - وما حكم الماء المشكوك فيه؟.
7 - وهل يقبل خبر الواحد عن نجاسة الماء؟.
8 - وما حكم الماء المستعمل؟.
9 - وما حكم الماء إذا ألقى فيه شيء (6) من جنس ما لا ينفك عنه؟.
10 - وما حكم تغيره بالمجاور (7) له؟.

فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: حكم الماء الطهارة في نفسه. وهذا ليشركه فيه غيره من سائر الطهارات. وله حكم آخر يختص به وهو تطهيره لسائر النجاسات ورفعه للأحداث، إن قلنا أن التراب لا يرفع الحدث.
__________
(1) استعماله -الغاني.
(2) والماء المضاف -ق-.
(3) أو غير -الغاني.
(4) أضاف الغاني قوسين (لأنه مما خالطه ما ينفك عنه غالبًا فأشبه بماء الباقلاء) اعتمادًا على نسخة -ز- عنده- وهذه الزيارة غير موجودة بجميع نسخ الشرح.
(5) ولم -ح-.
(6) شيء ساقطة -ح-.
(7) المجاورة -ح-.

(1/217)


والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: الدليل على أن أصل المياه التطهير قوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} (1). وقوله عليه السلام لما سئل عن بئر بضاعة: الماء طهور لا ينجسه شيء (2). فعم سائر المياه. وقوله عليه السلام: في ماء البحر لما قيل له أفنتوضأ من ماء البحر؟ هو الطهور ماؤه الحل ميتته (3). والمراد بالطهور ها هنا المطهر، لأنه إنما سئل عن التطهر به، فأجاب بأنه طهور. فلا بد أن يكون معنى ذلك أنه مطهر، حتى يكون الجواب مطابقًا للسؤال. وهذا الحديث وإن كان يختص بماء البحر فسائر المياه مثله في الحكم. وإذا ثبت ذلك ثبت أن أصل المياه ما ذكرناه ما لم يعرض لها ما يسلبها حكميها أو أحدهما على ما ذكر تفصيله القاضي أبو محمَّد.
والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: أما إن لم يغير المخالط سوى الرائحة فإن في ذلك قولين: أحدهما وهو المشهور من الحديث أنها تحل محل تغير اللون أو الطعم. لقوله عليه السلام: "خلق الله الماء طهورا لا ينجسه شيء إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه" (4). والثاني أن ذلك لا يؤثر، لأنه لم يذكرها في بعض طرق الحديث. ولو كانت تؤثر لذكرها، كما ذكر اللون والطعم.

والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: أما الماء القليل كالجرة، وشبهها تحله النجاسة التي لا تغيره فإن فيه اختلافًا. قال بعض أصحابنا: إنه نجس.
__________
(1) سورة الأنفال، الآية: 11.
(2) متفق عليه.
(3) حديث بئر بضاعة. رواه أبو داود والترمذي والنسائي وأحمد وغيرهم من طرق متعددة.
النهاية ج 1 ص 259/ 267.
(4) روى البخاري في أول الباب تعليقًا: قال الزهري لا بأس بالماء ما لم يغيره طعم أو ريح أو لون. ووصله ابن وهب في جامعه عن يونس عن الزهري - ورواه البيهقي بالمعنى عن الأوزاعي عن الزهري فتح الباري ج 1 ص 355.
كما أخرج ابن ماجة في باب الطهارة. أن الماء لا ينجسه شيء إلا ما غلب على ريحه وطعمه ولونه رقم الحديث 521.

(1/218)


