شرح التلقين

فصل في الأعيان الطاهرة
قال القاضي رحمه الله: والحيوان كله طاهر العين، طاهر السؤر إلا ما لا يتوقى النجاسات غالبًا، كالكلب والخنزير والمشركين فأسآرهم مكروهة، وفي الحكم طاهرة إلا ما تغير منها عند إصابتهم النجاسة كأكل (1) النصراني الخنزير، وشربه الخمر فإنه نجس. ويغسل الإناء من ولوغ الكلب في الماء سبعًا. ويراق الماء استحبابًا، ولا يراق ما ولغ فيه (2) من سائر المائعات. وفي غسل الإناء منه روايتان: وأسآر البغال والحمير وسائر الدواب والسباع والطير طاهرة إلا أن يكون شيء منها يأكل النجاسة على ما بيناه. وفي غسل الإناء من ولوغ الخنزير روايتان.

قال الفقيه الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل عشرة أسئلة منها أن يقال:
1 - لم كان الحيوان كله طاهر العين، طاهر السؤر؟.
2 - ولم كان سؤر ما لا يتوقى النجاسة مكروهًا؟.
3 - وهل غسل الإناء من ولوغ الكلب واجب أو مستحب؟.
4 - ولِمَ كانت إراقة سؤره استحبابًا؟.
5 - ولِم فرق بين الماء والمائعات؟
6 - ولِم اختلف قوله في غسله إذا ولغ في المائعات؟.
__________
(1) كأكل الكلب الميتة وأكل النصراني - الغاني. و. غ.
(2) ما ولغ فيه الكلب -الغاني-.

(1/229)


7 - وهل يتكرر الحكم في الإناء الواحد بتكرر ولوغ الكلاب فيه؟.
8 - ولِم خص البغال والحمير والسباع والطير بالذكر وقد أجمل ذلك في أول الفصل؟.
9 - ولِم اختلف قوله في غسل الإناء *من ولوغ الخنزير؟.
10 - وهل يجب غسل الإناء* (1)، من الولوغ على الفور، أو عند إرادة الاستعمال؟.

فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: أن الحياة علة في الطهارة للاتفاق على طهارة الشاة والبعير إذا كانا حيين. فإذا ماتا نجسا. فدل ذلك على أن الحياة علة الطهارة. والعلة يجب طردها. وطردها يقتضي أن الحيوان كله طاهر. وإذا كان طاهرًا كان سؤره طاهرًا. فإن قيل لو كانت الحياة علة الطهارة كما قلتموه لوجب نجاسة الشاة الذكية لفقد الحياة. والعلة إذا فقدت فقد حكمها. قيل هذا صحيح في العلل العقلية، وأما العلل الشرعية فقد تفقد ويخلفها علة أخرى فيتعلق الحكم بها. ألا ترى أن من ارتد قتل، فالردة علة في القتل. ولو ذهبت بأن رجع إلى الإِسلام وزنى محصنًا لقتل؛ لأنها علة ثانية خلفت الأولى. فكذلك التذكية خلفت الحياة فاقتضت الطهارة.

والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: أما ما لا يتوقى النجاسة غالبًا فإن سؤره منهي عن استعماله. وهل هذا (2) النهي على الوجوب أو الاستحباب؟ المذهب على قولين: أحدهما أنه على الاستحباب؛ لأن الغالب حصوله لا يجري مجرى ما تحقق حصوله؛ لأن الغالب إنما يعطي الظن بحصول الشيء.
والمشاهدة للشيء تعطي العلم به. وشتان ما بين العلم والظن. فوجب أن يكون النهي ها هنا على الكراهة لعدم العلم بحصول النجاسة. والثاني أنه على الوجوب ولهذا قال: يتيمم من لم يجد إلا سؤر الحيوان المخلى الذي لا يتوقى النجاسة. ووجهه أن الغالب أجري مجرى الحاصل في الشريعة في مواضع،
__________
(1) ما بين النجمين ساقط من -ح-.
(2) هو -ق-.

(1/230)


كالنوم. لما كان الغالب منه حصول الحدث جعل الحدث فيه كانه قد حصل فنقض الوضوء. وأقل مراتب هذا الغالب أن يفيد الشك. والشك ينقل عن أصل الطهارة في أحد القولين. ويجري مجرى اليقين.
وقد روي عن مالك جواز الوضوء بفضل سؤر شرب النصراني والنهي عن التوضئ بفضل وضوئه. وهذه الرواية إن تركتها على ظاهرها أفادتك قولًا ثالثًا وهو نفي الكراهة والتحريم فيما ذكرناه. ووجهها أن النصراني إذا شرب من ماء فإن أول ما يلقى فمه من الماء يذهب بنجاسته ويبقى ما بعده ويرد على فمه وهو طاهر. فلم يكن لكراهته معنى. ولهذا فرق بين سؤر شربه وسؤر وضوئه لفقد هذه العلة في سؤر وضوئه. وعلى هذا إذا كان الحيوان الذي لا يتوقى النجاسة تكون حاله في ذهاب النجاسة من فمه حال النصراني في شربه، فإنه لا يكره سؤره ولا يحرم. وقد روي أن النبي عليه السلام: توضأ من مزادة مشرك (1) وتوضأ عمر رضي الله عنه من جرة نصراني (2). وظاهر هذا الجواز، ونفي الكراهة. وإن قلنا بالمشهور من المذهب فإنا نعارض هذا الحديث بما روى أبو ثعلبة قال قلت يا رسول الله إنا بأرض أهل الكتاب ونأكل في آنيتهم فقال: لا تأكل في آنيتهم إلا أن لا تجد عنها بدًا واغسلوها بالماء ثم كلوا منها (3). فعم أواني الشرب وغيره. ونهى عن استعمال الجميع. ويجب أن يجري سؤر المسلم
__________
(1) يقول في إرواء الغليل لم أجده، وقد جاء في المنتقى قد صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الوضوء من مزادة مشركة. ومر عليه الشوكاني ولم يخرجه. والحديث المروي هو حديث المزادتين ولم يذكر فيه أنه توضأ من مزادتيها ج 1 ص 72. وحديث المزادتين أخرجه البخاري ومسلم. كما أشار إلى ذلك الشوكاني بقوله: ما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ من مزادة مشركة ج 1 ص 26.
(2) عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر رضي الله عنه توضأ من ماء نصرانية من جرة نصرانية. البيهقي ج 1 ص 32.
(3) أخرج أحمد وأبو داود عن أبي ثعلبة الخشني. قلت يا رسول الله أن أرضنا أرض أهل كتاب وأنهم يأكلون لحم الخنزير ويشربون الخمر. فكيف نصنع بآنيتهم وقدورهم؟ قال: إن لم تجدوا غيرها فارحضوها. واطبخوا فيها واشربوا. بلوغ الأماني ج 1 ص 238.

(1/231)


الخمّير (1) مجرى سؤر النصراني لاشتراكهما في علة النهي التي هي شرب الخمر.
والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: اختلف قول مالك في الأمر بغسل الإناء من ولوغ الكلب فحمله مرة على الوجوب لأن الأمر يقتضي مطلقه الوجوب عند جمهور الفقهاء. وحمله مرة على الندب لأنه إنما أمر بغسل الإناء من ولوغه لأنه مما يستقذر. وتوقي ما يستقذر، وتعافه النفس غير واجب.

والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - في رواية مسلم أنه قال: فليرقه ثم يغسله سبع مرات (2). والأظهر في المذهب أن ذلك تعبد، لا لنجاسة الكلب. وقال أبو حنيفة والشافعي إنما ذلك؛ لأن الكلب نجس. وهو ظاهر مذهب ابن الماجشون. لأنه قال: إن ولغ في اللبن، أكل إن كان بدويًّا، وطرح إن كان حضريًّا. وإن ولغ في الماء طرح حضريًا كان أو بدويًّا. فإن عجن به طعام طرح. قال لأنه نجس وهذا تصريح منه بنجاسة الكلب. وهكذا في السليمانية أنه إذا ولغ في ماء فطبخت به قدر لم يؤكل. وسوى مطرف في اللبن بين البدوي والحضري. واعتبر القلة والكثرة فطرح القليل وأكل الكثير. وطرد مذهب ابن الماجشون يوجب (3) أن يستوي حكم البدوي والحضري كما قال مطرف. لأن النجاسة يستوي حكمها في البدو والحضر. ولكنه خرج عن أصله لأصل آخر، وذلك أنه ثبت أنه عليه السلام أباح سؤر الهرة. وعلل بتطوافها (4) علينا. وهذا تنبيه منه - صلى الله عليه وسلم - على أن ما يشق التحرز منه ولا يمكن إبعاده فإنه معفو عنه. والكلب في البدو بهذه المنزلة. وقد قال سحنون الهر أيسر من الكلب.
__________
(1) الخمّير: المكثر من شرب الخمر.
(2) رواه مسلم والنسائي وابن الجارود.
(3) ساقط من -ح-.
(4) قوله - صلى الله عليه وسلم -: أنها أي الهرة ليست بنجسة أنها من الطوافين عليكم والطوافات. أخرجه مالك والشافعي وأحمد وأصحاب السنن وغيرهم. الهداية ج 1 ص 287 - 288.

(1/232)


والكلب أيسر من السباع. وإنما ذلك بقدر الحاجة إليه ومشقة التحرز عن مخالطته. وقال أيضًا كل كلب لم يؤذن في اتخاذه، نجس. وهذا لأنه لا تمس الحاجة إليه فلم يعف عنه. وساوى في الماء بين البدوي والحضري لعدم المضرة بطرحه. وأما مطرف ففرق بين القليل والكثير على ما ذكرناه لمشقة طرح الكثير، وخفة طرح اليسير، أو لأن الكثير يحمل النجاسة بخلاف اليسير. فاحتج من ذهب إلى طهارته بقوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ}. (1) ولم يأمره بغسل ما باشره بفمه. وبأنه عليه السلام علل طهارة الهر بالتطواف علينا وهذه علة يشاركها الكلب فيها فكان حكمه حكمها.
واحتج من ذهب إلى نجاسته بأنه عليه السلام أمر بإراقة سؤره. وظاهر هذا أنه لنجاسته. وقد أجيبوا عن هذا بأنه لاستقذاره أمر بذلك. واحتجوا بأنه قال في بعض طرق الحديث: طهور إناء أحدكم (2). ولفظة طهور تدل على نجاسة تطهير. وأجيبوا عن هذا بما قدمنا في أول الكتاب من أصل الطهارة الخلوص من الأدناس. ومنه قوله تعالى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} (3). فالمراد بالحديث خلوص الإناء من أن يستقذر وتعافه النفس. واحتجوا أيضًا بأنه عليه السلام نهى عن ثمنه. وتحريم الثمن إنما يكون لأحد ثلاثة أقسام: أما لعدم المنفعة كالخشاش، والكلب بخلاف ذلك. لأنه ينتفع به. وأما لحرمته كالحرة وأم الولد. والكلب لا حرمة له. وأما للنجاسة فكالميتة والدم. والكلب كذلك. وأجيبوا عن ذلك بأن النهي على جهة التنزيه، والأخذ بالأرفع في الهمة ككسب الحجام وشبهه. وقد تقابلتا (4) هذه الأدلة عند بعض أصحابنا فألحق الكلب بالمشكوك في حكمه. فقال من لم يجد سؤر الكلب جمع بينه وبين التيمم.
__________
(1) سورة المائدة، الآية: 4.
(2) روى مسلم بسنده إلى أبي هريرة -قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب- وفي رواية محمَّد بن رافع عدم ذكر الترتيب.
(3) سورة آل عمران، الآية: 55.
(4) تعارضت -ق-.

(1/233)


فإن قيل لو أدخل الكلب ما سوى فمه من أعضائه في الإناء فهل ينجسه عند من قال بنجاسة الكلب؟ قيل ينجسه إذا كان الإناء رطبًا. وقد نص على ذلك بعض من ذهب إلى نجاسة الكلب. وهو صحيح على هذا الأصل. ويحل ذلك محل جلد الميتة عند من لم ير أنه لا يطهر بالدباغ إذا استعمل في المائعات.

والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: إنما فرق بين الماء والمائعات لخفة طرح الماء وقلة الضرر اللاحق بإراقته. والطعام بخلافه. لأنه مما يلحق الضرر بإتلافه، والضرر مز الذي الشرع.

والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: إنما اختلف قوله في غسله إذا كان فيه مائع سوى الماء؛ لأنه ورد الحديث عامًا في سائر الأواني والأوعية. فأخذ مرة بعموم هذا الحديث وأجراه على إطلاقه. وخصه مرة بالعادة. فرأى أن الكلاب لم تكن تصل في زمن النهي إلى الطعام لقلته عندهم. وإنما كانت تلغ في المياه فحمل الحديث على المألوف عندهم.

والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: إذا ولغت كلاب في إناء واحد فهل يغسل لكل كلب سبعًا أو يكتفي بسبع في سائر الكلاب؟ هذا مما لم ينص عليه أهل المذهب. وقد تنازع فيه من سواهم من أهل العلم. فوجه القول بأنه يكتفى بسبع في سائر الكلاب وهو الأظهر عندي في النظر، أن الأسباب إذا تساوت موجباتها اكتفي فيها بحكم أحدها. ألا ترى أن من بال وجب عليه أن يتوضأ. ومن تغوط وجب عليه أن يتوضأ أيضًا. فإذا اجتمعا معًا أجزأ فيهما وضوء واحد. فكذلك كل كلب على حياله يجب أن يغسل الإناء من ولوغه سبعًا. فإذا اجتمعت الكلاب اكتفي في جميعها بسبع قياسًا على ما قلناه في أحداث الوضوء أنه يكتفى فيها إذا اجتمعت (1) بوضوء واحد. وهكذا يجب على هذه الطريقة إذا قلن ابن جاسة الكلب وولغ في الإناء، ووقع في الإناء *نجاسة
__________
(1) إذا اجتمعت ساقطة -ح-.

(1/234)


أخرى* (1)، دم أو غيره، فإنه يكتفي في تطهيره من النجاستين بسبع غسلات. وكذلك لو قيل بطهارة الكلب، وأن الغسل تعبد، لاكتفي أيضًا بالسبع لأن النجاسة لا يفتقر غسلها لنية (2)، وإنما المراد ذهابها، وقد ذهبت ها هنا بهذه (3) الغسلات، فلا معنى لاعتبارها.
ووجه القول بأنه يجب أن يختص كل كلب بسبع غسلات، أن كل كلب ثبت له هذا التحكم إذا انفرد، فكذلك إذا اجتمع مع غيره. لأنه في حال انفراده كهو في حال اجتماعه. وقد فهمنا أيضًا من الشرع أن تكرر (4) الغسل في الإناء تغليظ وتشديد. وإلا فالبول والعذرة، وما هو آكد من نجاسة الكلب، لا يشترط في غسله سبع مرات. وإن كان أحمد بن حنبل طرد الأصل في الجميع وأمر (5) أن تغسل كل نجاسة سبعًا وثامنة بالتراب. فإذا كان المفهوم من الشرع أن تكرير غسله تغليظ، كان طرد هذا الأصل أن تكرر (6) الغسلات لكل كلب تغليظ أيضًا وتشديد حتى يجري الحكم في هذا الباب مجرى واحدًا.

والجواب عن السؤال الثامن: أن يقال: إنما خص أسآر البغال والحمير والسباع والطير بالذكر بعد أن أجملها أول الفصل تنبيهًا على الخلاف. لأن الشافعي وافقنا في سائر الحيوان وخالفنا في الكلب والخنزير. وزاد أبو حنيفة سباع البهائم. قال: وأما سباع الطير والحشرات كالفأرة ونحوها فنجس] إلا أنه عفي عنه لامتناع التحرز منه. والوضوء به وإن كان جائزًا، فإني أكرهه وكذا الهر. وأما البغال والحمير فمشكوك في حكمها عنده. فإن لم يجد إلا سؤرها جمع بينه وبين التيمم على حسب ما قاله بعض أصحابنا في سؤر الكلب. فلأجل هذا التفصيل الذي وقع بين هذين الإمامين نص على ما ذكره من أعيان الحيوان لينبه على الخلاف. ولهذا قد قيل في المذهب بكراهة سؤر السباع لأجل هذا الاختلاف، أو لأجل أنها لما كانت تفترس غالبًا حكم لأسآرها بحكم النجس. وقد قيل أيضًا بكراهة سؤر البغال والحمير وهذا أيضًا مراعاة للخلاف الذي ذكرناه.
__________
(1) ما بين النجمين ساقط -ق-.
(2) إلى نبة -ق-.
(3) بذهب -ح- ساقطة -ق-.
(4) تكثير -ق-.
(5) وأمر ساقطة من -ح-.
(6) تكرير -ق-.

(1/235)


والجواب عن السؤال التاسع: أن يقال: أما الخنزير، فقد اختلف قوله في غسل الإناء من ولوغه سبعًا. فأثبته قياسًا على الكلب لأنه أغلظ في التحريم منه وأشد استقذارًا فكان أحق بتكرير الغسل من الكلب. ونفاه مرة أخرى لأن سائر النجاسات "المجمع عليها لم يرد الشرع باشتراط عدد فيها. ولهذا أمر عليه السلام يصب ذنوب على بول الأعرابي ولم يشترط عددًا (1). وقال في الدم حتيه ثم اغسليه (2) ولم يشترط عددًا. فإذا لم يشترط العدد في النجاسة "المجمع عليها، فالخنزير أحرى ألا يشترط. وقياسه على الكلب لا يصح إلا بعد اجتماعهما في علة واحدة. ولم يقم الدليل على اجتماعهما في ذلك فأبقي (3) كل واحد منهما على ما اقتضاه الشرع فيه.

والجواب عن السؤال العاشر: أن يقال: أما غسل الإناء فلا يجب إلا عند إرادة الاستعمال هذا مذهب الجمهور. وذهب بعض المتأخرين إلى غسله وإن لم يرد استعماله. لأنهم رأوا أن الغسل إنما كرر تغليظًا. وطرد هذا أن يغلظ عليه بغسله وإن لم يرد استعماله. وهذا غير صحيح؛ لأنا وإن سلمنا أن الشرع إنما كرر غسله تغليظًا فليس لنا أن نغلظ على المسلمين بكل ما اتفق. هذا وأصول الشرع مبنية على أن لا تجب الطهارة حتى يحضر الذي من أجله وجبت سواء كانت طهارة حدث، أو نجس أو عبادة. وكذلك يجب أن يكون الحكم في مسألتنا لا تجب طهارة الإناء إلا عند إرادة استعماله لأنه إنما يطهر للاستعمال.

قال القاضي رحمه الله: ثم الحيوان بعد ذلك على ضربين بري وبحري.
__________
(1) تقدم تخريجه.
(2) قال - صلى الله عليه وسلم - جوابًا للسائلة: إذا أصاب إحداكن الدم من الحيض فلتقرصه ثم لتنضحه بالماء ثم لتصلي. وفي رواية حتيه ثم اقرصيه بالماء ثم انضحيه. أخرجه مسلم والبخاري والترمذي والنسائي وغيرهم. مختصر سنن أبي داود ج 1 ص 220. وفي رواية للترمذي: حتيه ثم اقرصيه بالماء ثم رشيه وصلي. البيهقي ج 1 ص 244، العارضة ج 1 ص 219.
(3) فابقي عمل -ح-.

(1/236)


فالبحري طاهر العين حيًّا وميتًا، كان سمكًا، أو غيره، كان مما له شبه في البر أو مما لا شبه له، لا ينجس في نفسه إذا مات (1) ولا ينجس ما مات فيه من ماء (2) أو مانع. ويجوز (3) التطهر مما (4) مات فيه على الإطلاق، إلا أن يغيره فيصير مضافُ الا نجسًا. والبري ضربان منه ما له نفس سائلة كسائر ما ذكرناه من الدواب وغيرها من الطير والفأر (5) والسنانير. فما مات من ذلك نجس. ونجس (6) ما مات فيه من مائع غيره أو لم يغيره، ولا ينجس الماء إلا إن غيره. إلا أنه يستحب نزح البئر التي تموت فيها بحسب كبر الدابة وصغرها، وكثرة ماء البئر وقلته. وذلك توق واستحباب. وما تغير وجب نزح جميعه إلى أن يزول التغير. والضرب الآخر ما لا نفس له سائلة كالزنبور والعقرب والخنفساء والصرار، وبنات وردان وشبه ذلك. فحكم هذا حكم دواب البحر لا ينجس في نفسه، إذا مات (7) ولا ينجس ما مات فيه من مائع أو ماء، وكذلك ذباب العسل والباقلاء ودود النحل.

قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل عشرة أسئلة منها أن يقال:
1 - ما معنى تقييده بقوله حيًّا وميتًا؟.
2 - وما معنى تقييده بقوله كان مِمَّا له شبه في البحر أو مما لا شبه له؟.
3 - وما معنى قوله لا ينجس في نفسه إذا مات ولا ينجس ما مات فيه؟.
4 - وما معنى تقييده بقوله من ماء أو مائع؟.
5 - وما دليل هذه الجملة؟.
6 - وما مرادهم بالنفس السائلة؟.
7 - ولم كان المائع ينجس وإن لم يتغير والماء لا ينجس إلا بالتغير؟.
8 - ولم كان النزح توقيًا واستحبابًا فيما لم يتغير؟.
9 - ولم كان ما لا نفس له سائلة لا ينجس بالموت؟.
__________
(1) إذا مات ساقطة -الغاني-.
(2) من ماء ساقطة -الغاني-.
(3) مما يجوز -ح-.
(4) بما -الغاني.
(5) والفأرة- الغاني-.
(6) ونجس ساقطة -ح- نجس في نفسه وينجس -الغاني.
(7) إذا مات ساقطة -ح-ق-. والتصويب من الغاني.

(1/237)


10 - وهل البرغوث والبعوض ملحق بالقسم الأول أو الثاني؟.

فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: إنما قيد ذلك بذكر الحياة والموت لأن أبا حنيفة ذهب إلى أن ميتة البحر لا تحل كميتة البر. ولنا عليه قوله سبحانه: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} (1). قال عمر رضي الله عنه: الصيد ما صيد منه. وطعامه ما رمى به. وله علينا قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ}. (2) ولم يفرق بين ميتة البر والبحر. وهذان عمومان تعارضا. فيجب رد أحدهما للآخر. فله أن يقول المراد بقوله صيد البحر وطعامه ما كان حيًا بدليل قوله تعالى حرمت عليكم الميتة. ولنا أن نقول المراد بقوله حرمت عليكم الميتة إذا كانت برية بدليل قوله أحل لكم صيد البحر وطعامه. وإذا تعارض العمومان وتقابل البناءان وجب طلب الترجيح. فلنا ترجيحان أحدهما: من نفس الظاهر، والآخر من غيره. فأما الذي من نفسه فهو قوله وطعامه بعد ذكره لصيده فيجب أن يحمل قوله وطعامه على فائدة ثانية غير فائدة قوله صيد البحر، ولا فائدة لها إلا ما رمى به. والغالب فيما رماه أنه لا يكون إلا ميتًا. وقد ذكرنا قول عمر رضي الله عنه في تأويل الآية وهو صاحب وإمام يرجح بقوله. وأما الترجيح من غير الآية فقوله عليه السلام في البحر: هو الطهور ماؤه الحل ميتته (3). وهذا يستعمل ترجيحًا ودليلًا.

والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: إنما قيد بقوله كان مما له شبه في البر أو مما لا شبه له؛ لأن من العلماء من ذهب إلى أن ما كان له شبه في البر فحكمه حكم شبهه كإنسان الماء والكلب والخنزير، لا يحل (4) أكلهم وإن كانوا من دواب الماء. لأن أشباههم من حيوان البر لا تؤكل. وقد سئل مالك في المدونة عن خنزير الماء فتوقف فيه. فلأجل هذا الاختلاف قيد بقوله كان مما له شبه في البر أم لا؟ ليشير بهذا التقييد إلى هذا الاختلاف.

والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: إنما أتى بهاتين الجملتين لأن
__________
(1) سورة النساء، الآية: 96
(2) سورة المائدة، الآية: 3
(3) تقدم تخريجه ص 108.
(4) لا يجوز -ح-.

(1/238)


الشافعي ذهب إلى أن ما تولد من الحيوان في شيء كدود النحل والباقلاء فإنه في نفسه نجس. وإن كان لا ينجس ما مات فيه لأنه مما لا يمكن التحرز منه. لكن لو ألقي هذا الدود في شيء آخر لنجسه لإمكان التحرز منه (1). فقد صار الشيء في نفسه نجسًا. ولم ينجس ما مات فيه. فأتى بالجملتين لئلا يظن ظان به إذا اقتصر على أحد الحكمين أنه نفى الآخر.

والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: إنما ذكر الماء والمائع لئلا يظن ظان به متى اقتصر على الماء خاصة أن المائع بخلافه. ويتوهم أن الماء لما كان مما لا ينفك من دوابه المخصوصة به غالبًا عفي عنه ولم يحكم بنجاسته لموت دوابه فيه، كما لم يحكم بإضافته بتغيره بالطحلب، وشبهه لعدم التحرز منه. والمائع بخلافه *في هذا. ولأن الماء أيضًا يدفع عن نفسه والمائع بخلافه* (2) فلأجل هذه الشبهة نبه على أن المائع مساو للماء ها هنا.

والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: أما الدليل على صحة ما قاله من طهارة الحيوان البحري وإن كان ميتًا، وإن كان مما له شبه في البر فقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ} (3). فعم. وقوله عليه السلام في البحر: هو الطهور ماؤه الحل ميتته (4).

والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: الظاهر من مرادهم عند بعض شيوخنا بالنفس السائلة الدم. والنفس من الأسماء المشتركة، فتكون النفس بمعنى العين والذات ومنه قولهم نفس الجوهر ونفس العرض. وهذا لا يصح أن يريدوه ها هنا. وتكون النفس بمعنى الروح *على رأي بعضهم. ثم يختلف هؤلاء في حقيقة هذا المعنى اختلافًا يطول شرحه. ولا مدخل له ها هنا. ويكون النفس بمعنى الدم* (5) ومنه قولهم نفست المرأة وهذا المراد عند بعض شيوخنا بقولهم النفس السائلة يعني الدم.
__________
(1) فيه -ح-.
(2) ما بين النجمين ساقط من -ق-.
(3) سورة المائدة، الآية: 96.
(4) تقدم تخريجه ص 108.
(5) ما بين النجمين ساقط من -ق-.

(1/239)


والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: إنما كان المائع ينجس وإن لم يتغير في المشهور من المذهب *والماء لا ينجس إلا بالتغير في المشهور من المذهب* (1) أيضًا لأن الماء تطهير به النجاسات وتزال به وهو مختص بهذا الحكم *دون غيره مما سواه من المائعات. فإذا أثبت اختصاصه بهذا الحكم* (2) وأنه يطهر النجاسات لم تؤثر فيه إذا طرأت عليه إلا أن تغيره وتغلب عليه. إذ لو أثرت فيه إذا طرأت عليه لم يؤثر فيها إذا طرأ عليها. والمائعات سواه لا تطهير النجاسات إذا طرأت عليها فوجب لذلك أن تؤثر فيها النجاسات إذا طرأت عليها وإن لم تغيرها.

والجواب عن السؤال الثامن: أن يقال: إنما كان النزح توقيًا واستحبابًا لأن الماء لا تؤثر فيه النجاسة إلا إذا غيرته على ما قدمنا وعلى ما اقتضاه قوله عليه السلام: خلق الله الماء طهورا لا ينجسه شيء إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه (3) الحديث. فنفى كونه نجسًا مع عدم التغير. وهذا ينفي وجوب النزح إذ الطاهر لا ينزح ولكنه يستحب ذلك فيه لأجل الاختلاف، ولأجل قول بعضهم أن الحي إذا مات خرجت منه بلة تطفو على وجه الماء، فينزح من الماء قدر ما يقع في النفس أنها تذهب بذهابه. ويستعمل بعض هذا الماء لإذهاب النجس كما قال بعضهم في الماء المتغير يصح أن يضاف إليه ماء آخر ليذهب التغير بالمكاثرة. فالمكاثرة ها هنا في معنى النقض هناك (4).

والجواب عن السؤال التاسع: أن قال: إنما كان ما لا نفس له سائلة لا ينجس بالموت لما قدمناه عن بعضهم من أن الحيوان علة النجاسة فيه ذات وصفين: الموت، والنفس السائلة. للاتفاق على نجاسة ما هذا (5) حاله. فإذا لم يوجد أحد الوصفين لم يثبت الحكم. ويؤكد هذا قوله عليه السلام: إذا وقع
__________
(1) ما بين النجمين ساقط من -ق-و -وهو أولى.
(2) ما بين النجمين ساقط -ق-.
(3) تقدم تخريجه في ص 108.
(4) هناك ساقطة -و-.
(5) هذه -و-ق-.

(1/240)


الذباب في إناء أحدكم فليغمسه كله ثم ليطرحه (1). فلو كان ينجس بالموت لفسد الطعام بغمسه فيه لأن الغالب موته بالغمس وإذا مات في الطعام نجس الطعام وفسد. وما كان عليه السلام يأمر بإفساد الطعام وتنجيسه.
وقد صار الشافعي إلى نجاسته بالموت ورأى أن العلة ذات وصف واحد وهو الموت خاصة. فطردها في جميع الحيوان وطرد أصله. فقال بنجاسة دود النحل إذا مات فيه لوجود الموت الذي هو علة الحكم. ولكنه لم يقل بنجاسة النحل لعدم حفظه وصيانته عن موت الدود فيه.

والجواب عن السؤال العاشر: أن يقال: اختلف ظاهر المذهب في البرغوث. فألحقه ابن القصار بما له نفس سائلة لوجود الدم فيه. وقد قدمنا أن النفس السائلة عبارة عن وجود البلة والدم وهذا موجود في البرغوث. وحكي عن سحنون ما ظاهره إلحاقه بما لا نفس له سائلة. وحكى ابن حبيب أن البعوض كالجراد فألحق البعوض بما لا نفس له سائلة مع أن فيه دمًا. ونقطة الاختلاف في ذلك أن هذا الدم في هذا الصنف من الحيوان ألحقه بما له نفس سائلة عند من رأى ذلك. ومن اعتبر كون الدم أصليًا لا طارئًا، ألحق هذا بما لا نفس له سائلة. لا سيما وما لا دم له أصلًا، لا أصليًّا ولا طارئًا قد صار الشافعي إلى نجاسته بالموت، فالأصل ما قيس عليه هذا غير متفق على صحته.

قال القاضي رحمه الله: ولا يجوز التطهر من حدث ولا نجس ولا لشيء من المسنونات والقرب بمائع سوى الماء المطلق. والنبيذ التمري المسكر (2) نجس كالخمر لا يجوز شربه ولا التطهر به لا لحدث ولا لنجس.

قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل أربعة أسئلة منها أن يقال:
1 - ما الدليل على صحة ما قال؟.
__________
(1) البخاري بسنده إلى أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه كله ثم ليطرحه. فإن في إحدى جناحيه داء وفي الأخرى شفاء. الفتح ج 12 ص 362.
(2) ونبيذ التمر المسكر -الغاني-.

(1/241)


2 - ولم ذكر طهارة الحدث والنجس؟.
3 - ولم كان النبيذ المسكر نجسًا؟.
4 - ولم لا يجوز التطهر به؟.

فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: أما الدليل على أنه لا يجوز التطهر بما سوى الماء المطلق. فقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} (1). فجعل الحكم عند عدم الماء التيمم، ومن وجد مائعًا سوى الماء ولم يجد سواه فإنه غير واجد للماء (2). ومن كان غير واجد للماء فحكمه التيمم على ظاهر القرآن. وقد قال تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} (3). وهذا وإن كان على وجه (4) الامتنان علينا، فإن فيه تنبيهًا على فضل الماء واختصاصه بهذا الحكم. إذ لو لم يختص به، وكان كل ما سواه يطهر مثله (5) لكان وجه الكلام أن يقول خلقنا كل مائع طهورًا لكم (6) فدل ذلك على أنه يختص بالتطهير عمومًا في طهارة الحدث والنجس. ولأن هذه (7) شرائع وعبادات غير معقولة المعنى فليس لنا إن نضع منها ولا أن نشرع فيها إلا ما شرع الله سبحانه (8). كما ليس لنا أن نشرع جواز التوضؤ بالأدهان وغيرها. وإن كانت مائعة مثل الماء.

والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: إنما ذكر طهارة الحدث والنجس. لأنه لو اقتصر على طهارة الحدث لأمكن أن يظن به ظان أنه يجيز طهارة النجس بغير الماء كما (9) صار إليهم بعضهم. ولأن ما سوي الماء قد أثر في النجاسة على أحد القولين عندنا في طهارة جلد الميتة بالدباغ. والدباغ ليس من الماء بسبيل. فلما أثر ما سوى الماء في بعض المواضع على هذا القول نص على أن طهارة النجس كطهارة الحدث في الحكم الذي ذكره.
__________
(1) سورة النساء، الآية: 43.
(2) الماء -ح-.
(3) سورة الأنفال، الآية: 11.
(4) جهة -ح-.
(5) وكان ما سواه يطهر به -و-.
(6) لكم ساقطة -و-ق-.
(7) ولأن هؤلاء -ح-.
(8) فليس لنا أن نضع منها ونشرع فيها سوى ما يشرع الله سبحانه -ح-ق-.
(9) على ما -ح-.

(1/242)


والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: إنما كان النبيذ المسكر نجسًا لمشاركته للخمر المتفق عليه في علة النجاسة. لأن الخمر المتفق عليه إنما كأن نجسًا عندنا لوجود الشدة المطربة. ألا تري أنه إذا كان حلوا كان حلالًا.
وإذا اشتد حرم. فإن تخلل من قبل الله سبحانه بعد ذلك حل. فلما رأينا الحكم متعلقًا حصوله بحصول الشدة المطربة وعدمه بعدمها، علمنا أنها علة الحكم.
وإذا كان ذلك كذلك وكان التمري فيه من الشدة المطربة ما في العنبي، وجب أن يكون حكمهما واحدًا في التحريم والنجاسة.

والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: إنما لم يجز التطهر به لما قدمناه من كونه نجسًا، والنجس لا يتطهر به. وقد أجاز الأوزاعي الوضوء بسائر الأنبذة. وروي مثله عن عليّ رضي الله عنه. وقال أبو حنيفة: إنما يجوز بمطبوخ التمر فقط إذا أسكر دون النقيع والنيئ بشريطة عدم الماء. ولنا عليهم قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} (1). فلم يجعل بين عدم الماء والتيمم واسطة. فمن جعل بينهما واسطة فقد خالف الظاهر. ولأنه إن كان أصلًا جاز الوضوء به مع وجود الماء. وإن كان بدلًا فيجب كونه أعم وجودًا من المبدل وأسهل تناولًا. وهذا مقتضى الحكمة لأنه إنما يبدل الشيء عند عدمه بعوض هو أكثر منه وجودًا وأسهل تناولًا. وإذا بطل كونه أصلأوبدلًا بطل أن يكون له في الطهارة مدخل. فإن تعلقوا برواية ابن مسعود بأنه قال عليه السلام ليلة الجن: ما في إدواتك؟ قال: نبيذ. فقال: تمرة طيبة وماء طهور (2). زاد بعضهم فتوضأ منه. فقيل عنه أجوبة. فقيل إنه منسوخ لأنه كان بمكة ونزلت آية الوضوء التي دلت على منع الوضوء به بالمدينة. والآخر ينسخ الأول. وأيضًا فإنه يمكن أن يكون لم يتغير وإنما سمي نبيذًا لأنه قد نبذ. وهذه التسمية تحصل له وإن لم يتغير. وقد قال الترمذي: أن أبا زيد راويه رجل مجهول (3) وهذا كله يمنع التعلق به.
__________
(1) سورة النساء، الآية: 43.
(2) الحديث أخرجه أحمد والدارقطني وأبو داود والترمذي. انظر الهداية ج 1 ص 304 وما بعدها.
(3) عارضة الأحوذي ج 1 ص 128.

(1/243)


باب في الاستنجاء - وآداب الإحداث

قال القاضي أبو محمَّد رضي الله عنه: ويختار لمريد الغائط والبول أن يبعد بموضع لا يقرب منه أحد، ولا يستقبل القبلة، ولا يستدبرها، إلا أن يكون في منزله أو بين البنيان فيجوز له ذلك. ولا ينبغي له قضاء الحاجة على قارعة الطريق, ولا شاطئ نهر ولا في ماء دائم ,إلا أن يكون كثيرا جدًا كالمستبحر. ولا يكلم أحدًا في حال جلوسه للحديث. وإذا (1) أراوإلاستنجاء فبشماله، إلا أن يكون له عذر. ويفرغ الماء على يده (2) قبل أن يلاقى بها الأذى.

قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل سبعة أسئلة: منها أن يقال:
1 - لم استحب الإبعاد؟.
2 - ولم نهي عن استقبال القبلة واستدبارها؟.
3 - ولم أجاز ذلك في البنيان؟.
4 - ولم نهي عن قضاء الحاجة على قارعة الطريق، وما ذكر معها؟.
5 - ولم كره الكلام في حال الحدث؟.
6 - ولم خص الاستنجاء بالشمال؟.
7 - ولم استحب إفراغ الماء عليها قبل أن يلقى بها الأذى.

والجواب عن السؤال الأول: أن يقال: إنما استحب الابعاد لئلا يخرج منه صوت فيسمعه من كان قريبًا منه. وهي من العورة التي كشفها قبيح. فأمران
__________
(1) فإذا -ح-.
(2) يديه -و- الغاني-.

(1/244)


يبعد من الناس ليأمن من ذلك. وقد نبه على ذلك عليه السلام بقوله: تنح عني فإن كل بائلة تفيخ (1). وكان عليه السلام إذا أتى حاجته أبعد في المذهب.

والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: إنما نهى عن استقبال القبلة واستدبارها إعظامًا للقبلة وتشريفُ الها أن تستقبل أو تستدبر بالعورة. وتواجه بما يستره (2) الناس بعضهم عن بعض. وقد روي عنه عليه السلام أنه قال: من جلس يبول قبالة القبلة فتذكر فانحرف عنها إجلالًا لها لم يقم من مجلسمعتى يغفر له (3). وهذا تنبيه على العلة التي ذكرناها. وذهب بعضهم إلى أن علة ذلك ستر العورة عمن يصلي إلى القبلة من الملائكة وغيرهم. وقد اختلف الناس في هذه المسألة فذهب عروة وربيعة وداود إلى جواز استقبال القبلة واستدبارها في المدائن والفلوات. وذهب أبو حنيفة إلى منع ذلك فيهما. وفصل مالك رحمه الله كما تقدم. فأجاز في المدائن ومنع في الفلوات *واحتج من أجاز ذلك* (4) على الإطلاق بقول ابن عمر ارتقيت على بيت فرأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - على لبنتين لحاجته مستدبر القبلة، مستقبل بيت المقدس (5). واحتج من يمنع على الإطلاق بقوله عليه السلام: لا تستقبلوا القبلة لبول ولا لغائط ولا تستدبروها ولكن شرقوا أو غربوا (6). ولما رأى مالك رضي الله عنه اختلاف هذين الحديثين ولم يمكن
__________
(1) أنه - صلى الله عليه وسلم - خرج يريد حاجته فأتبعه بعض أصحابه فقال: تنح فإن كل بائلة تفيخ. النهاية لابن الأثير. ج 1 ص 163.
فاخ يفوخ. وأفاخ يفيخ الرجل فوخانًا: إذا خرجت منه ريح. القاموس ج 1 ص 267 وشرحه ج 7 ص 324.
(2) يستر -و-.
(3) من جلس يبول قبلة القبلة فذكر فتحرف عنها إجلالًا لها, لم يقم من مجلسمعتى يغفر له. أخرجه صاحب منتخب كنز العمال ج 3 ص 448. وعلق عليه بقوله: رواه الطبري في تهذيبه عن الحسن مرسلًا وفيه كذاب.
(4) ما بين النجمين ساقط من -ح-.
(5) متفق عليه. أخرجه الستة وأحمد - ولفظ مسلم ج 62 كتاب الطهارة عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه رقيت على بيت أختي حفصة فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاعدًا لحاجته مستقبل الشام مستدبر القبلة.
(6) متفق عليه - روي بألفاظ متقاربة.

(1/245)


إسقاط أحدهما للآخر مع إمكان رد بعضها إلى بعض قال بجواز ذلك في المدائن على حسب رواية ابن عمر. ومنع ذلك في الصحاري على مقتضى الحديث الآخر. وخص عموم النهي بحديث ابن عمر. وأكد هذا بضرب من الترجيح وذلك أن م ابن ي من المراحيض في المدائن، يتعذر أن تبنى كلها على قصد واحد مع اختلاف جهاتها. وإذا تعذر ذلك ودعت الضرورة لبناء بعضها مستقبل القبلة أو مستدبرها دعت الضرورة لمسامحة الجالس عليها للحديث أن يقعد على مقتضى وضعها. وهذا المعنى مفقود في الصحاري فأجرى الأمر فيها على مقتضى الحديث. فإن قيل فَمَا لَا يتعذر فيه الانحراف في المدائن كالشوارع والسوق، إذا اجتنب قارعة الطريق فهل يمنع لعدم الضرورة ويلحق بالفلوات، أو يجوز طردًا للباب؟ قيل ظاهر المذهب على قولين: أحدهما الإباحة وهو ظاهر قول القاضي أبي محمَّد في هذا الكتاب بظاهر حديث ابن عمر. ولأن العلة عند بعضهم استقبال المصلين في الفيافي من الملائكة وغيرهم وهذا المعنى مفقدد في المدائن لإحاطة الجدر به. والثاني المنع لأن علة الجواز في المدائن عدم القدرة على الانحراف. فمتى قدر على إجلال القبلة للانحراف أمر به.

والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: قد تقدم ذكره وعلة جواز ذلك في المدائن في السؤال الذي قبل (1) هذا فأغنى عن إعادته.

والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: إنما نهي عن قضاء الحاجة على قارعة الطريق وشاطئ النهر, والماء الكثير تعليق بذلك من حقوق الناس, ولم ينالهم من الأذي بفعل ذلك علي قارعة الطريق في تصرفاتهم, وشاطئ النهر في شربهم وطهارتهم. والماء الكثير بإفساده ومنع استعماله له ولغيره. وقد قال عليه السلام: اتقوا الملاعن الثلاث (2). ومعناه أن الناس إذا خلوا بهذه المواضع فمنعهم من الانتفاع بها ما فيها من الأذى، نعنوا من قطع حظهم منها.
__________
(1) الذي قبله -ح-.
(2) أخرجه أبو داود وابن ماجة من حديث معاذ بن جبل -والملاعن الثلاثة- البراز في الموارد. وقارعة الطريق والظل. الهداية ج 2 ص 37.

(1/246)


وقال عليه السلام: لا يبولن أحدكم في الماء الدائم (1). وعلته ما قلناه من إفساده. وقد يتغير من ذلك فيظن من ورد عليه أنه تغير مما لا ينجسه فيستعمله.
وهو مما لا يجوز استعماله. ومن هذا المعنى، كره التغوط في ظلال الجدر والشجر لقطع منفعة الناس. ويكره البول في الأجحار لأنه عليه السلام نهى أن يب الذي الجحر (2). فقيل معناه أنه قد يخرج من الجحر ما يلسعه ويرد عليه البول.

والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: إنما نهي عن المخاطبة في حال الحدث لقوله عليه السلام: لا يخرج الرجلان يضربان الغائط كاشفين عن عورتهما يتحدثان فإن الله يمقت على ذلك (3). وقد مر به عليه السلام رجل وهو يبول فسلم عليه فلم يرد عليه (4) مع تأكد الأمر في رد السلام. ولأنه معنى يقبح إبداؤه وكشفه، وجرت رالعادة بستره والانقباض فيه من الناس. والمحادثة مباسطة واسترسال. وذلك نقيض م ابن ي هذا الأمر عليه.

والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: إنما خص الشمال بالاستنجاء؛ لأنه عليه السلام نهى أن يمس رجل ذكره بيمينه (5). وهذا على جهة التشريف
__________
(1) لا يبولن أحدكم في الماء الراكد. أخرجه مسلم والنسائي وابن ماجة وأحمد من حديث جابر. الهداية ج 2 ص 235
(2) رواه أحمد وأبو داود والنسائي والحاكم من حديث قتادة صححه ابن خزيمة وابن السكن. الهداية ج 1 ص 234.
(3) رواه أحمد، الفتح الرباني ج 1 ص 263. وأبو داود وابن ماجة. الهداية ج 2 ص 229.
(4) عن عبد الله بن حنظلة بن الراهب أن رجلًا سلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد بال فلم يرد عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى قال بيده إلى الحائط. الفتح الرباني ج 1 ص 267.
وفي مسند الشافعي أنه عليه السلام قال لمن سلم عليه وهو يبول بعد أن قضى حاجته: إذا رأيتني على هذه الحالة فلا تسلم علي. فإنك إن تفعل لا أرد عليك -مختصر- بلوغ الأماني ج 1 ص 267.
(5) رواه البخاري في باب لا يمسك ذكره بيمينه إذا بال. عن أبي قتادة عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا بال أحدكم فلا يأخذن ذكره بيمينه -ورواه في باب النهي عن الاستنجاء باليمين- والحديث أخرجه بقية الستة. فتح الباري ج 1 ص 264 - 265.

(1/247)


لها. وقد ورد الشرع بتشريف هذا الجانب. قال الله تعالى: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ} (1). فجعله تعالى علمًا على (2) عنوان السعادة في الآخرة فإن كان استنجاؤه بالماء صبه بيمينه وغسل بيساره. وإن كان بالحجر أخذ ذكره بيساره ومسح به على الحجر. فإن استنجى بيمينه أجزأه لأن الغرض تطهير المحل وقد طهر.

والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: إنما استحب أن يفرغ الماء على يده قبل أن يمس بها الأذى لأنه إذا فعل ذلك كان أبعد من أن تتعلق رائحة النجاسة بيده لمدافعة الماء لها عن اليد قبل إلمامها به.

قال القاضي رحمه الله: والأفضل الجمع بين الماء والأحجار، ويبدأ بالأحجار. فإن اقتصر على أحدهما فالماء أفضل. (3) وإن اقتصر على الأحجار جاز ما لم يَعْدُ المخرج أو ما يقاربه. فإن انتشر عن ذلك الموضع لم يجزه إلا الماء. ويستحب له أن يأتي بالثلاثه الأحجار (4) فإن (5) أنقي بدونها أجزأه. وكل جامد يحصل به الإنقاء فهو كالأحجار (6) في الإجزاء. وقد ولخالفه في إباحة الابتداء إذا كان مما له حرمة. ويكره له العظم والبعر. وإن وقع بهما الإنقاء جاز.

قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل أربعة أسئلة: منها أن يقال:
1 - ما الاستنجاء؟.
2 - وما أقسامه؟.
3 - وما أحكامه؟.
4 - وما الغرض به؟.
__________
(1) سورة الواقعة، الآية: 27.
(2) علمًا على ساقطة -ح-.
(3) فان اقتصر على أحدهما أجزأه. والماء أفضل -الغاني-.
(4) الأحجار ساقطة -الغاني-.
(5) وان -الغاني-.
(6) كالحجر -و- الغاني-.

(1/248)


فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: الاستنجاء هو (1) إزالة النجو، والنجو هو الحدث نفسه، وتسميته بذلك مجاز واتساع. وحقيقته أنهم كانوا يرتادون لقضاء حاجتهم الموضع الذي يسترهم عن الناس. إما النجوة وهي المرتفع من الأرض وإما الغائط وهو المنخفض من الأرض. فيقولون ذهب ينجو أو ذهب يتغوط. فلما كثر استعمالهم لهذا اللفظ نقلوه إلى الحدث نفسه.
وأجروا اسم موضعه عليه وجروا في ذلك على عادتهم في إجراء اسم الشيء على ما ناسبه وتعلق به ضربًا من التعلق.

والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: الاستنجاء على قسمين: استنجاء بالماء، واستنجاء بالحجر وما سد مسدهما. فأما الاستنجاء بالماء فجائز عند الجمهور. وحكي عن بعض السلف كراهته. ورأى أن الماء مطعوم فله بذلك حرمة تمنع من جواز استعماله في سائر النجاسات كسائر المطعومات. وترك قوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} (2). فعم (3). وأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يستنجي به (4) .. وأما الاستنجاء بالأحجار (5) فالدليل على صحته قوله عليه السلام: ولا يكفي أحدكم أن يستنجي بدون ثلاثة أحجار (6) وقوله من استجمر فليوتر فمن فعل فقد أحسن وإلا فلا حرج (7).
__________
(1) هو ساقطة -و-ق-.
(2) سورة الأنفال، الآية: 11.
(3) ساقطة من -و-.
(4) روى البخاري في باب الاستنجاء بالماء. عن أنس: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج لحاجته، أجيء وأنا غلام معنا إداوة من ماء يعني يستنجي به. فتح الباري ج 1 ص 261.
وعن أبي هريرة كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل الخلاء دعا بماء فاستنجى. رواه أحمد. الفتح
الرباني ج 1 ص 283.
(5) بالحجر -و-ق-.
(6) رواه مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة وأحمد وغيرهم أن سليمان قال: نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول أو نستنجي باليمين وأن يستنجي أحد بأقل من ثلاثة أحجار أو أن نستنجي برجيع أو عظم. النهاية، ج 2 ص 224.
(7) من حديث أبي هريرة أخرجه أحمد - الفتح الرباني ج 1 ص277.

(1/249)


والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: أما أحكامه فكثيرة منها ما ذكره في الكتاب من أن الجمع بين الحجر والماء أولى (1). وهذا ليذهب الحجر عين النجاسة. ويذهب الماء أثرها. فإن اقتصر على الماء أجزأه. لأنه يذهبهما. وإن اقتصر على الحجر فقدلان: الجواز لقوله (2) عليه السلام: ولا يكفي أحدكم أن يستنجي بدون ثلاثة أحجار فعم (4). والمنع قياسًا على طهارة الحدث التي لا يجوز العدول فيها عن الماء إلا عند عدمه ومنها ما ذكره من أنه إنما يجزئ الأحجار ما لم يعد المخرج وما قاربه. وإنما كان هذا هكذا لأن الأصل عندنا ألا تزال النجاسة إلا بالماء. وسمح باستعمال الحجر لأنه قد يعرض للإنسان قضاء الحاجة في الطرقات ومواضع لا يتفق فيها الماء ولا يمكنه التأخر إلى وجوده. فرخص له في استعمال الحجر الموجود بكل مكان. وهذا يجب قصره على المخرجين اللذين يضطر لفعل ذلك فيهما، وما سواهما من البدن يبقى على أصله في اختصاصه بالماء. وما انتشر عن (3) المخرجين انتشارًا متفاحشًا ألحق بحكم ما على البدن لمشاركته له في معناه. لأنه لا يوجد غالبًا في سائر الناس عند خروج الحدث. ومنها ما ذكره من استحباب البلوغ إلى ثلاثة أحجار. وهذا لقوله عليه السلام: لا يستجمر أحدكم بدون ثلاثة أحجار (4). أخرجه مسلم. ومنها قوله: إن أنقى بدون الثلاث أجزأه. وهذا فيه قولان: أحدهما ما ذكره وهو الظاهر من المذهب وبه قال أبو حنيفة. ووجهه قوله عليه السلام: من استجمر فليوتر (5). والواحد وتر *ولأنه عليه السلام أتى بحجرين وروثة. فاستنجى بالحجرين وألقى الروثة (6). ولأن الماء لم يراع فيه عدد مخصوص.
__________
(1) أفضل -و-.
(2) بقوله -و-.
(3) على -ق-.
(4) تقدم تخريجه.
(5) من حديث أبي هريرة رواه أحمد. الفتح الرباني ج 1 ص 277 وأخرجه مسلم من حديث جابر.
(6) رواه البخاري عن عبد الله بن مسعود. فتح الباري ج 1 ص 267.

(1/250)


وكذلك ما هو بدل منه وهو الحجر* (1) وقيل لا يكتفي بذلك. قاله أبو الفرج وابن شعبان وبه قال الشافعي. ووجهه قوله نهانا أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار (2). واختلف على هذه الطريقة هل يشترط نقاء الثلاثة الأحجار. أو إنما يشترط نقاء بعضها. فوجه اشتراط نقاء جميعها، قوله وقد سئل عن الاستطابة بثلاثة أحجار ليس فيهن رجيع (3) هذا وجه القول. ووجه القول بالاكتفاء بنقاء بعضها قوله: نهانا أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار ولم يشترط نقاء جميعها. ولأن الماء لم يراع فيه عدد مخصوص فكذلك ما هو بدل منه وهو الحجر. ولأنه عليه السلام أتي بحجرين وروثة فاستنجى بالحجرين وألقى الروثة (4).
ومنها قوله أن كل جامد منق فهو كالحجر في الأجزاء. وقد يخالفه في إباحة الابتداء إذا كان مما له حرمة *ويكره العظم والبعر* (5) فإن أنقيا جاز. وإنما كان هذا هكذا ولم يقتصر في الاستنجاء على الأحجار خلافًا لداود، وأهل الظاهر في قصرهم الاستجمار على الأحجار لتخصيصها بالذكر في الحديث. لأن الغرض إذهاب النجاسة وهو السابق إلى النفس عند ذكر الحجر. فما فعل فعلها حل محلها. وأيضًا فإنه عليه السلام لما أوتي بالروثة يستنجي بها ألقاها وقال: إنها رجس ولم يقل إنها ليست بحجر. وأيضًا فإنه لما ذكر الراوي خبر الاستنجاء ذكر أنه نهى عن الروث والرمة. وتخصيص هذين بالذكر يدل على بطلان القول بالاقتصار على الأحجار، إذ لو كان غيرهما ممنوعًا لما أفاد تخصيصهما بالذكر ولكنه خصصهما بالذكر لكون الروث نجسًا، والرمة عظم بال لا ينقي. وإنما اشترط أن يكون جامدًا لأن المائع سوى الماء لا يزيل النجاسة على ما قدمنا فيما سلف. وإنما اشترط كونه منقيًا لأن ما يزيل العين
__________
(1) ما بين النجمين هو من -و- وساقط من -ح-ق-.
(2) تقدم تخريجه.
(3) أخرجه أحمد عن خزيمة بن ثابت الأنصاري. الفتح الرباني ج 1 ص 278ـ وأخرجه أبو داود وابن ماجة.
(4) رواه البخاري عن عبد الله بن مسعود. فتح الباري ج 1 ص 267.
(5) ما بين النجمين ساقط من -و-.

(1/251)


كالإصبع وغيره لا يذهب النجاسة. والغرض ذهابها. وإنما شرط في الإباحة أن لا يكون له حرمة لأن الطعام تمنع حرمته من امتهانه. فمباشرة النجاسة به أحرى أن تمنع. فإن فعل ففيه قولان: أحدهما الأجزاء على ما أشار إليه في الكتاب، والثاني نفي (1) الأجزاء. فوجه القول بالأجزاء: أن الغرض إزالة العين وهي قد زالت بهذا النوع. ووجه نفي الأجزاء أن الاستنجاء بغير الماء رخصة، والرخص لا تتعلق بالمعاصي وأيضًا فإذا كان هذا منهيًا عنه، والنهي يدل على فساد المنهي عنه، عند بعضهم، منع ذلك من أجزاء الاستنجاء به. وينخرط في هذا السلك الاستنجاء بالأحجار الشريفة كالذهب والجوهر، فإن ذلك يمنع؛ لأن الشرب فيه نهي عنه لأجل السرف. فامتهانه في أن يمسح به المخرج أولى أن يكون سرفُ ا. فإن فعل فيختلف في الأجزاء على حسب ما تقدم.
وأما كراهية العظم والبعر. فلتعلق (2) حق الغير بهما، وقد نهى عليه السلام عن الاستنجاء بهما. وقال: إنه زاد إخوانكم من الجن (3). وإنما قال بالأجزاء إذا أنقى بهما لأن الغرض ذهاب النجاسة وقد ذهبت. ولأن المنع، لتعلق حق الغير، وذلك لا يمنع من إجزاء الاستنجاء (4) كما لو غصب حجارة فاستنجى بها. وقد قيل يعيد الصلاة هذا المصلي بهذا الاستنجاء ما دام وقت الصلاة المفروضة باقيًا. ووجهه أن إزالة النجاسة شرط في أجزاء الصلاة أو كمالها على ما سيأتي بيانه. فإذا أتى بذلك على وجه منهي عنه أمر بالإعادة ليأتي بالعبادة على الوجه المأمور به.

والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: الغرض بالاستنجاء ذهاب النجس وتطهير البدن ليناجي المكلف ربه وهو (5) على أشرف الأوصاف، وأجمل
__________
(1) عدم -و-ق-.
(2) فيتعلق -و-ح-.
(3) رواه أبو داود والترمذي والنسائي عن عبد الله بن مسعود. جامع الأصول، ج 7 ص 145 - 146.
(4) ساقطة -و-ق-.
(5) ساقطة -و-.

(1/252)


الأحوال، على ما فيه من حصول النظافة التي يؤمر بها المكلف في كل أحواله عند الصلاة وغيرها.

قال القاضي رحمه الله: ومن ترك الاستنجاء والاستجمار وصلى بالنجاسة فإن كان لعذر من سهو أو عدم ما يزيلها به أجزأه. وأعاد إن وجد في الوقت. وإن كان عامدًا قادرًا على الإزالة لم يجزه، وأعاد أبدًا. وليس على من بال أن يقوم ويقعد أو يزيد في التنحنح، ولكن ينتر ويستفرغ جهده على ما يرى أن حالته تقتضيه (1) من إطالة أو إقصار. ويكره له البول قائمًا في موضع صلب لا يأمن تطايره عليه. *أو مقابلة الريح* (2) ويجوز في الرمل، والمواضع التي يأمن ذلك فيها.

قال الإِمام رحمه الله: يتعلق بهذا الفصل سؤالان: منها أن يقال:
1 - لم فرق بين الناسي والعامد في ترك الاستنجاء؟.
2 - ولم كره البول قائمًا في الموضع الصلب وأجازه في الرمل وشبهه؟.

فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: أما تفرقته بين الناسي والعامد فإن ذلك مبني على إزالة النجاسة هل هو فرض أو سنة؟ وقد ذهب أبو حنيفة إلى أن الاستنجاء مستحب وليس بواجب، وجعله أصلًا في العفو عن قليلًا النجاسة. وسيرد تحقيق القول فيه عند بلوغنا إلى موضعه من هذا الكتاب فلا معنى لذكره ها هنا.

والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: إنما كره البول قائمًا لقول عائشة رضي الله عنها: من حدثكم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبول قائمًا فلا تصدقوه (3). وإنما خص بذلك المواضع الصلبة؛ لأنه إذا بال قائمًا تطاير عليه، فينجس بدنه وثوبه.
وتوقي النجاسات مأمور به. وإنما أجاز ذلك في الرمل. بحيث لا يتطاير لذهاب العلة التي من سببها (4) نهينا عنه. وقد روي أنه عليه السلام أتى سباطة قوم فبال قائمًا ومسح على خفيه (5). والسباطة يأمن فيها من تطاير البول. وقد
__________
(1) حاله يقتضيه -و-الغاني-.
(2) ما بين النجمين مثبت في الغاني فقط.
(3) رواه الترمذي والنسائي. جامع الأصول، ج 7 ص 129.
(4) بسببها -ح-.
(5) رواه الستة وأحمد. ولفظ البخاري عن حذيفة: أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - سباطة قوم فبال قائمًا. ثم دعما بماء فجئته بماء فتوضأ. فتح الباري، ج 1 ص 341.

(1/253)


قال بعضهم إنما فعل ذلك لعلة كانت به. وقال بعضهم إنما فعل ذلك لقرب الناس منه. والبول قائمًا يؤمن معه من خروج الصوت. وقال بعضهم إنما فعل ذلك لعذر، (1) لأنه خاف متى جلس أن يكون في السباطة نجاسة تمس ثوبه فاتقى ذلك وتوقاه: بأن بال قائمًا. وعلى الجملة فالبول قائمًا إنما يفعل عند عذر يقتضيه. وأما المختار، فالبول من قعود لقول عائشة: من حدثكم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يبول قائمًا فلا تصدقوه (2). وهذا الإنكار منها يقتضي أن المعلوم من عادته - صلى الله عليه وسلم - البول من قعود (3). وما تكرر من فعله وعلم من عادته فيه تتعلق الفضيلة. وما روي من بوله قائمًا ففعله لإحدى العلل التي ذكرناها أو ليشرع الجواز والإباحة.
__________
(1) ساقطة -ح-.
(2) تقدم تخريجه قريبًا.
(3) من قعوده -ح-.

(1/254)


باب آخر

قال القاضي رضي الله عنه: كل مائع خرج من أحد السبيلين نجس] وذلك هو البول، (1) والمذي والودي (1)، والمني ودم الحيض والنفاس والاستحاضة وغير ذلك من أنواع البلل والدماء كلها نجسة (2) تجوز الصلاة بقليلها ولا تجوز بكثيرها، إلا دم الحيض ففيه روايتان. والأبوال على ثلاثة أضرب:
1 - بول حيوان محرم الأكل فهو نجس.
2 - وبول حيوان مكروه الأكل فهو مكروه.
3 - بول حيوان مباح الأكل فهو طاهر مباح. إلا أن يعرض ما يمنعه مثل أن يكون غذاء ذلك الحيوان النجاسة أو غالبه. وأجزاء الميتة كلها نجسة *إلا ما لا حياة فيه* (3) كالشعر والصوف والوبر. وكل الحيوان في ذلك واحد. وجلود الميتة كلها نجسة لا تطهير (4) بالدباغ. غير أنه يجوز استعماله في اليابسات. وعظم الميتة وقرنها نجس.

قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل عشرون سؤالًا: منها أن يقال:
1 - ما النجاسة؟.
2 - وما أقسامها؟.
3 - وما الدليل على صحة ما قال؟.
4 - وما معنى تقييده بقوله كل مائع؟.
__________
(1) البول والغائط -الغاني-.
(2) من إنسان أو حيوان له نفس سائلة -الغاني-.
(3) ما بين النجمين ساقط -ح-.
(4) لا يطهرها -الغاني-.

(1/255)


5 - وما معنى قوله وغير ذلك من أنواع البلل؟.
6 - وما معنى تأكيده بقوله الدماء كلها؟.
7 - ولم اختص دم الحيض باستواء قليله وكثيره على إحدى الروايتين؟.
8 - ولم قال إن بول ما يحرم أكله نجس مع أن بول من لم يأكل الطعام طاهر في المشهور من المذهب؟.
9 - ولم قال إن بول المباح طاهر؟ (1).
15 - ولم استثنى منه ما يتغذى بالنجاسة؟.
11 - ولم أكد بقوله أجزاء الميتة كلها؟.
12 - ولم كان الشعر منها لا ينجس؟.
13 - وما معنى تنبيهه بقوله وكل الحيوان في ذلك واحد؟.
14 - وما معنى تأكيده في قوله وجلود الميتة كلها؟.
15 - ولم كان الجلد لا يطهر بالدباغ؟.
16 - ولم جاز استعماله في اليابسات؟.
17 - وما معنى تنبيهه على عظم الميتة وقرنها؟
19 - وهل حكم لبن ما لا يؤكل لحمه كبوله؟ (2).
20 - وهل تطهير النجاسة بالاستحالة كما يطهر (3) الجلد بالدباغ؟.

فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: أصل النجاسة الدنس. وهي تسمية موضوعة لكل ما يستخبث (4) أو يستقذر. فمنها ما يثبت (5) له هذا المعنى بحكم الطباع والشرع. ألا ترى أن الغائط والبول والدم مما تعافه النفوس وتستقذره الطباع. والشرع ورد فيه بمثل ذلك. ومنه (6) ما لا تستقذره النفوس كالخمر.
__________
(1) مباح -و-ق-.
(2) مثل بوله -و-.
(3) طهر -ح-.
(4) يستجنب -ح-.
(5) ثبت -و-.
(6) منها -و-.

(1/256)


ولكن الشرع ورد (1) بأنه خبيث مجتنب. ومنه قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} (2). فإنهم *وإن كانوا بما شوهدوا بعضهم نظيفةٌ* (3) أبدانهم وثيابهم، فإن معهم صفة لازمة هي أخبث وأحق بالاجتناب من غيرها من النجاسات. وهي الكفر بالله تعالى. وقد نبّه سبحانه لهذا على منع الصلاة بسائر النجاسات. لأنه إذا نهى عن أن تقرب النجاسة من موضع الصلاة فنفس الصلاة التي شرف موضعها بها أولى.

والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: أما أقسامها فهي على قسمين: نجاسة لازمة العين كنجاسة الميتة، وبول ما لا يؤكل لحمه، والدم. ونجاسة معلقة بسبب يطرأ على العين كعصير العنب إذا صار خمرًا. وبول ما يتغذى بالنجاسة.

والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: أما الدليل على نجاسة البول فقوله عليه السلام: تنزهوا من البول. فإن عامة عذاب القبر منه (4). والدليل على نجاسة الغائط قوله عليه السلام لعمار: (5) إنما تغسل ثوبك من البول والغائط والمني والدم والقيء (6). ومحمل ما قاله في القيء عندنا على أنه تغير حتى لحق بالغائط. وأما المذي فدليله قوله عليه السلام: إذا رأيت المذي فاغسل ذكرك
__________
(1) ورد فيه -و-ق-.
(2) سورة التربة، الآية: 28.
(3) ما بين النجمين بياض -ح-.
(4) رواه الدارقطني وذكر أنه مرسل. وقال الذهبي سنده وسط. وحسنه السيوطي فيض القدير ج 3 ص 270.
(5) ساقطة -ح-.
(6) هو حديث عمار بن ياسر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: يا عمار ما نخامتك ولا دموع عينيك إلا بمنزلة الماء الذي في ركوتك. إنما تغسل ثوبك من البول والغائط والمني والدم والقيء. أخرجه البيهقي ج 1 ص 14. وعلق عليه هذا باطل لا أصل له لأن في سلسلة رواته علي بن زيد وهو ممن لا يحتج به وثابت بن حماد وهو متهم بالوضع. كما أخرجه في العلل المتناهية ج 1 ص 332 وضعفه وقال ابن تيمية: هذا حديث كذب عند أهل المعرفة.

(1/257)


وتوضأ وضوءك للصلاة (1). وأما الودي فمقيس عليه أيضًا، فإنه يخرج مع البول فكان حكمه حكمه. وأما المني فقد اختلف الناس فيه. فذهب مالك إلى أنه نجس. ووافقه أبو حنيفة على ذلك. إلا أنه أجاز إزالة يابسه بالفرك. وذهب الشافعي إلى أنه طاهر. وسبب اختلاف المذهبين اختلاف الروايتين. يروى عن عائشة أنها قالت: كنت أفرك المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يصلي فيه (2). قال الأصيلي حديث الفرك مضطرب الإسناد. وليس يختلف في صحة حديث الغسل. ومع هذا الترجيح الذي ذكره الأصيلي، فإنه مائع خرج من مخرج البول، فوجب أن يكون نجسًا لسلوكه مسلك النجاسة. وقد رجح أصحاب الشافعي حديثهم بأنه مائع يتكون منه حيوان فوجب أن يكون طاهرًا كمح البيضة.

والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: إنما قيد بقوله كل مائع لأنه قد يخرج من السبيلين من الجامدات ما هو طاهر في نفسه كالدود والحصى. والدود والحصى طاهران في أنفسهما، وإنما يكتسبان النجاسة بما تعلق بهما من بول أو غائط.

والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: إنما أشار بقوله وغير أنواع البلل إلى رطوبة فرج المرأة. فإن من أصحابنا من ذهب إلى أن بلة فرج المرأة نجسة. لأنها تسلك مسلك النجاسة. ومن الناس من ذهب إلى طهارتها، قياسًا على العرق. وكذلك العلقة قد قال بعض أصحابنا مفسدًا لقول الشافعية بطهارة المني لتكوُّن الخلق منه، إن العلقة نجسة مع تكون الخلق منها. قال: (3) فإن قالوا بطهارتها خرجوا عما عليه المسلمون. وهذا الذي قالوا من الإجماع لم يسلموه، فإن أبا بكر الصيرفي من أصحاب الشافعي ذهب إلى طهارة العلقة لأنه
__________
(1) رواه مالك: فلينضح فرجه بالماء وليتوضأ وضوءه للصلاة. شرح الزرقاني، ج 1 ص 77 - 78.
(2) أورده البخاري في الترجمة ولم يرو فيه حديثًا. وأخرجه مسلم - فتح الباري ج 1 ص 345 - ومسلم شرح النووي ج 3 ص 196.
(3) قال: ساقطة من -و-ق-.

(1/258)


دم غير مسفوح كالكبد والطحال. فأراد القاضي رحمه الله أن يشير بقوله وغير ذلك من أنواع البلل (1) إلى هذه الفصول المختلف فيها.

والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: أما وجه تأكيده بقوله الدماء كلها فيشير إلى ما اختلف فيه من الدماء، كدم السمك. فقد قيل بطهارته. لأنه ليس بأكثر من الميتة. وميتة السمك طاهرة بخلاف سائر الميتة، فكذلك دمه يجب أن يكون بخلاف سائر الدماء.

والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: إنما اختص دم الحيض في أحد الروايتين باستواء قليله وكثيره لأن الأصل في سائر الدماء أن يستوي قليلها وكثيرها في الحكم، كالبول والغائط. لكن لما كان قليل الدم لا يمكن التحرز منه، رخص فيه لرفع الحرج. وقد قال الشافعي لا يرخص فيه. ودليلنا عليه: أنه رخص في دم البراغيث لما لم يمكن التحرز منه فكذلك ما نحن فيه؛ لأنه لا يمكن التحرز منه. ودم الحيض مما لا تعم البلوى به في حق الرجال أصلأولا في حق النساء مؤبدًا.
لأنه إنما يطرأ عليهن من وقت إلى وقت. فلم تدرك المشقة فيه كما تدرك في غيره من الدماء ولهذا لم يرخص في قليل النجاسات سوى الدم. خلافًا لأبي حنيفة في قوله يعفى في سائر النجاسات عن قدر الدرهم البغلي فأقل. وما أشرنا إليه من أن الأصل وجوب استواء قليل النجاسة وكثيرها يبطل ما قاله. وقد أمرنا بالاستنجاء. ومحل النجاسة فيه أقل من المبلغ الذي قدره. ولا حجة له بقوله عليه السلام في الدم: اغسليه. ولا يضرك أثره (2). فسامح بأثره (3) لما كان قليلًا لأنه قد أمر في أول الحديث بغسله ولم يفرق بين قليل وكثير (4).
__________
(1) من أنواع البلل ساقط -ح-ق-.
(2) أخرجه أحمد بسنده إلى أبي هريرة أن خولة بنت يسار رضي الله عنها أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - في حج أو عمرة فقالت: يا رسول الله ليس لي إلا ثوب واحد وأنا أحيض. قال: إذا طهرت فاغسلي موضع الدم ثم صلي فيه. قالت: يا رسول الله إن لم يخرح أثره؟ فقال: يكفيك الماء ولا يضرك أثره. كما رواه البيهقي وأبو داود والترمذي وضعفه الحافظ في بلوغ المرام. بلوغ الأماني ج 1 ص 225.
(3) فسامح بأثره. ساقط -ح-.
(4) بين قليل ولا كثير -و-.

(1/259)


وأما وجه إحدى الروايتين في العفو عن قليل دم الحيض فلأنه (1) رآه مما يشق التحرز منه، فألحقه بغيره من الدماء ليجري الحكم في المتجانس مجرى واحدًا. وقد اختلف في العفو عن قليل القيح وقليل الصديد. وتوجيه القول فيهما كتوجيه القول في قليل دم الحيض. وقد قال بعض شيوخنا يجب أن يكون ما طرأ على الإنسان من دم غيره من الحيوان الذي يمكنه التحرز منه كدم الشاة وشبهها غير معفو عنه لأنه ليس مما يشق التحرز منه فيجب العفو عنه.
والجواب عن السؤال الثامن: أن يقال: إنما قال بنجاسة بول ما لا يؤكل لحمه ولم يستثن من لم يأكل الطعام لأنه روي عن مالك نجاسة بول من لم يأكل الطعام قياسًا على غائطه. وقد اتفق على نجاسته. وإذا ثبت للغائط حكم ثبت للبول. ألا ترى أن غائط من أكل الطعام نجس وكذلك بوله؟ وغائط ما يحل أكله كالشاة والبعير طاهر، فكذلك بوله. ووجه الانفصال على هذه الرواية عما روي عنه عليه السلام: أنه أتي بطفل لم يأكل الطعام فأجلسه في حجره فبال على ثوبه فدعا بماء فنضحه ولم يغسله (2). أن يقال قد يسمى الغسل نضحًا. ومنه قيل للإبل نواضح فيمكن أن يكون صب عليه السلام من الماء ما أذهب عنه النجاسة. وذلك يسمى نضحًا. وقد فرق بعض أصحابنا بين بول الجارية والغلام. فذهب إلى نجاسة بول الجارية دون الغلام. وقصر الحديث الوارد في الطفل على ما ورد عليه. وهذا ضعيف في القياس. فيمكن أن يكون القاضي أبو محمَّد إنما لم يستثن بول الطفل آخذًا بالرواية التي قدمنا في نجاسته. وإنما (3) يكون أراد بقوله: كل حيوان محرم الأكل يريد محرمًا لا لحرمته. وتحريم كل بني آدم لحرمتهم، بخلاف غيرهم من الحيوان.
__________
(1) فإنه -و-.
(2) أخرجه الستة ومالك عن أم قيس بنت محصن. جامع الأصول، ج 7 ص 86.
(3) أو أن -و-ق-.

(1/260)


والجواب عن السؤال التاسع: أن يقال: إنما قال (1) أن بول المباح مباح خلافًا لأبي حنيفة والشافعي لقوله عليه السلام: ما كل لحمه فلا بأس ببوله (2).
ولأنه عليه السلام أباح للعرنيين أن يشربوا من أبوال الإبل تداويًا بها. ولو كان نجسًا لم يأمرهم بذلك ولو كان على جهة التداوي. لأنه عليه السلام قال: لا شفاء فيما حرم الله (3). فإن احتجوا بقوله عليه السلام: كان لا يستتر من البول (4). فعم. قيل: قد روي كان لا يستتر من بوله (5) فيرد المطلق إلى المقيد.
وقد تعلقوا أيضًا بأن الإجماع قد تقرر على نجاسة بول الإنسان الذي أكل الطعام. وليس لذلك علة سوى تسميته بولًا. فحيث ما وجدنا هذه العلة التي هي مجرد التسمية، جعلناها علة للحكم. وهذا الذي قالوه له تعلق بأحكام العلل. وليس هذا موضع استقصائه. وقد ذكر القاضي أبو بكر بن الطيب كون (6) الاسم العلم علة للحكم. فمثله أبو القاسم عبد الجليل الصابوني: يكون تسميته عرفة علة في وجوب الوقوف بها. وهذا الذي قاله لا تظهر فيه فائدة. لأنه لا يوجد فروع يختلف فيها فترد لهذا الذي ذكره. وأعظم ما فيه إن سلم (7) له أن يكون من العلل القاصرة. وقد مثل بعضهم كون الإسم العلم علة للحكم بهذه المسألة التي نحن فيها. وهي كون مجرد تسمية البول علة في الحكم بنجاسته. وهذا إن سلم تجري فائدته بخلاف ما ذكره أبو القاسم عبد الجليل.
__________
(1) إنما قال ساقط من -و-ق-.
(2) أخرجه النسائي عن البراء بن عازب والدارقطني والبيهقي عن جابر وهو حديث ضعيف.
(3) أن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرّم عليكم. أثر موقوف عن ابن مسعود. وله شاهد موصول. أخرجه أبو يعلي وصححه ابن حبان من حديث أم سلمة قال: اشتكت بنت لي فنبذت لها في كوز فدخل النبي - صلى الله عليه وسلم -وهو يغلي فقال: ما هذا؟ فأخبرته. فقال: إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم. فتح الباري ج 12 ص 181.
(4) كان لا يستتر عن البول وفي رواية من البول. إكمال الإكمال شرح مسلم ج 2 ص 73.
(5) متفق عليه. فتح الباري ج 1 ص 330.
(6) كون ساقطة -ح-.
(7) أن يسلم -و-ق-.

(1/261)


والجواب عن السؤال العاشر: أن يقال: أما الحيوان الذي يتغذى بالنجاسة. فاختلف فيه هل ينتقل حكم بوله ولبنه وعرقه عن أصله أم لا؟ فقيل: هو باق على أصله لأن النجاسات التي يتغذى (1) بها قد استحالت. واستحالتها تسلبها حكم النجاسة كاستحالة الخمر خلًا. وقد قال تعالى: {نُسْقِيكُمْ مِمَّا في بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ}. (2) فأخبر في ظاهر الآية عن مخالطته للنجاسة في باطن الجسم. فإن ذلك (3) لا يضر إذا انفصل عن الجسم، فكذلك العرق والبول. وقيل بل ينتقل جميع ذلك عن أصله ويصير نجسًا. لما رواه الترمذي والنسائي على النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه نهى عن أكل لحوم الجلالة وألبانها (4). ومن هذا الأصل اختلف في عرق السكران. ويختلف في لبن المرأة تشرب الخمر. واختلف في البقول تسقى النجاسة وسنزيد ذلك بيانًا في الكلام على النجاسة هل تطهير بالاستحالة إن شاء الله تعالى؟.

والجواب عن السؤال الحادي عشر: أن يقال: إنما أكد بقوله كلها. يشير إلى ما ذهب إليه المخالف في هذا على ما سيرد بيانه إن شاء الله.

والجواب عن السؤال الثاني عشر: أن يقال: أما شعر الميتة فإنه طاهر عندنا. وذهب الليث وغيره إلى نجاسة الشعور كلها. وأنها تطهير بالغسل.
وذهب الشافعي في أحد أقواله إلى طهارة شعر ابن آدم خاصة، ونجاسة ما سواه من الشعور. واعلم أن نكتة الخلاف في هذه المسألة - وفي مسألة العظم والقرن تدور على تحقيق القول في حياة هذه الأشياء. وأنها تعدم منها الحياة بعد وجودها فتسمى ميتة. وتلحق بسائر أجزاء الميتة في الحكم. أو تكون مواتًا لا حياة فيها أصلًا (5). فلا تسمى ميتة. لأن الميتة ما كان حيًّا فمات حتف أنفه.
وهذه إذا لم تكن فيها حياة لم تستحق هذه التسمية حتى تلحق بأحزاء الميتة في
__________
(1) التي يغذى بها -ح- النجاسة التي تغذى بها -ق-.
(2) سورة النحل، الآية: 66.
(3) وإن ذلك لا يضر -و-ق-.
(4) ورواه أيضًا الحاكم وأبو داود والبيهقي. انظر بلوغ الأماني.
(5) أصلًا ساقطة -و-ق-.

(1/262)


الحكم. وقد استدل أصحابنا على فقد الحياة من الشعر بكونه لا يبيح ولا يألم. ودليل حياة الحي حسه وألمه. ألا ترى أن سائر أعضاء الإنسان يتألم بقطعها والشعر لا يتألم بقطعه، كما لا يتألم (1) الجماد. واحتج من قال بحياة الشعر بأنه متصل بالحي وينمو ويزيد، وذلك عنوان الحياة. وهذا ضعيف؛ لأن القوة المغذية (2) يشترك فيها الحيوان والنبات (3) وهي سبب النماء والزيادة. فلا دلالة لها على الحياة. والقوة التي بها الحس تختص بالحيوان فكان دلالتها على الحياة أولى. فإذا لم توجد دلت على عدم الحياة على ما يستقرأ من أحوال الموجودات. فإن احتج الليث على نجاسة الشعر وطهارته بالغسل بقوله عليه السلام: لا بأس بمسك جلد الميتة إذا دبغ ولا بأس بصوفها وشعرها ووبرها إذا غسل (4). فهنا يحمل الحديث إن صح على أن الغسل مستحب لما قدمناه من الاستدلال على أن الشعر ليس بحي فيحس بالموت إن صح (5) وأما الشافعي فأنه إن قال: إنما فرق بين شعر الإنسان وغيره من الحيوان؛ لأن للإنسان حرمة تقتضي تشريفه على غيره من الحيوان. وفي الحكم بنجاسته إلحاق له بصنف الخسيس من الحيوان. ولهذا كان لبن ما لا يؤكل لحمه نجسًالأولبن بنات آدم طاهرًا لحرمتهن. ولهذا كان الإنسان لا ينجس بالموت في أحد القولين عندكم.
وقد قال عليه السلام: لا تنجسوا موتاكم فإن المؤمن ليس بنجس حيًّا ولا ميتًا (6). قيل له إذا ثبت كون الشعر حيًا فإنه يلحق بأجزاء الميتة ويدخل في الظاهر الوارد بتحريم الميتة. ولا يخص (7) بقياسه على لبن الآدمية بغير علة
__________
(1) يألم -ح-.
(2) المفيدة.
(3) الموات -ح-.
(4) أخرجه البيهقي ونص على ضعفه لأن في سنده يوسف بن السفر وهو متروك. ولم يأت به غيره. السنن ج 1 ص 243.
(5) ساقطة من -و-ق-.
(6) عن عطاء وسعيد بن جبير عن ابن عباس مرفوعًا: لا تنجسوا موتاكم. فإن المسلم ليس ينجس حيًّا ولا ميتًا. البيهقي ج 3 ص 398.
(7) ولا يختص -و-.

(1/263)


جامعة. وإن ركبنا له أحد القولين في نجاسة الإنسان إذا مات لم يبق له متعلق.

والجواب عن السؤال الثالث عشر: أن يقال: وأما قوله وكل الحيوان واحد. إن أعدناه على الشعر والصوف، فإن ذلك تنبيه على ما فصله الشافعي في شعر الإنسان وغيره من الحيوان. واللبن (1) لعلة الحكم في ذلك. وإن أعدناه على جميع الجملة كان فيه تنبيهًا أيضًا على أخذه بأحد القولين: في أن الإنسان ينجس بالموت. وكونه عائدًا على الجملة الأخيرة أولى لأنه ليس كل الحيوان ينجس بالموت عندنا. ألا ترى أن السمك والجراد وكل ما لا نفس له سائلة لا ينجس بالموت. فلهذا اخترنا إعادة هذا الكلام إلى الجملة التي تليه.

والجواب عن السؤال الرابع عشر: أن يقال: إنما أكد بقوله الميتة كلها لأن الأوزاعي ذهب إلى أنه يطهر بالدباغ جلد ما يؤكل لحمه دون ما لا يؤكل.
لأن المذهب اختلف عندنا في طهارة جلد الميتة بالدباغ إلا أن تكون الميتة خنزيرًا فلم تختلف الروايات في أنها لا تطهير بالدباغ. وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي. وألحق الشافعي الكلب بالخنزير. وذهب أبو يوسف وداود إلى أن جميع الجلود تطهير بالدباغ حتى جلد الخنزير. فلأجل هذا الاختلاف وهذا التفصيل الذي وقع في هذه المقالات أكد بقوله جلود الميتة كلها. لئلا يظن به أنه أراد بعضها على حسب ما قاله المخالف.

والجواب عن السؤال الخامس عشر: أن يقال: أما طهارة الجلد بالدباغ فقد اختلف المذهب فيها. فقيل: يطهر بالدباغ لقوله عليه السلام: "إذا دبغ الإهاب فقد طهر" (2) وقيل لا يطهر بالدباغ لقوله عليه السلام: "لا تنتفعوا (3) من
__________
(1) اللبن ساقطة -ق-.
(2) رواه مسلم ومالك وأبو داود والترمذي والنسائي عن عبد الله بن عباس. جامع الأصول ج 7 ص 106.
(3) بالميتة -و-.

(1/264)


الميتة لا بإهاب ولا عصب" (1). والمذهب الأول أولى. وإن (2) قلنا ببناء العمومين إذا تعارضا. لأن قوله لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب يمكن أن يكون أراد به إذا لم تدبغ الأهب (3). وإذا أمكن هذا تطلبنا دليلًا له. فوجدنا قوله عليه السلام: إذا دبغ الإهاب فقد طهر. نصًا في طهارته بالدباغ فيقضي على الحديث الآخر. ويحمله (4) على أنه أراد به لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب إذا لم تدبغ الأهب، لا سيما وقد قال في الحديث الآخر إنما حرم أكلها. فخص تحريم الميتة في الأكل خاصة. وهذا يقتضي أن جلدها لا تحرم الصلاة عليه ولا بيعه إذا دبغ. وإذا لم يحرم ذلك منه وجبت طهارته.

والجواب عن السؤال السادس عشر: أن يقال: إن قلنا (5) أنه يطهر بالدباغ، جاز بيعه والصلاة عليه والانتفاع به في المائع والجامد كسائر الأواني الطاهرة. وإن قلنا أنه لا يطهر فإن الصلاة عليه لا تجوز لأنه لا يصلي على النجس] وكذلك بيعه لا يجوز. لأن النجاسة لا يجوز بيعها. ولكن يجوز أن ينتفع بها في الجامدات خلافًا لأحمد. لأن الجامد لا يعلق أثر الجلد به. وإذا لم يعلق ذلك به أمن من نجاسته. فلا معنى لمنعه. ولأنه عليه السلام قال: "ألا انتفعتم بجلدها" (6). ولو تركنا وإطلاق هذا، لانتفعنا بجلدها في الجامد والمائع. فلما علم أن استعمالها في المائع لا يؤمن معه نجاسة المائع، منعناه وحملنا الحديث على ما سواه من الجامدات. فإن قيل هب أنكم خصصتم قوله: ألا انتفعتم بجلدها بهذا الضرب من الاستدلال فلم شرطتم في (7) جواز
__________
(1) هو حديث عبد الله بن عكيم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى جهينة قبل موته بشهر: ألا تنتفعوا بإهاب ولا عصب رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة. جامع الأصول، ج 8 ص 69.
(2) إذا قلنا -و-ق-.
(3) الإهب ساقطة من -و-ق-.
(4) ويحله -ح-.
(5) إن قلنا ساقطة -و-.
(6) الحديث أخرجه البخاري ومسلم ومالك وأبو داود والترمذي والنسائي بلفظ هلا انتفعتم بإهابها؟ جامع الأصول، ج 7 ص 107.
(7) على -ق-.

(1/265)


الانتفاع كون الجلد مدبوغًا؟ وهلا أجزتم بها قبل الدباغ كما أجازه الزهري آخذًا بإطلاق هذا الخبر؟ قيل قد روي مقيدًا بالدباغ. وقالت عائشة أمران يستمتع بجلود الميتة إذا دبغت. والمطلق يرد إلى المقيد فلهذا شرطنا الدباغ في جواز الانتفاع.

والجواب عن السؤال السابع عشر: أن يقال: إنما نبه على عظم الميتة وقرونها. لأن أبا حنيفة ذهب إلى طهارتها. ونقطة الخلاف بيننا وبينه وقد تقدم الكلام عليها وهي اعتبار وجود الحياة بالعظم فيكون ميتة عند الموت. أو عدم الحياة منه أصلًا. فلا يكون ميتة. وقد ذكرنا المعنى الذي به يعرف (1) الحيوان من الجماد. فلا معنى لإعادته. وقد احتج أصحابنا على حياة العظم بقوله تعالى: {مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} (2). وهذا تنبيه على وجود الحياة بها. فإن قيل: فلم قلتم بنجاسة الريش والظفر وهما لا حياة بهما؟ قيل قال بعض أصحابنا أن دم البدن ينبعث إليهما وبه تتغذكرًاصولهما فلهذا حكمن ابن جاستهما. ولولا هذا لكانا طاهرين كالشعر. وقال بعض أصحابنا أيضًا يجوز أن يكون القرن والسن لا حياة بهما وإنما قلن ابن جاستهما لأنهما يتغذيان بالدم فحكم بنجاستهما.

والجواب عن السؤال الثامن عشر: أن يقال: أما عرق من يتغذى بالنجاسة، كعرق السكران وما في معناه، فقد اختلف في ذلك، هل هو نجس أو طاهر؟ وقد تقدم القول فيه. والأصح عندي طهارة عرق السكران إذا كان ظاهر بدنه طاهرًا. لأن الأمة أجمعت على أن الخمر إذا صارت خلًا من قبل الله سبحانه عَزَّ وَجَلَّ فإنها طاهرة لانقلابها واستحالة صفاتها. وانقلاب الخمر (3) عرقًا أبعد من انقلابها خلًّا. فوجب القول بطهارته. وكذلك يختلف القول في لبن المرأة إذا شربت الخمر. والأصح طهارته لما قلنا. وأما لبن الميتة فليس نجاسته من قبل أنه في الأصل نجس ولكن من قبل نجاسة وعائه لأن الميتة
__________
(1) يعرف به -و-.
(2) سورة يس، الآية: 78.
(3) الخمرة -ح-.

(1/266)


ينجس سائر أجزائها بموتها كما قدمنا. وأما بيض الدجاجة الميتة فقد قال بعض أهل العلم إن خرجت رطبة فإنها نجسة بنجاسة وعائها، وتكون كاللبن. وإن خرجت وقد تصلب قشرها حتى صار يحجب النجاسة عن باطنها كانت طاهرة إلا أن قشرها لا يطهر إذا علقت به نجاسة حتى تزال.

والجواب عن السؤال التاسع عشر: أن يقال: أما لبن ما يحرم أكل لحمه فإنه على قسمين: إما أن يكون (1) يحرم أكل لحمه لحرمته وذلك بنات آدم فإنهن إنما حرمن لحومتهن. فإن لبنهن حلال طاهر. وإما أن يحرم أكل لحمه لغير حرمته وذلك على قسمين: إما أن يكون تحريم أكله مجمعًا عليه قد علم ضرورة من دين الأمة كالخنزيرة فإن لبنها حرام كلحمها. وإما أن يكون تحريم أكله غير معلوم ضرورة ولا منصوص عليه نصًا لا سبيل لمخالفته، كالحُمر والسباع والكلاب عند من قال بالتحريم. فاختلف فيه. فقيل: لبنه تابع للحمه كما كان بوله تابعًا للحمه. وقيل ألبانها تخالف (2) لحومها وهي حلال (3) طاهرة لأنه لم يأت نص بتحريم الألبان فتدخل هذه في عمومه. فبقيت على أصل الإباحة.

والجواب عن السؤال العشرين: أن يقال: أما طهارة النجاسة بالاستحالة، فقد مضى من فروعه كثير في أثناء هذا الفصل. فمنه نجاسة البقول التي تسقى بالنجاسة أو تسمد بها وعرق السكران، وبول ما يتغذى بالنجاسة فلا معنى لإعادته. ولكن يختص هذا الموضع بالكلام على الخمر إذا خللت أو تخللت فإن خللها الله تعالى فمتفق على طهارتها. وقد خطب عمر فقال: لا يحل خل من (4) خمر أفسدت حتى يبدأ الله إفسادها. فعند ذلك يطيب النحل. وإن خللها آدمي، فاختلف فيها، فقيل تطهير قياسًا على ما خللها الله تعالى والجامع بينهما زوال الشدة المطربة التي هي علة التحريم. وقيل لا تطهير فإن أبا طلبة سأل
__________
(1) يكون ساقطة -ح-ق-.
(2) بخلاف -و-.
(3) حلال ساقطة من -ح-.
(4) من ساقطة -ق-.

(1/267)


النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أيتام ورثوا خمرًا فقال أهرقها. فقال ألا أخللها؟ فقال لا (1). فلو كانت تطهير بالتخليل لصان - صلى الله عليه وسلم - أموالهم به. وأما الميتة إذا حرقت فصارت رمادًا أو العذرة وما في معنى ذلك فإنها لا تطهير عند الجمهور من الأئمة. لأن النجاسة معلقة بعينها وأجزاؤها باقية. وبهذا فارقت الخمر لأن نجاسة الخمر بمعنى وهو الشدة المطربة فإذا ذهبت ذهب التحريم. وقد تنازع الناس في دخان النجاسة إذا أحرقت هل هو نجس كرمادها أو طاهر لأنه بخار فهو (2) بخلاف رمادها.
__________
(1) رواه أحمد عن أنس بن مالك أن أبا طلبة سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أيتام ورثوا خمرًا، فقال: اهرقوها. قال أفلا نجعلها خلًّا؟ قال: لا. مسند الإِمام أحمد ج 2 ص 119.
في ص: 180 فكره ذلك. وعند أبي داود ابتاع لهم خمرًا فلما حرمت الخمر سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -. الحديث. رواه في باب الخمر تخلل.
(2) فهو ساقطة -و-.

(1/268)


باب التيمم

قال القاضي رحمه الله: التيمم فصوله خمسة:
1 - من يجوز له التيمم من المحدثين؟.
2 - وشروط جوازه.
3 - وصفة التيمم.
4 - وما يتيمم به؟.
5 - والصلوات التي يتيمم لها وتؤدى به؟ (1).

قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل سؤلان منها أن يقال:
1 - هل هذا الحصر والتقسيم متعين لا بد منه أو يقسم الكلام (2) على فصول أخرى سواه؟.
2 - وما معنى قوله من يجوز له التيمم؟ هل أراد به الجواز بمعنى الإباحة أو غير ذلك؟.

فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: يصح تقسيمه على نوع آخر وقد قسمه بعض المؤلفين على غير هذا التقسيم. والذي ذكره صاحب الكتاب يحيط بالمقصود فلهذا اقتصر عليه.

والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: المراد بذلك من يخاطب به ويؤمر بفعله؟ وكان التيمم لما علم وجوبه واشتهر فرضه ولكن له مواقع لا يجزي إيقاع
__________
(1) وتؤدى به: ساقطة من جميع النسخ - مثبتة في الغاني.
(2) الكلام في التيمم -ح-.

(1/269)


الفرض عليها، عبر عن ذلك بالجواز. وقد اختلف أهل الأصول في الوجوب إذا نسخ هل يبقى الفعل جائزًا أم لا؟ فمنهم من قال: إن الوجوب يتضمن الجواز.
فإذا رفع الوجوب بالنسخ بقي الحكم الآخر وهو الجواز. فأنت ترى هؤلاء كيف أثبتوا حقيقة الجواز مع حقيقة الوجوب، فلا تستنكر هذه العبارة التي وقعت ها هنا. وتعبيره بقوله من المحدثين يشير به إلى حقيقة ما قلناه، إذ إباحة الفعل لا يختص بها المحدثون.

قال القاضي رضي الله عنه: فأما من يجوز له التيمم فكل محدث حديثًا أعلى أو أدنى ممن يلزمه الوضوء والغسل (1).

قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل سؤلان. منها أن يقال:
1 - ما الدليل على صحة التيمم في الحدث الأعلى؟.
2 - وما فائدة تقييده بقوله من يلزمه الوضوء والغسل؟.

فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: اختلف الناس في جواز التيمم للجنب، بعد اتفاقهم على جوازه لمن حدثه الحدث الأصغر. فجمهور العلماء على جوازه. وحكي عن عمر وابن مسعود رضي الله عنهما منعه (2). والدليل لما عليه الجمهور قوله تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} (3). والملامسة الجماع. وإن قلنا أن الملامسة اللمس باليد. ومنعنا من حمل الآية على العموم الجامع بين المذهبين (4) جميعًا، مس اليد والجماع، اعتمدنا على قوله - صلى الله عليه وسلم - للذي أجنب: إنما يكفيك ضربة لوجهك وكفيك (5) الحديث.
__________
(1) أو الغسل -ق- الغاني-.
(2) منعه ساقطة -ح-.
(3) سورة النساء، الآية: 43.
(4) الجامع للمذهبين -ح-.
(5) هذا هو حديث عمار أخرجه البخاري ولفظه. قال له إنما يكفيك هكذا فضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - بكفيه الأرض ونفخ فيهما ثم مسح بهما وجهه وكفيه. فتح الباري ج 1 ص 460.
وفي رواية لمسلم إنما يكفيك أن تضرب بيديك الأرض ثم تنفخ فيهما ثم تمسح بهما وجهك وكفيك. إكمال الإكمال ج 2 ص 123.

(1/270)


والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: أما فائدة تقييده، فتحرزًا ممن أحدث حدثًا أعلى أو أدنى، وهو ممن لا تلزمه الصلاة كالصبي والمجنون، فإنهما إذا لم تلزمهما الصلاة لم يلزمهما الغسل والوضوء (1). لأن الغسل والوضوء إنما يرادان لغيرهما وهو الصلاة. فإذا سقط المراد سقط ما أريد له (2).
وإذا سقط الوضوء والغسل سقط التيمم. لأنه كالبدل من ذلك والفرع عنه. فإذا سقط الأصل سقط الفرع وهذا فائدة التقييد.

قال القاضي رضي الله عنه: وأما شروط جوازه فشرطان: عدم الماء الذي يتطهر به، أو عدم بعضه. فإن وجد دون الكفاية لم يلزمه استعماله. والشرط الآخر تعذر استعمال الماء مع وجوده.

قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل ثلاثة أسئلة منها أن يقال:
1 - ما فائدة تقييده بقوله الذي يتطهر به؟.
2 - وما الدليل على أنه إن وجد دون الكفاية لم يلزمه استعماله؟.
3 - وما الفرق عند من أوجب عليه استعماله بينه وبين واجد بعض الرقبة التي وجد؟.

فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: أما فائدة تقييده فلأنه قد يجد ماء مضافُ افيجوز له التيمم مع وجود هذا الماء. فلو أطلق قوله وقال عدم الماء لأمكن أن يفهم قارئ كتابه عنه أن واجد الماء المضاف لا يتيمم. وأيضًا فإن واجد الماء القليل الذي حلت فيه النجاسة اليسيرة يتيمم في أحد القولين (3) عندنا. وهو واجد لما يسمى ماء على الإطلاق. ولكن من قال من أصحابنا إنه يتيمم فإنه يرى أن هذا الماء (4) لا يتطهر به. وكذلك من وجد إناءين فيهما ماءان معلوم نجاسة أحدهما ولا يعلم عين النجس منهما فإنه واجد لماء وهو مع هذا
__________
(1) ولا الوضوء -و-.
(2) به -ح-.
(3) الأقوال -و-ق-.
(4) هذا ماء -ح-ق-.

(1/271)


فرضه التيمم في أحد الأقوال عندنا إلى غير ذلك من المسائل. فتعرض صاحب الكتاب لهذا التقييد لهذه المسائل كلها ليدل بالإجمال على التفصيل. وهذا من الحذق والتحصيل.

والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: اختلف الناس فيمن وجد من الماء ما لا يكفيه لوضوئه. فمذهب مالك وأبي حنيفة أن استعمال ذلك القدر لا يجب عليه. ومذهب الشافعي أنه يجب عليه استعماله. ويتيمم مع ذلك. وذهب بعض المتقدمين إلى أنه يبني التيمم على الوضوء ويكمل إحدى الطهارتين بالأخرى. فإذا وجد ما يغسل به وجهه غسل وجهه ومسح بالتراب كفيه.
وسر الخلاف بين العلماء في هذه المسألة هو أن الله سبحانه أمر القائم إلى الصلاة بغسل الأعضاء المذكورة. ومعلوم أنها لا تغسل إلا بماء. ولكن الماء غير مذكرر ولا منصوص عليه في صدر الآية. فلما قال عقب ذلك: فلم تجدوا ماء وقع الإشكال. هل المراد ماء وإن لم يكف. فيجب استعمال ما لا يكفي في الطهارة منه؛ لأنه يسمى ماء أو المراد الماء المتقدم التنبيه عليه وإن لم يذكر.
فلا يجب استعمال ما لا يكفي منه؟ هذه نقطة الخلاف بين فقهاء الأمصار. ومن
البديع المحقق لديك ما قلناه اتفاق مالك والشافعي رضي الله عنهما على أن
واجد بعض الرقبة لا يعتق ما وجد ويصوم. لأن الله تعالى قال في صدر آية الكفارة: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} (1). ثم قال: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ}. فلما تقدم ذكر الرقبة بالنص عليها اتفقا على أن قوله: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} محمول على من لم يجد ما تقدم النص عليه، وهو الرقبة الكاملة. ولما لم يتقدم ذكر الماء في صدر الآية وقع الإشك الذي المراد بقوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} فاختلف فيه على حسب ما بيناه.
ومما ينخرط في سلك هذه المسألة المضطر للميتة. وعنده اليسير من الطعام الذي لا يمسك رمقه، فإنه يجب عليه أكله، ثم بعد أكله ينتقل إلى الميتة. ولا يكون هذا حجة لمن قال أن الواجد من الماء ما لا يكفيه يجب عليه استعمال ما وجد. كما وجب على المضطر أكل الطعام الذي وجد؛ لأن القدر
__________
(1) سورة المجادلة، الآية: 3.

(1/272)


اليسير من الطعام له حصة في إمساك الرمق. والغرض في الشرع إمساك الرمق. لما كان للطعام المباح حصة فيه وجب استعماله. والغرض من الطهارة رفع الحدث وهو لا يرتفع إلا بغسل جمع الأعضاء. فلهذا افتراق الأصلان، لا سيما على طريقة من قال لا يرتفع حكم الحدث عن العضو المغسول تحقيقًا إلا بعد إكمال الطهارة. وأما من قال يرتفع الحدث عنه، ففي انفصاله عن مذهب الشافعي كلام يغمض.
ومما ينخرط في هذا السلك أيضًا من وجد ما يستر بعض عورته فإنه يجب عليه ستر ذلك. فيقال ما الفرق بين هذا وبين الواجد من الماء ما لا يكفيه وقد قلتم لا يجب عليه استعماله؟ قيل نحن إنما تركنا استعمال ما لا يكفي من طهارة الماء إلى بدل عنها، وهي طهارة التراب، فتركنا بعضًا واستبدلنا به كلًا (1).
وهذا إذا لم نأمره بستر بعض العورة بالذي وجد، فإنا منعناه من ستر ما قدر عليه ولم نعوضه منه بدلًا. فجمعنا بين ترك البدل والمبدل منه. وفي الطهارة لم نفعل ذلك بل أتينا بطهارة كاملة واستغنينا بها عن طهارة ناقصة.
ومما ينخرط في هذا السلك من بثوبه نجاسة، ومعه من الماء ما لا يزيل أصلها ويزيل بعضها، فإن بعض العلماء أمره أن يزيل منها القدر الذي أمكنه. وهذا وجهه أيضًا ما قلناه في ستر بعض العورة.
ومما ينخرط في هذا السلك أيضًا مسألة (2) من غمرت الجراح أكثر جسده فإنه يتيمم عندنا. وعند الشافعي يجمع بين التيمم وغسل ما صح من بدنه. ولا فرق بين عدم إمكان استعمال الماء في بعض الأعضاء لعدم الماء، أو لاستيلاء الجراح على أكثر الجسد. والكلام على هذه المسألة كالكلام على نظيرها وقد تقدم.

والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: قد أشرنا في كلامنا على السؤال الثاني حيث قلنا: إن الله سبحانه نص على الرقبة في صدر الآية، ثم قال: فمن لم يجد. فحمل ذلك على من لم يجد رقبة وهي التي تقدم ذكرها.
__________
(1) فتركنا بعضًا واستبدلنا بعضًا -ح-.
(2) مسألة ساقطة -ح-.

(1/273)


ولم يذكر الماء في صدر آية الطهارة، فوقع الإشك الذي قوله: فلم تجدوا ماء. هل المراد به ما سمي ماء أو ماء كافيًا لغسل ما تقدم ذكره في الآية؟.

قال القاضي رحمه الله: وكل واحد من هذين الشرطين متعلق بشروط.
منها ما يعم، ومنها ما يخص. فأما ما يعم: فهو أن يكون محتاجًا إلى التيمم وذلك بأن يدخل الوقت، ويتوجه عليه فرض الصلاة. فإن قدمه على ذلك فلا يجزيه. وأما ما يخص، فهو أن (1) عادم الماء لا يجوز له التيمم إلا بعد طلب الماء وإعوازه. وإن وجده بثمن مثله أو غاليًا غير متفاحش لزمه شراؤه، إلا أن يجحف به. وهذه الشروط منتفية في القسم الآخر وهو تعذر استعماله.

قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل سبعة أسئلة. منها أن يقال:
1 - ما معنى تقييده بقوله ويتوجه عليه فرض الصلاة؟.
2 - وما الدليل على مراعاة دخول الوقت؟.
3 - وما الدليل على وجوب الطلب؟.
4 - وهل الطلب محدود أم لا؟.
5 - وهل تلزمه إعادة الصلاة إن لم يطلب؟.
6 - ولم سقط استعمال الماء إذا غلا ثمنه؟.
7 - وهل زيادة الثمن محدودة أم لا؟.

فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: أما التقييد فتحرز ممن يدخل الوقت عليه وهو غير مخاطب بالصلاة كالصبي والمجنون والحائض. وهذه إشارة منه رضي الله عنه إلى مذهبنا في أن العبادة المؤقتة بوقت يتعلق الوجوب بجميع أجزاء الوقت، خلافًا لمن قال: إن الوجوب يتعلق بآخر الوقت. فعلى مذهبنا يصح قوله ويتوجه عليه فرض الصلاة. وأما من قال إن الوجوب يتعلق بآخر الوقت فلا تصح هذه العبارة على أصله. ولكنه قد يقول يصح التيمم أول الوقت، وإن لم يتوجه فرض الصلاة، كما يصح عنده إيقاع الصلاة في أول الوقت وتجزئ عن الفرض. وإن كان لا يتوجه الفرض إلا في آخر الوقت عنده.
__________
(1) فإن عادم الماء -و- فهو عادم -الغاني-.

(1/274)


والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: أما مراعاة الوقت فإن المشهور من المذهب أن التيمم لا يصح قبل دخول الوقت. وقال ابن شعبان من أصحابنا يصح التيمم ولم يعتبر دخول الوقت. فأما ابن شعبان فإنه يقيس التيمم على الوضوء. فلما صح الوضوء قبل دخول الوقت كان التيمم الذي هو بدل عنه يصح قبل دخول الوقت. وأما الحجة للمشهور فإن الله تعالى قال: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا} إلى قوله: {فَتَيَمَّمُوا} (1). فأمر بهاتين الطهارتين عند القيام إلى الصلاة. ولا يقام إليها إلا إذا دخل الوقت، فخصت السنة الوضوء بجواز تقدمته قبل الوقت. وبقي التيمم محكومًا فيه بما اقتضته الآية، لما لم يرد ما ينقل عنها.

والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: أما الطلب فالمشهور من المذهب إثباته. وخرج بعض أصحابنا من القول بإجازة (2) الجمع بين صلاتين فائتتين بتيمم واحد سقوط الطلب. إذ لو كان واجبًالأمر بالطلب للصلاة الثانية. وجعل المذهب على قولين إيجاب الطلب وإسقاطه. وفي هذا التخريج نظر لأنه قد يكتفى بالطلب الكائن عن الصلاة الأولى عن استئناف طلب للصلاة الثانية.
ويجعل حكم الطلب الأول منسحبًا (3) على الصلاة الثانية. كما يكتفي بالنية عند افتتاح الصلاة وينسحب حكمها على بقية الركعات. فكذلك يجعل الصلاتين ها هنا كالصلاة الواحدة في حكم الطلب. وحكى أصحابنا البغداديون عن أبي حنفية سقوط الطلب جملة من غير تفصيل. والذي وقفت عليه في كتب أصحابه أنه إنما يسقط الطلب في الأسفار خاصة لكونها مختصة بعدم المياه غالبًا بخلاف الحواضر الموجود الماء فيها (4) غالبًا. ودليلنا على وجوب الطلب قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً}. وهذه العبارة إنما تستعمل فيمن بحث عن (5)
__________
(1) سورة المائدة، الآية: 6.
(2) بإنكار -ق-.
(3) مستحبًّا -ق-.
(4) الموجود فيها الماء غالبًا -ق-.
(5) على -ح-.

(1/275)


الشيء فلم يجده. ولا يقال لمن كان الماء بقربه وهو قادر على طلبه وتحصيله أنه غير واجد للماء. فإذا دلت العبارة على البحث عن الشيء كان الطلب في مسألتنا واجبًا.

والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: أما الطلب فليس بمحدود. وأما الواجب منه طلب لا شديد مشقة فيه، ولا عظيم نصب. وإذا كان لا ينال إلا بمشقة سقط الطلب. والمشقة لا تتحدد لأن الشاب المطيق لا يشق عليه من معاناة المشي في الطلب، ما يشق على المرأة والرجل الضئيل. وإذا كان ذلك كذلك امتنع التحديد. وقد وقع عندنا أنه لا يلزم طلب الماء من جميع أهل الرفقة الكثيرة ... وإنما يطلب ممن يليه منها. وهذا اعتبار لما قلناه من المشقة. لأن الطواف على الخلق الكثير في الرفقة العظيمة مما يشق. فلهذا أُسقط اعتباره.

والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: قال بعض أصحابنا: إن لم يكن معه إلا الرجلين ونحوهما فلم يطلبهما (1) أعادا الصلاة أبدًا. وإن ترك طلب العدد القليل الذي أمرناه بالطلب منه في الرفقة القليلة أعاد في الوقت وإن ترك الطلب أصلًا في الرفقة الكثيرة لم يعد. وهذا ضعيف لأن القليل من الرفقة الكئيرة إذا أمرناه بالطلب منه كان كالقليل الذي لا حد له معه وإضافة كثير للقليل الذي ذكره لا يغير حكمه (2).

والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: إنما سقط استعمال الحاء إذا غلا ثمنه لأن للمال حرمة، وللصلاة حرمة. والمال إذا بذل لم يوجد منه بدل دنيوي. والماء إذا عدل عنه فإلى بدل يعدل عنه فكان الرجوع إلى البدل أولى.
والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: أما زيادة الثمن فإنها غير محدودة
__________
(1) هكذا في جميع النسخ ولعل الصواب فلم يطلبا.
(2) راجع في بيان هذا التفصيل مواهب الجليل ج 1 ص 345.
والتعبير قلق وقد تكون فيه أخطاء في النسخ. كموضع منه الطلب منه في الرفقة.

(1/276)


إلا بأن تكون الزيادة متفاحشة خارجة عن العادة. وحده بعض أصحابنا بالثلث وكأن هذا الحد منه حد للعادة (1).

قال القاضي رحمه الله: وأما جوازه لتعذر الاستعم الذيعتبر فيه أربعة أشياء:
1 - خوف تلف.
2 - أو زيادة مرض.
3 - أو تأخر برء.
4 - أو حدوث مرض يخاف معه ما ذكرناه.

والثاني أن يجد الماء ويخاف لخروجه إليه لصوصًا أو سباعًا، فيجوز له التيمم *والثالث أن يخاف متى تشاغل باستعماله ذوات الوقت لضيقه. أو تأخر المجيء به، أو لبعد المسافة* (2) في الوصول إليه أو لعدم الآلة التي توصله إليه كالدلو أو الرشا. والرابع أن يخاف على نفسه أو على إنسان يراه التلف من شدة العطش. أو أن يخاف ذلك في ثاني حال ويغلب على ظنه أنه لا يجده. فأما المحبوس فكالعادم وكذلك المريض الذي عنده ماء ولا يجد من يناوله إياه هو (3) كعادم الآلة وليس من شرطه ألا يكون حاضرًا. بل يجوز للحاضر والمسافر على الشروط التي ذكرناها.

قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل ستة أسئلة منها أن يقال:
1 - ما الدليل على جواز التيمم للمريض؟.
2 - وما الدليل على أن حدوث المرض أو زيادته كخوف التلف؟.
3 - ولم كان خوف السباع واللصوص يبيح التيمم؟.
4 - وما الدليل على أن خوف ذوات الوقت للتشاغل يحيى التيمم؟.
5 - ولم كان الخوف من شدة العطش على نفسه أو غيره (4) يحيى التيمم؟.
__________
(1) حد العادة -ح-ق-.
(2) ما بين النجمين ساقط من -ح -و-.
(3) فهو -ق-الغاني-.
(4) أو على غيره -ح-.

(1/277)


6 - وما الدليل على جواز التيمم للحاضر؟.
فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: قد منع بعض الناس المريض من التيمم إذا كان واجدًا للماء، تعلقًا بقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} (1). فشرط في جواز التيمم عدم الماء ودليلنا قوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (2) وقوله سبحانه: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ في الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (3). ولأن الشرع جاء بالمسح على الجبائر وإنما جاز المسح على الجبيرة للمرض (4).

والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: قد منع الشافعي من التيمم ما لم يخف التلف. وروي ذلك عن مالك رواية شاذة وذكرها (5) بعض البغداديين من أصحابنا. والمعروف من مذهبه. ومذهب أصحابه ما ذكره القاضي أبو محمَّد.
والدليل على صحته قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ في الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (6). ولأنه إذا سقط استعمال الماء صيانة للأموال سقط صيانة للأجسام عن الأسقام.

وأما السؤال الثالث فإنا قدمنا (7) جوابه في المسائل المتقدمة حيث قلنا أنه إذا غلا الثمن (8) جاز التيمم لحرمة المال. فإذا خيف من اللصوص سلب جميع المال كان أحرى وأولى. وقد قدمنا أن الخوف من حدوث المرض يحيى التيمم.
فالخوف من السباع المتلفة للنفس أحق بالإباحة.

والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: روى أبو جعفر الأبهري عن مالك أن الحكم التيمم كما قاله القاضي أبو محمَّد ها هنا. وقال بعض الأشياخ المتأخرين بل الحكم استعمال الماء وإن فات الوقت. فوجه المروي عن مالك
__________
(1) سورة النساء، الآية: 43.
(2) سورة البقرة، الآية: 195.
(3) سورة الحج، الآية: 78.
(4) للمريض -ق-.
(5) ذكرها -و-ق-.
(6) سورة الحج، الآية: 78.
(7) قد قدمنا -و-.
(8) أغلى في الثمن -ح -و-.

(1/278)


أنه قد علم أن الماء لا يعدم أصلًا. وقد اتفق على أن عادمه في الوقت يتيمم مع العلم أنه يجده بعد الوقت. فاقتضى ذلك أن العلة تحصيل الفعل لئلا يذهب وقت الوجوب فينتقل الفعل عن كونه أداء لكونه قضاء. وإذا كانت العلة هذه، وجب أن يتيمم في مسألتنا. لأنه إن لم يتيمم أوقع الصلاة قضاء، وقد أخبرنا أن إيقاعها بالتيمم أداء أولى من إيقاعها قضاء بالماء.
وأما ما ذهب إليه بعض المتأخرين فوجهه أنه رأى أن الله تعالى إنما أباح التيمم للصحيح عند عدم الماء. فإذا خشي ذوات الوقت متى طلب الماء، حسن أن يقال: إنه غير واجد للماء لعدم القدرة عليه في الوقت الضيق. وعادم القدرة على الشيء غير واجد له. فإذا كان الماء موجودًا وغسل الأعضاء به ممكنًا استحال أن يقال: إنه (1) غير واجد. وإذا استحال ذلك لم يصح التيمم لتعليق إجازته على عدم الوجود.

والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: أما إذا خاف متى استعمل الماء أن يعطش عطشًا يهلكه فلا شك في إباحة التيمم له لقوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} (2) وقوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (3). وأما إن خاف أن يعطش عطشًا يمرضه فإنه يجري على الاختلاف الذي قدمناه في جواز التيمم خوفُ امن حدوث المرض. وأما خوفه تلف آخر (4) من العطش فإنه يبيح له التيمم أيضًا؛ لأن حرمة نفس غيره كحرمة نفسه. ويتعين على الإنسان صيانة نفس غيره. ويجب ذلك عليه. ولا بدل من ذلك. والوضوء منه بدل وهو التيمم. فتقدمة الواجب الذي لا بدل (5) منه أولى. وقد قال ابن حبيب بجواز التيمم إذا خاف على غيره الموت أو ضررًا يشبه الموت. وقد قيد القاضي أبو محمَّد كلامه ها هنا بخوف التلف، لما كان خوف الإنسان مرض نفسه فيه الاختلاف الذي قدمناه. وأما خوفه من مرض غيره ففيه نظر. وقوله أو أن يخاف
__________
(1) إنه ساقطة -ح-.
(2) سورة النساء، الآية: 29.
(3) سورة البقرة، الآية: 195.
(4) أي إنسان آخر.
(5) الواجب الذي بدل -ح-. الواجب لا بدل -ق-.

(1/279)


ذلك في ثاني حال ويغلب على ظنه أنه لا يجده ووجهه ما قدمناه. لأنه لا فرق بين أن يخاف التلف من العطش في الحال، أو يخاف ذلك في المستقبل.
بأن يغلب على ظنه بأنه لا يجد ماء (1) يشتريه في المستقبل، وغلبة الظن ها هنا تقوم مقام العلم. ومما يليق بهذا الوضع أن يقال: قد قلتم فيمن معه من الماء قدر ما يذهب به عطشه وإن لم يشربه كفاه الوضوء، إن الحكم إذا خاف التلف التيمم. فما قولكم فيمن معه من الماء ما يذهب (2) نجاسة بدنه وإن لم يغسل به النجاسة كفاه لوضوئه؟ قيل أما هذا فلا أحفظ الآن في عين هذه المسألة نصًّا لأحد من أصحابنا سوى ما حكاه ابن حبيب عن بعض أصحاب مالك فيمن مسح على خفيه، ثم لحقتها نجاسة وهو في السفر، ولا ماء معه أن ينزع خفيه ويتيمم. فهذه الرواية تشير إلى أن الصلاة بطهارة التيمم مع عدم النجاسة أولى منها بطهارة الماء مع حصول النجاسة. فعلى هذا يغسل نجاسته بالماء وإن نقله ذلك إلى التيمم. وقد يحتمل أن تخرج مسألتنا عن القولين في غسل النجاسة هل هو فرض أو سنة؛ فإن قلنا إن ذلك سنة وأن من صلى بالنجاسة عامدًا أعاد في الوقت كما روي عن أشهب، حسن أن يقال إنه يتوضأ ويكون ذلك أولى من غسل النجاسة. لأن الوضوء مع وجود الماء والقدرة على استعماله فرض، وغسل النجاسة على هذا القول سنة. فالفروض مقدمة على السنن. وإن قلنا: إن غسل النجاسة فرض وإن من صلى بها ناسيًا أعاد أبدًا حسن ها هنا أن يقال إن يتيمم؛ لأنهما فرضان تقابلا. وأحدهما له بدل والآخر لا بدل له وهو غسل النجاسة. وما لا بدل له أولى أن يقدم. ومذهب أصحاب أبي حنيفة استعمال الماء لغسل النجاسة. قالوا لأن بذلك نجمع ما (3) بين ما تعارض من العبادتين فيطهر النجاسة بالماء ويتطهر للصلاة بالصعيد. وذهب بعض الناس إلى أن الواجب استعمال الماء في طهارة الحدث لكونها أغلظ إذ لا تجوز الصلاة بغير طهارة أصلًا.
__________
(1) ما يشربه -ق-.
(2) يذهب به -و-ق-.
(3) ما: ساقطة من -ق-و-.

(1/280)


والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: أما الحاضر الصحيح إذا خاف ذوات الوقت إن تشاغل بطلب الماء فإن في جواز تيممه قولين: المنع والجواز.
وبالمنع قال أبو حنيفة. وبالجواز قال الشافعي. فإذا قلنا بالجواز فهل يعيد الصلاة إذا وجد الماء؟ (1) فيه قولان: وبالإعادة قال الشافعي. فوجه المنع قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ. . . فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} (2).
فأباح التيمم للسفر أو للمرض. والصحيح المقيم خارج عنهما. فخرج عن أن يكون من أهل التيمم. ووجه القول بالجواز: أن التيمم إنما فرض لئلا تفوت الصلاة وتفعل قضاء، مع إمكان فعلها أداء. وهذه العلة موجودة في المقيم الصحيح كوجودها في المريض والمسافر فوجب أن يكون حكم الجميع سواء.
وأما وجه الاختلاف في الإعادة على القول بالجواز، (3) فإن من قال بنفي الإعادة رأى أنه إذا كان مأمورًا بالتيمم ووجب إلحاقه بالمسافر والمريض، وجب أن لا يعيد، كما لا يعيدان: وأما من قال بالإعادة فإنه رأى أن المسافر مجمع على جواز التيمم له (4). وهذا مختلف في جواز التيمم له. فاحتيط له بالإعادة لتبرأ ذمته من الصلاة من غير خلاف. وقد وقع للقاضي أبي محمَّد في هذا الباب تقسيم لم يف به كما ينبغي في صناعة التأليف. وذلك أنه قال وكل واحد من هذين الشرطين متعلق بشروط منها ما يعم ومنها ما يخص. وظاهر هذا أن لكل واحد من الشرطين شرطًا عامًا وشرطًا خاصًا. فذكر الشرط العام والخاص في أحد القسمين ولم يصرح به في الآخر، ويبينه (5) كما بينه في صاحبه. وهذه مناقشة في عبارة ولست أرى الاشتغال بها إنما نبهنا عليها لتعرف.
__________
(1) هكذا في جميع النسخ مع أن فرض المسألة في واجد الماء ولكونه خشي خروج الوقت إذا هو استعمل الماء.
(2) سورة النساء، الآية: 43.
(3) بجواز التيمم -و-.
(4) ساقطة -ح-.
(5) بينه -و-ق-.

(1/281)


قال القاضي رحمه الله: فأما صفة التيمم فهو (1) أن يضع يديه على الصعيد ثم يمسح (2) وجهه كله ويديه إلى المرفقين. وقيل إن مسح إلى الكوعين أجزأه (3). والاختيار ضربتان فإن اقتصر على واحدة جاز (4).

قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل خمسة أسئلة: منها أن يقال:
1 - ما الفرض في اليدين؟ هل الكفان خاصة أو الكفان والذراعان؟.
2 - وما الدليل لكل واحد من المذهبين؟.
3 - وهل يخلل أصابع يديه في التيمم؟.
4 - وهل ينزع الخاتم لمسح ما تحته؟.
5 - وهل الضربة الثانية فرض أم لا؟ (5).

فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: اختلف الناس في ذلك. فمذهبنا أنه مأمور بالبلوغ إلى المرفقين. وهو مذهب أبي حنيفة. وقال الشافعي بالاقتصار على الكفين، واضطرب المذهب في الذراعين. فالبغداديون يرون أن الفرض مقصور على الكفين وأن مسح الذراعين سنة. وهذا مقتضى ما قيل في المذهب المشهور عندنا: أن من اقتصر على كفيه يعيد الصلاة في الوقت. وقال بعض أصحابنا بل يعيد الصلاة أبدًا *والأظهر أن صاحب هذا المذهب يرى مسح الذراعين فرضًا. ولهذا أمر بإعادة الصلاة أبدًا* (6) وإن بعض أشياخي يقول في مثل هذا: يمكن أن يكون إعادة الصلاة بعد الوقت بناء على طريقة من يرى أن من ترك السنن متعمدًا يعيد الصلاة بعد الوقت. وذهب ابن شهاب إلى أن مبلغ التيمم إلى الآباط. وحكي عن بعض أهل العلم أن الكفين فرض والذراعان (7) إلى
__________
(1) فهي -الغاني -ق-.
(2) يمسح بها -الغاني-.
(3) وقيل إن اقتصر على الكوعن أجزأه -الغاني- وقيل إن اقتصر على الكفين أجزأه -و-ق-.
(4) أجزأه -و-.
(5) هكذا في جميع النسخ. والأصح أولًا.
(6) ما بين النجمين ساقط من -ح-.
(7) الذراعان -و-.

(1/282)


المرافق سنة، والعضدان إلى الآباط فضيلة. هذا جملة ما قيل في ذلك.

والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: الأدلة دائرة بين أثر واعتبار ولغة.
فأما الأثر ففي الأحاديث الاقتصار على ذكر الكفين وفي بعضها ذكر الذراعين.
ويقول من أثبت مسح الذراعين ما تعلق به المخالف، يمكن تأويله على مذهبي، ولا يمكنه تأويل ما تعلقت به على مذهبه. لأن الذراعين مع الكفين قد يعبر عنهما بالكفين، ولا يعبر عن الاقتصار على الكفين بالذراعين. هذا منتهى القول من جهة الأثر. وأما من (1) جهة الاعتبار فيستعمل فيها أصلان من أصول الفقه: أحدهما الأخذ بأول الإسم أو بآخره. واليد من الأصابع إلى الإبط. فمن أخذ بأول الإسم اقتصر *على الكفين. ومن أخذ بآخر الإسم بلغ إلى الآباط كما حكيناه عن بعض من سلف* (2) واقتصر على المرافق وأخرج العضدين بدليل (3). والأصل الثاني من أصول الفقه رد المطلق إلى المقيد فيما يتناسب.
وفيه اختلاف بين أهل الأصول. فمن أنكر الرد ولم يقم له دليل على مسح الذراعين اقتصر على الكفين. ومن قال بالرد فهاهنا آيتان إحداهما قوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} (4) والثانية قوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (5). وقد تقرر أن القطع مقصور على الكفين. فمن رده إلى القطع في السرقة اقتصر في التيمم على الكفين. ومن رده إلى الوضوء بلغ في التيمم إلى المرفقين. لكن رده إلى آية الوضوء أحق وأوجب. ولا يتشاغل بالرد إلى آية السرقة إلا ضعيف النحيزة (6). وذلك أنا شرطنا في رد المطلق إلى المقيد أن يكونا متناسبين. ولا تناسب بين السارق والمتطهر. فهذا عاص مذموم محدود.
وهذا متطهر متقرب. بل المتوضئ متطهر والمتيمم متطهر. وهما جميعًا
__________
(1) وأما جهة -ح-ق-.
(2) ما بين النجمين ساقط من ح.
(3) هكذا في جميع النسخ. ويستقيم المعنى بتحوير النص هكذا. ومن اقتصر على المرافق أخرج العضدين بدليل - بزيادة مَن وحذف الواو.
(4) سورة المائدة، الآية: 6.
(5) سورة المائدة، الآية: 38.
(6) النحيزة = الطبيعة.

(1/283)


ينحوان نحوًا واحدًا بفعلهما، وهو استباحة صلاة فكأنهما شيء واحد أطلق في موضع وقيد في آخر. فيجب رد مطلقه إلى مقيده. لا سيما والتيمم والوضوء مذكرران في آية واحدة بكلام متصل مرتبي بعضه ببعض. ونص التقييد في صدر الآية، وآية السرقة في موضع آخر ومع كونه كذلك فليس بمقيد هناك. ولا قيد في القرآن أصلًا. وإنما أخذ التقييد من جهة أخرى. فشتّان ما بين الردين، وبعيدًا ما بين المعنيين. هذا هو (1) الذي عليه المدار من جهة الاعتبار.
وأما من جهة اللغة فقد قال تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} (2) فحمل بعض من انتصر للاقتصار على الكفين، الباء ها هنا على التبعيض (3). بناء على طريقة من قال: أصل الباء للتبعيض. وإذا وجب حملها على التبعيض
*جاز الاقتصار على بعض اليدين [وما قيل قل] (4) من الكفين. ومن انتصر لإيجاب مسح الذراعين أنكر أن يكون أصل الباء للتبعيض* (5) وحملها ها هنا على أنها دخلت صلة في الكلام كقوله تعالى: {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} (6). ويعضد (7) بأن الوجه فيه دخلت الباء، والواجب إيعابه. فلم تدل فيه على التبعيض.
فأحرى ألا تدل على التبعيض فيما عطف عليه. وليست الباء فيه مذكررة بل هي فيه (8) مقدرة. ولا يصح أن تحمل الباء في الوجه على الصلة، وفي الذراعين على التبعيض، فيكون حقيقة مجازًا معًا، وهي كلمة واحدة. وهذا له تعلق بمسألة من أصول الفقه، وفيها غموض. وهذ الإرادة باللفظة الواحدة معاني مختلفة. وتكون في بعضها مجازًا، وفي بعضها حقيقة. ولعلنا نشير إلى شيء من هذا الأصل في الكلام على مسألة الصعيد.
__________
(1) هو ساقطة -ح-.
(2) سورة المائدة، الآية: 6.
(3) للتبعيض -ح-.
(4) هكذا في -و -وهو ممحو في -ق- وساقط من -ح- ولعله ولا أقل.
(5) ما بين القوسين ساقط من -ح-.
(6) سورة المؤمنون، الآية: 20.
(7) ينتصر في -ح-.
(8) فيه ساقطة -ح-.

(1/284)


فإن قيل قد ذهب ابن مسلمة من أصحابكم إلى أن التارك للشيء اليسير من الممسوح في التيمم يجزيه تيممه. وظاهر كلامه إن تارك اليسير من الوجه يجزيه تيممه. فلم يثبت الاتفاق على إحالة (1) كون الباء للتبعيض في الوجه. قيل كونها للتبعيض يوجب جواز الاقتصار على اليسير منه. وابن مسلمة إنما يجيز ترك اليسير منه لكون اليسير عنده لا حكم له: فشتان بين مذهب يوجب فعل الكثير، ومذهب يقتضي إيجاب فعل اليسير. فلم يكن فيما قلناه قدح بهذا الاعتراض والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: قد قال ابن شعبان من أصحابنا: يخلل المتيمم أصابع يديه. وذلك في التيمم أوجب منه في الوضوء. وإنما قال هذا لأن الحكم إيعاب الكفين. ولا يمكن إيعابهما إلا بالتخليل. وإنما قال: إن ذلك في التيمم أوجب منه في الوضوء؛ لأن جوهر الماء لطيف يسيل بطبعه خلال الأصابع والتراب بخلافه.

والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: يؤمر المتيمم بنزع خاتمه ليمسح ما تحته. وهذا في التيمم؛ لأن التراب لا يسيل بطبعه فيباشر البشرة القياسترها الخاتم. فإن لم يفعل فأصل المذهب أنه لا يجزيه. وعلى ما قدمناه عن ابن مسلمة -أنه يعفى عن اليسير في التيمم- يجزئ هذا التيمم ليسارة ما تحت الخاتم.

والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: اختلف في المأمور به من عدد الضربات فالمعروف من المذهب ضربتان. وانفرد ابن الجهم فقال ضربة واحدة. وقد اختلفت الأحاديث: ففي بعضها ضربة وفي بعضها ضربتان. فإن قلنا بالمشهور فاقتصر على ضربة واحدة فهل يؤمر بالإعادة أم لا؟ فيه قولان.
فإن قلنا بالإعادة فهل يعيد في الوقت أو يعيد أبدًا؟ فيه أيضًا قولان. فالأظهر أن من نفى الإعادة أو أثبتها في الوقت لا (2) يرى الضربة الثانية فرضًا. ومن أثبت الإعادة أبدًا يرى الضربة الثانية فرضًا. وقد قدمت عن بعض أشياخي أنه أنكر مثل هذا التخريج، وقال يحتمل أن يؤمر بالإعادة أبدً ابن اء (3) على طريقة من
__________
(1) إحالة ساقطة -ح-.
(2) لا ساقطة -ح-.
(3) أبدًا ساقطة -ق- بناء ساقطة -و-.

(1/285)


قال: من ترك السنن متعمدًا أعاد أبدًا. وكذلك كان ينكر تخريجنا الآخر في هذه المسألة ويقول في مثلها: قد يرى الإعادة في الوقت من يرى أصل المتروك فرضًا إذا كان فرضه مختلفًا فيه مراعاة للخلاف. والذي قاله محتمل يمكن القول به والمصير إليه. لكن وقع لابن القصار فيمن لم يجد من التراب إلا ما يكفيه لضربة واحدة. أنه لا يتيمم؛ لأنه لا ينتفع بتيممه. وهذا الذي قاله ابن القصار كالنص على أن الضربة الثانية فرض. ولا حيلة لأحد في تأويله. وقد اختلف أشياخنا في مأخذ هذه المسألة. فقال بعض أشياخي: من يجيز التيمم على الصخر لا يوجب الضربة الثانية، إذ لا معنى فيها يقتضي إيجابها. ومن يشترط التيمم بالتراب، يوجب الضربة الثانية ليحصل له من التراب ما يمسح به مرة ثانية. وخالفه غيره من الأشياخ ورأى أن ذلك غير معلل ولا مخرج على هذا الخلاف، بل هو اختلاف من اعتبار حكم الضرب وعدده.

قال القاضي رحمه الله: فأما ما يتيمم به فالأرض نفسها وما تصاعد عليها من أنواعها كالتراب والحصي (1) والرمل والنورة والزرنيخ (2) وغيره (3) مما في بابه. وليس من شرطه (4) علوق. شيء بالكف، بل يجوز بالحجر الصلد الذي لا يعلق (5) باليد شيء منه.

قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل ثمانية أسئلة: منها أن يقال:
1 - ما فائدة تقييده بقوله من أنواعها؟.
2 - وما الصعيد المذكور في القرآن؟.
3 - وما معنى وصفه بقوله سبحانه طيبًا؟.
4 - وهل يجوز التيمم بتراب محمول في وعاء؟.
5 - وهل يجوز مثل ذلك في المنورة والزرنيخ؟.
__________
(1) الجنة -الغاني -ح-.
(2) الزرنيخ ساقط من -ح-.
(3) وغير ذلك -الغاني-.
(4) شروطه- الغاني-.
(5) يتعلق -الغاني-.

(1/286)


6 - وهل يجوز التيمم بالملح؟.
7 - وهل يجوز التيمم بالثلج؟.
8 - وهل تغير ما يباح التيمم به بالصنعة يمنع التيمم به؟.

فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: قد يكون على وجه الأرض ما لا يجوز التيمم به كالنبات والرماد وغير ذلك مما ليس من أنواعها. فلهذا قيد بقوله من أنواعها.

والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: اختلف في الصعيد. فقال جماعة من أهل اللغة هو وجه الأرض. وقال ابن فارس في كتاب مجمل اللغة: هو التراب. والصعيد في اللغة من أسماء القبر أيضًا. لكن هذا خارج عن أغراضنا (1). وإنما يقع النظر بين القسمين الأولين: هل الصعيد وجه الأرض أو التراب؛ وهذا سبب اختلاف العلماء. فذهب مالك إلى جواز التيمم بالصخر وما لا تراب عليه (2) بناء على أن الصعيد وجه الأرض. وذهب الشافعي إلى أن التيمم لا يجوز إلا بالتراب واختلف قوله في الرمل. وقال ابن شعبان من أصحابنا يمنع التيمم برمل لا تراب فيه، وصخر لا تراب عليه. وهذا هو مذهب الشافعي. واختلف العلماء لاختلاف أهل اللغة كما ذكرنا ولاختلاف الأحاديث.
ففي بعضها: جعلت لي الأرض مسجدًا أو طهورًا (3). فعلق الطهارة بنفس الأرض ولم يشترط التراب واشترطه في كتاب مسلم فذكر وتربتها لي طهورا (4). فإن ثبت ما نقل الفريقان من أهل اللغة: أن العرب أوقعت اسم الصعيد على مجرد التراب، وعلى مجرد وجه الأرض، فهل يدعى في ذلك العموم حتى يجوز التيمم بالنوعين كما قال مالك؟ يتعلق ذلك بمسألة من أصول الفقه وهو أن التسمية الواحدة إذا تناولت معاني مختلفة فهل يدعى العموم فيها؟
__________
(1) غرضًا -ح-.
(2) فيه -ح-.
(3) متفق عليه من حديث جابر. الهداية ج 2 ص 112 و 148.
(4) أخرجه مسلم وابن أبي شيبة وأبو داود والطيالسي في مسنديهما والبيهقي من حديث حذيفة. الهداية ج 2 ص 148.

(1/287)


اختلف أهل الأصول في ذلك. فذهب بعضهم إلى دعوى العموم فيها على الإطلاق. ومنعه آخرون على الإطلاق. وجوز القاضي أبو بكر بن الطيب إرادة العموم بها *لكل معنى ينطلق عليه على الحقيقة ومنع إرادة العموم بها* (1) في حقائقها ومجازها معًا على صفة ذكرها. وقد كنا أشرنا إلى هذا الكلام (2) على قوله تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} (3). هل الباء للتبعيض أم لا؟ والكلام على إلحاق تلك المسألة السابقة بهذا الأصل الذي نحن فيه يغمض ويدق ويخرج عن غرض الكتاب.

والجواب عن السؤال الثالث: وأما قوله تعالى: {طَيِّبًا} فإن الشافعية تحمله على أن المراد به مُنبتًا ولهذا قصروا التيمم على التراب؛ لأنه ينبت. واستدلوا بقوله تعالى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} (4) فالطيب في الأرض المحروث. والطيب في الطعام المستعذب. فالتسمية تختلف باختلاف المسميات.
وأما المالكية فتخالفهم في هذا الأصل. وتحمل قوله تعالى طيبًا على أن المراد به طاهر. لأن الأرض النجسة لا يجوز التيمم بها. وقد رجح أصحاب الشافعي تأويلهم بأن الله تعالى كرّم بني آدم فجعل تطهيرهم (5) من أصلهم. فلما كان أصلهم من ماء وتراب كانت طهارتهم مقصورة على هذين النوعين وهما الماء والتراب.
والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: أما التراب إذا نقل عن الأرض وصار في وعاء، فالمشهور عندنا من المذهب جواز التيمم به.
وانفرد ابن بكير فمنع التيمم به. وقد يحتج لكل واحد من المذهبين باختلاف الروايتين عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. فمن روى أن الأرض طهور. فالتراب الذي في الأوعية لا يسمى أرضًا. ومن روى أن تربتها طهور فالمنقول في الأوعية
__________
(1) ما بين النجمين ساقط -و-.
(2) أشرنا إلى هذا في الكلام -ح-.
(3) سورة المائدة، الآية: 6.
(4) سورة المائدة، الآية: 58.
(5) تطهرهم -و-.

(1/288)


يسمى ترابًا. وإذا قلنا أن قوله صعيدًا معناه ما صعد (1) عليها. فالمنقول في الأوعية ليس بصاعد عليها ما دام في الأوعية. وقد احتج للجواز، بتيممه صلى الله عليه وسلم على الجدار لرد السلام (2). وحجارة الجدار كالمنقولة عن الأرض.

والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: أما المنورة والزرنيخ وما في معناهما كالكبريت والشب فيجوز التيمم على ذلك ما دامت في معادنها. لأنها بعض أجزاء الأرض ولأنها صاعدة عليها حال التيمم بها. وتغيرها عن المعهود من أجزاء الأرض بصنعة انفرد بها الخالق تعالى لا ينقلها عن أصلها كالماء المتغير طعمه بالكبريت ونحوه. فإن ذلك لا يمنع التطهر به.
وأما التيمم بها وقد نقلت من الأرض وصارت في أوعية فإن قلنا بأحد القولين: بأن التراب (3) المنقول لا يتيمم به فهذه أحرى بذلك. وإذا قلنا بأنه يتيمم به. فقد وقع في السليمانية لا يتيمم بالكبريت والزرنيخ والشب ونحو ذلك مما قد صار في أيدي الناس؛ لأنه قد صار كالعقاقير. فأشار إلى أن ادخاره واستعداده للأدوية والمنافع يخرجه عن أصله ويفارق به حكم جنسه.
وأما الياقوت والزبرجد فإنه وإن كان من المعادن فإنه يمنع التيمم به لأجل السرف (4) *كما منع استخدامه لأجل السرف* (5). وقد أجاز ابن القصار التيمم على الحشيش. وللنظر فيه مجال. وقد حكى بعض البغداديين أن في التيمم على الزرع قولين. وأجاز التيمم على الخشب وللنظر فيه أيضًا مجال.

والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: اختلف في التيمم على الملح على ثلاثة أقوال. فمنع على الإطلاق. وأجيز على الإطلاق وأجيز المعدني
__________
(1) صاعد -ح-.
(2) هو من حديث أبي يهم رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي والبيهقي والدارقطني وأحمد. الفتح الرباني ج 2 ص 186.
كما أخرجه البيهقي عن أبي الصمة والحديث منقطع. السنن ج 1 ص 205.
(3) في ان -ح-و-.
(4) الشرف -و-.
(5) ما بين النجمين ساقط من -ح-.

(1/289)


ومنع المصنوع. فالمنع على الإطلاق لأنه ليس من الصعيد. وإلى هذا أشار في السليمانية فقال يمنع لأنه طعام. والجواز لأنه من جنس الصعيد الذي تقدم الكلام (1) عليه كالكبريت والزرنيخ. والتفرقة لأجل أن حقيقة الصعيد إنما يتصور في المعدني دون ما سواه.

والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: اختلف في التيمم على الثلج وتوجيه الخلاف (2) يداني ما ذكرناه في الملح فلا معنى لإعادته.

والجواب عن السؤال الثامن: أن يقال: الجير المطبوخ وشبهه (3) يمنع التيمم به. لأنه بالصنعة خرج عن كونه صعيدًا.

قال القاضي رحمه الله: فأما ما يتيمم له فكل قربة لزم التطهر لها بالماء كالصلوات كلها ومس المصحف، وغسل الميت. ولا يكاد يتصور في الطواف إلا للمريض. ولا يجوز التيمم للجنازة في الحضر إلا أن يتعين الفرض (4). ولا يجوز الجمع بالتيمم بين صلوات فروض على وجه. ويجوز بين نوافل عدة.
ويجوز الجمع بين الفرض والنفل إذا قدم الفرض (5) ويجوز التنفل بتيمم الفرض، ولا يجوز الفرض بتيمم النفل.

قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل اثنا عشر سؤالًا منها أن يقال:
1 - ما المراد بقوله كل قربة لزم التطهر لها بالماء؟ هل ذلك على إطلاقه أو يحتاج إلى تقييد؟ (6).
2 - ولم لا يتصور في الطواف إلا ما ذكر؟.
3 - وما معنى قوله في الجنازة إلا أن يتعين الفرض؟.
__________
(1) تقدم ذكره -ق-.
(2) وتوجيهه للخلاف -و-.
(3) وشبه ذلك -ح-ق-.
(4) يتعين الفرض عليه -الغاني-.
(5) قبل النفل -الغاني.
(6) التقييد -و-.

(1/290)


4 - ولم لا يجوز الجمع بالتيمم بين فروض؟.
5 - وما معنى قوله على وجه؟.
6 - وهل يعيد إن فعل ذلك؟.
7 - ولم أجاز ذلك في النوافل؟ (1).
8 - ولم أجاز (1) الجمع بين الفرض والنفل إذا قدم الفرض؟.
9 - وهل يعيد الفرض إذا قدم عليه النفل؟.
10 - ولم أجاز التنفل بتيمم الفرض؟ (2).
11 - ولم منع الفرض بتيمم النفل؟.
12 - وهل يعيد الفرض إن فعل؟.

فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: مراده بذلك من كان من أهل التيمم كالمسافر والفريض. لأن الحاضر الصحيح لا يتيمم عندنا للنوافل ومس المصحف. وهو قد أطلق ذكر الصلوات كلها والنوافل داخلة فيها. ومعنى قوله: لزم التطهر لها أي أراد استباحة الفعل. لأن النافلة ومس المصحف من شاء ألا يفعلها لم يلزمه التطهر. فلا بد من حمل إطلاق قوله على ما قلناه وتأويله على ما ذكرناه.

والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: أهل التيمم: مسافر، أو مقيم صحيح خاز ذوات الوقت، أو مريض. والطائف بالبيت ليس بمسافر ولا خائف ذوات وقت، ولا هو عادم للماء في الغالب وإنما يتصور ذلك في المريض كما قال.

والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: متى تعين الفرض وخيف ذوات الوقت جاز التيمم للمسافر والمريض. ويختلف في الحاضر الصحيح على ما تقدم بيانه. وإن تعين الفرض ولم يخش ذوات الوقت ويتصور ذلك في صلاة الجمعة فإن الحاضر يتعين عليه أداؤها فإن لم يفعل صلى الظهر بدلًا منها وأثم في ترك الجمعة. فهذا اختلف المذهب فيه فمنع أشهب في مدونته من خاف
__________
(1) جاز -ح-.
(2) الفروض.

(1/291)


ذوات الجمعة من التيمم. وذهب إلى أنه إن فعل لم يجزئه، وكأنه رأى أن وقت صلاة الظهر لما كان باقيًا، والتيمم إنما يباح للحاضر خوف ذوات الوقت، منع هذا من التيمم. وحكى ابن القصار وغيره إباحة التيمم في هذا لأنه لما كانت الجمعة لا يسوغ تركها اختيارًا ليستبدل منها صلاة الظهر صارت في معنى صلاة لا بدل لها، خاف ذوات وقتها. ومما يليق أن نذكره عقب (1) هذه المسألة، من عدم الماء فلم يجده إلا في سقاية أو بئر وسط مسجد، فهل يباح له التيمم لدخول المسجد ليتوصل بذلك إلى الماء الذي يتطهر به ويصير في معنى من تعين (2) عليه الفعل، أو ينهى عن ذلك لما كان للماء بدل وهو التراب؟ فصار بذلك أيضًا في معنى ما لا يتعين. هذا لا أحفظ الآن فيه عن المذهب نصًا. لكن رأيت بعض المتأخرين قال (3) مالك: يمنع من دخول المسجد للجنب عابر (4) سبيل. فيجب إذا اضطر لدخوله أن يباح له التيمم. وقد أريناك من وجوه النظر في المسألة طريقًا يرشدك لما سواه.
وإن لم يتعين الفرض أصلًا، ولم تكن الصلاة سنة بل كانت من النوافل، فلم يختلف المذهب عندنا في إباحة التيمم للمسافر. ومنعه عبد العزيز بن أبي سلمة لما كان المسافر عنده في مندوحة عن التنفل وإنما جاز له في الفرض لما كان لا بد له منه.
وأما الحاضر فإن كان مريضًا فحكمه حكم المسافر. وإن كان صحيحًا فلا يباح له التنفل.
وأما السنن فطريقة بعض شيوخنا أن ما يخاطب به الأعيان يلحق حكمها بالفروض. كالوتر وركعتي الفجر. وما كان منها على الكفاية لحق بالنوافل.
وقد تقدم بيان (5) حكم الفرض والنفل فأغنى عن إعادته. وقد قال ابن سحنون
__________
(1) بذكره عقيب -ح-.
(2) يتعين -ق-.
(3) هكذا في جميع النسخ وتقرأ حسب اصطلاح علماء الحديث. قال: قال.
(4) عابري -ح- والمعنى على الحال. ولا وجه للجمع.
(5) ساقطة -ح-.

(1/292)


من أصحابنا سبيل السنن كالعيدين والاستسقاء والكسوف في التيمم كسبيل الفروض. وقد وقع لابن وهب من أصحابنا فيمن خرج للجنازة متوضئًا فانتقض وضوؤه أنه يتيمم. ومنع من ذلك من خرج ابتداء على غير وضوء.
وكأنه رأى أن الخارج على غير وضوء كالمختار لترك الماء. ومن خرج على وضوء فانتقض (1) وضوؤه (2) كالمضطر لأداء صلاة يخشى فواتها، ولا بدل منها. فلما رأى القاضي أبو محمَّد هذا الاضطراب كله تمسك بالوجه الذي لا يختلف فيه. وذلك أنه إذا تعين عليه الصلاة على الجنازة لعدم من يصلي عليها، فعلى القول بأن صلاة الجنازة فرض يلحق بالفروض المؤقتة كالظهر والعصر. بل هذه لها مزية من جهة أخرى، وهي أنها لا تقضى. وتلك تقضى بعد أوقاتها. وإن كانت هذه أيضًا مختلفًا في وجوبها وتلك متفقًا على وجوبها. وإن كان ابن القصار تردد قوله فيها مع التعين فقال يحتمل أن يقال لا يتيمم لجواز الصلاة على قبر من لم يصل عليه عند بعض الناس.
وروي عن مالك، والقياس أن يتيمم. وعلى القول بأن صلاة الجنازة سنة فإنها تلحق بالسنن المخاطب بها الأعيان. وقد أريناك وجه الطريقة فيها. وإن لم تتعين فقد نقلنا لك ما ذكر ابن سحنون وابن وهب. وقد تقدم إجازة التيمم للمسافر على الإطلاق. وفصلنا في الحاضر هذا التفصيل المستوعب لجميع مسائله.

والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: إنما لم يجمع بين صلاتي فرض بتيمم واحد لأنا قدمنا أنه مأمور بالطلب لكل صلاة. وقد (3) ذكرنا أن من أجاز الجمع من أصحابنا قد التزم ما تقدم ذكره، وذكر الانفصال عنه فلا معنى لإعادته. ومن الناس من يخرج الخلاف في هذه المسألة على الاختلاف في التيمم، هل يرفع الحدث أم لا؟ فمن قال إنه يرفع الحدث أباح الجمع. ومن
__________
(1) وانتقض -ح-. فإن انتقض -ق-.
(2) على معنى فهو.
(3) قد ساقطة -و-ق-.

(1/293)


لم ير أنه لا (1) يرفع الحدث لم يبح الجمع. وأشار القاضي أبو محمَّد في آخر هذا الباب إلى البناء على هذه الطريقة.
والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: إنما أكد بقوله على وجه لأن أبا الفرج أجاز الجمع بين فائتتين بتيمم واحد. وبعض أصحابنا حكى عنه إباحته في الفوائت، وللمريض الذي لا يقدر على مس الماء. وحكي عن ابن شعبان (2) إجازته للمريض الذي لا يقدر على مس الماء، وكأنه يقصر إباحة الجمع على هذا لسقوط الطلب عنه. فلأجل الاضطراب في هذه الفروع والاختلاف في بعضها أراد القاضي أبو محمَّد استيعاب جميعها (3) بالمنع.

والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: اختلف في الإعادة. هل يؤمر بها في الوقت أو في الوقت وبعده؟ ورأى أصبغ أن الإعادة إنما تكون في الوقت وبعده إذا كانت الصلاتان لا اشتراك بينهما كالعصر والمغرب. فمن رأى أن ظاهر القرآن استئناف الطهارة عند كل صلاة أوجب الإعادة بعد الوقت. ومن رأى أن الظاهر لا يقتضي ذلك، وأن الذي وقع في السنة من إجازة الجمع بين الصلاتين بوضوء واحد يقتضي مثل ذلك في التيمم، لم يوجب الإعادة بالاشتراك في وقته كالصلاة الواحدة بخلاف ما لا اشتراك فيه.

والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: إنما جاز ذلك في النوافل لانخفاض رتبتها عن الفرائض. وأن النافلة الثانية غير مؤقتة بوقت، فيعد (4) متيممًا للصلاة قبل وقتها. ولما كانت النوافل غير مؤقتة ولا منحصرة في تكرارها جعلت كالصلاة الواحدة.

والجواب عن السؤال الثامن: أن يقال: إنما جاز الجمع إذا قدم الفرض
__________
(1) لم -ح-.
(2) ابن سعيد -ح-.
(3) استيعابها جميعًا -ق-.
(4) فيعيد -و-ق- ولا وجه له.

(1/294)


لأن النفل تبع للفرض. فإذا تيمم للفرض واستباحه بالتيمم انسحب هذا الحكم على النافلة التي تتبعه لأن التبع (1) حكمه حكم المتبوع. وإذا قدم النفل صار مقصودًا بالتيمم وصار الفرض بعده كالتبع فانقلبت الحقيقة التي ذكرناها. فلهذا لم يقدم النفل. وسواء كان النفل المتأخر سنة كالوتر أو لم يكن. واستحب سحنون تجديد التيمم للوتر. وكأنه لما رأى تأكدها في الشرع، وأن أبا حنيفة ذهب إلى وجوبها، استحسن أن يسلبها (2) حكم الاتباع.

والجواب عن السؤال التاسع: أن يقال: اختلف في المتيمم إذا قدم على فرضه تنفلًا. هل يؤمر بالإعادة في الوقت خاصة أو في الوقت وبعده؟ فمن رأى أن تيممه بتقدمة النفل لما صار بتقدمته كالقاصد له بالتيمم أعاد أبدًا. ومن رأى أن قصده استباحة الفرض بتيممه لا ينقلب حكمه (3) بتقدمة النفل، وأن تيممه لم ينتقض، لم يوجب الإعادة واستحبها لتبرأ ذمته باتفاق.

والجواب عن السؤال العاشر: أن يقال: قد تقدم جوابه في السؤال الثامن. ولكن لو كان النفل المتقدم سنة كركعتي الفجر. فقد روي عن مالك أنه خفف تقدمة ركعتي الفجر للمتيمم، والمشهور النهي عن ذلك. فإن خالف النهي، فقيل لا إعادة عليه، وقيل يعيد في الوقت. وقيل يعيد أبدًا. والتوجيه في ذلك يفهمه الواقف على توجيهنا لمثل هذا.
والجواب عن السؤال الحادي عشر: أن يقال: إنما لم يجز الفرض بتيمم النفل، وجاز الفرض بوضوء النفل لأن الوضوء يرفع الحدث. والحدث إذا ارتفع، ارتفع حكمه على الإطلاق. والتيمم إنما يستباح به الصلاة. فإذا قصد استباحة النفل خاصة لم يجز له استباحة الفرض. لأنه يقصد لذلك ولا يصح أن يكون الفرض تبعًا للنفل على ما تقدم بيانه.
والجواب عن السؤال الثاني عشر: أن يقال: إذا صلى الفرض بتيمم
__________
(1) التابع -ق- وساقطة من -و-.
(2) ساقطة -و-.
(3) لأنه غلب حكمه -ح-.

(1/295)


النفل* (1) اختلف في الإعادة هل يؤمر بها في الوقت خاصة أو في الوقت وبعده؟ فمن رأى أن التيمم يلحق بالوضوء لم (2) يوجب الإعادة واستحبها لتبرأ ذمته باتفاق. ومن لم يلحقه بالوضوء ورأى أن الاستباحة مقصورة على ما قصد إليه أوجب الإعادة أبدًا.

قال القاضي رحمه الله: والجنب ينوي بتيممه الحدث الأصغر ناسيًا (3) فيه روايتان.

قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل سؤالان: منها أن يقال:
1 - ما وجه الروايتين؟.
2 - وما الفرق بين غسل الجنب العضو بنية الحدث الأصغر ناسيًا للجنابة وبين التيمم على رواية المنع في التيمم؟.

فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: وجه قول مالك أن من تيمم للحديث الأصغر ناسيًا لجنابته أن تيممه يجزيه. وبه قال أبو حنيفة والشافعي أن صورة التيمم للجنابة وللحدث الأصغر سيان. والقصد في كل واحد منهما استباحة الصلاة (4). وقد نوى هذا استباحتها. فلا يعرج على (5) نسيانه لأحد الأحداث؛ لأن التيمم لا يرفع الحدث، فلا يضر نسيانه. وقد قال عليه السلام وإنما لامرئ ما نوى (6). وهذا نوى استباحة الصلاة وكان له أن يصلي. ووجه الرواية الثانية عن مالك أن التيمم بدل عن طهارة الماء، وطهارة الماء في الجنابة تعم جميع الجسد. وطهارة الماء في الحدث الأصغر تخص بعض الجسد.
فكما لا يجزي غسل بعض الجسد عن جميعه، فكذلك البدل فيهما لا يجزي القصد بالتيمم للحديث الأصغر عن الحدث الأكبر. وتقوى عندي هذه الطريقة
__________
(1) ما بين النجمين ساقط -ح-.
قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: لم أتبين موضع النجمة الأخرى
(2) فلم -ح-.
(3) ناسيًا لجنابته ففيه-غ-.
(4) استباحتها -ح-.
(5) عن -و-.
(6) اللفظ للمسلم باب الإمارة. إكمال الإكمال ج 5 ص 256.

(1/296)


على القول بأن التيمم يرفع الحدث. وقد يخرج الخلاف في هذه المسألة على الخلاف في ذلك.

والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: الظاهر من المذهب أن من غسل أحد أعضاء الوضوء بنية الوضوء ناسيًا للجنابة أنه يجزيه عن غسل ذلك العضو للجنابة. وهو ظاهر قوله في المدونة في مسألة الجنب الناسي لغسل ما أزال عنه الجبيرة. والفرق عنده بين ذلك وبين التيمم، ما قدمناه في توجيه كون التيمم لا يجزئ، لاختلاف محل الطهارة الصغرى والكبرى في طهارة الماء. فقيس عليه بدله وهو التيمم. ومن غسل وهو جنب عض وَابن ية الوضوء ناسيًا للجنابة، فإن كل واحدة من طهارتي (1) الماء أصل في ذلك العضو (2) وليست إحداهما بدلًا من الأخرى. وحكمهما فيه حكم واحد. فإذا أكمل على ذلك العضو غسل ما سواه من الجسد، وكان قد تقدم له غسل ما سواه، ارتفع حكم الجنابة عنه وخالف في ذلك التيمم لأجل ما قدمناه.

قال القاضي رحمه الله تعالى: ولا يخلو مريد التيمم من ثلاثة أحوال:
1 - إما أن يغلب على ظنه اليأس (3) من وجود الماء في الوقت.
2 - أو أن يغلب على ظنه وجوده ويقوى (4) رجاؤه له (5).
3 - أو يتساوى عنده الأمران. فالأول يتيمم أول الوقت. والثاني آخره. والثالث وسطه. هذا هو الاختيار.

قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل أربعة أسئلة منها أن يقال:
1 - ما الدليل على صحة هذا التقسيم؟.
2 - وما الوقت المشار إليه؟.
__________
(1) فإن كل واحد من طهارة -ق-.
(2) العضو ساقطة -و-.
(3) الأياس -ح -و-.
(4) يتقوى.
(5) له ساقطة -الغاني-.

(1/297)


3 - وهل في الذي اختاره اختلاف؟ (1).
4 - وهل يعيد من خالف ما اختار؟.

فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: قد تقرر وعلم أن للماء فضيلة على التراب كما تقرر أيضًا عندنا أن لأول الوقت فضيلة على آخره. فالآيس من وجود الماء في الوقت، لو أمرناه بالتأخير، ونحن نعلم أنه لا يجد الماء، لكنا حرمناه الفضيلتين: فضيلة الماء وفضيلة أول الوقت. ولا شك أن تحصيل إحدى الفضيلتين أولى من تركهما جميعًا.
وأما الراجي لوجود الماء، فإنما أمر بالتأخير إلى آخر الوقت لأنه يحصل من فضيلة الماء فوق ما فاته من فضيلة أول الوقت. إذ فضيلة الماء متفق عليها، وفضيلة أول الوقت ليس (2) بمتفق عليها.
وأما الشاك فإنما أمر بوسط الوقت ليجعل لكل واحدة من الفضيلتين قسطًا من المراعاة. فيؤخر عن أول الوقت طلبًا لفضيلة الماء ويرتفع عن آخر الوقت تقربًا من فضيلة آخره (3). فكان وسط الوقت عدلًا بينهما.

والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: الوقت المشار إليه ها هنا وقت الاختيار: القامة في الظهر، والقامتان في العصر، والشفق في المغرب على ما تقف عليه في كتاب الصلاة إن شاء الله. وإنما كان هذا هكذا لأن وقت الاختيار لا ينهى الواجد للماء عن تأخير الصلاة إليه. وجميعه محل لأداء العبادة فكان جميعه محلًا للتيمم. ولكن الاختيار في المشهور الرتبة التي فصلها.

والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: اختلفت روايات المذهب في ذلك. فالمشهور ما ذكره القاضي أبو محمَّد. وروي عن مالك في المتيمم على الإطلاق أنه يتيمم آخر الوقت. وقيل في المسافر على الإطلاق أنه يتيمم أول الوقت، وقيل بل يتيمم وسط الوقت، إلا الراجي فإنه يؤخر. وقيل بل آخر
__________
(1) خلاف -و-ق-.
(2) غير -ق-.
(3) هكذا في جميع النسخ. والظاهر - أوله-.

(1/298)


الوقت إلا الآيس فإنه يقدم أول الوقت *فكأن من أطلق القول بآخر الوقت رأى أن الضرورة إنما تتحقق في آخر الوقت. لا سيما على طريقة من قال من أهل الأصول أن الوجوب إنما يتحقق في العبادة المؤقتة في آخر الوقت* (1) ومن أطلق القول بأول الوقت رأى أن المصلي مأمور إذا قام إلى الصلاة بالوضوء، فإن لم يجد فبالتيمم، والأمر بذلك ورد نسقًا واحدًا وله أن يقوم إلى الصلاة أول الوقت بل ذلك أفضل له. فإذا عدم الماء في (2) هذه الحالة التي أمر بالقيام فيها كان له التيمم على مقتضى الظاهر. وأما القولان المستثنى فيهما ما قدمناه فتوجيههما مأخوذ مما بيناه.

والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: أما من فعل المختار على حسب ما أمرناه فلا إعادة عليه. لكن الشاك المأمور بوسط الوقت إن كان شكه هل يجد الماء أو لا؟ فوجده بعد صلاته فلا إعادة عليه. وإن كان شكه هل يبلغ الماء المعلوم مكانه أو لا يبلغه؟ فبلغه بعد صلاته فإنه يعيد في الوقت. وإنما أعاد هذا وإن كان فعل في صلاته المختار وخالف بقية الأقسام لأنه كالمقصر في اجتهاده وكالمخطئ في حدسه. ولو أنهى الاجتهاد نهايته لأمكن أن يعلم أنه يبلغ الماء فلهذا أمر بالإعادة في الوقت. وكذلك الخائف من الوصول إلى الماء للصوص عليه لجواز تقصيره في اجتهاده. وكذلك المريض العادم لمن يناوله الماء، لتقصيره في ترك الاستعداد بالماء، فحكم هؤلاء التيمم وسط الوقت لأجل الشك. واختصوا بالإعادة في الوقت دون من لا علم عنده من الماء، لما (3) ذكرناه من تقصيرهم. وقد قال بعض المتأخرين من الأشياخ قد يدل ظاهر المدونة على أن المريض الذي لا يمكنه مس الماء يتيمم وسط الوقت؛ لأنه يجوز زوال مرضه في أثناء الوقت. وسائر الأشياخ على خلاف هذا. ولا شك أن مرضه إذا كان يقطع بأنه لا يذهب في الوقت، فإن حكمه حكم الآيس من
__________
(1) فكأن من أطلق الوقت أطلق القول بآخر الوقت رأى أن الضرورة إنما تتحقق في العبادة المؤقتة في آخر الوقت ساقط -ح-.
(2) على -ح-.
(3) ما -و-.

(1/299)


وجود الماء في الوقت. وأما من خالف المختار الذي أمر به في التقسيم المتقدم، فإن المأمور بأن يقدم الصلاة أول الوقت فأخرها في آخره فلا شك في أن لا إعادة عليه. لأنه بالغ في الاستظهار حتى خالف المختار. فلا إعادة عليه لوجود الماء.
لأجل مبالغته في انتظاره وطلب تحصيله. وأما من أمرناه أن يؤخر إلى آخر الوقت، فقدم الصلاة في أوله ثم وجد الماء في الوقت فقيل يعيد في الوقت خاصة. وقيل بل يعيد (1) في الوقت وبعده. فكأن من يرى الإعادة في الوقت يرى أن جميع الوقت محل للتيمم. وإنما التأخير من باب أولى وأحسن، ولا يعيد بعد الوقت من أحل بالأولى المستحسن. ومن رأى أنه يعيد بعد الوقت يرى أن التأخير متأكد؛ لأنه به تتحقق الضرورة وهي محل الوجوب على الرأي الذي ذكرناه. فأمر بالإعادة بعد الوقت. وقد وقع في المدونة فيمن يعلم أنه يصل إلى الماء في الوقت، فتيمم في أوله أنه يعيد في الوقت. واختصر المسألة حمديس فأبدل قوله يعلم بيطمع وكذا وقعت المسألة في المبسوط لابن القاسم إبدال يعلم بيظن. قال بعض الأشياخ إنما تحسن الإعادة في الوقت على رواية يطمع ويظن، وأما على رواية يعلم، فتعاد الصلاة بعد الوقت، لقوة إيجاب التأخير في حق العالم، وانخفاض رتبته في حق الظان.
وأما من أمرناه بالوسط فخالف الاختيار بأن (2) قدم فإنه لم يختلف هؤلاء في أنه لا يعيد بعد الوقت. وقد ذكر ابن حبيب فيمن لا علم عنده من الماء، أنه لا يعيد بعد الوقت إذا خالف المختار. ولكن المختار عنده في هذا أنه يؤخر إلى آخر الوقت. وإنما لم يقل بالإعادة في هذا بعد الوقت بخلاف قوله في المسألة التي قبل هذه؛ لأن الأول إذ رجا تحصيل الماء في آخر الوقت تأكد أمره بالتأخير (3). وهذا لما كان لا علم عنده من الماء ضعف أمره بالتأخير لضعف الشك عن الظن. فلهذا افترقت المسألتان.

قال القاضي رحمه الله: ومن تيمم ثم وجد الماء فله ثلاثة أحوال:
1 - إما أن يجده قبل الدخول في الصلاة؟.
__________
(1) يعيد ساقطة -ق-و-.
(2) فإن -و-.
(3) بالتأخر -و-.

(1/300)


2 - أو بعد الشروع فيها.
3 - أو بعد الفراغ منها.
فالأول يلزمه استعماله ويبطل تيممه، إلا أن يكون الوقت من الضيق بحيث يخشى معه ذوات الوقت (1) إن تشاغل به. والثاني يمضي على صلاته ولا يؤثر وجود الماء شيئًا وكذلك الثالث.

قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل سبعة أسئلة. منها أن يقال:
1 - ما الدليل على أنه يبطل تيممه إذا رأى الماء قبل الصلاة؟.
2 - وهل يتخرج اختلاف في قطع الصلاة؟.
3 - وما وجه الاختلاف في ذلك؟.
4 - *وهل تمزق الخف في الصلاة كطرو الماء في الصلاة؟ * (2).
5 - وما الدليل على أنه إذا فرغ من الصلاة لم يعدها؟.
6 - وهل يكون نسيان الماء في رحله كطروئه عليه؟.
7 - وما الفرق بين نسيان المكفر رقبة في ملكه وبين نسيان المتيم ماء في رحله عند من فرق بينهما؟.

فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: المتيمم إذا رأى الماء قبل الشروع في الصلاة، فالعلماء على أن تيممه قد بطل. وانفرد أبو سلمة بن عبد الرحمان فقال لا يبطل تيممه. والدليل للجماعة أن الله سبحانه أمر القائم إلى الصلاة بالتيمم. بشرط عدم الماء. وهذا حين قيامه إلى الصلاة واجد للماء، فلم تصح صلاته بالتيمم، إلا أن يخشى ذوات الصلاة إن تشاغل باستعمال الماء (3) فيسقط حكم الماء. وقد قدمنا عن مالك رضي الله عنه: أنه يبيح التيمم لمن خاف الفوات باستعمال الماء. وهذا آكد لحصول (4) هذا متيممًا. قد أباح له تيممه الشروع في الصلاة.
__________
(1) ذوات الصلاة -الغاني -غ-.
(2) ما بين النجمين ساقط من -ح-.
(3) بالاستعمال للماء -ق-.
(4) بحصول -و-.

(1/301)


والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: إذا طرأ على المتيمم، وهو في أثناء الصلاة ماء، فالمنصوص من المذهب أنه لا يقطع الصلاة. وقال أبو حنيفة يقطع الصلاة إلا في صلاة الجنازة والعيدين. ويتخرج عندنا قطع الصلاة على رأي بعض أشياخي، من القول، بأن الذاكر لصلاة نسيها تبطل الصلاة التي هو فيها. والناوي الإقامة يبطل ما هو فيه من صلاة السفر. وإمام الجمعة يبطل ما هو فيه من الصلاة بطرو من عزله. فلما جعلوا في هذه المسائل هذه الطوارئ تمنع استدامة الصلاة كما منعت ابتداء الصلاة، كان طرو الماء على المتيمم يمنع من الاستدامة أيضًا.

والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: هذا الاختلاف يدور على نقطة واحدة وهي: هل التيمم شرع بدلًا من الوضوء لصحة الشروع في الصلاة أو لصحة الشروع مع الاستدامة. ولما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} إلى قوله {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا}. قدر قوم أن الأمر (1) إنما توجه حالة القيام إلى الصلاة لا أكثر. وقد رأى آخرون أنه في كل جزء من الصلاة قائم للصلاة. فجعلوا التيمم شرع للابتداء والاستدامة، بشرط العدم. فإذا لم يحصل العدم حال الاستدامة، لم يصح التيمم. ثم اختبر العلماء أيضًا أصول الشرع فوجدوها أيضًا مختلفة. منها ما شرع فيه تساوي الحكم في الابتداء والاستدامة. كالردة والرضاع، فإنها تمنع ابتداء عقد النكاح وتمنع استدامته. ومنها ما يمنع الابتداء دون الاستدامة، كالإحرام والصفة المبيحة لنكاح الأمة. فإن ذلك يعتبر حال العقد ولا يعتبر حال الاستدامة. فرد (2) كل واحد من الفريقين مسألة التيمم إلى الأصل الموافق لما حكيناه عنه. ورجح القائلون بمساواة حال الاستدامة لحال الابتداء مذهبهم، بأن الصلاة متى طرأ على المصلي فيها تمكن من القيام أو القراءة بعد عجزه عنهما، خوطب بهما. ولم تصح باقي الصلاة دونهما.
وفرق الآخرون بأن الانتقال لفعل الطارئ من التهام أو القراءة لا يبطل ما
__________
(1) الأمر ساقطة من -ح-.
(2) فذكر -و-.

(1/302)


مضى من عمل (1) الصلاة. فأمر المصلي به إذ ليس في فعله ما يبطل عمله. ولو أمرنا المتيمم بالوضوء لأبطلنا ما مضى من صلاته وتد قال تعالى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} (2).

والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: أما الماسح على خفيه إذا شرع في الصلاة فطرأ عليه ما مزق خفه حتى ظهر أكثر رجله، فإن ابن القصار أشار إلى أن الصلاة تبطل وأن الفرق بين ذلك وبين طرو الماء على المتيمم، (3) أن باب كون التراب بدلًا عن الماء أوسع من مسألتنا. لأن الماء قد يجوز تركه مع القدرة عليه لعطش ونحوه من الأعذار، فشروع هذا في الصلاة عذر يسقط حكم الماء.
وهذا فرق إن نوقش فيه قد لا يصفو له. وأمثل منه إن كان لا بد من تطلب الفرق أن يقال أن التيمم فعل قد تقضى حسًّا وبقي بعد (4) تقضيه حكمًا. وطرو الماء لما (5) منع من استعماله حرمة الصلاة صار كأنه لم يوجد. وإذا لم يوجد الماء تمادى على صلاته باتفاق. ويكون تماديه بطهارة ثابتة الحكم. والخف إذا تمزق فقد ذهب حسًّا، وهو في حال الصلاة، وظهرت الرجل، وليست بمغسولة، فيكون التمادي على الصلاة، وقد فقد الممسوح ولم يحصل (6) الغسل. فلا تصح صلاة عريت من مسح وغسل. أشار إلى هذا الفرق بعض الأشياخ ولم يبسطه هكذا، ومع بسطي له، أنا على تطلب فرق أوضح منه وأبعد من المناقشة.

والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: إذا طرأ الماء بعد الفراغ من الصلاة فالعلماء على إجزاء الصلاة وصحتها. وانفرد طاوس فأمر بإعادتها بالوضوء في الوقت. والدليل للجماعة أن الله سبحانه قد (7) جعل التيمم بدلًا من
__________
(1) فعل -و-.
(2) سورة محمَّد، الآية: 23.
(3) التيمم -و-.
(4) بعد ساقطة -ح-.
(5) لما ساقطة -ح-.
(6) ولم يصح في -ح-.
(7) قد ساقطة -و-.

(1/303)


الوضوء عند القيام إلى الصلاة. ووقع الإشكال: هل هذا اللفظ يتناول ابتداء القيام خاصة أو يقدر أنه في كل جزء قائم إلى الصلاة على ما سبق بسطه. فأما إذا انقضى جميع الصلاة. وسلمها إلى الله سبحانه المطالب له بها، فلا يقال إنه قائم إلى الصلاة. ولا عهدة عليه بعد تسليم الحقال في عليه. وأظن طاوسًا نحا طريقة من قال من أهل الأصول أن الوجوب إنما يتحقق بآخر الوقت. وقد جاء الخطاب بالوجوب وهو من أهل الماء، فيؤمر باستعماله. والذي قلناه كاف في الرد عليه.
والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: الناسي للماء في رحله يقطع إن ذكره وهو في الصلاة. وإن ذكره (1) بعد فراغه فقيل لا إعادة عليه وقيل يعيد في الوقت، وقيل يعيد أبدًا.
فمن رأى أن الصلاة لا تصح وأنها تعاد أبدًا اعتمد أن الله سبحانه شرط في صحة التيمم عدم الماء. وهذا واجد له حين التيمم فلم يصح تيممه ولا يعذر بالنسيان كما لا يعذر (2) ناسي ركعة أو سجدة أو ناسي الحدث.
ومن لم يوجب الإعادة رأى (3) أنه إنما خوطب باستعمال الماء مع التمكن منه. وأما وجوده مع عدم التمكن فلا تأثير له كوجود المريض إياه. والناسي غير متمكن منه مع نسيانه فلا يضره وجوده كالمريض. والفرق عند هؤلاء بينه وبين ناسي ركعة وسجدة وناسي الحدث، أن هذا قد أتى ببدل مما نسيه (4) وهو التيمم. وأولىك لم يأتوا ببدل عما تركوه فيقدر لهم عوضًا مما تركوه.
ومن (5) أمر بالإعادة في الوقت فيمكن أن يكون لا يوجب الإعادة ولكنه استحبها في الوقت لتبرأ الذمة باتفاق.
__________
(1) ذكر -ح-.
(2) لا يعذر به -ح-ق-.
(3) يرى -ح-ق-.
(4) لما نسي -و-.
(5) وأما من -و-.

(1/304)


والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: إنما فرق من لم يوجب الإعادة بعد الوقت وأوجب عتق الرقبة متى ذكر، (1) لأن عتق الرقاب لا وقت له محددًا بل كل زمن (2) يقال أنه وقت له، فصارت سائر الأزمنة فيه كالوقت في الصلاة.
ومن أصحابنا (3) البغداديين من أشار إلى أن الفرق بينهما أن الماء يصح تركه للتيمم مع صحة الملك له لعذر، وعتق الرقبة لا يصح العدول عنها مع صحة الملك لها، وكونها مما يجزي إعتاقه فصار المعتبر في الرقبة الملك. وهو حاصل. والمعتبر في الماء التمكن من الاستعمال لا الملك وهو غير حاصل.

قال القاضي رحمه الله تعالى: والتيمم لا يرفع الحدث. وفائدة ذلك شيئان: منع الجمع بين فرضين (4) بتيمم واحد. وأنه إذا وجد الماء بعد تيممه تطهير للحديث المتقدم.

قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل ثلاثة أسئلة: منها أن يقال:
1 - هل اختلف في ذلك؟.
2 - وما وجه الخلاف فيه؟.
3 - وهل له من الفوائد سوى ما ذكر في الكتاب؟.

فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: اختلف فقهاء الأمصار في ذلك وحكى ابن خويز بنداد عن مالك في ذلك روايتين. وفي المذهب ما يدل على الاضطراب في ذلك نذكره في الجواب عن السؤال الثالث. وقد حكي عن ابن المسيب وابن شهاب أنه يرفع الحدث الأصغر. وحكي عن أبي سلمة أنه يرفع المحدثين جميعًا. وكنا حكينا عنه أن من طرأ عليه الماء قبل الشروع في الصلاة لا يلزمه استعماله.
ولكنه يحتمل أن يكون إنما قال ذلك لأنه لما لم يصل بتيممه لم يصح أن يبطل حكمه. ولكن هكذا حكي عنه أنه يرفع المحدثين قولًا مطلقًا من غير تفصيل.
__________
(1) متى ما ذكر -ح-.
(2) زمان -و-.
(3) أصحابنا ساقطة -و-.
(4) الفرضين -الغاني-.