وظاهر هذا أنه قد سلب حكماه: (1) الطهارة والتطهير. ووجه ذلك قوله عليه السلام: إذا كان الماء قلتين لم يحمل نجسًا (2). دليله أنه إذا كان دون القلتين حمل النجس. وقوله عليه السلام: لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل منه (3).
فإنما نهى عن ذلك لأنه ينجس بالبول. وروي عن مالك ما ظاهره أن هذا الماء باق عنده على أصله (4) لم يسلب حكماه ولا أحدهما. ووجه ذلك قوله عليه السلام: الماء طهور لا ينجسه شيء (5). وهذا على عمومه إلا ما خصه الدليل. وأيضًا فإنه عليه السلام أمر بصب ذنوب من ماء على بول الأعرابي (6). والذنوب الدلو الكبير ومعلوم أن هذا الماء الذي أمر بصبه يخالط النجاسة، والبقعة مع هذا تطهير به.
ولا فرق بين ورود الماء على النجاسة أو ورودها عليه. لأن المخالطة حصلت في الحالين. فلا اعتبار بتقدم أحد الشيئين. وأيضًا فإن الأنهار العظيمة طاهرة إجماعًا، كالنيل وشبهه. مع كون النجاسة تنبعث إليها، والمواضع المتغيرة بالنجاسة منها نجسة. فدل على أن التغير علة التأثير. فإذا حصل أثر، وإذا لم يحصل بقي الماء على أصله. وهذا يجب طرده في قليل المياه
__________
(1) حكم -ق-.
(2) حديث القلتين أخرجه أبو داود والترمذي والحاكم والدارقطني والبيهقي وغيرهم - الهداية ج 1 ص 269/ 271.
(3) لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل منه. أخرجه الستة وأحمد وغيرهم عن أبي هريرة - الهداية ج 1 ص 255.
(4) باق على أصل خلقته -ق-.
(5) أخرجه أحمد عن ابن عباس: الماء لا ينجسه شيء ج 1 ص 235.
وروي بلفظ الماء طهور لا ينجسه شيء - أخرجه الترمذي وعلق عليه.
أخرجه أحمد وأبو داود. العارضة ج 1 ص 83. وهو عند أحمد بهذا اللفظ عن أبي سعيد الخدري من طريقين. ج 3 ص 86.
(6) أخرجه الشيخان البخاري وضوء 58 ومسلم طهارة ج 9 ص 236. ولفظ مسلم - عن يبيح ابن سعيد أنه سمع أنس بن مالك يذكر أن أعرابيًا قام إلى ناحية في المسجد فبال فيها فصاح به الناس فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعوه. فلما فرغ أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذنوب فصب على بوله.

(1/219)


وكثيرها. وقد سلك بعض من ذهب إلى هذا المذهب مسلكًا آخر. فذهب إلى أن هذا الماء مكروه. ووجهه (1) الأخذ بالأحوط ليتطهر بماء متفق عليه. وقد ذهب بعض أصحاب مالك إلى طريقة أخرى أيضًا. وهي التشكك في حكم هذا الماء، وإيجاب الجمع بينه وبين التيمم. ووجه ذلك تعذر الترجيح بين القولين الأولين فوجب الجمع بين مضمونيهما (2). فيؤمر المكلف بالوضوء، لجواز أن يكون الماء طاهرًا، وبالتيمم لجواز أن يكون نجسًا. فإذا جمع بينهما تيقن براءة ذمته. واختلف هؤلاء فيما يُقدَّم منهما على صاحبه. قال بعضهم يتوضأ ويتيمم، ويصلي. لأن هذا الماء طاهر على أصل المذهب. فوجب أن يتلف (3) باستعماله حتى يحصل متيممًا مع عدم الماء. وقال بعضهم يتيمم ويصلي ثم يتوضأ ويصلي لأن هذا الماء مشكوك في نجاسته. ولهذا افتقر معه إلى التيمم. فإذا بدأ به قبل التيمم خيف أن تكون أعضاؤه قد نجست به وإذا قدم التيمم أمن ذلك. لأنه إن كان الماء نجسًا ففرضه التيمم وقد فعله. فنجاسة الأعضاء بعد أداء العبادة على وجه يبريه، لا تأثير له.

والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: أما القليل إذا حله طاهر لم يغيره فإنه باق على أصله. وخرج بعض العلماء (4) المتأخرين أنه مكروه كما كره الماء القليل إذا حلته النجاسة القليلة. وهذا التخريج غير صحيح لأن النجاسة القليلة قد قدمنا أن الماء ينتقل بها عن أصله عند بعضهم ويصير نجسًا، فكره عند آخرين مراعاة لهذا القول وتحرزًا منه، فافترق الأمران. هذا وقد ذهب بعض أصحابنا على ظاهر ما نقل عنه: أن الطاهر المخالط إذا لم تغلب أجزاؤه على أجزاء الماء فإنه لا يسلب الماء حكمه. وإن غلب على أوصافه. ولكنه مكروه عنده تحرزًا من الاختلاف. فهذه طائفة لم ترل المغير الطاهر إذا غلب بأعراضه
__________
(1) ووجه -ح-.
(2) مضمونها -ح-.
(3) هكذا في جميع النسخ. وفي -ق- مخروم غير واضح. والظاهر أنه إذا كان الماء الذي معه قليلًا.
(4) ساقطة من -و-.