(1/305)


والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: إن الله سبحانه أمر القائم إلى الصلاة بطهارة الماء، وجعل طهارة التراب بدلًا منها عند العدم. فيجب أن تسد مسدها. فلما كانت طهارة الماء ترفع الحدث كان بدلها مثلها. ولما رأى الآخرون ما حكاه بعض أصحابنا من أنه لا خلاف في أن المتيمم إذا وجد الماء اغتسل، دل ذلك على أن حدثه لم يرتفع. إذ لو ارتفع لما لزمه الغسل. كمن اغتسل لجنابة فإنه لا يلزمه الغسل إلا بجنابة أخرى. وينفصل الأولون عن هذا بأن يقولوا: إنما يرفع التيمم الحدث إذا كان صحيحًا. ومن شرط صحته عدم الماء. فإذا وجد الماء بطل التيمم أصلًا، وصار كمن لم يتيمم. ومن لم يتيمم ولا اغتسل لم يرتفع حدثه. فإنما يقول إنه يرفع الحدث بشرط استصحاب حال عدم الماء الذي باستصحابه يصح التيمم. وهذه مسألة مع كثرة بحثي عنها (1) لم أجد لهذا الاختلاف تحقيقًا، كما تقتضيه عبارة مطلقيه. وذلك أنهم إذا كانوا متفقين على أنه إذا وجد الماء اغتسل، فالحدث لم يرتفع ارتفاعًا مطلقًا.
وإذا كانوا متفقين على أن الصلاة مباحة فلا يصح القول بأن الحدث لم يرتفع.
إذ الصلاة لا تصح من المحدث. ولولا أنه طهور (2) -كما قال الله تعالى: {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} (3)، وكما قال - صلى الله عليه وسلم -: جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا (4) - لم تستبح به الصلاة لقوله: لا صلاة إلا بطهور (5). فلم يبق لهذه العبارة التي أطلقها الأيمة فيما لا يحصى من الكتب كثرة، حقيقة. لكن اشتهر اختلافهم في الجمع بالتيمم بين صلوات. وجعلوا هذا أحد ثمرات الخلاف (6).
لكون (7) التيمم رافعًا للحديث كما قاله القاضي أبو محمَّد. وهذا إنما التحقيق
__________
(1) عليها -و-ق-.
(2) طاهر -ق-.
(3) سورة المائدة، الآية: 6.
(4) تقدم تخريجه.
(5) هو حديث ابن عمر رواه مسلم ولفظه لا يقبل الله صلاة بغير طهور. إكمال الإكمال ج 2 ص 7.
(6) الاختلاف -ق-و-.
(7) في كون -ح-.

(1/306)


في العبارة عنه أن يقال: هل جعل الشرع التيمم بدلًا من الوضوء بشرط واحد وهو العدم؟ أو بشرطين وهما العدم، وتوجه فرض القيام إلى الصلاة؟ فإذا قلنا بشرط العدم خاصة، جاز الجمع بين الصلوات بتيمم واحد، لاستصحاب حال العدم خاصة. وإن قلنا بشرطين، وهما العدم وتوجه الفرض، فالصلاة الثانية لم يتوجه فرض القيام إليها، فلا يكون التيمم بدلًا فيها. هذا هو محض التحقيق. وعجبًا للقاضي أبي محمَّد أن يقول في كتابه هذا إن من فائدة الخلاف إذ وجد الماء تطهير. وهو يرى الأئمة وفقهاء الأمصار المختلفين في هذا متفقين على أن المتيمم إذا وجد الماء اغتسل. فعم. وقد حكينا اختلافًا في ذلك عن مالك. أفترى مالكًا إذا قال بأن التيمم يرفع الحدث يسقط فرض استعمال الماء عند وجوده؟ هذا ما لا يظن به. كيف وقد حكينا الاتفاق على الأمر بالغسل. ولكنها مسألة لما تساهل الأئمة في إطلاقهم (1) فيها (2). مر (3) في ذلك على ما مروا عليه.

والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: قد ذكر بعض الأشياخ أن من ثمرة الاختلاف في كون التيمم رافعًا للحديث، جواز وطء الحائض إذا تيممت. وقد أجازه ابن شعبان بناء منه على أنه يرفع الحدث. ومنها من لبس خفيه بطهارة التيمم قبل أن يصلي ثم أحدث فإن أصبغ أجاز له إذا توضأ أن يمسح على خفيه بناء على أن التيمم يرفع الحدث. ومنها إمامة المتيمم بالمتوضئين فقد أجازها ابن مسلمة من أصحابن ابن اء على أن المتيمم يرفع الحدث، وإن كان كرهها مالك. ومنعه ربيعة.
وقد احتج للجواز بأن عمرو بن العاصي صلّى بأصحابه وهو جنب فقال له - صلى الله عليه وسلم -: صليت بهم وأنت جنب؟ (4) ولم يأمره (5) بإعادة. واحتج أيضًا، بهذا
__________
(1) ولكنها مسألة لم تسهل العلماء في إطلاقهم.
(2) فيها ساقطة -و-.
(3) أي القاضي أبو محمَّد.
(4) رواية البيهقي وأحمد. صليت بأصحابك وأنت جنب. السنن ج 1 ص 255. والفتح الرباني ج 2 ص 197. وأخرجه أبو داود والدارقطني.
(5) يأمر -و-ح-.

(1/307)


الحديث للقول: بأنه لا يرفع الحدث. لقوله وأنت جنب. فدل (1) أن التيمم لا يرفع حدث الجنابة. وقد كشفنا نحن عن حقيقة هذا الاختلاف. وأنه لا يتصور فيما تقتضيه عبارته، مما يغني عن النظر في التعلق بإطلاق هذا اللفظ في الحديث. وإذا حصل الاتفاق على القسمين اللذين قدمنا، حمل إطلاق هذه التسمية على معنى آخر لا يكون مناقضًا لما اتفق عليه إن صح الاتفاق وثبت.
وقد تسامحنا في هذا الفصل بأن عبرنا عنه بالعبارة التي أنكرناها (2). وإنما جربنا فيها على ما جرى عليه القوم بعد (3) أن نبهنا على ما فيه. كما أنا أكثرنا أيضًا في هذا الباب من إطلاق عبارة البدل في التيمم. وإن كان قد تعقب ذلك بعض المتأخرين لأنه ظن البدل أنه إنما يستحق هذه التسمية إذا كان بدلًا في كل الأحوال. والتيمم إنما يكون بدلًا في حال دون حال. وهذا الذي قاله مناقشة.
وقد غلب (4) على ألسنة الأيمة تسمية التيمم بدلًا. فلو صح ما قاله المتعقب لكانت هذه من الأسماء العرفية عند أهل هذه الصناعة. والعبارة بما تعارفوا عليه أسرع إلى فهمهم، وقد تقدم الكلام على ذلك في افتتاح مسائل هذا الكتاب بما فيه كفاية.
__________
(1) فقال -و-ق-.
(2) أنكرنا -و-.
(3) وبعد -ح-.
(4) وقد يغلب -ح-.

(1/308)


باب المسح على الخفين *وما يتعلق به* (1)

قال القاضي رحمه الله: المسح على الخفين جائز في السفر والحضر (2)، للرجال والنساء إذا أدخل رجليه في الخفين بعد كمال وضوئه، من غير توقيت بمدة من الزمان لا يقطعه إلا الخلع، أو حدوث ما يوجب الغسل، كان الخف صحيحًا أو فيه (3) خرق يسير لا يمنع متابعة المشي.

قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل عشرة أسئلة منها: أن يقال:
1 - ما الدليل على جواز المسح على الجملة؟.
2 - وما الدليل على أن الحضر كالسفر (4)؟.
3 - ولم ذكر النساء مع الرجال؟.
4 - ولم اشترط كون الرجلين طاهرتين بإكمال الوضوء؟.
5 - وهل يجزي تطهير الرجلين خاصة؟.
6 - وما الدليل على سقوط التوقيت؟.
7 - وهل لبس أحد الخفين قبل غسل الرجل الثانية كلبسه بعد غسلهما جميعًا؟.
8 - ولم كان خلع الخف قاطعًا؟.
9 - ولم كان حدوث ما يوجب الغسل كذلك؟.
__________
(1) ما بين النجمين ساقط من جميع نسخ الشرح. ثابت بالغاني و -غ-.
(2) في الحضر والسفر -غ-.
(3) أو كان فيه -غ-.
(4) إن السفر كالحضر -و-.

(1/309)


10 - ولم كان الخرق اليسير معفوًا عنه؟.

فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: الدليل على جوازه على الجملة الآثار الواردة بذلك، وهي لا تحصى كثرة. وقد حكى بعض أصحابنا عن مالك إنكار جواز المسح وأنه لا يمسح المسافر ولا المقيم. وقال ناقل هذا إن صحت هذه الرواية عنه (1) فلعله رأى المسح منسوخًا. والظن عندي أن مالكًا لم يسلك هذا المسلك الذي ظنه ناقل هذه الرواية. وإنما الرواية الثابتة أنه قال: لا أمسح في السفر، ولا في الحضر. وكأنه كرهه. فإنما حكى عن نفسه ما يؤثر فعله.
وقد يكون الفعل جائزًا عند الفقيه ويؤثر تركه. فيحتمل أن يكون مالك رأى أن المسح رخصة. والفضل في ترك الرخص. فأخبر عن نفسه أنه يأخذ بالأفضل.
كما يرى أن فطر المسافر في رمضان جائز، ويقول الصوم أفضل له إذا كان مطيقًا له. وكيف يظن به إنكار المسح أصلًا، وقد قال الحسن روى المسح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - سبعون نفسًا على أنحاء مختلفة؟ وبعض من صنف الخلاف من أصحابنا لم يضف (2) إنكاره إلا إلى المبتدعة. وطائفة من أهل الأصول يرون أن الزيادة على النص كالنسخ فلا يرجع فيها إلى أخبار الآحاد. وهو أصل أبي حنيفة وأصحابه. ولما استشعرت هذه الطائفة هذا (3). قال أبو يوسف يجوز نسخ القرآن بمثل الأخبار الواردة بمسح الخف. يشير بهذا إلى أن إثباته مسح الخف لم يكن إلا بآثار خارجة عن أخبار الآحاد. وقال أبو حنيفة في ذلك هي كضوء الشمس يشير إلى إظهارها (4) واشتهارها وانتشارها. فأنت ترى أبا حنيفة وأصحابه مع تقصيرهم في البحث عن الآثار عن مالك أثبتوا المسح على الخفين وقالوا فيه ما حكيناه عنهم. فكيف يظن بمالك رضي الله عنه مع معرفته بالآثار واتباعه لها إنكاره أصلًا. وهذا كله يحقق عندك ما ظننا به في تلك الرواية.

والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: اختلف قول مالك في الحاضر.
__________
(1) عنه ساقطة -و-.
(2) لم يكن يضيف -و-.
(3) استشعرت الطائفة هذا -ح-.
(4) ساقطة من - ح - ق -وهو الأولى.

(1/310)


هل يجوز له المسح على الخفين أم لا؟ فوجه الجواز ظواهر الآثار وهي كثيرة.
وفي الحديث: أنه أتى سباطة قوم فبال قائمًا ومسح على خفيه (1). والسباطة المزبلة ولا يقال مزبلة قوم إلا في الحضر. وفي كتاب مسلم أنه وقت للحاضر يومًا وليلة (2). وفي هذا إثبات المسح على الجملة وقياسًا على الجبائر التي يستوي فيها حال الحاضر والمسافر. ووجه نفي المسح أنه رأى الرخص مختصة بالسفر كالقصر والفطر. فقاس مسح الخفين عليه.

والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: لما رأى أن علة جواز المسح على الخفين ما يلحق بالمسافر (3) من النزع عند الطهارة لاشتغاله بالحل والترحال.
والغالب أن يقال: إن هذا من أشغال الرجال، خاف أن يظن أن النساء لا يجوز لهن ذلك. فأخبر بجوازه لهن. وأن الرخصة عامة لهن (4) كما يجوز لهن القصر والإفطار (5).

والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: إنما اشترطنا الطهارة لأن المغيرة لما أهوى لنزع خفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له - صلى الله عليه وسلم -: دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين (6). فلو لم تكن الطهارة شرطًا في جواز المسح لم يكن لهذا التعليل فائدة. وكلامه - صلى الله عليه وسلم - يجل عن أن يكون لا معنى فيه ولا فائدة له.

والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: المعتبر تطهير الرجلين بالطهارة المعهودة التي هي طهارة الحدث. هذا هو (7) المعروف من المذهب. وقد وقع
__________
(1) أخرجه البخاري ومسلم والبيهقي. السنن الكبرى ج 1 ص 270 - 274.
(2) رواه مسلم والبيهقي. السنن الكبرى ج 1 ص 275 - 276. وأما الذي بيانه صاحب الهداية ج 1 ص 214 - 232.
(3) بالمسافر -ح-.
(4) لهن ساقطة -ح-.
(5) الفطر -و-ق-.
(6) أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والدارمي والبيهقي وأحمد. إرواء الغليل ج 1 ص 136 - 137.
(7) هو ساقطة من -ق-و-.

(1/311)


في المستخرجة فيمن غسل رجليه خاصة، ولبس خفيه ونام قبل أن يكمل طهارته، أنه يجزيه المسح عليهما. وهذه إشارة إلى ترك اعتبار الطهارة المعهودة *التي هي طهارة الحدث* (1) والاكتفاء بتطهير الرجل خاصة. ألا تراه يقول يمسح ولو نام، والنوم يبطل الطهارة. ولو كان (2) غسل رجليه بنية وضوء منكس لأن قوله قبل أن يكمل وضوءه فيه إشارة إلى قصد الوضوء المنكس. ويكون الوجه في هذه الطريقة حمل قوله عليه السلام أدخلتهما طاهرتين (3) على طهارة الرجلين على وجه ما.

والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: المشهور من المذهب ترك اعتبار التوقيت. وقد روي عن مالك إثبات التوقيت. وأنكر بعض البغداديين ما نسب إليه من التوقيت في الرسالة المضاف إليه أنه كتب بها (4) إلى هارون الرشيد. وذكر الأبهري أن أشهب روى التوقيت للمسافر ثلاثة أيام. وبالتوقيت قال أبو حنيفة والشافعي. وسبب هذا الاختلاف، اختلاف الأحاديث (5).
فلإثبات التوقيت ما خرجه مسلم من أنه - صلى الله عليه وسلم - وقت للحاضر يومًا وليلة، وللمسافر ثلاثة أيام بلياليها (6). ولنفي التوقيت أن رجلًا قال يا رسول الله: أمسح على الخفين. قال: نعم. قال: يومًا ويومين. قال وثلاثة وما شئت (7). وقياسًا على الجبائر. وقد قال من أثبت التوقيت أن طهارة التيمم لما كانت لا ترفع الحدث عن شيء من الأعضاء لم يستبح بها أكثر من صلاة. وطهارة الغسل لما كانت ترفع الحدث عن سائر الأعضاء استبيح بها ما لا ينحصر بعدد من الصلوات.
والماسح على خفيه لما ارتفع الحدث عن بعض أعضائه دون بعض، كان له
__________
(1) ما بين النجمين ساقط من -ح-.
(2) فإن كان في -ح-.
(3) تقدم تخريجه قريبًا.
(4) كتبها -و-.
(5) وسبب الاختلاف -ح- وسبب الخلاف خلاف -ق-.
(6) هو تمام الحديث السابق: نفى المراجع.
(7) أخرجه البيهقي. السنن ج 1 ص 279. وأخرجه أبو داود والطحاوي وابن أبي شيبة وابن ماجه والحاكم. وهو حديث لا يصح. الهداية ج 1 ص 234.

(1/312)


حكم متوسط. فارتفع عن الصلاة الواحدة وانحط عن عدم الحصر. فوقت بما في الحديث وهذا ينتقض بمسح الجبيرة فإنه غير مؤقت. هذا وبعض المؤقتين لم يسلم أن الحدث لم يرتفع. وقد اختلف المؤقتون في المقيم إذا لبس خفيه ثم سافر.
فمذهب الشافعي أن ميقات المقيم الذي هو اليوم والليلة لا يبطل لأن ابتداء الفعل كان في الإقامة فخاتمته محمولة (1) على ابتدائه.
ومذهب أبي حنيفة إبطال ميقات المقيم. واعتبار (2) ميقات المسافر لأن ما حدث من السفر يجب فيه صلوات غير متعلقة بما كان في الحضر. فوجب أن يعتبر فيها حال المصلي.
ولا أعرف في المذهب فيها نصًالأولكنها تلاحظ الاختلاف (3) في المدونة فيمن ابتدأ الصيام في الحضر ثم سافر في أثناء النهار فأفطر. هل يكفر مراعاة لحال مبتدأ الفعل. أو لا يكفر مراعاة للحال التي هو عليها. فبين المسألتين
تناسب من هذه الجهة.

والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: اختلف المذهب عندنا فيمن توضأ وغسل إحدى رجليه وأدخلهما في الخف، ثم غسل الأخرى وأدخلها في الخف. هل له أن يمسح على خفيه؟ فقيل ليس له ذلك لأنه لبس الأول قبل كمال الطهارة. ومن شرط جواز المسح إكمال الطهارة. وقيل يجوز له المسح لأن الرجل الأولى لم تدخل إلا وهي طاهرة فجاز المسح.

والجواب عن السؤال الثامن: أن يقال: إذا خلع خفيه (4). فقدإنتقل الحكم للرجل. وإنما يرتفع الحدث عنها يكون المسح على الخف نائبًا عنها.
فإذا زال الخف سرى الحدث إليها.
__________
(1) مبنية في -و-ق-.
(2) اعتبار ساقطة -ح-. اعتبر -ق-.
(3) الاختلاف -ح -و-.
(4) هكذا في جميع النسخ ولعل الصواب خفه.

(1/313)


والجواب عن السؤال التاسع: أن يقال: إنما كان حدوث ما يوجب الغسل قاطعًا لأن غسل الجنابة لا يجزئ فيه المسح على الخفين وقد جعل ذلك حجة له من أنكر المسح أصلًا. فقال: لو كان للمسح على الخف أصل في الطهارة الصغرى لكان له في الكبرى. وهذا لا يلزم لأن الطهارة الكبرى أغلظ وأقوى مرتبة في هذا. ألا ترى أن الرأس في الطهارة الصغرى فرضه المسح، ولا يجزئ الجنب مسح رأسه. بل عليه غسله. فكذلك يمسح الخف في الطهارة الصغرى دون الكبرى.

والجواب عن السؤال العاشر: أن يقال: اختلف الناس في خرق الخف المانع من المسح فمنهم من يتسهل في المسح فأجاز المسح وإن كثر الخرق ما دام الخف يعلق بالرجل. ومنهم من منع المسح لظهور بعض المغسول.
وتوسط مالك فأجازه في الخرق اليسير إذ لا تسلم الخفاف منه غالبًا، ومنعه في الكثير لفقد هذه العلة مع ظهور كثير من المغسول، والكثير لا يعفى عنه.
وقد قال بعض أصحابنا إذا شك هل الخرق يسير أو كثير فلا يمسح.
ووجه هذا أن الأصل غسل الرجل، والمسح رخصة. فلا يتعدى بها المرتبة التي جاء الشرع بها. ومتى وقع الشك عدنا إلى حكم الأصل.

قال القاضي رحمه الله: ويستحب للمقيم (1) خلعه كل جمعة للغسل وإذا خلعهما غسل رجليه وبطل حكم المسح. ولا يجوز المسح على جوربين غير مجلدين. وفي المجلدين والجرموقين روايتان.

قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل اثنا عشر سؤالًا. منها أن يقال:
1 - لم استحب للمقيم خلعه كل جمعة؟.
2 - وما الدليل على أنه إذا خلعهما غسل رجليه؟.
3 - وهل ينتقض وضؤوه أو يكفيه غسل رجليه خاصة؟.
4 - وهل تأخيره غسل رجليه يبطل وضوءه؟.
__________
(1) للمقيم ساقطة من -و-.

(1/314)


5 - وهل تأخيره مسح خفيه يبطل وضوءه؟.
6 - ولم لا يجوز المسح على الجوربين؟.
7 - ولم اختلف في المسح على الجرموقين؟.
8 - وهل يجزئ مسح ما قطع دون الكعبين؟.
9 - وهل يجوز (1) للمحرم أن يمسح الخف الزائد على الكعبين؟.
15 - وهل يجزئ مسح خفين تحتهما آخران؟.
11 - وهل يجزئ ذلك في إحدى الرجلين خاصة؟.
12 - وهل يجزئ غسل إحدى الرجلين ومسح الأخرى فوق الخف؟.

فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: وقع في بعض الروايات أن تحديد المسح من الجمعة إلى الجمعة، وتؤول ذلك على أن المراد به الحاضر المخاطب بالجمعة. لأنه مأمور بالغسل للجمعة. ولا يجزئ في الطهارة الكبرى مسح الخفين كما قدمناه. وقول القاضي أبي محمَّد استحب للمقيم خلعه كل جمعة إنما هذا (2) عند من لم يوجب غسل الجمعة. ومن أوجبه من العلماء لا يرى ذلك مستحبًّا بل يجعله واجبًا.

والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: جمهور العلماء على أن خلع الخفين يبطل طهارة (3) الرجلين. وإذا بطلت طهارتهما وجب غسلهما.
وقال داود نزع الخفين لا يبطل (4) طهارة الرجلين، بل يصلي بطهارته تلك ما لم يحدث. والدليل لما عليه الجمهور أن المسح على الخفين بدل من غسل الرجلين. فإذا بطل المسح بنزع الخفين لم يبق بدلًا مع بطلانه. وإذا بطل كونه بدلأوجب فعل البدل الآخر كالجبيرة إذا نزعت بطل حكم المسح *ولداود المناقضة بمسح الرأس فإنه لو ذهب الشعر الممسوح لم يبطل حكم المسح* (5)
__________
(1) يصح في -و-ق-.
(2) هو في -و-.
(3) غسل الرجلين في -و-.
(4) لا يبطل نزع الخفين -و-ق-.
(5) ما بين النجمين ساقط من -ح-.

(1/315)


والفرق عندنا أن مسح شعر الرأس أصل في نفسه وليس ببدل عن غيره، فينتقل الأمر إلى البدل (1) عند زوال الشعر. والخف بدل فانتقل إلى غيره عند زواله.

والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: المعروف من المذهب أن وضوءه لا ينتقض. وروى عن مالك رواية شاذة أن وضوءه ينتقض. وبه قال الشافعي.
وسبب الاختلاف في ذلك أن الموالاة قد قدمنا الاختلاف في وجوبها. فمن أنكر وجوبها لم ينقض الطهارة ها هنا. ومن قال بوجوبها وقدر أن غسل الرجلين الذي انتقل إليه الفرض الآن، لما تأخر عما سواه من الأعضاء، حصلت التفرقة وعدمت الموالاة، أبطل الوضوء. ومن رأى أنه كالمغلوب على التفرقة أو رأى أنه إنما غسل رجليه بدلًا عن طهارتهما التي بطلت في الحال، لم يبطل الوضوء لصحة الموالاة في جميعه.

والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: تأخير غسل رجليه، فيه اضطراب. ويتخرج على الاختلاف في وجوب الموالاة.
والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: تأخير المسح على خفيه، المعروف منعه. وقد روى الأجزاء. وهذا يحتمل أن يكون بناء الأجزاء على القول بأن الموالاة غير واجبة أو على القول بأن الممسوح حكمه أخف من حكم المغسول. لأن مبناه على التخفيف.

والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: إنما لم يجز المسح على الجوربين خلافًا لأبي يوسف وصاحبه محمَّد في إجازتهما المسح على الجوربين، الغير مخروزين إذا كانا ثخينين؛ لأن الآثار إنما جاءت بالمسح على الخفين. والجوربان لا يسميان خفين. والحاجة إلى الخفين فوق الحاجة إليهما. فلا يقاس حكمهما على الخفين، فإن جلدا فقد اختلف فيهما لأنهما أشبها بالتجليد الخفين فقاسهما مرة عليهما ومرة لم يقس على الرخصة ولم يبعد ما جاءت به الآثار (2).
__________
(1) البدن -و-.
(2) الأخبار في -و-.

(1/316)


والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: اختلف في الجرموقين ما هما؟ فقيل خفان غليظان لا ساق لهما. وقال بعض البغداديين هما خفان تحتهما خفان. وأشار ابن القاسم إلى أن ما (1) خرز عليه يسمى جرموقًا. فإن كان الأمر كما فسره من قال: هما الخفان الغليظان اللذان لا ساق لهما، والتوجيه فيه كنحو التوجيه في الجوربين المخروز عليهما، وإن كان كما أشار إليه ابن القاسم فقد تقدم توجيهه. وإن كان كما قال بعض البغداديين فسنتكلم عليه بعد
هذا.

والجواب عن السؤال الثامن: أن يقال: إذا قطع الخفان دون الكعبين فالمعروف من المذهب أنه لا يصح المسح عليهما لظهور بعض المغسول.
وحكى ابن شعبان أن الوليد بن مسلم روى عن مالك: أنه يمسح عليهما وعلى ما ظهر من الرجلين. وهذا مذهب شاذ، وإنما ينسب إلى الأوزاعي. وكان الوليد كثير الرواية عنه. ووجه هذه الرواية" إن صحت، أنه رأى (2) أن الظاهر من الرجل في حكم اليسير. فعفي عنه كما عفي عن الخرق اليسير في الخف.
والفرق على المشهور بينهما، أن الخرق مما لا ينفك الخفاف عنه غالبًا، ومما لا يخرجه عن السورة التي جاءت بها الآثار. والمقطوع دون الكعبين بخلاف ذلك.

والجواب عن السؤال التاسع: أن يقال: منع بعض أصحابنا المحرم من المسح لأنه منهي عن لبس الخفين التأمين. وإذا نهى عن لبسهما لم يرخص له في المسح عليهما. وعندي أنه قد يتخرج على القولين في جواز القصر لمن سفره معصية. وعلى هذا تمسح على الخفين المحرمة لأنها في لبسهما غير عاصية.

والجواب عن السؤال العاشر: أن يقال: حكى البغداديون وغيرهم اختلافًا في ذلك عن مالك. وأطلقوا الحكاية عن ذلك. وقال بعض شيوخنا إنما
__________
(1) إلى أن كل ما خرز عليه - و.
(2) روى -و-.

(1/317)


الاختلاف فيمن لبس خفين، على خفين لم يمسح عليهما. وأما إذا مسح على الأسفلين ثم لبس خفين فإنه يمسح عليهما إذا توضأ من غير خلاف في ذلك.
وسبب الاختلاف في ذلك أن الآثار إنما وردت بالمسح على خفين مفردين لا على أربع خفاف فلا تتعدى (1) الآثار. ومن أثبت المسح قاس على ما ورد من الآثار في ذلك.

والجواب عن السؤال الحادي عشر: أن يقال: اختلف فيمن نزع الخف الأعلى من إحدى رجليه هل عليه أن ينزع الأعلى من الرجل الأخرى أم لا؟ فمن أوجب النزع رأى أن حكم الخفين لا ينبغي أن يختلف. وقد صار ها هنا تحت الخف الرجل. وحكمها الغسل. وتحت الخف في الرجل الأخرى خف آخر وحكمه المسح. فوجب النزع لرفع هذا الاختلاف. ومن لم يوجب النزع لم يلتفت إلى ما تحت الخف وإنما اعتبر الخفاف خاصة وهو ماسح على الخفين في كلا الرجلين. فلا يضر اختلاف العدد.

والجواب عن السؤال الثاني عشر: أن يقال: لا يجزئ من خلع إحدى خفيه غسل الرجل التي خلع خفها، ومسح خف الرجل الأخرى. لأن هذا قد اختلف معه حكم الرجلين. فصارت إحداهما مغسولة والأخرى ممسوحة من فوق حائل. وكل المسح بدل من كل الغسل، فلا يبعض ذلك. وأجاز ذلك أصبغ وهذا عندي ينظر إلى الاختلاف في مسألة المكفر عن يمينه إذا أطعم خمسة وكسا خمسة. ولعلنا أن نبسط. الكلام عليها في موضعها إن شاء الله تعالى. وقد قال بعض الأشياخ لو تعذر على هذا الغاسل لإحدى رجليه نزع الخف عن الرجل الأخرى، وخشي ذوات الوقت إن تشاغل بنزعه، فإنه يباح له المسح عليه. ويحمل على الجبيرة التي أبيح المسح عليها للضرورة.

قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: والمختار مسح أعلاهما وأسفلهما. فإن اقتصر على أعلاهما أجزأه وإن اقتصر على أسفلهما لم يجزه (2) ولا يجوز المسح
__________
(1) تبعد في -ق-.
(2) فلا يجزيه -ح-ق-.

(1/318)


على عمامة، ولا خمار، ولا على حائل دون عضو، سوى الرجلين، إلا لضرورة كسر (1)، أو جراح (2). فيمسح على الجبائر والعصائب شدهما محدثًا أو متطهرًا بخلاف الخفين.

قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل خمسة أسئلة منها أن يقال:
1 - ما الدليل على أن المختار مسح الأعلى والأسفل؟.
2 - ولم أجزأ الاقتصار على الأعلى ولم يجز الاقتصار على الأسفل؟.
3 - وما الدليل على منع المسح على العمامة والخمار؟.
4 - وما الدليل على جواز المسح على الجبائر؟.
5 - ولم كانت بخلاف الخفين في اشتراط (3) الطهارة؟.

فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: المشروع عندنا مسح أعلى الخف وأسفله. وقال أبو حنيفة المشروع مسح أعلاه خاصة. وسبب الاختلاف اختلاف الأحاديث. ففي بعضها: أنه مسح أعلى الخف وأسفله، وفي بعضها أنه مسح أعلاه خاصة. وقال علي لو كان الدين يؤخذ بالقياس لكان باطن الخف أولى بالمسح من ظاهره (4). ولكني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يمسح أعلاهما. فأخذ مالك بحديث مسح الأعلى والأسفل، وحمل حديث الاقتصار على الأعلى على أنه فعله ليعلم بجوازه. وعضد مذهبه بالقياس على الجبائر الواجب عمومها بالمسح.

والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: إذا اقتصر الماسح على الأعلى.
فقيل لا إعادة عليه. وقيل يعيد في الوقت. وقيل يعيد أبدًا. فمن نفى الإعادة تمسك بالحديث الوارد بالاقتصار على الأعلى. ومن أثبت الإعادة في الوقت قال قد بنينا الأحاديث وحملنا الاقتصار على الأعلى على تعليم الجواز. وأثبتنا
__________
(1) أو كسر -غ-.
(2) جرح - الغاني.
(3) في شرط -و-.
(4) رواه البيهقي بلفقالو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه.
وبلفظ الكان باطن الخف أحق بالمسح من أعلاه. السنن ج 1 ص 292 وانظر الهداية ج 1 ص 208.

(1/319)


الكمال (1) في مسح الأعلى والأسفل فيعيد في الوقت ليحصل له الكمال. ومن قال يعيد أبدًا قاسه على الجبيرة إذا أحل بمسح بعضها. فإنه يعيد أبدًا. ولأن المسح بدل من الغسل، فلو ترك بعض غسل رجليه (2) لأعاد أبدًا. فكذلك ترك ما هو بدل عنه.
وأما إن اقتصر على الأسفل خاصة. فالمعروف من المذهب أنه يعيد أبدًا.
لأنه لم يرد حديث بالاقتصار عليه. وورد في الأعلى حديث بالاقتصار عليه فاختلف حكماهما، وقياسًا على ترك مسح بعض الجبيرة وترك غسل بعض الرجل. وقال أشهب يجزيه وكأنه رأى أن مبنى المسح على التخفيف، فلا تفسد الطهارة بترك بعضه كما لا تفسد الطهارة بترك (3) مسح بعض الرأس عند بعض أصحابنا. وعند جماعة من فقهاء الأمصار.
والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: اختلف الناس في المسح على العمامة. فمنعه جمهور العلماء لقوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} (4). وهذا يقتضي مباشرة الرأس بالمسح. وأجازه ابن حنبل، وغيره لما روي أنه - صلى الله عليه وسلم -: مسح على العمامة (5). وتأول الجمهور هذا الحديث على أنه فعل ذلك لعذر حال (6) بينه وبين مباشرة الرأس. فأشبه المسح على الجبيرة.

والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: المسح على الجبائر واجب عندنا.
وأنكر أبو حنيفة كون المسح فرضًا وقال هو سنة. وسبب الاختلاف في ذلك أن القرآن جاء بالغسل. وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - عليًا بالمسح على الجبيرة (7). وهذه قضية
__________
(1) وأثبت الكمال -ح-.
(2) رجله -ح-.
(3) ترك ساقطة -و-.
(4) سورة المائدة، الآية: 6.
(5) رواية مسلم أنه مسح على ناصيته وعلى العمامة. النووي ج 3 ص 172 - 173.
وأخرجه أحمد عن عمرو بن أمية الضمري رضي الله عنه أنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسح على الخفين والعمامة. الفتح الرباني ج 2 ص 38.
(6) حال ساقطة من -ح-.
(7) رواه ابن ماجه عن عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه قال: انكسرت إحدى زندي فسالت =

(1/320)


في عين. فإذا قلنا بتعديها لسائر الأشخاص، كما قال جماعة من أهل الأصول، فقد صارت هذه القضية زائدة حكمًا، وهي خبر واحد. والزيادة على النص نسخ على أصل أبي حنيفة. وليست بنسخ (1) عند غيره. فمن لم يجعلها نسخًا أثبت المسح كما قال مالك. ومن جعلها نسخًا لم يوجب المسح على الجبيرة كما قال أبو حنيفة. لأن النسخ لا يكون بخبر الواحد. وإنما قال بالمسح على الخفين؛ لأنه خرج عنده ما ورد فيه من الآثار عن مرتبة الآحاد. ولما سقط عنده العمل بهذا الخبر على جهة الإيجاب استخف أن يعمل به على حكم السنن لئلا يبطل العمل بالخبر أصلًا.

والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: إنما لم يشترط الطهارة في مسح الجبيرة واشترطناه (2) في مسح (3) الخفين. لأن لبس الخفين اختياري يمكن أن يؤمر اللابس إذا أراد المسح ألا يلبسهما إلا على طهارة. فلما أمكن ذلك جاء الشرع به. ولا يمكن أن يقال للإنسان لا تكسر أو تجرح إلا على طهارة. فلما لم يمكن ذلك لم يجىء الشرع به. وقد قال الشافعي إن شد الجبيرة على غير طهارة أعاد الصلاة. وإن شدها على طهارة فله في الإعادة قولان. ولا معنى عندنا نحن للإعادة؛ لأنه مكلف انتقل بحكم الضرورة إلى بدل فلم تلزمه الإعادة (4) كالمسافر إذا تيمم لعذر ما (5). والمكفر إذا صام لعدم الرقبة. وهذا واضح. وقد كنا أشرنا في باب التيمم إلى ذكر الاختلاف فيمن لبس خفيه قبل الصلاة وهو متيمم ثم أحدث. هل له أن يمسح عليهما؟ فأغنى ما أشرنا إليه هناك عن نقل نص الاختلاف في ذلك ها هنا.
__________
= النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمرني أن أمسح على الجبائر. السنن ج 1 ص 215. وفي سنده عمرو بن خالد كذبه أحمد وابن معين. وقال البخاري منكر الحديث.
(1) نسخا -و-.
(2) اشترطناها -ق-.
(3) مسح ساقطة من -ح-.
(4) إعاد -و-ق-.
(5) لعدم الماء -و-ق-.

(1/321)


واضطرب في صفة المسح هل يبدأ بأن يضع (1) عند الأصابع ويمر إلى العقب. أو عند العقب ويمر إلى الأصابع. أو يضع إحداهما عند العقب والأخرى فوق الأصابع ويمر بكل واحدة منهما إلى مبدإ الأخرى لئلا يكون في أسفل الخف ما ينبغي إزالته فيلصقه بالعقب إذا كان مروره بيده إليها.
والاختلاف في هذا قريب. فلهذا لم يفرد (2) بالذكر في سؤال يختص به.
__________
(1) يجعل -ق-.
(2) لم يفرده -ح-.

(1/322)


باب في الحيض والنفاس وما يتصل بهما

قال القاضي رحمه الله: الدماء التي تزجيها (1) الرحم ثلاثة:
1 - دم حيض.
2 - ودم نفاس.
3 - ودم علة وفساد، وهو الاستحاضة.
فأما دم الحيض: فهو الخارج من الفرج على وجه (2) الصحة بغير ولادة.
والنفاس ما كان عقيب الولادة. والفساد ما خرج عن صفتهما (3).
ودم الحيض والنفاس يمنعان أحد عشر شيئًا وهي:
1 - وجوب الصلاة.
2 - وصحة فعلها.
3 - وفعل الصوم دون وجوبه. وفائدة الفرق لزوم القضاء للصوم، ونفيه في الصلاة (4).
4 - والجماع في الفرج، وما دونه.
5 - والعدة.
6 - والطلاق.
7 - والطواف.
8 - ومس المصحف.
__________
(1) ترخيها -ق-غ- الغاني-.
(2) وجه ساقطة من -غ-ق-و-.
(3) صفتيهما -الغاني-.
(4) الصلاة- الغاني-.

(1/323)


9 - ودخول المسجد.
10 - والاعتكاف.
11 - وفي قراءة القرآن روايتان. ويمنع الجنب من القراءة إلا الآيات اليسيرة للتعوذ.

قال الإِمام رضي الله تعالى: يتعلق بهذا الفصل تسعة أسئلة. منها أن يقال:
1 - ما الدليل على صحة هذا التقسيم؟.
2 - ولم جعل الحيض يمنع وجوب الصلاة دون وجوب الصوم؟.
3 - ولم حرم الجماع في الحيض؟.
4 - وما فائدة تقييده بقوله وما دونه؟.
5 - ولم منع مس المصحف؟.
6 - ولم منع دخول المسجد؟.
7 - ولم اختلف في قراءة القرآن؟.
8 - ولم منع الجنب من القراءة؟.
9 - ولم جوزت له الآيات اليسيرة؟.

والجواب عن السؤال الأول: أن يقال: الدليل على صحة هذا التقسيم: أنه ليس للجسم سوى حالتين: صحة أو مرض. فالدم الخارج من الفرج لا بد أن يصادف إحدى هاتين الحالتين. فإن خرج على حالة المرض سمي دم استحاضة. وإن خرج على حالة الصحة فليس للمرأة الصحيحة أيضًا سوى حالتين. إما أن تكون حاملًا. أو تكون حائلًا. فإن كان خرج عند وضع العمل سمي نفاسًا. وإن خرج من حائل صحيحة سمي حيضًا.

والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: قد تعقب بعض الأشياخ من أهل الأصول على القاضي أبي محمَّد هذا الكلام. وقال: كيف يقال إن الحيض لا يمنع الوجوب، والحيض لا يصح معه الصوم، بل الصوم فيه معصية؟ فكيف يوسف ما هو معصية بأنه واجب هذا غاية التناقض. واعلم أنا نفتقر ها هنا إلى

(1/324)


أن نورد عليك فصلًا يتعلق بعلم الأصول ليتضح لك الكلام (1) المتعقب عليه.
فنقول الصوم الذي لا يجوز تأخيره لا امتراء في وجوبه. لأن الواجب ما يستحق الذم بتركه على وجه ما. وهذه الحقيقة موجودة فيما قلناه من الصوم الذي لا يؤثم مؤخره. وقد جاء الشرع بجواز تأخير صوم رمضان لمريض. وإيجاب التأخير على الحائض. فالتبس فيه الأمر على من خاض في علم الأصول. فقد يستلوح من حيث أن الصوم لم يسقط أصلًا (2) أن الوجوب لم يسقط. وقد يستلوح من حيث أن الفطر جائز أن الوجوب ساقط. لأن الواجب لا يجوز تركه. وقد اضطرب أهل الأصول في ذلك. فأنكر الكرخي خطاب هؤلاء بالصوم، وأشار غيره إلى خطاب جميعهم. وقال جماعة من أهل الأصول من أصحابنا وغيرهم بخطاب المسافر والمريض دون الحائض. وقال آخرون من أصحابنا وغيرهم أيضًا بخطاب المسافر دون الحائض والمريض. وسبب الاختلاف بين أهل الأصول ما نبهتك عليه أن التأخير، لما وجب أو جاز، لم يصح مع ذلك أن يقال بأن الخطاب بالوجوب متصل بهؤلاء. لأن اتصال الخطاب بالوجوب يمنع الترك. والترك جائز لهؤلاء أو واجب. ولما رأى آخرون وجوب القضاء على جميعهم وحقيقة القضاء إنما تستعمل (3) في ترك واجب، بَعُدَ عندهم مع ذلك وصفهم بسقوط الوجوب. إذ لو سقط لم يكن الصوم الموقع بعد رمضان قضاء. ورأى آخرون افتراق حال ما يجب تركه كصوم الحائض، وما يجوز تركه كصوم المريض والمسافر. فقالوا سقوط الوجوب عن الحائض لأن وجوب الفعل مع وجوب تركه طرفا نقيض. فكيف يتصور أن يقال الصوم واجب على الحائض، ومن فعل الواجب أجر، ويقال مع هذا، الصوم محرم عليها. ومن فعل المحرم أثم. فتكون مأثومة مأجورة معًا في حالة واحدة؟ هذا عين التناقض؟ وأما المسافر والمريض فإنهما لو صاما لأجرا ولم يأثما، وناب صومها مناب الواجب، وبرئت الذمة به. فلم يُوقِعْ القول بأن
__________
(1) كلام -ح- كلام المتعقب والمتعقب عليه -ق-.
(2) فقد يستلوح أن الصوم من حيث لم يسقط أصلًا -و-.
(3) يستعمل -ح-.

(1/325)


الصوم واجب في تناقض كما وقع في الحائل. فلهذا افترق الأمر عند هؤلاء، وصار الأمر في إجازة التأخير لهذين، كإجازة تأخير الصلاة عن أول الوقت إلى آخره. ولم يخرج الصلاة ذلك عن وصفها بالوجوب بأول (1) الوقت. وإنما يبقى ها هنانظر آخر، وهو أن يقال (2) جواز الترك ينفي حقيقة الوجوب. فكيف وصفت (3) الصلاة بالوجوب أول الوقت؟ وهذه المعارضة ألجأت القاضي أبا بكر بن الطيب وغيره من الأئمة إلى إثبات العزم واجبًا ليكون بدلًا من تقدمة الصلاة أو الصوم (4) ولم يساعده آخرون على إثبات العزم. ولا مطمع في الخوض في هذا الأصل الآخر في كتابنا هذا. لأنه من الدقيق الغامض الذي يفتقر إلى الاستبحار في علم الأصول.
ورأى الآخرون (5) أن سقوط الصوم على المريض، قصد الشرع التخفيف عنه بسقوط التكليف لكونه في حكم العاجز عنه. والعاجز لا يكلف. والمسافر قادر. فقصد الشرع التخفيف بالتأخير لا بإسقاط التكليف. فاتبع في ذلك قصد الشرع.

والقاضي أبو بكر بن الطيب على عظم شأنه في علم الأصول قد يميل في بعض كتبه إلى التفرقة بين المريض الذي يعسر عليه الصوم ويشق، وبين المسافر لأجل هذا الذي قلناه. ويميل في بعض تصانيفه إلى التسوية بينهما في اتصال الخطاب بهما. وفيهما وقع الالتباس عند الحذاق.
وأما من ذهب إلى أن الحائض مخاطبة بالصوم كهذين (6) واعتمد على كون صومها الموقع بعد رمضان قضاء، فإنه يتمسك بوجهين: أحدهما لفظي، والآخر معنوي. فأما اللفظي فتسمية أهل الشرع صومها الموقع بعد رمضان
__________
(1) أول -و-ق-.
(2) أن نقول -ح-.
(3) إذا وصفت -ق- وصف -و-.
(4) تقدمة الصوم أو الصلاة -و-ق-.
(5) آخرون -ق-و-.
(6) لهذين -ق-.

(1/326)


قضاء. والواجب (1) على هذا أن يقال القضاء يشعر في اللغة بأمر فائت. والفوات على قسمين: ذوات واجب، وفوات وجوب. فمن ترك صلاة سمي فعله لها بعد الوقت قضاء لأنه ناب مناب واجب فات. وأكثر ما يطلق اسم القضاء في هذا القسم. وأما الحائض فإنا لو توهمنا عدم طرو الحيض عليها لكانت مخاطبة بالصوم بإجماع. فلا شك أن الحيض هو الذي يرفع هذا الخطاب حتى صار الوجوب كالفائت الذي يقضي بوجوب آخر، وهو الوجوب المتوجه عليها بعد رمضان. فتسهل الفقهاء في العبارة فأطلقوا العبارة المستعملة في ذوات الواجب على ذوات الوجوب *لشدة ارتباط ما بين الواجب والوجوب (2) * وهذا غير مستنكر في اللغة والعرف. ولأن (3) الدليل القاطع العقلي الذي ذكرناه أولًا في إفساد هذه المقالة يتمسك بإطلاق عبارة اصطلح عليها الفقهاء. وأما الوجه المعنوي الذي تمسكوا به فهو أمثل (4) من هذا.
وذلك أنهم قالوا إن الحائض تنوي بصومها القضاء. فلولا أنها مخاطبة بالصوم أيام حيضتها لم تؤمر بنية القضاء. لأن ما لم يجب يستحيل أن يقضى. وهذه معارضة صعبة لهؤلاء. وقوإنطلقت الألسنة بشدة النكير عليهم لقولهم إن الحائض مخاطبة بالصوم. ورأى المنكرون عليهم أن هذا القول أوقعهم في عين المحال المتناقض على حسب ما قدمناه لك أولًا. والقوم إنما حملهم على ما قالوه، هذا الذي ذكرناه من كون الحائض مأمورة بنية القضاء. ولعله الذي دعا القاضي أبا محمَّد إلى إطلاق هذا القول الذي تعقب عليه في كتابه هذا. فاعلم أن الوجوب في الشرع ربما كان له سبب معلوم. وربما لم يكن له سبب. فمثال ماله سبب: مفسد الصلاة، ومفسد الحج، ومفسد الصوم. فإن الوجوب للقضاء متوجه عليه بسبب إفساده (5). ومثال ما لا سبب له، الصلاة الواجبة ابتداء،
__________
(1) الجواب -ق-و-.
(2) ما بين النجمين ساقط من -ح-.
(3) ولا يرد -و-ق-.
(4) أشد -ق-.
(5) من هنا إلى قبيل الجواب عن السؤال الثامن ساقط من -و- وسننبه على مكانه في موضعه. وقد وجدنا هذا النقص بعد ذلك داخلًا في الجواب عن الأسئلة التي أثارها =

(1/327)


والصوم، والحج. فإذا كان المكلف يعلم أن الوجوب له سبب، فلا بد أن يتعرض له في نيته. لأن النية إنما شرعت لتمييز عبادة من عبادة. ألا ترى أن الساجد لله (1)، والساجد للصنم، صورة سجودهما واحد. وإنما فرق بينهما النية والقصد. وكذلك التطوع، وصوم الفرض. صورتهما واحدة. وإنما تفرق (2) بينهما النية. فإذا لم تصم الحائض رمضان، وأوقعت صومها في شوال، فصورة صومها في شوال، وهي متطوعة بالصوم، كصورة صومها في شوال صومًا واجبًا عليها. فلا بد إذا صامت في شوال من تجديد نية يتميز بين كون صومها نفلًا أم فرضًا. فإذا نوت الفرض وتوجه ذلك عليها (3) لما قلناه، فهي تعلم حينئذ أن الله سبحانه لم يفرض على أحد من المسلمات صوم شوال. ولولا ما رفعه الحيض من الخطاب بصوم رمضان لما وجب عليها صوم شوال. فقد صارت نية الفرض لا بد لها منها. ونية الفرض يتضمن أن هذا الوجوب عليها إنما هو كالقضاء عن وجوب فات. فهذا هو سر إطلاق الفقهاء وأهل الشرع، لكون صومها قضاء، ومعنى أمرها بذلك. ولقد قال بعض العلماء: لو أمكن تمييزها الصوم بهذه الحقيقة دون التعرض منهالقضاء، أو أداء، لاكتفي (4) بذلك. وهذا فصل قد كشفنا لك فيه اختلافًا كثيرأوقع بين أهل الأصول. ومعنى أطلقه أهل الفروع.
وبُحنا لك بالسر فيه فاحتفظ به. فما تعرض لهذا أحد من الفقهاء المصنفين.
وإذا أحطت به علمًا علمت حقيقة ما قاله القاضي أبو محمَّد في هذا الكتاب، وحقيقة ما تعقب عليه. فإن تركت قوله على ظاهره فقد وقع بقولته هذه مع تلك الطائفة من أهل الأصول التي ذكرنا لك قولهم. والحجة لهم وعليهم. وإن
__________
= حول أقل الحيض والنفاس مما يدل على أن الورقة انفصلت من مكانها ثم وضعت في غير موضعها. وأن الناسخ للنسخة التونسية الثانية نقلها عن النسخة الوطنية رقم -1 - وأن نسخة الوزير منقولة عن النسخة التونسية رقم -2 - .
(1) سبحانه -و-.
(2) الفرق -و-.
(3) عليها ساقطة -و-.
(4) لاكتفت -و-.

(1/328)


أحببت (1) الاعتذار عنه وإلحاقه بالجمهور في هذه المسألة وهو الظن الجميل به لعلو قدره في علم الأصول والفروع، قلت قد أريناك معنى قول الفقهاء إن صوم الحائض يسمى قضاء. وأنها تنوي القضاء فيكون ذلك المعنى الذي أريناك إليه، نحا القاضي أبو محمَّد في إطلاق هذه العبارة، فيكون معنى قوله أن الحيض يمنع من فعل الصوم دون وجوبه ويمنع من فعل الصلاة ووجوبها أن الحيض حرم الصلاة ولم يأت الشرع بفعلها بعد تقضيه. فقد منع الفعل، والوجوب كما قال. ومنع فعل الصوم مع الحيض، وأتى بوجوب الصوم بعد أن تقضيه (2) فلم يمنع الوجوب، بمعنى أنه لم يرفعه رفعًا كليًّا بل كان فوت الوجوب في أيام الحيض سبب الوجوب في غيرها من الأيام. فأشعر بهذه العبارة لوجه الفرق بين الصلاة والصوم. وهذا هو العذر له عما تعقب عليه.
وقد أشبعنا هذا الفصل من علم الأصول، لتعلقه بهذه اللفظة الواقعة في هذا الكتاب. ولأن المتعرض لتعقبها عليه من الحذاق بالأصول والفروع. وفي هذا الذي قلناه مقنع.

والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: إنما حرم الوطء في الحيض لقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ في الْمَحِيضِ} (3). فنبه سبحانه على أن كونه أذًى هو المانع من الوطء وقد جاءت الآثار بمنع ذلك فلهذا منع الوطء في الحيض.

والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: أما وطء الحائض فيما دون الفرج بين فخذيها، فالمشهور من المذهب النهي عنه واستخفه أصبغ. فوجه المشهور قوله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ في الْمَحِيضِ}. والمراد من المحيض ها هنا زمن الحيض عند بعض أهل العلم. ثم قال الله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ}.
وظاهر هذا يقتضي اعتزالها جملة وألا يقرب شيئًا منها. لكن جاءت الآثار بإباحة ما فوق الإزار، فخص ما فوق الإزار بالإباحة. وفي الخبر: ما يحرم علي
__________
(1) وإن اختلفت -و-.
(2) نقيضه في -ح-.
(3) سورة البقرة، الآية: 222.

(1/329)


من امرأتي وهي حائض؟ فقال ما تحت الإزار (1). ووجه ما قاله أصبغ: أن علة النهي الدم (2). فيجب أن يختص النهي بموضعه. وإنما يكون معنى النهي عن وطئها بين الفخذين حماية للذريعة، لئلا يقع في وطء الفرج. فإذا أمن من ذلك اسخف له الوطء. وقال ابن الجهم من أصحابنا الإزار من السرة إلى الركبة.
فيكون النهي عن الوطء فيما بين هذين، حماية لئلا يقع في وطء الفرج الذي هو ممنوع. كما نهي عن التنفل بعد العصر حماية للذريعة أيضًا.

والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: الحدث مانع من مس المصحف عندنا. ويستوي في ذلك الحدث الأصغر والأكبر. وأجاز داود مسه للجنب، وللمحدث (3) الحدث الأصغر. ودليلنا قوله تعالى {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) في كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79)} (4). وقوله - صلى الله عليه وسلم - لعمرو بن حزم: لا يمس المصحف إلا طاهر (5). وأما داود فإنه يحمل الآية على أن المراد بها الملائكة.
ومنعه أصحابنا من هذا وقالوا هذا اللفظ يوهم صحة وجود *من ليس بمتطهر في السماء. وإنما يصح وجود* (6) من ليس بمتطهر في الأرض لا في السماء. وكأن أصحابنا قد رأوا دخول = إلا = ها هنا, يشير إلى أن بعدها من المستثني يدل على أنه إنما خص بالذكر لئلا يتوهم أن حكمه كحكم غيره ممن لم يستثن. وهذا يقتضي كون غيره متوهمًا دخوله في الخطاب. قالوا وإن حمل داود الآية على الخبر فلا بد أن يكون معناه معنى النهي؛ لأنه إذا وجب حملها على من في الأرض، ونحن نعلم أنه قد يمسه من أهل الأرض من ليس بطاهر، وخبر الله سبحانه لا يصح أن يوجد الأمر بخلافه، وجب أن يكون الخبر معناه معنى النهي.
__________
(1) رواه البيهقي عن حرام بن حكيم عن عمه أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال ما يحل لي من امرأتى وهي حائض؟ قال: لك ما فوق الإزار. السنن ج 1 ص 312.
(2) من الدم -ح-.
(3) المحدث ساقطة -و-.
(4) سورة الواقعة، الآيات: 77 - 78 - 79.
(5) هذه قطعة من حديث طويل أخرجه السيوطي في مسند عمرو بن حزم رقم الحديث: 18494 - 18495 وانظر نصب الراية ج 2 ص 339 - 341.
(6) ما بين النجمين ساقط -ح-.

(1/330)


والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: اختلف الناس في دخول الحائض والجنب المسجد. فمنعه مالك على الإطلاق. وأجازه زيد بن أسلم عابر (1) سبيل. وقال ابن مسلمة من أصحابنا: الجنب والحائض طاهران وليس ابن جسين. وإنما تمنع الحائض من دخول المسجد صيانة للمسجد على أن يناله من دمها شيء. والجنب يدخل المسجد لأنا نأمن ذلك منه. قال بعض أشياخي: هذا يقتضي جواز كون الجنب في المسجد، والحائض (2) إذا استثفرت وتحققت صيانة المسجد عن الدم. ودليلنا قوله - صلى الله عليه وسلم -: لا أحل المسجد لحائض ولا لجنب (3). وأما زيد فإنه يعتمد على قوله تعالى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ} (4). والمراد بالصلاة ها هنا موضعها. إذ نفس الصلاة لا يصح فيها عبور السبيل. وإنما يعتبر (5) السبيل في المساجد وغيرها من الأماكن. وهكذا حمل الشافعي الآية على ما حملها عليه زيد وأجاب أصحابنا عن هذا: بأن إثبات إضمار. وحمل الآية على المجاز من غير دليل يضطر إليه لا يمكن. وما قدره زيد، دليل يلجئ إلى ذلك. من كون الصلاة لا يصح العبور فيها. فليس الأمر كما قدروا. وإنما المراد بعابري السبيل ها هنا المسافر الذي لا يجد الماء. فإنه يقرب (6) الصلاة بالتيمم وإن لم يغتسل. وإن صح حمل الآية على هذا التأويل فلا وجه لإثبات إضمار في الآية من غير ضرورة إليه. وأما ابن مسلمة فإنه يعتمد على قوله - صلى الله عليه وسلم -: إن المؤمن لا ينجس (7). وإذا لم يكن نجسًا فلا وجه عنده لمنعه من دخول المسجد.
__________
(1) أي لعابر.
(2) أي وكون الحائض.
(3) رواه أبو داود في كتاب الطهارة وأخرجه البخاري في الكبير. مختصر سنن أبي داود ج 1 ص 157.
(4) سورة النساء، الآية: 43.
(5) يعبر -ق- تعبر السبل -و-.
(6) يقرب من الصلاة -و-.
(7) رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وأحمد. الهداية ج 2 ص 68.

(1/331)


والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: أما وجه إجازة القراءة لها، فلأن عائشة كانت تقرأ القرآن وهي حائض والظاهر أن هذا مع تكرره عليها، وكونها مع النبي عليه السلام من القرب في فراش واحد، أنها طالعته على ذلك، أو فهمت عنه ما استباحت هذا منه.
وأما وجه المنع فقياسًا على الجنب. وقد فرق أصحاب الرواية الأولى بينهما وبين الجنب، بأن (1) حدث الجنب مكتسب وهو قادر على رفعه بالطهارة، ومدة جواز بقائه عليه لا تطول. والحائض من غير اكتسابها.
واغتسالها لا يرفع حكم الحيض. ومدة أيام حيضتها تطول فقد يؤدي هجرها للقراءة لنسيانها. فأبيحت لها القراءة لأجل هذا. والجنب فيه بخلافها.

والجواب عن السؤال الثامن: أن يقال: أما قراءة الجنب للقرآن فاختلف قول مالك فيها. والمشهور عنه المنع. وقال الشافعي لا يقرأ شيئًا من القرآن أصلًا. وقال داود يقرأ ما شاء. ودليلنا على المنع ما وقع في الخبر لا يقرأ الجنب شيئًا من القرآن. وإخبار علي رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ القرآن ما لم يكن جنبًا (2). وقد صحح الترمذي حديث علي رضي الله عنه هذا. ولأن ابن رواحة لما اتهمته امرأته بالجارية وجحدها. فطلبته بقراءة القرآن فتخلص منها بأن أنشدها شعرًا فصدقته. فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك. فقال: امرأتك أفقه منك (3). فلولا اشتهار المنع حتى علمته النساء ما طلبته بالقراءة. ولو كانت القراءة مباحة لما احتاج هو إلى الإلغاز عليها بإنشاد الشعر ولا قال له صلى الله عليه وسلم امرأتك أفقه منك.

والجواب عن السؤال التاسع: أن يقال: إذا ثبت منع الجنب القراءة فإنه
__________
(1) هنا ينتهي النقص الوارد في -و- وهو بلفظ لأن. ثم وجدنا الصفحة برقم 40 - و- وإذ تكون قد وضعت في غير موضعها عند الجمع.
(2) عن عليّ أنه كان يقرأ القرآن ما لم يكن جنبًا. رواه الترمذي ولفظه كان يقرئنا القرآن ما لم يكن جنبًا. عارضة الأحوذي ج 1 ص 212.
(3) من جامع السيوطي عدد 16667 ج 8 ص 407 - 408. ورواه أحمد مختصرًا ج 3 ص 451.

(1/332)


يباح له اليسير منها كالآية والآيتين للتعوذ أو ما في معناه. ولم يجز أبو حنيفة له إلا قراءة بعض آية. ودليلنا على جواز اليسير أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو وكتب لهم باليسير منه (1). فدل أن اليسير معفو عنه إذا دعت الحاجة إليه. وأما حصر أبي حنيفة الإباحة على بعض آية لكون بعض الآية ليس بمعجز.
فإنه غير مسلم له. إذ لا مدخل للإعجاز ها هنا. والحرمة ثابتة لجميع القرآن ما قل منه وما كثر. فإذا دعت الحاجة للإباحة فإنما يقتصر على قدر الحاجة.
وعلى اليسير المعفو عنه على حسب ما بيناه. هذا وفي القرآن آية أقصر من البعض الذي أشار إليه أبو حنيفة من الآية الأخرى، وما كان بالغًا في القصر من الآي فليس بمعجز وهو مع هذا آية كاملة. وقد عد من أقصر آي القرآن مدهامتان (2). وأقصر منها ثم نظر (3). لأنها خمسة أحرف. وهذا القدر ليس بمعجز.

قال القاضي رحمه الله: وأقل الحيض والنفاس لا حد له، وأكثر الحيض خمسة عشر يومًا وأكثر النفاس ستون يومًا. ولا حد لأقل الاستحاضة. ولا لأكثرها (4) ولابد من طهر يفصل بين الحيضتين وأقله خمسة عشر يومًا على الظاهر من المذهب ولا حد لأكثره.

قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل تسعة أسئلة. منها أن يقال:
1 - لم قال إن أقل الحيض والنفاس لا حد له؟.
2 - وهل ذلك على الإطلاق أو التقييد؟.
3 - ولم قال إن أكثر الحيض خمسة عشر يومًا؟.
4 - ولم قال أكثر النفاس ستون يومًا؟.
5 - ولم نفى الحد عن أكثر الاستحاضة وأقلها؟.
6 - وما معنى قوله لا بد من طهر يفصل بين الحيضتين؟.
__________
(1) أخرجه البخاري. فتح الباري ج 6. ومسلم ج 5 ص 219. وأبو داود. مختصر المنذري ج 3 ص 415 وأحمد ج 3 ص 15.
(2) سورة الرحمان، الآية: 64.
(3) سورة المدبر، الآية: 21.
(4) أكثرها -الغاني-.

(1/333)


7 - ولم جعل أقله خمسة عشر يومًا؟.
8 - وما معنى قوله على الظاهر من المذهب؟.
9 - ولم نفى الحد عن أكثره؟.

فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: أما أقل الحيض فاختلف الناس فيه. فعندنا أن الدفعة من الدم حيض. وقال الشافعي أقل الحيض يوم وليلة.
وقال أبو حنيفة أقله ثلاثة أيام. ودليلنا قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ في الْمَحِيضِ} (1). فأطلق الاسم. والاعتزال واجب في قليله من غير تحديد. فدل على أن قليله حيض. ولأنها مأمورة بترك الصلاة والصوم (2) عند ظهوره. فلو لم يتحقق أنه حيض لما أمرت بترك الصلاة في مشكوك فيه، هل يتمادى إلى الحد الذي حدوه فيكون حيضًا؟ أو ينقطع قبله فلا يكون حيضًا؛ وهذا يوضح ما قلناه من أنه لا حد لأقله أيضًا (3) *وحكم النفاس في ذلك كحكمه. فلهذا قال لا حد لأقله أيضًا (4) *.

والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: إنما نفينا التحديد فيما يمنع الصلاة. ويسقط الصوم. وأما الاعتداد به من الطلاق والاستبراء به، فإنا (5) لا نرى الدفعة تكفي في ذلك. وهل يحد ما يكفي في ذلك أم لا؟ المشهور نفي التحديد والرجوع إلى ما يكون في العادة حيضة. وقال بعض أصحابنا أقل الحيض ثلاثة أيام. وقال بعضهم أقله خمسة أيام. فعلى هذين القولين يكون ما يكفي (6) في العدة والاستبراء محدودًا بما حده (7) به هؤلاء. فقد وضح أن ما قاله القاضي أبو محمَّد ليس على الإطلاق. وقد قال أبو الفرج: الدفعة
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 222.
(2) ساقطة من -و-.
(3) ساقطة من -و-ق-.
(4) ما بين النجمين ساقط من -ح-.
(5) فإنه لا يرى -ق-ح-.
(6) أقل ما يكفي -و-.
(7) حد -ح-.

(1/334)


حيض، وليست بحيضة. وإنما أشار بهذا القول لما قلناه من افتراق حكم العدة ومنع الصلاة.
والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: أما أكثر الحيض فإنه خمسة عشر يومًا. وقال أبو حنيفة أكثره عشرة أيام. ودليلنا وصفه - صلى الله عليه وسلم - المرأة بأنها تترك الصلاة نصف دهرها (1). فلو كان أكثر الحيض أقل من خمسة عشر يومًا لم تكن تاركة للصلاة إلا أقل من نصف دهرها فدل ذلك على صحة ما قلناه.
والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: أما أكثر النفاس فاختلف فيه. هل هو محدود أم لا؟ فروي عن مالك ترك التحديد. والرجوع إلى عادات النساء في ذلك. وروي عنه التحديد، وبه قال أبو حنيفة. فحده مالك بستين يومًا.
وحده أبو حنيفة بأربعين يومًا. وقد اتفق المحددون على اعتباره بمقدار أكثر في أربع حيضات. فلما كان أكثر الحيض عند مالك خمسة عشر يومًا حده بستين يومًا لأنها نهاية أكثر في أربع حيضات. ولما كان أكثر الحيض عند أبي حنيفة عشرة أيام حده بأربعين يومًا لأنه مقدار الأربع كما بيناه.

والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: إنما نفى التحديد عن دم الاستحاضة؛ لأنه دم خارج عن المجرى الطبيعي المعتاد. وهو دم مرض وعلة.
والأمراض لا تحد بزمن بل تطول وتقصر وتشتد وتضعف على قدر السبب الباعث لها. والمزاج، والقوة، والتدبير الصالح أو الفاسد. وهذا كله يمنع التحديد لكن يعتبر في أيام الاستحاضة أن تبلغ مبلغًا يكون فاصلًا بين الدمين.
وتحديد ذلك والكلام عليه يذكر بعد هذا في موضعه إن شاء الله.

والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: أما معنى قوله: ولا بد من طهر يفصل بين الحيضتين. فإنه يريد بذلك أن المرأة إذا رأت الدم ثم طهرت (2) منه،
__________
(1) في الأسرار المرفوعة: تمكث إحداكن شطر عمرها لا تصلي. قال أبو منده: لا يثبت.
وقال ابن الجوزي: لا يعرف. وقال النووي: باطل. وقال البيهقي: تطلبته فلم أجد له إسنادًا والحاصل لا أصل له بهذا اللفظ. الأسرار المرفوعة، ص 165 - 166.
(2) تطهرت -و-.

(1/335)


ورأت بعد طهرها بأيام دمًا آخر، فهل يكون هذا الدم الثاني حيضة مستأنفة يعتبر فيها خمسة عشر يومًا إن تمادى بها الدم؟ أو تكون مضافة إلى الحيضة الأولى فيحسب من الدمين جميعًا خمسة عشر يومًا، وتقدر أيام الطهر كأنها لم تكن؟ هذا يفتقر فيه إلى معرفة أيام الطهر الفاصلة بين الدمين. هل بلغت إلى ما يحد به أقل الطهر أم لا؛ فإن بلغت لذلك، كان الدم الثاني حيضة مستأنفة. وإن لم تبلغ ذلك كان الدم الثاني كأنه بعض حيضة وأولها ما سبق من الحيض قبل أيام الطهر. فيكون فائدة هذا اعتبار الخمسة عشر يومًا التي هي أكثر أيام الحيض أو اعتبار قدر العادة في الحيض. هل يكون مبدأ (1) ذلك، مبدأ الدم الأول أو الدم الثاني؟ يعتبر في ذلك ما قلناه من كون أيام الطهر فاصلة أم لا؟.

والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: إنما جعل أقله (2) خمسة عشر يومًا. لوصفه - صلى الله عليه وسلم - المرأة أنها تترك الصلاة نصف دهرها، فلا (3) يمكن أن يكون وصفها بالأقل من مدة الحيض والطهر. لأن اليوم الواحد إذا حاضت فيه تركت الصلاة. وليس اليوم نصف الشهر ولا يمكن أن يكون وصفها بالأكثر (4) فيهما؛ لأن الطهر قد يطول بها شهرًا فلا تكون تاركة للصلاة نصف دهرها. ولأجل هذا لا يمكن أن يكون وصفها بأكثر في الطهر والأقل في الحيض, لأن أكثر الطهر لا يحد لما (5) بيناه فلم يبق من التقسيم العقلي سوى وصفها بأكثر الحيض، وأقل الطهر. وهذا يوجب كون أقل الطهر خمسة عشر يومًا.
وقد جعل الله سبحانه عدة المطلقة التي تحيض ثلاثة أقرؤ وجعل عوضًا عن ذلك في اليائسة ثلاثة أشهر، لكون كل شهر منها بدلًا من أكثر الحيض وأقل الطهر. إذ لا يمكن أن يكون عن أكثرهما لما قدمناه ويعاد ما ذكرناه من
__________
(1) مبتدأ -و-.
(2) أكثره في: والمناسب للسؤال هو أقله. ويصح المعنى عليهما. باعتبار ضمير أقله يعود على الطهر، وضمير أكثره يعود على الحيض.
(3) ولا يمكن -ق-.
(4) بالاقل -ق-.
(5) كما -و-ق-.

(1/336)


التقسيم حتى لا يصح إلا ما قلناه.
والجواب عن السؤال الثامن: أن يقال: إنما قال على الظاهر من المذهب إشارة إلى الاختلاف في ذلك. وقد اختلف فيه هل هو محدود أو لا؟ فقيل ليس بمحدود بل يرجع إلى ما يكون طهرًا في العادة. وقيل بل (1) هو محدود. واختلف المحددون في المبلغ: فقيل خمسة عشر يومًا وهو الذي ذكره القاضي أبو محمَّد. وقيل عشرة. وقيل ثمانية أيام. وقيل خمسة أيام. ولا يكاد يتحرر لهذه الأقاويل توجيه يعتمد عليه ويسلم من المناقضة سوى من حده بخمسة عشر يومًا. فإنا قد ذكرنا توجيهه. ولعل الآخرين حوموا حول العوائد التي قال بها من نفى التحديد. فحدده كل إنسان منهم بما قدر أنه عادة.
والجواب عن السؤال التاسع: أن يقال: أما نفي التحديد عن أكثر الطهر فإنه يحال تصحيحه على المشاهدة لأنا نعاين من النساء من تقيم طاهرًا أشهرًا.
ولا يمكن تحديد ذلك لاختلافهن فيه. والقول في هذا أيضًا هو القول الذي قدمناه في نفي التحديد عن دم الاستحاضة. لأن خروج الدم زائدًا (2) على أيام العادة واحتباسه عن أيام العادة كمرض من الأمراض. والأمراض لا تحد زمانها لاختلاف الأسباب الباعثة لها كما (3) قدمناه، وهذا واضح.

قال القاضي رحمه الله تعالى: والحُيّضُ (4) ضربان: مبتدأة ومعتادة.
فالمبتدأة تترك الصلاة لرؤية أول دم تراه إلى انقطاعه، وذلك إلى تمام خمسة عشر يومًا، أو مدة أيام لِدَاتها. على اختلاف الرواية. فإن زاد على ذلك، فإن (5) اعتبرنا الخمسة عشر يومًا اغتسلت وصلّت (6) وكانت مستحاضة. وإذا اعتبرنا أيام لداتها استظهرت بثلاثة أيام ما لم تجاوز خمسة عشر يومًا. وفي المعتادة
__________
(1) بل ساقطة -و-.
(2) زائد -و-ح-.
(3) لما -و-.
(4) والحائض -الغاني-.
(5) فإذا -غ-ق-.
(6) وصامت -الغاني-.

(1/337)


روايتان: إحداهم ابن اؤها على عادتها وزيادة ثلاثة أيام، والأخرى جلوسها إلى آخر الحيض، ثم يعملان فيما بعد على التمييز، إن كانتا (1) من أهله. فإن عدمتا التمييز صلتا أبدًا ولم يعتبرا بعادة (2).

قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل تسعة أسئلة منها أن يقال:
1 - هل يعتبر كون المبتدأة في سن من تحيض أم لا؟.
2 - وهل يعتبر في المعتادة ذلك؟.
3 - ولم قال بالاقتصار على خمسة عشر يومًا؟.
4 - ولم قال بالاقتصار على أيام لداتها؟.
5 - ولم نفى الاستظهار بعد خمسة عشر يومًا؟.
6 - ولم أثبته بعد أيام لداتها؟.
7 - ولم حده بثلاثة أيام؟.
8 - ولم اختلف القول في المعتادة؟.
9 - ولم عملا على التمييز ولم يعتبرا بعادة؟ (3).

فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: أما المبتدأة فإنها التي جاءها الدم المبتدأ الذي لم يتقدمه دم قبله. ويعتبر فيه أن تكون في سن من يجيئها الحيض. فإذا جاءها دم وهي من الصغر بحيث لا يمكن أن تحيض، فلا اعتبار بهذا الدم. وهو دم علة وفساد وقد تقدم الكلام على (4) أن هذا لا يعتبر به.

والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: أن المعتادة هي التي تكرر عليها دم الحيض واعتادته. فإن جاءها الدم، وهي من الشيخ والهرم، بحيث لا يمكن أن تحيض فهل يعتبر بهذا الدم، ويكون مانعًا من الصلاة والصوم أم لا؟ فيه قولان: فمن لم يعتبر به رآه كدم الصغيرة وقد تقدم الكلام عليه. ويعضد ما قاله بأن
__________
(1) كانت -الغاني-.
(2) ولم تعتبر العادة -غ-. ولم تعتبر بعادة -و-.
(3) لعادة -ح-ق-.
(4) على ساقطة -و-.

(1/338)


المذهب اتفق على نفي الاعتداد به. فلو كان حيضًا لاعتبر في العدة. وإذا (1) قلنا أنه لا يمنع الصلاة، فهل عليها غسل إذا انقطع؟ فيه قولان: فمن نفى الغسل رآه كدم الجرح. ومن أثبته فعلى جهة الاحتياط.

والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: قد قدمنا أن أكثر الحيض خمسة عشر يومًا. وذكرنا الدليل عليه. فأغنى عن إعادته. فإذا ثبت أن أكثره خمسة عشر يومًا، وكانت التي رأت الدم قد منعها الشرع من الصوم والصلاة فكل ما رأته دم حيض، حتى ينقل عنه ناقل. ولا ناقل يتحقق إلا بلوغها إلى أمد لا يمكن أن ينتهي الحيض إليه، وذلك خمسة عشر يومًا.

والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: أما لداتها فهن أترابها وأقرانها، فإنما اعتبر في دمها بلوغها إلى دم أمثالها, لأن الأمور الطبيعيات يستوي فيه ابن ات آدم مع تساوي الأسباب العامة. هذا هو الغالب المعلوم في العادة.
كاستوائهن في النوم واليقظة واللذة والألم. وإذا كان ذلك كذلك، غلب على الظن عند بلوغها في الحيض مبلغ أمثالها أن الزيادة على ذلك خروج عن الأمر الطبيعي، ولحوق بالعلل والأمراض. وذلك يوجب الحكم يكون الزائد على أيام اللدات دم استحاضة قطعًا أو احتياطًا (2). فمنهم من حكم يكون هذا الدم الزائد على أيام اللدات دم استحاضة قطعًا. ومنهم من حكم به احتياطًا.
وتظهر ثمرة الخلاف في مسائل منها جواز وطئها. فوقع في الموازية جوازه. وهذ ابن اء على أنها مستحاضة قطعًا. وقال بعض أصحاب مالك: تصلي وتصوم ولا توطأ. فإن انقطع الدم عند الخمسة عشر أشعر بانتقال عادتها في المحيض. وإن زاد على خمسة عشر تحققت الاستحاضته وقفت الصوم والصلاة الموقعين ما بين أيام لداتها والخمسة عشر يومًا. وهذ ابن اء على أنها مستحاضة احتياطًا.
ومن ثمرة الاختلاف في ذلك قضاء الصوم والصلاة فإن هؤلاء أمروا
__________
(1) إن -و-.
(2) قطعًا أو احتياطًا ساقطة من -و-.

(1/339)


بفضائها، كما حكيناه عنهم. ومن يراها مستحاضة قطعًا لا يأمرها بالقضاء.
ومن ثمرة الاختلاف في ذلك الحكم في اغتسالها. فقد قال ابن الجهم تغتسل عند الخمسة عشر يومًا غسلًا هو الواجب عليها. ولو تركت ما أمرناها به من الصلاة لم تقضها وهذ ابن اء منه على أنها مستحاضة احتياطًا. وقد عبر بعضهم بناء على هذه الطريقة بأن الغسل عند انقضاء أيام اللدات مستحب، وعنوإنقضاء الخمسة عشر يومًا واجب. وهذه العبارة يجب عندي أن تحقق. لئلا تغلط من لا دربة له بالحقائق، فيتوهم أن الغسل مستحب فلا تأثم إن صلت بغير غسل. لأن من ترك مستحبًا لم يأثم. وليس الأمر كذلك. بل إن صلت بغير غسل أثمت بإجماع لأنها حائض صلت ولم تغتسل. والصلاة وإن كانت عند هؤلاء غير واجبة فالطهر لها واجب على من أراد الشروع فيها. وهذا كصلاة النافلة، هي غير واجبة. والوضوء واجب على من أراد الشروع فيها ولعل معنى قول هؤلاء أن الغسل مستحب، أنها لو تركته لتركها الصلاة لم تأثم. فهذا الإطلاق يجب أن يحقق هكذا. وأما من حكم بأنها مستحاضة قطعًا فلا ريب عنده في وجوب الغسل، لاعتقاده وجوب الصلاة عليها.
ومن ثمرة الخلاف في ذلك أنها إذا وجبت عليها عدة كان مبدأ الطهر الذي هو عدتها، عند انقضاء أيام لداتها، عند من رآها مستحاضة قطعًا.
ومبدؤه عند من رآها مستحاضة احتياطًا، عند ذهاب الخمسة عشر يومًا. ويظهر عندي فائدة ذلك في طلاقها حينئذ. هل يجبر الزوج فيه على الرجعة إذا كان الطلاق رجعيًا؟ فمن رآه استحاضة محققة لم يجبره على الرجعة. ومن جعله استحاضة على جهة الاحتياط لم يجعله طهرًا فيجبره على الرجعة.

والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: أما الاستظهار بعد خمسة عشر يومًا (1) فالمشهور عندنا نفيه. لأنا (2) قد أقمنا الدليل على أنه أكثر مدة الحيض. وذلك يفيد كون الزيادة عليه استحاضة. وإذا تحققنا كونه استحاضة فلا معنى للاستظهار. وقد قيل تستظهر اليوم واليومين. وحكي عن ابن نافع أنها
__________
(1) يومًا ساقطة -ح-.
(2) لأنه -و-.

(1/340)


تستظهر بثلاثة أيام. هكذا نقله عنه ابن حارث وبعض أشياخي. وأنكر بعض الأشياخ أن يكون ابن نافع حوإلاستظهار بحد. قال وإنما ذكر عنه أنه قال: تستظهر. ولعله أراد باليومين. لأن من الناس من قال أن أكثر الحيض سبعة عشر يومًا. ولم يقل أحد بالزيادة على ذلك فلا معنى لإثبات الاستظهار في أمد اتفق على أنه لا يبلغ أكثر الحيض إليه.
والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: اختلف في الاستظهار فقيل بإثباته. وقيل بنفيه. فوجه إثباته أن أكثر الحيض قد قصر هذا الدم عنه. والدم ربما زاد تارة ونقص أخرى، فوجب الاستظهار فيه لاختلاف حاله. لئلا تكون الزيادة جارية على ما عهد من إطلاقه (1). ووجه نفيه أنا إذا أمرناها بالاقتصار على أيام لداتها أو أمرنا المعتادة بالرجوع إلى العادة غلب على الظن أن ما زاد على ذلك ليس بحيض. فوجب أن يحتاط للصوم والصلاة. والاحتياط ينافي ثبوت (2) الاستظهار.
والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: إنما حده بثلاثة أيام لما وقع في الحديث: واستظهري بثلاث (3). قال أصحابنا ولأنه خارج من البدن يفتقر إلى تمييزه. فاقتصر في التمييز على ثلاثة كما اقتصر في تمييز لبن التصرية على ثلاثة.

والجواب عن السؤال الثامن: أن يقال: أما الاختلاف في المعتادة فتوجيهه قد مر فيما تقدم لما تكلمنا عن أكثر الحيض، وعلى الرجوع إلى العوائد. لكن القائلون بالاستظهار ها هنا يختلفون. هل تستظهر المعتادة على أكثر عادتها لأنها لو استظهرت على أقلها لأمكن ألا تبلغ بالاستظهار زيادة على الأكثر من عادتها فيبطل الاستظهار، أو تستظهر على أقل عادتها احتياطًا للصلاة؟ بين القائلين بالاستظهار في ذلك اختلاف ووجهه هذا الذي أشرنا إليه.

والجواب عن السؤال التاسع: أن يقال: إذا تمادى الدم بالمرأة وحكم
__________
(1) اختلافه في -و-.
(2) والاحتياط في ثبوت -و-.
(3) هو حديث ابنة مرشد الأنصارية أنه قال: إذا رأيت ذلك فامكثي ثلاثًا. البيهقي ج 1 ص 330. والحديث ضعيف. انظر الهداية ج 2 ص 41 - 44.

(1/341)


باستحاضتها فإنها تبقى عند مالك على هذا الحكم ما لم ينتقل الدم عن كيفية دم الاستحاضة إلى كيفية دم الحيض. فإنه إن انتقلت كيفيته إلى دم الحيض. وقد مضى من أيام الاستحاضة مبلغ أقل الطهر حكم بكونها حائضًا. وإن تغير دمها إلى دم الحيض قبل مضي أقل الطهر فلا اعتبار بهذا التغير. قال أبو حنيفة إنما تعتبر المستحاضة أيام عادتها من كل شهر فيحكم فيه بكونها حائضًا. ولم يعتبر التمييز. وقال الشافعي يعتبر التمييز في المميزة، وتعتبر الأيام في غير المميزة.
ودليلنا أنه - صلى الله عليه وسلم - وصف دم الحيض بأنه أسود ثخين (1). وهذا يقتضي اعتبار هذا الوصف. فمتى حصل، حكم بأنه حيض، ما لم يمنع منه مانع. وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة (2). فمحمله عندنا على جنس الحيض لا على أيام الحيض، بدليل ما ذكرناه. فإن تمادى بالمستحاضة الحيض فهل تستظهر على أيام عادتها؟ فيه اختلاف بين من قال بالاستظهار. فمن أثبته قاس الثانية على الحيضة الأولى التي قبل الاستحاضة ومن نفى الاستظهار رأى أن الحيضة الثانية لما تقدمتها استحاضة حمل ما زاد على أيام العادة على الاستحاضة السابقة ورد الزائد إلى أصل تقدم وهو الاستحاضة بخلاف الحيضة الأولى التي لم يتقدمها أصل من الاستحاضة يرد هذا الدم الزائد إليه.

قال القاضي رحمه الله: وإذا تقطعت (3) أيام الحيض والنفاس وجب التلفيق إلى أن تكمل الأيام المعتبرة في الجلوس ما لم يتخللها طهر كامل، فيكون ما بعده حيضًا مؤتنفُ ا. والصفرة والكدرة كالدم الأحمر والأسود. والحامل تحيض (4). ولا تمنع الاستحاضة شيئًا يمنعه الحيض. وللطهر علامتان. الجفوف والقصة البيضاء. وإذا طهرت الحائض لم توطأ إلا بعد الغسل.
__________
(1) رواه أبو داود عن عروة بن الزبير عن فاطمة بنت أبي حبيش ولفظه إذا كان دم الحيضة فإنه دم أسود يعرف. وطعن في سنده ابن القطان وصححه الشيخ شاكر. تهذيب السنن لأبي داود ج 1 ص 682. كما رواه النسائي ج 6 ص 185. كما روي أبو داود عن مكحول النساء لا يخفى عنهن الحيضة أن دمها أسود غليظ. جمع الفوائد ج 1 ص 78.
(2) رواه البخاري: الفتح ج 1 ص 445. ومسلم إكمال الاكمال ج 2 ص 101. كما رواه أبو داود ورواه الموطأ بلفظ فاترك الصلاة. الزرقاني ج 1 ص 109.
(3) انقطعت في جميع النسخ ما عدا الغاني.
(4) لا تحيض -غ-.

(1/342)


قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل ستة أسئلة منها أن يقال:
1 - هل تلفق أيام الطهر كما تلفق أيام الحيض؟.
2 - ولم جعل الصفرة والكدرة كالدم؟.
3 - وما الدليل على أن الحامل تحيض؟.
4 - وما الجفوف وما القصة؟.
5 - وهل ينوب أحدهما عن الآخر؟.
6 - وما الدليل على أن الحائض لا توطأ إلا بعد الغسل؟.

فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: اتفق المذهب على أن أيام الدم إذا تقطعت لفقت. واختلفوا في تلفيق أيام الطهر فيمن كانت تحيض يومًا وتطهر يومًا. فالمشهور من المذهب نفي الاعتبار بأيام الطهر وأنها مستحاضة لأنه يتلفق من دمها ما يزيد على أكثر الحيض من غير أن يفصل بين الدماء ما يكون طهرًا.
فوجب كونها مستحاضة، لأنه قد يلفق من أيام الدم خمسة عشر يومًا، وذلك مبلغ أكثر الحيض. وتلفق من أيام الطهر خمسة عشر يومًا وذلك أقل أيام الطهر على مذهب بعض أصحابنا. فقد اشتمل الشهر على أكثر أيام الحيض وأقل أيام الطهر. ووصف النبي - صلى الله عليه وسلم - المرأة، بأنها تترك الصلاة نصف دهرها وهذا يقتضي كونها حائضًا في هذه الخمسة عشر يومًا. واختلف المتأخرون في جواز طلاقها في أيام طهرها على المذهب المشهور الذي لا، يلفق أيام الطهر. فمنعه أبو إسحاق وأجبر على الرجعة فيه إن وقع. واعتل بأن فيه تطويلًا للعدة وذلك منهي عنه. وأجازه غيره من الأشياخ واعتل بأن للزوج الطلاق في الطهر. وقد لا تحيض بعد اليوم الذي طلقها فيه. ولو حاضت لكان الحيض أمرًا طرأ من غير صنع المخلوق فلم يتوجه عليه النهي.

والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: الصفرة والكدرة والغبرة عندنا حكمها حكم الحيض، إذا لم تر عقيب الطهر. وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي.
وقال أبو يوسف لا يكون حكمها حكم الحيض إلا أن يتقدمه دم يوم وليلة.
وقال بعض الناس لا يكون حيضًا إلا أن تراه المعتادة في أيام العادة.

(1/343)


ودليلنا قول عائشة لما سئلت عن الصفرة لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء (1). وهي أعرف الناس بهذا المعنى وقد أجرت عليها حكم الحيض.
وأما إن رأت ذلك عقيب طهرها من المحيض ولم يمض من الزمن ما يكون طهرًا فقد قال ابن الماجشون: إذا رأت المرأة عقيب طهرها قطرة دم أو كالغسالة فإنه لا يجب عليها الغسل منه. وإنما يجب عليها الوضوء. ووجه هذا قول أم عطية كما لا نعد الصفرة والكدرة بعد الطهر شيئًا (2).
وقد اختلف في اسم الترية (3). فعند ابن الماجشون أنها القطرة أو الغسالة التي ذكرنا حكمها عنده. وقيل هي دم متغير دون الصفرة. وقيل هي الدفعة من الدم لا يتصل بها ما يكون حيضًا.

والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: الحامل تحيض عندنا. وقال أبو حنيفة الدم الذي تراه الحامل ليس بحيض. وهو دم علة وفساد. وقال الداودي لو أخذ فيها بالأحوط، فتصلي وتصوم. ولا يأتيها زوجها لكان حسنًا. وقد أشار ابن القاسم إلى قريب مما قاله الداودي. فقال في المطلقة إذا حاضت ثم أتت بولد، لو أعلم أنه حيض (4) مستقيم لرجمتها. وهذه إشارة إلى التشكك فيه. ودليلنا قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى} (5). ولم يفرق بين حائل وحامل.
وقد اضطرب المذهب عندنا في حكم حيضتها فقيل خمسة عشر يومًا، كما قيل في الحائل. وقيل قدر عادتها ولم يأمر بالاستظهار. وأمر به أشهب.
__________
(1) البيضاء ساقطة -و-.
(2) هو حديث أم عطية وهو حديث صحيح. انظر الهداية ج 1 ص 51.
(3) الترية = الخفي: وهو أقل من الصفرة وقيل هو الشيء الخفي اليسير من الصفرة أو الكدرة تراها المرأة بعوإلاغتسال من الحيض ووزنها تفعلة. لسان العرب ج 7 ص 77.
(4) سقطت من النسخة الصفحة التي ينتظم بها الكلام إذ جاء في ص 43 الكلام عن الاشتقاق اللغوي للصلاة: وإن كان في أصل اللغة ... وسنبين موقع هذا الكلام من الشرح.
(5) سورة البقرة، الآية: 222.

(1/344)


واختلفت عنه رواية المدونة. هل يأمر بالاستظهار بشرط أن تستريب أو بشرط ألا تستريب؟ فالاستبراء عند بعضهم أن يتأخر عن وقته، أو يزيد، أو ينقص في عدده. وعند بعضهم أن يرتفع في أول العمل لا غير. لأن الزيادة والنقصان قد تعرضر للحائل. وقيل بالرجوع إلى الاجتهاد من غير تحديد. وقيل بالرجوع إليه مع التحديد في الثلاثة أشهر ونحوها بخمسة عشر يومًا. وفيما بعد ستة أشهر اختلف هؤلاء. فقال بعضهم: عشرون يومًا. وقال بعضهم ثلاثون يومًا. وقيل الواجب عليها أن تضعف أيام عادتها في الشهر الثاني. وفي الشهر الثالث تثلث عادتها. وفي الرابع تربعه. وفي الخامس تخمسه هكذا إلى آخر أشهر العمل.
واختلف هؤلاء إن زاد هذا التضعيف على ستين يومًا، هل يسقط الزايد أم يثبت؟ واختلف أيضًا هؤلاء في الاستظهار في حيضة أول شهر (1) خاصة. فأمر به بعضهم ولم يأمر به بعضهم.
هذه جملة الأقو الذي حيض الحامل. وهذا اضطراب شديد من أصحابنا. وبعض أشياخنا يحمل هذا الاختلاف على من انجلت عليها عادتها في أيام كونها حائلًا.
وسبب هذا الاضطراب الاختلاف في أصل المسألة. هل *تحيض الحامل أو لا؟ وكون* (2) العمل في غالب الحال حابسًا للدم. ثم إذا اندفع عند الوضع اندفع منه المقدار الكثير الذي قد يظن أنه هو المحتبس. فإذا اندفع في أثناء شهور العمل وقع الإشكال. وصار بعضهم إلى التضعيف، لظنه أن ما احتبس في كل شهر اندفع. ولا يمكن توجيه هذه الأقوال على التحقيق إلا بهذه الطريقة التي أشرنا إليها.

والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: القصة لفظة مستعارة استعيرت من الجير (3) المسمى بهذا الاسم. شبهت به في بياضها فسميت بذلك. وقد
__________
(1) الشهر -ق-.
(2) ما بين النجمين ساقط -ق-.
(3) هكذا في جميع النسخ. وفي اللسان: القَصة. والقِصة. والقص الجنة. لغة حجازية.
وقيل الحجارة من الجنة - لسان العرب ج 7 ص 76.

(1/345)


مثلها مالك مرة بالبول ومرة بالمني.
والجفوف انقطاع رطوبة الدم الذي من الرحم، فيجف الرحم لذلك.
ويختبر بأن يدخل في الرحم ما يدخل، ثم يخرج (1) ولا رطوبة من ذلك عليه.
والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: القصة والجفوف كلاهما علامتان لزوال الحيض. فمن اعتاد من النساء إحدى العلامتين عول عليها إذا وجدها. فإن وجدت صاحبتها فهل يعول عليها أم لا؟ في ذلك ثلاثة أقوال.
فذهب ابن القاسم إلى أن القصة أبلغ في الدلالة على انقطاع الدم من الجفوف، فتطهر معتادة الجفوف عنده بالقصة. لأنها وجدت ما هو أبلغ. ولا تطهير معتادة القصة بالجفوف لأنها تترك عادتها لما هو أضعف في الدلالة. والأخرى تركتها (2) لما هو أبلغ في الدلالة.
وقال ابن عبد الحكم بعكس هذا المذهب. ورأى أن الجفوف أبلغ في الدلالة فتطهر معتادة القصة به. ولا تطهير معتادته بالقصة. وذهب الداودي والقاضي وأبو محمَّد عبد الوهاب إلى أن كل واحدة من العلامتين تنوب عن الأخرى في الدلالة وقال ابن عبد الحكم بعكس هذا المذهب ورأى أن الجفوف أبلغ في الدلالة فتطهر معتادة القصة في حق من اعتادتها أو لم تعتدها.
فوجه قول ابن القاسم أن الجفوف قد يعرض في أثناء الحيض لعارض يعرض. فلو كان دلالة بالغة لما عرض في أثناء الحيض.
ووجه قول ابن عبد الحكم أن القصة هي مما يزجيها الرحم وتدفعها (3) الطباع. ولذلك قد يستشعر معه أن الطباع لم ينقطع دفعها. وهذا يوجب أن يكون أخفض رتبة من الجفوف الذي يعلم به عدم الدم حسًّا.
ووجه ما قاله الداودي والقاضي أنهما رأيا أن العادة جرت بأن كل واحدة
__________
(1) ثم يخرج ساقطة -ح-.
(2) تتركها -ق-.
(3) وتدفعه -ح-ق-.

(1/346)


منهما علامة في انقطاع الدم، فاستوى في ذلك من اعتاد العلامة ومن لم يعتدها وهذا في المعتادة.
وأما المبتدأة فقد وافق ابن القاسم على أنها إذا رأت الجفوف طهرت.
قال بعضهم: وهذا منه جنوح إلى طريقة ابن عبد الحكم. وعندي أن الأمر ليس كما قدره هذا المتعقب على ابن القاسم لأن المعتادة خروجها عن عادتها يريب، فلا تنتقل عن العادة إلى ما هو أضعف. فإن وجدت ما هو أقوى وجب إطراح عادتها. والمبتدأة قد رأت الجفوف وهو علامة في نفسه. ولم تسترب لمفارقة عادة. وشتان بهن علامة استريبت، وعلامة لم تسترب. وإذا أمكن أن ينح وابن القاسم هذا النحو، فلا وجه لأن يضاف إليه التناقض أو الرجوع عن مذهبه.
وهذا واضح.

والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: اختلف الناس في وطء الحائض إذا رأت الطهر، فمنعه مالك. وقال ابن بكير من أصحابنا: بالمنع منه استحبابًا لا إيجابًا. وقال أبو حنيفة: إن رأت الطهر بعد أكثر الحيض الذي هو عنده عشرة أيام حل وطؤها. وإن رأته قبل ذلك لم يحل وطؤها إلا بالغسل. ويتحقق (1) وجوب الصلاة عليها. ووجوب الصلاة يتحقق بآخر وقت الصلاة عنده. ودليلنا قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله} (2). وقد اختلفت القراءة في يطهرن فقرئ بالتشديد والتخفيف. والظاهر أن التشديد يفيد الغسل والتخفيف يفيد زوال الدم. فإن قيل قد يفيد التشديد زوال الدم، قيل صيغة تفعل إنما تستعمل فيما يكتسب بمثل تكلم وتعلم. وزوال الدم لا يكتسب. فإن قيل قد قالوا: تكسر الكوز وتقطع الحبل. والكوز والحبل لا يكتسبان الفعل المضاف إليهما. قيل: هذا مجاز. والأصل في اللسان ما قلناه.
فإذا ثبت هذا قلنا قد وضح (3) أن قوله حتى يطهرن على قراءة التشديد. يفيد منع الوطء قبل الاغتسال. وأما قراءة التخفيف فإن قلنا إن التخفيف يستعمل في
__________
(1) أو -ح-.
(2) سورة البقرة، الآية: 222.
(3) صح -ق-.

(1/347)


اللسان في الاغتس الذيقال: طهرت المرأة إذا اغتسلت، لم يكن بين القراءتين تعارض إذا حملنا يطهرن بالتخفيف على الغسل. وإن سلمنا أن الظاهر في قراءة التخفيف زوال الدم قلنا: هاتان قراءتان هما كآيتين. فكأنه قال في الآية لا تقربوهن حتى يزول الدم. وقال في آية أخرى لا تقربوهن حتى يغتسلن. فذكر غاية وذكر غاية بعدها. فيمنع ما بعد الغاية الأولى بما تضمنته الغاية الثانية، وتصير كآية ثانية زادت حكمًا. ويعضد هذا بقوله فإذا تطهرن. وهذا كلام متعلق بما قبله، تعلق الشرط بالمشروط. ولا شك في حمل هذا الكلام الثاني على الغسل؛ لأنه لم يقرأ إلا مشددًا. والتشديد يفيد الغسل. مع أنه سبحانه ختم الآية بالثناء على المتطهرين، ولا يثنى (1) على المكلف إلا بما يكتسب. وإذا ثبت حمل الكلام الثاني على الغسل، كان دليله أنهن إذا لم يتطهرن فلا تأتوهن، فقد صار دليل هذا الخطاب الثاني يطابق ما اقتضته قراءة التشديد. ويجب النظر في قراءة التخفيف. فيعلم أنها إنما تفيد إباحة الوطء من جهة دليل الخطاب، وأهل الأصول مختلفون في إثباته ونفيه. ولا شك في أن مثبتيه يثبتونه ها هنا. وأما نافوه فبينهم اختلاف فيما عُلق بحرف الغاية. هل ينفي طردًا للأصل أو يثبت لقوة دلالة الغاية على الغاية على أن ما بعدها بخلاف ما قبلها؛ فإن قلن ابن فيه في مثل هذا لم يبق معارض يعارض قراءة التشديد. وإن قلنا بإثباته ها هنا وقلنا أن العرب تقول طهرت المرأة إذا اغتسلت، فقراءة التخفيف يحتمل أن يراد بها الغسل فتحمل عليه. وتكون قراءة التشديد المفيدة للغسل كالمفسرة لهذا الاحتمال الرافعة لهذا الإجمال. وإن قلنا إن الظاهر إفادة قراءة التخفيف لزوال الدم كان ما بعد هذه الغاية مستفاده الإباحة فيه من ناحية دليل الخطاب. وقد عارض هذا التأويل (2) عموم قوله ولا تقربوهن حتى يطهرن على قراءة التشديد.
وعارضه أيضًا دليل قوله فإذا تطهرن فآتوهن لأن دليله (3) أنهن إذا لم يتطهرن لا تأتوهن. فهذان كدليلين تعارضا وترجح أحدهما على الآخر لمطابقة العموم له
__________
(1) ولا يقضى في -ح-.
(2) الدليل -ح-.
(3) دلالة -ق-.

(1/348)


فكان أولى. فإذا كان قوله تعالى فإذا تطهرن فأتوهن متعلقًا بما قبله تعلق الشرط بالمشروط فلا بد من إضمار على قراءة التخفيف لينتظم الكلام مرتبطًا بعضه ببعض فيكون التقدير فلا تقربوهن حتى يطهرن. فإذا طهرن وتطهرن فأتوهن.
وفي هذا كفاية في إثبات الرجوع إلى قراءة التشديد. ومما يرجح به مذهبه من أخذ بقراءة التخفيف أنه يقول أن الله سبحانه ذكر أن المحيض أذى ونبه على أن ذلك علة لتحريم (1) الوطء فيه. فإذا زال الدم وعدم ذلك (2) فقد عدمت علة التحريم. فيجب أن يرتفع التحريم للوطء لارتفاع علته. وأجاب أصحاب قراءة التشديد على هذا بأن العلة قد ترتفع وتخلفها علة أخرى تقتضي إثبات مثل حكمها. كالوطء يمنع لأجل الصوم. فإذا حاضت الصائمة بطل الصوم وحرم الوطء لعلة أخرى وهي الحيض. والحائض وإن ارتفع دمها المانع للوطء فإن حكم حدث الحيض باق. وهو يمنع الوطء بالدليل الذي قدمناه. كما منعه نفس الحيض. فإذا ثبت أن الحائض لا يستباح وطؤها بزوال دم الحيض دون تطهير على ما أفادته قراءة التشديد فما هذا التطهر؟ اختلف الناس فيه على ثلاثة أقوال.
جمهور العلماء على أنه الطهارة الكبرى التي هي غسل جميع الجسد. وصار قوم إلى أنها الطهارة الصغرى التي هي الوضوء. وصار آخرون إلى أنه غسل الفرج، وهؤلاء الصائرون إلى غسل الفرج حملوا الآية على الطهارة من النجاسة. وإنما ينجس الفرج خاصة فوجب قصر هذا الطهر عليه. ورأى آخرون أن الطهارة إذا أطلقت في الشرع فالمراد بها طهارة الحدث فاقتضى الشذوذ من هؤلاء على الطهارة الصغرى. لأنه أدنى ما يقع عليه الاسم العرفي عند أهل الشرع. ورأى الجمهور أن الطهارة الصغرى لا ترفع جميع موانع الحيض بإجماع الأمة. وإذا لم ترفعه فلا معنى لفعلها ولا وجه لحمل الآية عليها (3).
__________
(1) علة تحرم الوطء فيه -ح-.
(2) ذلك ساقطة من -ح-.
(3) كتب ناسخ النسخة -ح- نجز كتاب الطهارة بحمد الله وعونه وصلّى الله على محمَّد نبيه وعلى آله. وسفر في سفر خاص.

(1/349)


كتاب الصلاة

(1/351)


بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله على سيدنا ومولانا محمَّد وسلم

كتاب الصلاة (1)

قال القاضي رحمه الله: الصلاة من أركان الدين ومعالمه ومم ابن ي الإِسلام عليه.
قال الإِمام رضي الله عنه أبو عبد الله المازري: يتعلق بهذا الفصل سؤالان.
منها أن يقال:
1 - ما الصلاة؟.
2 - وما معنى بناء الإِسلام على الصلاة؟.

فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: إن الصلاة في اللغة هي الدعاء. وزعم بعض أصحابنا أن أصل هذه التسمية الإقبال على الشيء واعتماده متقربًا إليه. وإنما سمي الدعاء صلاة لما فيه من هذا المعنى. وسمي وسط الظهر صلا لاعتماد البدن عليه وسمي الفرس الثاني مصليًا لأنه عند صلا السابق (2). وإن قلنا بهذا الاشتقاق، وأن أصل الصلاة الإقبال على الشيء تقربًا إليه فتسمية أهل الشرع الصلاة المعهودة صلاة جار على الاشتهار وغير خارج عن أصل اللغة.
وكل جزء من أجزاء الصلاة وفعل من أفعالها تنطلق عليه التسمية حقيقة على أصل هذا الاشتقاق. لأن الراكع والساجد مقبل على ربه متقرب إليه بفعله.
__________
(1) من أول باب الصلاة إلى قوله لأنها وإن وقعت ص 220 أوراق غير موجودة من النسخة -ح-.
(2) صلا السابق. قال اللحياني: إنما سمي مصليًا لأنه يجيء رأسه على صلا السابق وهو مأخوذ من الصلوين لا محالة. وهما مكتنفا ذنب الفرس فكأنه يأتي ورأسه مع ذلك المكان. لسان العرب ج 14 ص 466.

(1/353)


وإن قلنا إن الصلاة في اللغة الدعاء. وهذا المشهور عند العلماء.
فيقال على هذا، تسمية أهل الشرع الصلاة المعهودة صلاة غير جارية على أصل اللغة. فهل يكون الشرع غير اللغة ها هنا أم لا؟ فاعلم أن هذا سؤال يتكلم عليه أهل الأصول. واختلف فيه الفقهاء والمتكلمون. فمنهم من ذهب إلى أن الشرع لم يغير اللغة في ذلك، وإلى هذا ذهب الأئمة من الأشعرية.
ومنهم من ذهب إلى أن الشرع غير اللغة في ذلك كما غيرها في تسمية الحج والصوم. وإلى هذا ذهب المعتزلة وسموا هذا المعاني بالأسماء الشرعية.
وسبب هذا الاختلاف أن المعتزلة لما رأت انطلاق هذه التسمية على الركوع والسجود وما في أثناء ذلك من قيام وقعود، وذلك ليس بدعاء دل على أن الشرع غير هذه التسمية وأقرها على غير إقرارها في اللغة. لا سيما إن لم يوجب قراءة أم القرآن المشتملة على الدعاء. أو كان المصلي لا يحسن قرانًا ولا ذكرًا.
ولما رأت الأشعرية أن الصلاة مشتملة على الدعاء، لا سيما إن قلنا بإيجاب قراءة أم القرآن المشتملة على الدعاء، رأت أن الشرع لم يغير هذه التسمية وإنما أتى بإضافة أفعال إليها. وأخبر أن الدعاء لا يجزئ دون أن يقع على صفات من استقبال جهة، وإضافة أفعال إليه. فالتسمية جارية على مجراها في اللغة، وإنما أحدث الشرع زيادات وإضافات إليها، وذلك ليس بإزالة التسمية (1) عن قرارها في اللغة. والحق في ذلك يوضحه ضرب مثالين وذكر طرفين. فأقول: من زعم أن الشرع غير هذه التسمية كما يغير اسم الدار والفرس. فيسمي الفرس باسم الدار والدار باسم الفرس فقد باهت. لأن تسمية كل واحد من هذين لا ينطلق على الآخر في اللغة. لا كلية ولا جزئية ولا حقيقة ولا مجازًا. والصلاة المعهودة فيها الدعاء وما يقرب من معناه. ومن زعم أن الشرع لم يغير ذلك، ولا أحدث فيه حديثًا، كما لم يحدث في تسمية الدار دارًا أو الفرس فرسًا حدثًا. فقد أبعد.
لأن الدعاء يسمى في اللغة صلاة على أي جهة وقع مفردًا غير مضاف إلى شيء.
والصلاة المعهودة بخلاف ذلك. فإذا بان أن المسألة خارجة عن هذين الطرفين فلا بد من سلوك الوسط. فنقول قد علم من عادة العرب إطلاق الاسم على
__________
(1) هكذا. والأوضح: للتسمية.

(1/354)


معاني شتى. ثم قصره على بعضها عند كثرة دورانه، والحاجة إلى استعماله.
كما قالوا طبيب لكل عالم. ثم قصروه على من يحسن تدبير الناس بالأدوية.
وقال (1): فقيه لكل عالم ثم قصروه على من يحسن تدبير الناس بالشريعة. فغير بعيد تعارف أهل الشرع على قصر هذه التسمية على بعض الأدعية. وإن كان في أصل اللغة لجميعها (2). ولا يكون القاصر لهذه التسمية مغيرًا للغة ولا ناقلًا لها. لأنه إنما سكت عن استعمال التسمية في معنى. والساكت عن النطق غير مغير للغة ولا ناقل لها. وكذلك أيضًا عرف (3) من عادة العرب تسمية الشيء باسم ما قاربه (4) وتعلق به وكان بينه وبينه ارتباط. وكلما اشتد التعلق بالارتباط كان آكد في وقوع التسمية. وفي القرآن: إني أراني أعصر خمرًا (5). وإنما يعصر العنب وسمي خمرًا لخروج الخمر منه. وكذلك قوله: واسأل القرية (6). وإنما يسأل أهل القرية. ولكن لما بينهما من التعلق عبر عن أهلها باسمها. وإن كان ذلك كذلك. وكانت هذه الإضافات التي أضافها الشرع إلى الدعاء مرتبطة بالدعاء ملازمة له، صح انطلاق التسمية عليها بحكم اللغة. ومن سلك مسلك العرب في تسمية الشيء باسم ما قاربه وتعلق به فلا يقال إنه ناقل للغة ولا مغير لها. وكذلك أيضًا علم من عادة العرب الاستعارة والتشبيه. وقد استعاروا للشجاع أسدًا لما أشبهه في القوة. وللبليد حمارًا لما أشبهه في عدم اللهم.
ومعنى الدعاء ومحصوله وثمرته طلب ما عند الله سبحانه. وكذلك معنى الذكر والسجود ثمرته طلب ما عند الله أيضًا. فتسميته باسم الدعاء الذي هو صلاة غير خارج عن اللغة ولا ناقل لها عن بابها. فإذا حصل في الركوع والسجود التعلق والارتباط، وعادة أهل اللسان إطلاق التسمية عليه، وحصل فيه المعنى والمحصول، وعادة أهل اللسان نقل التسمية إليه علم قطعًا أن إطلاق هذه التسمية غير خارج عن لغة العرب. بل (7) هي لغتهم وتسميتهم. لأنا لا نطلب
__________
(1) هكذا. والأصح وقالوا.
(2) من هنا يتصل الكلام في النسخة -و- بعد السقوط الذي لاحظناه في آخر كتاب الطهارة.
(3) علم -ق-.
(4) قارنه -ق-.
(5) سورة يوسف، الآية: 36.
(6) سورة يوسف، الآية: 82.
(7) هل -و-.

(1/355)


منهم أن يسموا لنا كل شخص بعينه رجلأولا كل نبيذ بعينه خمرًا. وإنما
يؤصلون أصلًا، ويفهم (1) عنهم ضرورة إجرائه في كل ما حدث بعدهم. فالركوع والسجود على الصفة المعهودة مما حدث بعدهم، فاتبع أهل الشرع فيه طريقتهم. وأجروا عليه تسميتهم. فهذا هو الحقال في لا امتراء فيه. وطريقة الأئمة الأشعرية قد وضحت. ولكن بهذا التفصيل قد عمل الشرع في التسمية قصرًا واستعارة. وكلاهما طريقة أهل اللغة فلم يخالفهم ولا غير لغتهم. ولا وجه للغلو بأن يقال لم يعمل الشرع في ذلك عملًا بعد العمل الذي أوضحناه. وهذا العمل الذي عمل الشرع هو الذي غلط المعتزلة ومن تبعهم. ولو حقق النظر لم يبق بين الجميع اختلاف. وفي هذا كفاية.

والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: وأما قوله ومم ابن ي الإِسلام عليه فهو مطابق لقوله - صلى الله عليه وسلم -: بني الإِسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وإقام الصلاة (2). ولكن يجب أن نتكلم ها هنا على الإِسلام ما هو؟ وعلى هذا البناء كيف هو؟ فاعلم أن الإِسلام هو الاستسلام والانقياد، والإيمان شعبة منه. لأن الإيمان هو العلم بالله. والمؤمن مستسلم لله منقاد إليه لعلمه به. فكل إيمان إسلام. وليس كل إسلام إيمانًا. لأن المؤمن مستسلم لإيمانه للأبد. والمنافق قد يستسلم وينقاد للطاعة رهبة وليس في قلبه مثقال ذرة من إيمان. وقد فرق الله سبحانه بينهما فقال: قالت الأعراب آمنا. قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا (3).
فجعلهم مسلمين غير مؤمنين. فإذا ثبت ذلك فسائر الطاعات والعبادات تسمى إسلامًا. لأن المطيع منقاد بعبادته، وطاعته لله سبحانه. وقد أمر الشرع بأن يطاع الله وينقاد إليه في أمور لا تكاد تحصى كثرة، فمنها المعاملات التي هي بين الخلق. ويندرج تحتها النكاح والعتاق والحدود والبياعات والإجارات وغير ذلك من ضروب المعاملات. ومنها العبادة التي لا تعلق لها بالمعاملات بل هي
__________
(1) ويفهمون.
(2) أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وأحمد والطبراني ولفظه عند البخاري بني
الإِسلام على خمس وعند مسلم على خمسة. فتح الباري ج 1 ص 55.
(3) سورة الحجرات، الآية: 14.

(1/356)


بين العبد وبين ربه، كالصلاة والصوم والحج وما أشبه ذلك. وهذه أشرف وأعلى قدرًا لأنها معاملة بين المخلوق والخالق. وتلد معاملات بين الخلق بعضهم لبعض. فلما كانت هذه العبادات المحضة خوطب بها الكل وهي مقصود الشرع. وشرعت ليطلب بها الكل الزلفى. وقد لا يحتاج مسلم للمعاملات، صارت هذه العبادات من هذه الجهة كالأساس للبناء الذي لا قوام له إلا به. ولا ينفع المسلم في الآخرة عند الموازنة لأعماله (1) طاعته في المعاملات وإهماله لهذه العبادات، كما لا يصح بناءٌ بغير أساس. لا سيما وقد ذهب بعض الناس إلى أن مجرد ترك الصلاة كفر. ولا شك أن من كفر لا يصح أن ينبني (2) له عمل. فمن هذه الجهة التي أشرنا إليها، كانت الصلاة وما ذكر معها أن كان بني الإِسلام عليها لما كانت هي المقصود في الشرع والعماد على ما ذكرناه. قال القاضي رحمه الله: وهي في الشرع على أقسام خمسة:
1 - فرض على الأعيان.
2 - وفرض على الكفاية.
3 - وسنة.
4 - وفضيلة.
5 - ونافلة. (3).

قال الشيخ رضي الله عنه يتعلق بهذا الفصل ثلاثة أسئلة. منها أن يقال:
1 - ما فائدة تقييده بقوله في الشرع؟.
2 - وما الفرق بين فرض العين والكفاية؟.
3 - وما الفرق بين السنة والفضيلة والنافلة (4)؟.

فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: إنما قيد بقوله في الشرع لأنا ذكرنا
__________
(1) لأعماله ساقطة -و-.
(2) يبقى -ق-.
(3) نافلة وفضيلة -و-.
(4) النافلة ساقطة -و-.

(1/357)


أن الصلاة في اللغة الدعاء والإقبال على الشيء. وهي في الشرع هذه الأفعال المعهودة فقيد بذكر الشرع حتى يعلم أن التقسيم لما أفادته التسمية العرفية خاصة، وأنه من جهة الشرع، انقسمت إلى هذه الخمسة أقسام.
والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: إذا (1) خوطب المسلمون بأمر ما، فلا يخلو ذلك الخطاب من قسمين:
أحدهما: أن يكون قيام البعض بذلك الأمر يسقط الطلب عن الباقين.
والثاني: أن يكون لا يسقطه.
فإن كان يسقطه فهو المسمى فرض كفاية. والمعنى في ذلك أن الشرع اكتفى بقيام البعض عن فعل الآخرين. وأن الفاعلين كفوا التاركين مؤونة الفعل.
وهذا كخطاب المسلمين بالقضاء والفتيا (2) وتغيير المنكرات. فإن الخطاب متوجه لكل من يصلح له أو يتأتى منه. فإذا قام (3) لذلك من أزاح العلة فاذهب المنكر وقضى بين الخصوم وأرشد المستفتين، سقط الفرض عن الباقين. وإن لم يقم بذلك أحد عصى كل من خوطب به وبقي الفرض متوجهًا على الجميع.
لأن فرض الكفاية متوجه على أصله على الأعيان كما بيناه (4). وإنما يسقط عن بعض، قيام بعض، كما بيناه.
وإن كان قيام البعض لا يسقط الخطاب عن الباقين فهو المسمى فرض أعيان. والمعنى أن الشرع خاطب به كل عين، ولم يجعل فعل بعض يسقط الفعل عن بعض. وهذا كالصلاة والصوم وشبه ذلك (5).

والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: السنة ما رسم ليحتذى به.
فالواجب يسمى سنة على هذا. وهو طريقة من طرق صاحب الشرع. وأصل
__________
(1) إنما -و-.
(2) والفتوى -ق-.
(3) قدم -و-.
(4) بيناه ساقطة -ق-.
(5) وشبهه -ق-.

(1/358)


السنة الطريقة. لكن غلب على السنة الفقهاء إطلاق هذه التسمية على المراسم التي لا يحرم تركها. والواجب يحرم تركه. فلا يطلقون عليه هذه التسمية في غالب محاوراتهم. وقد ذكرنا في كتاب الطهارة من كتابنا هذا تأويل من تأول قول من قال غسل النجاسة سنة على أنه وجب من جهة السنة. وكأن هذا خارج عما ذكرنا ها هنا من غالب عادتهم. وإنما نبهناك عليه لتعرف شذوذه عن عادة الإطلاق عندنا. وقد يعتاد خلاف هذه العادة آخرون. ولا وجه للمناقشة في العبارة.
وكذلك أيضًا يطلق الفقهاء لفظة الرغائب. والواجبات مرغب فيها.
فالاشتقاق يقضي بكونها من الرغائب. لكنهم لا يختلفون في الامتناع من إيقاع هذه التسمية على الواجبات.
وأما النافلة فهي الزيادة وسميت بعض المندوبات نوافل، لكونها زيادة على الفرض. وأصل الاشتقاق يقتضي إطلاق التسمية على سائر المندوبات لكون جميعها زيادة على الفرض. لكنهم لم يستعملوها أيضًا في الجميع.
وكذلك قولهم فضيلة إنما يطلقونها على البعض من المندوبات. وإن كان أخذًا (1) من الفضل (2) فالواجب فيه فضل. وإن كان آخذًا من الفضلة (3) فالمندوبات كلها كالفضلة مع الواجبات. هذا اشتقاق هذه التسميات وإجراؤها على حكم الاشتقاق. ولكنهم اصطلحوا على قصرها على معاني ليتميز كل نوع من صاحبه بمجرد النطق بتسميته. فسموا كل من علا قدره في الشرع من المندوبات. وأكد الشرع أمره وحده وقدره، وأشاده وأشهره سنة كالعيدين والاستسقاء. وسموا ما كان من الطرف الآخر بالعكس من هذا، نافلة. وسموا ما توسط بين هذين الطرفين فضيلة. هذا سر القوم في إطلاق هذه التسميات، وهي مما يكثر جريانها على ألسنة أهل الشرع. وعليها يبنى ما نتكلم عليه بعد هذا إن شاء الله. فيجب الوقوف على حقيقتها.
__________
(1) وإن كان أخذ. هكذا في جميع النسخ والأولى أخذًا بالنصب خبر كان.
(2) من الفضائل -و-.
(3) من الفضيلة -و-.

(1/359)


قال القاضي رحمه الله تعالى: فالفرض على الأعيان الصلوات الخمس التي هي الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة، والفجر. ووجوب الجمعة داخل في وجوب الظهر؛ لأنها بدل منها. إذ لا يجتمع وجوبهما لأنهما يتعاقبان. والفرض على الكفاية، الصلاة على الجنازة.

قال الشيخ رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل سؤالان. منها أن يقال:
1 - ما معنى قوله في الجمعة أنها بدل من الظهر إذ لا يجتمعان في الوجوب بل يتعاقبان؟.
2 - ولم قال إن الصلاة على الجنازة فرض على الكفاية؟.

فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: اختلف الناس في صلاة الجمعة هل هي صلاة الظهر مقصورة أو صلاة غيرها؟ واختلف الناس أيضًا في زوال الشمس يوم الجمعة هل هو سبب في (1) وجوب الظهر وصلاة الجمعة جميعًا أم هو سبب في وجوب (2) صلاة الجمعة خاصة لمن كان من أهلها؟ ومذهبنا ما أشار إليه القاضي أبو محمَّد من أنهما لا يجتمعان في الوجوب. والواجب عندنا صلاة الجمعة لا الظهر. والأولى تأخير الكلام على هذا إلى باب صلاة الجمعة فسنتكلم فيه (3) إن شاء الله على حقيقة هذا الاختلاف وفائدته، ونوضح الحق فيه. وقد مضى لنا القول في تسمية القاضي أبي محمَّد التيمم بدلًا. وتعقب من تعقب عليه ذلك بأن البدل ما جاز فعله مع التمكن من المبدل منه. ولا شك أن المتعقب عليه ذلك، يتعقب عليه تسمية صلاة الجمعة بدلًا عن (4) الظهر. وقوإنفصلنا هنالك عن هذا التعقب. وقد أشار القاضي أبو محمَّد ها هنا إلى معنى مراده بالبدلية. وأنه أراد بها ما حصل بين هاتين الصلاتين من التعاقب. لأن من خوطب بالجمعة سقط عنه الخطاب بالظهر. ومن خوطب بالظهر سقط عنه
__________
(1) في ساقطة -و-.
(2) وجوب ساقطة -ق-.
(3) عليه -و-.
(4) عن -ق-.

(1/360)


الخطاب بالجمعة. فكأن كل واحدة منهما تنوب عن صاحبتها إذا سقطت. وهذه المعاقبة والتعاقب معنى معقول عند أهل العلوم (1) يستعمله المتكلمون والنحاة وأهل العروض. ومراد جميعهم به نحو مما قلناه.

والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: أما قوله إن صلاة الجنازة فرض على الكفاية فهو أحد القولين عندنا وقدمنا معنى فرض الكفاية. وفي المذهب قول آخر إنها سنة. ويحتج من قال بأنها فرض بصلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - على الموتى.
وأفعاله على الوجوب عند بعض أهل الأصول. إلى غير ذلك مما تأَخُّرُ بسطه إلى كتاب الجنائز أولى وأحق.

قال القاضي رحمه الله: والسنة على ضربين: سنة مبتدأة. إما لأوقات وإما لأسباب تفعل عندها. وسنة مشترطة (2) في عبادة غيرها. فالأول هو السنة المفردة (3) وهي خمس:
1 - صلاة الوتر.
2 - وصلاة العيدين.
3 - وصلاة كسوف الشمس (4).
4 - وصلاة الاستسقاء.
5 - واختلف في ركعتي الفجر. فقيل إنهما (5) سنة. وقيل من الرغائب.
والثاني (6) ركعتا الطواف. والركوع عند الإحرام.

*قال الفقيه الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل ثلاثة أسئلة. منها أن يقال:
1 - ما معنى قوله إما لأوقات وإما لأسباب تفعل عندها؟.
2 - ولم قال: إن هذه الخمس سنن؟.
__________
(1) العلم -ق-.
(2) مشتركة -غ-.
(3) المنفردة -غ-.
(4) أما السنن المعلقة بأوقات فصلاة العيدين والوتر والكسوف والاستسقاء -و-.
(5) أنها -الغاني.
(6) والضرب الثاني -الغني.

(1/361)


3 - وما معنى الاختلاف في ركعتي الفجر؟ * (1).

فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: أما السنن *المعلقة بأوقات فصلاة العيدين -والوتر - وركعتا الفجر- إن عدتا في السنن. وأما السنن المعلقة بأسباب فكصلاة الكسوف والاستسقاء* (2). وقد فصل القاضي أبو محمَّد القول في هذا بعد ذلك.

والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: أما الوتر، فالمشهور عندنا أنها سنة. وقال أبو حنيفة إنها واجبة. وليست بفرض بناءً على أصله في أن الواجب غير الفرض. وقال سحنون يجرح تاركها. وقال اصبغ يؤدب (3). وحمل بعض شيوخنا المذهب على قولين في إيجابها، تعلقًا بهذا الذي حكيناه عن سحنون واصبغ. واعتذر بعض الأشياخ عما قاله سحنون، بأنه إنما جرحه بترك الوتر لأن تركها عنوان بسوء حاله، وعلامة على استخفافه بأمور الديانة. ولم يجرحه بأنه ترك واجبًا. والتجريح يكون بما يسقط من المروءة. لأن سقوط المروءة يخرم الثقة بالشاهد. وهذا الاعتذار يمنع أن يكون سحنون يخالف المذهب ويقول بالإيجاب. ولا أحفقالهذا الشيخ اعتذارًا عن اصبغ. والتأديب شديد، والعقوبة إنما تكون على ترك الواجبات. اللهم إلا أن يكون تركه للوتر، وتكرر (4) ذلك منه يؤذن باستخفافه بأمور الديانة. فيعاقبه على استخفافه. فعلى هذا لا يكون يضاف إليه أنه رأي أن أصل الوتر واجب. وقد قال محمَّد بن خويز منداد من استدام ترك السنن فسق. فإن تركها أهل بلد، فإن امتنعوا حوربوا. وقال أيضًا من ترك السنن متهاونًا فسق.
فأما أبو حنيفة فقال بالإيجاب لورود خبر الواحد به. وخبر الواحد يوجب العمل لا العلم. وما كان هكذا سماه واجبًا. ولم يسمه فرضًا. والخبر الوارد
__________
(1) ما بين النجمين ساقط من -و-.
(2) يؤدب تاركها -ق-.
(3) أما السنن المعلقة بأوقات فصلاة العيدين والوتر والكسوف والاستسقاء -و-.
(4) ترك -و-.

(1/362)


عنده بذلك قوله: (من لم يوتر فليس منا) (1). وقوله: (إن الله زادكم صلاة وهي الوتر) (2). والزيادة إنما تكون من جنس المزيد عليه. والمزيد عليه الصلوات الخمس. وإنما يكون الوتر من جنسها إذا كانت واجبة. وأما مالك فاستدل على نفي الوجوب بما استدل به عبادة بن الصامت رضي الله هـ تعالى عنه على إنكار قول من قال بالوجوب بقوله عليه الصلاة والسلام: "خمس صلوات كتبهم الله في اليوم والليلة. فمن وفي بهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة" (3) الحديث. فحصر فرض الصلوات في خمس. وجعل ثمرة الوفاء بهن دخول الجنة. ولو كانت صلاة سادسة واجبة لن يصح هذا الحصر. وقد قال صلى الله عليه وسلم للأعرابي لما سأله عن الصلاة فقال: "خمس صلوات. فقال: هل علي غيرهن؟ فقال: لا .. إلا إن تطوع" (4). وهذا نص في أن لا يجب عليه غيرهن. وأن ما زاد عليهن تطوع. وقد قال الأعرابي: لا أزيد عليهن ولا أنقص منهن. قال - صلى الله عليه وسلم -: "أفلح إن صدق". فوصفه بالفلاح مع إخباره (5) أنه لا يزيد عليهن. فلو كانت الزيادة واجبة لما وصفه بالفلاح. ولأنه - صلى الله عليه وسلم - أوتر على الراحلة (6). والفروض لا تجوز على الرواحل. وهذه أدلة واضحة اقتضت تأويل قوله: من لم يوتر فليس منا. على أن المراد به المبالغة في تأكد الوتر. وأنه ليس منا بمعنى أنه غير
__________
(1) أخرجه أبو داود عن بريدة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: الوتر حق فمن لم يوتر فليس منا. وفي سنده عبد الله بن عبد الله العككي ضعفه بعضهم. جامع الأصول ج 6 ص 42.
(2) أخرجه أحمد في مسند أبي بصرة الغفاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله عَزَّ وَجَلَّ زادكم صحة فصلوها فيما بين صلاة العشاء إلى صلاة الصبح: الوتر - الوتر". ج 6 ص 397 ورواه الطحاوي والطبراني. إرواء الغليل ج 2 ص 158.
(3) رواه مالك. الزرقاني ج 1 ص 290 وأبو داود والنسائي عن عبد الله بن محيريز. جامع الأصول ج 6 ص 45.
(4) رواه مالك والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي. فتح الباري ج 1 ص 114 كتاب الإيمان.
(5) مع أنه أخبره -ق-.
(6) رواه البخاري عن ابن عمر باب الوتر في السفر. فتح الباري ج 3 ص 142. ورواه الترمذي وأحمد.

(1/363)


جار على طريقتنا في إقامة السنن. وأما وصفه الوتر بأنه زيادة فلا يقتضي وجوبها. وإنما سميت النافلة نافلة لأنها زيادة. ولم يقض هذا الاشتقاق وجوب النوافل. والكلام على ما سوى الوتر أخرناه لأبوابه.
والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: قد تقدم البيان على معنى السنة والفضيلة. وأن قصد الفقهاء باختلاف هذه العبارات اختلاف المراتب في الأجور والتحضيض. فإذا تقرر هذا فمن عبر عن ركعتي الفجر بأنهما سنة، رأى أنهما بلغا من مراتب الأجور والتحضيض ما يقتضي أن سميا بهذه التسمية. وقد قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: "لهما أحب إلى من الدنيا وما فيها" (1). وهذه مبالغة في تفضيلهما.
ومن لم يصفهما بأنهما سنة أعتقد أنهما ناقصين في التحضيض والمبالغة في التأكيد من بلوغ المرتبة التي تقتضي الوصف بالسنة، وفي هذا كفاية (2).
وينبغي أن يتأمل تحرير القاضي أبي محمَّد في عبارته لما ذكر ركوع الحج فقال: ركعتا الطواف والركوع عند الإحرام. وهذه إشارة منه إلى أنه لم يشتهر في أصل الشرع الاقتصار على ركعتين عند الإحرام كما اشتهر الاقتصار عليهما عقيب الطواف. فلهذا لم يقل ركعتا (3) الإحرام كما قال ركعتا الطواف.

قال القاضي رحمه الله: والفضيلة.
1 - تحية المسجد.
2 - وصلاة خسوف القمر.
3 - وقيام شهر رمضان.
4 - وقيام الليل.
5 - وسجود القرآن.
__________
(1) أخرجه مسلم. إكمال الاكمال ج 6 ص 10. وأخرجه البخاري: فتح الباري ج 6 ص 106.
(2) كفاية لما ذكر -ق-.
(3) ركعتي -و-.

(1/364)


قال الشيخ رحمه الله: يتعلق بهذا الفصل أربعة أسئلة منها أن يقال:
1 - لم قال إن تحية المسجد فضيلة؟.
2 - ولم قال إن صلاة الخسوف فضيلة كذلك؟.
3 - ولم أفرد قيام رمضان عن قيام الليل؟.
4 - ولم قال إن سجود القرآن فضيلة؟.

فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: اختلف الناس في تحية المسجد فقال داود بوجوبها. وقال جمهور الفقهاء بنفي الوجوب. فتعلق داود في إثبات الوجوب بالحديث الوارد بالأمر بتحية المسجد. ونفى جمهور العلماء الوجوب بحديث الأعرابي السائل للنبي صلى الله عليه وسلم عن الصلوات فقال - صلى الله عليه وسلم -: "خمس صلوات في اليوم والليلة. قال هل علي غيرهن؟ قال: لا. إلا إن تطوع" (1). فنفى وجوب ما زاد على الخمس. وأثبته تطوعًا. وتحية المسجد زائدة على الخمس.
فوجب أن تكون تطوعًا. ونحمل الحديث الذي تعلق به داود على الندب لأجل هذا الحديث الذي ذكرناه.
والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: إنما عد صلاة خسوف القمر في الفضائل لقوله - صلى الله عليه وسلم - وقد ذكر خسوف القمر والشمس: "فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة" (2). فأمر بالصلاة عند ذلك. وذلك يقتضي كونها طاعة فيها فضل.
وتقاصرت عن صلاة كسوف الشمس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بالناس في صلاة كسوف الشمس وأظهر الصلاة وأشهرها (3). وذلك يؤذن بعلو مرتبتها في الندب (4). فوصفت بأنها سنة. ولم يفعل ذلك في صلاة خسوف القمر فلم توصف بأنها سنة على ما أصلناه في حقيقة السنن والفضائل.
__________
(1) تقدم تخريجه قريبًا.
(2) طرف من الحديث رواه مالك والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن عائشة
رضي الله عنها. فتح الباري ج 6 ص 156.
(3) شهرها -و-.
(4) بالندب -و-.

(1/365)


والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: قد ورد في الشرع التحضيض على قيام الليل. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} (1). وقال تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} (2). وقد اشتهر في الشرع فضيلة قيام الليل. لكن الفصيلة تتفاضل. فجاء في قيام ليل رمضان ما يدل على علو مرتبته على غيره من الليالي. فقال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: "من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه" (3). فوعد بغفران الذنوب السالفة بقيام رمضان. ولم يعد بذلك في غيره من الليالي. فدل على تأكيد فضله. وقد جمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه الصحابة (4) على قارئ يصلي بهم التراويح في رمضان. ولم يجمع الناس في غيره من الليالي. فدل ذلك على أن الصحابة رضوان الله عليهم كانت ترى لقيام ليالي رمضان مزية على غيرها من الليالي. فلما علم القاضي أبو محمَّد هذا الذي أشرنا إليه خص قيام رمضان بالذكر فقال: وقيام رمضان. وقيام الليل ليشعر باختلاف مرتبتهما في الفضل.

والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: اختلف الناس في سجود التلاوة. فذهب أبو حنيفة إلى وجوبه لما ورد في القرآن من الأمر بالسجود فقال تعالى: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} (5). وقال: {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ} (6). ومدح آخرين فقال: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} (7).
وفي الحديث الصحيح: إذا قرأ ابن آدم السجدة اعتزل الشيطان يبكي ويقول يا ويلتي، أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة. وأمرت بالسجود فأبيت فلي
__________
(1) سورة المزمل، الآية: 1.
(2) سورة الإسراء، الآية: 79.
(3) أخرجه البخاري في كتاب الإيمان 27 ومسلم في باب الترغيب في قيام رمضان. اللؤلؤ والمرجان ص 435.
(4) الصحابة ساقطة -و-.
(5) سورة النجم، الآية: 62.
(6) سورة الانشقاق، الآية: 21.
(7) سورة مريم، الآية: 58.

(1/366)


النار (1). ودليلنا على نفي الوجوب ما روي: أن قارئًا قرأ بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يسجد ولم يسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - (2) وقال: كنت إمامًا فلو سجدت لسجدت معك.
فلو كان واجبًا لما أقره - صلى الله عليه وسلم - على ترك السجود ولا سوغه ترك ما يأثم بتركه. وقد قال عمر بن الخطاب على المنبر بحضرة الصحابة: إن الله سبحانه لم يكتبها علينا إلا أن نشاء (3). فصرح بإسقاط الوجوب ولم ينكر ذلك عليه أحد من الصحابة الحاضرين. فدل ذلك على أن الوجوب ساقط عندهم. على طريقة من قال من أهل الأصول: إن القول المنتشر في الصحابة في مسألة من مسائل الاجتهاد، إذا (4) لم يظهر نكيره فإنه يكون كالمذهب ""المجمع عليه. وما وقع في القرآن محمول على الندب بدليل ما قلناه. وما وقع فيه من الذم فمحمول على من ترك السجود كفرًا واستكبارًا. ألا تراه يقول سبحانه: {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ} (5). وأما الحديث الذي ذكرناه فإنه أثبت السجدة مأمورًا بها على ما حكاه من قول إبليس. والمأمور به يكون واجبًا، ويكون ندبًا على مذهب المحققين من أهل الأصول. وقد عد القاضي أبو محمَّد سجود القرآن في الفضائل. وحمل بعض الأشياخ على المذهب أنه سنة لإشارة (6) بعض روايات المذهب إلى أنه يسجد بعد صلاة العصر كما يصلي على الجنازة حينئد.

قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: والنافلة ركعتان بعد الظهر وبعد المغرب (7) وقبل العصر ووقت الضحى. وسائر ما يتنفل به ابتداء غير متعلق بسبب يقتضيه ولا وقت بعينه.
__________
(1) أخرجه مسلم. إكمال الاكمال ج 1 ص 187.
(2) روى البخاري أن زيد بن ثابت قرأ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: والنجم. فلم يسجد فيها. فتح
الباري ج 3 ص 209. ورواه مسلم وأخرجه البيهقي أيضًا عن يبيح بن يبيح. السنن ج 3 ص 321.
(3) أخرجه البيهقي. السنن ج 3 ص 321.
(4) فإذا -و-.
(5) سورة الانشقاق، الآيتان: 21، 22.
(6) لاشارات.
(7) ساقطة -الغاني -و-.

(1/367)


قال الشيخ رضي الله عنه: قد حصرنا القول في حقيقة السنة والنفل والفضل والنافلة. وحققنا الفرق بين معاني هذه التسميات. فإذا أحطت علمًا بما قلناه هنالك فلا شك أن كل ما يتطوع به الإنسان من سائر الصلوات الغير مؤقتة، كالوتر وركعتي الفجر والعيدين، ولا متعلقة بسبب كالكسوف، ولا حض الشرع عليها تحضيضه على السنن والفضائل فإنها نافلة. وإنما خصص القاضي أبو محمَّد ما ذكر من النوافل لاستمرار عمل الناس بها. ولما وقع في بعض الأحاديث من الترغيب فيها. فقد روي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: من ثابر على اثنتي عشرة ركعة أربع قبل الظهر، وركعتين قبل العصر، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل الفجر. بني الله له بيتًا في الجنة (1). إلى غير ذلك من الأحاديث الواردة بتفضيل ما سماه من فضل الصلوات النوافل. وقد أكد بعض أصحابنا أمر الركعتين بعد المغرب حتى جعلهما قريبًا (2) من ركعتي الفجر.

قال القاضي رحمه الله: فإذا ثبت هذا فالصلوات الخمس التي هي فرض على الأعيان. من جحد وجوبها فهو كافر، ومن تركها أو واحدة منها معترفًا بوجوبها غير جاحد لها، فليس بكافر، ويؤخذ بفعلها ولا يرخص له في تأخيرها عن وقتها. فإن أتى بها (3) وإلا قتل. ولها أوقات مختلفة الأحكام منها أوقات لا يجوز تقديمها عليها ولا تأخيرها عنها. وتنقسم إلى أوقات *توسعة وتضييق* (4) ومنها ما يتعلق به الفوات ومنها ما لا يتعلق به. ونحن نبين ذلك إن شاء الله.
__________
(1) عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من ثابر على اثنتي عشرة ركعة من السنة بني الله له بيتًا في الجنة، أربع ركعات قبل الظهر وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل الفجر. أخرجه الترمذي وعلق عليه بأنه حديث غريب من هذا الوجه، ولأن في سنده المغيرة بن زياد وقد تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه. العارضة ج 2 ص 207 - 208. وأخرجه النسائي ج 3 ص 261.
وأخرجه ابن ماجة ورقمه 1140. وكلاهما من نفس الطريق.
(2) قريبتين -ق-.
(3) أتاها -غ-.
(4) ما بين النجمين ساقط من -و-.

(1/368)


قال الشيخ رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل خمسة أسئلة. منها أن يقال:
1 - ما فائدة تقييده بقوله التي هي فرض على الأعيان؟
2 - وما الدليل على أن من جحد وجوبها كافر؟
3 - وما الدليل على أن من تركها غير جاحد لها فليس بكافر؟
4 - وما الدليل على أنه إن لم يفعلها قتل؟
5 - وما الوقت الذي يقتل إذا أخرها عنه؟

فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: إنما قيد بقوله التي هي فرض على الأعيان لأنه ذكر أن الفروض خمس، والسنن خمس. فلو قال من جحد الصلوات الخمس كان كافرًا. وقد قدم ذكر خمس صلوات فرائض، وخمس صلوات سنن" لكان الكلام غير محرر. لأنه قد يظن ظان أنه أراد الخمس السنن. وأراد كل واحدة من الخمس المذكورة. فحرر كلامه بأن قال: الخمس التي هي فرض على الأعيان. فخرجت الخمس صلوات السنن بهذا التقييد عن أن تدخل فيما أخذ في (1) الكلام عليه. وهذا من حذقه في التأليف.

والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: قد تقرر الإجماع على أن من كذب النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما أتى به عن الله سبحانه فإنه كافر. وقد علم ضرورة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاء عن الله سبحانه بفرض الصلوات الخمس وأنه أوجبها على المسلمين. فمن قال: إنها ليست بواجبة، فقد كذبه. ومن كذبه كان كافرًا. فإن قيل فقد جيء بإيجاب أشياء اختلف فيها الفقهاء ولم يكفر بعضهم بعضًا. ألا ترى أن أبا حنيفة يقول إنه جاء بإيجاب صلاة الوتر وهو لا يكفر مالكًا والشافعي في إنكار إيجابها. ويقول مالك أنه جاء بإيجاب قراءة أم القرآن في الصلاة وهو لا يكفر أبا حنيفة في إنكار وجوبها إلى غير ذلك من المسائل التي يطول تعدادها.
قيل إيجاب هذه الأمور المختلف فيها إنما وجب عند من قال به بأخبار آحاد وردت بذلك. وأخبار الآحاد لا يعلم صحتهالأولا يقطع على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ما نقل عنه فيها. فإذا أنكر منكر الوجوب فيمكن أن يكون إنكاره لأنه لم
__________
(1) في ساقطة -و-.

(1/369)


يسمع الخبر أو سمعه ولم يثبت عنده ثقة ناقله. أو ثبت (1) عنده ثقته، ولكنه قد روي له ما يخالفه أو ظهر له قياس أبطله عنده، أو تأول لفظة على معنى غير ما تأوله عليه من أوجب. فإذا أمكن صرف إنكار الوجوب إلى أحد هذه المعاذير، لم يصح القطع على أن المنكر إنما أنكر الوجوب تكذيبًا للنبي صلى الله عليه وسلم. كيف وكل واحد من الفقهاء إذا أنكر وجوب شيء مما قلناه صرح مخبرًا عن نفسه أنه إنما أنكر ما أنكره (2) لبعض الوجوه التي ذكرناها. والصلوات الخمس قد علم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوجبها علمًا ضروريًا، فلا ينصرف القول بأنها غير واجبة إلا إلى تكذيب النبي - صلى الله عليه وسلم -. فلهذا كفر من أنكر وجوبها ولم يكفر الفقهاء بعضهم بعضًا فيما اختلفوا في وجوبه.

والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: اختلف الناس في تكفير من ترك الصلاة مع الاعتراف بوجوبها. فذهب الجمهور من أهل العلم إلى أنه ليس بكافر. وذهب أحمد بن حنبل وطائفة من أهل الحديث إلى أنه كافر تعلقًا بالحديث الوارد فيه أن بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة (3).
ودليل الجماعة أن الدليل قد قام على أن الإيمان هو العلم بالله وملائكته ورسله والتصديق بذلك. وهذا من أفعال القلوب، والصلاة من أفعال الجوارح.
فلا يضاد ترك أفعال الجوارح هذه الأفعال التي في القلب. فإذا لم يكن بينهما تضاد وصح وجود الإيمان في القلب مع ترك الصلاة ولم يقم دليل قاطع على أن ترك الصلاة عَلَمٌ على الانسلاخ من الإيمان" فيثبت الكفر من هذه الجهة. وهذا دليل واضح في إبطال (4) التكفير بذلك. وفي الحديث الثابت أن من لم يوف
__________
(1) يثبت.
(2) ما أنكر -ق-.
(3) رواه مسلم عن جابر أن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة. إكمال الاكمال ج ص 188.
وروي بين الكفر والإيمان ترك الصلاة. وبين العبد والكفر ترك الصلاة. جامع الأصول ج 5 ص 203.
(4) انطلاق -و-.

(1/370)


بالصلاة فأمره إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء أدخله الجنة (1). ولو كان كافرًا لما أدخل (2) الجنة للإجماع على أنه لا يدخلها كافر. ويتأول الحديث الذي تعلق به أحمد على أن القصد به المبالغة .. وأن التهاون بها واستخفاف تركها يقرب من الانسلاخ من الإيمان. أو يحمله على أن المراد به إن دمه يستباح بترك الصلاة كما يستباح بالكفر.

والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: اختلف الناس فيمن اعترف بوجوب الصلاة ثم تركها هل يقتل أم لا؟ فذهب أبو حنيفة والماتريدي إلى أنه لا يقتل بل يحبس. وذهب مالك والجمهور من أصحابه (3) إلى قتله إذا امتنع من الصلاة حتى مضى وقتها. وقال ابن حبيب إنما يقتل إذا امتنع، وقال لا أصلي. وأما إن قال أصلي ولم يفعل لم يقتل. والدليل لمالك قوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} (4). فشرط في تخلية السبيل من القتل إقامة الصلاة، فاقتضى ذلك أنه إذا لم يقمها لم يخل سبيله من القتل. وفي الصحيحين: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم" (5). الحديث. وهذا مطابق لما تأولناه من القرآن. لأنه - صلى الله عليه وسلم - أخبر بأنه مأمور بالقتال وجعل غاية ارتفاع القتال إقامة الصلاة وما ذكر معها. وذلك يقتضي أنه لا يعصم دم من لم يقم الصلاة. وقد تقرر في الشرع أن في (6) ركوب بعض فروع الدين الوارد النهي عن
__________
(1) هو من حديث طويل لكعب بن عجرة قال: إن ربكم عَزَّ وَجَلَّ يقول: من صلي الصلاة لوقتها وحافظ عليها ولم يضيعها استخفافًا بحقها، فله علي عهد إن أدخله الجنة. ومن لم يصلها لوقتها ولم يحافظ عليها وضيعها استخفافًا بحقها فلا عهد له. إن شئت عذبته وإن شئت غفرت له. حسنه المنذري وضعفه الهيثمي. بلوغ الأماني ج 2 ص 239.
(2) دخل -و-.
(3) من أصحابه ساقطة من -و-.
(4) سورة التربة، الآية: 5.
(5) رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة وأحمد عن ابن عمر. فتح الباري ج 1 ص 82.
(6) في ساقطة -ق-.

(1/371)


ارتكابها ما يوجب إراقة الدم كالزنى مع الإحصان. فوجب أن يكون في تركه ما أمر به من فروع الدين إراقة الدم. وليس إلا الصلاة. وقد قاتل الصديق رضي الله عنه مانعي الزكاة وقاسها على الصلاة. ولم يكن جميعهم جاحدًا للوجوب. ولم ينكر ذلك عليه أحد من الصحابة لما أظهر وجه الحجة فيه. وأما أبو حنيفة فإنه تعلق (1) بقوله: لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث (2) ولم يذكر فيها ترك الصلاة. والجواب عن هذا أنا نثبت زيادة استحلال الدم بخصلة تزيد على الثلاث إذا دل الدليل عليها. وقد دل الدليل الذي ذكرناه على إراقة دم من لم يصل فوجب الرجوع إليه لأنه اقتضى زيادة على الحديث الذي تعلقوا به. وما قدمناه من الأدلة يدل على إبطال ما قاله ابن حبيب؛ لأنه لا فرق بين من (3) يقول أصلي ويمتنع من الصلاة، أو يقول لا أصلي ويمتنع. لأن الترك حاصل في الحالين. ولا فائدة في قول لم (4) يوف به. فأما أن يقال إن مجرد الترك كفر يمنع من الموارثة كما قال أحمد بن حنبل. أو ليس بكفر ولكن يبيح الدم حدًا لا كفرًا (5). كما قال مالك. أو يقال ليس بكفر ولا يبيح الدم كما قال أبو حنيفة.
فهذه الثلاثة مذاهب قد تقدم توجيهها. وأما التفرقة بين أن يقول أفعل أو لا أفعل، وهو غير فاعل في الوجهين، فلا معنى لها.
والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: المعروف من المذهب عندنا أنه لا يقتل حتى يبقى بينه وبين آخر الوقت الضروري مقدار ركعة، فحينئذ إن لم يصل قتل على اختلاف بين أصحابنا. هل يراعى مقدار ركعة بسجدتيها؟ أو مقدار الركوع من غير سجود؟ فالمشهور مراعاة الركعة بسجدتيها. ومذهب أشهب أنه يكون مدركًا للصلاة بإدراك مقدار الركوع دون السجود فلا يقتل عنده هذا حتى يبقى مقدار الركوع خاصة. ولا يعتبر قدر قراءة أم القرآن لأنه قد قيل
__________
(1) يتعلق -و-.
(2) رواه البخاري في الديات. حديث 87. ورواه مسلم في القسامة. اللؤلؤ والمرجان.
الحديث رقم 1091.
(3) إن -و-.
(4) في قول من لم -و-.
(5) كتبت في النسختين حدا الأكثر.

(1/372)


عندنا أنها ليست بفرض في كل ركعة. وقد يعتذر أنه سيقرأها فيما بعد الركعة الأولى فلا يكون تاركًا لها في كل الصلاة. وعلى هذا لا تراعى الطمأنينة لأنها مختلف في وجوبها عندنا. وذكر ابن خويز منداد أن المعتبر مقدار أربع ركعات للعصر قبل الغروب مع القول باعتبار الوقت الضروري. وكان شيخنا أبو محمَّد عبد الحميد رحمه الله يقول: إذا راعينا الخلاف لم يقتل حتى يبقى من آخر الوقت مقدار تكبيرة لقول جماعة من أهل العلم أنه يكون مدركًا لوقت الصلاة بمقدار التكبيرة. وهذا التحفظ على صيانة الدم، طرف نقيض ما ذكره ابن خويز منداد من أنه إنما يؤخر إلى آخر الوقت الاختياري. فإن لم يصل قتل.
وهذا القول ليس بشيء إلا أن يركب قائله أن ما بعد الوقت الاختياري ليس بوقت للأداء. وإنما هو وقت للقضاء. وأن المؤخر إليه يأثم. فحينئذ يصح ما قال. وأما إن سلم أن التأخير عن وقت الاختيار لا إثم فيه، وأنه وقت للأداء، فيكون ما ذكره خطأ صراحًا. ويلزم عليه أن يقتله إن امتنع من صلاة الظهر بعد الزمن القريب من الزوال. وهذا لم يقله أحد. وكيف يصح أن يقال به. والله سبحانه أجاز له التأخير عن الزوال، حتى قال أبو حنيفة رضي الله عنه: لا يتحقق وجوب الصلاة إلا عند آخر وقت الصلاة. ولا يتحقق الوجوب بأول الوقت. وهذا واضح لا يفتقر إلى إطناب. وأما ما ذكره ابن خويز منداد أيضًا من مراعاة أربع ركعات قبل الغروب فقد يتجه إذا أثمنا من أوقع بعض العصر متعمدًا بعد الغروب. وسنتكلم على تأثيمه في موضعه. وقد رأيت أصحابنا اختلفوا فيمن عليه قضاء صلوات فوائت فامتنع من قضائها هل يقتل أم لا؟ فقال بعضهم يقتل وكأنه رأى أن الحديث قد اقتضى كون الوقت الذي ذكر فيه الصلاة المنسية كالوقت الأصلي المتعين للأداء. فإذا دل الدليل على وجوب القتل إذا أخر عن الوقت الأصلي لتعينه للأداء، وجب القتل إذا أخر عن الوقت الذي تعين للقضاء.
وقال بعضهم لا يقتل واعتل بأن قضاء الفوائت مختلف فيه، وإقامة الصلاة التي لم يفت وقتها واجب بإجماع. فخالف حكمها حكم الفوائت. وعندي أنه قد يعتل لهذا القول أيضًا بأن قضاء الفوائت لا تجب المبادرة فيه ولا يلزم الفور كما يلزم من ضاق عليه آخر وقت الصلاة. وقد أجاز مالك رضي الله عنه لمن عليه

(1/373)


فوائت كثيرة أن يقضي منها ما تيسر، ثم ينصرف في أشغاله قبل استكمال قضاء ما عليه.
فأنت تراه كيف سامح في التأخير. ولا يقال ها هنا إنما سمح به للعذر بالشغل؛ لأن من ضاق وقت الصلاة عليه لا يسامح بالتأخير ولو عنّ له من الشغل ما عنّ. ولو كان مالك إنما سامح بالتأخير للعجز عن الإتيان بجملة الصلوات الفوائت لأمكن أن ينصب هذا فرقًا بين الحاضرة والفوائت (1). وأما المسامحة في الفوائت لأجل الشغل فلا وجه له إلا ما أشرنا إليه من أن التعجيل لا يجب وجوبه في الصلاة التي لم يذهب وقتها. ويؤكد هذا الاعتلال أيضًا قولهم فيمن امتنع عن الحج أنه لا يقتل. وما ذاك إلا لأن له التراخي فيه عند بعض العلماء. فلما لم يتأكد الفور لم يجب القتل. وهذا يوضح صحة اعتلالنا لهذا المذهب.

فصل
قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله تعالى: الأوقات وقتان: وقت أداء ووقت قضاء. فأما القضاء فيذكر فيما بعد. وأما وقت الإداء فعلى خمسة أضرب: وقت اختيار وفضيلة. ووقت إباحة وتوسعة. ووقت عذر ورخصة.
ووقت سنة يأخذ شبهًا من وقت الفضيلة والعذر. ووقت تضييق عن (2) ضرورة.
وفائدة الفرق بين وقت الاختيار والفضيلة وبين وقت الإباحة والتوسعة، أن وقت الاختيار والفضيلة يتعلق به من الثواب والفضل أكثر مما يتعلق بوقت التوسعة (3) من غير مأثم يلحق بتأخيز العبادة إلى وقت التوسعة. وذلك كفضيلة أول الوقت على وسطه، وفضيلة وسطه على آخره. وفائدة الفرق بين وقت العذر والرخصة، وبين وقت الإباحة والتوسعة، أن له تأخير الصلاة عن وقت
__________
(1) الفائتة -ق-.
(2) وضرورة -و-ق-.
(3) الإباحة والتوسعة -الغاني-.

(1/374)


الفضيلة إلى وقت الإباحة والتوسعة ابتداء من غير عذر. لولاه لم يكن له تأخيرها (1)، إما حظرًا وإما ندبًا كتأخير الصلاة عن أول الوقت إلى آخره. وليس كذلك في العذر والرخصة. لأنه إنما أبيح لوجود العذر أو لتوقعه على طريق الرفق مع صحة أدائه في الوقت المختار وإمكانه كترخيصنا للمسافر إذا أراد الرحيل وخاف أن يجد به السير أن يجمع بين الظهر والعصر عقيب الزوال. وإذا كان راكبًا أن يؤخر المغرب الميل ونحوه. وكرخصة الجمع بين الصلاتين في المطر. وأما الوقت الآخر شبهًا من وقت الفضيلة والعذر فهو وقت سنة وفضيلة يؤتى بها (2) في وقت العذر والرخصة. وذلك كالجمع بين الصلاتين بعرفة والمزدلفة لأن هذا في صورة وقت العذر والتوسعة (3). وهو مع ذلك فضيلة وسنة.
وأما وقت التضييق والضرورة فهو تقديم العبادة على الوقت المتعلق بالفضيلة التي لا تجوز قبله لولا الضرورة لم تقدم عليه. أو تأخيره (4) إلى الوقت الذي يتعقبه الفوات. ولولا (5) الضرورة لم تؤخر إليه. وهذا الوقت لخمسة للحائض تطهير. والمغلوب يفيق. والكافر يسلم. والصبي يبلغ. والمسافر يقدم. والحاضر يسافر وقد (6) نسي صلاة. وكل قسم من هذه الأقسام يرد بيانه في موضعه إن شاء الله إلا أن البداية ها هنا بأوقات الوجوب التي يتعلق الأجزاء بها وفي امتدادها وضيقها (7). ثم نعقب ذلك بفروض الصلاة وسننها ثم ما يقتضيه الحال من ترتيب الأبواب (8).

قال الشيخ رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل سبعة أسئلة. منها أن يقال:
1 - ما الوقت؟
__________
(1) تأخيرها -مثبتة في الغاني، ساقطة من النسخ الأخرى.
(2) بهما -غ-.
(3) الرخصة -غ -ق-.
(4) أو تؤخر -غ-.
(5) الواو ساقطة -الغاني-.
(6) ومن قد نسي -الغاني-.
(7) وهي امتدادها وصفتها -ق-.
(8) الأوقات -ق-.

(1/375)


2 - وما الفرق بين الأداء والقضاء؟
3 - ولماذا يتعلق الوجوب من آخر الوقت؟
4 - ولم فضل أوله على وسطه ووسطه على آخره؟
5 - وما معنى قوله إما حظرًا وإما ندبًا؟
6 - وما معنى قوله لوجود العذر أو لتوقعه مع صحة أدائه في الوقت المختار وإمكانه؟
7 - ولم ذكر الفرق في جواز التأخير ومثل في المسافر بالتعجيل؟
وبقية ما يتعلق بالباب من المسائل أخرناه لموضعه لأنه قد قال: إن كل قسم من هذه الأقسام سيرد بيانه في موضعه.

فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: أما الوقت فإنه يعبر به في عرف التخاطب غالبًا عن حركات الفلك المتضمنة لليل والنهار. فإذا ظهرت الشمس علينا سمي نهارًا. وإذا غربت سمي ليلًا. ولكن الأصل مع هذا أن الوقت لا يتخصص لموجود بعينه، وإنما الأصل في ذلك أن يعرض شيئين (1).
أحدهما معلوم ومقرر. والآخر في حكم المستبهم المستور. فإذا كان المعلوم منهما متجددًا وقارن تجدده وجود القسم الآخر المستبهم، كان المتجدد المعلوم وقتًا للآخر يذكر ليشعر بمقارنته (2) للمستبهم حالة تجدده. وبيان ذلك بالمثال: إنك تقول جاء فلان قبل طلوع الشمس. فلما كان طلوع الشمس أمدًا متجددًا معلومًا وزمن مجيء فلان مجهول، قرن مجيئه بطلوع الشمس لترتفع الجهالة والاستبهام. وكذلك لو فرضنا أن طلوع الشمس خفي على رجل لقلنا له طلعت الشمس وقت دخول زيد عليك، فيكون وقت (3) دخول زيد وقتًا لطلوع الشمس. لأن دخوله أمر متجدد معلوم عند هذا، وطلوع الشمس أمر خفي عنه فقرن له بما علم لترتفع الجهالة. وقد تكون هذه المقارنة في معدوم فتقول:
__________
(1) هكذا في جميع النسخ.
(2) لمقاربته.
(3) ساقطة -ق-.

(1/376)


جئتك عند زوال المطر، ووجدت الحركة عند عدم السكون. وهذه حقيقة الوقت أصليًا وعرفيًا. وعلى هذا جرى الأمر في قولنا: وقت صلاة الظهر الزوال. والصبح طلوع الفجر. لأن الزوال متجدد معلوم وفعل الصلاة مفتقر إلى زمن، ولكن الزمن في حكم المستبهم، فأزيل الاستبهام بمقارنة الوجوب للزوال.
والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: أما الأداء فعبارة عن وقوع الفعل مطابقًا للأمر ممتثلًا فيه أمر الآمر. فوقت الأداء هو الذي يكون الفعل فيه امتثالًا للآمر. والقضاء عبارة عن إيقاع الفعل بعد تصرم الوقت الذي يكون بالفعل فيه ممتثلًا، كمصلي الصبح ما بين الفجر وطلوع الشمس. فلما كان الأمر ورد بصلاتها حينئذ كان فعلها إذ ذاك امتثالًا. وكان فعلها بعد طلوع الشمس قضاء.

والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: اختلف الناس في العبادة المؤقتة بوقت يمكن إيقاعها في بعضه، بماذا يتعلق الوجوب من الوقت؟ فمذهب الشافعية بأوله. ومذهب الحنفية بآخره. وقال الكرخي بفعل الصلاة، أو بآخره. وعند جمهور المالكية بجميعه. وقيل بل يتعلق بزمن واحد يسع فعل العبادة، ولكنه غير معين. وإنما يتعين إذا أوقع الملكف العبادة فيه. وقد قال أبو الوليد الباجي إن هذا المذهب هو البخاري على أصول المالكية؛ لأنهم يقولون إن الأمر إذا ورد بالتخيير بين أشياء فالواجب منها واحد غير معين وإنما يذهب إلى وجوب جميعها من أصحابنا ابن خويز منداد. هذه جملة المذاهب في ذلك.
فإذا قيل بماذا يتعلق الوجوب في وقت صلاة الصبح مثلًا أجريناه على هذه المذاهب، فيكون الوجوب تعلق عند الشافعية بطلوع الفجر. وعند الحنفية بمقدار ما يسع الصلاة قبل طلوع الشمس وعند المالكية بما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس. وعلى ما خرجه أبو الوليد بقدر ما يسع الصلاة مما بين هذين الوقتين، ولكنه غير معين.
فأما الشافعية فالرد عليهم يهون وذلك إنا نقول من أخر الصلاة عن طلوع الفجر قليلأهل يكون آثمًا؟ فلا بد من القول إنه لا إثم عليه. فإذا صح أنه لا إثم

(1/377)


عليه، قيل لهم هل هو ممتثل مؤد للعبادة على حسب ما اقتضاه الأمر أم لا؟ فلا بد من القول إنه ممتثل مؤد للعبادة على حسب الأمر. فإذا كان مطيعًا لا آثمًا ومؤديًا لا قاضيًا وممتثلًا لا مخالفُ ا. فما معنى إنكار الوجوب في هذه الحال؟ وأي فرق بين هذا الوقت المفروض وبين أول الوقت وكلاهما ممتثل مؤد؟ وإثبات فضيلة لأول الوقت على وسطه لا توجب مخالفة بين أول الوقت ووسطه في الوجوب لما بيناه من اجتماعهما في الامتثال ومطابقة الأمر.
وأما الحنفيون فالرد عليهم لا يهون وذلك أنهم يقولون: حقيقة الواجب ما لا يجوز تركه أو يقولون حقيقة الواجب ما يتعين فعله فإذا كان هذا هكذا وأجمع على أنه يجوز ترك الصلاة لآخر الوقت. وأن فعلها لا يتعين في أوله ولا في وسطه انحصر الوجوب في آخره. لأن التأخير عن آخره لا يجوز. وفعلها حينئذ يتعين. فإذا كانت حقيقة الوجوب إنما ثبتت في آخر الوقت خاصة اختص بالوجوب وانتفى عن أوله كما قالت الشافعية وعن جميعه كما قالت المالكية، واعلم أن هذا الذي قالوه صعب موقعه. ولما رأى القاضيان أبو بكر ابن الطيب وأبو محمَّد عبد الوهاب توجه هذا الذي قالوه لم يجدا عنه مخلصًا مع علو قدرهما في هذا العلم إلا بأن أثبتا العزم بدلًا عن تقدمة الصلاة. ورأيا أن إباحة الترك في أول الوقت لم تكن مطلقًا وإنما كان إلى بدل وهو العزم على أدائها قبل تقضي الوقت. وجواز ترك الواجب إلى بدل لا يخرج الفعل عن كونه واجبًا. كما أن ترك المكفر بالإطعام لا يخرج العتق عن كونه واجبًا. وممن أثبت العزم وتابع القاضيين على إثباته، من (1) أنكر تسميته بدلًا، لكون الإنسان مأمورًا بالعزم على الصلاة إذا خطرت بباله ولم يدخل وقتها. والصلاة إذا لم يدخل وقتها لم تجب، وإذا لم تجب لم يكن العزم بدلًا عما لا يجب. وقد اشتد نكير أبي المعالي لإثبات العزم ورأى أنه لم يقم على إثباته دليل وادعى أنه ليس في الأمة من يؤثم من أضرب عن إخطار العزم بباله. وإن الصلاة قد علم من الشرع تعين وجوبها. وإثبات العزم مخيرًا بينه وبين الصلاة يخرج الصلاة عن تعين الوجوب. وأشار إلى أنه إن قيل بتأثيم من مات في وسط الوقت ولم يصل
__________
(1) من - مبتدأ مؤخر.

(1/378)


على ما ذهب إليه بعضهم فإن ذلك يحقق كون الصلاة واجبة وإن لم يثبت العزم بدلا. لأن حصول التأثيم يثبت للشيء حقيقة الواجب. ولا استنكار في إثبات واجب مفسح في وقته، ويحصل الإثم بتركه إلى الموت. فإن لم نقل بالتأثيم فلا وجه لإنكار ما قاله الحنفيون من تعلق الوجوب بآخر الوقت. هذه طريقة أبي المعالي في هذه المسألة. واعلم أنه كما أنكر على القاضي أبي بكر إثبات العزم واستبعد أن يكون في العلماء من يؤثم من ترك العزم، فكذلك يجب عليه أن يستبعد ما حكاه عن بعض أصحابه من تأثيم من مات في وسط الوقت ولم يصل. فإنه لا يظن بأحد من العلماء أيضًا ممن سلف أنه يؤثم من مات بعد الزوال بقليل أو بعد الفجر بقليل لتأخيره الصلاة عن الزوال والفجر. ولعلنا أن نبسط ما عندنا في ذلك فيما نمليه من أصول الفقه إن شاء الله. وأمَّا ما قاله أبو الوليد الباجي من أن البخاري على أصول أصحابنا أن الواجب من الوقت ما توقع فيه الصلاة. وإنما يتعين بفعل المكلف قياسًا على قول أصحابنا في الكفارة عن اليمين بالله سبحانه، فإنه عندي غير مسلم له. ويجب أن تقدم على التعقب عليه، إن أهل الأصول جعلوا هذه المسألة مسألة اختلاف. فحكوا عن المعتزلة أنها ترى أن وجوب الخلال الثلاث التي خير بها (1) الحانث وهو مذهب ابن خويز منداد. وأن الأشعرية وجمهور الفقهاء يرون أن الواجب منها واحد لا بعينه. ولا يتصور عندي بين القوم اختلاف يرجع إلى معنى. وإنما تناقش القوم في عبارة فأطلق بعضهم الوجوب على جميعها لما كان كل واحد منها يحل محل الآخر في إبراء الذمة وحصول الامتثال وتعلق الأمر بها (2) تعلقًا متساويًا. ورأى الآخرون أن الذمة تبرأ بفعل أحدها (2) ولا يأثم بترك ما سواه إجماعًا. وما لا إثم فيه لا يوسف بالوجوب، فلهذا أنكر هؤلاء إطلاق القول إن جميعها واجب. فإذا وضح أن القوم مختلفون في عبارة، عدنا إلى ما قاله أبو الوليد، فقلنا لو ترك ما ذكر من الخلاف على ظاهره لم يجب أن تكون مسألة
__________
(1) فيها -ق-.
(2) بهما - أحدهما -و-ق-.

(1/379)


الوقت مثله (1) لأن الأوقات يعبر بها عن حركات الفلك غالبًا. وذلك لا يدخل تحت التكليف ولا يوسف بوجوب ولا ندب. وإنما يوسف بأنه محل للأفعال ومتعلق للأحكام. والإطعام والإعتاق يدخلان تحت التكليف وهما نفس ما خوطب به المكلف. فإن كان ترك أحدهما لا يأثم فيه إجماعًا فلا يوصفان جميعًا بالوجوب. وأمّا الزمن فإن معنى قول أصحابنا إن جميعه متعلق به الوجوب أي محل للفعل المخاطب به. فأي وقت صلى فيه المكلف فإنه محل الوجوب ومتعلق الخطاب ولا تسقط عنه هذه التسمية بإيقاع الصلاة في غيره (2) لأنها وإن وقعت في غيره فإنه محل لها. ألا ترى أنهم يقولون الجوهر محل للحركة وإن كان في حين قولهم ساكنًا. فإن أنكر أبو الوليد تسمية ما لم تفعل فيه الصلاة محلا، قيل له هذه مناقشة في عبارة. ومراد القوم ما قلنا.

والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: اعلم أنا وإن قلنا بأن جميع أجزاء الوقت محل للوجوب ومتساوية في تعلق الخطاب بالإيجاب، فإنا (3) لا ننكر دخول الندب في الواجبات. لأن الندب، وإن كان مناقضًا للواجب، فإنه إنما يتعلق بصفة أو حال يقع عليها الواجب، وذلك غير مناقض لأصل الوجوب. ألا ترى أن صلاة الظهر واجبة. ولما كان فعلها في الجماعة (4) حالًا للصلاة أو صفة لها تعلق الندب بذلك. وكذلك جميع أجزاء الوقت محل الوجوب (5). ولكن يتعلق الندب ببعضها بمعنى أن الأجر في هذا الواجب إذا فعل في أول الوقت أكثر من الأجر إذا فعل في آخره. فإذا وضح معنى الفضل ها هنا قلنا: الدليل على ما قاله القاضي أبو محمَّد من تفضيل أول الوقت على وسطه وتفضيل وسطه على آخره. قوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} (6). والمراد فعل ما
__________
(1) هكذا في جميع النسخ.
(2) اعتمدنا من هنا النسخة -1 - مع النسختين -و-ق- ذلك أن النقص الناشئ عن الصورة المطموسة لثلاث وعشرين صفحة يتم عند أول الصفحة 220.
(3) فإنه لا ينكر -و-.
(4) الجماعات في -و-.
(5) للوجوب -و-.
(6) سورة آل عمران، الآية: 133.

(1/380)


يوجب المغفرة، والصلاة من أعظم ما يوجبها. فاقتضى عموم الآية أن المسارعة والمبادرة بها (1) مأمور بها. وقد قال عمرو: "أفضل الأعمال الصلاة لأول وقتها" (2). وقد ذكرنا عن أبي المعالي أنه حكى عن بعض أصحابه أنه يؤثم من مات في وسط الوقت ولم يصل. وهذا المذهب لو صح لكان تقدمة أول الوقت معقولٌ معناه لأن المؤخر على غرر وركوب خطر في لحوق التأثيم به. ومع هذا فإن هذا يفتقر إلى تفصيل فإن الصلوات قد تختلف في ذلك. ويختلف حال الفذ وحال الجماعة. ورأينا تأخير الكلام على تفصيل ذلك إلى الفصل الذي يلي هذا. فإن القاضي أبا محمَّد تعرض فيه بشيء من تفصيل ذلك.
والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: أما تشككه في ذلك فإنه إنما أشار به إلى ما سنتكلم عليه إن شاء الله من تأخير الصلاة عن وقت الاختيار.
هل يلحق به الإثم أم لا؟ كمن أخر العصر إلى الاصفرار والمغرب إلى أن غاب الشفق. فالمسافر إذا أخر الصلاة عن الوقت المختار لأجل العذر بالسفر فإنه لو أخرها إلى ذلك الوقت مختارًا من غير عذر لكان منهيًا عن ذلك.
والنظر في هذا النهي هل هو على الحظر أو الكراهية؟ يرد بيانه فيما بعد إن شاء الله.

والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: أَمَّا مراده بقوله لوجود العذر في السفر؛ لأن السفر الذي هو عذر أباح التأخير في المغرب على ما قال موجود حين تأخير الصلاة. وأما قوله لتوقعه، فكجمع المسافر في المنهل لتوقعه أن يجد به السير على ما قال. والمريض أيضًا يباح له الجمع لتوقعه أن يغلب على عقله. وأما قوله مع صحة أدائه في الوقت المختار وإمكانه، فإن مراده به أن المسافر وإن أبيح له التأخير لعذر فإنه لو تجشم المشقة وأوقع كل صلاة في
__________
(1) بها ساقطة -ح-.
(2) أفضل الصلاة في أول وقتها. رواه أبو داود والترمذي. والحاكم عن أم فروة رضي الله عنها. قال السيوطي في الجامع الصغير صحيح. وذكر في الفيض القدير أن الصدر المناوي وغيره قالوا في سنده عبد الله بن العمري وهو غير قوي. وقد تكلم فيه يبيح من جهة حفظه. وقال ابن حجر في إسناده اضطراب. فيض القدير ج 2 ص 25.

(1/381)


وقتها المختار لكان ذلك سائغًا. بخلاف وقت (1) السنة فإن الحاج إذا أفاض من عرفة أمر بتأخير المغرب. ولو أوقعها في الوقت المختار لنهي عن ذلك.

والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: إنما غرضه بيان كون العذر هو المبيح للخروج عن الوقت المختار إما بالتقديم، أو بالتأخير. وأنه بذلك فارق (2) حكم الاختيار. وقد ذكر التأخير بعد ذكره التعجيل فاستوفى النوعين جميعًا. على أنه قد ذكر في وقت الضرورة تقديم العبادة على الوقت المتعلق بالفضيلة. وهذا مما يعد عليه تناقض القول فيه. لأنه عد تعجيل العصر في قسم العذر والرخصة، ثم بعد ذلك في قسم الضرورة، ومزجه بين القسمين في آخر الفصل لما صلح (3) فيه المعنيان. لأن التعجيل رخصة، سببها (4) ضرورة السفر. فمزج العبارتين في موضع وأفردهما في القسمين. وحقيقة المذهب عده في قسم العذر والرخصة.
وأما قسم الضرورة فإنما هو مختص في ضيق الوقت وخوف فواته عندنا.

فصل

قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: أما وقت الظهر الذي لا تجب قبله ولا يجوز تقديمها عليه فهو زوال الشمس ومعرفة ذلك في غالب الأحوال هو بأن تقيم عودًا مستويًا فترى ظله (5) أول النهار طويلًا ممتدًا ثم لا يز الذي نقصان مع ارتفاع النهار كلما قرب من الزوال إلى أن ينتهي إلى حد يقف عنده، ثم يعود في الطول فذلك هو الزوال.
قال الإِمام رضي الله هـ تعالى عنه: يتعلق بهذا الفصل أربعة أسئلة. منها أن يقال:
__________
(1) ساقطة من -و-.
(2) خالف- ق -ح-.
(3) صح -ق-.
(4) يسببها -و-.
(5) ظله ساقطة -و- ق -ح-.

(1/382)


1 - لم بدأ بالكلام على وقت الظهر؟
2 - ولم تحرز بقوله ولا يجوز تقديمها؟
3 - وما الطريق لإثبات الأوقات؟
4 - وما طريق معرفة الإظلال؟

فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: إنما بدأ بالكلام على الظهر دون ما سواها من الصلوات (1) اتباعًا في تعليم الناس تعليم جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم -. فإنه لما نزل عليه وصلى به يعلمه الأوقات، بدأ بصلاة الظهر (2). ولهذا سميت الأولى لأنها أول ما بين جبريل للنبي - صلى الله عليه وسلم -. وسميت الظهر مأخوذًا من الظهيرة وهي شدة الحر. فلما كانت تفعل في شدة حر النهار سميت بهذا الاسم.

والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: إنما تحرز بقوله لا يجوز تقديمها عليه؛ لأن من العبادات ما يجب عند وقت، ويجزئ تقدمته (3) عليه كتقدمة الزكاة قبل الحول، فإنها تجزئ إذا كان زمن (4) التقدمة يسيرًا عندنا. وتجزئ وإن كان كثيرًا عند المخالف. فبين القاضي أبو محمَّد أن الصلاة بخلاف ذلك لا يجوز تقديمها على وقتها. وأيضًا فقد ذكر في تقدمتها على الزوال عن ابن عباس شيء في ذلك. فلعله تحرز منه لأنه ذكر وإن لم يثبت.

والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: أما الأوقات فقد ورد فيها بيانان. أحدهما في القرآن والآخر في السنة. والذي في السنة أوضح وأوعب. فأما الذي في القرآن فقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} (5). فاختلف الناس في المراد بقوله دلوك الشمس. فذهب بعضهم إلى أن المراد به غروب الشمس. ومذهبنا أن المراد به زوال الشمس. ودلوك الشمس ميلها. فعندنا أنه ميلها عن وسط السماء مغربة. وعند المخالف أنه
__________
(1) الصلوات ساقطة -و-.
(2) شرح الزرقاني على الموطأ ج 1 ص 13. وسنن البيهقي ج 1 ص 364.
(3) بتقدمته -ح- في تقدمته -ق-.
(4) زمان -و-.
(5) سورة الإسراء، الآية: 78.

(1/383)


ميلها عن الأفق غاربة. وقد اختلف المذهب في مقتضى هذه الآية. فقيل المراد بدلوك الشمس صلاة الظهر. والمراد بغسق الليل صلاة العتمة التي تفعل في ظلمة الليل، وغسقه. والمراد بقرآن الفجر صلاة الصبح. وقيل المراد بدلوك الشمس صلاة الظهر والعصر. وبغسق الليل المغرب والعشاء. وبقرآن الفجر صلاة الصبح. فتضمنت على المذهب الأول ثلاث صلوات، وعلى المذهب الثاني الخمس صلوات (1). وسبب هذا الاختلاف أن تعجيل العصر وتقريبها من الزوال ليس بوقت مختار *ولكنه وقت لها عند بعض الأسباب والأعذار. فهل تحمل الآية على الوقت المختار* (2) فلا يشار بالدلوك إلى العصر ولا بالغسق إلى المغرب لأن تأخير المغرب أيضًا إلى الغسق لا يختار. أو يحمل الدلوك على الظهر والعصر لأنهما يفعلان عند الزوال لأسباب وأعذار، ويحمل الغسق على صلاة المغرب والعشاء لأن المغرب تؤخر إلى الغسق لأسباب وأعذار (3).
وعندي أن هذا الاختلاف ربما انبنى على اختلاف أهل الأصول في الأمر هل يتناول المكروه أم لا؟ فمن أهل الأصول من قال لا يصح تناوله المكروه.
ومنهم من قال يصح ذلك. وبيان تخريج مسألتنا على هذا أن تقريب العصر من الزوال أو تأخير المغرب إلى الغسق مكروه على ما سنذكره. وقد أمر الله سبحانه بإقامة الصلاة في هذه الأوقات. فمن جوز تناول الأمر للمكروه ادخل في الدلوك العصر وإن كان فعلها حينئذ مكروهًا. ومن لم يرد ذلك لم يدخل في الدلوك العصر. لأن فعلها حينئذ مكروه. وكذلك القول في المغرب. وذكر الطبري أن غسق الليل صلاة المغرب (4). فكأنه أمر بإقامة الظهر والعصر إلى المغرب.
وحكى عن بعض الناس أن غسق الليل صلاة العصر.
وقوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفُ امِنَ اللَّيْلِ} (5). فاختلف
__________
(1) خمس صلوات -ق-.
(2) ما بين النجمين ساقط من -ح-.
(3) ولا عذار -و-.
(4) جامع البيان ج 15 ص 134 ونسبه إلى ابن مسعود وإلى ابن عباس.
(5) سورة هود، الآية: 114.