(1/220)


دون أن يغلب بجوهره. فكيف بما لم (5) يغلب لا بجوهره ولا بأعراضه. على أن هذا القول الذي صار إليه هو ضعيف عندي على أصولنا: لأن المغير النجس يؤثر في الماء ويسلبه حكمه وإن لم تغلب أجزاؤه على أجزاء الماء فكذلك يجب أن يكون المغير الطاهر لا سيما إذا قيل أن تسمية الماء المطلقة تسلب عنه. فلا يعبر عنه إلا بالإضافة. فيقال ماء الزعفران، وماء الباقلاء. فإذا كان لا يعبر عنه إلا بالإضافة وجب تركه للتيمم لأنه تعالى شرط في التيمم فقد الماء المطلق. ومن لم يجد إلا هذا الماء المضاف فقدْ فقدَ الماء المطلق فوجب أن يتيمم.

والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: الشك في الماء على قسمين: أما أن يشك في المغير هل هو من جنس ما يؤثر أم لا؟ وإما أن يشك في محل النجاسة لا في حصولها. فأما القسم الأول فإنه لا تأثير له ولا ينقل الماء عن أصله استصحابًا لحال الأصل. حتى يتحقق وجود ما من شأنه أن يؤثر فيه. وقد وقع في المذهب النهي عن استعماله إذا كانت هناك حالة قريب، كالآبار القريبة من المراحيض، فإن مالكًا رضي الله عنه قال: بنزف اليومين والثلاثة. فإن طابت وإلا لم يتوضأ منها. ووجه ذلك أن قرب المراحيض منها يسبق معه إلى النفس كون التغير مضافًا إليها. وهو الظاهر من الحال، لفقد ما سوى ذلك من الأسباب المغيرة. فأمر باجتنابه لأجل هذا الظاهر من الحال.
وأما القسم الثاني فإنه إذا شك في محل النجاسة كمن معه مَاآنِ - تيقن بنجاسة أحدهما لا بعينه وطهارة الآخر، فإن فيه اختلافًا. فذهب بعض أصحابنا إلى أنه يتحرى الطاهر منهما فيتطهر به ويجزيه ذلك. ووجهه أنه لما جاز الاقتصار على الطاهر في الظاهر من الحال، كما قدمناه في استصحاب حكم الأصل، جاز الاقتصار على التحري. لأن الظاهر من التحري إصابة الصواب.
وقياسًا على التحري للقبلة عند الاشتباه. وذهب بعض من قال بالتحري إلى إجازته فيما كثر من الأواني لمشقة استعمال الكل. ومنعه فيما قل منها لخفة أن يتوضأ من كل إناء، ويصلي بطهارته به. وذهب بعض أصحابنا إلى أنه يتوضأ بأحدهما ويصلي. ثم بالآخر ويصلي. لأنه إن اقتصر على أحدهما جُوز أن
__________
(5) لم = ساقطة -ح-.

(1/221)