(1/384)


المذهب في مقتضى هذه الآية فقيل مقتضاها ثلاث صلوات. فطرفا النهار الصبح والمغرب، وإن كانت المغرب تفعل بعد تقضي طرف النهار، فقد سميت ها هنا (1) طرفًا لاتصال فعلها بذهاب الطرف. وزلفُ امن الليل المراد به صلاة العتمة لأن زلف الليل ساعاته. وقيل المراد بها أربع صلوات. فأحد الطرفين الصبح والطرف الآخر الظهر والعصر وزلفُ امن الليل صلاة العتمة. وقيل المراد بها الخمس صلوات. وأدخل هؤلاء في قوله زلفا من الليل صلاة المغرب. والكلام على هذه الآية يضاهي الكلام على الآية الماضية. لأن تأخير الظهر إلى قرب الغروب مكروه، وتأخير المغرب مكروه فهل يتناول الأمر المكروه أم لا؟ فيه الخلاف المتقدم. وإنما يبقى النظر بين إثبات العصر طرفًا لأنها تفعل قبل تقضي طرف النهار. فهي أحق بالطرف. لكن فعلها حينئذ مكروه. وإثبات المغرب طرفًا، وإن كانت تفعل بعد تقضي طرف النهار، فهي أحق بالطرف. لكن فعلها حينئذ مختارًا (2) غير مكروه. فمن حملها على المغرب رأى أن التجوز أولى من حمل الأمر على المكروه. ومن حملها على العصر رأى أن تناول الأمر للمكروه أولى من حمله على المجاز. وقوله سبحانه: {وَلَهُ الْحَمْدُ في السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} (3). فاختلف في هذه الآية أيضًا هل تحمل على الخمس صلوات أو تخرج صلاة العتمة منها فتحمل على أربع صلوات؟ فقوله وحين تظهرون يفيد صلاة الظهر. وقوله وعشيًا يفيد صلاة العصر. وقوله وحين تصبحون يفيد صلاة الصبح. وقوله حين تمسون يفيد صلاة المغرب المفعولة عنوإلامساء. واختلف هل يتضمن ذلك صلاة العتمة؟ والاختلاف في ذلك جار على ما قدمناه وذلك أن تقريب العشاء من الغروب مكروه وتناول الأمر للمكروه فيه الخلاف الذي قدمناه (4).
وأما السنة فحديث ابن عباس في إمامة جبريل للنبي - صلى الله عليه وسلم - عند البيت.
__________
(1) ها هنا ساقطة -ق-.
(2) مختار -ق-.
(3) سورة الروم، الآية: 17.
(4) قلناه في -و-.

(1/385)


قال - صلى الله عليه وسلم -: فصلى بي الظهر حين زالت الشمس وكانت قدر الشراك والعصر حين صار ظل كل شيء مثله، والمغرب حين أفطر الصائم، والعشاء حين كتاب الشفق والفجر حين حرم الطعام على الصائم. فلما كان الغد صلى بي الظهر حين صار ظل كل شيء مثله، والعصر حين صار ظل كل شيء مثليه، والمغرب حين أفطر الصائم، والعشاء ثلث الليل، والفجر فأسفر (1). وحديث عبد الله بن عمر وابن العاصي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وقت الظهر إذا زالت الشمس وكان ظل الرجل كطوله ما لم تحضر العصر، ووقت العصر ما لم تصفر الشمس، ووقت المغرب إذا غابت الشمس ما لم يسقط الشفق. ووقت العشاء الأخيرة ما لم يذهب نصف الليل، ووقت الصبح من طلوع الفجر ما لم تطلع الشمس. وقد خرج مسلم هذا الحديث في صحيحه (2) وخرج أيضًا عن أبي موسى الأشعري: قال أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سائل فسأله عن مواقيت الصلاة فلم يرد عليه شيئًا قال فأقام الفجر حين الشفق، والظهر حين زالت الشمس، والعصر والشمس مرتفعة.
والمغرب حين وقعت الشمس. والعشاء حين غاب الشفق. ثم أخر الفجر من الغد وانصرف وقائل يقول طلعت الشمس أو كادت. وأقام الظهر قريبًا من وقت العصر بالأمس. والعصر انصرف منها والقائل يقول احمرت الشمس، وأخر المغرب حتى كان عند سقوط الشفق ثم العشاء حين كان ثلث الليل. ثم أصبح فدعا السائل فقال الوقت ما بين هذين (3). وخرج مسلم أيضًا عن بريدة مثل هذا (4). فهذا بيان الأوقات في القرآن مجملًا وفي السنة مفصلًا.

والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: مواقيت هذه الصلوات مختلفة فمنها: ما وكل إلى المشاهدة الذي يستوي في دركها أهل الإبصار، كغروب الشمس وغروب الشفق وطلوع الفجر وطلوع الشمس. فهذه مواقيت لا تخفى
__________
(1) رواه أحمد والترمذي والنسائي والدارقطني والحاكم. انظر الهداية ج 2 ص 260.
(2) إكمال الإكمال ج 2 ص 302 ح 178 كتاب المساجد ومواضع الصلاة.
(3) إكمال الإكمال ج 2 ص 303.
(4) إكمال الإكمال ج 2 ص 302 والحديث 176 - 177 من كتاب المساجد ومواضع الصلاة.

(1/386)


فيطلب عليها دليل. ومنها زوال الشمس ومبدؤه لا يدرك بالبصر فجعل عليه دليلًا (1). وكذلك آخر وقت الظهر وآخر وقت العصر إذا حددنا آخر العصر بالقامتين فنصب الفقهاء لمعرفة ما يخفى من ذلك دليلًا وهو اعتبار أخذ الظل في الزيادة بعد تناهي نقصانه على حسب ما فسره القاضي أبو محمَّد. وبعضهم ينكر ما ذكره ويأمر بأن تدار دوائر، مركز جميعها موضع القائم، حتى يتحصل تناقص الظل وتزايده بتنقله في الدوائر. ومن الطرائق (2) إلى معرفة هذا الاسطرلاب. فإن غاية (3) ارتفاع الشمس في كل زمن يعرفه من رصده. وهو مسطور في كتب أهل الرصد فيرفع الاسطرلاب إلى الشمس. فإذا خرج شعاع الشمس من أحد ثقبي عضادة الاسطرلاب إلى الثقب الآخر. نظر إلى ما حاذاه (4) رأس العضادة هل بلغ إلى الدرج الذي تزول الشمس عليه (5) في ذلك الزمن أم لا؛ ثم يعلمون الساعات ومقادير ما مضى من النهار بعمل آخر يعرفه من كشف عنه في أقرب وقت. ومنهم من يصنع خطوطًا في رخامة ويقسمها أقسامًا ويقيم فيها قائمًا. فإذا انتهى ظل القائم إلى أحد الأقسام عرف مقدار ما مضى من النهار ومنهم من يعول على حركة الماء فيضع ماء في إناء ويضع أشكالًا تتحرك عند انتهاء الماء إلى حركة مخصوصة فيستدل بحركة ما حركه الماء على مقدار ما مضى من النهار. وهذه الطرائق كلها مذكررة في كتب المتقدمين. وذكروا هذه الطريقة الأخيرة لكونها دليلًا عندهم على الوقت في الصحو والغيم. والطرق المتقدمة إنما تفيد إذا كان نور الشمس ظاهرًا يستدل به على حسب ما ذكرناه. لكن الفقهاء كلهم إنما يسلكون المسلك الذي ذكره القاضي أبو محمَّد، فهو المتعارف عند أهل الشرع وما سواه أضربوا عنه. لأن علم الاسطرلاب يدق. وقد يؤدي النظر فيه إلى النظر في علم التنجيم الذي يكرهه المتشرعون. وما سواه مما ذكرناه عن المتقدمين عسير مطلبه، صعب
__________
(1) دليل -و-ق-.
(2) الطريق في -ح-ق-.
(3) غاية ساقطة من -و-ق-.
(4) إلى ما حاذى -و- لما حاذى -ق-.
(5) التي تزول الشمس عليها -و-ح-.

(1/387)


مرامه. والتعليم الحسن ما اشترك في إدراكه والإحاطة به البليد والفطن. وإذا امتنع الاستدلال بتزايد الظل لكون الشمس محجوبة بالغيم رجع في ذلك إلى أهل الصناعات فإنهم يعلمون قدر ما مضى لهم من أعمالهم من أول نهارهم إلى زوال الشمس في يوم الصحو فيقيسون يومهم بأمسهم فيعرفون بذلك الوقت.

قال القاضي رحمه الله تعالى: ويستحب تأخيرها في مساجد الجماعات إلى أن يكون الفيء ذراعًا، والإبراد بها في الحر أفضل (1). ثم لا يزال وقتها ممتدًا إلى أن يصير زيادة الظل مثله ويعتبر ذلك من وقت تناهي نقصانه وأخذه في الزيادة لا من أصله. فإذا بلغ مثله فهو آخر وقت الظهر وهو بعينه أول وقت العصر، يكون (2) وقتًا لهما ممتزجًا بينهما. فإذا زاد على المثل زيادة بينة خرج وقت الظهر واختص الوقت بالعصر، فلا يزال ممتدًا إلى أن يصير الظل (3) مثليه فذلك (4) آخر وقت العصر. ويستحب في العصر تأخيرها قليلًا في مساجد المجماعات كنحو ما يستحب في الظهر لا زيادة على ذلك. بل تعجيلها بعد هذا التأخير أفضل، وتأخيرها زيادة على ذلك مكروه.

قال الشيخ رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل تسعة أسئلة. منها أن يقال:
1 - لم استحب تأخير الظهر في مساجد الجماعات.
2 - وهل الفذ في ذلك كالجماعة؟
3 - وما معنى تحديده بالذراع؟
4 - وما منتهى الإبراد؟
5 - وما الدليل على أن آخر وقتها زيادة الظل (5) مثله؟
6 - وهل معنى ذلك أن تنقضي الصلاة عند المثل أو تبتدئ عنده؟
7 - وما الدليل على أن آخر وقت العصر أن يصير الظل مثليه؟
__________
(1) أفضل ساقطة من -ح-.
(2) وتكون -الغاني-.
(3) ظل كل شيء مثليه -الغاني-.
(4) وذلك -غ-.
(5) الظل ساقطة -و-.

(1/388)


8 - ولم استحب في العصر للجماعة التأخير القليل؟
9 - وما معنى قوله (1) تأخيره عن ذلك مكروه؟

والجواب عن السؤال الأول: أن يقال: أصل مذهب مالك أن أول الوقت أفضل، وإنما يستحب التأخير لمعنى يقتضيه. فاختلف الناس في الأفضل من وقت صلاة الظهر. فعند الشافعي أول الوقت على الإطلاق. وعند أبي حنيفة آخره. وعندنا إذا فاء الفيء ذراعًا. واعلم أنا قد قدمنا ما يدل على فضيلة أول الوقت، وأنه - صلى الله عليه وسلم - أخبر أن أفضل الأعمال الصلاة لأول وقتها (2). ولما رأى الشافعي ذلك استحب تعجيل الصلاة أول الوقت على الإطلاق لا سيما وفي الصحيحين أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر عند الزوال (3). ولما رأى مالك رضي الله عنه ما جاء في الشرع من التحضيض على صلاة الجماعة. وكان أول وقت صلاة الظهر يمر على الناس وهم غير متهيئين للصلاة، أو قائلين إن كان الزمن صيفُ ا، استحسن التأخير عن أوله، ليحصل اجتماع الناس للصلاة. واعتمد أيضًا على قول عمر رضي الله عنه: صلوا الظهر والفيء ذراع (4). ولما رأى ابن حبيب هذا التعليل قصر استحباب التأخير إلى الذراع على زمن الصيف لانقطاع الناس عن الاجتماع أول الوقت لكونهم قائلين. واستحسن في الشتاء أول الوقت لعدم العذر القاطع عن الاجتماع. وخصص قول عمر رضي الله عنه بزمن الصيف خلاف ما صنع مالك من حمله على التعميم في الشتاء والصيف. وتأول بعض أصحابنا ما في الصحيحين من صلاته صلى الله عليه وسلم الظهر عند الزوال على أن الناس اتفق اجتماعهم (5) في تلك الصلاة التي صلاها بهم عند الزوال.
__________
(1) قوله ساقطة -و-ق-.
(2) فيض القدير ج 2 ص 25 والجامع الكبير. رقم الحديث 3611.
(3) رواه البخاري باب وقت الظهر عند الزوال فتح الباري ج 2 ص 160. ورواه مسلم في أحاديث الأوقات. إكمال الإكمال ج 2 ص 295 وما بعدها. وأخرجه البيهقي ج 1 ص 436.
(4) هو من كتاب عمر الذي بعث به إلى عماله. رواه مالك في الموطأ شرح الزرقاني ج 1 ص 21 - 22.
(5) جماعتهم -و-.

(1/389)


والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: اختلف أصحابنا في الفذ فذهب بعضهم إلى أن المستحب له التعجيل أول الوقت لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أفضل الأعمال الصلاة لأول وقتها" (1). ولم يعرض في الفذ عارض ينقله إلى استحباب التأخير كما عرض في الجماعة. وذهب بعضهم إلى أن المستحب له التأخير إلى الذراع لعموم قول عمر رضي الله عنه: صلوا الظهر والفيء ذراع.

والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: أما تحديده بالذراع فإنما ذلك لكون الذراع ربع القامة. وقامة الإنسان مقدار ما بين يديه إذا بسطهما حتى يحاذيا منكبيه. فلما كان الإنسان قد يعدم شيئًا يقيس به الظل ولا يعدم نفسه فيقيس بها الظل، مثل به. وإلا فكل شيء أقيم لاعتبار الظل. فإن الظل إذا زاد قدر ربع طول القائم كان ذلك هو المختار في صلاة الظهر على حسب ما بيناه.

والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: أمّا الإبراد بالظهر فمأمور به لقوله عليه السلام: أبردوا بالصلاة فإن شدة الحر من فيح جهنم (2). وأيضًا فإن شدة الحر تقطع عن استيفاء حق الصلاة وتقتضي استعجال المصلي إلى طلب السكون والراحة. فاستحب ترك إيقاع الصلاة فيه. ألا ترى أن الشرع جاء بنهي الحاقن عن الصلاة لما كانت الحقنة تمنعه من استيفاء الصلاة. وهذا التعليل يوجب أن يستوي الفذ والجماعة *في الأمر بالإبراد لأن كون الحر قاطعًا عن استيفاء ما يجب للصلاة يستوي فيه الفذ والجماعة* (3) فإذا ثبت أن الإبراد مأمور به. قال ابن حبيب: منتهاه إلى وسط الوقت وبعده بقليل. وقال بعض الأشياخ يؤخر إلى الذراع لأجل الجماعة وإلى نحو الذراعين لأجل الإبراد.
وقال محمَّد بن عبد الحكم يؤمر بالتأخير (4). ولكن لا يخرج عن الوقت. فأشار إلى أن الإبراد ينتهي لآخر الوقت. والأصح عندي مراعاة حال يومه. فإذا فتر
__________
(1) تقدم تخريجه قريبًا.
(2) رواه عن أبي هريرة البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وأحمد والدارمي وغيرهم. الهداية ج 2 ص 267.
(3) ما بين النجمين ساقطة من -و-.
(4) بالتبريد -و-.

(1/390)


الحر القاطع عن استيفاء الصلاة، أمر بإيقاع الصلاة حينئذ إذا حان الوقت المختار. فإن لم يفتر حتى خيف ذوات الوقت لم تؤخر عن الوقت. فإذا ثبت تعلق الاختيار بزمن ما وكان التأخير عنه للعذر، فمتى ارتفع العذر تمسكنا بالاختيار. وارتفاع الحر يختلف باختلاف البلاد واختلاف الرياح. ولكن رأى أصحابنا تحديده بما ذكرناه عنهم ليكون الحكم عامًا وترجع إليه العامة التي لا تضبط تفاصيل الاجتهاد، فذلك طريق في النظر.

والجواب عن السؤال الخاص: أن يقال: اختلف الناس في آخر وقت صلاة الظهر. فذهب مالك إلى أنه انتهاء الظل إلى زيادة *مثل القائم. وذهب أبو حنيفة إلى أنه انتهاء الظل* (1) مثلي القائم. فالحجة لمالك صلاة جبريل بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد صلى به (2) الظهر في اليوم الثاني عندما صار الظل زائدًا مثل القائم. وحديث عبد الله بن عمرو. وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه: وقت الظهر إذا زالت الشمس وكان ظل الرجل (3) كطوله ما لم تحضر العصر. وهذا بيان من جبريل للنبي - صلى الله عليه وسلم - ومن النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته أن آخر وقت الظهر زيادة الظل مثله.
وأما أبو حنيفة فإنه تعلق بحديث، القصد منه ضرب مثل وهو حديث تمثيل النبي - صلى الله عليه وسلم - عمل أمته بالإضافة إلى من قبلهم من الأمم بأُجَرَاء عملوا إلى الظهر وآخرون إلى العصر وآخرون من العصر إلى الغروب. والعاملون من العصر إلى الغروب مثلوا بالمسلمين وهم أقل عملًا وأكثر أجرًا (4) فقال أصحاب أبي حنيفة إنما يصح هذا التمثيل على أن آخر الظهر القامتان وهو أول وقت العصر، وبذلك يصح كون العاملين من العصر إلى الغروب أقل عملًا. وهذا الذي قالوه لا يخفى عن حاذق ضعف التعلق به. وكيف يقابل حديث فيه نزول جبريل على النبي - صلى الله عليه وسلم - بين له الأوقات ويصلي به ليعلمه ذلك. وبيان النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك لأمته
__________
(1) ما بين النجمين ساقط من -و-.
(2) فقد صلى به: ساقطة من -و-.
(3) مثله كطوله في -و-.
(4) رواه عن عبد الله بن عمر مالك وأحمد والبخاري والترمذي وغيرهم. الهداية ج 2 ص 265.

(1/391)


في حديث إنما سيق ليعلم الأوقات وبيانها بحديث القصد منه ضرب المثل، ولم يقصد منه بيان الأوقات ولا تعرض فيه لشيء من أمور الصلوات. مع جواز أيضًا أن يكون المراد بأن الآخرين عملوا من آخر وقت العصر. فالحديث لم يذكر إلا أن قومًا عملوا من العصر إلى الغروب ولم يذكر أول وقت العصر ولا آخره فكيف تترك النصوص لمثل مضروب، فيه من الاحتمال ما ذكرنا.

والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: اختلف أصحابنا في معنى القول أن آخر وقت الظهر زيادة الظل مثله. فذهب بعضهم إلى أن المراد به أن تنقضي صلاة الظهر عند زيادة الظل مثله *وبه قال الشافعي* (1) وقال آخرون أن المراد به أن يفتتح صلاة الظهر عند زيادة الظل مثله. وسبب هذا الاختلاف: ما وقع في حديث صلاة جبريل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - من أنه صلى به الظهر في اليوم الثاني عند زيادة الظل مثله. وفي بعض طرقه إنما صلاها به لوقت العصر بالأمس (2). فحمله أهل المذهب الأول على أن المراد به أنه فرغ من صلاة الظهر حينئذ. وحمله أهل المذهب الثاني على أن المراد به أنه ابتدأ الصلاة حينئذ. ويرجح الأولون تأويلهم بأن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "يفيد فعل الصلاة والفراغ منها، بأن الفاعل من حصل منه الفعل". ويرجح الآخرون تأويلهم بأنه قد قال وصلى بهم العصر عند زيادة الظل مثله. ومعنى ذلك أنه ابتدأ الصلاة، فكذلك يكون محمل قوله صلى به الظهر حينئذ أي ابتدأها. وأيضًا فقد قال في حديث عبد الله بن عمر وقت الظهر إذا زالت الشمس. وكان ظل الرجل كطوله ما لم تحضر العصر. فاقتضى ذلك أن حضور وقت العصر يقطع وقت الظهر. ولا يكون قاطعًا لوقتها إلا بأن تنقضي الصلاة قبل حضور العصر.

والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: أما صلاة العصر فقد علم أول
__________
(1) ما بين النجمين ساقط من -ح-.
(2) روى البيهقي من حديث فأقام الظهر في وقت العصر الذي كان قبله ج 1 ص 235.
وجاء في معالم السنن: في بعض الروايات أنه صلى الظهر في اليوم الثاني في الوقت الذي صلى فيه العصر من اليوم الأول. وقد نسب هذا القول محمَّد بن جرير الطبري إلى مالك بن أنس. معالم السنن ج 1 ص 233.

(1/392)


وقتها. والدليل عليه مما قدمنا ذكره. وقررنا أن أول وقتها ابتداء القامة الثانية عندنا. وآخر القامتين عند أبي حنيفة، فأغنى ذلك عن إعادته *وقد قاله ابن عبد الحكم وابن حبيب في المذهب* (1).
وأما آخر وقتها فعندنا فيه قولان: أحدهما أن آخر وقتها القامتان لما وقع في حديث جبريل من التحديد بذلك. والثاني أن آخر وقتها ما لم تصفر الشمس لقوله في حديث عبد الله بن عمرو وقت العصر ما لم تصفر الشمس (2).
والجواب عن السؤال الثامن: أن يقال: إنما استحب تأخير صلاة العصر في مساجد الجماعات قليلًا رفقًا بالناس. وقد قال أشهب يستحب تأخيرها إلى الذراع من القامة الثانية، لا سيما في الحر. وجمهور أصحابنا على استحباب تعجيلها أول وقتها شتاء كان أو صيفًا. واستحب ابن حبيب أن يخص يوم الجمعة بتعجيل، ليقرب انصراف المتطهرين لها ممن صلى الجمعة. وقال بعض أشياخي الاستحباب يتنوع. فالمستحب في المغرب والصبح التعجيل. وفي العشاء التأخير. واختلف في الظهر والعصر. فقيل التعجيل أفضل. وقيل أول وقتها وآخره سواء. فعلى هذا القول لا يكون في التعجيل فضيلة. ومذهب أبي حنيفة استحباب التأخير ما لم تصفر الشمس. وقال بعض أصحابه إنما ذلك ليوسع زمن التنفل للناس لأن العصر إذا صليت يمنع (3) التنفل. ولأن القصد افتتاح الصحيفة بعمل خير واختتامها بمثله. فإذا صليت العصر آخر الوقت كانت صحيفة النهار في حكم ما ختم بخير.

والجواب عن السؤال التاسع: أن يقال: أما قول القاضي أبي محمَّد إن تأخير العصر عما يقرب من أول وقتها مكروه على حسب ما فسره. فإنه لفظ مشكل وكالهادم لم ابن اه. وذلك أنه أخذ يبين أوقات الاختيار فجعل الوقت
__________
(1) ما بين النجمين ساقط من -ح-ق-.
(2) رواه الترمذي من حديث أبي هريرة وأن آخر وقتها "العصر" حتى تصفر الشمس.
عارضة الأحوذي ج 1 ص 250. حديث عبد الله بن عمرو. رواه ابن أبي شيبة المصنف ج 1 ص 282 ح 3228.
(3) منع -و-.

(1/393)


المختار للعصر جميع القامة الثانية. وكذلك جعله جميع علمائنا من تقدم منهم ومن تأخر. والاختيار يشعر بانتفاء إطلاق الكراهة. وقد أطلق القاضي أبو محمَّد ها هنا على تأخير العصر أنه مكروه، وإن كان وقت الاختيار لم يذهب. وغيره من العلماء وإن ذهب إلى فضيلة التعجيل. فما أرى هؤلاء يطلقون الكراهة كما أطلقها إلا بتقييد وبيان على أن المراد بها أنه قد فات المؤخر حظ من الأجر، وفضل التعجيل. فيكون معنى الكراهة أنه مندوب إلى تحصيل الأفضل فيكره له ترك ما ندب إليه. والفقهاء إذا وصفوا الشيء بأنه مكروه وأطلقوا ذلك عليه لا يقصدون (1) هذا القصد. ألا تراهم لا يقولون فيمن أخر صلاة الفجر أنه فعل مكروهًا. ولا يقال الصلاة حينئذٍ مكروهة وإن كان التعجيل عندهم أفضل.
وكذلك مؤخر الظهر عن الذراع لا يقولون إن صلاته مكروهة. فيجب على قارئ هذا اللفظ أن يتأمل معناه ويعتبر بما قلناه.

قال القاضي رحمه الله: ووقت المغرب الذي لا تحل قبله، غروب الشمس. وهو واحد (2) مضيق غير ممتد مقدر آخره بالفراغ منها في حق كل مكلف. ويرخص للمسافر أن يمد الميل ونحوه ثم يصلي. وذلك داخل في باب الأعذار والرخص وهو خارج عن هذا الباب. ووقت العشاء الآخرة مغيب الشفق وهو العمرة لا البياض وآخر وقتها ثلث الليل الأول. ويستحب في مساجد الجماعات تأخيرها قليلًا قدرًا لا يضر بالناس. ثم لا يزال وقتها ممتدًا إلى أن ينقضي ثلث الليل (3) الأول.

قال الشيخ رضي الله هـ تعالى عنه: يتعلق بهذا الفصل ستة أسئلة. منها أن يقال:
1 - ما الدليل على أن المغرب وقت واحد؟.
2 - وما معنى اختصاص وقتها بوصفه بأنه واحد دون غيره من الأوقات؟.
3 - ولم رخص للمسافر أن يمد الميل؟.
__________
(1) لم يقصدوا -ح-.
(2) وهو وقت واحد -الغاني-.
(3) الليل ساقطة -الغاني-.

(1/394)


4 - وما الدليل على أن الشفق هو العمرة؟.
5 - ولم استحب تأخيرها في مساجد الجماعات قليلًا؟.
6 - وما الدليل على أن آخر وقتها ثلث الليل؟.

فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: اختلف المذهب في المغرب.
فذهب مالك في الموطإ أن لها وقتين. وفي المدونة إشارة إلى ذلك. وحكى البغداديون عن مالك أن لها وقتًا واحدًا. واختلف قول الشافعي في ذلك كما اختلف قول مالك. ومذهب أبي حنيفة أن لها وقتين. وسبب الاختلاف في ذلك اختلاف ما قدمناه من الأحاديث. ففي حديث جبريل أنه صلاها به في اليومين عند الغروب بخلاف ما فعل في سائر الصلوات. وهذا يوجب أن لها وقتًا واحدًا. وفي حديث عبد الله بن عمرو: ووقت المغرب ما لم يسقط الشفق.
وهذا فيه إثبات وقتين لها. وقد رجح الآخرون بأن لها وقتًا واحدًا، مذهبهم باستمرار عمل (1) المسلمين في سائر الأمصار على صلاتها عند الغروب. فلولا أنهم عقلوا عن الشرع أن وقتها واحد لما اتفقت خواطرهم ودواعيهم على إقامتها حينئذٍ كما لم تتفق دواعيهم على إقامة الظهر في وقت واحد، لما عقلوا عن الشرع أن لها وقتين. وينفصل الآخرون عن هذا بأنهم وإن قالوا إن لها وقتين فإنهم يسلمون أن المستحسن والأفضل صلاتها عند الغروب. وأهل السنة مجمعون على ذلك لأنها صلاة تمر بالناس وهم متأهبون لها. فاستحب تعجيلها كصلاة الجمعة. وقد قال ابن مسلمة من أصحابنا أن الغروب وإن كان موسعًا فيها إلى الشفق، فالأحسن تعجيل فعلهالأول وقتها. ويرجح هؤلاء الحديث الدال على أن لها وقتين بأنه متأخر عن حديث جبريل فوجب الرجوع إليه مع كونه عندهم أصح سندًا.

والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: إنما وصفت صلاة المغرب بأن وقتها واحد لأن غيرها من الصلوات وقتها ممتد وجميعه وقت مختار، ولأوله على آخره فضل أو لآخره على أوله، فصارت الصلوات لأجل اختلاف حال الأول والآخر هكذا موصوفة بأن لها وقتين لما صار في وقتها هذا النوع من
__________
(1) عمل ساقطة -و-.

(1/395)


التعدد. والمغرب لما لم يكن وقتها ممتدًا حتى يكون لأوله على آخره فضيلة وصفت بأن لها وقتًا واحدًا، وهذا أولى من أن يجعل معنى ذلك أن زمنها المختار لا يسع أكثر من إقامتها. لأن صلاة الظهر يسع وقتها المختار من إقامتها صلوات كثيرة فيجب أن تكون الظهر موصوفة بأن لها أوقاتًا. ولا معنى حينئذٍ، والمراد بهذا (1)، أن يقال لها وقتان إلا أن يتسع في العبارة ويجعل ما بعد قدر إقامتها من مبدأ وجوبها إلى آخر الوقت كوقت واحد يكون ثانيًا لمبدأ الوجوب.
فيصح المعنى حينئذٍ على أن المغرب يختلف حال الناس في إقامتها بعد الغروب. فمن مبادر ومن متوان قليلأوقد خرج بتوانيه عن مقدار إقامتها بعد الغروب. وجميعهم موقع لها في الوقت. ولكن إن كان الأمر على ما قلناه من أن المراد بأن لها وقتًا واحدًا منع (2) اختلاف حكم أول الوقت مع آخره. فما يصنع من قال إن جميع وقت الظهر متساوٍ في الفضيلة؟ هذا يتطلب معنى آخر غير هذا. وإنما أشرف لتحقيق هذا القول لما رأيت فيه من هذا الإشكال ولم أر أحدًا تعرض لتحقيقه كما يجب ويشفي الغليل فيه. ولعلهم اضربوا عنه لما كان إنما يرجع الأمر فيه إلى مناقشة في عبارة المفهوم منها قد تعارفوه بينهم.

والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: إنما جاز أن يمد الميل ونحوه ثم يصلي المغرب لما في أصل وقتها من الاختلاف وإن مالكًا قد قال في أحد قوليه إن وقتها ممتد إلى الشفق فلم يخرج بهذا التأخير عن الوقت المختار في أحد القولين. مع أنه في القول الآخر في حكم التأخير اليسير الذي لا يكاد يخرج عن الوقت. مع أن عذر السفر يبيح التأخير فيها والجمع بينهما وبين العشاء الآخرة فقد صار للسفر تأثير في جواز التأخير، فلهذا ألحقه القاضي أبو محمَّد بباب الأعذار والرخص.

والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: اختلف الناس بعد اتفاقهم على أن أول وقت (3) صلاة العشاء مغيب الشفق، في الشفق ما هو؟ فقال مالك إنه
__________
(1) هذا -ح- من هذا -ق-.
(2) منع ساقطة -ح-.
(3) أول ساقطة من -ح-.

(1/396)


العمرة الباقية من نور الشمس بعد غروبها. وقال أبو حنيفة هو البياض الباقي بعد العمرة، ووافق الشافعي مالكًا. لكن المزني من أصحابه وافق أبا حنيفة كما وافق أبو يوسف من أصحاب أبي حنيفة مالكًا. وقد أشار بعض أشياخي إلى أن مالكًا وافق أبا حنيفة أيضًا وتعلق بقول ابن شعبان، إن أكثر قوله إن الشفق العمرة. وهذا يشير إلى أن ابن شعبان يرى أن له قولًا آخر أنه البياض. ويمكن عندي أن يكون ابن شعبان إنما أشار بهذا، لما وقع في سماع ابن القاسم عن مالك أنه قال: أرجو أن تكون العمرة، والبياض أبين. وهذا من (1) مالك إشارة إلى تردده في مذهبه. فلما رأى ابن شعبان هذا التردد، ورأى ما سواه من القول المطلق أنه العمرة، أشار إلى أن أكثر أقواله الإطلاق بالحمرة دون تردد. هذا مما يمكن عندي أن يحمل كلام ابن شعبان عليه، فلا يقطع بصحة ما فهم شيخنا منه، واعلم أن البياض والحمرة يسمى كل واحد منهما شفقًا. ويشير في أنه العمرة قول الشاعر:
وقد تغطت بكمها خجلا ... كالشمس غابت في حمرة الشفق
فإذا ثبت أن النوعين جميعًا يسميان شفقًا (2). قال أصحابنا نحمله على أولهما أخذًا بأوائل الأسماء وقضاء بالأسبق. وقال أصحاب أبي حنيفة أصل الشفق الرقة، ومنه قولهم الشفقة الرقة، أي رقة المحبة والحنان فيه. فإذا كان هذا أصل هذه التسمية فلا شك أن البياض أرق من العمرة. فإذا كان أحق بمعنى الاشتقاق (3) كان أحق بالتسمية ووجب حمل ما ورد من الإطلاق عليه.
وقد تنازع الفريقان آية وخبرًا. فأما الآية فقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} (4) فإن كان الدلوك غروب الشمس على ما كنا حكيناه.
وغسق الليل ظلمته. والظلمة إنما تتحقق وتكمل بعد مغيب نور الشمس وجميع
__________
(1) عن مالك -ق-.
(2) الشفق -و-.
(3) الاشفاق -و- الانشقاق -ق-.
(4) سورة الإسراء، الآية: 78.

(1/397)


أثرها من بياض وحمرة، وجب أن تكون صلاة (1) العشاء عند مغيب الشفقال في هو البياض. وإن كان دلوك الشمس زوالها وغسق الليل الغروب (2) على ما كنا حكيناه فلا حجة في الآية لأحد المذهبين. وأما الخبر فهو ما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى العشاء لمغيب القمر لليلة الثالثة (3) فزعم أصحابنا أن ذلك إنما يكون قبل مغيب البياض وبعد أن غابت العمرة. وزعم الآخرون أنه إنما يكون بعد مغيب البياض. وقد أدخل النسائي هذا الحديث في كتابه على أنه حجة لاعتبار مغيب البياض ولكنه ضعف الحديث.

والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: إنما استحب تأخيرها في مساجد الجماعات رفقًا بالناس، وقد استحب ابن حبيب تأخيرها في زمن الشتاء قليلًا لطول الليل. وفي ليالي رمضان أكثر من ذلك قليلًا توسعة على الناس في إفطارهم. وحكى العراقيون من أصحابنا عن مالك أنه يرى أن آخر وقتها أفضل.
وفي المدونة إنكار تأخيرها لآخر وقتها. ومحمله على أن ذلك مما يضر بالناس فنهى عنه لإضراره.
وبعض أشياخنا اختار التعجيل إن اجتمع الناس، وانتظارهم إن أبطوا لما روي في البخاري أنه - صلى الله عليه وسلم - كان ينتظرهم إن أبطوا (4). وقد قال أشهب أما الفذ والجماعة الذين يتفق رأيهم على التأخير. فالاستحباب التأخير إلى مغيب البياض. فإن أخروا إلى ثلث الليل فواسع. وهذا يقتضي أن الاستحباب عنده التأخير، وإنما يعدل عنه لاستحباب التعجيل لنفي الضرر على الناس. وكأنه اعتمد (5) في هذا على ما روي أن الناس رقدوا ثم استيقظوا ثم رقدوا ثم استيقظوا. فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: لولا إن أشق على أمتي لأمرتهم أن يصلوها
__________
(1) صلاة -ح-.
(2) المغرب في -ح -ق-.
(3) رواه النسائي عن النعمان بن بشير ج 1 ص 264.
(4) روى البخاري في المواقيت عن جابر بن عبد الله وأنه كان يصلي العشاء أحيانًا وأحيانًا إذا رآهم اجتمعوا عجل وإذا رآهم أبطوا أخر البخاري: مواقيت ج 2 ص 18. ورواه مسلم: إكمال الإكمال ج 2 ص 281. كما رواه أحمد.
(5) اعتمد ساقطة -و-.

(1/398)


هكذا (1). وهذه إشارة إلى أن الفضل في التأخير لولا مراعاة المشقة.
والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: اختلف المذهب في آخر وقت صلاة العشاء. فذهب مالك إلى أنه ثلث الليل الأول. وذهب ابن حبيب إلى أنه نصف الليل. وسبب الاختلاف اختلاف الأحاديث التي قدمنا. ففي حديث جبريل أنه صلاها به عند الثلث الأول من الليل. وفي حديث عمرو بن العاصي ووقت العشاء الأخيرة ما لم يذهب نصف الليل.

قال القاضي رحمه الله تعالى: ووقت صلاة الفجر (2) طلوع الفجر الثاني ويسمى الصادق وهو الضياء المعترض في الأفق الذاهب فيه عرضًا يبتدىء من المشرق معترضًا حتى يعم الأفق، ثم لا يزال ممتدًا ما لم تطلع الشمس، وهي الصلاة الوسطى. والتغليس بها أفضل. فهذه أوقات الوجوب المبتدأة وهي على ضربين. منها: ما يكون ابتداؤها علمًا على الإجزاء في كل حال (3) عمومًا لا خصوصًا وذلك لثلاث صلوات وهي الزو الذي الظهر، وغروب الشمس في المغرب وطلوع الفجر في صلاة الفجر. فهذه الأوقات هي أوقات الوجوب والإجزاء (4). فلا يجوز تقديم هذه الصلوات عليها بوجه، لا في حال عذر (5)، ولا غيره. وأما المثل بالعصر. ومغيب الشفق للعشاء الآخرة فهو (6) في الرفاهية (7) والاختيار لأن الإجزاء والرخصة قد يتعلقان بتقديمهما على هذه الأوقات في حال الضرورات (8) على ما نبنيه.

قال الشيخ رحمه الله تعالى: يتعلق بهذا الفصل ستة أسئلة. منها أن يقال:
__________
(1) رواه مسلم بسنده إلى عائشة وعبد الله بن عمر وأبي موسى الأشعري.
(2) الصبح -و-.
(3) جنس -و-.
(4) والإجزاء في كل حال -غ-.
(5) عذره -الغاني-.
(6) فهي -و-غ-.
(7) الرفاهة -و-ق-.
(8) الضرورة -الغاني-.

(1/399)


1 - ما الفجر؟.
2 - وما الدليل على أن آخر وقت الصبح طلوع الشمس؟.
3 - وما الدليل على أنها الصلاة الوسطى؟.
4 - وما الدليل على أن التغليس بها أفضل؟.
5 - وما معنى قوله فهذه أوقات الوجوب المتبدأة؟.
6 - وما معنى قوله إن المثل في العصر ومغيب الشفق في العشاء الأخيرة هو في الرفاهة والاختيار؟.

فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: الفجر مأخوذ من الانفجار ومنه انفجار الماء بمعنى اندفاعه. وهو نور الشمس البادي في الأفق عند قربها منه.
فيكون مستدقًا. وشبه لدقته بذنب السرحان. فتكون الشمس على وضع ما من البعد عن الأفق، فيكون أول ما يبدو من نورها دقيقًا مستطيلًا، ويسمى الفجر الكاذب. فإذا تقربت من الأفق وانتقلت (1) عن ذلك الموضع اتسع ذلك النور وانفتق الضوء ويسمى الفجر الصادق. وكلما ازدادت قربًا زاوإنتشار الضوء حتى تبدو بنفسها لأعين الناس. وقد علق الشرع بهذا الضوء البادي منها الذي يسمى الفجر الصادق حكمًا من أحكام الصلاة. كما علق النور الذي تغادره فينا إذا غربت حكمًا من أحكام الصلاة؛ لأنه علق في صلاة الصبح الحكم بظهور النور المنتشر. وعلق في صلاة العتمة الحكم بغروب النور الذي هو العمرة والبياض على الاختلاف الذي ذكرناه (2) فيه.

والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: اختلفت الأخبار في صلاة الصبح.
ففي بعضها أنه صلاها بعد أن أسفر. والمراد به أنه أوقع جملة الصلاة في الإسفار وافتتحها لما بدأ. وفي بعض الأخبار أن آخر وقتها ما لم تطلع الشمس. فهل يكون ما بين الإسفار إلى طلوع الشمس وقت اختيار أو وقت ضرورة؟ سنتكلم عليه في الكلام على أوقات الضرورة إن شاء الله تعالى.
__________
(1) انقلبت -و-.
(2) ذكرنا -و-.

(1/400)


والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: اختلف الناس في الصلاة الوسطى ما هي على ثمانية أقوال؟ فقال بعضهم هي كناية عن الصلوات الخمس. وقال بعضهم هي كناية عن صلاتين: إحداهما العصر والأخرى الصبح. وقال آخرون هي صلاة (1) الجمعة. وقال آخرون هي صلاة الصبح. وقال به من الصحابة ابن عباس. ومن الفقهاء مالك. وقال غيرهم هي صلاة الظهر. وقال به من الصحابة زيد بن ثابت. وقال آخرون هي صلاة العصر وبه قال من الصحابة علي بن أبي طالب وعبد الله بن عمر، ومن الفقهاء أبو حنيفة والشافعي. وقال بعضهم هي صلاة المغرب قاله من التابعين قبيصة بن ذؤيب. وقال غيرهم هي العتمة. فأما من قال إنها كناية عن الخمس صلوات فإنه يحتج بأن الخمس عدد فرد والعدد الفرد لا وسط له. وما لا وسط له إذا ذكر فيه الوسط كان ذلك كناية عن جميعه كالدائرة التي لا أول لها معينًا (2)، وهذا باطل. لأن الله سبحانه قال: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} (3). وهذا لفظ يتناول جميعها إذا قصد به العموم تصريحًا. وإذا صرح بالشيء استغنى عن الكناية عنه إذ التصريح يفهم منه المراد، والكناية لا يفهم منها المراد كما فهم بالتصريح، فلا معنى لها.
وأيضًا فإن الوسط إذا لم يكن بمعنى النصف ها هنا صح أن يكون الثالث وسطًا في الخمسة لكونه مسبوقًا باثنتين ومعقبًا باثنتين. وأما من قال صلاة الجمعة فدعوى لا وجه لها؛ لأنها لم تختص بمعنى تخالف به الصلوات الخمس فيستحق التسمية بالوسطى. وهذا الاسم ليس بلقب وإنما هو مأخوذ من معنى ومفيد لحقيقة. فمن لم يبدها فيما ادعاه لم يسمع قوله. إلا أن يرد في ذلك نص شرع يتبع. ولهذا اختلف نظر العلماء لما تطلبوا معنى هذا الاسم. فنظر بعضهم إلى التوسط في عدد الركعات، فلم يجد إلا المغرب لأنها فوق الصبح ودون الظهر والعصر والعشاء في العدد فجعلها الصلاة الوسطى (4). ونظر بعضهم إلى التوسط في الزمن فقدم مالك الليل على النهار، فيكون المغرب والعشاء طرفًا أولًا،
__________
(1) صلاة ساقطة -و-.
(2) معينا ساقطة -و-.
(3) سورة البقرة، الآية: 238.
(4) هكذا في نسخة -ح- وأما في نسخة -ق- في التضيع من غيرها فلما خصها بالأمر بالمحافظة عليها في العدد فجعلها للصلاة الوسطى.

(1/401)


ويكون الظهر والعصر طرفًا آخر. فبقي الصبح وسطًا بين هذين الطرفين. ورجح مذهبه بأن وقتها مشكل أمره. ولهذا قيل هو من الليل. وقيل هو (1) من النهار. وقيل زمن ثالث لإشكاله. فكان أحق بهذه التسمية. وأيضًا فإن المفهوم أنها إنما خصت بالأمر بالمحافظة عليها *لكونها أقرب للتضييع من غيرها.
فلما علم البارئ سبحانه ذلك خصها بالأمر* (2) بالمحافظة عليها، ومعلوم أن النوم ربما حمل على إضاعتها، فكانت أحق بهذا الأمر. ولما رأى الآخرون أن الصبح والظهر تكون طرفًا أولًا إذا قدم النهار، والمغرب والعشاء طرفًا آخر كانت العصر وسطًا بين هذين. وأكدوا هذا بأنها وقت شغل الناس بالبيع والشراء. والبيع والشراء مما يحمل على تضييع الصلوات. ولهذا نبه الله سبحانه عليه وخصه بالذكر دون سائر الشواغل عن الصلاة. فقال تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} (3). واعتمدوا أيضًا على قوله - صلى الله عليه وسلم -: "شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر" (4). فقد بين ها هنا - صلى الله عليه وسلم - أن الصلاة الوسطى صلاة العصر، ولأجل هذا الحديث ذهب من قدمنا ذكر مذهبه إلى أن الوسطى صلاتان إحداهما العصر بالسنة، والأخرى الصبح بالقرآن. وأشار بعض أصحابنا ممن حاول سلوك هذه الطريقة إلى أن قوله تعالى {وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} ربما انتظم الصلاتين جميعًا الصبح والعصر. وهذا مذهب ضعيف لأن القرآن لم يصرح بإثبات الصبح وسطًا فتدعو الضرورة إلى إثبات وسطين. وإنما ورد القرآن بلفظ كناية اشتد إشكاله حتى اختلف فيه الصحابة
__________
(1) هو ساقطة من -و-.
(2) ما بين النجمين ساقط من -و-.
(3) سورة الجمعة، الآية: 9.
(4) روى مسلم عن علي كرم الله وجهه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الأحزاب: "شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر". ورواه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أيضًا. إكمال الإكمال ج 2 ص 310. كما روى البخاري عن علي كرم الله وجهه يوم الخندق: حبسونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس. ملأ الله قبورهم وبيوتهم أو أجوافهم نارًا. فتح الباري ج 9 ص 261.

(1/402)


والفقهاء على ثمانية أقوال فكيف يطمع مع هذا الإشكال أن يقال إن القرآن
تضمن إثبات الصبح وسطًا. فإن اعتضد هؤلاء بما قلناه من أن المفهوم أن
القرآن إنما خصها بالذكر لكونها أقرب إلى التضييع بغلبة النوم من غيرها، قلنا
قد قابل أبو حنيفة هذا المسلك بأن الشغل بالبيع آكد في العمل على التضييع من
غلبة النوم عند الصبح. فمع هذه المقابلة ونص النبي - صلى الله عليه وسلم - على أنها العصر لا يمكن القول بأن القرآن أفاد كون الصبح وسطا. على أنه قد يحمل إشارته - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "الصلاة الوسطى صلاة العصر". على أنه أراد بالألف والسلام ها هنا إحالة على المعهود المذكور في القرآن. فيكون ذلك كالتفسير للقرآن. وإذا كان قوله - صلى الله عليه وسلم - هذا مفسرًا للقرآن إما على قطع أو احتمال، لم يصح القول بأن السنة أثبتت صلاة أخرى وسطى غير الوسطى المذكورة في القرآن. هذا وقد ذكر في حديث عائشة رضي الله هـ ه تعالى عنها أنها قالت: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر (1). فعلى هذا يكون ما في القرآن مطابقًا لما في السنة من كون الوسطى هي صلاة العصر. وإن كنا لا نرى إثبات هذه الزيادة قرآنا ولا نبيح القراءة بها وإنما ذكرناها تأكيدًا لما قلنا من ضعف القول بإثبات وسطين. على أنه قد روي أيضًا في خبر (2) عائشة والصلاة الوسطى وصلاة العصر (3) بإثبات الواو وحاول أصحابنا أن يجعلوا ذلك عمدة في الرد على أبي حنيفة في قوله إنها العصر. وأجيبوا عن ذلك أنه قد يعطف الشيء على نفسه فلا يكون في العطف ها هنا دلالة على أن العصر غير الصلاة الوسطى. وأما ما أشار إليه بعض أصحابنا من أن القرآن يصح حمله على صلاتين وسطين فلا معنى له لأنه لم
__________
(1) عن أبي يونس مولى عائشة رضي الله عنها قال: كانت أمرتني كائشة أن كتب لها مصحفُ اوقالت: إذا بلغت هذه الآية فآذني: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى.
قال: فلما بلغتها آذنتها، فأملت علي: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر. إكمال الإكمال ج 2 ص 310.
(2) في حديث -ق-.
(3) عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: حافظوا على الصلوات وصلاة العصر قرأناها ما شاء الله ثم نسخها الله فنزلت حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى. إكمال الإكمال ج 2 ص 311.

(1/403)


يثبت كون الصبح والعصر جميعًا وسطيين، ونفي ذلك عما سواهما. فيصح حمل القرآن على ما ثبت من ذلك. ومن ادعى مع ورود القرآن بلفظ التوحيد حمل ذلك على صلاتين كمن ادعى حملها على ثلاث لا فرق بينهما. فإما أن يحمل على جنس الصلوات واستيعاب الخمس فيكون هو المذهب الذي ذكرناه أولأوقد (1) نقضناه. أو يحمل على صلاة واحدة وينظر في عينها على حسب الاختلاف المذكور فيها. وفي هذا كفاية في ضعف هذا المذهب. وقد كنا قدمنا أن هذا الاسم يشار به إلى معنى ينبغي أن يتطلب. فقدره قبيصة بن ذؤيب في عدد الركعات فأثبت الوسطى المغرب. وتطلبه مالك وأبو حنيفة في الزمن فقدم مالك الليل فكانت الصبح وسطى. وقدم أبو حنيفة النهار فكانت العصر. ونظر زيد بن ثابت إلى النهار فوجد وسطه الظهر فأثبت الظهر وسطًا لما كان الزوال وسط الزمان. وهذا فيه نظر لأن الوسطى وصف يعود إلى الصلاة لا إلى زمن الصلاة. فمذهب قبيصة ومالك وأبي حنيفة جار على وصف يعود إلى الصلاة إما في عدد ركعاتها وإما في (2) كونها ثالثة في عدد خمس. وكون نصف النهار وسطًا في الزمن لا يعود إلى الصلاة. وإنما اعتبر أبو حنيفة ومالك أي الزمانين تقدم (3) حتى تحصل للثالثة رتبة العدد. وقد احتج لزيد بأن الصحابة شكت (4) حر الرمضاء فلم يشكهم (5) ما أنزل الله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى}. هذا مثل ما احتج به لمذهب زيد. وقد قالس أصحابنا جوابًا عنه ليس نزول الآية عند شكواهم شدة الحر بالذي يوجب حمل الوسطى على الظهر.
وإنما أفادت الآية المحافظة على الصلوات أجمع (6) وفيها الظهر الذي كانت الشكوى بسببها. وذكر الوسطى تخصيصًا منبها على زيادة المحافظة عليها.
__________
(1) قد ساقطة -ح-.
(2) أو كونها -و -ق-.
(3) تقدم: ساقطة في -ح-.
(4) اشتكت -و -ق-.
(5) رواه مسلم عن خباب رضي الله عنه بطريقين. إكمال الإكمال ج 2 ص 306.
(6) جمع -و -ق-.

(1/404)


وأما من قال إنها صلاة العشاء فإنه اعتبر ما قدمناه بأن (1) خصيصها بالذكر يدل على أنها أقرب إلى التضييع، والإنسان قد يغلب عليه النوم في وقت صلاة العتمة في غالب الأمر فيترك الصلاة فأمر بالمحافظة عليها لأجل ذلك.
والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: اختلف الناس في الأفضل من وقت صلاة الصبح. فذهب مالك والشافعي إلى أن أول الوقت أفضل. وذهب أبو حنيفة إلى أن آخر الوقت أفضل. وحكى الطحاوي عنه أن الأفضل الجمع بين التغليس والأسفار، بأن يبدأ الصلاة في التغليس ويختمها في الأسفار.
ودليلنا على استحباب التغليس قول عائشة رضي الله عنها: كان النساء يخرجن متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس (2). وهذا فيه إثبات الفضل في التغليس لأن قولها كان، إشارة إلى المداومة على هذا الفعل. وفيه أيضًا رد ما حكاه الطحاوي من اختيار إتمام الصلاة في الأسفار لإخبارها أنهن كن ينصرفن من الصلاة في الغلس. وأيضًا فإنها إنما خصت بالأذان قبل وقتها لما كانت إقامتها في أول وقتها أفضل فقدم الأذان على الوقت لتأهب الناس للصلاة حتى يدركهم أول (3) الوقت وهم متأهبون. وأيضًا فإن الحديث الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ينتظر الناس في صلاة العشاء إذا أبطوا (4).
وأما الصبح قال الراوي: كانوا أو كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصليها بغلس (5). قيل معنى أو أي لم يكونوا. فأشار إلى أنه كان لا ينتظرهم في الصبح وينتظرهم في العشاء. وهذا يقتضي فضيلة أول الوقت، وأما أبو حنيفة فإنه يتعلق بقوله عليه السلام: "أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر" (6). وأجاب أصحابنا عن هذا بأن المراد بالأسفار ها هنا التبين، لا إسفار الشمس. وأصل هذه اللفظة التبين. ومنه قوله تعالى: {وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ} ومنه سفرت المرأة عن وجهها إذا أزالت
__________
(1) من أن -و -ق-.
(2) أخرجه مالك والبخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها. الهداية ج 2 ص 295.
(3) أول ساقطة -و-.
(4) تقدم تخريجه قريبًا.
(5) أخرجه أحمد عن جابر: والفجر كاسمها وكان يغلس بها. مسند أحمد ج 3 ص 303.
(6) رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وغيرهم. الهداية ج 2 ص 292.

(1/405)


البرقع فبان وجهها، قال الشاعر:
وكنت إذا ما جئت ليلى تبرقعت ... فقد رابني منها الغداة سفورها
ومنها سمي السفر لأنه يكشف عن أخلاق الرجال فالمراد بالحديث أن إيقاع الصلاة بعد بيان الفجر واتضاحه (1) أولى من إيقاعها في وقت قد يعرض فيه التباس. وانفصل عن هذا بأن الالتباس والشك في الفجر لا تصح الصلاة معه ولا أجر في تلك الصلاة حتى يقال إن غيرها أعظم منها أجرًا. والجواب عن هذا أنا لم نرد حالة التباس على جميع الناس وإنما أردنا أن وضوح الفجر وبيانه يتفاوت. فأمر المصلي بإيقاع الصلاة في الوضوح التام والبيان الجلي الذي لا يمكن تصور وقوع التباس فيه. وتعلقوا أيضًا بقول ابن مسعود في صلاة المزدلفة وصلاة الصبح بالمشعر الحرام. هاتان صلاتان قدمتا قبل وقتهما. قالوا وهذا يقتضي أن الصبح كانت عادته فيها الأسفار. فخالف العادة في المشعر الحرام فصلاها بغلس. وأجيبوا عن هذا بأن المراد (2) أنه عجلها في المشعر الحرام حين بدأ الفجر ولم يؤخرها عن أول الوقت. وقد (3) كان يؤخرها عن أوله قليلًا حتى يتضح الفجر إلى آخره.

والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: معنى قوله الوجوب المبتدأ لأن من نام عن صلاة أو نسيها فجميع الأزمان والأوقات وقت لها إذا ذكرها فيه.
فتحرز بقوله أوقات الوجوب المبتدأ من الوجوب المشروع على جهة القضاء، فإنه لا يتحدد بالأوقات التي ذكر.

والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: لما اختلف حال الصلوات باختلاف حال الاختيار والضرورات نبه رحمه الله على ذلك لأن الشرع جاء بإقامة العصر حال الاختيار عند مضي القامة. وجعل ذلك وقتًا لها مختارًا، كما
__________
(1) إفصاحه في -و-.
(2) أن المراد به أنه -و-.
(3) قد ساقطة -و-.

(1/406)


جعل الزوال وقتًا مختارًا للظهر. ولكن رخص في تقدمة العصر عن مبدأ وقتها المختار للعذر. ولم يرخص في تقدمة الظهر عن مبدأ وقتها المختار للعذر. فنبه على هذا الاختلاف وأحال تفصيله على ما بعد.

فصل
قال القاضي رحمه الله: فأما أوقات الضرورات والتضييق فهي للحانض تطهير. والمغلوب يفيق والصبي يبلغ والكافر يسلم والناسي يذكر، ويتصور في اثنين (1) من هؤلاء العكس. وهو أن يكون في حق الطاهر تحيض والمفيق يغلب ولا يتصور في الصبي يبلغ لأنه لا يعود إلى الصغر، ولا الكافر يسلم لأنه إذا ارتد ثم عاد إلى الإِسلام لم يؤخذ بقضاء ما فات. وأخذ في حال التضييق بما يؤخذ به الكافر الأصلي إذا أسلم، ويمكن تصويره في الناسي. وبسط ذلك يطول.

قال الشيخ رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل أربعة أسئلة منها أن يقال:
1 - ما معنى تسمية هذه الأوقات أوقات ضرورة؟
2 - ولِمَ لَمْ يعد في هذه الجملة الحاضر يسافر والمسافر يقدم؟
3 - وما الدليل على أن المرتد إذا تاب لم يقض ما فات؟
4 - وما المعنى الذي أشار إليه في إمكان تصور العكس في الناسي؟

والجواب عن السؤال الأول: أن يقال: تأخير الصلوات عن أوقات الاختيار التي قدمنا إلى أوقات الضرورة مكروه، أو ممنوع، على ما سيرد بيانه إلا في حق هؤلاء الذين عد، فإنهم (2) مضطرون للتأخير إذ لا يمكن الحائض ولا المغلوب بالإغماء صلاة. فصارت ضرورة هؤلاء ومن ذكر معهم ممن شاركهم في هذا المعنى، رفعت الكراهة والمنع (3) فسميت أوقاتهم أوقات ضرورة.
__________
(1) اثنتين -و-ق-.
(2) فإن فيهم مضطرون -ق-.
(3) أو المنع -ح-.

(1/407)


والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: إنما لم يعد المسافر يقدم والحاضر يسافر لأنهما هما المرادان بقوله والناسي. لأن الناسي الذي لم يتغير حاله بقدوم ولا بسفر (1) يصلي متى ما ذكر. لا يختلف حكمه في هذا باختلاف الأوقات.
وإنما يختلف حكم من نسي الصلاة في الحضر فخرج مسافرًا (2) في آخر وقتها أو بعد تقضي وقتها على ما فصله القاضي أبو محمَّد في آخر هذا الفصل لما ذكر فيه حكم الحاضر يسافر والمسافر يقدم. فأجمل ذكرهما في أول الباب وفصل في آخره. والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: اختلف الناس في المرتد هل يقضي ما لم يصله أيام ردته أو ما فرط فيه في (3) أيام إسلامه؟ إذا رجع (4) إلى الإِسلام فعندنا أنه لا يقضي ذلك. وقال الشافعي يقضيه. ودليلنا عليه (5) قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} (6) والمرتد كافر أيام ردته فدخل في هذا الخطاب، مع القول بالعموم، ولا معنى لقول أصحاب الشافعي أن المرتد قبل ردته ملتزم لأحكام الشريعة فيؤخذ بالقضاء كما يؤخذ بذلك النائم. لأنه نام وهو ملتزم للشرع. لأن المعتبر إلزام الله تعالى لا التزام الإنسان. وإنما يؤخذ الإنسان ببعض التزاماته (7) يخطئ الشرع في ذلك بإلزامه (8) إياها. وهب أن المسلم ملتزم للشرع أيام إسلامه فهو في أيام ردته غير ملتزم للشرع. فلا معنى لذكر الالتزام أيام الإِسلام. فإن قالوا المرتد لا يقر على دينه. والكافر الأصلي يقر على دينه فلهذا يقضي المرتد ولا يقضي الكافر الأصلي. قيل الإقرار على الدين أو منع الإقرار أصل. وقضاء العبادة أصل آخر،
__________
(1) ولا سفر -ح -ق-.
(2) مسافرًا ساقطة -ح-.
(3) من -و-.
(4) إذا راجع الإِسلام -و -ح-.
(5) عليه ساقطة -ح -ق-.
(6) سورة الأنفال، الآية: 38.
(7) التزامه -و-.
(8) التزامه -و -ق-.

(1/408)


فلأي وجه اعتبرتم أحدهما بالآخر من غير علة تقتضي ذلك ولا مناسبة توجب؟ هذا وهم يقولون إن الوثني لا يقر على دينه وتؤخذ (1) منه الجزية ومع هذا فإنه إذا أسلم لم يؤمر بقضاء (2) الصلاة. فدل ذلك على صحة ما قلناه من أن قضاء العبادة مرتبي (3) بالإقرار أو منع الإقرار. فإذا ثبت أن المرتد لا يقضي، لم يتصور العكس كما قال رحمه الله، وإنما يعتبر فيه إذا أسلم في حال ضيق الوقت، ما يعتبر في الكافر الأصلي إذا أسلم من اعتبار خمس ركعات قبل الغروب في الظهر والعصر على حسب ما يرد بيانه.

والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: أما انعكاس الناسي فإنه لا يتضح كما اتضح في غيره من الأقسام المنعكسة التي ذكرناها. فلهذا لم يصرح به كما صرح بها، واستغنى بالإشارة إليه لعدم اختصاصه بالمعنى الذي أخذ في بيانه، ولو صورنا (4) الانعكاس في ذاكر نسي، فلا شك أن النسيان يمنع من توجه الخطاب؛ لأن الناسي لا يكلف ما هو ناس له. وإن قلنا إن الحاضر إذا كان ذاكرًا لصلاة الظهر والعصر، فلما كان عند تضيف الشمس للغروب أخذ في السفر ونسي أن يصلي الظهر والعصر حتى غربت الشمس وهو في السفر فذكرهما حينئذ كيف يقضيهما قصرًا أو إتماما؟ يعتبر مقدار خروجه. فهذا وإن تصور فإنه لا معنى له. لأن المعتبر مقدار خروجه فيؤمر بالصلاة على حسب ما يقتضيه ذلك المقدار. فإن غفل عن إقامة ما أمر به فلم يذكر إلا بعد حين، فهل تعتبر الحالة الواجبة عليه أو حالة الأداء؟ هذه مسألة أخرى. وقد يمكن صرف إشارته رحمه الله إلى تصويره بأن يفرض الكلام في مسألة من نسي الظهر وصلى العصر عند الغروب وبقي بعد فراغه من العصر للغروب مقدار ركعة. فهل تجعل هذه الركعة وقتًا للظهر أو يكون الظهر خرج وقتها؟ هذا أصل مختلف فيه سنبسط القول فيه إن شاء الله وفي أمثاله من المسائل. فإن بسطها كما قاله
__________
(1) هكذا في جميع النسخ بالإثبات.
(2) بالقضاء للصلاة -و-.
(3) غير مرتبي -و-.
(4) ولو صور -ح-.

(1/409)


رحمه الله تعالى فيكون المراد أنه يذكر أمرًا وينسى أمرًا آخر يتعلق حكمه بحكم ما ذكر على حسب ما يفصله إن شاء الله. ولكن هذا الانعكاس لا يطابق الانعكاس المذكور في غير ما عده رحمه الله. لأن العكس هناك في تلك المسائل ينصرف إلى معنى واحد وصلاة واحدة. والانعكاس الذي هو ذاك رنا س (1) إنما يتصور على حسب ما قلناه ها هنا في أمرين ولا فائدة له في هذا الباب المقصود الكلام عليه فنزيد في الكشف عنه. قال القاضي رحمه الله: وبيان هذا الأوقات هو أن ابتداء الزوال وقت للظهر مختص لا تشاركها (2) فيه العصر بوجه. ومنتهى هذا الاختصاص قدر أربع ركعات للحاضر وركعتين للمسافر. ثم يصير الوقت مشتركًا بينها وبين العصر فلا يزال الاشتراك قائمًا إلى أن يصير قبل وقت الغروب بقدر أربع ركعات للحاضر أو ركعتين للمسافر فيزول الاشتراك ويختص العصر بالوقت. وتفوت الظهر حيئنذ على كل وجه. وإدراك وقت الصلاة المعتد به هو إدراك ركعة منها وما قصر عن ذلك فليس بإدراك.

قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل أربعة أسئلة. منها أن يقال:
1 - ما الدليل على ما ذكره من الاختصاص؟
2 - وما الدليل على ما ذكره من الاشتراك؟
3 - وما معنى تقييده بقوله وتفوت الظهر حينئذ على كل وجه؟
4 - وما معنى تأكيده بقوله وما قصر عن ذلك فليس بإدراك؟

والجواب عن السؤال الأول: أن يقال: اختلف أصحابنا في اختصاص أول الصلاتين بأول الوقت وآخر الصلاتين بآخر الوقت. فقال ابن القصار وغيره من أصحابنا بما قاله القاضي أبو محمَّد ها هنا من اختصاص الظهر بعد الزوال بقدر ركعاتها. والعصر قبل الغروب بقدر ركعاتها. وذهب غيرهم من أصحابنا إلى منع الاختصاص. قالوا وإنما ثبت (3) الاختصاص لأجل الترتيب الذي جاء به
__________
(1) ينسى في -و -ق-.
(2) لا يشركه -غ-.
(3) يثبت -ح-.

(1/410)


الشرع في هاتين الصلاتين من كون الظهر مقدمة على العصر. فلو سقط الترتيب بوجه ما، لسقط الاختصاص. فحجة من أثبت الاختصاص قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر" (1). فجعل ما قبل الغروب مختصًا بالعصر. فلو كان الاشتراك ممتدًا إلى الغروب لقال فقد أدرك الظهر والعصر أيضًا. فلو جعلنا الاشتراك ممتدًا إلى الغروب لكان موقع صلاة الظهر عند الغروب موقعا لها في وقتها. ويكون إيقاع العصر بعد الغروب إيقاعًا لها في وقتها. وذلك غير صحيح. لأن ما بعد الغروب ليس بوقت للعصر ولأن الغروب إذا حان، سقط فرض صلاة الظهر، مع تقدمها، على العصر. فلولا اختصاص الوقت بالعصر لما سقط فرض صلاة الظهر مع تقدمها. وحجة من قال بنفي الاختصاص أن السفر إنما جعل عذرًا في تخفيف عدد ركعات الصلاة لا في نقلها إلى أوقات لا يصح فعلها فيها (2) على جهة امتثال الأمر. ألا ترى أنه عذرٌ رد الظهر إلى ركعتين ولم يبح إقامتها قبل الزوال فلو كان ما بعد الزاول يختص بالظهر لوجب ألاَّ يجوز للمسافر أن يجمع (3) عند الزوال لأنه يكون حينئذ إذا صلى الظهر ركعتين والعصر ركعتين أوقع ركعتي العصر في وقت الظهر ووقتها (4) ما بعد أربع ركعات بعد الزوال. فيكون السفر حينئذ عذرًا في نقلها عن وقتها إلى ما قبله. وقد قدمنا أن السفر لا ينقل الصلاة عن وقتها. فدل ذلك على أنه لا اختصاص للظهر بعد الزوال.

والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: أما اشتراك الصلاتين في الوقت الذي ذكرناه (5)، فإن أبا حنيفة والشافعي خالفا في ذلك. ومنعا أن يكون بين
__________
(1) أخرجه البخاري ومسلم والنسائي والترمذي وأبو داود والبيهقي وأحمد. إرواء الغليل ج 1 ص 273.
(2) فيها ساقطة -و-.
(3) الجمع -و-.
(4) وقتهما -ح-.
(5) ذكرنا -و-.

(1/411)


والصلاتين اشتراك. ودليلنا ما وردت به الآثار من جمع النبي بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء، فلولا اشتراك الظهر والعصر في الوقت، والمغرب والعشاء في الوقت، لم يجمع بينهما كما لم يجمع وبين العصر والمغرب ولا بين الصبح والظهر، لعدم الاشتراك في الوقت. ولأن الحائض إذا طهرت لمقدار (1) خمس ركعات قبل الغروب، صلت الظهر والعصر. فلولا اشتراك الصلاتين في الوقت لم تؤمر بصلاة الظهر كما لم تؤمر بها إذا طهرت بعد الغروب. ولا ينفصل عن هذا بأن هذا وقت مختص بأصحاب الضرورات؛ لأن معنى اختصاصه بهم وإضافة الوقت إليهم أنهم غير مقصرين في تأخير الصلاة إلى آخر الوقت للعذر المانع لهم من إقامتها في (2) وقت الاختيار. ومن أخرها عن وقت الاختيار فقد قصر ونقصت صلاته عن الكمال.
قال القاضي أبو الحسن ابن القصار: هو وإن لم يلحقه الوعيد بالتأخير فقد أساء. وإذا ثبت أن هذا أساء وقصر، والآخر لم يسيء ولم يقصر، صح معنى الاختصاص في الإضافة. فإن تعلق أبو حنيفة والشافعي بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: وقت الظهر ما لم يحضر وقت العصر (3). وبقوله: إنما التفريط فيمن ترك الصلاة حتى دخل وقت أخرى (4). وإذا ثبت التفريط بدخول وقت الأخرى امتنع الاشتراك. وكذلك تحديده وقت الظهر بأن لا يحضر وقت العصر، قيل المراد بهذا ما لم يدخل وقت العصر المختص به *وهو ما قبل الغروب بقدر ركعاتها.
أو يراد به بيان الوقت المختار، وكذلك التفريط إنما يراد به ما لم يحضر وقت الصلاة الأخرى المختص بها* (5) فإن تعلقوا بصلاة جبريل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وبما
__________
(1) لقدر -ق-.
(2) في ساقطة -ح -ق-.
(3) الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه: إن أول وقت صلاة الظهر حين تزول الشمس وآخر وقتها حين يدخل وقت العصر. عارضة الأحوذي ج 1ص 250. وأحمد ج 2 ص 232.
(4) رواه النسائي في باب من نام عن صلاة عن أبي قتادة إنما التفريط فيمن لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى. السنن ج 1 ص 294.
(5) ما بين النجمين ساقط من -ح-.

(1/412)


ذكرناه من حديث عبد الله بن عمرو المحدد فيه أوقات الصلوات، وزعموا أن هذه الأحاديث الصحيحة تمنع من الاشتراك وتوجب حصر الأوقات على ما بينه جبريل للنبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى ما علمه النبي - صلى الله عليه وسلم - للناس في حديث عبد الله بن وغيره.
قيل لهم يقابل هذا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح. ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر (1). فقد اقتضى هذا الحديث أن العصر تدرك بمقدار ركعة قبل (2) الغروب. وهذا على عمومه فيجب بناء هذه الأحاديث. فإن بنوها على أن المراد بقوله من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر، أصحاب الضرورة كالحائض تطهير حينئذ فإنها غير ملومة بالتأخير. والمراد بحديث جبريل وحديث عبد الله بن عمرو، من عدا أصحاب الضرورات، قيل لهم قد يبني أصحابنا الأحاديث على خلاف هذا البناء فيقولون: إن (3) المراد بحديث جبريل وحديث عبد الله بن عمر بيان الأوقات المختارة إذا وقعت الصلاة فيها وقعت كاملة. والمراد بقوله من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر بيان الأوقات التي لا يكون إيقاع الصلاة فيها قضاء بل يكون أداءًا وتكون الصلاة فيها ناقصة لا كاملة. وقد يعترض علينا في هذا البناء بأن متعمد تأخير العصر إلى قبل الغروب بمقدار ركعة آثم إذا لم يكن له عذر في التأخير. وإذا حمل قوله من أدرك ركعة من العصر على عمومه اقتضى ظاهره نفي التأثيم بقوله فقد أدرك العصر. وتحقيق بناء هذه الأحاديث حتى لا تتعارض، وترجيح بناء طائفة على طائفة يفتقر إلى إيراد فصول من علم الأصول لا يحملها كتابنا هذا. وقد نتكلم فيما بعد إن شاء الله على المصلي للعصر إذا أوقع بعضها قبل الغروب وبعضها بعده.
__________
(1) رواه مالك عن زيد بن أسلم عن أبي هريرة: إرواء الغليل ج 1 ص 237.
(2) من الغروب -و-.
(3) إن ساقطة -ح-.

(1/413)


والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: أما وجه تقييده بقوله على كل وجه، فإنه يحتمل أن يقصد بذلك الإشارة إلى رد أحد القولين اللذين ذكرناهما، وأن (1) الاختصاص يثبت للعصر قبيل (2) الغروب خلافًا لمن زعم من أصحابنا أن الاختصاص يسقط إذا سقط الترتيب على ما حكيناه عنهم. وخلافُ اللشافعي في قوله إن مدرك ركعة قبل الغروب يكون مدركًا للصلاتين، فقيد رحمه الله كلامه. وأكد مراده في إثبات (3) الاختصاص فقال: وتفوت الظهر حينئذ على كل وجه. ومما انبنى على هذا المعنى الذي أشار إليه وذكرنا نحن الاختلاف فيه، من نسي الظهر وصلى العصر فلما كان قبل الغروب بركعة أغمي عليه. أو كانت امرأة فحاضت فاختلف قول ابن القاسم في وجوب قضاء الظهر. والاختلاف في هذا مبني على الاختلاف من اختصاص العصر بما قبل الغروب. فمن أثبته أوجب قضاء الظهر لأن العذر الطارئ طرأ بعد ذوات الظهر واستقرارها في الذمة، فوجب قضاؤها. ومن نفى الاختصاص عند سقوط الترتيب، كمثل ما جرى في هذه المسألة، فإنه لا يوجب قضاء الظهر. لأنه يقدر مقدار هذه الركعة وقتًا للظهر. فإذا طرأ العذر في وقتها سقط فرضها. ولما أشكل على ابن حبيب هذا الاختلاف ذهب إلى الاحتياط للصلاة فأي المذهبين كان مقتضيًا إيجابها (4) ركبه وصار إليه.

والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: أما وجه تأكيده بقوله وما قصر عن ذلك فليس بإدراك فإشارة إلى خلاف (5) أبي حنيفة والشافعي فإنهما قالا إن مدرك مقدار تكبيرة قبل الغروب يكون مدركًا للصلاة. وحملا على أن القصد بقوله عليه السلام: من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك
__________
(1) ولأن -و-.
(2) قبل -ح-.
(3) في نفي في -ح- ولا يظهر له وجه. ومراده في الاختصاص -ق-.
(4) إيجابه -و -ق-.
(5) قول في -و -ق-.

(1/414)


العصر (1)، التنبيه بالأدنى على الأعلى. وذكر ركعة ضرب مثل للقلة فكأنه قال: من أدرك جزءًا من العصر، وهذا لا نسلمه لهم لأنه دعوى. وإخراج لكلامه - صلى الله عليه وسلم - عن ظاهره من غير دليل ألجأ إلى ذلك. لكن اختلف أصحابنا في قوله من أدرك ركعة، هل هو مقصور على إدراك الركعة بمجردها دون سجودها أخذًا بظاهر الحديث، وإليه صار أشهب أو كنى بالركعة عن الركعة وسجودها وإليه صار ابن القاسم؟ لكن ابن القاسم لا يلزمه ما ألزمنا أبا حنيفة والشافعي؛ لأن الركعة يعبر بها في العرف عن الركوع والسجود، فصح حمل قول النبي - صلى الله عليه وسلم - على معنى مستعمل في العرف. ولم يستعمل في عرف التخاطب ذكر الركعة كناية عن تكبيرة الإحرام، فلهذا لم يلزم ابن القاسم ما ألزمناه أبا حنيفة والشافعي. وإذا قلنا إن المعتبر مقدار الركعة أو مقدار الركعة بسجدتيها فيختلف، هل يعتبر فيها الطمأنينة أم لا لأجل الاختلاف في فرض الطمأنينة؟ ويختلف هل يعتبر فيها قراءة أم القرآن لأجل الاختلاف في كونها فرضًا في كل ركعة على ما سيرد بيانه إن شاء الله.

قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله تعالى: فإذا طهرت حائض أو أفاق مغمى عليه، أو بلغ صبي، أو أسلم كافر، وقد بقي من النهار بعد فراغهم مما يمكنهم به أداء الصلاة من طهارة وستر عورة وغير ذلك قدر خمس ركعات في الحضر أو ثلاث (2) في السفر فعليهم الظهر والعصر لإدراكهم (3) وقتهما. وذلك لبقاء ركعة من وقت الظهر المشترك، وإدراك جميع وقت العصر. وإن كان الباقي أربعًا أو أقل من الخمس (4) فقد فات وقت الظهر فيسقط عنهم ويخاطبون بالعصر فقط لإدراكهم وقتها. ولو أدركوا من وقت العصر قدر ركعة فقط لكانوا مدركين لوقتها. فإن أدركوا دون ذلك، فلم يدركوا ما يلزمهم به (5).
__________
(1) تقدم قريبًا.
(2) ثلاث ركات -غ-.
(3) لإدراك -ح -و-ق-.
(4) وأقل من الخمس -غ- وأقل من الخمسة -و-.
(5) به ساقطة من -ح -و -ق-.

(1/415)


وكذلك لو أخرت امرأة الظهر والعصر إلى أن طرأ عليها الحيض وقد بقي من النهار قدر (1) خمس ركعات أو ثلاث على التفصيل الذي ذكرناه فلا قضاء عليها إذا طهرت لأنها حاضت في وقتهما (2). وإن كان الباقي دون ذلك كان عليها قضاء الظهر لإدراك (3) وقتها ولم يلزمها قضاء العصر لأنها حاضت في وقتها.
وكذلك الحكم في المغلوب وغيره، ومثل ذلك في المغرب والعشاء وهو أن تطهير حائض أو يفيق مغلوب وقد بقي إلى الفجر قدر خمس ركعات فتلزمه الصلاتان لإدراكه وقتهما. فإن أدرك قدر ثلاث ركعات سقطت المغرب لفوات وقتها وأنه لو صلاها لم يبق للعشاء وقت. وإن أدرك قدر أربع ركعات فقيل يصليها لأنه تبقى ركعة للعشاء. وقيل يصلي العشاء فقط لأنه لم يدرك شيئًا من وقت المغرب.

قال الشيخ رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل ستة أسئلة. منها أن يقال:
1 - ما الدليل على أن الظهر لا تفوت إلا بالمقدار الذي ذكر؟
2 - وما الحكم في هذا الوقت لو استحق بصلاة أخرى منسية؟
3 - وما الحكم فيه لو فسدت بالحدث؟
4 - وما الحكم لو فسدت بنجاسة الماء؟
5 - وما حكم الخطإ في التقدير في هذا الوقت؟
6 - ولم اختلف في مدرك أربع ركعات قبل الفجر؟

فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: أما اعتبار ذوات الظهر بما ذكر، فإن أبا حنيفة خالف فيه وذهب إلى أن خروج القامتين يفوت به وقت الصلاة المشروع. لأهل الاختيارواهل الضرورة، بناء منه على أصله في أن آخر وقت الظهر القامتان. وسلك في هذا ما كنا أشرنا إليه فيما تقدم من تعليم جبريل للنبي - صلى الله عليه وسلم - وتعليم النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته. فإن الأحاديث الواردة بذلك لم تجعل ما بعد القامتين فيها وقتًا للظهر فسقط اعتباره، وقد كنا قدمنا أن جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - بين
__________
(1) قدر مثبتة في الغاني ساقطة في بقية النسخ.
(2) وقتها -غ -و -ق- الغاني- وتفردت ح بقي وقتها.
(3) لفوات -غ -و -ق -ح-.

(1/416)


هاتين الصلاتين يشعر باشتراكهما في الوقت وذلك يقتضي ما قلناه من أن الظهر لا تفوت إلا قبيل الغروب بمقدار أربع ركعات التي يختص بها العصر، ولا معنى لإعادة هذا بعد ما تقدم.

والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: اختلف المذهب فيمن بقي بينه وبين الغروب (1) من أصحاب الضرورات مقدار ما يعتبر في الصلاتين أو في العصر خاصة فذكر صلاة منسية فاختلف في ذلك قول ابن القاسم هل عليه إذا صلى المنسية وغربت الشمس قضاء الصلاة التي استحقت الوقت *بحكم الأداء أم لا؟ فقيل ليس ذلك عليه لأن منعه من أداء الصلاة التي استحقت الوقت* (2) لأجل اشتغاله بالمنسية. ووجوب تقدمتها عذر (3) يمنع من توجه الصلاة المستحقة للوقت عليه. كما كان الحيض مانعًا من توجهها لما جاء الشرع بمنع الحائض من الصلاة. وقيل عليه قضاؤها قياسًا على أصحاب الاختيار إذا أخروا الصلاة حتى ضاق الوقت وذكروا صلاة منسية فإنه لم يختلف أنهم يصلون ما حضر وقته بعد فراغهم من المنسية. ويمكن عندي أن يفرق الأولون بين ما قالوه وبين المسألة المتفق عليها بأن المختار كالمتعدي في التأخير إلى ضيق الوقت، فإذا توجه عليه الأمر بصلاة أخرى فلا تسقط عنه تلك الصلاة، الذي هو كالمتعدي في تأخيرها. والحائض والمغمى عليه غير متعديين في التأخير. فإذا ضاق الوقت عند زوال عذرهما وأمرا بصلاة أخرى منعتهما من صلاة الوقت صار ذلك المنع كمنع الحيض والإغماء. وإنما يبقى على هذا اعتراض بالناسي والنائم، فإنهما لا يختلف في قضائهما ما حضر وقته، وإن شغلهما عنه إقامة الصلاة المنسية، لكن لا يلزم الاعتراض على ما قلناه بالنائم والناسي؛ لأن الشرع لم يجعل النسيان والنوم عذرًا في سقوط القضاء. وإن اتصل النوم والنسيان حتى ذهب الوقت، بل جعلهما في وجوب القضاء كالمختارين، لما كان قد يخيل أن الناسي معه ضرب من التفريط إذ لم يلزم نفسه الذكر، والنائم
__________
(1) المغرب -و-ق-.
(2) ما بين النجمين ساقط من -و-.
(3) عليها -و -عليه -ق-.

(1/417)


كذلك. إذ لم يحترز من الأسباب المطيلة للنوم. والحائض لا يتخيل فيها تفريط ولا قدرة على إزالة سبب التفريط. فلهذا لم يلحق بالمختار.

والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: إذا تطهرت الحائض ثم أحدثت وأخذت في إعادة الغسل فغربت الشمس فإنها تقضي الصلاة الفائتة لأجل الغسل المعاد؛ لأنها لما كملت طهارتها الأولى (1) تحقق خطابها بالصلاة. وحدثها لا يمنع من توجه الخطاب عليها. لأن المحدث مأمور بالصلاة وإن كانت لا تتأتى منه مع بقاء حدثه على ما تقرر بيانه في كتب الأصول. وقد قيل لا يتوجه الخطاب عليها لأن منع (2) الحدث الطارئ كاستدامة منع الحيض على ما كنا أشرنا إليه. وهذا إنما يمكن أن يقال فيمن غُلِبَت على الحدث. وأما من أحدثت مختارة فلا يختلف فيها.

والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: إذا اغتسلت الحائض بماء غير طاهر فَلمَّا أخذت في الإعادة بالماء الطاهر غربت الشمس فإنها لا يلزمها (3) قضاء ما فات، لأجل تشاغلها بالغسل المعاد. لأن منعها من الصلاة بالطهر الأول كمنعها من الصلاة بالحيض. وقيل بل تؤمر (4) بالقضاء إذا كان الماء الأول لم يتغير لأن الصلاة به تجزئ. وإنما تعاد في الوقت طلبًا للكمال. ولهذا قال أشهب، لو علمت المتطهرة بهذا الماء أنها إذا أخذت في الإعادة للغسل غربت الشمس، كانت صلاتها بذلك الغسل أولى من اشتغالها بالإعادة ضى يفوت الوقت. وهذا الذي قاله صحيح على أصل من قال من أصحابنا: إن الماء لا ينجس إلا بالتغير؛ لأن إعادة الغسل لأجل هذا الماء استحسان. ومراعاة الوقت فرض. وتحصيل الفرض أولى من تحصيل الكمال.

والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: لو قدرت الحائض لما طهرت، ما قبل الغروب بخمس ركعات، فأخذت في صلاة الظهر فلما صلت ركعة غربت
__________
(1) أولًا -و-.
(2) معنى -ح-.
(3) لا يلزم -ق -و-.
(4) لا تؤمر -ح-.

(1/418)


الشمس فإن عليها صلاة العصر ولا تسقط الصلاة الواجبة بخطئها، واشتغالها بفعل صلاة غير واجبة. كما لا تسقط الصلاة عمن نسي الصلاة ضى خرج وقتها. وأما قطعه لما هو فيه من الصلاة فيعلم حكمه من كلامنا على ذاكر صلاة وهو في صلاة، وسيرد بيانه إن شاء الله عَزَّ وَجَلَّ. ولو أن هذه المقدرة لهذا الوقت صلت العص رنا سية للظهر، فإن عليها صلاة الظهر لكونها مدركة وقتها.
ولا يسقط الإدراك بفعل خطإ على ما ذكرناه (1). فإذا صلت الظهر فهل تؤمر بقضاء العصر؟ فيه قيلان. فقيل تؤمر بقضائها لأنها أوقعتها في غير وقتها إذ الأربع ركعات من الخمس المقدرة قبل الغروب وقت مختص بالظهر. فموقع العصر فيه فصل لها في غير وقتها، فيعيدها بعد الوقت. كمن صلى العصر عقيب الزوال بغير فصل فإنه يعيدها وإن ذهب الوقت، لإيقاعه إياها في وقت مختص بالظهر. وقيل لا إعادة عليه للعصر لأن الصلاة المفعولة لا تعاد لأجل المنسية إلا في الوقت.

والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: اختلف في مدرك أربع ركعات قبل الفجر هل يكون مدركًا لصلاة المغرب والعشاء كما قاله مالك وأكثر أصحابه، أو يكون مدركًا للعشاء خاصة كما قاله ابن الماجشون وابن مسلمة لأجل الاختلاف في آخر الوقت؟ هل يكون وقتًالأول الصلاتين أو لآخرهما (2)؟ فمن قدره لأول الصلاتين جعله مدركًا للمغرب لحصول جميع ركعاتها. وتفضل ركعة يكون مدركًا بها للعشاء أيضًا. ومن قدره لآخر الصلاتين جعله مدركًا للعشاء خاصة لكون هذا المقدار من الزمن لا يسع أكثر من قدر ركعات العشاء. وهكذا قال ابن الماجشون أن المغرب إنما يكون لها ما فضل بعد ركعات العشاء.
فحجة القول الأول أن أولى الصلاتين لما وجب تقديمها على الأخرى فعلًا وجب تقديمها في الوقت تقديرًا، لاستحقاقها رتبة السبق. وأيضًا فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل مدرك ركعة من العصر مدركًا للعصر. فكذلك من أدرك ركعة من العشاء قبل الفجر يكون مدركًا للعشاء. وإذا كان مدركًا لها بركعة واحدة فلا
__________
(1) ما قدمناه -و-.
(2) أو لأحدهما -و-.

(1/419)


معنى لاعتبار جميع ركعاتها. وإذا لم يجب اعتبار جميع ركعاتها وجب صحة القول الأول بأن الواجب الصلاتان جميعًا لتأتي فعل الأولى بكمالها وركعة من الآخرة. وهو الذي كان يختار بعض شيوخنا.
وحجة القول الثاني أن الوقت إذا ضاق حتى لا يسع إلا إحدى الصلاتين فإن الواجب على المكلف فعل الصلاة الآخرة وتسقط عنه الأولى. ألا ترى أن مدرك أربع ركعات قبل الغروب إنما يجب عليه العصر خاصة، ويسقط عنه الظهر. فإذا تزاحم الصلاتان على آخر الوقت وثبتت الآخرة وسقطت الأولى دل ذلك على أن آخر الصلاتين أحق بآخر الوقت كما قاله عبد الملك.
وعندي أنه يجب أن ينظر في هذه المسألة من وجه آخر، وذلك أن بعض أشياخنا كان يقول لا أعلم خلافًا بين الأمة في أن التعمد في تأخير العصر إلى قبيل الغروب، بمقدار ركعة، لا يجوز، وإن فاعل ذلك آثم، وكذلك في الصبح. وإذا كان هذا هكذا فيحسن اعتبار عبد الملك جميع عدد ركعات الصلاة دون اعتبار ركعة واحدة منها لحصول الإثم بالاقتصار على ركعة واحدة في الوقت، إذ (1) كان الاعتبار عندهم بحصول جميع ركعات الصلاة في وقتها، وإن التأثيم يحصل في ذلك لمؤخر العشاء إلى مقدار ركعة قبيل الفجر. إذ (2) لم يرد إذن في الشريعة بجواز ذلك في شيء من الصلوات. ويكون محمل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر"، على أنه أدرك الخطاب بالوجوب إذا كان المانع من الوجوب الذي هو الحيض مثلًا، لم يرتفع إلا حينئذٍ. ولا يكون المراد بالحديث على هذه الطريقة أنه مدرك لوقت الصلاة حتى يكون مؤديًا لجميع ركعاتها في الوقت. ولهذا المعنى الذي أشرنا (3) إليه ركب بعض المتأخرين أن المرأة إذا أخرت العصر إلى قبيل الغروب بمقدار ركعة فحاضت حينئذٍ أنها إذا طهرت تقضي العصر لأنه قدر أن الثلاث ركعات
__________
(1) إذا -و -ح-.
(2) إذا في -ح-.
(3) أشار.

(1/420)


التي يسعها (1) النهار حصلت في الذمة وصارت كصلاة تركت عمدًا حتى خرج وقتها. وإذا حصلت صلاة في الذمة وجب قضاؤها. ولما لم يمكن فعل ثلاث ركعات والاقتصار عليها وجب أن تأتي بجميع العصر. وعلى هذه الطريقة تكون الحائض إذا طهرت حينئذٍ إنما وجبت عليها ركعة. فلما لم يمكن فعل ركعة على حيالها خوطبت بفعل الثلاث الساقطة بالحيض. وقد اختلف قول أصحاب مالك في المرأة إذا صلت ركعة من العصر قبل الغروب فلما غربت الشمس حاضت *هل تؤمر بقضاء هذه الصلاة إذا طهرت؟ فقيل لا يجب قضاؤها لأن من حاضت في وقت صلاة لا تقضيها* (2) وقد جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - مدرك ركعة من العصر قبل الغروب مدركًا للعصر. وإذا كانت هذه مدركة لم يجب القضاء.
وقيل بل القضاء عليها واجب. ووجه هذا القول ما نبهنا عليه من أن تعمد التأخير إلى هذا المقدار يحصل به الإثم وأن الثلاث ركعات في حكم ما يقضى لفواته. ومن حاضت بعد الفوات وجب عليها القضاء فيجب (3) أن يتأمل هذا الفصل في بناء هذين المذهبين عليه. ولو كان من خوطب بالصلاة مسافرًا وارتفع عذره المسقط للخطاب، وقد بقي للفجر مقدار ثلاث ركعات كحائض تطهير حينئذٍ، أو مغمى عليه يفيق حينئذٍ، فاختلف أصحاب مالك في هذه المسألة. فذهب ابن القاسم وأشهب إلى أن الخطاب إنما يتوجه بصلاة العشاء خاصة، وأسقط (4) المغرب. وذهب ابن عبد الحكم إلى إيجاب الصلاتين جميعًا المغرب والعشاء. قال أصبغ هذه آخر مسألة سألت عنها ابن القاسم فقال لي: أصبت أنت (5) وأخطأ ابن عبد الحكم وذكر لسحنون قول أصبغ فقال: بل أصاب ابن عبد الحكم. لأن آخر الوقت لآخر الصلاتين. وهكذا لو حاضت المسافرة سقطت عنها الصلاتان على أحد القولين ولم يسقط إلا العشاء على
__________
(1) لا يسعها في - و - ق -.
(2) ما بين النجمين هكذا ورد في -ح-.
حاضت فقيل: لا قضاء عليها لأنها حاضت في وقت صلاة لا تقضيها.
(3) فوجب -و-.
(4) وسقط -ح-.
(5) أنت ساقطة -و-.

(1/421)


القول الآخر وتقضي المغرب ويصير الوقت كأنه كله للعشاء وتلغي الركعة الفاضلة. واعلم أن تخريج هذه المسألة على الأصل الذي قدمناه يتضح فيه طريقة عبد الملك. لأنه إذا جعل آخر الوقت لآخر الصلاتين فقد أدرك هذا المسافر جميع ركعات العشاء وفضلت ركعة للمغرب، فصار مدركًا للصلاتين فوجب عليه فعلهما كما قال ابن عبد الحكم وسحنون. وإن اعتبرنا المسألة على طريقة مالك وأكثر أصحابه، وهي جعل (1) آخر الوقت لأول الصلاتين، فإن الذي نص عليه من سلك طريقته أنه إنما يجب عليه (2) صلاة العشاء خاصة وتسقط المغرب. وكان هذا البناء ينافره (3) اللهم؛ لأنه إذا اعتبر عند آخر الوقت أول الصلاتين فكيف تسقط المغرب وهي أول الصلاتين؟ وكان سقوطها مناقض للأصل الذي أصله مالك. وابن القاسم وأشهب من القائلين بأصل مالك، وهما قد أسقطا المغرب لأجل أنه لو فعلها لم يبق للعشاء وقت. ولما استشعر بعض الصقليين انحلال هذا البناء دعاه ذلك إلى أن قال المذهب على ثلاثة أقو الذي هذا الأصل: قول يجعل فيه آخر الوقت لآخر الصلاتين. وقول يجعل فيه آخر الوقت لأول الصلاتين. وقول يعتبر فيه إدراك جملة الصلاة وركعة من الأخرى ولا يراعى أن يبدأ بأول الصلاتين ولا (4) بآخرهما. فإذا صح له إدراك هذا المقدار وجبت الصلاتان. وإذا ثبت أن الموجبين للعشاء خاصة يرون أن آخر الوقت لأول الصلاتين فلم يستمروا على أصلهم بل أوجبوا الآخرة، وعذرهم عندي في ذلك أنهم لو أوجبوا فعل المغرب لذهب الوقت وتصرم الليل فيصير فعل العشاء بعد الفجر. وليس ذلك وقتًا لها. والحائض إذا طهرت لا تؤمر بفعل ما سبق من الصلوات وترك ما تأخر (5). وإيقاع العشاء بعد الفجر كالترك لها.
فلما لم يصح تركها وكان الواجب على هذا الأصل صلاة واحدة لا صلاتين
__________
(1) وهي جعل = ساقطة -و-.
(2) تجب عليه = ساقطة -ح -ق-.
(3) ينافر -ح-.
(4) أو -و-.
(5) أخر في -ح-.

(1/422)


جعلت الصلاة الواجبة صلاة العشاء لأجل اعتبار إيقاعها في الوقت (1) فتركوا اعتبار الترتيب لاعتبار الوقت. وأما ابن عبد الحكم فإنه وإن اعتبر آخر الوقت فلم يبال بإيقاع العشاء بعد الفجر *لأن اعتبار الوقت واجب واعتبار الترتيب واجب فلا يجب ترك أحدهما للآخر* (2) وإن أدى لإيقاع الصلاة بعد الوقت *والآخرون لما رأوا اعتبار الأصلين جميعًا يوقع في فعل آخر الصلاتين بعد الوقت تركوا اعتبار أحد الأصلين ها هنا لأجل هذا الذي عرض فيه* (3) وأما الذي قاله هذا الرجل من إثبات قول ثالث. فمناقشته فيه والبحث عما قاله يقطع عن غرضنا، فاكتفينا بما كشفناه من الاعتذار عن تحقيق القول فيما ذهب إليه. وقد حاول أبو إسحاق إثبات قول ثالث في هذه المسألة من طريقة أخرى، فقال هذه المسألة عكس مسألة الحاضرة، إذا طهرت لمقدار أربع ركعات لأن هذه إذا بدأت بالأولى استوعبت الوقت وإن بدأت بالآخرة بقيت فضلة. ومسألة الحاضرة بالعكس من ذلك. قال: فعلى قول عبد الملك المستوفي الوقت للحاضرة في الصلاة الآخرة يقول في المسافرة تفضل بعد الركعتين للعشاء ركعة للمغرب، فلا بد أن تصليها وإن أدى إلى ذوات الثانية. قال وانظر على هذا المذهب هل تسقط الثانية على أحد القولين لأنها غلبت على وقتها. وذكر ما قدمناه من الاختلاف فيمن ذكرت صلاة نسيتها أو أحدثت بعد طهرها. وذكر الخلاف فيمن انهدم عليهم البيت حتى خرج الوقت.

قال القاضي رحمه الله: وابن القاسم يرى في الكافر يسلم أن يعتبر له من الوقت، من وقت إسلامه دون فراغه من أمره. ويفرق بينه وبين غيره من أهل الضرورات لأنه لم يكن معذورًا بتأخير الصلاة. وغيره من أصحابنا يسوي (4) بينهما وهو النظر. لأن بالإِسلام قد (5) سقط عنه التغليظ، فأما المسافر ينسى في
__________
(1) اعتبار الوقت - و - ق -.
(2) ما بين النجمين ورد هكذا في -ح-.
لأن اعتبار الترتيب واجب، فلا يجب تركه، وإن أدى.
(3) ما بين النجمين ساقط من -ح-.
(4) سوى -ح-.
(5) قد ساقطة - ح - و -.

(1/423)


سفره الظهر والعصر فيذكرهما (1) بعد دخول (2) الحضر فإن كان قدومه لقدر خمس ركعات فأكثر صلاهما تامتين. وإن كان لدون ذلك صلى الظهر مقصورة لفوات وقتها والعصر تامة لبقاء وقتها. وإن سافر وقد نسي الظهر والعصر وكان عليه وقت إن (3) فارق الحضر من النهار، قدر ثلاث ركعات صلاهما مقصورتين لإدراك وقتهما وهو مسافر. وإن كان دون ذلك صلى الظهر تامة قضاء (4) وصلى العصر مقصورة لبقاء وقتها. وكذلك القول في المغرب والعشاء ..

قال الشيخ رضي الله تعالى عنه: يتعلق بهذا الفصل ثلاثة أسئلة. منها أن يقال:
1 - لِمَ لمْ يعتبر في الكافر الطهارة؟.
2 - ولم اعتبر ذلك في غيره من أصحاب الضرورات؟.
3 - ولم كان من سافر وقدم في السفر في ضيق الوقت يؤدي الصلاة بحسب حاله إذا كان إدراكه على ما ذكر؟.

فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: لا خلاف في أن المغمى عليه غير مؤثم في تأخير الصلاة وكذلك الحائض. وأما الكافر فاختلف الناس هل هو مخاطب بفروع الشريعة أم لا؟ فمن قال إنه مخاطب بفروع الشريعة أثمه بتأخير الصلاة. ومن قال إنه غير مخاطب أثمه بالكفر (5) الذي منعه من إقامة الصلاة فلم ينفك من أن يكون ملومًا على (6) المذهبين جميعًا. فلهذا اختص عند ابن القاسم بأن لم يعتبر فيه وقت الطهارة بخلاف غيره من أهل الضرورات الذين لا لوم عليهم في التأخير. وهذا التعليل قاد بعض أشياخي إلى أن قال لو تعمدت الطاهرة تأخير العصر إلى قبل الغروب بمقدار ركعة وأخرت الوضوء إلى هذا
__________
(1) فيدركهما -غ -وهو خطأ.
(2) دخوله -الغاني-.
(3) إن ساقطة - و -غ - ح -.
(4) قضاء ساقطة - ح - و.
(5) في الكفر في - ح - ق -.
(6) في المذهبين -و-.

(1/424)


المقدار ولو توضأت حينئذٍ لذهب هذا المقدار في الوضوء، فإنها إذا حاضت حينئذٍ لم تسقط عنها الصلاة؛ لأن مقدار تلك الركعة قد استحقه الوضوء وهي عاصية بالتأخير إليه. وصلاة العصر كالفائتة حينئذٍ والحيض لا يسقط قضاء الفوائت. والحائض إذا طهرت حينئذٍ بخلاف ذلك لأنها غير عاصية بالتأخير.

والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: اختلف في المذهب في أصحاب الضرورات وهم الصبي يبلغ والكافر يسلم والحائض تطهير والمغمى عليه يفيق، إذا زالت أعذارهم عند آخر الوقت هل يعتبر إدراكهم الصلاة عند زوال العذر من غير مزيد، أو بعد زوال العذر وفعل الطهارة؟ فقيل يعتبر في جميعهم بعد زوال العذر (1) الطهارة، وقيل يعتبر في جميعهم إلا الكافر لما قدمناه فيه من الفرق. وقيل يعتبر في جميعهم إلا الكافر والمغمى عليه. وكان بعض أشياخي يقول لا فرق بين الجميع. فإن قلنا بأن الطهارة شرط في الوجوب لم تجب الصلاة في جميعهم إلا بعد فراغهم من الطهر. وإن قلنا إن الطهارة شرط في الأداء، لم يعتبر الطهر في جميعهم لأن الوجوب غير موقوف على شرط.

والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: قد قدمنا أن مؤخر الصلاة عن وقت الاختيار قد قال بعض أصحابنا لا يلحقه الوعيد ولكنه أساء وهو مؤد للصلاة في وقتها. وإذا كان ما بعد وقت الاختيار وقت للصلاة وجب صحة اعتبار ما اعتبره القاضي أبو محمَّد في هذا الكتاب. وقد ذهب مجاهد إلى أنه وإن سافر في بقية من الوقت فإنه يصلي الصلاة حضرية، فكأنه راعى ما خوطب به في أول الوقت فلا يعتبر الخطاب بتغير الحال من حضر أو (2) سفر. وهذا يشبه ما قاله الشافعي إن المرأة إذا حاضت بعد أن مضى مقدار أربع ركعات بعد الزوال أن الصلاة تقضيها بعد طهرها. وكأنه رأى أيضًا أن الخطاب المتوجه في أول الوقت لا يتغير بتغير الحال. وهذه طريقة الشافعية في أن العبادة المؤقتة بوقت أوسع منها يتعلق الوجوب بأول الوقت. وقد أشبعنا الكلام في هذا
__________
(1) العذر ساقطة -ح-.
(2) إلى -و-.

(1/425)


في (1) ما مضى. وذكرنا جميع اختلاف أهل الأصول فيه. وكأن أصحاب هذه
الطريقة يرون أن الفسحة في تأخير العبادة المؤقتة بوقت عن أول وقتها بشرط
سلامة العاقبة. ويلاحظ هذا المعنى ما وقع عندنا في المذهب فيمن أفطر
رمضان بمرض أو سفر فإنه إذا زال عذره في جملة شوال ولم يقض رمضان فإنه إن قضاه بعد ذلك قبل الرمضان الآخر لم يكن عليه كفارة التفريط (2). وإن مرض بعد خروج شوال إلى الرمضان الآخر كفر كفارة التفريط. فكأن صاحب هذا المذهب قدر أن الفسحة في التأخير بعد شوال إنما يكون بشرط سلامة العاقبة. وسنشبع الكلام على هذه المسألة في كتاب الصوم إن شاء الله. وقد حاول بعض الأشياخ أن يثبت لصلاة الصبح وقت ضرورة مختلفًا فيه في المذهب. وذلك أنه قال قد قالوا لو أن عادم الماء إذا رجا إدراكه قبل طلوع الشمس فإنه يؤخر الصلاة، ولولا أن وقت الإسفار وقت اختيار لما أخر عادم الماء الصلاة إليه لأنه لا يؤمر بالتأخير بطلب الماء إلى وقت الضرورة. قال فهذه المسألة تدل على أن الصبح ليس لها وقت ضرورة. قال وأما ما يدل على أن لها وقت ضرورة فما سئل عنه مالك في المسافرين يقدمون الرجل لسنه فيسفر بصلاة الصبح فقال صلاتهم أفذاذًا أول الوقت أحب إليه. قال فلو كان الإسفار وقت اختيار لما استحب صلاة الفذ قبله. لأن صلاة الجماعة متفق على فضلها.
وفضل أول وقت الصبح على آخره مختلف فيه. والفضيلة "المجمع عليها أولى.
وهذا الذي قاله فيه نظر؛ لأنه يمكن أن يرى مالك أن فضيلة أول الوقت للفذ أولى من فضيلة آخره في جماعة بدليل قام له على ذلك. ويكون هذا الدليل أولى وأرجح من الترجيح بالاتفاق والاختلاف (3). وإذا أمكن هذا لم يلزم القول بإضافة هذا المذهب إلى مالك، وقد حكى غيره من الأشياخ اختلاف المذهب
__________
(1) على -و-.
(2) كفارة في التفريط -و-.
(3) النسخة -ح- صفحة 255 أولها كلام لا يتصل بالبحث. ثم إن النسخة ناقصة من باب ذكر الآذان والإقامة إلى قوله والآذان في الصبح تسعة عشر كلمة.

(1/426)


في أي الفضيلتين أولى؟ أول الوقت، وإن كان فذًا؟ أو آخره لأجل الجماعة؟ وإذا كان هذا الاختلاف، قد ذكر (1)، صح قول مالك عليه. وإنما أخرنا الكلام على هذه المسألة وأفردناها بالذكر ولم ندخلها في أثناء المسائل التي بعدها لأنها خارجة عن غرض الباب، ولما فيها من التعقب الذي ذكرناه.
__________
(1) قد ذكر = ساقطة -ق-.

(1/427)


ذكر الأذان والإقامة

قال القاضي رحمه الله: هما سنتان غير واجبتين. وسنة الأذان في الجماعة الراتبة. والإقامة أهبة للصلاة في الجماعة والانفراد.

قال الشيخ رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل سبعة أسئلة. منها أن يقال:
1 - ما الأذان؟.
2 - وهل هو واجب أو مسنون؟.
3 - وهل تستوي صلوات الفرض فيه أم لا؟.
4 - وهل الإقامة آكد منه أم لا؟.
5 - وما الدليل على أن الإقامة شرعت للمنفرد؟.
6 - وما وجه قصره للأذان على الجماعة الراتبة؟.
7 - وهل تجوز الإجارة عليه أم لا؟.

فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: أصل الأذان الإعلام. ومنه قوله تعالى: {قَالُوا آذَنَّاكَ} (1). معناه قالوا أعلمناك. ومنه قول الحارث بن حلزة:
آذنتنا ببيْنها أسماء
ولما كان المؤذن معْلمًا للناس بما يقوله من حضور وقت الصلاة سمى قوله: أذانًا.

والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: في الأذان معنيان: أحدهما إظهار شعار الإِسلام والتعريف بأن الدار دار إيمان. والثاني الدعاء إلى الصلاة
__________
(1) سورة فصلت، الآية: 47.

(1/428)


واستدعاء الإتيان إلى المواضع المأمور بإتيانها للصلاة، والتعريف بحضور وقت الصلاة. وهذا المعنى الثاني هو المقصود في أكثره. فأما المعنى الأول فإنه واجب تحصيله. وهذا الوجوب فرض على الكفاية. فلو تمالأ أهل العصر على تركه لأثموا أجمعون ولأجبروا على فعله. فإن امتنعوا ولم يقدر على قهرهم عليه إلا بالجهاد جوهدوا عليه حتى يفعلوه. فإذا فعله بعضهم حتى ظهر شعار الإِسلام وعرفت الدار بالإيمان" سقط الفرض عنهم (1) من هذه الجهة وارتفع الإجبار والجهاد. وهذا مذهب القاضي أبي بكر بن الطيب وبعض الأشياخ المتأخرين.
وفي الحديث أنه كان - صلى الله عليه وسلم -: "إن لم يسمع الأذان أغار" (2). وأما المعنى الثاني وهو المقصود بأكثره، وهو أذان سائر المساجد والجماعات الراتبة، فالذي حكاه أصحابنا البغداديون أن مالكًا والشافعي وأبا حنيفة يرونه سنة، وأن أهل الظاهر يرونه فرضًا. وقد وقع لمالك في الموطإ أنه واجب. وقال الشيخ أبو محمَّد الأذان واجب في المساجد والجماعات الراتبة. واختلف المتأخرون في الاعتذار عن اختلاف هذا النقل عن المذهب، فتأول القاضي أبو محمَّد قول الشيخ أبي محمَّد: إن الأذان واجب. على أن معناه أنه سنة مؤكدة. وتأول بعض المتأخرين من الأشياخ قول من قال إنه سنة على أن معناه أنه ليس بشرط في صحة الصلاة. واستدل من قال بالوجوب بظواهر الأوامر، وبأن العلم بالوقت فرض. ولما لم يمكن خطاب الجميع باعتباره، خوطب به آحاد بأن يعلموا به، ليحصل الغرض المقصود. ويعم الناس العلم بالوقت كما عمهم وجوب الصلاة فيه. ومن أنكر الوجوب لم يسلم حمل الأوامر بمجردها على الوجوب، وأقل مراتب هذه الأوامر الندب فحملها عليه.

والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: اختلف في صلاة الجمعة هل الأذان لها سنة كما هو في غيرها من الصلوات، أو الأذان لها واجب لاختصاصها دون سائر الصلوات بوجوب السعي وتحريم البيع؟ وإذا اختصت بذلك وجب الآذان فيها ليجتنب البيع ويسرع في السعي.
__________
(1) عنهم = ساقطة -و-.
(2) أخرجه البخاري: فتح الباري ج 2 ص 230. ومسلم إكمال الإكمال ج 2 ص 136 وغيرهما.

(1/429)


والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: الإقامة آكد من الأذان لأنها أهبة للصلاة. وقد خوطب بها المنفرد والجماعة. والأذان لم يخاطب به إلا الجماعة، وما عم الخطاب به ها هنا آكد مما خص.

والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: اختلف الناس في المنفرد هل يخاطب بالإقامة أم لا؟ ومذهب مالك أنه مخاطب بها. وقد وقع في المبسوط أن الإقامة للمنفرد إنما هي لجواز أن يأتي من يأتم به. وهذه إشارة إلى ما قاله المخالف من أن المنفرد لا يفتقر لمعنى يختص به. وقد وقع في كتاب مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جمع بين الصلاتين في الحج بإقامة واحدة للصلاة الأولى (1).
فسقوط الإقامة من الصلاة الثانية للاستغناء عنها باجتماع الناس يشير إلى سقوط الإقامة عن المنفرد. وسنتكلم على هذا الحديث فيما بعد إن شاء الله.

والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: قد قدمنا أن المقصود بالأذان في أكثر الدعاء إلى المواضع المأمور بالإتيان إليهلالإقامة الصلاة في جماعة. ولا شك أن الجوامع والمساجد والجماعات الراتبة يؤمر من أراد الصلاة بالإتيان إليها ليحصل له فضل الجماعة. ولما كان الإِمام الذي تؤدى إليه الطاعة ويقيم الجماعة يؤمر بالإتيان إليه لإقامة الصلاة، قال في الرواية إنه إذا صلى على الجنازة خارج العصر وحضرت الفريضة، أنه يؤذن للفريضة ويقيم. وأما المنفرد أو الجماعة غير الراتبة، الذين لا يفتقرون إلى إعلام غيرهم بالصلاة، وهم في الحضر فاختلف هل يستحسن لهم الأذان لأنه ذكر من الإذكار وفيه إظهار شعار الإِسلام أو لا يستحسن ذلك لهم؛ لأن الغرض الأكثر في الأذان الدعاء إلى صلاة الجماعة، وهؤلاء لا يدعون أحدًا، فلم يكن لأذانهم معنى. وقد نقلت الرواة ما جرى في مبدأ الأذان من اختلاف الآراء هل يدعى الناس للصلاة بضرب الناقوس أو غيره مما ذكر (2). فشرع الأذان إذ ذاك وهذا يدل على أن معظم القصد به الدعاء للجماعة. فإذا لم يكن هناك من يدعى فلا معنى له. وأما السفر
__________
(1) انظر طرقه واختلاف رواياته: سنن البيهقي ج 1 ص 401.
(2) رواه مالك في الموطإ. شرح الزرقاني ج 1 ص 121 - 124. والبخاري ومسلم عن ابن عمر وأنس: اللؤلؤ والمرجان ص 213 - 214.

(1/430)


فيستحسن فيه وإن كان فذًا لقول ابن المسيب من صلى بأرض فلاة فأذن وأقام، صلى وراءه أمثال الجبال من الملائكة (1). وأيضًا فإن فيه إظهار شعار الإِسلام من حيث ليس هناك من ينوب عنه في إظهاره. وقد قال بعض أصحابنا في تأويل قوله عليه السلام: فإذا كنت في غنمك أو باديتك فأذنت فارفع من صوتك (2). الحديث. إن المعني به أنه لما كان معتزلًا عن العصر افتقر إلى إظهار شعار الإِسلام، ولو كان في العصر لاستغنى عن ذلك لنيابة أهل العصر عنه في ذلك.

والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: المشهور من مذهبنا: جواز الإجارة على الأذان وبه قال الشافعي، ولم يجزه ابن حبيب وبه قال أبو حنيفة.
ولا تجوز الإجارة عندنا على الصلاة إلا أن يكون تبعًا للأذان، والقصد بالإجارة الأذان. وأجاز ابن عبد الحكم الإجارة على الصلاة وإن انفردت عن الأذان.
فالمذهب فيهما على ثلاثة أقوال:
1 - الإجازة في كل واحد منهما على انفراده.
2 - والمنع في كل واحد منهما بانفراده.
3 - والمنع في الصلاة بانفرادها والإجازة في الأذان منفردًا أو متبوعًا بالصلاة. فمن منع الإجارة على الآذان احتج بقول الراوي في الحديث وأمرني أن أتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرًا* (3). ومن أجاز الإجارة على الأذان احتج بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينكر على الراقي الأخذ على رقيته أجرًا (4). والأذان ذكر لله فكان في معنى الرقية.
__________
(1) رواه مالك في الموطإ آخر باب النداء في السفر وعلى غير وضوء. شرح الزرقاني ج 1 ص 139.
(2) رواه مالك في الموطإ عن عبد الله بن عبد الرحمن المازني أن أبا سعيد الخدري ... ورواه البيهقي: السنن ج 1 ص 397.
(3) رواه الترمذي عن عثمان ابن أبي العاص قال: إن من آخر ما عهد إليّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن اتخذ مؤذنًا لا يأخذ على أذانه أجرًا. حسن صحيح.
ورواه النسائي في الأذان عدد 33، وابن ماجة أذان 3.
(4) رواه مالك في الموطإ والبخاري فتح الباري ج 10 ص 430 وأبو داود والترمذي وابن ماجة وأحمد.

(1/431)


وأما الإجارة على الصلاة بإنفرادها، فوجه المنع منها أن كل مكلف تجب عليه الصلاة، ويلزم بفعلها. وهو إذا فعلها وهي لازمة له فالاقتداء به في صلاته لا يغير حكمها ولا يوجب عليه زيادة فعل، فكان أخذ الإجارة على ما يلزمه فعله ويجبر عليه من أكل المال بالباطل. وَأما من أجاز الإجارة فإنه يقدر أن في الإمامة زيادة كلفة عليه وارتباطًالأمر لم يكن يلزمه الارتباط إليه، وسعيا لموضع الإمامة. فالاجارة على هذا مأخوذ على ما لا يلزم فعله من ذلك كله.
وقد كان بعض أشياخي يشير إلى ارتفاع الخلاف متى كان ها هنا فعله فيه كلفة لا تلزم المصلي حتى تكون الإجارة تنصرف إليه. كما يرتفع الاختلاف في (1) الجواز إذا لم يزد المصلي على الواجب شيئًا. وإذا قلنا بجواز الإجارة على الصلاة، على أنها تبع للإجارة على الأذان، فتعذر على المستأجر الإمامة ووفى بالأذان فهل يحط من الإجارة بسبب عجزه عن الإمامة أم لا؟ اختلف في ذلك المتأخرون، فمنهم: من يقدر أن التبع لا حصة له من الثمن، ولا يحط من الإجارة شيئًا. ومنهم من يقدر أن (2) للتبع حصة من الثمن فيحط من الإجارة ما قابله.
واعلم أن المسائل الواردة في هذا الأصل مختلف جوابها. فالمذهب في من اشترى عبدًا له مال، أو شجرًا مثمرًا، إن استحقاق المال من يد العبد وجائحة الثمرة لا تستوجب حطيطة من الثمن. ولو استحقت حلية السيف التي هي تبع لنصله، أو أحقر سلعة من صفقة فيها سلع لحط من الثمن بقدر المستحق. فكان كل طائفة تستشهد على صحة مذهبها في الصلاة بما يوافق جوابها من هذه المسائل. والعذر عندنا عن (3) اختلاف جواب هذه المسائل أن الثمرة مضمونة بالقبض لما سقط السقي عن البائع، فلهذا لم تكن على البائع عهدة الجائحة. ألا ترى أنه لو باعها مفردة غير تبع لشيء وقوإنقطع السقي عنها أنه لا عهدة عليه في الجائحة. وأما العبد فمالك له وإنما وقعت المعاوضة على أن يقر البائع ملكه في يده وقد أقره، فلهذا لم يؤثر الاستحقاق. وقد قال بعض
__________
(1) هكذا في جميع النسخ والمعنى في عدم الجواز.
(2) إن = ساقطة -و-.
(3) على -ق-.

(1/432)


المتأخرين الأولى أن يحط من الثمن قدر ما يعلم أن المشتري زاده في الثمن، لتحمل العبد بماله وفوته به. كما قالوا إذا تعذر على المرأة الجهاز حط من الصداق قدر ما زاده الزوج لأجله. وإن كان الزوج لا يملكه ولا يملك انتزاعه. وهو في حكم التبع ولكن زاد في الصداق لحصول تجمل الزوجة.
واعلم أنه لا يخفى على أحد أن التجار يقصدون إلى جعل الثمن عوضًا من جميع ما عقدوا عليه قلّ أو جلّ، ويجعلون لكل جزء مما اشتروه حصة من الثمن تابعًا كان أو متبوعًا. فالمخالفة ها هنا لا معنى لها لأنها كالمخالفة في أمر محسوس. وإنما يفتقر إلى الاعتبار ما قاله أصحابنا من أن كون الشيء تبعًا يرفع عنه حكم التحريم المختص به إذا انفرد في مسائل منها حلية السيف التي هي تبع لنصله، فيحرم بيعها بجنسهالأولا يحرم ذلك وهي مضافة إلى السيف إلى غير ذلك مما في معناه. وما قالوه أيضًا من استحقاق التبع في الصفقة، لا يوجب للمشتري رد جميعها. وتشرح هذه الفصول في موضعها إن شاء الله تعالى.

قال القاضي رحمه الله تعالى: والأذان في الصبح تسع عشرة كلمة. وفي غيرها سبع عشرة كلمة. وحكاية لفظه في غير الصبح: الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله. أشهد أن محمدًا رسول الله. ثم ترجع بأرفع من صوتك (1) فتقول أشهد أن لا إله إلا الله.
أشهد أن لا إله إلا الله. أشهد أن محمدًا رسول الله. أشهد أن محمدًا رسول الله. حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح. الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله. وفي الصبح يزيد (2) بعد حي على الفلاح، الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم. ولفظ الإقامة: الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله.

قال الشيخ رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل أحد عشر سؤالا. منها أن يقال:
__________
(1) يرجع بأرفع من صوته الأول -غ- يرجع بأرفع من صوته -و- وهي ساقطة من الغاني.
(2) يردد -غ- ساقطة -و-.

(1/433)


1 - لم اقتصر في التكبير على التثنية دون التربيع؟
2 - ولِمَ لمْ يقتصر في الشهادتين على التثنية؟
3 - وهل يفتتح التكبير بصوت منخفض أو مرتفع؟
4 - وما الدليل على زيادة: الصلاة خير من النوم في الصبح؟
5 - وهل هي في كل (1) أذان الصبح أو أذان ما؟
6 - وإذا زيدت هل توتر أو تشفع؟
7 - وما الدليل على أن الإقامة توتر؟
8 - وهل يوتر قد قامت الصلاة أو تشفع؟
9 - وما حكم القاطع الطاريء في أثناء الأذان.
10 - وما حكم الإقامة هل تعاد إذا قطعت الصلاة أم لا؟
11 - وهل يسلم على المؤذن أم لا؟

فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: اختلف فقهاء الأمصار في تربيع التكبير المفتتح به الأذان. فقال مالك يثنى ولا يربع. وقال أبو حنيفة والشافعي بل يربع. وسبب الاختلاف: اختلاف الأخبار الواردة في الأذان. ويرجح مالك ما أخذ به من الأخبار بعمل أهل المدينة. ولا يكاد مع تكرر ذلك عليهم واشتهاره فيهم يخفى عنهم ما استقر عليه العمل في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وزمن الصحابة رضي الله عنهم.

والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: أما الشهادتان فإن أبا حنيفة يقتصر فيهما على التثنية. وقد روي عن مالك أن المؤذنين لما كثروا خففوا فصار لا يرفع منهم إلا المؤذن الأول. وحمل بعض أشياخي على أن هذه الرواية (2) مذهب عنه خلاف المشهور من القول بالتربيع. والمشهور عن مالك تربيع الشهادتين وهو مذهب الشافعي. وسبب الاختلاف اختلاف الأخبار. ويرجح مالك ما أخذ به في المشهور عنه باستمرار العمل به (3).
__________
(1) لكل -و-.
(2) هذه الرواية على أنها - ح - ق -.
(3) به = ساقطة -ح-.

(1/434)


وقد تأول أصحاب أبي حنيفة أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا محذورة بالترجيع على أن ذلك إنما القصد به إغاظة المشركين. وقد يقولون أيضًا قد يكون أمره بالترجيع ليعلّمه أو لأنه أخفى صوته فأعاد ليعلم. وقد ذكر بعضهم أن أبا محذورة كان شديد البغض للنبي - صلى الله عليه وسلم - قبل إسلامه. فلما أسلم وأخذ في الأذان فلما وصل إلى ذكر الشهادة أخفى صوته حياء من قومه. فدعاه النبي - صلى الله عليه وسلم - فعرك أذنه وأمره بالترجيع. قالوا ومن جهة المعنى أن المقصود بالأذان الدعاء إلى الصلاة.
واللفظ المختص بهذا المعنى حي على الصلاة. فإذا لم يربع مع أنه المقصود فأحرى ألاّ يربع غيره. والجواب عما تأولوه في حديث أبي محذورة أن استمرار العمل به يمنع مما قالوه. أو يكون ما قالوه سببًا في أن شرع (1) الترجيح. وقد يشرع الشيء لسبب ويزول (2) السبب ويبقى الشرع بعده على ما هو عليه. ولهذا قلنا نحن في الرَّمل في الطواف أنه شرع مباهاة للمشركين ثم زال السبب وبقي الرَّمل.
وإنما ذكرنا هذا مثالًا لا دليلًا لأنا (3) نخالف فيه أيضًا.
والجواب عما قالوه من جهة الاستنباط، أن التكبير قد ربع أولًا في الأذان عندهم، وكرر عندنا وعندهم في آخره، مع أنه ليس هو المقصود. فلا يبعد تربيع الشهادتين مع كونها ليست المقصودة على قولهم.

والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: ظاهر المذهب على قولين في صفة التصويت لمبدأ الأذان. فقيل يكون في الانخفاض مناسبًا لما بعده من الشهادتين. ويكون مبدأ المبالغة في رفع الصوت إذا أخذ في إعادة الشهادة.
وكان شيخنا رحمه الله ربما أذن في بعض قصور الرباط في منزله فيؤذن هكذا.
والقول الثاني أنه يفتتح التكبير بالمبالغة في رفع الصوت على حسب ما يفعله إذا أعاد الشهادتين. وإنما يختص بخفض الصوت الشهادتان خاصة في أول أمرهما. وربما غلط بعض العوام من المؤذنين إذا أخذ (4) بالقول الأول في نطقه
__________
(1) شروع -و-.
(2) ويزال -و-.
(3) لأنا لا نخالف -و-.
(4) أخذنا في -و-.

(1/435)


بالتكبير ويغلط أيضًا في نطقه بالشهادتين على القولين. فيخفي صوته حتى لا يسمع. وهذا غلط لأن ذكر الله سبحانه، وإن كان حسنًا سرًّا، وعلنا، فالمقصود به ها هنا إسماع (1) الناس ليعلموا دخول الوقت. فإذا أخفاه لم يحصل الغرض المقصود منه. وإنما تصور الخلاف في التكبير، وخالف النطق بالشهادتين أول مرة النطق بهما ثاني (2) مرة في أن رفع الصوت بالتكبير (3) يبالغ فيه مرة ولا يبالغ فيه أخرى. والذي أميل إليه من القولين المبالغة في رفع الصوت بالتكبير (4) لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا كنت في غنمك أو باديتك فأذنت فارفع صوتك فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن حسن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة" (5) فأمر برفع الصوت وعموم هذا اللفظ يقتضي المبالغة في رفع الصوت بالتكبير. وقد أشار - صلى الله عليه وسلم - للتعليل لرفع الصوت فقال فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن. وهذا التعليل يقتضي رفع الصوت بالتكبير لجواز أن يكون أحد في البعد من المارين بحيث لو رفع صوته بالتكبير لسمعه وشهد له. وإذا أخفاه لم يسمع. وهذا الذي قدمناه يلزم في مبدأ الشهادة لزيادته في البعد. هذا الأقرب والأظهر في التعليل.
والحرص على سماع من يمكن إسماعه في أول الأذان أولى من تركه لتقدير آخر.

والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: مذهب مالك رضي الله عنه إثبات -الصلاة خير من النوم- في أذان (6) الصبح. وكرهه أبو حنيفة إلا بعد الفراغ من الأذان. ولنا عليه التمسك بالأخبار وعمل أهل المدينة.

والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: المشهور من المذهب إثباتها في
__________
(1) إعلام -و-.
(2) في ثاني -و-.
(3) بالتكبير = ساقطة -ح-.
(4) في التكبير -و-.
(5) رواه مالك في الموطإ باب ما جاء في النداء للصلاة. عن عبد الله بن عبد الرحمن المازني أن أبا سعيد الخدري. ورواه البيهقي السنن ج 1 ص 397.
(6) أذان = ساقطة من -و-.

(1/436)


كل أذان للصبح. وروي ابن شعبان عن مالك أنه قال: فيمن كان في ضيعته متجنبًا عن الناس، أرجو أن يكون من تركها في سعة. ووجه هذا أن القصد بها إشعار النائمين المخاطبين بإتيان الجماعة، أن إيثار الصلاة أولى من إيثار (1) لذة النوم، ليكون هذا القول باعثًا لدواعيهم ومحركًا لهم إلى القيام إلى الصلاة.
ومن كان في ضيعته متجنبًا عن الناس مفقدد في أذانه هذا المعنى فلهذا سهل في تركه.

والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: المشهور من المذهب إنها تزاد في الأذان شفعًا. وقيل بل وترًا. وقد وجه القولان بالقياس على "قد قامت الصلاة" فقيل لما كانت لفظًا مختصًا بأحد (2) الأذانين وجب أن تكون من جنسه في العدد "كقد قامت الصلاة" وقيل لما كانت لفظًا مختصًا بآخر (2) الأذانين كانت وترًا "كقد قامت الصلاة".

والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: مذهب مالك والشافعي أن الإقامة وتر. وعند أبي حنيفة أن جميعها يثنى كالأذان. وسبب الاختلاف اختلاف الأخبار. ورجح (3) مالك مذهبه بعمل أهل المدينة. وقد قال بعض أصحابنا: لو شفع الإقامة غلطًا لأجزأه مراعاة لهذا الاختلاف (4).
والمشهور أنه لا يجزيه كما لو أوتر الأذان، وإن كان الأذان (5) لم يختلف في أنه لا يوتر.
والجواب عن السؤال الثامن: أن يقال: المشهور عن مالك رضي الله عنه أن "قد قامت الصلاة" توتر. وذكر ابن شعبان أن البصريين رووا عنه أنه يشفع. وهو مذهب الشافعي. فللمشهور قول الراوي: أمر بلالًا أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة (6)
__________
(1) إتيان أولى من إتيان -و-.
(2) بآخر -و-.
(3) يرجح في -و -ق-.
(4) الخلاف.
(5) الأذان = ساقطة -ح-.
(6) رواه البخاري ومسلم اللؤلؤ والمرجان ص 78.

(1/437)


فعَمَّ سائر ألفاظ الإقامة. ولأنه (1) عمل أهل المدينة. ووجه الرواية الشاذة عنه ما في بعض الطرق وأمر بلالًا أن يشفع الأذان، ويوتر الإقامة إلا الإقامة (2).
ولأنه عمل أهل مكة.

والجواب عن السؤال التاسع: أن يقال: قال بعض أصحابنا: إن رعف المؤذن تمادى على أذانه. وإن قطع وخرج لغسل الدم ابتدأ الأذان. وإن رعف أو أحدث في الإقامة قطع. وقال بعض أصحابنا: إن مات أو أغمى عليه في الإقامة ابتدأها غيره. وإن بني على ما مضى منها أجزأه. ولو أنه هو أفاق من إغمائه لابتدأ. فإن نسي أجزأه. وقال بعض أصحابنا إن نسي جل الأذان فذكر في مقامه بني على ما مضى ولو (3) كان المنسي مثل "حي على الفلاح" أجزأه الأذان. ولو ذكر بعد أن تباعد، لاستوى ما قل وما كثر. ولم يؤمر بأن يعود للأذان. وقال بعض أصحابنا إن تكلم سهوًا أو عمدً ابن ي على أذانه. وينهى العامد عما فعل. وإن كان الكلام لضرورة استنقاذ أعمى من مهواة أو نار جاز الكلام، وبنى. والذي يجب أن يعتبر في هذا الباب أن القواطع إن قل زمنها حتى لا تقطع اتصال الأذان بعضه ببعض فإنه يبني لحصول الغرض المقصود من الأذان مع البناء. وإن طال زمنها حتى منعت الاتصال، لم يبن. لأن الأذان إذا انقطع اتصاله لم يحصل الغرض المقصود به، وإنما يحصل إذا وقع على النظام المعتاد أو قريبًا من ذلك النظام. وقد قال بعض أصحابنا لو قدم الشهادة بالرسالة على الشهادة بالتوحيد لأعاد الشهادة بالرسالة وكأنه رأى (4) أن ما قُدِّم في غير موضعه كالعدم فلا يمنع الاتصال وتعاد ليحصل الترتيب.

والجواب عن السؤال العاشر: أن يقال: ذكر بعض الأشياخ المتأخرين (5):
__________
(1) وهو -و -ق-.
(2) رواه مسلم عن أنس قال أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة. زاد يحيى في حديثه: فحدثت به أيوب فقال إلا الإقامة. أي إلا قد قامت الصلاة.
(3) وإن -و-.
(4) قدر -ح-.
(5) المتأخرين = ساقطة من -و-.

(1/438)


أن الصلاة إذا قطعت لأمر أوجب قطعها، أن الإقامة تعاد. وأشار إلى إعادتهالأولو قرب القطع من الإقامة. لأنها إقامة قصد بها الصلاة التي قطعت، فلا تكون إقامة لغيرها مع اختصاص الإقامة بالصلاة، ووجوب اتصالها بها بخلاف الأذان. وأشار إلى التعلق في هذا بقوله في المدونة: فيمن رأى بثوبه نجاسة، وهو في الصلاة، أنه يقطع ويستأنف الصلاة بإقامة. ولم يفرق بين أن يكون القطع قريبًا أو بعيدًا.

والجواب عن السؤال الحادي عشر: أن يقال: السلام على المؤذن منهي عنه؛ لأن المسلم يعرض المؤذن بالسلام بأحد أمرين: إما أن لا يرد. ورد السلام واجب. وإما أن يرد. والكلام في الأذان مكروه. فلما كان في السلام تعريض المؤذن لأحد أمرين منهي عنهما، نهي عن السلام عليه. فإن سلم أحد عليه لم يرد عليه نطقًا ما دام مشتغلًا بالأذان. لأن السلام ربما أدى لفساد (1) النظام. وقد يكثر المسقمون ويكثر الرد عليهم فيظن إلى مع أن ما سمعه من الذكر ليس بأذان وإنما هو ذكر غير مقصود به الدعاء إلى الصلاة. فإذا فرغ المؤذن من الأذان كان له الرد نطقًا (2) لارتفاع العلة التي من أجلها وقع النهي.
واختلف أصحابنا هل له أن يرد، وهو مشتغل بأذانه، إشارة أم لا؟ فقيل له ذلك كالمصلي. وقيل ليس له ذلك بخلاف المصلي. لأن المصلي ممنوع من الكلام، فعوض عنه بالإشارة. والمؤذن غير ممنوع من الكلام وإنما نهى عنه لما فيه من إفساد النظام، فلما لم يكن ممنوعًا في الأصل لم يعوض عنه بالإشارة.

قال القاضي رحمه الله تعالى: ولا يؤذن للصلاة قبل وقتها إلا الصبح وحدها. والتوجه إلى القبلة في الأذان حسن (3)، والأفضل أن يؤذن متطهرا.
ولا يؤذن لنافلة. ويستحب لسامع الأذان أن يحكيه إلى آخر التشهدين، وإن أتمه (4) جاز.
__________
(1) إلى فساد -و-.
(2) قطعًا في -و-.
(3) أحسن -غ-.
(4) تركه -غ-.

(1/439)


قال الشيخ رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل تسعة أسئلة منها أن يقال:
1 - ما الدليل على أن الصبح يؤذن لها قبل وقتها (1)؟
2 - وما مقدار الوقت الذي يقدم الأذان فيه؟
3 - وما الأحوال المانعة من الأذان؟
4 - ولم لا يؤذن للنافلة؟
5 - وهل يؤذن لصلاة الفرض إذا جمعت مع أخرى؟.
6 - ولم استحب لسامع الأذان أن يحكيه؟
7 - وهل ذلك في كل مؤذن أو مؤذن واحد؟
8 - وهل يحكيه في الصلاة أم لا؟
9 - وهل يحكيه في كل الأذان أو في (2) بعضه؟

فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: اختلف الناس في الأذان لصلاة الصبح قبل وقتها. فأجازه مالك والشافعي. ومنعه أبو حنيفة. وكان صاحبه أبو يوسف يقول بقوله. فلما قدم المدينة وشاهد المؤذنين يؤذنون لصلاة الصبح قبل وقتها رجع إلى رأي مالك. ولما كان مالك والشافعي يريان (3) أن الأفضل التغليس بصلاة الصبح حسن عندهما تقديم الأذان، لكون الناس نياما. فيؤذن لهم قبل الوقت ليتأهبوا للصلاة (4) فيدخل الوقت عليهم وهم متأهبون. فيمكنهم إيقاع الصلاة أول الوقت، وتحصيل فضيلة التغليس.
ولما كان أبو حنيفة يرى (5) أن الأسفار بصلاة الصبح أفضل استغنى عن تقديم الأذان قبل الفجر؛ لأن إيقاع الأذان بعد الفجر يوقظ الناس للصلاة ويتأهبون لها فلا يأتيهم الأسفار الذي هو محل الفضيلة إلا وقد أمكنهم إيقاع الصلاة فيه. فلا معنى عنده لتقدمة الأذان قبل الوقت.
__________
(1) الوقت -و - ق -.
(2) في = ساقطة في -و-.
(3) رأيا -و-.
(4) للصلاة = ساقطة في -و-.
(5) رأى في -و-.

(1/440)


وأما مالك فيحتج له بقوله - صلى الله عليه وسلم - أن بلالًا ينادي بليل فكلوا وأشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم (1). وانفصل عن هذا بأن معناه أنه كان ينادي مشعرًا بالسحور. وقد قال بعض أصحابنا قد روي أن بلالًا يؤذن بليل. والأذان تسمية تقع في العرف على ألفاظ مخصوصة، الغرض بها الدعاء إلى الصلاة. ولو كان معناه الإشعار بالسحور لم بسم أذانًا ولا ذكرت فيه الحيعلة. وقد أشار بعض المتعقبين من أصحابنا إلى أن الحديث لا يستقل دليلًا في أن الغرض به الدعاء إلى الصلاة. وأما أبو حنيفة فيحتج بقوله عليه السلام لبلال: لا تؤذن حتى يستبين الفجر هكذا ومد يديه عرضًا (2). وقال أصحابنا في الانفصال عن هذا قد يكون أراد به استدعاءه - صلى الله عليه وسلم - للصلاة أو غير ذلك من وجوه الاحتمال. ويحتج أيضًا بما روي أن بلالًا ينادي بليل فأمره عليه السلام أن يرجع فيقول: "ألا إن العبد قد نام" (3). فأمره بتلافي غلطه في أذانه بليل. وقال أصحابنا في الانفصال عن هذا قد يكون أخر الأذان عن عادته فخيف على السامعين العارفين بعادته أن يقدروا ما بقي من الليل متسعًا فيتسحرون وقد طلع الفجر. ولو كان قدمه قبل عادته لأمره أن يرجع فيقول ألا إن العبد قد استيقظ قبل وقته. ويحتج أيضًا بما روي أن علقمة سمع من نادى بليل فقال: "أما هذا فقد خالف سنة أصحاب محمَّد. ولو كان نائمًا حتى طلع الفجر فنادى (4) كان خيرًا له" (5). وأجاب عن هذا أصحابنا بأنه يحتمل أن يكون هذا النداء كان قبل نصف الليل، والنداء قبل نصف الليل لا يجوز. فلهذا أنكر عليه. ويحتمل قوله: فإذا طلع الفج رنا دى،
__________
(1) رواه البخاري ومسلم ومالك والبيهقي وغيرهم: السنن ج 1 ص 38.
(2) عن شداد مولى عياض قال جاء بلال للنبي - صلى الله عليه وسلم -وهو يتسحر قال لا تؤذن حتى ترى الفجر، ثم جاءه من الغد فقال لا تؤذن حتى يطلع الفجر، ثم جاءه من الغد فقال لا تؤذن حتى ترى الفجر. هكذا وجمع بين يديه ثم فرق بينهما. حديث مرسل البيهقي ج 1 ص 384. وروي بروايات متصلة كلها ضعيفة.
(3) رواه البيهقي بطرق مختلفة في الباب (رواية من روى النهي عن الأذان قبل الوقت) ج 1 ص 383.
(4) حتى يطلع الفجر فينادي -و-.
(5) ابن أبي شيبة ج 1 ص 194 ح 2224.

(1/441)


على أنه أراد الفجر الأول. ومما يعتمد عليه أصحابنا في ترجيح تأويلاتهم هذه عمل أهل المدينة واستمرارهم على الأذان للصبح قبل الفجر. وهم أعلم الناس بما كان عليه الأمر في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: اختلف المذهب في مقدار الوقت الذي يقدم فيه الأذان للصبح. فقيل: السدس الآخر من الليل. وقيل النصف الآخر. وقال الوقار: إذا صليت العتمة، وإن كان من أول الليل. وفي هذا القول إفراط. إذ لا فائدة في الأذان (1) حينئذٍ. وإذا أذن للصبح أول الليل، ووقت العتمة لم يذهب، أمكن أن يظن أنه (2) لصلاة العتمة. فيختلط (3) الأمر على السامع ولا يحصل في الأذان فائدة. ولهذا المعنى اعتبر ابن حبيب خروج وقت صلاة العتمة، وحد بالنصف الآخر من الليل لأنه يرتفع بذلك اختلاط الأمر. ومن مذهب ابن حبيب أن آخر وقت (4) العتمة نصف الليل. فلهذا حد به. وأما المعتبرون السدس الآخر من الليل، فإن الأصل عندهم في الأذان ألا يكون لصلاة حتى يدخل وقتها. فلما كانت صلاة الصبح الأفضل إيقاعها أول الوقت، والليل وقت منام الناس، اقتضى مجموع هذا تقدمة الأذان ليوقظ النائمين فيتأهبون للصلاة في أول وقتها. فينبغي ألا يباح من التقدمة إلا القدر الذي تمس الحاجة إليه. وهذا المقدار عندهم يكفي فيه سدس الليل لاغتسال الجنب وتأهب غيره. فلا معنى للزيادة على قدر الحاجة.

والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: اختلف في ثلاثة أحوال هل تمنع الأذان أم لا؟ أحدها أذان الجنب. فوجه إباحته أنه ذكر من الأذكار، فجاز للجنب فعله قياسًا على التسبيح وغيره من الأذكار. ووجه النهي عنه أنه عمل يقدم على الصلاة لأجلها فأمر فيه بالطهارة كما أمر بذلك في الصلاة. وهذا ينتقض باتفاقهم على جواز الأذان لمن كان على غير وضوء، وهو ممنوع من
__________
(1) أذان -و-.
(2) أن الأذان -و-.
(3) فيختلف -و-.
(4) صلاة العتمة - و - ق -.

(1/442)


الصلاة ولم يمنع من الأذان، إلا أن يقال إن الأذان دعاء إلى الصلاة في المساجد والجنب ممنوع من دخول المسجد، فمنع من الأذان، وإن أوقعه في غير المسجد. ولا يختلف في منع إيقاعه في المسجد مع القول بمنع دخول الجنب المسجد، والمنع حينئذٍ لأجل المسجد لا لأجل الأذان.
والثاني أذان القاعد، ففيه قولان: فالجواز لأنه ذكر من الأذكار. وقد قال الله تعالى: {يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا} (1). والنهي لأن الأذان شرع فيه الاستعلاء والارتفاع (2). ولهذا جعل المنار والقعود ينافي ذلك.
والثالث أذان من لم يبلغ الحلم، ففيه قولان: فالجواز لأنه ذكر من الأذكار. والذكر سائغ لمن لم يبلغ الحلم. والنهي لأنه من أمانات الشريعة والمؤذن مؤتمن على الوقت (3). ومن لم يبلغ الحلم ليس من أهل (4) الأمانة.

والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: لا يؤذن عندنا لصلاة فائتة؛ لأنه يزيدها الاشتغال بالأذان فواتًالأولا لنافلة لأن الغرض بالأذان الدعاء للاجتماع للصلاة، والنافلة لا يجتمع لها. ولا لسنة مؤكدة كالعيدين والكسوف، وإن كان يجتمع لها. لأن الأذان دعاء إلى الصلاة وأمر بالإتيان إليها. فوجب أن يختص الأذان بما يجب أن يؤتى إليه من الصلوات الفرض دون ما سواها (5) من السنن والنوافل.

والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: اختلف في الجمع بين الصلاتين، كصلاتي عرفة والمزدلفة والمجموعتين لأجل المطر. فقيل يؤذن لهما جميعًا. وقيل لا يؤذن لهما جميعًا. وقيل يؤذن للأولى منهما دون الثانية. وأما الإقامة فإنه اتفق عندنا على أنه يقام لكل صلاة. وذكر عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه يقام للأولى دون الثانية. والغرض بالأذان الدعاء
__________
(1) سورة آل عمران، الآية: 191.
(2) لأن شريعته الاستعلاء والارتفاع في -و-.
(3) الأوقات في - و - ق -.
(4) بأهل للأمانة في -ح-.
(5) ما سواه -و-.

(1/443)


إلى الاجتماع للصلاة. فمن نفاه فيهما استغنى عنه باجتماع الناس. ومن أثبته في الأولى خاصة *رأى أن الثانية قد تحقق اجتماع الناس لها. والأولى إنما افتقرت للدعاء إليها. ومن أثبته فيهما* (1) رأى أن الأذان سنة لكل صلاة.
واجتماع الصلاتين لا يغير حكمهما فيؤتى بالأذان، وإن فقد الغرض به. وقد اختلفت الأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في جمعه الصلاتين في الحج فروي عنه سائر هذه المقالات التي حكيناها، وروي عنه أنه جمع الصلاتين بأذانين.
وروي عنه بأذان واحد (2). وفي الموطإ بإقامتين. وفي بعض طرق كتاب مسلم بإقامة واحدة. ولاختلاف الأحاديث اختلف العلماء على حسب ما قلناه.

والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: إنما استحب حكايته المؤذن لقوله عليه السلام: إذا سمعتم النداء فقدلوا مثل ما يقول المؤذن (3). ولأن الأذان يتضمن الشهادة بالتوحيد، والشهادة بالرسالة، وهما عمدة الإيمان" فاستحب مطابقة المؤذن في قوله لذلك.

والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: اختلف في إعادة الحكاية وذلك في ثلاث مسائل:
أحدها إذا أذن المؤذن الأول فقال السامع مثل قوله، ثم أذن ثان فهل يؤمر السامع أن يحكيه. وكذلك الثالث ومن بعده. فيه قولان: فقيل يحكيه لقوله عليه السلام: إذا سمعتم النداء فقدلوا مثل ما يقول المؤذن (4). فعم سائر المؤذنين. ولأن حكايته المؤذن الأول إنما كانت لأنها ذكر من أذكار الله
__________
(1) ما بين النجمين = ساقط -و-.
(2) روى مسلم أنه صلى المغرب بأذان وإقامتين. وذكر الطبري في تهذيب الآثار أنه عليه السلام صلاهما بإقامة واحدة في حديث ابن مسعود وابن عمر وأبي بن كعب وخزيمة بن ثابت وأسامة بن زيد. البيهقي ج 1 ص 400 - 401.
(3) رواه مالك: الزرقاني ج 1 ص 124. ورواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وأحمد. نيل الأوطار ج 1 ص 35.
(4) خ. مسلم مالك. أحمد. فيض القدير. ج 1 ص 379.

(1/444)


سبحانه. فإذا (1) كان الثاني إنما أتى بمثل ما أتى به الأول، كان حكمه في الأمر بالحكاية. وقيل لا يحكيه لأن التكرر يرفع حكم الأمر ها هنا.
والثاني: إذا رجع المؤذن الشهادتين فهل يحكيه (2) السامع في إعادة لفظ الشهادتين. فيه قولان: مذهب مالك الاكتفاء بالحكاية أول مرة؛ لأن المؤذن إنما أعاد ذكرهما ليرفع صوته مبالغًا في الإسماع. والسامع غير محتاج إلى ذلك فلم يكن عليه تكرير اللفظ. وقال الداودي يكرر سامع اللفظ أيضًا. ووجهه التمسك بعموم الحديث.
والثالث: إذا حكى المؤذن وفرغ المؤذن من الحيعلة ثم عاد إلى القول: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، فهل يؤمر السامع بحكايته أيضًا في ذلك؟ فيه أيضًا (3) قولان. في المدونة إن شاء فعل وإن شاء ترك. وفي مختصر ما ليس في المختصر لابن شعبان وفي كتاب ابن حبيب يؤمر السامع أن يحكيه في ذلك.
ووجه هذا الاختلاف ما تقدم لأنه قول قد تقدم حكايته مثله فهل يسقط بالتكرار أم لا؟ هو جار على ما قدمناه.

والجواب عن السؤال الثامن: أن يقال: اختلف في حكايته في الصلاة على ثلاثة أقوال: فقيل يحكيه في الصلاة فرضها ونفلها. وقيل لا يحكيه لا في فرضها ولا في نفلها. وقيل يحكيه في نفلها دون فرضها.
فوجه الأول العموم لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا سمعتم النداء فقدلوا مثل ما يقول المؤذن" ولأنه ذكر من الأذكار فصح أن يشرع في الصلاة فرضها ونفلها كالتشهد والتسبيح.
ووجه الثاني: إن العبادة التي هو فيها *أولى بأن تقدم بشروعه فيها* (4) فلا ينبغي أن تقطع بعبادة أخرى سواها. ووجه التفرقة بين الفرض والنفل أن
__________
(1) فإن -و-.
(2) يحكيها في -و-.
(3) أيضًا = ساقطة في -ح-.
(4) ما بين النجمين ساقط -و-.

(1/445)


النفل أخفض رتبة من الفرض. ولهذا جاز فيه التعوذ والبسملة ولم يجز ذلك في الفرض. فكذلك (1) حكايته المؤذن ينبغي أن تقصر (2) على النفل لخفة أمره وينهى عنها في الفرض لارتفاع قدره. وإن الشغل به أولى من غيره من النوافل.

والجواب عن السؤال التاسع: أن يقال: ظاهر المذهب أن منتهى حكايته المؤذن إلى آخر التشهدين وفي مختصر ابن شعبان وفي كتاب ابن حبيب أن المؤذن إذا حيعل حوقل السامع. فقال لا حول ولا قوة إلا بالله، وهذا هو الصحيح. لأن في الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن السامع إذا حكى المؤذن دخل الجنة (3). وذكر في الحديث صفة حكايته المؤذن فلما انتهى إلى الحيعلة قال لا حول ولا قوة إلا بالله. وينقدح في نفسي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما عوض عن الحيعلة الحوقلة. لأن قول المؤذن حي على الصلاة، حي على الفلاح أمر للسامعين * بأن يأتوا * (4) للصلاة وللفلاح. ولا فائدة في أن يحكي السامع ذلك سرًّا. لأن الأمر الذي لا يسمع ها هنا لا فائدة فيه. فلما علم - صلى الله عليه وسلم - ذلك عوض عن هذا الذي لا يفيد بما يفيد، وإن كان سرًّا. وخص الحوقلة دون سائر الأذكار لأن بينها وبين قول المؤذن مناسبة وكأنها كالجواب عن أمره. فإذا قال المؤذن حي على الصلاة بمعنى تعالوا إلى الصلاة، فكأن السامع قال له لا قوة لي على ذلك إلا بالله. فلأجل ما فيها من معنى المجاوبة خصها النبي - صلى الله عليه وسلم - دون سائر الأذكار. وقد اختلف المتأخرون في المصلي إذا حكى المؤذن في الحيعلة وأتى في الصلاة بمثل لفظ المؤذن فقال الأصيلي لا تبطل صلاته؛ لأنه متأول.
وقد قال بعض الأشياخ تبطل صلاته لأنه كمن تكلم عامدًا. وحكي ذلك عن ابن القصار (5).
__________
(1) وكذلك -و-.
(2) تقتصر - و - ق -.
(3) رواه مسلم. انظر شرح النووي ج 4 ص 85.
(4) ما بين النجمين ساقط من -و-.
(5) جاء في النسخة -و- الكلام التالي [نجز الجزء الأول من شرح التلقين وصلى الله على سيدنا محمَّد].

(1/446)


باب العمل في الصلاة

قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: والصلاة مشتملة على فروض وسنن وفضائل. والفروض (1) ضربان منفصلة ومتصلة. فالمنفصلة نوعان متقدم ومصاحب. فمن فروضها الطهارة من الحدث وإزالة النجاسة وستر العورة، فهذه هي المنفصلة. وأما المتصلة فاستقبال القبلة، والنية، والترتيب في الأداء.
ونريد بالانفصال جواز تقديم فعلها، وأنها مكتفية بنفسها. وذلك يتم في الطهارة وستر العورة. وأما استقبال القبلة والنية فمصاحبان لا حكم لهما إلا بإضافتهما إلى الصلاة. ومن هذه الفروض ما هو فرض (2) على الإطلاق لا تصح الصلاة مع عدمه على وجه وهو الطهارة من الحدث. والصحيح من (3) مذهبنا أنه إذا عدم الماء والصعيد لم يصل حتى يجد أحدهما (4). ثم إذا وجده بعوإنقضاء الوقت فهل يلزمه القضاء أو لا يلزمه؟ نظر آخر. والنية أيضًا فرض مطلق لا تصح الصلاة مع تركها على وجه (5).

قال الشيخ رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل خمسة أسئلة. منها أن يقال:
1 - تقدمة الوضوء قبل الوقت ما حكمه؟.
2 - ولم ذكر (6) إزالة النجاسة قسمًا آخر؟.
__________
(1) فالفروض -غ- الغاني-.
(2) فروض -الغاني-.
(3) في مذهبنا -غ-.
(4) في الغاني زيادة وهي "وقد قيل إنه يصلي إذا لم يجدهما".
(5) والنية أيضًا إلى على وجه = مذكررة هنا. وفي القسم الآتي- ولعل وجود هنا خطأ. لأن الشارح أجل التعليق على النية عند شرحه للقسم التالي.
(6) ولم ذكر أن إزالة النجاسة قسم آخر -و-.

(1/447)


3 - ولم ذكر أن النية من الفروض المصاحبة؟.
4 - ولم ذكر أن استقبال القبلة من الفروض المصاحبة أيضًا؟
5 - ولم قال إن من عدم (1) الماء والصعيد لا يصلي؟

فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: قد كنا حكينا فيما تقدم أن مذهب أصحاب أبي حنيفة أن وجوب الصلاة إنما يتعلق بآخر الوقت. وقد ذكر بعضهم أن الصلاة الموقعة أول الوقت تكون نفلًا، ولكنها تنوب عن الفرض إذا انصرم الوقت. واحتج لهذا المذهب بأن (2) الوضوء قبل الوقت لا يجب وإنما يجب إذا وجبت الصلاة بدخول وقتها. ثم مع هذا يجري إيقاعه قبل الوقت ويكون نفلًا ناب عن الواجب. وأجيب (3) عن هذا بجوابين:
أحدهما: أن من الفقهاء من لا يسلم ما قالوه في الوضوء. ويراه واجبًا وجوبًا موسعًا. وإنما يجب بشرط الحدث. فإذا حصل الحدث الذي هو شرطه صح فعله مقصودًا به رفع حكم المانع من الصلاة.
والجواب الثاني (4) أنا لا نسلم لهم هذا القياس. أولًا: لأن الطهارة عبادة تراد لغيرها وليست مقصودة في نفسها. والغرض بها ألا يتقرب إلى الله سبحانه إلا على أكمل الأحوال والتطهر من الأحداث. والصلاة عبادة تراد لنفسها لا لغيرها. فلا يصح قياس هذه العبادة على هذه العبادة. والذي عندي في ذلك لا يصح بسطه إلا في كتب الأصول، ولكني أشير إلى طرف منه ها هنا.
فنقول: إذا ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى صلوات بوضوء واحد، فقد صارت الصلاة الثانية تطهير لها قبل وقتها. فاقتضى ذلك جواز إيقاع الطهارة قبل الوقت. لكن يبقى ها هنانظر آخر، وهو أن يقال: ما أنكرتم أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما توضأ لما جمع الصلوات بوضوء واحد بعد دخول وقت الصلاة الأولى؟ فيكون وضوؤه حينئذٍ واجبًا لأجل الصلاة الأولى. فيصح اعتقاد الوجوب فيه. وإذا صح اعتقاد
__________
(1) أن عادم في -و-.
(2) أن -و-.
(3) وأجيبوا -و-.
(4) الثاني- ساقطة -و-.

(1/448)


الوجوب فيه لم يتوجه فيه اعتراض لأن التعبد بجمع صلوات بوضوء واحد سائغ. قلنا قد مر جماعة من الفقهاء على أن الوضوء لا يفتقر إلى نية. وروي ذلك عن مالك. فإذا قلنا بهذه المقالة فلا معنى للنظر فيما يعتقد بالوضوء. لأن هؤلاء إنما يعتبرون حصول الأعضاء مغسولة كيف ما اتفق. وإن قلنا بإثبات النية في الوضوء وإن القدر المطلوب منه القصد لرفع حكم الحدث المانع واستباحة الممنوعات دون التعرض لاعتقاد وجوب أو نفل، فلا معنى للقول بأن وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كان بعد دخول وقت الأولى صح منه اعتقاد الوجوب. وإذا كان قبل دخول وقتها لم يصح اعتقاد الوجوب فيما لم يجب. ولكن إنما يبقى (1) النظر في حكم الوضوء قبل الوقت هل يصح وصفه بالوجوب حتى يصح اعتقاد الوجوب فيه عند فعله، وإن وجب اعتقاد ذلك عند الوضوء؟ أو يكون واجبًا ناب عن الواجب بعد الوقت وإن لم يجب اعتقاد الوجوب حين الفعل؟ أو (2) يوسف بأنه نفل ناب عن الواجب؟ هذا مما يختلف فيه أهل الأصول.
والوضوء قبل الوقت كالصلاة في أول الوقت لجواز التأخير فيهما. وحصول الأجزاء بإيقاعهما، لكن الصلاة وقتها محدود ووجوبها متعلق (3) بشرط تجدد الأزمان. والوضوء غير محدود بزمن وإنما هو متعلق (4) بتجدد أحداث.
وإنما يبقى نظر واحد وهو أن القاضي ابن الطيب ومن تابعه لا يبيح التأخير للصلاة الواجبة بأول الوقت إلا بأن يفعل المكلف العزم بدلًا عن تقدمتها. إذ لو لم يقل بذلك لأداه لإثبات واجب يترك إلى غير بدل ولا إثم فيه. وهذا يبطل حقيقة الوجوب. فإذا قيل إن الوضوء كالصلاة وأنه يجب وجوبًا موسعًا فهل يكون تاركه قبل الوقت إنما يباح له الترك بشرط العزم كما قيل في الصلاة؟ هذا يلزم بلا شك. ولكن القول به (5) شنيع (6). وقد يسبق إلى النفس
__________
(1) يبقى = ساقطة من -و-.
(2) ويوصف -و-.
(3) معلق -ح-.
(4) معلق -ق-.
(5) فيه -و -ق-.
(6) يشيع -و- يتسع -ق-.

(1/449)


إنكاره. وقد أنكر وجوب العزم في الصلاة طائفة من الحذاق وأنكره أبو المعالي أشد الإنكار، فكيف به إذا أثبتناه (1) في الوضوء الواجب لأجل الصلاة، والصلاة لم تجب بعد. ولعلنا أن نحقق هذه المسألة فيما نمليه من الأصول إن شاء الله سبحانه.

والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: إنما قال الطهارة من الحدث ولم يقتصر على قوله الطهارة دون التقييد بقوله من الحدث، لئلا (2) يدخل في ذلك طهارة النجاسة. لأن النجاسة إنما توجب زوالها لا طهارتها. فإن كانت على البدن فلا تزول إلا بالطهارة، وإن كانت في الثوب أو المكان أزالها أو زال (3) عنها بطهارة الماء أو بنزع الثوب والتنقل من المكان.

والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: إنما ذكر النية في الفروض المصاحبة؛ لأن من حقها أن تكون مقارنة لافتتاح الصلاة. وقد رام بعض الأشياخ تخريج اختلاف في جواز تقدمتها على الصلاة بالأمر اليسير من الاختلاف في تقدمة النية على الطهارة بالزمن اليسير. ورد ذلك غيره من الأشياخ بأن الصلاة مجمع على وجوب النية فيها، والطهارة جماعة من العلماء على سقوط النية فيها. فإذا سهل الأمر في المختلف فيه، فلا يسهل في "المجمع عليه (4).

والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: أما كون (5) ستر العورة وإزالة النجاسة من الفروض الخارجة عن الصلاة فواضح. لأنها أفعال يفعلها الإنسان، ولا تعلق بينها وبين الصلاة إلا من ناحية الشرع. وأما استقبال القبلة فإن نفس القبلة ليست من فعله ولا اكتسابه. وكون الأفعال المسماة صلاة محاذية لجهة ما، ومقابلة لها لا يظهر كونه بائنًا عن نفس الصلاة. والجوهر عندنا إذا كان في
__________
(1) وكيف به إذ ابن يناه -و-.
(2) فتدخل -ح-.
(3) أو أزال -ح-.
(4) معه -ح-.
(5) أما غير ستر العورة -و- أما عد النية وستر العروة -ح-.

(1/450)


مكان يكون ما، فإن محاذاته (1) لجوهر آخر لا يقلب حقيقة كونه. وهذا مما يتعلق بالكلام في الأكوان، والكلام عليها من دقائق الأصول. ولكن القاضي أبا محمَّد رحمه الله لما رأى أن المصلي في قدرته محاذاة ما شاء من الجهات الأربع، فاقتصاره على أحد (2) الجهات الأربع مع قدرته على محاذاة غيرها وكون الجهة بائنة عن نفس الصلاة، فجعل ذلك كأنه فعل خارج عن نفس (3) الصلاة. فلهذا ألحقه بالنية.

والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: اختلف المذهب فيمن لم يجد ماء ولا ترابًا هل يؤمر بالصلاة على حالته تلك بغير طهارة أصلًا أم لا يؤمر بها؟ واختلف الآمرون بها (4) هل يعتبرها (5) إذا تمكن من الطهارة أم لا؟ واختلف القائلون أيضًا بأنه لا يؤمر بالصلاة هل يقضيها أم لا؟ فأما الاختلاف في القضاء بين هذه الطائفة فمبني على كون الطهارة شرطًا في الوجوب أو في الأداء. فإن قلنا إنها شرط في الوجوب لم يجب القضاء. لأن الشرط فقد فيفقد المشروط.
فإذا فقد لم يجب. وما لم يجب لم يقض. وإن قلنا إنها شرط في الأداء وجب القضاء لأن الوجوب قد توجه وما وجب يصح قضاؤه. وأما الطائفة الأولى المختلفون في أمره بالصلاة، فحجة من لم يأمر بالصلاة، قوله لا تقبل صلاة بغير طهور (6). والصلاة إذا لم تقبل لم تجب. وحجة من أمر بالصلاة أن القوم الذين أرسلهم - صلى الله عليه وسلم - لطلب القلادة التي فقدتها عائشة صلوا بغير وضوء (7) لما فقدوا الماء. فأنزل الله تعالى آية التيمم. ولم ينكر عليهم (8) - صلى الله عليه وسلم - صلاتهم بغير
__________
(1) فإنه بمحاذاته -و- لمحاذاته -ق-.
(2) هكذا في جميع النسخ.
(3) فعل - و - ق -.
(4) بها = ساقطة -و-.
(5) هل يعيدها - ح - ق -.
(6) رواه مسلم عن ابن عمر باب الطهارة. النووي ج 3 ص 102. كما رواه أحمد والنسائي وابن ماجة والدارمي.
(7) رواه البخاري ومسلم والبيهقي. السنن ج 1 ص 214.
(8) عليهم = ساقطة - و -.

(1/451)


طهارة أصلًا. ولو كانت لا تحل لأنكرها.
وأما قول القاضي أبي محمَّد في هذا الفصل: والترتيب في الأداء فقد يريد به ترتيب الأفعال بعضها على بعض. والصلوات بعضها على بعض بأن لا يصلي العصر قبل الظهر. وفي عده أيضًا معنى زائدًا على الصلاة من النظر، ما في عد استقبال القبلة معنى زائدًا، وقد تكلمنا عليه. وإن كان ترتيب الأفعال واختصاصها بأزمنة قد يتسع القول فيه من طريق آخر يختص به دون ما تقدم.

قال القاضي رحمه الله: *والنية أيضًا فرض مطلق لا تصح الصلاة مع تركها على وجه* (1). وأما إزالة النجاسة فاختلف هل هو (2) من شرط الصحة أو ليس من شرطها؟ فإذا قيل ليس (3) من شرطها فلا نقول إنه ليس بفرض ولكن ليس كل الفروض من شرط الصحة. وإذا قيل إنه من شرط الصحة فذلك مع الذكر والقدرة. ونريد بذلك ما على البدن. فأما ما كان على الثوب فلا يتوجه عليه فرض إلا في ترك محله أو فعل الإزالة إن اختار المحل أو وجب.

قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل عشرة أسئلة. منها أن يقال:
1 - ما الدليل على وجوب النية في الصلاة؟.
2 - وهل إزالة النجاسة فرض أو سنة؟.
3 - وما يعفى عنه منها؟.
4 - وما ينضح منها أو يغسل؟.
5 - وهل يجزئ إزالة عينها بالمسح أو مائع غير الماء؟.
6 - وهل تفتقر إزالتها إلى نية أم لا؟.
7 - وهل يقطع مزيلها عنه الصلاة أم لا؟.
8 - وهل إذا قطع وغسل يبني على الصلاة أم لا؟.
9 - وما معنى تقييده بقوله مع الذكر والقدرة؟.
__________
(1) ما بين النجمين مكرر مع ما سبق أن نبهنا إليه - وموقعها هنا أصح.
(2) هي -و -غ-.
(3) أنه ليس -غ-.

(1/452)


10 - وما تصير قوله لا يتوجه عليه في الثوب إلا في ترك المحل أو فعل الإزالة إن اختار المحل أو وجب؟.
فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: الدليل على وجوب النية للصلاة قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنيات" (1) وعموم هذا يقتضي وجوب النية للصلاة.
وما يتعلق بالكلام على النية أخرناه لموضعه من هذا الكتاب (2).

والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: اضطرب الحذاق من أهل المذهب في العبارة عن هذا المعنى، فالجاري على ألسنتهم في المذاكرات والإطلاقات أن المذهب على قولين: أحدهما أن غسل النجاسة فرض. والثاني: أنه سنة إطلاقًا لهذا القول من غير تقييد. ومن أشياخي من يعبر عن هذا فيقول المذهب على ثلاثة أقوال: فيذكر القولين المتقدمين ويضيف إليهما قولًا ثالثًا وهو أنها فرض مع الذكر، سنة مع النسيان.
وأما القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب فقد اضطرب قوله في العبارة عن هذا فعبر بها في كتابه هذا وعبر في غير هذا الموضع من كتبه بأن قال اختلف في غسل النجاسة. هل هو واجب وجوب الفرائض أو وجوب السنن؛ وهذا مع الذكر والقدرة. وقد نص مالك وأصحابه على أن من صلى بها ناسيًا يعيد في الوقت ولو كانت فرضًا لاستوى العمد والسهو. ولا يعترض على هذا بقولهم إن المتعمد يعيد أبدًا *لأنه قد يعيد أبدا* (3) مع كونها سنة. ألا ترى القول بأن من ترك التسمية على الذبيحة عمدًا لا يأكلها، ومن ترك السورتين عمدًا أنه يعيد صلاته (4). وكل ذلك مسنون. على أن أشهب يرى أن من صلى بالنجاسة عامدًا إنما يعيد في الوقت. وقد قال إسماعيل في المبسوط كل ما يرى مالك الإعادة فيه في الوقت فإنما هو استحباب. فأنت ترى القاضي أبا محمَّد كيف استدل فيما حكيناه عنه على أنها ليست بفرض بإجزاء الصلاة. ثم أنكر هذا في التلقين فقال
__________
(1) متفق عليه. تقدم تخريجه.
(2) من هذا الكتاب ساقطة من -و- وأبدلها إن شاء الله.
(3) ما بين النجمين = ساقط من -و-.
(4) عمدًا يعيد الصلاة -و-.

(1/453)


إذا قيل إنه (1) ليس من شرطها فلا نقول إنه ليس بفرض، إذ ليس كل الفروض من شرط الصحة. فقد جعل الإجزاء يحصل مع كون ما أحل به فرضًا. واعتذر فيما حكيناه عنه أيضًا من قولهم إن العامد يعيد الصلاة أبدًا، بأن ذلك قد يحمل على القول إن غسل النجاسة سنة. وعبر ها هنا في التلقين بأنها مع الذكر شرط الصحة. وشرط الصحة في الفرض يجب عند أهل الأصول أن يكون فرضًا.
وغيره من الأشياخ يحمل القول بالإعادة مع العمد أبدًا، على أن غسل النجاسة فرض، والإعادة في الوقت على أنها سنة.
وسبب هذا الاضطراب في العبارة عن هذا المعنى اختلاف المتقدمين من أصحاب مالك. فمنهم من قال يعيد أبدًا وإن كان ساهيًا. وهذا كالتصريح بأنها فرض، إذ لا تعاد الصلاة أبدًا مع السهو إلا للإخلال بفرض. فهذا قول يتضح ما يخرج عليه.
وقال بعض أصحاب مالك في العامد يعيد أبدًا وفي الساهي يعيد في الوقت.
وقال بعضهم في العامد يعيد في الوقت. ففي التخريج على هذين القولين وقع الاضطراب. فمن الأشياخ من خرج منهما قولين آخرين: القول بأنها سنة على الإطلاق، والقول بأنها فرض مع العمد دون السهو على حسب ما حكيناه عنهم. ومنهم من استدل بإيجاب الإعادة أبدًا مع العمد على أن غسلها فرض. وبالأمر بها في الوقت على أنها سنة.
والقاضي أبو محمَّد اضطرب قوله كما بيناه لك. ومن عجيب ما في هذه المسألة أن القاضي أبا محمَّد حكى الاتفاق على تأثيم من تعمد الصلاة بها (2).
والاتفاق على التأثيم كالاتفاق على الوجوب. إذ التأثيم إنما يختص بالواجبات.
وقد سالت بعض أشياخي عن هذا فقلت له ما معنى الاختلاف في كونها فرضًا
__________
(1) أنه = ساقطة من - ق - ح - وذلك مبني على اختلاف الرواية للتلقين- انظر تعليقنا عليه.
(2) من صلى بها -و-.

(1/454)


مع حكايته الاتفاق على (1) التأثيم؟ فوقف عن الجواب عن هذا. وسألت غيره من الأشياخ فقال لي إنما الاختلاف في كونها فرضًا أو سنة محمول على الاختلاف في طريق وجوب الإزالة للنجاسة. هل وجب ذلك بالقرآن فيعبر عنه بأنه فرض، أو بالسنة فيعبر عنه بالسنة (2)؟ فحمل شيخنا هذا ما وقع من الاختلاف على الاختلاف في طريق الوجوب لا في نفس الوجوب. وأنت إذا تأملت ما حكيناه لك عن القاضي أبي محمَّد من قوله اختلف في ذلك هل هو واجب وجوب الفرائض أو وجوب السنن؟ أمكن حمله على ما يطابق مراد شيخنا؛ لأنه ذكر الوجوب في الوجهين (3) جميعًا. وهذا كله بناءً على أن السنن" يأثم بتركها المتعمد. ومتى أثمناه ألحقناه بالواجبات. وأما إن قيل غير ذلك فيستغني عن النظر فيما سالت عنه الأشياخ. وقد تعلق من قال بالوجوب بقوله تعالى: {وثيابك فطهر} (4) وبأمره عليه السلام بغسل الذكر من المذي، وأمره بغسل دم الحيض (5). وظاهر الأمر على الوجوب. وقد قال في حديث القبرين إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله (6). والعذاب لا يكون إلا في ترك واجب. وذهب ابن المعذل إلى مذهب أشهب في أن الإعادة في التعمد مقصورة على الوقت واحتج لذلك بأن قال فإن لم يجد إلا ثوبًا نجسًا وخاف ذوات الوقت فإنه يصلي به. ولو أن (7) رجلين تعمد أحدهما الصلاة بثوب نجس وتعمد الآخر ترك الصلاة حتى خرج
__________
(1) عن -و-.
(2) بأنه سنة -و-.
(3) المذهبين في -و-.
(4) سورة المدبر، الآية: 4.
(5) حديث غسل الذكر من المذي. رواه مالك والبخاري ومسلم وأصحاب السنن. الهداية ج 1 ص 322. وحديث أسماء في غسل دم الحيض. رواه مالك والبخاري ومسلم وأحمد وأصحاب السنن. إرواء الغليل ج 1 ص 88.
(6) رواه أحمد والبخاري ومسلم وأصحاب السنن.
(7) إن ساقطة -و-.

(1/455)


الوقت (1) ما استوت حالهما عند مسلم. وإنما يعيد من صلى بالنجاسة متعمدًا ليأتي بما هو أكمل. هذه حجة أحمد بن المعذل للقول بأنها سنة.

والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: يعفى عن قليل الدم، وقد تقدم الكلام عليه. وذكر ابن حبيب أنه إنما يعفى عن يسير الدم في الصلاة أو بعدها.
وأما من رآه في ثوبه قبل الصلاة فإنه يغسله. وقد تقدم ذكر الاختلاف في دم الحيض (2) هل يعفى عن قليله؟ ومن المتأخرين من الأشياخ من يشير إلى أن الخلاف في ذلك إنما يتصور إذا كان في ثوب المرأة. وأما ما (3) في ثوب الرجل فيعفى عن قليله كسائر الدماء. وأنكر بعض الأشياخ هذا. وقال: الرجل أحق بأن لا يعفى له عنه (4). لأنه دم إنما يصيبه نادرًا بخلاف المرأة. واختلف المذهب أيضًا في قليل دم الميتة. فالمشهور العفو عن قليله. وقال ابن وهب لا يعفى عن قليله كدم لحيض. وقال بعض الأشياخ إنما هو (5) مبني على أن الإنسان لا ينجس بالموت، وسائر الحيوان غيره ينجس بالموت. فالدم ينجس في الحيوان غير ابن آدم إذا مات نجاسة الميتة. والميتة لا يعفى عن قليلها وهي في حال الحياة إنما تنجس نجاسة الدم لا أكثر. ونجاسة الدم معفو عن قليلها إلى هذا أشار بعض الأشياخ. ولكنه ضعفه لأجل أن الدم المنفصل حال الحياة يجب أن يكون ميتة فيستوي حال الحياة والموت فيه. وهذا الذي قاله صحيح لأنه إذا قيل إن في الدم حياة فيجب أن يستوي حكم المنفصل منه حال (6) الحياة وحال الموت. وكذلك اختلف في قليل القيح وقليل الصديد هل يعفى عنه كالدم أو لا يعفى عنه كالبول. وحكى بعض أشياخي اختلافًا في دم ما لا نفس له سائلة من الحيوان البري. ودم الحوت هل هو نجس أم لا؟ وأراه إنما أخذ القول بطهارته من مسألة من تنشف بثوب فيه دم كثيف يخشى أن يكون تنحل منه
__________
(1) وقتها في -ح-.
(2) الحائض -ح-.
(3) ما ساقطة -ح-.
(4) عنه ساقطة -و-.
(5) هذا -و-.
(6) في حال -و-.

(1/456)


نجاسة تعلق (1) ببدنه، فإنه قيل بغسل بدنه. وإن صلى ولم يغسل فلا يعيد لأنه ليس بدم مسفوح (2). فكأنه أشار إلى أن ما ليس بمسفوح من الدماء فإنه (3) طاهر. وإنما يغسل استحسانًا (4) وسنتكلم على هذه المسألة في هذا الفصل إن شاء الله. ومما عفي عنه من ذلك ما تدعو الضرورة إليه مثل من به قرحة تسيل بطبعها فإنه يعفى له (5) عن ذلك ويؤمر بغسل ما تفاحش. وقد صلى عمر رضي الله عنه وجرحه يثعب دمًا (6). وكذلك دم البراغيث يعفى عنه. وأمر مالك بغسل ما تفاحش منه. ولم يذكر هل يقطع الصلاة إذا رأى فيها ما تفاحش منه.
وقد قال الداودي الدماء على ثلاثة أضرب: منه ما لا يؤمر بغسله ولا تقطع الصلاة لأجله كيسير دم البراغيث. ومنه ما يؤمر بغسله ولا تقطع الصلاة لأجله كقدر الخنصر على قول أو الدرهم على قول. وما زاد على ذلك يؤمر بغسله وتقطع الصلاة لأجله. فأشار ها هنا إلى قطع الصلاة لأجل المتفاحش (7) من دم البراغيث. ومن ذلك أيضًا قوله في المدونة في ماء المطر وطينه يكون بالطرقات وفيه العذرة والنجاسات فإنه يعفى عما أصاب منه الجسد أو الثوب.
قال الشيخ أبو محمَّد ما لم يكن غالبًا أو عينًا قائمة. وهذا لاحق بما ذكرناه من باب الضرورة. وقد تأول بعض الأشياخ (8) المتأخرين أن النجاسة إذا كانت تخفي عينها ولا يقطع بعلوقها بالجسم أو الثوب فإنه يعفى عنها في مثل هذا.
فإذا كان تحقق علوقها بالثوب لم يعف عنها وكأنه رأى أن الشك مع الضرورة غير معتبر. وقد كنا (9) حكينا عنه هذا في تأويل قوله في الدرع يطهره ما
__________
(1) تتعلق -خ -ق-.
(2) ليس بمسفوح -ح-.
(3) رأى أنه طاهر -و-.
(4) استحبابًا -ح-.
(5) له = ساقطة -و-.
(6) مالك. باب العمل فيمن عليه الدم من جرح أو رعاف. كتاب الطهارة ح 53.
(7) التفاحش -و -ق-.
(8) الأشياخ = ساقطة -و-.
(9) كما = ساقطة -و-.

(1/457)


بعده. وعلى تعليله هذا يتضح ما قاله الشيخ أبو محمَّد لأنها إذا كانت عينًا قائمة، وعلم علوقها بالثوب، لم يعف عنها. وكذلك أيضًا اختلف القول عندنا في غسل الخفين أو النعلين إذا وطئ بهما على أرواث الدواب بعد الاتفاق على غسلهما إذا وطئ بهما على الدم أو العذرة. فقيل بالغسل استمساكًا بالأصل، وقيل بإسقاطه اعتبارًا بالضرورة. وقيل يغسل النعل لخفة نزعه ويترك غسل الخف لمشقة نزعه. وقد قال عليه السلام: إذا جاء أحدكم المسجد فإن كان ليلًا فليدلك نعليه وإن كان نهارًا فلينظر إلى أسفلهما (1). وهذا عندي يحتمل أن يتعلق به من تأول قوله في الدرع يطهره ما بعده. على أن المعني به أن الغرض به زوال عين النجاسة بمرور الدرع على الأرض الطاهرة. والدلك يذهب عين النجاسة. ويمكن أن يتأوله من فرق بين الشك واليقين في هذا الباب على ما حكيناه عن بعض الأشياخ على ما يطابق قوله، فيقول: قد فرق بين حالة الليل والنهار. فلما كان الليل حالة شك أمر بالدلك وأمر في النهار بالنظر لما أمكن اليقين. والنظر في هذين التأويلين يطول. وإنما اتفق على غسل الخف والنعل من البول والعذرة. واختلف في أرواث الدواب لأن البول والعذرة نجاستهما محققة مقطوع بها. وأرواث الدواب تلحق بالمكروهات. وأيضًا فإن الطرقات لا تنفك من أرواث الدواب غالبًا. وتنفك من العذرة والدم والبول.
وحكم من مشى حافيًا كحكم من مشى منتعلًا فيما (2) اتفق عليه واختلف فيه. وقد كانت الصحابة رضي الله عنهم تمشي حفاة وتغسل أرجلها إذا وطئت
__________
(1) لم أجده بهذا اللفظ. وأخرج أبو داود عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا وطيء أحدكم بنعله الأذى فإن التراب له طهور. وفي سنده راو مجهول. ثم روى عن عائشة رضي الله عنها بسنده إليها ولم يذكر لفظه. وسند رواية عائشة رضي الله عنها حسن.
وعن أحمد والدارمي أنه قال - صلى الله عليه وسلم -: إذا جاء أحدكم المسجد فلينظر إلى نعليه فإن رأى فيهما قذرًا أو أذى فليمسحهما وليصل فيهما وعن أبي سعيد الخدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا جاء أحدكم المسجد فليقلب نعليه ولينظر فيهما. فإن رأى خبثًا فليمسحه في الأرض ثم ليصل فيهما. رواه أحمد وأبو داود. وتتبع الشوكاني الروايات وبين ما في كل واحدة منها من ضعف ثم علق على ذلك بقوله: وهذه الروايات يقوي بعضها بعضًا.
(2) في حكم -و-.