يكون هو النجس، وإن تحراه. وإن اجتنبهما حصل متيممًا مع وجود ماء طاهر فإذا امتنع الوجهان لم يبق إلا أن يتوضأ بكل واحد منهما ويصلي به. فتبرأ ذمته باليقين. وقياسًا على من نسي صلاة واحدة لا يعلم أي صلاة هي؟ فإنه يصلي الخمس طلبًا لليقين لبراءة ذمته.
وقد سلك بعض هؤلاء (1) طريقة* التحري في هذا الباقي. وذهب بعض القائلين بالتحري إلى منع التحري ها هنا واعتل بأن التحري إنما يكون بين أمرين فأكثر كالقبلة وغيرها وهذا ضعيف لأن كثرة العدد وقلته لا تأثير له إذا أتى الاجتهاد* (2). واشترط أن يغسل من الآخر موضع الطهارة ليحمل له اليقين بطهارة المحل من النجس. ثم يتطهر منه للحديث. وذهب بعض أصحابنا إلى أنه يجتنب الجميع ويتيمم. ووجه ذلك أنه لا يصح الاقتصار على أحدهما لما قدمناه، ولا الجمع بينهما على الصفة التي قدمنا. لأن في ذلك تكريرًا للصلاة الواحدة. والصلاة الواحدة لم يوجب الشرع منها في اليوم الواحد إلا واحدة لا أكثر. فلما بطل الاقتصار على أحدهما، والجمع بينهما صارت المياه في حكم العدم. فوجب التيمم. فإن انقلب أحد الإناءين فأهراق قبل النظر فيهما. فلا أعلم فيهما (3) نصًا لأصحابنا. ويجب عندي أن يكون حكمه حكم (4) التيمم عند من قال به في وجوبهما (5) على ما تقدم بيانه. لأنه إنما وجب التيمم عنده بحصول الشك في عين النجس منهما. والشك في الباقي منهما حاصل كحصوله مع وجودهما. فوجب أن يكون الحكم واحدًا. ويجب أن يكون حكمه عند من قال من أصحابنا أنه يتوضأ بهما على ما سبق بيانه أن يتوضأ بالباقي منهما ويتيمم. لأنه إنما وجب الجمع بينهما طلبًا لحصول اليقين ببراءة الذمة كما تقدم بيانه. ولا
__________
(1) هؤلاء هذه الطريقة في -ح-ق-.
(2) ما بين النجمين ساقط من -ح-و-ق- مثبت في صلب الوطنية الفرع وبهامش إحداهما - وفي نهايته. والله الموفق للصواب وإليه المرجع والمآب ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
(3) هكذا في جميع النسخ. ولعل الصواب فيها.
(4) هكذا في جميع النسخ. والأولى إسقاط حكم.
(5) هكذا في جميع النسخ ولعل الصواب وجودهما.

(1/222)


يحصل اليقين ها هنا إلا بما قلناه من الجمع بين استعمال هذا الماء لجواز أن يكون هو الطاهر، وبين التيمم لجواز أن يكون هو النجس. فإذا ثبت أن الحكم على هذه الطريقة =الجمع بينهما= فما الذي يقدم على صاحبه؟ يتخرج على قولين قدمنا ذكرهما في حكم الماء المشكوك فيه. فأحد القولين تقدمة الماء إذ لا يصح التيمم مع وجوده. وهذا الماء يجوز أن يكون هو الطاهر فيؤمر بإتلافه حتى يحصل التيمم بعد عدم الماء. والقول الثاني أن يقدم التيمم لجواز أن يكون الباقي (1) هو النجس. فإذا قدمه في الاستعمال نجس أعضاءه ونجاسة الأعضاء لا يرفعها التيمم. فوجب أن يقدم التيمم ليأمن من هذا الوجه الممنوع ويجب أن يكون حكمه عند من قال من أصحابنا بالتحري فيهما، الاجتهاد في الباقي والتحري فيه أيضًا. لأنه إنما وجب التحري لتأتي حصول الظن بالطاهر منهما عند تأمل حاله، وتميز أوصافه. وهذا المعنى يتأتى في الباقي منهما، كما كان يتأتى فيه مع وجود صاحبه. فوجب ألا يرتفع ما ثبت من جواز الاجتهاد والتحري في هذا الباقي.
وذهب بعض القائلين بالتحري إلى منع التحري ها هنا. واعتل بأن التحري إنما يكون بين أمرين فأكثر كالقبلة وغيرها. وهذا ضعيف. لأن كثرة العدد وقلته لا تأثير له إذا تأتى الاجتهاد. وتأتي حصول الظن بطهارة الواحد منفردًا كتأتي ذلك فيه مع إضافته إلى غيره، فلم يكن لمراعاة العدد معنى.
ولو أمكن في القبلة أن تتقرر جهة واحدة بالشك في كونها قبلة دون ما سواها، لكان الحكم التحري فيها كما قلناه ها هنا. ولكن ذلك لا يمكن؛ لأنه متى اعتقد في ثلاث جهات أن القبلة ليست فيها، فقد تحقق أن القبلة في الجهة الواحدة الباقية. واستحال الشك فيها. فلهذا لم يكن التحري في القبلة إلا بين أمرين فأكثر. فإن تحرى فيه فعتذر عليه حصول الظن بطهارته فيجب أن ينتقل إلى التيمم أو يجمع بينه وبين التيمم على الطريقة التي قدمنا. فإن كان الإناءان باقيين فتحرى فيهما، فغلب على ظنه أن أحدهما هو الطاهر، فتطهر به وصلى. ثم تغير اجتهاده واختلف اعتقاده، فإن كان تغير اجتهاده إلى اليقين بخطئه في اجتهاده الأول فإنه يغسل ما أصابه منه. ويعيد الصلاة؛ لأنه تيقن الخطأ فأشبه
__________
(1) الثاني -ح-.

(1/223)


الحاكم إذا أخطأ النص فإنه ينقض حكمه. وإن تغير إلى الظن أنه أخطأ في الأول فيتخرج على القول (1) في نقض الظن بالظن، كنقض الحاكم حكمه إذا غلب على ظنه أنه أخطأ فيه. وكالمصلي إلى القبلة باجتهاد ثم غلب على ظنه أنه أخطأ.
وإن اشتبه عليه ماءان ومعه ماء تيقن طهارته فيقتصر عليه ولا يعدل عنه إلى التحري، فيكون ترك اليقين للشك. وهذا عكس الأصول. وإنما لم يقسه على عدول الحاكم على النص إلى الاجتهاد، وإن كان ممنوعًا أيضًا. لأن الحاكم يقطع بخطإ ما خالف النص وهذا لا يقطع بنجاسة ما تحراه. فإن قيل فإن التطهر بالمياه اليسيرة جائز، وإن كانت بقرب البحار والأنهار وهي مجوز عليها أن تكون نجسة. والبحار والأنهار مقطوع بطهارتها فقد صح العدول عن اليقين إلى الظن. قيل لا حكم لهذا التجويز لعدم تيقن النجاسة. والإناءان مقطوع بنجاسة أحدهما فافترق الأمران.
فإن اشتبه الماءان على رجلين فتحرى كل واحد الماء الذي لم يتحره صاحبه، فإنه لا يصلي أحدهما مؤتمًا بصاحبه في الصلاة التي تطهير لها بالماء الذي خالفه فيه لاعتقاده أنه مخطئ فيه. وكذلك لو كثرت الأواني وكثر المجتهدون واختلفوا. فكل من ائتم منهم بمن يعتقد أنه تطهير بالماء النجس فصلاته لا تصح لما قدمناه.

والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: أما خبر الواحد العدل عن نجاسة الماء فمقبول يجب الأخذ به إذا بين وجه نجاسته. لأن هذا من باب الإخبار، لا من باب الشهادة. وما طريقه الإخبار يقبل فيه خبر الواحد. هذا الظاهر من مذاهب المحققين. وإن كان قد تنازع أهل العلم في بعض فروع هذا الأصل كخبر الواحد عن الهلال. والمشهور عندنا أنه لا يقتدى به. ومما يؤكد ما قلناه قول عمرو بن العاص يا صاحب الحوض هل ترد حوضك السباع. والظاهر أنه سأله ليقبل خبره. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا تخبرنا يا صاحب الحوض (2). فلولا أن للخبر الواحد تأثيرًا في هذا المعنى لم ينهه عمر رضي الله
__________
(1) على القولين -ق-.
(2) مالك عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج في =

(1/224)


عنه عن الإخبار عن ورود السباع الحوض ويقبل في ذلك قول الرجل الواحد
والمرأة والعبد. لأن ما طريقه الإخبار تقبل (1) فيه هذه الأجناس. فإن لم يبين
المخبر وجه النجاسة واقتصر على الإجمال، فإن كان مذهبه كمذهب من أخبره
فيما ينجس من المياه وما لا ينجس فإنه يجب الرجوع إلى الخبر (2) ويقوم العلم بمساواته في المذهب مقام الأخبار عن صفة النجاسة. وإن كان مذهبه مخالفًا لمذهب من أخبره على الجملة، (3) لم يحرم استعمال الماء بمجرد إجماله حتى يكشف عن النجس وحاله، لجواز أن يكون قد رأى سبعًا ولغ في الماء فاعتقد أنه قد صار نجسًا. وأخبر بنجاسته على أصل مذهبه، ولا يلزم اتباعه في مذهبه.
ويستحسن عندي العدول عنه إلى غيره من المياه، لجواز أن يكون رأى نجاسة متفقًا عليها فصار الماء بخبره مشتبهًا. وقد قال عليه السلام: من اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه (4).