(1/458)


قشبًا رطبًا ولا تغسلها إذا كان يابسًا. وهذا من فعلها (1) تأكيد لأحد القولين.
وقد قيل في الفرس في الجهاد يمسكه صاحبه فيبول أنه يعفى عما أصاب صاحبه من بوله إذا لم يجد من يمسكه. وهذا أيضًا للضرورة مع كون بوله مكروهًا فهو ملحق بما نحن فيه.
وقد قيل أيضًا في الدم يصيب سيف المجاهد أو الصائد لعيشه، إن غسله يسقط عنه. وقد يحتمل أن يكون هذا للضرورة وإن كان الدم متفقًا على نجاسته. وقد علل بغير هذا وسنتكلم عليه.
ومن هذا الباب أيضًا ما سئل عنه مالك رضي الله عنه فقيل له الرجل يطأ على موضع قذر جاف وقد غسل رجليه فقال لا بأس بذلك قد وسع الله على هذه الأمة. وتلا: ربنا لا تحملنا ما لا طاقة لنا به (2). وقد اختلف في سبب توسعة مالك في هذا. فقال ابن اللباد لأن الواطىء على موضع قذر يطأ بعده موضعًا طاهرًا يذهب عين النجاسة فيكون تطهيرًا لها. وهكذا تأويله في تطهير الدرع بما بعده. وقال غيره من الأشياخ إنما هذا لأن الماشي لا يكاد تستقر رجله على النجاسة استقرارًا ينحل معه من النجاسة قدر له بال يعلق بالرجل.
وقال غيره من الأشياخ إن الماء يدفع عن نفسه ولا ينجسه إلا ما يغيره ولا يكاد ينحل من النجاسة ما يغير أجزاء الماء الباقية في الرجل. وعلى هذا حمل المسألة التي قدمناها فيمن تنشف بثوب (3) فيه دم كثيف أو خفيف. فقال إنما قيل فيمن عرق في ثوب نجس أنه يغسل بدنه. وفصل القول فيمن تنشف بثوب فيه دم خفيف لا ينحل بالتنشيف أنه لا يغسل بدنه. وإن كان كثيفًا يخاف أن ينحل غسل. لأن الماء يدفع عن نفسه فلا ينجس إلا بالتغير، والعرق لا يدفع عن نفسه فينجس وإن لم يتغير. وهذه جملة كافية فيما يعفى عنه من النجاسات.

والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: قال مالك النضح طهور لكل ما
__________
(1) وفعلها هذا تأكيد -و-.
(2) سورة البقرة، الآية: 286.
(3) في ثوب -ح-.

(1/459)


يشك (1) فيه، وهو الشأن وهو من أمر الناس.
وقال القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب: النضح استحباب. وقال بعض أشياخي لا يوسف بالوجوب. إذ لو وصف به لكان الواجب الغسل بدلًا منه.
قال واتفاق المذهب عليه حجة لصحة القول بأن الوضوء لا يجب لأجل الشك في الحدث. وقال القاضي إسماعيل لما كان ما علم من النجاسة أمره قوي لم يكتف فيه (2) إلا بالغسل. وما شك في وجوده من النجاسة (3) أمره ضعيف.
فالنضح يذهبه لو قدر وجوده. وهذا الذي قاله القاضي إسماعيل كالرد على ما قاله شيخنا من أن النضح لو وجب لكان الواجب (4) الغسل بدلًا منه لأن القاضي إسماعيل أشار إلى أن النضح يكفي في إزالة مثل هذا. وإذا كفى في إزالته فلا معنى لإيجاب الزيادة عليه. وقد ورد في الشرع النضح في حديث الطفل الذي أجلسه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجره فبال على ثوبه فدعا بماء فنضحه ولم يغسله (5).
واحتلم عمر رضي الله عنه في ثوبه فغسل ما رأى ونضح ما لم ير. فالنجاسة إن كانت متيقنة كان الحكم الغسل. وإن تيقن حلولها في الثوب وجهل محلها كان الحكم غسل الجميع ليحصل اليقين بغسل النجاسة إذ اليقين لا يحصل إلا كذلك. وإن شك في إصابتها للثوب كان الحكم النضح على ما بيناه. وهكذا ظاهر المذهب لو شك في إصابتها الجسد. وقد قال بعض المتأخرين إن الجسد (6) يغسل. بخلاف الثوب. وأضاف هذا إلى المذهب تعلقًا بقوله في المدونة فيمن أمذى فليس عليه غسل أنثييه إلا أن يخاف أن يكون أصابهما شيء. وظاهر هذا أنه إذا شك هل أصابهما شيء أم لا، أنه يغسلهما. وهذا تعلق في هذه المسألة بدليل الخطاب. وليست بنص على صحة ما تأوله هذا
__________
(1) لكل ما شك فيه - ح - لما شك فيه - ق -.
(2) به -و-.
(3) النجاسات -ح-.
(4) الواجب = ساقطة من -و- والغسل = ساقطة -ق-.
(5) حديث أم قيس بنت محسن. رواه الجماعة. وروي عن علي بن أبي طالب روى داود وابن ماجة وأحمد والترمذي. حديث صحيح.
(6) البدن -و-.

(1/460)


المتأول. وقد قال ابن شعبان ينضح الثوب والجسد.
وإذا أمر الشاك بالنضح، لما لم يره من النجاسة المشكوك فيها، فصلى ولم ينضح، فالمذهب على ثلاثة أقوال:
1 - نفي الإعادة.
2 - وإثباتها في الوقت.
3 - وإثباتها أبدًا في العمد والجهل. وهو مذهب ابن حبيب.
ولكنه لم ير ذلك فيمن احتلم في ثوبه فلم ينضح ما لم ير لخفة أمر (1) النضح عنده في ذلك. ولا يتحقق فرق بين هذا وبين النجاسة المشكوك فيها.
وقد قدمنا الاختلاف في الإعادة لأجل ترك غسل النجاسة المخففة وأن في المذهب قولًا بالإعادة أبدًا مع النسيان. ولم يقل أحد من أصحابنا مثل هذا في النضح. وإنما كان ذلك كذلك لانتقاص (2) رتبته عن الغسل. وقد قدمنا قول القاضي أبي محمَّد أنه استحباب. وقد وقع في المذهب اختلاف فيمن أصاب ثوبه ماء حلت (3) فيه نجاسة لم تغيره، هل يغسل ثوبه أم لا؟ فقيل حكمه الغسل. وهذا ميل إلى القول بنجاسة هذا الماء. وقيل حكمًا النضح. وهذا ميل إلى القول بأنه ماء مشكوك فيه. وقيل إن كان رفيعًا يفسده الغسل لم يغسله وصلى به كذلك، قاله ابن الماجشون. وقال مثل ذلك في ثوب الذمي إذا اشتراه المسلم، وهذا عفو عن النجاسة صيانة للمال. وأقيم ذلك مقام الضرورة. وقد قدمنا القول في المسائل المعفو عنها للضرورة.

والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: اختلف الناس في المزيل للنجاسة شرعًا ما هو؟.
فقال مالك والشافعي ومحمد بن الحسن هو الماء خاصة دون ما سواه.
وقال أبو حنيفة هو الماء وكل مائع يعمل عمل الماء مما يذهب العين والأثر كالخل وماء الورد. واشترط بعض المتأخرين من أصحاب أبي حنيفة في ذلك
__________
(1) أمر = ساقطة -ح-.
(2) لانخفاض في -و-.
(3) حلته - ح - ق -.

(1/461)


أن تكون النجاسة في الثوب. وأما الجسد فلا يطهر إلا بالماء. وكان مالكًا والشافعي رأيا أنها وإن كانت عبادة معقول معناها معلوم أن الغرض بها زوال عين فيجب قصرها على مورد الشرع (1). يتعلق فيها بتخصيص النصوص ويكون ذلك أولى من الاسترسال على حكم الغرض. ورأى أبو حنيفة أن اتباع قصد الشرع والجري على حكم القياس فيه أولى. ونظير اختلافهم في هذه المسألة الاختلاف أيضًا في مسألة إخراج القيم عن الزكاة. لأن الشرع جاء بإخراج الزكاة وعلم أن القصد بها سد خلة المساكين. ولكن الشرع نص على أعيان تخرج كبنت المخاض والحقة. فمن أَتبع مواقع التخصيص ولم يلتفت إلى المقصود، منع من إخراج القيم. ومن اعتبر المقصود وجرى معه أجاز إخراج القيم لأنها تسد خلة المساكين كما تسده ابن ت المخاض والحقة. وكذلك النجاسة إذا كان الغرض زوال عينها، فإن (2) النحل وغيره يسد مسد الماء في زوال عينها. بل ربما كان النحل أبلغ لأنه يزيل من آثار الألوان في الثياب ما لا يزيله الماء. وقد قال عليه السلام في الدم: ثم اغسليه بالماء (3). فخص الماء بالذكر، وجب القصر عليه. وكذلك أمران يصب على بول الأعرابي ذنوبًا أو ذنوبين من ماء. وقد تعلق صحابنا بقوله تعالى: {ماءً طهورًا} (4). وقوله: {ماء ليطهركم به} (5) والقصد التنبيه على فضيلة الماء. فلو تركه غيره في ذلك لبطلت فائدة التخصيص. وهذا فيه نظر لأنه لا يمتنع أن يكون القصد أن الماء له فضيلة التطهير. وكون غيره له هذه الفضيلة لا يسلبه فضيلته. وقد يمدح بعض الأشخاص بما وجد في غيره فيقال فلان عالم وصالح وإن كان يوجد من هو مثله في ذلك. وقد يمن علينا بخلق الماء طهورًا وإن كان غيره يشركه في ذلك. وخص الماء بالذكر لأنه أعم في الطهارة من جهة الوجود الكثرة. ومن جهة
__________
(1) ما ورد الشرع به - و - ق -.
(2) وإن -و-.
(3) روى أبو داود والنسائي قال حكيه بضلع واغسليه بماء وسدر: جامع الأصول ج 7 ص 98. وإسناده حسن.
(4) سورة الفرقان، الآية: 48.
(5) سورة الأنفال، الآية: 11.

(1/462)


الشرع لأنه طهور في الطهارة العينية والحكمية. وما سواه في المائعات ليس
بطهور في الطهارة الحكمية باتفاق. فهذا عندي مما يدافع به أصحابنا عن
التعلق بالآية. وقد تعلق من جرى مع حكم القياس واتبع الغرض (1) بقوله في
الدرع يطهره ما بعده (2) وبأمره في النعل أن تدلك، وبأن الخمر إذا استحالذينفسها خلا طهرت في نفسها وطهر الدن بالخل المستحيل. وأجيبوا عن هذا بأن حديث الدرع محمول على القشب اليابس كما تأوله مالك. وبأن الدلك في النعل محمله على أنه إنما أصابها أرواث الدواب. وقد قدمنا ذكر السبب في المعفو (3) عنه. وأما الدن فإنه لم يطهر بالخل وإنما طهر لأن جميع الأجزاء النجسة قد استحالت، فصارت طاهرة فلم تبق نجاسة يسند إليها نجاسة الدن.
وأما ما حكيناه من تفرقة بعض أصحاب أبي حنيفة بين الجسد والثوب فإنه مر على الأصل الذي قررناه (4)، ولكنه تخيل فيه خيالًا، أداه إلى التفرقة. وذلك أن نجاسة الثوب لا يجب غسلها إذا اختار استبدال الثوب النجس بثوب طاهر، فاتضح فيها أن الغرض الإزالة. ونجاسة البدن يتعين غسلها. فمن جهة التعين أشبه طهارة الحدث المتعينة. وهذا ساقط لمن عنده ثوب نجس لا يجد سواه.
فإن غسله يتعين كما يتعين غسل الجسد، مع أن تعين غسل الجسد لم يكن لأمر يعود إلى النجاسة المختصة به، وإنما هو لاستحالة استبدال البدن. ولو قدر زوال العضو النجس وانفصاله عن البدن لم يجب غسل نجاسته، وفي هذا مقنع.
وقد ذهب أبو حنيفة إلى أن للشمس مدخلًا في تطهير النجاسة. فقال في جلد الميتة تجففه الشمس، أنه يطهر. وكذلك الأرض إذا جففت نجاستها الشمس فإنها تطهير ويصلى عليها. ولكن لا يتيمم بها. وكذلك عنده النعل إذا علقت به نجاسة غليظة فجفت، إن (5) الدلك يذهب حكمها ورأيت القاضي إسماعيل نحا نحوه في هذا فقال: قال - صلى الله عليه وسلم -: "جعلت لي الأرض مسجدًا
__________
(1) الفرض -و-.
(2) رواه مالك وأبو داود والترمذي عن أم سلمة.
(3) العفو -و-.
(4) قدرناه -و-.
(5) فإن - ح - ق -.

(1/463)


وطهورا" (1). فلو أكلت الأرض النجاسة حتى ذهب أثرها لرجوت أن تطهير كما تطهير النجاسة بالماء الكثير الغالب عليها، بخلاف الثوب فإن النجاسة لا يذهب أثرها منه والموطأل الزمن. وما قدمناه من الأدلة على اشتراط الماء في طهارة النجاسة كاف في الرد على من سلك (2) هذه الطريقة. وقد ذكر الشيخ أبو الحسن اللخمي اختلافًا في إزالة النجاسة بالمائع. وأراه إنما أخذه من قول ابن حبيب إذا بصق دمًا في الصلاة فلا شيء عليه ما لم يتفاحش. فظن أنه إنما طهر عنده المحل بالريق. وهذا ليس كما ظن. لاحتمال أن يكون إنما عفي عنه ليسارته.
ألا تراه اشترط عدم تفاحشه؟ وقد أشار شيخنا أبو الحسن إلى أن مذهب ابن حبيب اعتبار النجاسة لا اعتبار محلها. وذكر هذه المسألة. وذكر قول ابن حبيب فيمن اقتصر على مسح موضع المحجمة، أنه لا يعيد لأنه يرى ذلك -لو اجتمع- في حكم الدم اليسير. وإن قول مالك إنه يعيد في الوقت، إما في العمد على أحد التأويلين. أو في العمد والسهو على التأويل الآخر؛ لأنه يعتبر مقدار محل النجاسة لا مقدارها في نفسها. وقد ذكر غيره من الأشياخ الأندلسيين هذا التأويل بقول مالك في أنه يعتبر المحل. وإذا كان هذا هكذا فلا معنى لتخريجه الذي أشرنا إليه. وكذلك أيضًا حكى اختلافًا في النجاسة إذا بولغ في مسحها حتى ذهب أثرها. فأشار إلى تخريج الخلاف من مسألة السيف يصيبه الدم. وقد قدمنا نحن ذكرها. والتخريج عنها (3) فيه ضعف لأنه قد وقع في الرواية أنه يصلي به مسحه أو لم يمسحه. فأنت ترى كيف عفي عن هذه النجاسة وإن بقيت عينها لم يمسح. وذكر المسح في بعض الروايات. واعتل الأبهري وعبد الوهاب لذلك بأنه صقيل لا يبقى مع صقالته للنجاسة أثر إذا مسحت، وإن غسله يفسده. وهذان معنيان لا يوجد مجموعهما في غير السيف من الأشياء النجسة على الإطلاق. فلا يصح هذا التخريج الذي خرج لما ذكرناه.
__________
(1) روى مسلم عن حذيفة قال - صلى الله عليه وسلم -: جعلت لنا الأرض مسجدًا كلها وجعلت لنا تربتها طهورًا. كما روى أبو داود عن أبي هريرة في حديث تفضيله عن الأنبياء: وجعلت لي الأرض طهورًا ومسجدًا.
(2) يسلك -و-.
(3) منها في -و-.

(1/464)


والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: لا يفتقر غسل النجاسة إلى نية لأنها طهارة معقول معناها. والمراد بها أمر محسوس وهو حاصل لمن نوى ولمن لم ينو. فمن طرح عنه ثوبه النجس أو غسل نجاسة بغير قصد، فإنه قد حصل الغرض المطلوب. فلا معنى لاشتراط النية في ذلك. ولما كانت طهارة الحدث لا يراد بها إزالة أمر محسوس ولا تحصيل غرض وإنما يحصل بها أجر في العقبى، افتقرت إلى نية لتحصيل هذا الغرض المطلوب. وقدر أبو حنيفة أنها إنما شرعت لتحصيل مكرمة النظافة. وإن لم يظهر ذلك للحس كما ظهر في النجاسة. فلم يعتبر فيها النية واعتبرها في التيمم لما لم يحصل ذلك فيه لا وجودًا ولا تقديرًا. وقد مال بعض المتأخرين من القرويين إلى أن النضح للنجاسة يفتقر إلى نية بخلاف غسلها. واستبعد هذا غيره من القرويين. وقال إن قدرنا أن ما شك فيه من النجاسة موجود فالنجاسة الموجودة لا (1) تفتقر إزالتها إلى نية. وإن قدرنا عدم النجاسة فالغسل ساقط. وإذ سقط لم تشترط النية. ومن عجيب ما ينبغي أن يتفطن له أن هؤلاء المتأخرين من المغاربة تحوم خواطرهم على هذه المعاني التي أبرزها حذاق أهل العراق للوجود. وذلك أنا قدمنا أن ما كان القصد به تحصيل أم رنا جز فلا معنى للنية فيه كغسل النجاسة. وإن طهارة الحدث لما كانت لا يقصد بها إزالة أمر محسوس افتقرت إلى نية. وهذا المعنى بسطه المتأخرون كأبي المعالي وغيره. وكأن من حكينا (2) عنه من القرويين *إن النضح يفتقر إلى نية* (3) استشعره ورأى أن الناضح لا يزيل عينا فأشبه المتطهر للحديث في افتقاره إلى النية، فلا وجه لاستبعاد قوله كما استبعده صاحبه. وقد قدمنا لك تفرقة بعض أصحاب أبي حنيفة بين النجاسة التي على البدن وبين النجاسة التي على الثوب في تطهيرها بغير الماء. ورأى أن ما على البدن، لما تعين، أشبه طهارة الحدث. ولم نوجه هذا القول لأنه الصواب عندنا. وإنما نبهناك على أن العالم، وإن لم يرد خاطره مورد الحقيقة، فإنه حولها يحوم.
__________
(1) لا = ساقطة -ح-.
(2) حكيناه -و-.
(3) ما بين النجمين = ساقط -و-.

(1/465)


والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: اختلف المذهب في المصلي إذا رأى في ثوبه، وهو في الصلاة، نجاسة لا يعفى عنها. هل يقطع الصلاة أم لا؟ فقيل يقطع الصلاة. وقيل يتمادى بعد نزعها عنه. وإن لم يمكنه النزع تمادى وأعاد. وقيل إن لم يمكنه النزع قطع. وإن أمكنه النزع تمادى. وسبب الاختلاف اختلاف الأحاديث. فقال ابن شهاب بلغنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وجد في ثوبه دمًا، وهو في الصلاة، فانصرف (1). وفي الصحيح أنه عليه السلام خلع نعليه في الصلاة لما أخبره جبريل عليه السلام أن بهما قذرًا (2). وقد قال بعض المتأخرين من أصحابنا لا حجة في حديث النعلين؛ لأن النجاسة بأسفلهما وقد حال بينه وبينها أعلى النعل. ومن بسط على النجاسة ثوبًا كثيفًا صحت صلاته.
ومن قام على نعلين بأسفلهما نجاسة فإن أعلاهما جلد كثيف يحول بين المصلي وبين النجاسة. فإذا نزعهما بأن أخرج رجليه منهما من غير أن يحركهما -فيكون بتحريكهما- حامل النجاسة صحت صلاته. وقد قال بعض المتأخرين من الأندلسيين أمره في المدونة أن يقطع. وهذا محمله: على أن الصلاة بالنجاسة ناسيًا غير صحيحة. وأمره إذا لم يعلم، أن يعيد في الوقت. والإعادة في الوقت تشعر بالصحة، فكان ينبغي على مقتضى قوله إن الإعادة في الوقلت: أن يتمادى ويعيد في الوقت. وقال بعض أشياخي إنما أمره بالقطع استحسانًا (3). وقال ابن حبيب إذا رأى الحجاسة في الصلاة فانسيها وتمادى، فإنه يعيد الصلاة (4) وإن خرج الوقت. لأن برؤيتها انتقضت صلاته. وكذلك لو أمرناه بالإعادة في الوقت إذا صلى بها ناسيًا فنسي أن يعيد في الوقت، فإنه يعيد بعده. فأنت ترى ابن حبيب كيف قال فيمن رأى النجاسة وهو في صلاته، إن صلاته انتقضت.
فهذا يشير إلى أن القطع واجب وليس باستحسان كما قاله شيخنا.
__________
(1) أخرجه البيهقي مقطوعًا وموصولًا. وروي مرسلًا ومتصلًا. وفي كل رواياته ضعف.
سنن البيهقي ج 2 ص 403.
(2) رواه أحمد وأبو داود والبيهقي. منتقى الأخبار ص 318.
(3) استحسان -ح- وعليه فإن أمره اسم.
(4) الصلاة = ساقطة -و-.

(1/466)


والجواب عن السؤال الثامن: أن يقال: المشهور من المذهب أنه إذا انصرف لغسل النجاسة فغسلها وعاد فإنه (1) يستأنف الصلاة. وقال أشهب لو بني لأجزأه كالراعف. وسنتكلم على حكم البناء على ما مضى من الصلاة في موضعه إن شاء الله تعالى عَزَّ وَجَلَّ.

والجواب عن السؤال التاسع: أن يقال: معنى تقييده لقوله مع الذكر تحرزًا من الناسي، فإن المشهور أن (2) صلاته صحيحة. وإنما يعيد في الوقت. وفي قول آخر عندنا أنه يعيد أبدًا وإن كان ناسيًا. فعلى هذا القول لا يفتقر إلى زيادة التحرز بالذكر. وأما قوله: والقدرة فتحرزًا ممن لا يجد ما يستر به عورته إلا ثوبًا نجسًا فإنه يؤمر بالصلاة به وصلاته مع هذا صحيحة لعدم القدرة على ثوب طاهر. والكلام في إعادته للصلاة يذكر فيما بعد إن شاء الله تعالى عَزَّ وَجَلَّ.
والجواب عن السؤال العاشر: أن يقال: تصير قوله: فأما ما كان على الثوب فلا يتوجه عليه فرض إلا في ترك محله، أو فعل الإزالة إن اختار المحل أو وجب. لأن من عليه ثوب نجس فإنما عليه ألا يصلي به. فإذا نزعه ولبس الطاهر سقط الفرض عنه. فإن اختار (3) بقاءه عليه ليصلي به فلا بد من إزالة النجاسة. وكذلك إن وجب بقاؤه عليه *لأنه لا يجد ثوبًا يستره سواه فإنه يجب عليه الغسل ويصير إذن إذا اختار المحل الذي هو محل النجاسة أو وجب بقاؤه عليه* (4) كالبدن الذي لا بد من غسله لاستحالة استبداله.

قال القاضي رحمه الله: وحكم ستر العورة حكم إزالة النجاسة. إلا أنه لا يتصور فيه الترك.
قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل خمسة عشر سؤالًا. منها أن يقال:
__________
(1) أنه -و-.
(2) إن = ساقطة -و-.
(3) فإن أحب -و-.
(4) ما بين النجمين = ساقط من -و-.

(1/467)


1 - هل ستر العورة فرض أو سنة؟.
2 - وما حد العورة؟.
3 - وهل هي في الرجال والنساء سواء؟.
4 - وهل تصح الصلاة مع انكشافها؟.
5 - وما المشروع من اللباس للصلاة؟.
6 - وما حكم من لم يجد ما يستر به عورته؟
7 - وما حكمه إن لم يجد إلا ثوبًا نجسًا؟.
8 - وما حكمه إن لم يجد إلا ثوبًا حريرًا؟.
9 - وما حكمه إن وجدهما خاصة؟.
10 - وما حكمه إن صلى بأحدهما اختيارًا؟.
11 - وما أمر بإعادته من الصلاة هل يعاد بهما؟.
12 - وهل حكم الخز حكم الحرير؟.
13 - وما قدر ما يعفى عنه من الحرير؟.
14 - وما حكم ما طرأ في أثناء الصلاة من انكشاف العورة؟.
15 - وما تصير قوله إلا أنه لا يتصور فيه الترك؟.

فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: أما ستر العورة ففرض عن أعين المخلوقين. وهذا معلوم متقرر في الشرع. ومستحب عن أعين الملائكة. وقد خرج الترمذي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إياكم والتعري فإن معكم من لا يفارقكم إلا عند الغائط وحين يفضي الرجل إلى أهله فاستحيوا منهم وأكرموهم (1). وخرج البخاري أنه نهى أن يحتبي الرجل في ثوب واحد ليس على فرجه منه شيء بينه وبين السماء (2). وأقل مراتب هذا النهي أن يحمل على الاستحباب. وأما ستر العورة في الصلاة فقال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: اختلف أصحابنا في ذلك.
فذهب القاضيان إسماعيل وابن بكير والأبهري إلى أن ذلك من سنن الصلاة.
__________
(1) رواه الترمذي وعلق بقوله: حسن غريب: لا نعرفه إلا من هذا الوجه: العارضة ج 10 ص 241.
(2) رواه البخاري ومسلم وأحمد وأصحاب السنن: الهداية ج 2 ص 404.

(1/468)


وذهب أبو الفرج إلى أن ذلك من فروض الصلاة. هكذا ذكر القاضي أبو محمَّد.
وأشار ها هنا في التلقين إلى نقل المذهب على غير هذه الرتبة؛ لأنه ذكر أن حكم ستر العورة حكم إزالة النجاسة. وهو قد قدم أنه قد قيل في إزالة النجاسة أنها ليست من شرط الصحة. ولا يدل ذلك على أنها ليست بفرض. وذكر أنه قد قيل إنها من شرط الصحة مع الذكر والقدرة. فأثبت أن كلا المذهبين لا ينفي كونها فرضًا. وإذا جعل ستر العورة حكمه حكمها انتفى الخلاف أيضًا في كونه فرضًا.
وقد ذكر في غير هذا الكتاب الخلاف في ذلك كما حكيناه عنه. فهذا يجب أن يتأمل. وقد بسطنا نحن القول فيما تكلمنا عليه في الفصل الذي أحال عليه بما يغنيك عن إعادته ها هنا.
وأما أبو حنيفة والشافعي فذهبا إلى أنه من فروض الصلاة *وقد تعلق بعض من رأى أن ستر العورة من فروض الصلاة* (1) بقوله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} (2) وهذه الآية قد كثر كلام الناس عليها. فأشار مالك رضي الله عنه في المستخرجة إلى أن المراد بالزينة الأردية، وبالمساجد الصلوات في المساجد. وذكر ابن مزين أن المراد بالمساجد الصلوات. وقال القاضي إسماعيل: ذهب قوم إلى وجوب لباس الثياب في الصلاة تعلقًا بهذه الآية. والآية إنما نزلت ردًا لما كانوا يفعلونه من الطواف عراة تحريمًا للباس.
فهذا القصد بها. ألا تراه سبحانه يقول: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} (3). ويتعلق أيضًا من رأى ستر العورة فرضًا في الصلاة بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يقبل الله صلاة الحائض إلا بخمار" (4). ويستدل من أنكر كونها فرضًا في الصلاة بأنها لو كانت فرضًا لسقطت الصلاة عمن لم يقدر على ما يستر به عورته كما تسقط (5) عمن لم يقدر على الماء والتراب. وقد روي أن الآية إنما تضمنت
__________
(1) ما بين النجمين = ساقط -و-.
(2) سورة الأعراف، الآية: 31.
(3) سورة الأعراف، الآية: 32.
(4) روي موقوفًا ومتصلًا. رواه أبو داود والحاكم والبيهقي والترمذي حسنه الترمذي وصححه الحاكم: الهداية ج 2 ص 410.
(5) سقطت -و-.

(1/469)


الأمر بالزينة، والزينة إنما تكون بعد حصول العورة مغطاة. فكان العورة لا ذكر لها في الآية.
والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: أما السوءتان القبل والدبر فلا شك في كونهما عورة. وما فوق السوأة إلى السرة، وما تحتها إلى الركبة هو من العورة عندنا أيضًا. وليست نفس الركبة ولا نفس السرة من العورة (1). وقد قال بعض أصحابنا إنما العورة السوءتان والفخذان. وذكر (2) ابن خويز منداد: أن مالكًا أجاز للرجل أن ينظر إلى فخذ خصي امرأته. وأن أصحابنا حملوا هذا على أن العورة هي الفرج. وأن التحديد من السرة إلى الركبة، لأصحاب مالك لا لمالك. وبما قلناه إن العورة من السرة إلى الركبة. قال أبو حنيفة والشافعي.
لكن لأبي حنيفة تفصيل في إعادة الصلاة بانكشاف بعض ذلك. وقد اختلفت الأحاديث. ففي حديث جرهد: خمر عليك فخذك. أما علمت أن الفخذ عورة (3). وهذا كالنص على كون الفخذ عورة. وفي حديث عثمان لما ستر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منه فخذه. وقد (4) كان منكشفُ الأبي بكر وعمر رضي الله عنهما (5).
ما قد يستدل به على أنه ليس بعورة. والواجب بناء هذه الأحاديث إن أمكن أو
__________
(1) عورة -و-.
(2) وقال -و-.
(3) أخرجه أحمد ج 3 ص 479. وأخرجه أبو داود عن جرهد أنه قال: جلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندنا وفخذي منكشفة فقال: أما علمت أن الفخذ عورة. وهو في الموطإ من رواية معن بن عيسى القزاز ويحيى بن بكير وسليمان بن برد وليس عند غيرهم من رواة الموطإ. وذكر ابن الحذاء أن فيه اضطرابًا في إسناده. مختصر سنن أبي داود ج 6 ص 16 - 18. ورواه الترمذي ولفظه - صلى الله عليه وسلم -: غط فخذك فإنها من العورة.
(4) وقد = ساقطة -و-.
(5) أخرجه مسلم بسنده إلى عائشة رضي الله عنها كان رسول الله مضطجعًا كاشفًا عن فخذيه أو ساقيه فاستأذن أبا بكر فأذن له وهو على تلك الحال. فتحدث ثم استأذن عمر فأذن له وهو على تلك الحال فتحدث ثم استأذن عثمان فجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسوى ثيابه. ورواه أحمد من حديث عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان جالسًا كاشفًا عن فخذه. فلما استأذن عثمان أرخى عليه ثيابه. المسند ج 6 ص 62. وبمعناه عن حفصة ج 6 ص 288.

(1/470)


الترجيح بينها إن لم يمكن. وذلك مما يتسع القول فيه.

والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: النساء على قمسين: حرة وأمة.
فأما الحرة فكلها عندنا (1) عورة إلا الوجه والكفين. لأن الله سبحانه قال: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (2). قيل المراد بما ظهر منها: الكحل والخاتم.
قال ابن الجهم لأن بها ضرورة إلى إبداء هذين العضوين للمعاملات والأخذ والعطاء فدعت الضرورة إلى استثناء هذين العضوين. لأن المرأة يباح لها لبس الخفين في الإحرام. فلو كان ساقها ليس بعورة ما جاز أن تستره كما لا تستر وجهها في الإحرام.
وأما الأمة فقد قال مالك في المدونة إنها لا تصلي إلا بثوب يستر جميع جسدها وتصلي بغير قناع. فجعلها أخفض رتبة من الحرة التي لا تصلي إلا بقناع. ونص أصبغ في كتاب ابن حبيب على أن مبلغ عورتها مبلغ عورة الرجل.
وقال لو صلت مكشوفة البطن ما ضرها. والستر موضوع عنها عند الرجال. وفي المبسوط إجازة إبداء يديها وعنقها وصدرها *ما على الثديين منه وارتفع عنهما. ولمالك في كتاب ابن حبيب كراهة نظر المشترى عند التقليب لصدرها* (3) ومعصمها. وبالجملة فإن ظاهر المذهب انخفاض رتبتها عن الحرة في حكم العورة.

والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: قد أشار القاضي أبو محمَّد رحمه الله إلى الجواب عن ذلك لما ذكر أن حكم ستر العورة حكم إزالة النجاسة. وذكر أن إزالة النجاسة اختلف فيها. هل ذلك من شرط الصحة أم لا؟ وأشار إلى أنه يصح القول بصحة الصلاة مع (4) كون ذلك فرضًا. والبخاري على الألسنة في المذاكرة، وهي طريقة بعض الأشياخ، إن القول بأن ستر العورة فرض يقتضي بطلان الصلاة إذا لم تستر. وإن القول بأنها سنة لا يقتضي بطلان
__________
(1) فإنها عندنا كلها عورة -و-.
(2) سورة النور، الآية: 31.
(3) ما بين النجمين ساقط من -و-.
(4) ومع -و-.

(1/471)


الصلاة إذا لم تستر. وقد (1) قال ابن القاسم في المصلي عريانًا إنه يعيد أبدًا.
وقال أشهب يعيد في الوقت. وقال أصبغ إن عورة الرجل والأمة من السرة إلى الركبة. ولكن انكشاف فخذ الرجل في الصلاة لا يقتضي الإعادة. وانكشاف فخذ الأمة (2) يقتضي الإعادة في الوقت. فأنت ترى كيف ساوى (3) بينهما في كونهما عورة، وفرق بينهما في حكم الإعادة. وما ذلك إلا لغلظ حكم العورة في فخذ الأمة وخفته في فخذ الرجل.
ولقد قسم أبو حنيفة العورة إلى قسمين: مغلظة وهي السوأتان، ومخففة وهي ما سواهما. فانكشاف السوأتين عنده يوجب الإعادة، وانكشاف فخذ الرجل لا يوجب الإعادة. وانكشاف أقل من الربع من ساق المرأة أو شعرها لا يوجب الإعادة. وعند صاحبه أبي يوسف انكشاف النصف فأقل مما ذكرناه لا يوجب الإعادة. وقد قال بعض المتأخرين من الأندلسيين لا يبعد تقسيم العورة إلى المغلظة والمخففة كما قال أبو حنيفة. وذكر أن قول مالك في المرأة تصلي بادية الصدر والشعر أنها تعيد في الوقت، يشير إلى ذلك. وما ذكرناه نحن عن أصبغ من التفرقة في الإعادة بين فخذ الرجل والأمة، فيه إشارة أيضًا إلى التغليظ والتخفيف. ولكن ليس على الصورة التي قصد أبو حنيفة إليها. وقد وقع لأشهب ما يشير إلى خلاف هذه الطريقة. وذلك أنه قال: من صلى عريانًا أو في ثوب يشف، أو في ثوب لا يبلغ الركبتين فإنه يعيد في الوقت، فأشار ها هنا إلى كون (4) الفخذ عورة لذكره الثوب المتقاصر عن الركبة. وسوى في الإعادة بينه وبين العريان. فلم يختلف عنده حال العورة. وإن كان قد وقع له أن من صلى في سراويل أو تبان فإنه يعيد في الوقت وإن كان هذا لم تنكشف له عورة. ولعله إنما أمره بالإعادة لأنه لم يأخذ الزينة المأمور بها عند الصلاة. وقد قال بعضهم إن الصلاة بالمئزر أحسن من السراويل *لأن السراويل تصف شكل
__________
(1) وقد ساقطة -و-.
(2) المرأة -و-.
(3) سوى -و-.
(4) لكون -ح-.

(1/472)


الفرج. وإنما ذكرنا قول أشهب هذا في المصلي بالسراويل لإمكان تأويل الصلاة* (1) في الثوب المتقاصر عن الركب على هذا والأظهر تأويله على ما تقدم.

والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: اضطرب المذهب في المشروع من اللباس للصلاة. وقد كنا أشرنا إلى الاختلاف في المذهب في تأويل قوله سبحانه: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} (2). فتأول السدي الآية على أن المراد بها ستر العورة. وهذا يطابق قول أصبغ إن صلى الرجل مكشوف الفخذ لم يعد بناءً على تخفيف حكم العورة في الفخذ (3). وقد يطابق أيضًا قول ابن القاسم: من صلى بمئزر لم يعد. فلعله بناه على أن الفخذ عورة وأن المئزر يستر نهاية العورة وزيادة عليها. وقد قال بعض أشياخي بأن في المذهب اختلافًا في الواجب من اللباس في الصلاة. وأشار إلى هاتين الطريقتين: إحداهما إيجاب ستر السوأتين، والآخر إيجاب الائتزار في الوسط. وذكر أبو الفرج أن لمالك في الواجب من اللباس للصلاة كلامين. أحدهما ما يدل على وجوبه وهو قوله في المكفر عن يمينه: إنه يكسو للرجل ثوبًا وللمرأة درعًا وخمارًا وذلك أدنى ما يجزئ في الصلاة. وقوله في أم الولد: تصلي بغير قناع تعيد، ولا أوجبه عليها كما أوجبه على الحرة. والكلام الثاني الموهم أنه سنة، قوله في الحرة: تصلي بادية الصدر أو الشعر، أنها تعيد في الوقت. قال: وبما دلَّ عليه قوله من الوجوب أقول. وحمل بعض أشياخي هذا الذي نقلناه عن أبي الفرج على أن الواجب ستر جميع البدن على حسب ما فصله مالك. ولعله تعلق في هذا بقول مالك: وذلك أدنى ما يجزئ في الصلاة. وظاهر عبارة الإجزاء يقتضي الوجوب. وهذا الذي قاله، وإن كان ظاهرًا، يمكن (4) المنازعة فيه، بأن يقال لعل مالكًا أراد بقوله: وذلك أدنى ما يجزئ في الصلاة، أي ما يكفي فيها.
__________
(1) ما بين النجمين = ساقط - و - ق -.
(2) سورة الأعراف، الآية: 31.
(3) على تخفيف حكم الفخذ في العورة -ح-.
(4) فتمكن -و-.

(1/473)


ويحتاج إليه للقيام بالفضل من اللباس لا بالفرض. لأن اللباس يتنوع إلى فرض وفضل. وإذا ثبت أن المستحب والمشروع ستر جميع البدن في الصلاة أمكن أن يعبر عن ذلك بأن يقال إن الثوب هو أدنى ما يجزئ فيه بمعنى أدنى ما يكفي فيه. وقد كنا قدمنا أنه قد وقع في المذهب تأويل قوله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ}، على أن المراد بالمسجد الصلوات. وهذه إشارة إلى أمر الفذ بالزينة. فإن صح ما حمله شيخنا على أبي الفرج فيكون الأمر عنده ها هنا على الوجوب، فخرج من مضمون ما حكيناه أن المذهب عنده (1) على أربعة أقوال: أحدها: إيجاب ستر جميع البدن على حسب ما تأوله على أبي الفرج. والثاني: لا يجب ستر شيء منه بناءً على ما كنا قدمناه من قول من قال من أصحابنا إن ستر العورة سنة. فمن صلى على هذه الطريقة في بيته عريانًا لم تكن صلاته باطلة. والقول الثالث: إيجاب ستر السوأتين خاصة. والقول الرابع: إيجاب الاتزار من الوسط. وقد بسطنا القول في هذا فلا معنى لإعادته. وإذا ثبت أن الزينة مأمور بها فقد قال مالك: إنها الأردية. وإن المسجد المذكور في القرآن المراد به الصلوات في المساجد. فأشار إلى استحسان الأردية للمصلين في المساجد ورأى أن الحال فيها ينبغي أن يكون أرفع من الح الذي البيوت. وكره في المدونة للإمام أن يصلي بغير رداء في المسجد. واستخفه إذا أم في غير المسجد. واستحب مع هذا أن يجعل عمامة على عاتقه. ورأيت فيما علق عن أشياخي القرويين: أن الشيخ أبا عمران رأى أن العمامة إذا جعلت على العاتقين قامت مقام الرداء وسقطت الكراهة. وخالفه في ذلك أبو القاسم بن الكاتب. وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا يصلي الرجل بثوب واحد ليس على عاتقه منه شيء" (2).
وهذا الحديث يصلح أن يكون حجة لمن تأول على أبي الفرج من إيجاب اللباس في الصلاة، لإيجابه ستر العاتقين. إذا قلنا إن النهي ها هنا على الحتم
__________
(1) عنده = ساقطة - و -.
(2) رواه البخاري عن أبي هريرة قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه شيء". فتح الباري ج 2 ص 17. ورواه مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقيه منه شيء. ج 2 ص 224.

(1/474)


والإلزام. وإن لم نقل إنه على الحتم والإلزام كان حجة لما قلناه من أن في اللباس فضلًا مندوبًا إليه في الصلاة. وذكره - صلى الله عليه وسلم - العاتقين إشارة لما استحبه (1) العلماء من وضع الرداء على العاتقين أو العمامة على تفصيل لهم قد ذكرناه.

والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: من لم يجد ما يستر به عورته فإن حكمه عندنا أن يصلي قائمًا كما (2) يصلي الساتر لعورته. وعند الأوزاعي حكمه أن يصلي جالسًا. وخيره أبو حنيفة بين الأمرين. وسبب الخلاف في ذلك أن ستر العورة فرض. والقيام في الصلاة فرض. والقائم تبدو عورته والجالس تستر، فيعتبر أي الفرضين آكد؟ فيترك الأضعف له. فرأى مالك أن (3) القيام آكد لأن الشرع لم يسقطه إلا إلى بدل وهو الجلوس. وستر العورة يسقط إلى غير بدل فدل على أنه أضعف. فإذا أثبت أن القيام آكد قدم، وكان الواجب الصلاة قائمًا. ورأى الأوزاعي أن ستر العورة آكد لأنه لم يسقط في الشريعة، *في موضع من المواضع ولا في صلاة من الصلوات. والقيام قد سقط في الشريعة* (4) اختيارًا في صلوات النوافل. وما لم يسقط أصلًا آكد مما يسقط في حال ويثبت في حال. وإذا ثبت أنه آكد فيكون الفرض الجلوس لأنه أستر.
ورأى أبو حنيفة الترجيحين كالمتساويين فخير بين الأمرين.

والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: إن لم يجد إلا ثوبًا نجسًا فإنه يصلي به خلافًا للشافعية في قولهم إنه يصلي عريانًا. ولأبي حنيفة في قوله إنه (5) بالخيار. وإنما قلنا هذا لأن ستر العورة آكد من طهارة الثوب. ألا ترى أن كشف العورة لا يباح في حال من الأحوال، ولباس الثوب النجس سائغ في كل الأحوال إلا في الصلاة. فإذا كان ستر العورة آكد قدم.
__________
(1) استحسنه -و-.
(2) كما كان يصلي -و-.
(3) إن = ساقطة -ح-.
(4) ما بين النجمين = ساقط -و-.
(5) أنه يصلي بالخيار -و-.

(1/475)


والجواب عن السؤال الثامن: أن يقال: إن لم يجد إلا ثوبًا حريرًا فإنه
يصلي عريانًا. قاله ابن القاسم وأشهب. ويتخرج من قوله في المدونة -فيمن لم
يجد إلا ثوبًا حريرًا أو ثوبًا نجسًا أنه يصلي بالحرير- أن يصلي من لم يجد إلا
ثوبًا حريرًا، بالثوب الحرير؛ لأنه قدمه في المدونة على الثوب النجس. والثوب النجس مقدم على التعري. فإذا قدم على -ما قدم على التعري فلا يصح أن يقدم التعري عليه. وسبب هذا الاختلاف مراعاة الترجيح: فمن قدر أن ستر العورة آكد صلى بالحرير. ويحتج بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص في لبسه لحكة (1) فضرورة الصلاة به آكد. ومن رأى اجتناب الحرير آكد صلى عريانًا. وعندي أنه لما كان لبس الحرير يمنع عمومًا في غالب الأحوال، والتعري يمنع عمومًا، حسن الخلاف فيهما. أيهما يقدم؟ ولما كانت النجاسة يجوز لباسها عمومًا إلا في الصلاة لم يختلف عندنا في أن الصلاة بها أولى من التعري.

والجواب عن السؤال التاسع: أن يقال: إن لم يجد إلا ثوبين كتانًا نجسًا أو حريرًا طاهرًا فبأيهما يصلي؟ فيه قولان: أحدهما: يصلي بالنجس] والآخر بالحرير. وسبب الاختلاف في ذلك ما قدمناه من مراعاة الأخف والأثقل.
فمن رأى الحرير أخف؛ لأن النهي عنه لا يختص بالصلاة قدمه. ومن رأى النجس أخف لأنه يحل لبسه في عموم الأحوال إلا في الصلاة قدمه.

والجواب عن السؤال العاشر: أن يقال: أما إن صلى بالنجس اختيارًا مع وجود ثوب طاهر فقد تقدم الكلام عليه، وذكر الاختلاف فيه. وما قيل في غسل النجاسة هل هو سنة أو فرض فلا معنى لإعادته. وأما إن صلى بثوب حرير، مع القدرة على ثوب طاهر، فلا يخلو من قسمين: أحدهما أن يصلي به، وعليه ما يواريه سواه، أو صلى به وليس عليه سواه. فإن صلى به وعليه ما يواريه، فاختلف في الإعادة. فقيل لا إعادة عليه. وقيل يعيد في الوقت. وهكذا اختلف
__________
(1) عن أنس رخص النبي - صلى الله عليه وسلم - للزبير وعبد الرحمن في لبس الحرير لحكة بهما: فتح الباري ج 12 ص 411. ولمسلم رخص لعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام في القميص الحرير في السفر من حكة كانت بهما أو وجع كان بهما. إكمال الإكمال ج 5 ص 381.

(1/476)


فيمن صلى متختمًا بالذهب. فمن نفى الإعادة فلأن العورة مستورة بما تحل الصلاة به. ولأن النهي عن لبس الذهب والحرير لم يكن لأجل الصلاة ولا مختصًا بها فلا تعاد لمخالفة نهي لا يختص بها ولا يعود إليها. ومن رأى الإعادة في الوقت، فلأن ركوب النهي في الصلاة يثبت فيها نقصًا، فينبغي أن يتلافى هذا النقص بالإعادة في الوقت ليأتي بصلاة لم يركب فيها نهيًا. وأما إن لم يكن عليه ما يواريه سوى ثوب الحرير فصلى به اختيارًا، ففيه ثلاثة أقوال: أحدهما: نفي الإعادة. والثاني: إثباتها في الوقت. والثالث: إثباتها وإن خرج الوقت.
فتوجيه القولين الأولين كتوجيه ما تقدم في الصلاة به وعليه ثوب آخر سواه. وأما القول الثالث بالإعادة أبدًا فإنما اختص بهذا القسم لأجل أن ستر العورة واجب على الطريقة التي قدمناها. ولبس الحرير منهي عنه كما قدمناه، فإذا كان ستر العورة مأمورًا به ولبس الحرير منهيًا عنه فلا يكون ركوب النهي امتثالًا للأمر. وإذا لم يكن امتثالًا صار في معنى من صلى عريانًا. ومن صلى عريانًا يعيد الصلاة أبدًا على الطريقة التي قدمنا. ولكن يلزم هؤلاء عندي على هذا التعليل أن يقولوا فيمن صلى بثوب مغصوب أنه يعيد الصلاة أبدًا. وإن التزموه طرد عليهم الأمر في الصلاة في الدار المغصوبة. وإجزاء الصلاة في الدار المغصوبة، هو المعروف عند العلماء. لا يكادون يجدون انفصالًا عما ألزمناهم إلا أن يقولوا إن النهي عن الصلاة بالثوب المغصوب وفي الدار المغصوبة لحق الخلق، والنهي عن لباس الحرير لحق الخالق. والنهي يفترق حكمه إذا كان عائدًا لحق الخلق أو عائدًا لحق الخالق. وهذه الطريقة (1) يستعملها أشياخ المذهب، ولعلنا نبسط القول فيها في كتاب البيوع إن شاء الله.

والجواب عن السؤال الحادي عشر: أن يقال: ذكر أشهب فيمن صلى عريانًا وهو واجد لثوب نجس أنه يعيد به (2) في الوقت. وقد قدمنا أن أصل أشهب فيمن صلى عريانًا أنه يعيد في الوقت. وقال سحنون فيمن لم يجد إلا ثوبًا نجسًا أو ثوبًا حريرًا نجسًا فصلى به، ثم وجد في الوقت ثوبًا حريرًا طاهرًا
__________
(1) طريقه -و - ق -.
(2) به = ساقطة من - و - ق -.

(1/477)


فإنه لا يعيد. ووجه هذا الذي ذكره سحنون أن الإعادة في الوقت إنما تكون لتلافي نقص وقع في الصلاة فتعاد ليحصل الكمال الذي فات في الأولى. فإذا صلى بثوب نجس أو حرير نجس مضطرًا، ثم وجد حريرًا طاهرًا، فإن الحرير الطاهر منهي عن لباسه والصلاة فيه. فلا يحسن أن يؤمر بتلافي نقص بفعل نقص آخر. وإنما يتلافى النقص بفعل الكمال. هذا هو العمدة المرجوع إليها في هذه المسائل وما كان في معناها. والمذهب فيمن صلى بثوب نجس اضطرارًا، أنه يعيد في الوقت بالثوب الطاهر ليتلافى بكمال الطاهر نقص النجس. واختلف عندنا فيمن صلى بالحرير اضطرارًا. هل يتلافى هذا النقص بالإعادة بثوب كتان طاهر؟ ففي المدونة فيمن لم يجد إلا ثوبًا نجسًا وثوبًا حريرًا أنه يصلي بالحرير ويعيد إن وجد غيره في الوقت. وفي كتاب ابن المواز، لاصبغ أنه (1) يصلي بالنجس ويعيد في الوقت. وإن صلى بالحرير فلا إعادة عليه. وقد يسبق للنفس إنكار هذا الذي قاله أصبغ لأجل أنه أمر بالإعادة لمن صلى بالثوب النجس ولم يأمر بالإعادة لمن صلى بالحرير. وهذا يقتضي أن الحرير أخف وهو قد قال: يقدم النجس على الحرير. وهذا يقتضي أن النجس أخف وهذا كالمتناقض.
وعندي أنه اعتبر في الإعادة ما يختص من النواهي بالصلاة دون ما لا يختص بها. واعتبر فيما يؤمر به من اللباس، ابتداء عموم النهي عن اللباس وخصوصه.
فلما كان لباس الحرير لا يحل على حال، ولباس النجس يحل في كل حال، إلا في الصلاة، كان النجس في حكم اللباس أخف لجوازه في الغالب. وفي حكم الإعادة أثقل لاختصاص النهي عنه بالصلاة. هذا هو (2) الذي يمكن عندي في توجيه قوله هذا. وقد قدمنا عن أشهب أنه أمر من صلى عريانًا وهو واجد للثوب النجس أن يعيد به في الوقت. وقد يقع في النفس أن هذا كالنقص، لما أصلناه لأنه أمران يتلافى نقص التعري بنقص آخر وهو الصلاة بالثوب النجس. وقد كنا نحن قدمنا أن المعتبر في هذا أن لا يتلافى نقص بنقص. والذي يمكن أن يقال أيضًا في توجيه ما قاله أشهب أن المصلي عريانًا كان مأمورًا حين صلاته
__________
(1) أنه = ساقطة -ح-.
(2) هو = ساقطة -و-.

(1/478)


بلبس هذا الثوب النجس من غير خلاف عندنا. فلم يوقع الصلاة إلا وهو مأمور حين إيقاعها بلبس هذا الثوب. فلهذا أمره بالإعادة. ويحتمل أن يكون يرى (1) نقص النجاسة أخفض رتبة من التعري فأمر بالاعادة لينتقل إلى ما هو أعلى في الكمال قليلًا. وعلى هذا التعليل يؤمر بالإعادة عنده من كان واجدًا للثوب النجس حين صلاته عريانًا، ومن كان فاقدًا له ولكنه وجده في الوقت. وقد أجمع أصحابنا على أن الصلاة بالثوب النجس أولى من التعري. وهذا يدل على انخفاض رتبة النجاسة عن التعري. فإن قيل اعتذاركم عن أشهب بهذا يوقعكم في التعقب على سحنون لأنكم ذكرتم عنه أن من صلى بثوب نجس أو ثوب حرير نجس أنه لا يعيد إن وجد حريرًا طاهرًا. والحرير الطاهر أعلى رتبة من الحرير النجس. والحرير الطاهر أيضًا أولى بأن يصلى به من الثوب النجس على مذهب المدونة. فلِمَ لمْ يأمر سحنون بالإعادة لينتقل أيضًا إلى ما هو أعلى في الكمال قليلًا على حسب اعتذاركم عن أشهب. قيل الترجيح ما بين مثل (2) هذه النواهي من أغمض مسائل الفقه. وهي نظير الترجيح بين العلل وبين التأويلات عند أهل الأصول. فقد يغلب على ظن الفقيه أن شيئًا أرجح ويغلب على ظن آخر خلافه. فلم يقدر سحنون بين الحرير الطاهر والحرير النجس من التفاوت في رتب الكمال ما يوجب الإعادة. وأيضًا فإن لبس الحرير محرم والإعادة في الوقت ليست بأمر ضروري، فلم يأمره بلبس الحرير اختيارًا. ألا ترى أن ابن القاسم وأشهب قد قالا فيمن لم يجد إلا ثوبًا حريرًا أن صلاته عريانًا أولى. فإذا كانا قالا في الصلاة الواجبة التي هي معنى الأمر الضروري لا يصلي بالحرير، فلأن يقولا ذلك في الصلاة المعادة في الوقت التي هي في المعنى الاختياري، أولى وأحرى. والثوب النجس اتفق المذهب على أن الصلاة به أولى من التعري. وهذا يدلك على تفاوت منازل هذه الأمور عندهم.

والجواب عن السؤال الثاني عشر: أن يقال: أما الحرير فجمهور العلماء على منعه للرجال وإباحته للنساء. فأما منعه للرجال فلقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما يلبس
__________
(1) رأى في -و-.
(2) مثل = ساقطة -ح-.

(1/479)


الحرير في الدنيا من لا خلاق له في الآخرة" (1). وتفسير الخلاق: النصيب الوافر من الخير. وأما إباحته للنساء فلأن أسامة راح في حلته فنظر إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - نظرًا عرف منه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنكر ما صنع. فقال يا رسول الله ما تنظر إلى؟ أنت بعثت بها إلى. فقال - صلى الله عليه وسلم -: "إني لم أبعث بها إليك لتلبسها ولكن بعثت بها إليك لتشقها خمرًا بين نسائك" (2). وهذا يدل على الإباحة للنساء كما قلناه. وهذا حكم الحرير المحض. وأما المختلط كالذي سداه حرير ولحمته قطن أو كتان، فكرهه مالك للرجال وهو مذهب ابن عمر. ومذهب ابن عباس جوازه (3). وقال بعض المتأخرين من أصحابنا اختلف فيه فأجيز وكره. وإجازته أكثر. وأما الخز فذكر عن مالك جوازه.
وقال القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب: يجوز لبسه وكرهه مالك لأجل السرف. وذكر ابن حبيب عن خمسة عشر من الصحابة إجازته.

والجواب عن السؤال الثالث عشر: أن يقال: أما القدر اليسير من الحرير المحض المضاف إلى الثياب فإنه ممنوع. وفي كتاب ابن حبيب النهي عن اتخاذ الجيب منه. وقد قال بعض أصحابنا ما وقع في الحديث من استثناء العلم يدل على جواز اتخاذ الطوق منه أو اللِبْنة (4). وقد يحتج أيضًا عندي على الجواز بما خرجه مسلم عن عبد الملك بن عبد الله مولى أسماء قال: أرسلتني أسماء إلى ابن عمر فقالت: بلغني أنك تحرم أشياء ثلاثة: العلم في الثوب. وذكرت ما سواه.
فأجابها ابن عمر سمعت عمر بن الخطاب يقول: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: إنما يلبس الحرير من لا خلاق له. فخفت أن يكون العلم منه. قال فرجعت إلى أسماء فأخبرتها فقالت: هذه جبة النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخرجت إلى جبة طيالسة كسروانية
__________
(1) رواه مسلم: إكمال الإكمال ج 5 ص 375 وهي إحدى رواية الموطإ. الزرقاني عن الموطإ ج 4 ص 111. وروى البخاري ومسلم إنما يلبيس هذه من لا خلاق له في الآخرة. اللؤلؤ والمرجان ج 1 ص 541.
(2) رواه مسلم ج 5 ص 375.
(3) ومذهب ابن عمر ومذهب ابن عباس جوازه -و-.
(4) اللبنة: هي بنيقة القميص. والبنيقة هي ما يثبت في الأزرار.

(1/480)


لها لِبْنة ديباج وفرجاها ملفوفان بالديباج، فقالت هذه كانت عند عائشة رضي الله عنها حتى قبضت. فلما قبضت قبضتها، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يلبسها فنحن نغسلها للمرضى تستشفي بها (1). وقوإنفصل عن هذا بعض أصحابنا بأن قال يحتمل أن يكون هذا الحرير أحدث فيها بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم -. وإذا احتمل ذلك لم يكن في الحديث حجة. وأما المختلط كالذي سداه حرير ولحمته قطن أو كتان فقد تكلمنا عليه. وإذ قلنا بالنهي عنه فإن العلم يكون في الثوب ذكر ابن حبيب أنه رخص في لبسه والصلاة فيه وإن عظم. وقد روي عن مالك في غير كتاب ابن حبيب في مقدار الأصبع من الحرير يكون علمًا في الملاحف فنهى عنه مرة وأجازه أخرى. وقال في كتاب مسلم أن عمر رضي الله عنه خطب فقال نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لبس الحرير إلا موضع أصبعين أو ثلاثًا أو أربعًا (2). وهذا يدل على جواز العلم اليسير يكون في الثوب. وأما لباس الحرير لعذر فقد رخص فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - لبعض أصحابه، لحكة. وقال القاضي أبو محمَّد يجوز لبسه للضرورة والحاجة. وظاهر كلام مالك النهي عنه. واختلف في لباسه في الغزو فمنعه مالك واستخفه ابن الماجشون.

والجواب عن السؤال الرابع عشر: أن يقال: إذا صلى عريانًا لعدم الثوب فطرأ عليه الثوب في أثناء الصلاة أو صلت أمة بلباس الإماء ثم اعتقت في أثناء الصلاة فقال بعض الأشياخ، من يرى ستر العورة فرضًا في الصلاة، يأمر بالقطع. وهي طريقة سحنون في هذه المسألة. ومن يرى ستر العورة سنة يتناول الثوب فيستتر (3) به، وهي طريقة ابن القاسم في هذه المسألة. لأن الفروض كيفما تركت أفسدت الصلاة. والسنن إذا لم تترك استخفافًا وتهاونًا لم تفسد الصلاة.

والجواب عن السؤال الخامس عشر: أن يقال: تصير قوله إلا أنه لا
__________
(1) أخرجه مسلم باب اللباس: إكمال الإكمال ج 5 ص 376.
(2) أخرجه الترمذي: عارضة الأحوذي ج 7 ص 225. حسن صحيح. وفي مختصرًا أبي داود ج 6 ص 29 عدد الحديث 3884.
(3) ويستتر -و-.

(1/481)


يتصور فيه الترك: أن النجاسة الواجب غسلها، أو ترك محلها بأن ينزع الثوب النجس عنه. والعورة: الواجب سترها. ولا يتصور فيها واجب غير ذلك كما تصور في النجاسة. إذ النجاسة يمكن إزالتها بالنزع والترك، ولا يمكن إزالة العورة وتركها.

قال القاضي رحمه الله: وأما استقبال القبلة ففرض بشرط القدرة. فإن كان معاينًا لزمه استقبالها إلا مع عدم القدرة وهو حال المسايفة. وأما مع الغيبة فالفرض فيه الاجتهاد مع القدرة. فإن كان مسايفُ الم يلزمه وصلى كيف أمكنه، وكذلك المتنفل (1) على دابته في سفر القصر. وأما في السفينة فمع التعذر يسقط عنه. وإذا اجتهد مع القدرة فصلى ثم بأن له غلطه فالإجزاء حاصل ويستحب له الإعادة في الوقت.

قال الشيخ رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل ثلاثة عشر سؤالًا. منها أن يقال:
1 - ما الدليل على أن استقبال القبلة فرض؟.
2 - وهل فرض المعاين استقبال العين أو الجهة؟.
3 - وهل فرض الغائب مثله أم لا؟.
4 - ولم سقط الفرض عن المسايف؟.
5 - ولم سقط عن المتنفل على دابته في السفر؟.
6 - وهل السفينة مثل الدابة؟.
7 - وما حكم الصلاة داخل الكعبة؟
8 - وما حكم الصلاة على ظهرها؟
9 - وما حكم الصلاة في الحجر؟.
10 - ولم أجزأت صلاة المجتهد الغالط في القبلة؟.
11 - وما حكم من لم تظهر له أمارة يعول عليها؟.
12 - وهل تجوز إمامة من خالف في الاجتهاد؟.
__________
(1) التنفل -غ- المستنفل -الغاني-.

(1/482)


13 - وما الوقت الذي يعيد الغالط الصلاة فيه؟.

فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: الدليل على وجوب استقبال القبلة قوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} (1). وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي إلى بيت المقدس على اختلاف في ذلك.
هل كان بأمر من (2) الله سبحانه لقوله: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا} (3).
أو كان باجتهاد؟ ويكون: كنت. بمعنى أنت عليها. وقد أطلق العلماء القول بأن هذا أول ناسخ فإن لم يريدوا أول ناسخ بالمدينة كان في هذا دلالة على أن لا نسخ بمكة. فإن قيل لا يستقبل لكم (4) الاستدلال بهذه الآية مع قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ} (5). قيل هذه الآية منسوخة أيضًا بقوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}، على أصل مالك وأصحابه. والظاهر على هذه الطريقة أنها من نوع نسخ الحكم قبل امتثاله وفعل المأمور به، إذ لم يثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى فريضة إلى أي جهة شاء، ولا ثبت ذلك عن أحد من أصحابه (6). وبما قلناه من كونها منسوخة قال ابن عباس وغيره وقد قيل فيها بمذهب آخر هو (7) طرف نقيض لما قلناه. وهو أنها ناسخة للصلاة لبيت المقدس. *لأن اليهود لما أنكروا التحول عن بيت المقدس* (8) وقالوا: {مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} (9). أنزل الله هذه الآية منبهًا على طريق الرد عليهم بأن الجهات كلها لله سبحانه، وإنما يختص بعضها بالتعبد والتشريف عند أمره بذلك. وإطلاق هؤلاء على هذا المعنى تسمية الناسخ فيه
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 144.
(2) من = ساقطة -ح-.
(3) سورة البقرة، الآية: 143.
(4) هكذا في جميع النسخ ولعلها لا يستقيم.
(5) سورة البقرة، الآية: 115.
(6) ولا يثبت ذلك عن أحد من الصحابة في - و - ق -.
(7) وهو -و-.
(8) ما بين النجمين = ساقط من -و-.
(9) سورة البقرة، الآية: 142.

(1/483)


بعد. وإنما هو تقرير (1) لصحة الناسخ. والناسخ شيء غير المقرر (2) لصحته.
ومن النّاس من ذهب إلى أنها ليست بمنسوخة كما قلناه ولا ناسخة كما قال هؤلاء ولكنها محكمة مخصوصة. واختلف هؤلاء في تعيين ما خصت به. فقال بعضهم محملها على الدعاء أي ادعوا إلى أي جهة شئتم. وقال آخرون بل محملها على صلاة المسافر للنافلة على راحلته. وقال آخرون محملها على صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - على النجاشي حين صلى عليه واستقبل جهته فهي (3) من خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال آخرون (4) محملها على من خفيت عليه القبلة.
والنظر في الصحيح من هذه الأقوال والفاسد، يفتقر إلى خوض بحر من الأصول. وذلك أن النسخ إنما يكون عند المحققين إذا وقع بين الآيتين تعارض حتى لا يمكن رد بعضها إلى بعض. فإذا كانت الآيتان أو إحداهما من قبيل الظواهر أمكن صرف الظاهر عن المعنى الذي هو ظاهر (5) فيه بطريق التأويل. فأما من قال محملها على الدعاء فإنه يعتمد على أن الآية لم يذكر فيها المعنى الذي نولي وجوهنا لأجله، وإنما قال تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا}.
فيحتمل أن يكون للصلاة أو للدعاء. فإذا احتمل الأمرين وكان قوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ} معلوم أنه مراد به أن يولي وجهه للصلاة. وكان الدعاء معلوم جوازه إلى كل الجهات وجب البناء. فحمل إحدى الآيتين على الصلاة والأخرى على الدعاء. وأما من يقول محملها على صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - على النجاشي، ومن يقول محملها على من خفيت عليه القبلة، فإنه يرى نزولها على هذا السبب يقتضي قصرها عليه. وبين أهل الأصول اختلاف في العموم إذا خرج على سبب هل يقصر عليه أو يتعدى سببه، فإن قلنا بقصره على سببه وصح نزولها على السبب الذي زعموه صح ما ذهبوا إليه. وأما من يقول محملها على صلاة النافلة في السفر على الراحلة فإنه يرى أن المراد بقوله: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا} أي للصلاة.
__________
(1) تقدير في -و-.
(2) غير المقدر في -و-.
(3) وهو -و-.
(4) غيرهم -ح-.
(5) هو نظر فيه -ح-.

(1/484)


ويرى الآية الأخرى التي هي قوله: {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} يقتضي تعيين جهة ويرى أن الشرع جاء بجواز النافلة على الراحلة في السفر فيبني الآيتين، فيحمل إحداهما على صلاة الفرض والنفل على الأرض، ويحمل الأخرى على تنفل الراكب المسافر. ليسلم من التعارض، ويعتضد في صحة هذا البناء بمطابقته للوارد في الشرع بإباحته (1) الصلاة للمتنفل على الراحلة سفرًا. وهذا كله مع العلم بأن الآية حكمية. وليست على ما يقتضيه ظاهرها من كونها خبرية.
فهذه طريقة العمل في النظر بين هذه المذاهب. ومن أحب سلوك طريق التحقيق في معرفة الناسخ والمنسوخ فليسلك هذه الطريقة التي أريناك. وإنما لم نتمم لك النظر في ترجيح هذه الطرق لأن ذلك يخرج الكتاب عن غرضه.

والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: المشروع لمن كان بمكة الصلاة إلى عين (2) الكعبة لا إلى جهتها. وقد اختلف الناس هل المشروع لهذا استقبال بنائها (3) أو استقبال هوائها؟ فمذهب أبي حنيفة أن المشروع استقبال هوائها.
وأما مذهبنا فقد نص محمَّد بن عبد الحكم على أن من صلى على ظهر الكعبة أن صلاته تجزيه. قال وهو كالمصلي على أبي قبيس. فإنه إنما يحاذي هواء الكعبة الذي بين الأرض والسماء. وبمثل ذلك احتج أيضًا أصحاب أبي حنيفة.
والمشهور عندنا من (4) المذهب منع الصلاة على ظهرها. وإن ذلك أشد من منع (5) الصلاة في بطنها. وهذا المذهب المشهور يشير إلى خلاف ما قاله ابن عبد الحكم. ويقتضي كون المشروع استقبال البناء لا الهواء. وعلى ذلك خرجه القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب في غير هذا الكتاب، فقال: إن لم يكن على ظهر الكعبة سترة فإنه يمنع من الصلاة عليها إلا على القول بأن الفرض طلب السمت. وإن كان عليها سترة كان حكم الصلاة عليها كحكم الصلاة في بطنها.
__________
(1) بإباحة الصلاة -و-.
(2) نفس -و-.
(3) بنيانها.
(4) في -و-.
(5) منع ساقطة -و-.

(1/485)


وقد أنكر بعض أشياخي احتجاج ابن عبد الحكم بالصلاة على أبي قبيس وقال إن المصلي على أبي قبيس فصل إلى الكعبة ومتوجه إليها، والمصلي على ظهرها لم يفعل ما أمر به من التوجه إليها. فكأن شيخنا رأى أن المستعلي على أبي قبيس يمكن أن يخفض بصره حتى يرى بنيانها وجدرانها، إذا كانت منه بحيث لا مانع يمنع من الرؤية. والمستعلي عليها لا يمكنه ذلك. وكأن ابن عبد الحكم لم يعتبر ذلك لأن المستعلي لا يقابل شيئًا من أجزاء ما استعلى عليه، وإن أمكنه (1) خفض بصره إليه. وإبصاره حينئذٍ مع عدم المحاذاة لمعاني آخر ليس هذا كتاب ذكرها.

والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: اختلف المالكية على قولين والشافعية على قولين: ما فرض الغائب عن مكة، ومطلوبه إذا اجتهد في استقبال القبلة؟ هل استقبال عينها وسمتها أو استقبال جهتها؟ فذهب الأبهري من أصحابنا إلى أن المطلوب الجهة وهو مذهب أبي حنيفة. وذهب ابن القصار إلى أن المطلوب السمت والعين. وأشار إلى أنه لا يمتنع كثرة المسامتين مع البعد كما لم يمتنع (2) ذلك في مسامتة النجوم. وهذا الذي قاله يفتقر إلى تحقيق. وذلك أن المتكلمين اختلفوا في الدائرة هل يحاذي مركزها جميع (3) أجزاء المحيط أو إنما يحاذي من أجزاء المحيط مقدار ما ينطلق (4) عليه ويماسه؟ فذهب النظام من المعتزلة إلى أن المركز يحاذي جميع (5) أجزاء المحيط، واحتج في ذلك بأنك لو قصدت إلى جزء من أجزاء المحيط *وأخرجت منه خطًا لأتصل ذلك الخط بالمركز. ورد عليه مقالته هذه أئمتنا المتكلمون وقالوا بأن الخطوط من المركز إلى المحيط فإنها (6) يضيق عن ابتدائها وينفرج عنوإنقطاعها. وما ذلك إلا أن مآل مساحة المركز يفتقر فيه إلى تفريج
__________
(1) وإن أمكن -و-.
(2) يمنع في -ح-.
(3) هل تحاذي مركزها من جميع -و-.
(4) ينطبق -و-.
(5) جميع ساقطة -و-.
(6) هكذا في -و- وهي النسخة المنفردة بإثبات النص الساقط من ح - و -ق- ولعل الصواب تضيق عند ابتدائها وتنفرج.

(1/486)


الخط وتعويجه ليمكن الاتصال. وقالوا ولا يحاذي نقطة المركز من أجزاء المحيط* (1) إلا ما لو قدر منطبقًا عليها لماسها. فهذه المسألة التي ذكرها المتكلمون يجب أن يعتبر بها ما قاله ابن القصار، فيقال له إن أردت بتصحيح مسامتة الكثرة مع البعد، أنهم وإن كثروا فكلهم يحاذي بناء الكعبة، فليس كما توهمت. وقد أخبرناك إنكار أئمتنا على النظام هذا. وإن أردت أن الكعبة تقدر كأنها بمرأى منهم لو (2) كانت بحيث ترى وإن الرائي يتوهم المقابلة والمحاذاة وإن لم تكن كذلك في الحقيقة. فهذا نسلمه لك ويسلم تمثيلك فيه برؤية الكواكب فإن الأمر فيها على ذلك جرى. ولكن مع هذا لا يكون كل فصل محاذيًا مقابلًا، ولكنه مسامتًا ببصره، ولا يكون كل فصل مسامتًا بجسمه.
فهذا الذي يظهر لي في تحقيق ما قاله ابن القصار وكشف الغصطاء عنه. وقد قال الشيخ أبو الطيب عبد المنعم وهو أحد أشياخ شيخنا، وكان ممن لم تمنعه الإمامة في الفقه عن الإمامة في الهندسة: (من قال: إن الفرض استقبال الجهة لا العين فقد غلط لأن الله تعالى قال: {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}، والشطر إن كان هو النحو أو القبالة أو القصد أو النصف فذلك غير الجهة. والوجه والجهة والمواجهة (3) والوجاهة ما استقبل. والوجاه والتجاه استقبال الشيء. ولو كان المطلوب الجهة لكان من كان من الكعبة في الشمال (4) مستحقًا (5) لكان مخيرًا بين أن يصلي إلى المشرق أو إلى المغرب أو إلى الجنوب. لأنه يكون حينئذ مستقبلًا للكعبة إما بوجهه أو أحد خديه، وهذا الذي نصر به الشيخ أبو الطيب أبا الحسن ابن القصار لا يدفع ما قلناه في تحقيق القول في المسامتة والنظر فيه أيضًا يطول ويقطع عن غرض الكتاب.

والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: أما المسايف المقاتل للعدو إذا لم
__________
(1) ما بين النجمين = ساقط -ح-.
(2) ولو -و-.
(3) المواجهة = ساقطة -ح-.
(4) في الكعبة في الشمال -ح-.
(5) مستحقًا في -و- وغير واضحة في -ح- والمعنى غير واضح.

(1/487)


يمكنه استقبال القبلة فإنه يسقط عنه فرض التوجه إليها. وهل يسقط بسقوط ذلك فرض الصلاة حينئذ أم لا؟ فمذهبنا أن فرض الصلاة لا يسقط ويصلي إلى أي الجهات أمكنه. وسقوط هذا الركن من أركان الصلاة لا يسقطها، كما لا يسقطها سقوط فرض القيام لأجل المرض أو القراءة أو ستر العورة. وقد قال تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} (1) قيل معناه: مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها. ومذهب أبي حنيفة أن الفرض يسقط عنه حينئذٍ. وحجته ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة يوم الخندق حتى خرج الوقت (2). وأجيب عن هذا بأن صلاة الخوف لم تكن شرعت له - صلى الله عليه وسلم - حينئذٍ. وعندي أن أبا حنيفة رأى أن استقبال القبلة شرط من شروط الصحة في الصلاة كطهارة الحدث، فأسقط الفرض حال العجز عن هذا الشرط، كما أسقطه (3) بعض أصحابنا عن عادم الماء والتراب حال عدمه لهما، لما كانت الطهارة عنده من شروط الصحة.

والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: تنفل المسافر على دابته (4) جائز على الجملة ويوميء للركوع والسجود؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على الحمار وهو متوجه إلى خيبر (5). ويصلي عندنا على الدابة السنن لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوتر على راحلته. والوتر من آكد السنن. ولكن من شرط جواز التنفل عندنا على الدابة أن يكون ذلك في السفر لا في الحضر خلافًا للاصطخري وأبي يوسف في أحد قوليه في إجازتهما ذلك في الحضر. والحجة عليهما قوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} (6). وهذا على
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 239.
(2) أخرجه البخاري عن علي كرم الله وجهه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال يوم الخندق: "ملأ الله عليهم بيوتهم وقبورهم نارًا كما شغلونا عن صلاة الوسطى حتى غابت الشمس". وعن جابر أنه صلى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الحصر بعد ما غربت الشمس. ثم صلى بعدها المغرب. فتح الباري ج 8 ص 409.
(3) أسقط -ح-.
(4) الدابة -و-.
(5) الموطأ ج 27 كتاب قصر الصلاة في السفر. إكمال الإكمال ج 2 ص 354.
(6) سورة البقرة، الآية: 144.

(1/488)


عمومه إلا أن يرد ما يخصصه. وقد ورد في السفر الحديث الذي ذكرناه فعدلنا به عن الظاهر وخصصناه. فإن قاسا الحضر على السفر منعناهما من القياس، لاختصاص السفر من الرخص بما لا يختص به الحضر، ولو لم يسلم القياس لقدم العموم عليه. وإن تعلق بقوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ} (1). فقد أشبعنا الكلام على معنى الآية. وإذا ثبت اختصاص الجواز بالسفر فإن ذلك يختص بالراكب دون الراجل خلافًا للشافعي في إجازته ذلك للراجل بشرط أن يحرم ويركع ويسجد إلى القبلة. ودليلنا عليه أن علة الجواز المشقة. ولا مشقة تدرك الراجل في صلاته للقبلة، والراكب بخلافه؛ لأن الدابة قد تحركه إلى غير قصده وتنحرف به عن وجهته فاختصت المسامحة بها لوجود هذا العذر فيها دون غيرها. وكأن الشافعي رأى أن علة الجواز حسم الأسباب المقللة للنافلة.
والراجل قد تكون أسفاره إلى غير جهة القبلة فلو ألزمناه التوجه لقلت نوافله فكان كالراكب. والفرق عندنا بين الراكب والراجل أن الراكب كالمتنفل جالسًا فإنما عفي له عن القبلة خاصة. والراجل الماشي يعمل المشي الكثير وهو مضاد للصلاة فلا يعفى له عنه فيكون قد عفي له عن أمرين منافيين للصلاة. وإذا ثبت أن من شرطه أن يكون مسافرًا راكبًا فإن من شرط السفر أن يكون سفرًا تقصر في (2) مثله الصلاة خلافًا للشافعي في إجازته ذلك في السفر الطويل والقصير.
ونحن لما اعتبرنا المشقة قصرنا ذلك على سفر القصر لاختصاصه بالرخص المعللة بالمشقة كالقصر والفطر. وكأن الشافعي لما رأى أن العلة حسم الأسباب المقللة للنافلة استوى عنده طويل السفر وقصيره. وقد حكى القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب أن الجمع بين الصلاتين في السفر يجوز في طويل السفر وقصيره *وقد يقع في النفس أنه يلزمه على هذا أن يجيز التنفل على الدابة في طويل السفر وقصيره* (3) وأقصى ما يمكن أن يفرق به بين المسألتين عندي أن يقال إن أعظم مراتب السفر القصير أن يكون في حكم الحضر. والجمع بين الصلاتين قد
__________
(1) سورة البقرة، الآية:- 115.
(2) فيه -و-.
(3) ما بين النجمين = ساقط -ح-.

(1/489)


يباح في الحضر للمشقة كالجمع في المطر. وترك استقبال القبلة لا يباح مع الإمكان في الحضر على حال من الأحوال. فلما كان للحضر مدخل في جواز الجمع أبيح الجمع في السفر القصير لأن أقصى مراتبه أن يكون كالحضر. ولما كان ترك استقبال القبلة مع الإمكان لا مدخل للحضر فيه لم يكن للسفر القصير فيه مدخل مع أن الجمع بين الصلاتين لا يوقع في فعل الصلاة في غير وقتها الذي هـ واجب اعتباره. فسومح به في السفر القصير. ولما كانت المسامحة بالصلاة على الدابة في السفر القصير توقع في تر استقبال القبلة الذي يجب اعتباره لم تصح المسامحة به.
والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: أما التنفل في السفينة حيث ما توجهت به ففيه قولان: الجواز قياسًا على الدابة. والمنع. لأن التوجه إلى القبلة يمكن لكون الراكب فيها يحكم نفسه. والدابة لا يمكنه ذلك فيها. فعفي له عن ذلك في الدابة لتعذر الإمكان، ولم يعف له في السفينة لوجود الإمكان.

والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: اختلف الناس في الصلاة في الكعبة. فذهب الشافعي إلى الجواز على الإطلاق. وذهب الطبري إلى المنع على الإطلاق. وفصل مالك فمنع الفرائض والسنن وأجاز النوافل. فللشافعي ما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى في الكعبة (1) وهو - صلى الله عليه وسلم - وإن كان متنفلًا فلا فرق بين الفرض والنافل في وجوب استقبال القبلة للحاضر. وللطبري قوله تعالى: {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} (2) وشطره إن كان بمعنى قصده ونحوه وقبالته، فمن صلى داخل الكعبة لم يصل نحو الكعبة وقصدها وقبالتها. وأيضًا فقد صلى النبي (3) عليه السلام خارج الكعبة وقال هذه القبلة (4). وأيضًا فإن التكليف إنما يتصور إذا كان فيه معنى الابتلاء بأن يؤثر المكلف رضا الله سبحانه على اختياره وهواه.
وينصرف عن معصية الله إلى تمكنه إلى طاعته. ومن كان خارج الكعبة فهذا
__________
(1) أخرجه مالك والبخاري ومسلم وغيره. إرواء الغليل ج 1 ص 320.
(2) سورة البقرة، الآية: 150.
(3) فقد صلى - صلى الله عليه وسلم -ح-.
(4) رواه البخاري ومسلم. الهداية في تخريج أحاديث البداية ج 2 ص 389.

(1/490)


المعنى حاصل فيه لأنه يمكنه أن يستدبرها ويركب في ذلك هواه فيكلف طلب رضا الله سبحانه باستقبالها. ومن كان داخل الكعبة لا يمكنه الاستدبار *لأنه حيث ما دار مواجه لها فلا يكلف من لا يمكنه الخروج عما كلفه لأنه يصير في معنى تكليف الأمر الضروري* (1). ولما رأى مالك رضي الله عنه دلالة القرآن على المنع ودلالة السنة على جواز النافلة خص عموم القرآن بالسنة. ولم يقس الفرض على النفل لأن القياس يدفعه العموم، فلم يصح المصير إليه.
فلهذا فرق بين الفرض والنفل. فإن صلى أحد في "خل الكعبة صلاة الفرض فهل يعيد أم لا؟ اختلف فيه. فقيل لا إعادة عليه. قاله أشهب لجواز صلاة الفرض داخل الكعبة (2). لكنه مع هذا استحب (3) أن لا يصلي داخلها صلاة الفرض. وقال القاضي أبو محمَّد: مذهب مالك أنه مكروه وقيل يعيد في الوقت ليأتي بصلاة متفق على كمالها. وقال أصبغ يعيد أبدًا، ولكنه ذكر ذلك في متعمد الصلاة فيها. وقال بعض المتأخرين ظاهر قوله إنه لو كان ناسيًا لأعاد في الوقت لأن الناسي للقبلة إنما يعيد في الوقت. واستشهد بقوله في المدونة: أنه يعيد في الوقت كمن صلى إلى غير القبلة. وإنما يصح هذا التشبيه فيمن صلى إلى غير القبلة ناسيًا.

والجواب عن السؤال الثامن: أن يقال: اختلف الناس (4) في الصلاة على ظهر الكعبة. فالمشهور عندنا المنع. والمنع في ذلك آكد من المنع في الصلاة في بطنها. لأن من صلى في بطنها إنما يعيد في الوقت. ومن صلى على ظهرها فقال مالك: يعيد أبدًا. والنفل أيضًا يجوز في بطن الكعبة. ومنعه ابن حبيب فوق ظهرها. ومذهب أشهب إجزاء الصلاة فوق ظهرها على حسب ما حكيناه عنه في الصلاة في بطنها. ومذهب أبي حنيفة إجازة الصلاة فوق ظهرها إذا كان بين يدي المصلي قطعة من سطحها. وقد قدمنا قول القاضي عبد الوهاب إنه
__________
(1) ما بين النجمين = -و-.
(2) وقد قال أشهب من صلى الفرض داخل الكعبة أجزأه -ق-.
(3) المستحب -و-.
(4) الناس = ساقطة - و - ق -.

(1/491)


إذا كان عليها سترة كانت الصلاة عليها حينئذ كالصلاة في بطنها. وإنه لم يكن عليها سترة تخرج ذلك على الخلاف، هل الواجب السمت أم العين؟ وذكرنا مذهب محمَّد بن عبد الحكم وإجازته لذلك واستشهاده بالصلاة على أبي قبيس. ومذهب الشافعي إجازة ذلك إذا كان عليها سترة. كما تجوز عنده الصلاة في بطنها. وقد يستدل عن المنع بما روي من نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة في سبع مواطن وذكر منها بيت الله الحرام. وجميع ما قدمنا من الكلام في وجوب طلب السمت أو العين، والكلام على الصلاة في بطنها، يصرف في هذه المسألة فلا معنى لإعادته. وكان أبا حنيفة رأى أن من صلى وبين يديه قطعة من سطحها فإنه فصل إلى الكعبة، ومن صلى وليس بين يديه ذلك فلا يقال إنه فصل إليها.
فلهذا لا يجوز له ذلك.

والجواب عن السؤال التاسع: أن يقال: الصلاة في الحجر كالصلاة في بطن الكعبة. وقد تقدم الكلام على ذلك. لكن قال ابن القاسم في كتاب ابن المواز أن (1) من ركع ركعتي الطواف الواجب في الحجر ثم (2) رجع إلى بلده فإنه يركعهما ويبعث بهدي فأجراه مجرى من لم يركعهما. وقد تعقب ذلك عليه بأن المصلي في بطن الكعبة تجزيه صلاته عندنا. وإنما يعيد (3) ليأتي بما هو أكمل. فكان الواجب على هذا أن يعتد هذا بهاتين الركعتين إذا وصل إلى بلده ويكون ذلك كفوت وقت الصلاة. وقد ذهب بعض الناس إلى أن الحجر بخلاف البيت. فإن البيت يصلى إليه (4) والحجر لا يصلى إليه. إذ لا يقطع بكونه من البيت. قال بعض أشياخي وهذا لا وجه له لأن مقدار ستة أذرع منه من البيت.
وقد تواترت الأخبار بأن الحجر من البيت.

والجواب عن السؤال العاشر: أن يقال: اختلف الناس في المجتهد في القبلة إذا صلى إلى غيرها غلطًا. فالمشهور عندنا أن الصلاة تجزيه وإنما يعيد
__________
(1) أنه -و-.
(2) ورجع -ح-.
(3) يعيدها -و-.
(4) فيه في -ح-.

(1/492)


في الوقت احتياطًا. وقال المغيرة وابن سحنون لا تجزيه الصلاة ويعيد أبدًا وهو أحد قولي الشافعي وحجتنا على الإجزاء ما ذكره جابر أنهم صلوا في الليل إلى غير القبلة غلطًا فلما أصبحوا ذكروا ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أحسنتم. ولم يأمرهم بالإعادة (1). وأيضًا بما رواه عامر من أنهم صلوا إلى غير القبلة غلطًا (2) فأنزل الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ} (3). وأيضًا فإن المصلي باجتهاده فعل أقصى ما في وسعه. إذ لا سبيل له إلى اليقين فوجب أن يعذر في غلطه كالمسائف إذا صلى إلى غير القبلة. واحتج ابن سحنون على منع الأجزاء بأنه قد تبين غلطه فأشبه من اجتهد في الوقت وصلى قبله غلطًا أو الأسير إذا اجتهد في رمضان فصام قبله غلطًا. واحتج غيره بأن غلطه إنما سببه التقصير في الاجتهاد. ولو وفي النظر في الإمارات حقه لأصاب القبلة. وإذا انكشف تقصيره وجب ألا تجزيه صلاته. وقد انفصل من قال بالإجزاء عن مسألتي الغالط في رمضان وفي الوقت بأنه مأمور في هاتين المسألتين بطلب اليقين إذا أمكنه فصار كالمتعدي في اجتهاده. والغالط في القبلة غير متعد في اجتهاده إذ لو انتظر واستظهر لما تيقن القبلة. ومن كان متعديًا في اجتهاده ومقتصرًا على الظن مع القدرة على اليقين لم يعذر بغلطه. ومن كان غير متعد في اجتهاده ولا قادر على اليقين عذر في اجتهاده. أشار إلى هذه الطريقة من الانفصال أبو الحسن ابن القصار وبعض أصحاب الشافعي. ولو قدرنا المجتهد في الوقت وفي رمضان بحيث لا يمكنه اليقين كالمحبوس في مطبق لكان كالمجتهد في القبلة يغلط فيعذر في غلطه أشار إليه بعض أصحاب الشافعي.
وقد حاولت (4) طائفة أخرى الانفصال بغير هذه الطريقة فقالوا إذا كان القضاء يؤمن فيه من الخطأ وجبت الإعادة، وإذا كان لا يؤمن في القضاء من
__________
(1) رواه الحاكم والدارقطني والبيهقي. وضعف غير واحد سنده. وحاول صاحب الهداية نفي الضعف عنه. الهداية ج 2 ص 386 - 387.
(2) أخرجه أبو داود الطيالسي وابن ماجة والدارقطني والبيهقي والترمذي وقال الترمذي: ليس إسناده بذاك.
(3) سورة البقرة، الآية: 115.
(4) تأولت -ح-.