والجواب عن السؤال الثامن: أن يقال: استعمال الماء في التطهر من الحدث لا يسلبه الطهارة. لأن استعماله لا يسلبه اسمه. فلم يسلبه حكمه. وإضافته إلى الاستعمال لا اعتبار به ولا تأثير له كما لا تأثير لإضافته إلى قراره كدجلة والفرات. أو إلى بعض ما يصنع به كالتسخين والتشميس. وإذا (5) لم يخرج عن اسمه كان من جملة المياه الباقية على أصلها التي لا يجوز التيمم مع وجودها. وأيضًا فإنه عليه السلام توضأ وصب وضوءه على جابر (6). ولو كان نجسًا لم يصبه عليه. وقد توضأ عليه السلام والمسلمون بعده. ولا تكاد تسلم
__________
= ركب فيهم عمرو بن العاص حتى وردوا حوضًا. فقال عمرو بن العاص لصاحب الحوض: يا صاحب الحوض هل ترد حوضك السباع؟ فقال عمر بن الخطاب -رض- يا صاحب الحوض. لا تخبرنا -فإنا نرد على السباع وترد علينا. شرح الزرقاني على الموطإ ج 1 ص 52.
(1) يقبل -ح-.
(2) لخبره -ح-.
(3) على الجملة ساقطة -ق-.
(4) رواه عن النعمان بن بشير البخاري كتاب الإيمان ص 21 أو مسلم كتاب المساقاة ص 107. وأخرجه أبو داود والترمذي وأحمد.
(5) فإذا -ح-.
(6) من حديث أخرجه البخاري ومسلم والبيهقي - السنن ج 1 ص 235.

(1/225)


ثيابهم وأبدانهم من أن يمسها ما يفضل عن أعضائهم. ولم ينقل عن أحد غسل ما أصابه منها. فصار هذا كالإجماع على طهارته. فلا يعتبر بقول من ذهب إلى نجاسته. واختلف هل يسلبه استعماله التطهير أم لا؟ فقيل لا يسلبه التطهير ولكنه يكره استعماله مع وجود غيره. وقيل بل يسلبه التطهير. والواجب التيمم مع وجوده. وقيل هو في معنى المشكوك في حكمه. والواجب الجمع بين فوجه الأول قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} (1). وطهور من أبنية المبالغة. والمبالغة تتضمن التكرير فإذا تضمنته ها هنا ثبت كون الماء مطهرًا (2) مرة بعد أخرى. فإن قيل لا فرق في العربية بين فاعل وفعول في الفعل الجامد كقولك صابر وصبور في أنهما لا يتعديان، ولا في الفعل المتعدي كقاتل وقتول في كونهما متعديين. فلما كان طاهر لا يتعدى وطهور مثله قيل قد فرقت العرب بين فاعل وفعول، جامدًا كان أو معتديًا. لأنهم قالوا صابر وقاتل لمن فعله مرة، وصبور وقتول لمن تكرر ذلك منه. فيحمل طهور على إفادة التكرار طردًا للأصل. فإن قيل هذا يصح على أحد قوليه في صحة التطهير بالماء مرة بعد أخرى. فإن منعتموه امتنع التكرار. وإذا امتنع التكرار امتنع الفرق. قيل أما على هذا القول فترجع التفرقة إلى الجهة الأخرى وهي حمل طهور على التعدي لا أكثر، فيفارق طاهرًا من هذه الجهة. لأن طاهرًا لا يتعدى. ولا بد من اعتبار الفرق من هذه الجهة لما بطل اعتباره من الجهة الأخرى على هذا القول. فإذا لم نثبت بينهما فرقًا خالفنا ما أصَّله أهل اللسان. فإن قيل لا يوسف الفعل بالتعدي حتى تحصل منه التعدية، ولهذا لا يقال قاتل قبل وجود القتل. وأنتم تصفون الماء بكونه طهورًا قبل حصول التطهر به وتمنعون هذا الوصف على قولكم هذا بعد وجود التطهر به. وقيل إنما يصح ما قلتموه فيما يتوهم فيه وجود الفعل وعدمه كالقتل والضرب. لأن الإنسان قد يقتل وقد لا يقتل فأما ما يكون معنى
__________
(1) سورة الفرقان، الآية: 48.
(2) طهورا -ق-.

(1/226)


الفعل منه حاصلًا على كل حال فإنه يوسف به ذلك الفعل قبل وقوعه منه، كقولهم سيف قطوع وإن لم يقطع به، لما كان معنى القطع حاصلًا فيه لا محالة.
ومما يؤكد هذا المذهب أيضًا أنا نعلم أن الماء يمر على أول العضو *ثم بعد ذلك يمر على آخره وقد حصل مستعملًا في أوله ولم يمنع استعماله في أول العضو تطهير* (1) آخره وذلك يوضح أن استعماله لم يخرجه عن أصله. وإنما كره في هذا القول، لأنه مختلف في طهارته ومختلف أيضًا عند من قال بطهارته في صحة التطهر به. فأمر بالعدول عنه إلى غيره لتبرأ الذمة من العبادة على وجه متفق عليه.
ووجه القول الثاني أن استعمال الماء يخرجه عن إطلاق التسمية إلى التقييد، فيقال فيه ماء مستعمل. وذلك يخرجه من ظاهر الآية، وإذا خرج منها وجب التيمم مع وجوده. ولأنه ملك أتلف في تأدية فرض فلم يصح تأديته به مرة أخرى كرقبة أعتقت في الكفارة فإنها لا تصح أن تعتق في كفارة أخرى هذا أمثل ما وجه به هذا القول. وقد قدمنا الانفصال عن قولهم لا يسمى ماء مطلقًا. وأما قياسه على الرقة فإنه لا يصح لأن الرقبة إنما لا يصح تكرير العتق فيها لاستحالة عتق المعتق. والماء لا يستحيل فيه التطهر به مرة ثانية، فافترقا.
ووجه القول الثالث: أن المذهبين المتقدمين لما كان لكل واحد منهما وجه، وجب الاحتياط، بأن يؤخذ بهما فيتوضأ، ويتيمم ليسلم من الخلاف (2).

والجواب عن السؤال التاسع: أن يقال: إن جلب إلى الماء شيء من الأجناس التي لا تؤثر فيه، إذا كانت قرار له كالكبريت، والزرنيخ، فألقيت فيه فغيرته. فهل يؤثر ذلك في حكم الماء أم لا؟ اختلف أصحابنا في هذا الأصل.
فقال بعضهم: لا يؤثر؛ لأنه لما يؤثر في حال كونه قرارًا أصليًا (3) لم يؤثر في حال كونه طارئًا. وقال بعضهم بل يؤثر لأن الأصلي مما لا ينفك الماء منه، ولا يمكن حفظه عنه، وهذا مما يمكن حفظ الماء عنه فأثر فيه إذا كان طارئًا.
__________
(1) ما بين النجمين ساقط -ح-.
(2) الاختلاف -ق-.
(3) أصليًّا ساقط -ح-.

(1/227)


وخالف في ذلك كونه أصليًّا. ومن هذا النمط اختلاف أصحابنا أيضًا في الملح إذا ألقي في الماء فغيره. هل يؤثر في حكمه أو (1) لا؟ وقد أشار آخرون منهم إلى التفرقة بين الملح المعدني وبين ما جمد بالصنعة؛ لأن المعدني حكمه حكم التراب في جواز التيمم به، فلم يكن له تأثير. والمصنوع قد أخرجته الصنعة عن أن يكون من أنواع الأرض ومنعت من صحة التيمم به فوجب أن يؤثر في الماء كالطعام.

والجواب عن السؤال العاشر: أن يقال: أما التغير بالمجاورة دون الممازجة فلا تأثير له. لأن تغير رائحة الماء بانعكاس أبخرة فاسدة إليه لا ينقل الماء عن اسمه ولا عن حكمه. لأن الماء لم يحمل الخبث فيؤثر فيه.
وقد ذهب بعض الناس إلى أن حلول العود وشبهه من أنواع الطيب التي لا تنماع في الماء لا تأثير له وإن غلب على رائحة الماء؛ لأن ذلك من باب المجاورة. وقد قدمنا أنه لا تأثير لها. ووقفت لبعض أصحابنا على أن ذلك يؤثر لحصول المخالطة. وعلى هذا الأسلوب جرى الأمر في الماء المبخر بالمصطكى. وقد تنازع المتأخرون فيه وإنما تنازعوا في حصول السبب المؤثر لا في تأثيره إن حصل.
__________
(1) أم -ح-.

(1/228)