(1/493)


الخطأ مثل ما كان في الأداء فلا معنى لإيجاب الإعادة. فلما كان المجتهد في القبلة يجوز أن يكون في القضاء مخطئًا أيضًا لم تجب الإعادة. ولما كان المخطيء في الوقت يتيقن الإصابة في القضاء وجبت الإعادة. وهذا الانفصال لا يعم جميع مواضع الإشكال. لأن المصلي إلى مغرب الشمس عندنا أو مطلعها صيفًا يقطع أنه فصل إلى غير الكعبة. فإذا صلى إلى إحدى هاتين الجهتين غلطًا فإن خطاه مقطوع به ويأمن في القضاء من مثل الخطأ المقطوع به فصار بأمانة من ذلك. كالغالط في الوقت. أشار إلى هذا التعقب على هذا الانفصال بعض أشياخي، ولي فيما قاله نظر يطول إيراده. وقد قال بعض أهل العلم بناءً على هذه الطريقة أن المصلي إلى غير القبلة غلطًا إذا كان بمكة أو بالمدينة أعاد الصلاة أبدًا لتيقنه الإصابة في القضاء. وقبلة المدينة مقطوع بها؛ لأن جبريل هو أقامها للنبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد أشار ابن سريج من أصحاب الشافعي إلى أن المجتهد في إناءين أحدهما نجس متى توضأ بأحدهما وصلى ثم تبدل اجتهاده عند الصلاة الثانية إلى أن الثاني هو الطاهر، إن الصلاة الأولى تجزئه. وسلك في هذا مسلك هذه الطائفة أنه متى كان الانتقال من اجتهاد إلى اجتهاد فإن الإعادة لا تجب.
وقد قال بعضهم إن المخطئين في يوم عرفة تجزئهم حجتهم (1) لمشقة القضاء.
وما يلحق فيه من مفارقة الأهل والوطن. ورأى أن هذا معنى تختص به هذه المسألة وسنبسط القول فيها في كتاب الحج إن شاء الله تعالى.

والجواب عن السؤال الحادي عشر: أن يقال: الأعمى والبصير الذي لا يعرف القبلة ولا يمكنه تعلم طرق الاجتهاد فيها حكمه أن يرجع فيها إلى تقليد غيره. هذا هو الواجب عندي عليه. وهو كالعامي، لما لم يمكنه طرق الاجتهاد في الفقه كان فرضه أن يقلد العلماء. وقال داود يصلي إلى أي جهة شاء. وهذا غلط. ويلزمه عليه عندي أن يأخذ العامي في المسائل ما شاء من خواطره فإن تعلق بقوله: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ} (2) فقد ذكرنا معنى الآية وما قيل فيها ولا معنى لإعادته. فإن لم يجد هذا من يقلده فقال ابن عبد الحكم يصلي إلى
__________
(1) حجهم -ح-.
(2) سورة البقرة، الآية: 115.

(1/494)


أي جهة شاء. قال ولو صلى أربع صلوات لكان مذهبًا. ويتخرج ما أشار إليه من صلاته أربع صلوات على قول من قال من أصحابنا: إن الشاك في نجاسة أحد الإناءين يتوضأ بهما. والناذر صوم يوم نسيه يصوم الجمعة كلها، وناسي صلاة لا يعرفها يصلي الخمس صلوات. وكل هذا طلب لليقين. وقد رأيت بعض أصحاب الشافعي مال إلى أنه يصلي إلى الجهة التي تقع في نفسه أن القبلة فيها، ويعيد صلاته. وعندي أنه نحا في ذلك نحو من قال من أصحابنا أن من لم يجد ماء ولا ترابًا فإنه يصلي ويعيد في (1) الوقت إذا وجد ما يتطهر به. قوال أبو يوسف من صلى بغير اجتهاد فصادف القبلة فإنه لا يعيد. كمن توضأ بأحد إناءين فصادف الطاهر منهما. وقال أصحاب الشافعي بل يعيد صلاته. ويعيد الصلاة المتوضيء بأحد الإناءين إذا شرع في الصلاة قبل أن يعلم إصابته للطاهر *لأنه يكون داخلًا في الصلاة وهو على شك. بخلاف أن يعلم إصابته الطاهر* (2) قبل دخوله في الصلاة (3) فإن هذا تصح صلاته. وهذا الذي قاله عندي خروج عن أصلهم إلى أصل أبي حنيفة لأنهم وإيانا نوجب النية في الوضوء وأبو حنيفة لا يوجبها. فإذا كانت العلة عنده في فساد الصلاة كونه داخلًا فيها مع الشك في صحتها وذلك يمنع من صحة النية فيها. فكذلك المتوضيء في إناء يشك في طهارته فإن شكه في ذلك يمنع من اعتقاد صحة طهارته. وامتناع اعتقاد صحة طهارته (4) يمنع من صحة النية.

والجواب عن السؤال الثاني عشر: أن يقال: إذا اختلف اجتهاد رجلين في القبلة فلا يجوز أن يأتم أحدهما بصاحبه (5)، لاعتقاده أن صلاته في الباطن غير صحيحة خلافًا لأبي ثور في إجازته ذلك قياسًا منه على صلاة الدائرين بالكعبة بإمام وهذا غير صحيح. لأن كل من حول الكعبة يقطع بأنه إلى القبلة صلى. والمأمومون حولها يقطعون بإصابة إمامهم. وفي مسألتنا المأمومون
__________
(1) بعد الوقت -ح-.
(2) ما بين النجمين = ساقط -ح-.
(3) قبل دخول الصلاة -و-.
(4) الطهارة -و-.
(5) فلا يؤم أحدهما الآخر.

(1/495)


يعتقدون (1) خطأ إمامهم. وأنه صلى إلى غير القبلة فلا يجوز لهم أن يأتموا بمن يعتقدون خطأه. فإن فعل هؤلاء وصلوا مؤتمين بمن يعتقدون خطأه فقد قال أشهب في قوم صلوا ببيت مظلم فأصاب الإِمام القبلة وأخطأوها فإنهم يعيدون دون إمامهم. وإن أصابوها وأخطأ الإِمام أعادوا أجمعون، ولم تسقط عنهم الإعادة كما سقطت عمن كان إمامه على غير وضوء ناسيًا؛ لأن هؤلاء قصدوا مخالفة إمامهم. وقال الشيخ أبو الحسن اللخمي إعادتهم الصلاة تجري على اختلاف في هذا الأصل. وذكر قول أشهب فيمن صلى وراء من لا يتوضأ من مس الذكر فإنه لا يعيد. ومن صلى وراء من لا يتوضأ من القُبلة فإنه يعيد أبدًا. لأن القبلة من اللماس. وقال سحنون بل يعيد فيهما بحدثان ذلك. فإن طال لم يعد. فخرج الشيخ أبو الحسن على هذا صلاة المالكي خلف الشافعي، والشافعي خلف المالكي. ورأى أنها يختلف فيها. وإجراء الخلاف في ذلك على الإطلاق عندي لا يصح. وقد حكى حذاق أهل الأصول إجماع الأمة على إجزاء صلاة الأئمة المختلفين في الفقه بعضهم وراء بعض. لأن كل واحد منهم يعتقد أن صاحبه مصيب إن كان يرى أن كل مجتهد في مسائل الفروع مصيب.
وإن كان ممن يرى الحق في واحد فإنه لا يقطع بأنه وافقه دون صاحبه الذي خالفه، فلهذا صحت صلاة بعضهم وراء بعض. والذي أشار إليه أشهب من الإعادة في القبلة أبدًا فإنما ذلك لأنه اعتقد أن المسألة من الوضوح بحيث يكاد يبلغ مسائل القطع التي يقطع فيها بخطأ المخالف. وهذا معنى قوله إن القبلة من اللماس يعني بذلك أنها إذا كانت من اللماس وكان القرآن قد جاء بإيجاب الوضوء من اللماس صار ذلك يكاد يلحق بالمقطوع به لمَّا كان مما جاء به القرآن.
وأدل دليل على صحة ما تأولناه تفرقته بين مس الذكر والقبلة في إيجابه الإعادة.
فلو كان جميع ما اختلف فيه يجري مجرى واحدًا لما صحت تفرقته. وأيضًا فقد نص بعض أصحاب مالك على نقض أحكام القضاة في مسائل اختلف فيها، وإمضاء أحكامهم في مسائل أخر. وأشاروا إلى ما تأولته عليهم. وإن ما (2) كان
__________
(1) معتقدون -و-.
(2) ما = ساقطة - ح - ق -.

(1/496)


من المسائل التي وردت فيها الأحاديث الثابتة التي لا تأويل في إسقاطها فإن حكم الحاكم ينقض إذا خالفها. وقد ذكر ابن حبيب هذه المسائل وسنذكرها نحن في مواضعها إن شاء الله تعالى. وهذا واضح لا مراء فيه فلا وجه لإطلاق القول لإجراء الخلاف في هذه الصلاة في كل مسائل الخلاف.

والجواب عن السؤال الثالث عشر: أن يقال: اختلف في منتهى الوقت الذي يعيد الصلاة فيه من صلى إلى غير القبلة غالطًا أو بالنجاسة ناسيًا. فقيل في الظهر والعصر منتهى ذلك غروب الشمس. وقيل منتهاه إصفرارها. وقال بعض أشياخي هذا يتخرج على القول بتأثيم مؤخر الصلاة إلى الإصفرار. فمن أثمه جعله (1) منتهى الإعادة. ومن لم يؤثمه جعل منتهاها الغروب. وقال غيره إنما تعاد الصلاة في الوقت ليتلافى نقصها. والنقص الذي يلحقها بإيقاعها في وقت
الضرورة عند من منع الإعادة فيه أشد من نقصها الذي تعاد بسببه. ألا ترى أنهم أباحوا التيمم أول الوقت إذا كان لا يجد الماء إلا في وقت الضرورة مع كون الماء شرطًا في صحة الصلاة. وهذا يدل على شدة نقص وقت الضرورة. ومن أمر الإعادة للغروب فإنه (2) رأى أن النقص الحاصل في الصلاة أشد من وقت الضرورة. وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر" (3). وقد أشار بعض الأشياخ إلى أن الفرق في أحد القولين بين صلاتي الليل وصلاتي النهار أن التنفل بعد الإصفرار منهي عنه والصلاة المعادة كالنافلة. فلهذا لم يعد بعد الإصفرار. وصلاة المغرب والعشاء تعاد إلى الفجر لما كانت من النافلة في سائر الليل سائغة. ولم يسلم بعض أشياخي كون الإعادة في معنى النافلة المحضة فلم ير هذا فرقًا صحيحًا. وأشار هو وغيره من الأشياخ إلى أنه إذا روعي الوقت المختار كانت إعادة الظهر إلى القامة والعتمة إلى ثلث الليل أو نصفه. لكن قال بعض هؤلاء لما كانت الظهر تشارك العصر في الوقت جعل وقتها في الإعادة وقت العصر المختار. ولكن يلزم
__________
(1) جعل منتهى الإعادة الإصفرار -و-.
(2) فإنه = ساقطة -و-.
(3) مالك والبخاري ومسلم وغيرهم عن أبي هريرة: الهداية ج 2 ص 282.

(1/497)


على هذا أن يجعل إعادة المغرب آخر وقت العشاء المختار.

قال القاضي رحمه الله: وأما (1) أركان الصلاة التي هي منها فتسعة وهي:
1 - التحريم.

قال الإِمام رضي الله تعالى عنه: يتعلق بهذا الفصل سبعة عشر سؤالًا. منها أن يقال:
1 - هل تكبيرة الإحرام ركن من أركان الصلاة وجزء منها، أو شرط فيها؟
2 - وهل هي واجبة أم لا؟.
3 - وهل تتعين بلفظ التكبير (2) أم لا؟.
4 - وما حكم من لا يحسن التكبير؟.
5 - وإذا وجبت هل تجب على المأموم أم لا؟.
6 - وهل من شرطها أن توقع في القيام أم لا؟.
7 - وهل يصح أن ينوي بها الإحرام والركوع أم لا؟.
8 - وهل تنوب عنها تكبيرة الركوع أم لا؟.
9 - وإذا أمر المأموم الناسي لها بالتمادي، هل ذلك في كل الصلوات أم لا؟.
10 - وهل طمعه بإدراك الركعة مع الإِمام إذا قطع يبيح له القطع أم لا؟.
11 - وهل يفتقر في قطعه إلى سلام أم لا؟.
12 - وهل الشك في تكبيرة الإحرام كاليقين بتركها أم لا؟.
13 - وإذا كملت الصلاة على الشك ثم تيقن الإحرام هل تجزئه أم لا؟.
14 - وهل يجوز الإحرام قبل الإِمام؟.
15 - وما حكمه إن فعل (3)؟.
16 - وما حكمه إن فعله معًا (4)؟.
17 - وما معنى تقييده بقوله منها؟.
__________
(1) فأما = الغاني.
(2) وهل يتعين لفظ التكبير - ق - و.
(3) إن نوى -ق-.
(4) هكذا في جميع النسخ ولعل الصواب إن فعلاه معًا. أو فعله معه.

(1/498)


فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: اختلف الناس في الإحرام للصلاة، والإحرام بالحج هل هما ركنان فيهما (1) وجزءان منهما أو ليستا (2) منهما وإنما هما شرطان فيهما؟ فمذهب الشافعي أنهما جزءان منهما وركنان فيهما. ومذهب أصحاب أبي حنيفة أنهما شرطان فيهما. والذي حكاه بعض أصحابنا البغداديين أن تكبيرة الإحرام جزء من الصلاة. وكان شيخنا أبو محمَّد عبد الحميد رحمه الله يرى أن فائدة الخلاف في ذلك ما ذكره سحنون من أن الناظر إلى عورة إمامه في صلاته تعمدًا، أن صلاته تبطل. فإذا قيل إن تكبيرة الإحرام من نفس الصلاة، بطلت صلاة الناظر إلى عورة إمامه في حين إحرامه. وإن قيل ليست من نفس الصلاة لم تبطل صلاته. والذي عندي أن فائدة الخلاف في ذلك صحة تقديم الإحرام على وقت العبادة. فمن رأى الإحرام من نفس العبادة اشترط في صحة إيقاعه الوقت كما يشترطه في سائر أجزاء العبادة. ولهذا منع الشافعي من الإحرام بالحج قبل أشهر الحج لما كان يرى الإحرام من نفس الحج. ونحن، وإن كان مذهبنا صحة الإحرام بالحج قبل أشهره فإنا عذرنا عن ذلك سنورده في كتاب الحج إن شاء الله. ومن رأى الإحرام شرطًا وليس ركنًا ولا جزءًا صح عنده الإحرام قبل الوقت؛ لأن شرط العبادة المؤقتة لا يشترط في إيقاعه وقتها، كالطهارة لما اتفق على أنها شرط في الصلاة لم يشترط فيها وقت الصلاة، بل صح إيقاعها قبل الصلاة. فكذلك الإحرام بالصلاة والحج. ودليلنا على أن الإحرام للصلاة من نفس الصلاة حديث الإعرابي لما أمره عليه السلام بإعادة صلاته فقال يا رسول الله علمني. فعلمه الصلاة وأمره فيما علمه بالتكبير (3) ومراده بقوله علمني الصلاة. فكل ما علمه فهو محسوب منها ومعدود من أجزائها إلا أن يخرجه عن ذلك دليل. وأيضًا فإن شرط العبادة يصح انفصاله منها حتى لا يكون بينهما اتصال. ألا ترى أن الطهارة، لما كانت شرطًا، صح انفصالها عن الصلاة وعدم اتصالها بها. فلو كان الإحرام شرطًا
__________
(1) فيهما = ساقطة -و-.
(2) ليستا - ح - و -.
(3) أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما: الهداية ج 3 ص 11.

(1/499)


لصح انفصاله من الصلاة. واحتج من قال إنه شرط في الصلاة، وليس بجزء منها بقوله تعالى: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} (1). ومقتضى هذا أن الصلاة غير الذكر لورودها بعده بفاء التعقيب. والإحرام ذكر. فوجب أن يكون غير الصلاة.
وأجيبوا عن هذا بأنه يمكن أن يكون المراد بالذكر ها هنا النية، والقصد. وذلك أمر يتقدم الصلاة، وليس بجزء منها. واحتجوا أيضًا بقوله عليه السلام: تحريم الصلاة التكبير (2). فلو كان التكبير من نفس الصلاة لصار تقدير الكلام تحريم التكبير، التكبير. وأجيبوا عن هذا بأن الإضافة لا تجري على مجرى واحد بل تتنوع. وقد يضاف البعض إلى كله فيقال رأس الإنسان. والإنسان تسمية لجملة منها الرأس. وإذا أمكن إضافة البعض إلى الكل لم يكن في الحديث حجة.

والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: المشهور من مذاهب العلماء بأسرهم وجوب تكبيرة الإحرام على الجملة. وحكى ابن المنذر عن ابن شهاب أنه قال في رجل نوى الصلاة ورفع يديه ولم يحرم أن صلاته تجزيه. والدليل على الوجوب حديث الأعرابي لما علمه النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة فأمره بالتكبير (3). وظاهر الأمران كل ما علمه لا تجزي الصلاة دونه إلا أن يدل على ذلك دليل. وإذا لم تجز الصلاة دونه دل ذلك على وجوبه. ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما صلى أحرم. وقد قال: صلوا كما رأيتموني أصلي (4). وظاهر هذا يقتضي الوجوب.

والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: اختلف الناس في لفظ التكبير في
افتتاح الصلاة هل يتعين أم لا؟ فمذهبنا أنه يتعين حتى لا يجزئ إلا القول = الله
أكبر = وعند الشافعي أن التكبير يتعين لكنه يجزئ فيه = الله أكبر = والله أكبر =
__________
(1) سورة الأعلى، الآية: 15.
(2) عن علي كرم الله وجهه: مفتاح الصلاة الطهور. وتحريمه التكبير. أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجة. وقال الترمذي: هذا الحديث أصح شيء في الباب وأحسن. ج 1 ص 44.
(3) أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما. الهداية ج 3 ص 11.
(4) البخاري كتاب الأذان وكتاب الأدب والآحاد. والإمام أحمد ج 5 ص 56. والدارمي ج 1 ص 586.

(1/500)


وقال أبو يوسف يجزئ = الله الكبير = وقال أبو حنيفة يجزئ كل لفظ فيه فيه التعظيم كالقول = الله أعظم = والله أجل = والرحمان أقدر = ووافقنا على أن ما كان بصيغة الأدعية لا يجزئ. وكذلك البسملة لا تجزيء عنده.
ونكتة المسألة راجعة إلى أن الصلاة عبادة غير معقول معناها. ولا تبلغ أفهام البشر مدارك وجوه اختصاصاتها. وإذا كان الأمر كذلك وجب التسليم فيها والاتباع. وقد علم قطعًا من عادة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وسائر المسلمين افتتاح الصلاة بالتكبير فوجب اتباعهم على ذلك وألا يخرج عنهم بالقياس، كما لو حاول محاول أن يبدل الركوع بالسجود ويقول: القصد بالركوع الخنوع والخضوع. والساجد أشد خنوعًا وخضوعًا فيجب أن يكون له إبدال الركوع بالسجود. وهذا لو قاله قائل لخرج عن مذاهب المسلمين فكذلك التكبير. وإن كان القصد به الثناء والتمجيد، فلا يسامح بإبداله بثناء وتمجيد آخر كما صنع أبو حنيفة. وهذا لازم لا بد من القول به. ولا تظن بنا أننا نهينا عن شيء وأتينا مثله فتقول: أنكرتم على أبي حنيفة قياس الله أعظم على الله أكبر. وقستم أنتم في منع الإبدال التكبير على الركوع والسجود؛ لأنا لم نورد هذا قياسًا وإنما ضربنا لك به أمثالًا (1) ليتضح عندك منع القياس في هذا الباب. ويناقض أبو حنيفة أيضًا: بأن يلزم جواز افتتاح الصلاة بما منع (2) منه مما حكيناه عنه. ويناقض الشافعي في مذهبه وأبو يوسف في مذهبه بأن يقال لهما: إن لزمتما الاتباع، فقدلا بما قاله (3) مالك من التحجير وألا تخرج عن الاتباع بحرف واحد. وإن سامحتما باستعمال القياس فهلا وسعتما الأمر كما وسعه أبو حنيفة؟ فليس إلا القياس كما قال أو الاتباع كما قلنا. فإن اعتذرا بأنه تكبير كله على اختلاف صيغه، قيل لهما هو على كل حال خروج (4) عن الاتباع لكنكما أقرب إلى الاتباع من أبي حنيفة.
ومالك ألزمكم للاتباع (5) فلا يوجد سبيل إلى مناقضته.
__________
(1) مثالًا -و-.
(2) يمنع -و-.
(3) قال به -ق-.
(4) خارج -و-.
(5) الاتباع -و-.

(1/501)


والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: أما من لا يحسن أن ينطق بالتكبير فإنه ليس عليه نطق آخر سواه يفتتح به الصلاة عوضًا من التكبير. إلى هذا ذهب الشيخ أبو بكر الأبهري وهو صحيح على أصلنا لأنا قدمنا أن لفظ التكبير متعين، وأن استعمال القياس فيه بالإبدال لا يصح. ولم يأت الشرع بإيجاب بدل منه عند العجز عنه، كما أتى بإبد الذي غيره من العبادات، والأصل براءة الذمة فلا توجب عبادة إلا بدليل. وقد قال أبو الفرج يدخل بالحرف الذي دخل به الإِسلام. وحكى القاضي أبو محمَّد عن بعض أشياخه أنه يدخل الصلاة بلسانه، ويحتمل أن يكون هذا القائل أباح للأعجمي الذي لا يحسن العربية أن يفتتح الصلاة بلسانه. لأنه ثبت عنده بالنقل صحة معنى ما يفتتح به.

والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: قد قدمنا وجوب تكبيرة الإحرام على الجملة ومخالفة ابن شهاب في إيجابها على الإطلاق. وقد قال بعض الناس أن ابن شهاب وابن المسيب يريانها سنة. وأنكر بعض الناس هذا. وأشار إلى أنهما إنما يريان ذلك سنة في إحرام المأموم خاصة، وإلى ذلك أشار ابن المواز. لأنه ذكر أنه لم يختلف في الفذ والإمام، وإنما اختلف في المأموم. فإذا ثبت وجوب ذلك على الإِمام والفذ، فقد اختلف المذهب في إحرام المأموم هل يحمله عنه الإِمام أم لا؟ فعن مالك روايتان: المشهور منهما أنه لا يحمله قياسًا على الركوع والسجود. والرواية الأخرى أنه يحمله قياسًا على القراءة. فإن قلنا إنه لا يحمله فلا يخلو المأموم من قسمين: أحدهما أن يذكر ذلك قبل أن يركع.
والثاني أن يذكره بعد أن ركع. فإن ذكر ذلك قبل أن يركع أحرم واستأنف القراءة وإن ذكر ذلك بعد أن ركع فلا يخلو من أن يكون كبر حال ركوعه أو لم يكبر.
فإن لم يكبر فحكمه حكم من لم يركع، في أنه يحرم ويستأنف الصلاة. وإن كان كبر لركوعه ثم ذكر أنه نسي الإحرام، فإن كان لم يرفع رأسه من ركوعه ويمكنه أن يرفع رأسه فيحرم ويعود إلى ركوعه فيدرك الإِمام راكعًا، فإن في ذلك قولين. وإن لم يذكر ذلك حتى رفع رأسه فإنه يتمادى على صلاته. فإذا فرغ منها أعادها. ورأى مالك رضي الله عنه هذا احتياطًا، واعتل بأنه يأمره بالتمادي لكون الصلاة تجزئه عند ابن المسيب وبالإعادة لكونها لا تجزئه عند ربيعة.

(1/502)


واختلف الأشياخ المتأخرون في هذه الإعادة: هل تكون مقصورة على الوقت أو تكون في الوقت وبعده؟ فمن قصرها على الوقت حمل على (1) مالك أن التمادي على الصلاة هو الأصل عنده، والإعادة هي التي احتاط بها. ومن أمر بها في الوقت وبعده رأى أن الأصل عنده الإعادة، وإنما احتاط بالتمادي على الصلاة.
وقد ذكر أبو مصعب أنه غير بين التمادي والقطع. وهذا يقتضي كون الإعادة هي الأصل. إذ لو كان التمادي هو الأصل لما ساغ القطع.

والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: اختلف المذهب في تكبيرة الإحرام هل شرطها القيام أم لا؟ فذهب ابن المواز إلى أن ذلك من شرطها.
وقال فيمن أحرم راكعًا أنه يقضي ركعته التي أحرم فيها. وكذلك لو أحرم حال انحطاطه للسجود أو حال رفعه منه لاعتد ببقية صلاته وقضى الركعة التي لم يحرم فيها قبل ركوعها. وكأنه قدر أن ما يحدث من القيام بعد تكبيرة الإحرام يوجب الاعتداد ببقية الصلاة لحصول ذلك بعد إحرام وقيام، بخلاف الركعة التي أحرم في ركوعها. وكذلك قال فيمن كبر لسجود الأولى وركع (2) للثانية ناسيًا لتكبيرة الركوع فيها، أن يتمادى ويعيد. وقد رأى أن تكبيرة السجود السابق كأنه مقارن للركوع. وقد قال بعض المتأخرين إنما قضى هذه الركعة واعتد بما سواها ولم يأمره بالتمادي والإعادة لأنه تعمد ترك القيام للإحرام. وابن المسيب الذي راعى مالك خلافه حتى أمر بالتمادي إنما يقول بإجزاء الصلاة فيمن لم يتعمد ترك القيام للإحرام. وقد (3) كان شيخنا أبو محمَّد عبد الحميد رحمه الله يحكي عن بعض الناس وأظنه (4) ابن أبي صفرة أنه كان يقول: في أثناء المدونة ما هو كالنص على أن تكبيرة الإحرام ليس من شرطها القيام في حق المأموم. لأنه قال في المدونة: ولا ينبغي لرجل أن يفتتح الصلاة بالركوع قبل القيام وذلك يجزئ من كان خلف الإِمام. فقد نص على إجزاء صلاة المأموم المفتتح صلاته بالركوع. فإن قيل فلم فرق في المدونة بين المأموم ومن سواه في هذا؟ قيل: أشار بعض المتأخرين من أصحاب مالك إلى أن المأموم إخلاله بالقراءة لا يفسد
__________
(1) هكذا في جميع النسخ.
(2) رفع -و-.
(3) وقد = ساقطة - ح - ق -.
(4) وأظنه أنه -ق-.

(1/503)


صلاته لحمل الإِمام ذلك عنه. فلهذا صح افتتاحه الصلاة (1) بالركوع. والفذ مخاطب بقراءة أم القرآن في كل ركعة. فلهذا لم يصح له افتتاح الصلاة بالركوع. وكأنه يشير إلى أن من يرى أنه ليس من شرط صحة كل ركعة قراءة أم القرآن فيها لا يفرق بين الفذ والمأموم في هذا. وأشار بعضهم إلى أنه لا تصح صلاته، وإن لم يوجب القراءة في كل ركعة لأنه كالتارك سنة متعمدًا. وتعمد ترك السنن يفسد الصلاة. وعندي أنه متى قيل إن الإِمام يحمل تكبيرة الإحرام عن المأموم فلا ريب في سقوط فرض القيام عنه. لأن القيام إنما يراد للتكبير فإذا أسقط التكبير سقط ما يراد له. وإن قيل إنه لا يحمل تكبيرة الإحرام عنه فقد يستخف حمل القيام عنه لكونه غير مقصود في نفسه. وقد أتى المأموم بالمقصود منه. فهذا مما يمكن أن يقال في وجه تفريقه في المدونة بين المأموم والفذ.

والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: لو أسقط المأموم تكبيرة الركوع واقتصر على تكبيرة الإحرام لصحت صلاته. فإذا أحرم عند الركوع ومزج في نيته للإحرام قصد الركوع، فقال بعض الأشياخ تصح صلاته كمن نوى بغسله الجنابة والجمعة. وبهذا قال الحسن والثوري وجماعة غيرهما. وقالت الشافعية لا يصح وقد قدمنا ما عندنا من التعقب عليهم في مزج نية الوجوب بنية النفل.
وقد مضى مبسوطًا فلا معنى لإعادته.

والجواب عن السؤال الثامن: أن يقال: قد قدمنا اختلاف ربيعة وابن المسيب فيمن كبر للركوع ناسيًا لتكبيرة الإحرام هل تجزيه صلاته أم لا؟ وتردد قول (2) مالك بين مذهبيهما، وتشككه في نيابة تكبيرة الركوع عن تكبيرة الإحرام فلا معنى لإعادته. وقد قال بعض الأشياخ إنما يؤمر بالتمادي والإعادة إذا كبر لركوعه (3) وهو قائم. وهذا لا معنى له عندي؛ لأن التكبير للركوع لا يشترط فيه القيام والإحرام لم يحصل، فيشترط له القيام. فالتمادي يحسن على أصله وإن لم يكبر للركوع حال القيام.
__________
(1) للصلاة -و-.
(2) قول = ساقطة.
(3) للركوع -ق-.

(1/504)


والجواب عن السؤال التاسع: أن يقال. حكم سائر الصلوات عندنا فيما
قلناه حكم واحد الأصلاة الجمعة فإن فيها (1) قولين فيمن نسي تكبيرة الإحرام
وكبر للركوع. فقيل يتمادى ويعيد بعد فراغه ظهرًا أربعًا كسائر الصلوات. وقيل
بل يقطع ويستأنف الجمعة مع الإِمام بخلاف غيرها من الصلوات، وهذا عندي
ينظر إلى ما قدمناه من الاختلاف في كتاب الطهارة، فيمن خاف إن تشاغل بالماء فاتته صلاة (2) الجمعة. وسبب الاختلاف في ذلك أن من قدر أن الجمعة لا تفوت لوجود بدل منها وهو الظهر إذ (3) يمكن فعله، والوقت باق، لم يبح لهذا القطع، ولا لذلك التيمم. ومن قدر أن الجمعة لا بدل منها وأنه لا يمكن قضاؤها بعد الإِمام أمر هذا بالقطع ليدرك مع الإِمام صلاة لا يمكنه أن يأتي ببدل منها. وأمر ذلك بالتيمم لأجل هذا. وقد ذكر عن ابن حبيب أنه فرق بين الركعات في الصلوات الخمس فأمر بالتمادي والإعادة من أدرك الإِمام في أول صلاته. وأمر من فاتته بعض صلاة الإِمام بالقطع متى ما (4) ذكر. وأنكر بعض المتأخرين هذه التفرقة ولم ير لها وجهًا ولا يمكن عندي أن يوجد لها وجه إلا أن يقال إن الفذ إذا نسي تكبيرة الإحرام لم يصح أن يؤمر بالتمادي على صلاة نسي الإحرام فيها، والمأموم بخلافه يؤمر بالتمادي. فإذا كان ناسي تكبيرة الإحرام قد فاتته بعض صلاة الإِمام فإنه لا بد أن يقضي ما فاته بعد فراغ الإِمام ويكون فيما يقضيه كالفذ. والفذ لا يتمادى على صلاة نسي إحرامها. فلهذا أمر من فاتته بعض الصلاة بالقطع ولم يؤمر بذلك من لم يفته شيء منها. هذا أقصى ما يمكن أن يتخيل عندي في ذلك.

والجواب عن السؤال العاشر: أن يقال: قد قدمنا الاختلاف فيمن نسي تكبيرة الإحرام وكبر للركوع هل يباح له القطع إذا طمع بإدراك الإِمام في الركعة بعد قطعه.
وسبب الاختلاف في هذا، الاختلاف في عقد الركعة هل هو تمام الانحناء أو
__________
(1) ففيها قولان -و-.
(2) صلاة = ساقطة -و -ق-.
(3) إذ = ساقطة -ح-.
(4) ما = ساقطة -ح-.

(1/505)


رفع الرأس منه؛ فإن قلنا إنه تمام الانحناء لم يقطع هذا الذي ذكر وهو رافع لكونه قد حصل ركعة. وإن قلنا هو رفع الرأس قطع هذا لكونه لم تحصل له ركعة.

والجواب عن السؤال الحادي عشر: أن يقال: فيمن قدر أنه إذا قطع أدرك الإِمام في الركعة بعد القطع هل يقطع بسلام أم لا؟ وسبب هذا الاختلاف مرعاة الخلاف. فمن لم يراعه قطع بغير سلام. ومن راعاه افتقر إلى القطع بالسلام لئلا يكون المصلي قد زاد ركعة في صلاته عند من قال بصحتها. وقد قال ابن حبيب فيمن ذكر بعد ركعته أنه نسي تكبيرة الإحرام فجهل أن يتمادى فأحرم مستأنفُ اللصلاة فإن صلاته باطلة، ولا يخرج مما كان فيه بالنية والإحرام، دون سلام أو كلام. وكذلك من رأى نجاسة بثوبه فنزعه وأحرم فلا تصح صلاته دون القطع بسلام أو كلام.

والجواب عن السؤال الثاني عشر: أن يقال: إذا شك الفذ هل أحرم أم لا (1) أو توضأ أم لا فهل يقطع أو يتمادى ويعيد؟ فيه قولان: أحدهما: القطع إذ لا يلزمه التمادي على صلاة لا تجزيه فيصير كمن وجبت عليه صلاتان. وإنما عليه واحدة. وقيل يتمادى لجواز أن تكون هذه الصلاة في الباطن صحيحة.
وقطع الصلاة الصحيحة لا يجوز. ويعيد لجواز ألا تكون صحيحة. وقد ينفصل هؤلاء عندي عما قاله الأولون من أنا لا نوجب عليه صلاتين بأن من نسي صلاة لا يعرف عينها، يؤمر بأن يصلي خمس صلوات حتى يحصل له اليقين لبراءة ذمته. فإذا لم يبعد إيجاب خمس صلوات والواجب صلاة واحدة، لم يبعد إيجاب الصلاتين والواجب واحدة. وإن كان إمامًا شك في تكبيرة الإحرام فقد قال سحنون يتمادى فإذا فرغ سألهم. ويتخرج القطع على القول الآخر. قال سحنون وإن شك في وضوئه استخلف ثم وقف عن (2) الاستخلاف لجواز أن يكون على وضوء، فيكون قطع صلاة صحيحة. وفرق في الاستخلاف بين تكبيرة الإحرام وبين الطهارة لأن نسيانه الطهارة لا تبطل صلاة المأمومين ونسيانه الإحرام يبطل صلاتهم. ورأى الشيخ أبو الحسن اللخمي أن المسألتين سواء.
__________
(1) هل هو أحرم أو لا أو توضأ أو لا -و-.
(2) على -و-.

(1/506)


وأن صلاتهم مع نسيانه الإحرام تصح لهم دونه كما تصح في نسيانه الطهارة.
والذي قاله الشيخ أبو الحسن من التسوية بينهما قد أنكره سحنون على ما قلناه.
والذي قاله سحنون هو مقتضى المذهب على ما أشار إليه بعض الأئمة. وذلك أن الطهارة لا يحملها الإِمام عن المأموم إجماعًا. فلم يكن نسيانه لها ساريًا حكمه إليهم. وتكبيرة الإحرام يحملها عنهم في أحد قولي مالك فكان نسيانه لها ساريًا حكمه إليهم. ويكون تركه لها كالترك لهم وإن كانوا فعلوا. لكن إن قلنا إن الإِمام لا يحملها عنهم تعذر الفرق ويضطر للرجوع إلى ما قاله الشيخ أبو الحسن، إلا أن يفرق مفرق بمراعاة الخلاف في حمل تكبيرة الإحرام وعدم الخلاف في حمل الطهارة.

والجواب عن السؤال الثالث عشر: أن يقال: اختلف المذهب فيمن افتتح الصلاة على الوجه الواجب ثم طرأ عليه شك فتمادى عليه حتى أكمل الصلاة فتبين له بعد إكمالها أنه أصاب في التمادي. وأنه هو الواجب عليه. أو زاد في الصلاة شيئًا تعمدًا أو سهوًا *ثم تبين له أنه هو الواجب عليه هل تجزئه عن الواجب أم لا؟ فمن ذلك الاختلاف فيمن سلم وهو شاك في إكمال الصلاة* (1)
ثم تبين له أنه أكملها. فقيل تجزئه صلاته وقيل لا تجزئه. ومن شك هل أحرم أم لا؛ ثم تبين له بعد الفراغ أنه أحرم. فقيل تجزئه صلاته، وقيل لا تجزئه.
وكذلك من شك في طهارته ثم تبين له أنه متطهر. فوجه الإجزاء أن اعتقاد الصحة والوجوب عند الشروع في الصلاة ينسحب حكمه على سائر أجزاء العبادة فلا يضره التشكك لانسحاب حكم النية عنوإلافتتاح على سائر أجزاء العبادة.
ووجه القول بأنه لا تجزئه، إن التشكك يرفع حكم انسحاب النية حتى تصير الأجزاء المفعولة مع التشكك واقعة بغير نية، ولا اعتقاد وجوب لا ذكرًا ولا حكمًا. وذلك يمنع من الإجزاء. وأشار بعض أشياخي إلى أن من أحرم بالظهر ثم تشكك هل كان إحرامه للظهر أو للعصر فتمادى على صلاته ثم تحقق أنه للظهر أحرم، أن صلاته تجزيه من غير اختلاف. لأجل أنه إنما تشكك بين صلاتين واجبتين. فالفعل لم يخرج عن كونه واجبًا وليس عليه بعد عقد النية
__________
(1) ما بين النجمين = ساقط من -و-.

(1/507)


تجديد ذكرها عند كل جزء من أجزاء الصلاة. فلم يكن لشكه حكم. لأنه لم يمنع من انسحاب (1) حكم اعتقاد الوجوب. بخلاف من شك في الصحة والفساد.
ومثال ما اختلف فيه: من فعل شيئًا سهوًا أو عمدًا ثم انكشف الغيب أنه هو الواجب عليه: من زاد في صلاته ركعة خامسة عمدًا أو سهوًا ثم تبين له أن الركعة الأولى فسدت حتى صارت هذه رابعة. فقيل تصح صلاته وتجزيه هذه عن الرابعة. وقيل لا تجزيه عن الرابعة. وتبطل صلاة المتعمد للزيادة. وتوجيه هذا الخلاف نحو ما قدمناه. وكذلك اختلف فيمن سلم من اثنتين ظنًا أنه سلم من أربع ثم تنفل بركعتين هل تجزئه هاتان الركعتان عن بقية فرضه أم لا؟ والإجزاء ها هنا وفيمن زاد في صلاته ركعة متعمدًا غير صحيح. لأن حدوث (2) نية مضادة للنية الأولى يمنع انسحاب حكمها لأنه إذا ضادها و (3) ناقضها وجودًا، فأحرى أن يضادها (4) حكمًا واستصحابًا. وكذلك اختلف فيمن أحرم للظهر ثم أكمله ابن ية العصر هل تجزئه عن الظهر أم لا؛ وهذا قد يظن منه أن المسألة التي قدمنا أن بعض أشياخنا أشار إلى ارتفاع الاختلاف فيها يتصور الخلاف فيها. لأن هذا تبدل اعتقاده إلى تصميم. ولكن لم يخرج الاعتقادان عن الوجوب. وذلك تبدل اعتقاده إلى تشكك ولم يخرج بتشككه عن الوجوب.

والجواب عن السؤال الرابع عشر: أن يقال: لا يجوز الإحرام قبل الإِمام عندنا. وعند أبي حنيفة خلافًا للشافعي في أحد قوليه في إجازة ذلك. ودليلنا قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فإذا كبر فكبروا" (5). فمن كبر قبله خالف الأمر. وقياسًا على السلام لما اتفقنا على (6) أنه لا يجوز قبله. فإن قال أصحاب الشافعي لما جاز للمأموم أن يقضي بعض صلاة الإِمام بعد فراغ الإِمام جاز له أن يسبقه ببعضها وهو التكبير. قيل لهم: إنما يقضي بعده صلاة أحرم بها معه. فكأنه باق معه وهو لم
__________
(1) الاستحباب -و- استحباب -ق-.
(2) وجوب -و-.
(3) أو -و-.
(4) أن يناقضها - و - ق -.
(5) صحيح. أخرجه البخاري ومسلم. اللؤلؤ والمرجان ح 232.
(6) على = ساقطة -و-.

(1/508)


يتأخر عنه. وإذا سبق الإِمام بالإحرام فإنه لا يقدر فيه متابعة الإِمام فيما سبقه (1) به لا حسًا ولا حكمًا فافترقا. فلم يصح قياس هذا على هذا.

والجواب عن السؤال الخامس عشر: أن يقال: إذا سبق الإِمام بالإحرام فإنه يقطع الصلاة ثم (2) يستأنفها معه. واختلف هل يفتقر قطعه إلى سلام أم لا؟ وسبب هذا الاختلاف مراعاة الخلاف. وقد قدمنا مثله. فإن لم يقطع وأكمل صلاته -بحكم نفسه- (3) على (4) إحرامه السابق فهل تصح صلاته أم لا؟ قال سحنون لا تصح صلاته. وقال بعض أشياخي كان الأولى بمذهب سحنون صحة صلاته. لأنه لما أمره بالقطع أمره أن يقطع بسلام. وإنما ينبغي أن يقول (5) بأن صلاته لا تصح مالك الذي يقول يقطع بغير سلام. ولقد قال أشهب فيمن أحرم وهو يظن أن الإِمام لم يكمل صلاته فإذا هو قد أكملها أنه يبني على إحرامه. فكأن شيخنا هذا رأى أن قول سحنون إن القطع يفتقر إلى سلام، يشير إلى صحة الإحرام. وإذا أمكنت صحة الإحرام صح البناء عليه. ولم يمنع من ذلك فقد الجماعة التي قصدها. كما لم يمنع ذلك في المسألة التي ذكر أشهب.
وفي هذا الذي قاله نظر. لأن القطع بسلام لا يقتضي كون الإحرام صحيحًا عنده. وإنما هو استظهار للتخلص من عهدة الخلاف. ومسألة أشهب لم يوجد فيها إمام يؤمر بمتابعته. ومسألتنا الإِمام فيها موجود. والمتابعة ممكنة. فلا يلزم سحنون أن يقول ما ظُن به أنه يلزمه أن يقوله.

والجواب عن السؤال السادس عشر: أن يقال: اختلف في المأموم إذا أحرم مع الإِمام معًا أو سلم معه معًا. فقيل لا تجزيه صلاته وقيل بل تجزيه وقال محمَّد بن عبد الحكم إن لم يسبقه الإِمام بحرف من حروف التكبير لم تجزه صلاته فكأنه يشير إلى أنه إن سبقه بحرف من التكبير صحت الصلاة. فمن قال
__________
(1) يسبقه -و-.
(2) ويستأنفها -و-.
(3) هكذا في جميع النسخ.
(4) عن -و-.
(5) يقال.

(1/509)


لا تصح الصلاة حمل قوله فإذا كبر فكبروا على أن المراد به إذا فعل التكبير وفرغ منه. ومن قال بصحة الصلاة لم يسلم أن المراد ذلك، وأمكن عنده أن يحمل الحديث على أنه يراد به إذا شرع فأشرعوا وإذا أمكن ذلك لم تكن فيه حجة على إبطال الصلاة.

والجواب عن السؤال السابع عشر: أن يقال: إنما تحرز بقوله التي هي منها لأن من فروض الصلاة ما هو خارج عنها (1) كالنية واستقبال القبلة وجميع ما عدده من ذلك فأشعرك بهذا التقييد أنه إنما ميز هذه التسع عن تلك لكون هذه منها وتلك خارجة عنها.

قال القاضي رحمه الله: والقراءة (2) والركوع.
قال الشيخ رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل عشرة أسئلة منها أن يقال:
1 - هل القراءة واجبة في الصلاة أم لا؟.
2 - وإذا وجبت هل هي متعينة أم لا؟.
3 - وإذا تعينت هل تجب مرة واحدة أو تتكرر؟.
4 - وهل المصلون حكمهم في ذلك واحد أو مختلف؟.
5 - وهل على من لا يحسن القراءة تعويضها أم لا؟.
6 - وهل يجب عليه قدر القيام لها أم لا (3)؟.
7 - وما حكمه لو حدث له العلم بها في أثناء الصلاة؟.
8 - وكيف يتلافى إصلاح ما تركت القراءة فيه؟.
9 - وما الحكم في تقديم السورة على أم القرآن؟.
10 - وما حكم من أسرها ثم جهر بها؟.

فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: اختلف الناس في وجوب القراءة على الجملة في الصلاة. ففقهاء الأمصار وجمهور العلماء على إيجابها على
__________
(1) منها -ح-.
(2) والقراءة والقيام والركوع -الغاني -غ-.
(3) أم لا = ساقطة -ح-.

(1/510)


الجملة. وحكي عن قوم من العلماء سقوط وجوبها. وذكر عن الشيخ أبي القاسم ابن شبلون أنه قال: قراءة أم القرآن ليست بفرض. قال لأن الإِمام يحملها عن المأموم. والإمام لا يحمل الفرض. وهذا منه مصير إلى هذا المذهب الشاذ المخالف لمذهب فقهاء الأمصار لأن الإِمام يحمل جميع القراءة على الإطلاق. فمقتضى اعتلاله سقوط فرض جميعها. وهذا الذي اعتل به الشيخ أبو القاسم بن شبلون، به احتج هؤلاء المسقطون للإيجاب. فقالوا: قد أجمع على أن المأموم إذا أدرك مع الإِمام الركوع دون القراءة فإنه يعتد بالركعة.
فلولا أن القراءة غير واجبة لما صح اعتداده بالركعة ولا صح حمل الإِمام عنه.
ذلك. كما لم يصح أن يحمل عنه الركوع والسجود لما كان فرضًا. وسننفصل عن هذا الذي احتجوا به فيما بعد. وإن عولوا على ما روي عن عمر رضي الله عنه من أنه ترك القراءة في الصلاة فقيل له في ذلك. فقال كيف كان الركوع والسجود؟ قالوا حسن. قال فلا بأس إذن (1). قيل لهم يحتمل أن يكون عمر ترك الجهر ولم يترك القراءة أصلًا. وإذا احتمل ذلك لم تكن فيه حجة في أنه ترك القراءة ودليلنا على وجوبها على الجملة قوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} (2) والمراد بهذا القراءة في الصلاة. وفي الصحيح قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب فصاعدًا" (3). وقد كنا قدمنا الكلام على مثل هذا اللفظ وذكرنا اختلاف أهل الأحوال فيه. وأن منهم من ادعى حمله على العموم في نفي الإجزاء والكمال، ومنهم من جعله محتملًا لهما، وإن الأظهر من المحتملين نفي الإجزاء. فعلى هذين المذهبين يكون الحديث حجة على وجوب القراءة.
وإن لم نقل بهذين المذهبين وتوقفنا في المراد بمثل هذا اللفظ اعتمدنا على الآية المذكورة وعضدناها بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما صلى قرأ. وقد قال: صلوا كما رأيتموني
__________
(1) يقول ابن رشد في البداية: هو حديث غريب عندهم أدخله مالك في موطئه في بعض الروايات. الهداية ج 3 ص 36.
(2) سورة المزمل، الآية: 20.
(3) أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما. الهداية ج 3 ص 41.

(1/511)


أصلي (1). فوجب اتباعه فيما أيقنا من أفعال الصلاة، وأقوالها إلا ما دل دليل على نفي وجوبه. وقد قال بعض أصحاب المعاني: إن الله سبحانه حرم الكلام في الصلاة، فلولا أنه أوجب على اللسان عملًا من الأعمال لما حرم اشتغاله بالكلام كما لم يحرم اشتغال العين بالنظر لما لم يوجب عليها الحركة والنظر.
وهذا وإن كان لا يستقل دليلًا فقد يصلح أن يكون ترجيحًا. وقال أيضًا: إن الله سبحانه استخدم الرجل بالقيام والظهر بالركوع والرأس بالسجود فليستخدم اللسان بالقراءة لأنه عضو مقصود في مثل هذه المعاني. وهذا عندنا مثل (2) الأول. بل ربما كان أخفض رتبة في طرق الترجيح.

والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: اختلف الناس في ذلك. فمذهب مالك والشافعي تعين الواجب من القراءة وهو أم القرآن ومذهب أبي حنيفة أنها لا تتعين وإنما تجب قراءة على الجملة. وقدرها بالآية. وقدرها أبو يوسف بثلاث آيات قصار أو آية طويلة. ودليلنا على التعيين ما قدمناه من قوله: لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب فصاعدًا (3) وهذا نص على التعيين كما قلناه. فإن قالوا قد روي إلا بفاتحة الكتاب أو غيرها، قيل: يحتمل أن يكون من شك الراوي فلا تترك رواية البخاري ومسلم لمثل هذه الزيادة التي فيها هذا الاحتمال. فإن قالوا قد روي أيضًا لا صلاة إلا بقراءة ولو بفاتحة الكتاب (4).
قيل معناه ولو بالاقتصار عليها. لأنه قد شرع قراءة زائدة عليها. فأشار إلى أن أقل ما شرع فاتحة الكتاب. فإن قالوا قد قال تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} (5). وأمر الأعرابي الذي علمه أن يقرأ بما تيسر معه من القرآن (6). قيل الآية محمولة على صلاة الليل نافلة. وإن سلمنا عمومها أثبتنا التعيين بالحديث الذي قدمناه على أن قراءة أم القرآن وأكثر منها مما يتيسر (7) فتجب قراءتها
__________
(1) رواه البخاري وهو طرف من حديث مالك ابن الحوريث في كتاب الأذان ورواه أحمد ج 5 ص 53.
(2) كالأول - و - ق -.
(3) تقدم تخريجه قريبًا.
(4) الخطيب البغدادي عن أبي هريرة. حديث رقم 26131. جامع الأحاديث للسيوطي.
(5) سورة المزمل، الآية: 20.
(6) متفق عليه من حديث أبي هريرة. الهداية ج 3 ص 11.
(7) تيسر - و - ق -.

(1/512)


ويسقط ما زاد عليها (1) مما تيسر بدليل. ولا يسلم لهم حملها على أن المراد بها أي شيء يتيسر. بل نقول يمكن حملها على أن المراد بها قراءة كل الذي يتيسر (2). وأما حديث الأعرابي فالكلام عليه كنحو الكلام على الآية إما أن نقول أمر بقراءة كل ما تيسر معه كما قلناه في الآية أو نقول لعله لم يكن يحسن قراءة أم القرآن. وأما استعمال القياس ها هنا وإثبات بعض القرآن بدلًا من بعض فنحن نمنعه لما بيناه في وجوب تعيين التكبير وقد تقدم مبسوطًا.

والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: اتفق المذهب على وجوب قراءة أم القرآن في الصلاة على الجملة. وإن الإخلال بها في جميع الصلاة يمنع الإجزاء إلا رواية شاذة رواها الواقدي. وهذه الرواية الشاذة أما (3) إن حملت على سقوط وجوب القراءة أصلًا فقد قدمنا إفساد هذه المقالة. وإن حملت على أن القراءة تجب ولكن لا يتعين وجوب قراءة أم القرآن أصلًا كما قال أبو حنيفة فقد قدمنا أيضًا الرد على هذه المقالة. واختلف المذهب بعد الاتفاق على وجوب قراءتها كما حكيناه. هل تجب مرة واحدة أو متكررة؟ فقال المغيرة بإيجابها مرة واحدة. وقال الجمهور بتكريرها. واختلف المكررون لها. فروي عن مالك إيجاب تكريرها بتكرر الركعات. وهو مذهب الشافعي. وروي أيضًا عنه العفو عن إيجاب تكريرها في أقل الركعات واختلف في الأقل على هذا المذهب ما هو؟ فقيل هو الأقل على الإطلاق وقيل هو الأقل بالإضافة. ومعنى الأقل على الإطلاق العفو عنها. في ركعة واحدة، وإن كانت الصلاة صبحًا أو جمعة أو ظهرًا لمسافر. ومعنى الأقل بالإضافة أن تكون الركعة من صلاة الرباعية كالظهر أو ثلاثية كالمغرب. وأما إن كانت واحدة كركعة من الصبح أو الجمعة أو ظهرًا لمسافر فلا يعفى عنها. فأما رواية الواقدي فالحجة فيها قوله - صلى الله عليه وسلم -: "كل صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي
__________
(1) عليها = ساقطة - ح - ق.
(2) تيسر -ق - و -.
(3) أما = ساقطة -و-.

(1/513)


خداج ثلاثًا غير تمام (1) ومعنى خداج أي ناقصة. يقال خدجت الناقة إذا ولدت قبل أوان الولادة. ووصف الصلاة بالنقص يشعر بحصول الإجزاء. وقوإنفصل عن هذا بأن النقص قد يعبر به عن نقص بعض الأجزاء. والصلاة إذا ذهب بعض أجزائها التي هي من أركانها لم تصح ولم يقع الاعتداد بها. وقد أشار ابن نافع وعيسى ابن دينار إلى حمل التشبيه ها هنا (2) على المشابهة لولد غير تام. فإن صح ما قالاه ووقع التشبيه بولد ناقص فلا دلالة في الحديث على الإجزاء لدخول النقص في أجزاء الصلاة وأركانها. وأما المغيرة فإنه يعتمد في أجزاء الصلاة إذا قرئت أم القرآن في ركعة واحدة منها على قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب فصاعدًا". فإذا قرأ فاتحة الكتاب مرة واحدة اقتضى ظاهر هذا الحديث عنده صحة الصلاة. لأنه لم يشترط في كونها صلاة تكرير القراءة. وينفصل عن هذا بأن يقال قد تسمى الركعة الواحدة صلاة. وإذا سميت صلاة لم تصح كل ركعة إلا بقراءة الفاتحة على ظاهر الحديث. وأما الموجبون التكرير فإن من اشترط منهم التكرير في كل ركعة، فحجته قوله: كل ركعة لم يقرأ فيها بأم القرآن فلم يصلها إلا وراء إمام. وهذا يقتضي إثبات التكرار في كل ركعة. وأما المكررون الذين عفوا عن الأقل فلا يتحرر لهم متمسك من جملة هذه الظواهر كلها. كما تحرر لهؤلاء الذين ذكرنا قبلهم. ولعلهم يتمسكون بشواهد بعض الأصول المعفو فيها عن القليل. وإذا ثبت لهم العفو عن القليل رأى بعضهم أن الركعة قليلة حيثما كانت. ورأى بعضهم أنها إنما تكون قليلة بالإضافة. فهي في الرباعية والثلاثية قليلة لكونها الثلث أو الربع. والثلث أو الربع قليل. وفي الثنائية ليست بقليلة أنها نصف والنصف ليس بقليل. وقد رأى بعض الأشياخ أن الركعة من الثلاثية ليست بقليلة. وكأنهم قدّروا الثلث كثيرًا. وفي الحديث "الثلث
__________
(1) رواه مسلم عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج ثلاثًا غير تمام". ورواه مالك وغيره. انظر الهداية ج 3 ص 42.
(2) ها هنا - ساقطة -و-.

(1/514)


والثلث كثير" (1). ولكنه رجع عن هذا الرأي إلى موافقة الجماعة. وأما أبو حنيفة فإنه يشترط التكرير. ولكنه يقتصر على التكرير في ركعتين. وحجتنا عليه قوله: كل ركعة لم يقرأ فيها بأم القرآن فلم يصلها إلا وراء إمام (2). وهذا يوجب تساوي حكم الركعات الأربع. وكذلك قوله لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب فصاعدًا. فإن كل ركعة تسمى صلاة على ما قدمنا الإشارة إليه. ولأنه لَمَّا علم الأعرابي الصلاة وأمره بالقراءة قال له افعل ذلك في صلاتك كلها. ولأن الصلاة إنما تتم بتكرار الركعة الأولى. فيجب أن تتكرر بجميع أركانها من قيام وقراءة وركوع وسجود وقد قرأ عليه السلام في الأربع وقال صلوا كما رأيتموني أصلي (3). وهذا يوجب تساوي الركعات الأربع في وجوب القراءة.
واستدل أصحاب أبي حنيفة بقوله عليه السلام القراءة في الأوليين قراءة في الأخريين. قال وقد قال علي وابن مسعود في الأخريين إن شاء قرأ وإن شاء سبح. ولأنه قول يخافت به فكان مسنونًا كالتسبيحات. ولأن مخالفة الأخريين للأوليين في الجهر والاقتصار على سورة واحدة يشعر بالمخالفة في الوجوب. قالوا والتكرار بحسب الركعة الأولى يجب كما قلتموه. ولكن فيما كان أصليًا في الصلاة كالركعة الثانية. وأما الثالثة والرابعة فمزيدتان في الفرض ويسقطان عن المسافر. فلهذا لم يتكرر الأمر فيهما كما تكرر في الثانية.

والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: اختلف الناس في وجوب القراءة هل تجب وجوبًا عامًا أو وجوبًا خاصًا فذهب مالك وأبو حنيفة إلى أنها تجب وجوبًا خاصًا فيختص الوجوب عندهما بالإمام والفذ ويسقط عن المأموم. وقال الشافعي بل (4) تجب وجوبًا عامًا. فيلزم الفذ والإمام والمأموم.
__________
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري ومسلم.
(2) رواه مالك في الموطإ ولفظه: من صلى ركعة لم يقرأ فيها بأم القرآن، فلم يصل إلا وراء الإِمام. شرح الزرقاني ج 1 ص 158. وقال الترمذي حسن صحيح.
(3) تقدم تخريجه ص 401.
(4) بل = ساقطة - ح - ق -.

(1/515)


ودليلنا ما خرجه مسلم من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فإذا قرأ فأنصتوا" (1) فعم قراءته أم القرآن وغيرها. وقوله كل ركعة لم يقرأ فيها بأم القرآن فلم يصلها إلا وراء إمام (2).
وأيضًا فقد اتفق على أن من أدرك مع الإِمام الركوع دون القراءة أنه يعتد بركعته. فلو كانت القراءة واجبة على المأموم لم يعتد بركعته ولا حملها الإِمام عنه.
وأما الشافعي فإنه يحتج بقوله عليه السلام لمن خلفه: (فلا تفعلوا إلا بأم القرآن فإنه لا صلاة إلا بها) (3). وهذا نص في إثباتها في حق المأموم وأيضًا قوله: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب فصاعدًا" (4). فعم المأموم وغيره. وقد اعتذر بعض أصحاب الشافعي في اعتداد المأموم بالركعة التي فاتته قراءتها بأن ذلك رخصة لا يعقل لها معنى محرر. وقد حمل الإِمام القيام وهو فرض ولم يدل حمله إياه على سقوط فرضه. قالوا وإنما اقتصر المأموم على قرأءة أم القرآن ولم يقرأ السورة مع الإِمام لأن قراءة أم القرآن فرض والاستماع للإمام سنة.
والفرض أولى أن يقدم. والسورة التي مع أم القرآن سنة والاستماع سنة فصح أن يقدم سنة على سنة. ولنا نحن أن نتأول أحاديثهم على استحباب قراءتها حتى نضطرهم إلى إثبات دليل آخر على الوجوب. وقد قال مالك في الإِمام إذا كان
__________
(1) لفظه إنما جعل الإِمام ليؤتم به. وإذا قرأ فأنصتوا -رواه الخمسة إلا الترمذي. وقال مسلم: هو صحيح. نيل الأوطار ج 2 ص 236.
(2) تقدم تخريجه.
(3) عن عبادة بن الصامت قال: صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فثقلت عليه القراءة. فلما انصرفنا قال: "إني أراكم تقرأون وراء إمامكم" قال: قلنا يا رسول الله إي يا رسول الله. قال: "لا تفعلوا إلا بأم القرآن فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها". بلوغ الأماني ج 2 ص 194. ورواه أبو داود والترمذي، وقيل الأوطار ج 2 ص 239.
(4) البخاري ومسلم. وروى البيهقي عن أبي هريرة قال: أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أنادي لا صلاة إلا بقرآن بفاتحة الكتاب فما زاد. علق عليه ابن التركماني أن في سنده جعفر بن ميمون. وقد تكلم فيه النقاد. ج 2 ص 37. وروى عبد الرزاق بسنده إلى عبادة بن الصامت قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن فصاعدًا". رواه أحمد ج 5 ص 322.

(1/516)


يسكت قبل القراءة فإن المأموم يقرأ أم القرآن واعتل بعض المتأخرين لهذه الرواية بأنه إنما رأى ذلك لأجل أن اشتغاله بالقراءة يقطعه عن الوسواس ويحميه من الفكرة التي تعتور الصامت. ولهم أيضًا أن يتأولوا أحاديثنا. ولكن النظر في ترجيح التأويلات بعضها على بعض يفتقر إلى خوض في فنون من أصول الفقه ليس هذا موضعه (1) فإذا ثبت سقوط وجوبها عن المأموم فلا يقرأ في صلاة الجهر. وفي قراءته في صلاة السر قولان: استحبابها وهو المشهور، وسقوطها وبه قال أبو حنيفة. فأما سقوطها في الجهر فلقوله عليه السلام في صلاة جهر فيها لما انصرف منها (ما لي أنازع القرآن) (2). قال أبو هريرة فانتهى الناس عن القراءة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في ماجهر فيه. وأما ثبوتها في صلاة السر فلأجل أن ظاهر قول أبي هريرة هذا يقتضي بقاؤهم عليها في صلاة السر. وأما سقوطها فلأنه - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة سر فلما انصرف قال: "أيكم قرأ سبح اسم ربك الأعلى".
فقال بعض القوم أنا ولم أرد إلا الخير. فقال قد عرفت أن بعضكم
خالجنيها (3). وانفصل عن هذا بأن الظاهر (4) أنه جهر حتى سمعه النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وهذا ممنوع. وقد كان ابن عمر لا يقرأ خلف الإِمام. وعن علي رضي الله عنه أنه قال: من قرأ خلف الإِمام مليء فوه ترابًا (5).

والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: قال بعض أهل العلم يجب على المصلي الذي لا يحسن القرآن أن يقف قدر قراءة أم القرآن ويذكر اسم الله سبحانه: وقال أشهب لو قرأ شيئًا من التوراة أو الإنجيل أو الزبور لم تصح صلاته لأنه لا يعلم أن ذلك من الكتاب المنسوب إليه. وإنما عليه أن يذكر الله
__________
(1) موضعها -و-.
(2) رواه مالك في الموطإ. الزرقاني ج 1 ص 161. ورواه أبو داود والنسائي والترمذي.
نيل الأوطار ج 2 ص 238. الترمذي ج 2 ص 108.
(3) رواه البخاري ومسلم. إكمال الإكمال ج 2 ص 155.
(4) بأن الظاهر من المذهب -و-.
(5) روى عبد الرزاق بسنده إلى محمَّد بن عجلان قال قال علي من قرأ مع الإِمام فليس على الفطرة. قال وقال ابن مسعود ملىء فوه ترابًا. وقال عمر بن الخطاب وددت أن الذي يقرأ خلف الإِمام في فيه حجر المصنف. ج 2 ص 138 ح 2806.

(1/517)


سبحانه. ولو قرأ شعرًا فيه ذكر وتمجيد لم تصح صلاته. وقال ابن سحنون أن يذكر الله. وظاهر كلام أشهب وابن سحنون أن تعويض الذكر يجب في محل القراءة. وقال القاضي أبو محمَّد لا يجب. ويستحب أن يقف وقوفُ اما. فإن لم يفعل أجزاه وفي المبسوط أنه ينبغي له أن يقف قدر قراءة أم القرآن وسورة ويذكر الله. قال كالمصلي على الجنازة يقوم بين كل تكبيرتين قدر أم القرآن وسورة يدعو في ذلك. وقد كنا قدمنا أن الأبهري لم يوجب على من لم يحسن النطق بتكبيرة الإحرام تعويضًا منها لما كانت متعينة. فمقتضى قوله عندي: إنه لا يجب أيضًا على من لا يحسن قراءة أم القرآن تعويض خلافًا لمن أوجبه ممن حكينا قوله. ولعل من أوجبه تعلق بما ذكر في بعض الطرق، في حديث الأعرابي الذي علمه من قوله إن كان معك قرآن فاقرأ وإلا فأحمد الله وكبره وهلله (1). وهذه الزيادة لم تأت من طريق ثابتة. فلهذا لم يتفق على الوجوب.

والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: قد ذكرنا في هذا السؤال الذي فرغنا منه أمر طائفة من أهل العلم لمن لا يحسن القرآن بالقيام. وإن في المبسوط استحبابه. وإليه ذهب القاضي أبو محمَّد. ولكن الذي وقع في المبسوط حد فيه قدر المستحب. والمستحب (2) بمقدار القراءة. والقاضي أبو محمَّد لم يعتبر مقدار القراءة وإنما استحب أن يفصل بين الإحرام والركوع بوقوف ما، يكون فاصلًا بين هذين الركنين. والذي يظهر في هذا أن القيام إن لم يكن مقصودًا في نفسه ولا ورد الشرع به *لأجله وإنما ورد به* (3) لأجل القراءة وليكون محلًا لها. فإذا سقطت القراءة للعجز عنها ولم يجب عوض منها فلا فائدة للأمر به. كما لا تؤمر الحائض بالطهارة لما كانت الصلاة ساقطة عنها، والطهارة إنما تراد لأجل الصلاة. وإن قلنا إن القيام عبادة مقصودة في نفسها لا تراد للقراءة ولا شرعت لأجلها، بدليل أنها تجب على المأموم وإن كانت القراءة ساقطة عنه. ولا يتخيل أنها إنما وجبت على المأموم لأجل وجوب المتابعة
__________
(1) رواه أبو داود والنسائي والترمذي. نيل الأوطار ج 2 ص 231.
(2) والمستحب = ساقطة -ح-.
(3) ما بين النجمين = ساقط -و-.

(1/518)


والاقتداء بالإمام. لأن الإِمام إذا صلى جالسًا لعذر وأبحنا الصلاة وراءه فإن القيام يجب على المأمومين (1)، وإن كانت المتابعة إنما تكون بالجلوس. وهذا يشعر بأنه وجب لا لأجل المتابعة، ولا لأجل القراءة. وإذا وجب لنفسه لا لغيره لم يسقط عن القادر عليه لأجل عجزه عن غيره. ولعل أصحابنا إنما استحبوا القيام ولم يوجبوه لأجل الإشك الذي القصد بوجوبه عندهم.

والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: إذا قلنا بالمشهور من أن القراءة واجبة فعلى الإنسان تعلمها ليتوصل بذلك إلى إقامة الصلاة الواجبة عليه. فإن لم يسعه وقت الصلاة للتعليم صلى وراء من يقرأ ليحمل هذا الفرض عنه. فإن ترك الائتمام به وصلى فذا اختيارًا فقال بعض أصحاب مالك صلاته باطلة.
وكان هذا رأى أن تعمده لترك حمل القراءة عنه كتعمده لتركها مع القدرة عليها وهو وحده. وقال بعض أصحاب مالك فيمن كان أميًا فصلى بمن يقرأ: أن صلاة الإِمام تصح والمأموم تبطل. وقال بعض أشياخي هذا قول آخر بصحة الصلاة لأن الإِمام وجد من يقرأ وهو المأموم. وقال بعض *الأشياخ إن لم يعلم يكون المأموم قارئًا صحت صلاته. وإن علم لم تصح. وقال غيره من الأشياخ اختلف* (2) أصحابنا في صحة صلاة الأمي إذا أم قارئًا ووجه القول بالصحة أن صلاة الجماعة ليست بفرض ولم يقم دليل على وجوب طلب الأمي إمامًا. وَوُجّه القول الآخر بنحو ما ذكرنا (3) فيه. فإذا ثبت وجوب التعلم فشرع في الصلاة قبل إمكان التعلم ولم يجد من يتحمل عنه القراءة فطرأ عليه العلم بها في أثناء الصلاة. وهذا يتصور بأن يكون سمع من قرأها فعلقت بحفظه من مجرد السماع *فهذا لا أعرف فيه في المذهب نصًا* (4). ومذهب الشافعي صحة ما مضى من صلاته بغير قراءة. ومذهب أبي حنيفة إبطال ما مضى من صلاته ووجوب استئناف الصلاة. ووقفت في كتاب ابن سحنون على
__________
(1) المأموم -ح-.
(2) ما بين النجمين = ساقط -ح-.
(3) ما ذكرناه -ح-.
(4) ما بين النجمين = ساقط -ح-.

(1/519)


حكايته عن أبيه وغيره من أصحابنا أنه لا يستأنف الصلاة. وذكر مذهب المخالف ورد عليه: بأنه إذا ما مضى على حسب (1) ما أمر به فلا وجه لإبطاله. واحتج أيضًا بأن الإجماع على أن الجالس إذا صح يعتد بما مضى من أجزاء الصلاة يقتضي أن يعتد الأمي بما مضى. وليس الأمر كما (2) حكاه من الإجماع. فإن محمَّد بن الحسن التزم أن الجالس لا يعتد بما مضى. وإنما يكون ما ذكره ابن سحنون مناقضة لأبي حنيفة. فإنه يرى أن الجالس يعتد بما مضى. فإن كان أراد الإجماع منا ومنه (3) فصحيح ما قال. وقد قال بعض الأشياخ لو طرأ على الأمي قارئ لم يلزمه أن يقطع ليأتم به.

والجواب عن السؤال الثامن: أن يقال: من ترك قراءة أم القرآن في ركعة واحدة هي أقل صلاته. فإن قلنا إنها لا تجب في الركعة التي تركت فيها القراءة فحكمه أن يسجد لسهوه وتصح صلاته. فأما صحة صلاته، فلأنه لم يخل بفرض. وأما سجوده لسهوه فلتركه قراءة أقل مراتبها أن تكون سنة. ويختلف إن فعل ذلك متعمدًا هل تبطل صلاته أو تصح تخريجًا من الاختلاف في ترك السنن تعمدًا؟ وإن قلنا إنها تجب في الركعة التي ترك القراءة فيها وجوبًا محققًا لا إشك الذي، فحكمه أن يلغي تلك الركعة ويعتد بما سواها. ويكون ما سواها هو الذي حصل له من الصلاة. فإن ذكر تركه القراءة وقد أكمل ركعته الأولى وهو قائم في الثانية جعل الثانية أولى (4) صلاته. حتى كأنه لم يصل غيرها. وسجد بعد سلامه لزيادة ما ألغيناه من الأفع الذي أول صلاته. وكذلك إن ذكر وهو قائم في ثالثته جعلها ثانيته وقرأ مع أم القرآن سورة أخرى وسجد بعد السلام.
وإن لم يذكر إلا وهو في رابعته سجد قبل السلام بعد قضاء الركعة التي ترك قراءتها. وإنما سجد قبل السلام ها هنا لأنه أحل بالجلوس فيما قدره ثالثة وهي
__________
(1) سبب -ح-.
(2) على ما حكاه -و-.
(3) منا ومنهم - و - ق -.
(4) أول -ح-.

(1/520)


ثانية، وبقراءة (1) السورة المسنونة في ذلك. وزاد ما ألغيناه من الأعمال.
والنقص والزيادة إذا اجتمعا سجد لهما قبل السلام. وإن قلنا بالتشكك بين المذهبين الأولين هل القراءة فرض في تلك (2) الركعة على أحد قولي مالك أو سنة على قوله الآخر؛ فإن الحكم: *في هذا الذي ترك قراءة أم القرآن من ركعة* (3) إذا لم يذكر إلا عند آخر صلاته. أن يسجد لسهوه ويعتد (4). وقد صار مالك إلى هذا مرة أخرى وكأنه ترجح (5) بين المذهبين الأولين. وإن ذكر في أثناء صلاته فهل يتمادى لجواز أن تكون صلاته صحيحة فلا يسوغ له قطعها أو يقطع لئلا يوجب عليه صلاتين؟ وعندي إن هذا يتخرج على القولين اللذين قدمناهما فيمن شك في تكبيرة الإحرام أو في الوضوء على ما قدمناه في ناسي تكبيرة الإحرام المكبر للركوع. وقد (6) قال ابن القاسم في كتاب ابن المواز إن ذكر ترك القراءة قبل إكمال الركعة الأولى رجع فاستأنف القراءة.
وإن لم يذكر حتى أكمل الركعة الأولى صيرها نافلة بأن يكمل عليها ركعة أخرى ويسلم منها. وإن ذكر بعد أن ركع الثالثة أكمل صلاته وأعاد. وقال بعض المتأخرين قول ابن القاسم ها هنا بالقطع بناءً منه على هذه الطريقة التي ترجح (7) مالك فيها. وقد ذكر مالك في المجموعة أنه إن ذكر وهو راكع رجع فاستأنف القراءة. وإن كان بعد أن رفع رأسه تمادى وأعاد احتياطًا. وهذا الفرقال في في المجموعة هو القول الذي أشرف إليه أنه يتخرج من الأصل الذي ذكرته. وإنما لم يأمره بالتمادي وقد حصل راكعًا لأنه رأى أن عقد الركعة رفع الرأس لا تمام الانحناء.
وإن ترك القراءة من ركعتين فقيل يلغيهما ويعتد بما سواهما. وقيل
__________
(1) ولقراءة -ق-.
(2) في كل -و-.
(3) ما بين النجمين = ساقط -ح-.
(4) ويعيد - ق - و -.
(5) رجح. هكذا في جميع النسخ -ترجح - رجح- ولعل الصواب تردد.
(6) قد = ساقطة -و-.
(7) هكذا في جميع النسخ. ولعله تردد.

(1/521)


يتمادى على صلاته ويسجد ثم يعيد. وهذا يحتمل عندي أن يكون بناه على التشكك في وجوبها مرة واحدة أو متكررة. فلهذا أتم وأعاد. ويحتمل أن يكون لكثرة السهو فيها، جانبَ طريقة من قال بالإلغاء وأمر بالتمادي والإعادة.

والجواب عن السؤال التاسع: أن يقال: اختلف فيمن قدم على أم القرآن السورة التي تقرأ معها. هل يعيد قراءة السورة بعد أم القرآن أم لا؟ وهل يسجد لهذا السهو أم لا؟ وسبب الاختلاف النظر في هذا الترتيب هل هو متأكد حتى يؤمر بتلافيه ويخاطب بسجود السهو فيه أو غير متأكد فلا يؤمر بذلك؟ وسنتكلم على أحكام السهو في موضعه إن شاء الله تعالى.
والجواب عن السؤال العاشر: أن يقال: اختلف فيمن أسر قراءة أم القرآن في صلاة الجهر، ثم ذكر فعاد فجهر بها هل يسجد للسهو أم لا؟ فقيل لا سجود عليه لتلافيه ما أحل به. وقيل يسجد بعد السلام. واختاره بعض الأشياخ لأن من أحل ببعض أركان الفرض يقضيه. ومع هذا لا يسقط سجود السهو *عنه. فمن أمره بسجود المسهو رأى أنه خوطب به بالفراغ منها فلا يسقط ما خوطب به من ذلك العود (1) إلى قراءتها. ومن لم يأمره بذلك رأى أنه قادر على تلافي ما قصر فيه ولم يمنعه من ذلك مانع. فإذا تلافاه لم يلزم بالسجود. وعندي أن من أمره بالسجود لا يأمره بالعود إلى إعادة القراءة.
ومن لم يأمره بذلك أمره بالعود إليها. وسنتكلم عليه في موضعه إن شاء الله تعالى* (2).

قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: والركوع والرفع منه والسجود (3) والفصل بين السجدتين.
قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل اثنا عشر سؤالًا. منها أن يقال:
__________
(1) هكذا في -و- وفي غيرها الكلام ساقط كله.
(2) ما بين النجمين = ساقط من - ح - ق -.
(3) والركوع والسجود والرضع = الغاني.

(1/522)


1 - ما الركوع وما السجود؟.
2 - وما الدليل على وجوبهما؟.
3 - وهل يجب فيهما الطمأنينة؟.
4 - وإن وجبت ما مقدار الواجب منها؟.
5 - وهل يجب رفع الرأس من الركوع (1)؟.
6 - وما حكم الاعتدال عند الرفع من الركوع؟.
7 - وهل يجب الفصل بين السجدتين؟.
8 - وإن وجب ما القدر (2) الواجب منه؟.
9 - وهل يجزئ الاقتصار على بعض الوجه؟.
10 - وهل يجب السجود على اليدين والركبتين والقدمين؟.
11 - وهل تكشف اليدان في سجودهما أو تستران؟.
12 - وهل يشترط مباشرة الوجه للأرض أم لا؟ وما يسجد عليه؟.

والجواب عن السؤال الأول: أن يقال: أما الركوع فانحناء الظهر وانعطافه متطاطئًا. قال الشاعر:
أليس ورائي إن تراخت منيتي ... لزوم عصا تحنى عليها الأصابع
أخبر أخبار القرون التي مضت ... أدب كأني كلما قمت راكع
وأما السجود فهو التطامن والميل إلى الأرض والانخفاض. تقول العرب سجدت الدابة وأسجدت إذا خفضت رأسها لتركب. وسجدت النخلة إذا مالت.
قال زيد الخيل:
بجيش تظل البلق في حجراته ... ترى الأكم فيه سجدًا للحوافر

والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: الدليل على وجوب الركوع والسجود قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} (3). ولأن
__________
(1) هذا السؤال ساقط من جميع النسخ - وأثبتناه بناء على ما جاء في الشرح.
(2) المقدار -و-.
(3) سورة الحج، الآية: 77.

(1/523)


النبي - صلى الله عليه وسلم - لما صلى ركع وسجد وقد قال: صلوا كما رأيتموني أصلي (1).
وأجمعت الأمة على وجوبهما.

والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: اختلف الناس في إيجاب الطمأنينة في الكروع والسجود. فأثبت الشافعي وجوبها ونفاه أبو حنيفة.
والمذهب على قولين عندنا. أحدهما إيجابها، والثاني إثباتها فضيلة. فأما نفاة الإيجاب (2) فيعتمدون على قوله تعالى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} (3). فيقصر الواجب (4) على ما يسمى ركوعًا وسجودًا. والركوع والسجود العاريان من الطمأنينة يسميان ركوعًا وسجودًا. وأما الموجبون فيعتمدون على قوله - صلى الله عليه وسلم - للأعرابي الذي علمه الصلاة: ثم اركع حتى تطمئن راكعًا ثم ارفع حتى تطمئن قائمًا ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا ثم اجلس حتى تطمئن جالسًا (5). فمن قال إن الأمر على الوجوب استدل بمجرد هذه الأوامر. ومن وقف فيه أو حمل الأمر فيه (6) على الندب استدل على الوجوب بسياق الحديث. فإنه لما صلى قال له - صلى الله عليه وسلم -: "ارجع فصل فإنك لم تصل". وتكرر منه هذا إلى أن قال: علمني فعلمه ما ذكرناه. فلو خلط له (7) الوجوب بالندب لم يستبن المعنى الذي يكون بتركه غير فصل. وهذا على أن معنى قوله لم تصل: أي صلاة جازية. وقد ذم - صلى الله عليه وسلم - صلاة المنافقين وقال في الحديث: قام أحدهم فنقر أربعًا لا يذكر الله فيها إلا قليلًا (8). وظاهر هذا ذم الاقتصار على النقر. ومن لم يطمئن فإنه في حكم من
__________
(1) أخرجه البخاري ومسلم. وهو طرف من حديث مالك ابن الحويرث في كتاب الآذان.
ورواه أحمد ج 5 ص 53.
(2) الوجوب -و-.
(3) سورة الحج، الآية: 77.
(4) الوجوب - و - ق -.
(5) متفق عليه من حديث أبي هريرة. انظر الهداية ج 3 ص 11.
(6) أو حمله على الندب -ح-.
(7) له = ساقطة -و-.
(8) أخرجه مسلم من حديث أنس بن مالك. وفي ختامه (تلك صلاة المنافق يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقرها أربعًا لا يذكر الله فيها إلا قليلًا) =

(1/524)


نقر. فأما نفاة الإيجاب من أصحاب أبي حنيفة فإنهم ينفصلون عن هذا بأن القرآن اقتضى الاقتصار على ما يسمى ركوعًا وسجودًا. فإذا جاء خبر واحد بزيادة عليه كان نسخًا. والنسخ لا يكون بخبر الواحد. وأما نفاة الإيجاب من أصحاب مالك فقد يقولون يمكن أن يكون الأعرابي قد أحل بالطمأنينة فأمره (1) النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإعادة على جهة التغليظ حتى لا يتعود ترك أمر مشروع وليأتي بصلاة كاملة. وعلمه صفة الصلاة الكاملة. ويعتضدون في هذا التأويل بأن يقولوا لو كان ما أحل به مفسدًا للصلاة لأمره بالقطع ولم يتركه يتمادى على صلاة فاسدة وهو يراه وكرر فعلها بحضرته. فلما أقره على التمادي أشعر ذلك بأنه لم يفسد صلاته بما تركه.
والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: الواجب من الطمأنينة أدنى لبث، كما ذكره القاضي أبو محمَّد ها هنا. فإن زاد على أدنى لبث. فذكر ابن شعبان أن من الناس من يقول بوجوبه وكأنه يرى (2) الطمأنينة وجبت وجوبا موسعا. ومنهم من يقول إن الزائد نافلة. وكان هؤلاء وصفوه بهذا لما جاز تركه إلى غير بدل.
وسنبسط الكلام على هذا في قصر المسافر إن شاء الله تعالى.

والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: اختلف الناس في رفع الرأس من الركوع. فذهب الشافعي إلى إيجابه. وذهب أبو حنيفة إلى سقوط وجوبه.
وصحح صلاة من خر راكعًا إلى سجدته. والمذهب عندنا على قولين: أحدهما أنه فرض. والثاني أنه سنة. فروى ابن القاسم عن مالك أنه يتمادى ويعيد.
فكأنه رأى (3) التمادي مراعاة للخلاف. وروى عنه ابن زياد أنه لا يعيد فكأنه رآه لم (4) يخل بفرض. فلهذا تصح صلاته. فحجة الوجوب قوله: في حديث
__________
= حديث رقم 195 من كتاب المساجد ومواضع الصلاة. كما رواه أبو داود والترمذي والنسائي وأحمد.
(1) وأمره في -ح-.
(2) رأى -ح-.
(3) رأى أن -و-.
(4) رأى أنه لم يخل - و - ق -.

(1/525)


الأعرابي ثم ارفع حتى تطمئن قائمًا. فأمره بالرفع من الركوع وعلمه إياه.
والظاهر إيجاب كل (1) ما علمه لما بيناه. ولأنه عليه السلام ركع ورفع. وظاهر فعله يقتضي الوجوب ها هنا. وأما نفاة الإيجاب فلا أعلم لهم ظاهرًا يتمسكون به. ولعلمهم لما سمعوا الله سبحانه وتعالى يقول: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} (2).
وكأن الركوع في اللغة هو الانحناء على ما بيناه لم يثبتوا في الركوع زيادة على ما ورد به ظاهر الآية.
والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: قد قدمنا اختلاف المذهب في إيجاب الرفع من الركوع فإن لم نقل بإيجابه وهو مذهب أبي حنيفة لم نوجب الاعتدال الذي هو فرع عنه. وإن قلنا بإيجابه وهو مذهب الشافعي، فهل يجب الاعتدال أم لا؟ ذكر القاضي أبو محمَّد في كتابه هذا: أن الاعتد الذي القيام للفصل مختلف فيه. قال والأولى أن يجب منه ما كان إلى القيام أقرب.
وقد ذكر ابن القصار عن بعض أصحابنا إيجاب ما كان إلى القيام أقرب على حسب ما اختاره القاضي أبو محمَّد. ولابن القاسم فيمن رفع من الركوع والسجود ولم يعتدل، أن صلاته تجزيه ويستغفر الله ولا يعود. ولأشهب أن صلاته غير صحيحة. فمن أوجب الاعتدال يعتمد على قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تصح صلاة لا يقيم فيها صلبه من الركوع والسجود" (3). وأما من نفى الإيجاب فعندي أنه رأى أن القصد بالرفع من الركوع الفصل بينه وبين السجود. والفصل في ذلك يحصل بالرفع وإن لم يعتدل. فإذا حصل الغرض المقصود لم يكن معنى لزيادة أمر آخر عليه في الوجوب. وكأن القاضي أبا محمَّد رأى أن ما قارب الشيء فحكمه حكمه. فإذا رفع رفعا هو إلى القيام أقرب، حكم له بحكم القيام لمقاربته (4) إياه وإن كان إلى الركوع أقرب كان كحكم الراكع الذي لم يرفع،
__________
(1) كل = ساقطة - و - ق -.
(2) سورة الحج، الآية: 77.
(3) لفظه: لا تجزي صلاة لا يقيم الرجل فيها ظهره من الركوع والسجود. وراه أبو داود والنسائي والدارقطني والترمذي. وقال حسن صحيح. ورواه البيهقي وصححه. نصب الراية ج 1 ص 180.
(4) مقارنته - ح - و -.

(1/526)


ولم يوجد منه فصل بين الركوع والسجود.
والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: أما الفصل بين السجدتين فواجب باتفاق. فإن قيل لم اتفق على وجوبه واختلف في وجوب الفصل بين الركوع والسجود؟ قيل لاختلاف شكل الركوع وشكل السجود. لأن الركوع انحناء الظهر والسجود إلصاق الوجه بالأرض. فالفصل بينهما حاصل إذا ركع وإن لم يرفع رأسه. والسجدة الواحدة وإن طالت لا تتصور سجدتين فلا بد من الفصل بين السجدتين حتى تكونا اثنتين لا واحدة. هذا وجه الاتفاق على وجوب الفصل بين السجدتين والاختلاف في إيجاب الفصل بين الركوع والسجود.

والجواب عن السؤال الثامن: أن يقال: أما أبو حنيفة فإنه يوجب الفصل بين السجدتين بأن يرفع وجهه من الأرض ولو بمقدار حد السيف. وأما القاضي أبو محمَّد فإنه أشار في كتابه هذا إلى اختيار إيجاب ما كان إلى الجلوس أقرب.
وأجرى حكم الفصل بين السجدتين مجرى حكم الفصل بين الركوع والسجود.
وقد قدمنا قبل هذا اختلاف ابن القاسم وأشهب فيمن رفع رأسه من الركوع ولم يعتدل، هل تصح صلاته أم لا؟ من غير تحديد منهما في مقدار الرفع. وذكرنا توجيه ذلك وما قدمناه من الكلام على ذلك فنحو منه. وإذا أوجبنا الاعتد الذي هذه الفواصل، فيختلف في الطمأنينة على حسب ما تقدم.

والجواب عن السؤال التاسع: أن يقال: اختلف الناس في مقدار الواجب من الوجه فقال بعض أصحابنا: من اقتصر على الأنف أو الجبهة صلاته باطلة.
وظاهر هذا إيجاب السجود عليهما. وحكى أبو الفرج أنه لا تجب إعادة الصلاة أبدًا في الاقتصار على أحدهما. وظاهر هذا تعلق الوجوب بأحدهما على البدل.
وقال أبو حنيفة إن الوجوب متعلق بأحدهما قال ابن المنذر: "لا أعلم أحدًا قال هذا القول قبله ولا بعده. والمشهور من مذهبنا وهو مذهب الشافعي تعلق الوجوب بالجبهة. وقد خالف أبو حنيفة صاحباه (1). وقالا بمثل قولنا هذا. فأما أبو حنيفة فتعلق بقوله تعالى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا}. والمقتصر على الجبهة أو
__________
(1) هكذا في جميع النسخ. والصواب: وقد خالف أبا حنيفة صاحباه.

(1/527)


الأنف (1) يسمى ساجدا. وهو ممن لا يقبل في الزيادة على الكتاب خبر الواحد.
لأنه يراه نسخًا. وأما الموجبون للجميع (2) فيحتجون بقوله عليه السلام: لا صلاة لمن لم يصب أنفه من الأرض ما يصيب الجبين (3). وفي الحديث: أمرت أن أسجد على سبعة أعظم. فذكر الجبهة وأشار إلى الأنف (4) وهذا يشير إلى اشتراكهما في هذا الحكم. وأما من اقتصر في الوجوب على الجهبة فلقوله عليه الصلاة والسلام: ومكن جبهتك من الأرض (5). وهذا يشعر بقصر الوجوب عليها في السجود.
والجواب عن السؤال العاشر: أن يقال: أما اليدان فقد قال سحنون اختلف أصحابنا في الساجد إذا لم يرفع يديه عند رفعه للسجدة الثانية. فمنهم من قال: لا تصح صلاته لما جاء أن اليدين يسجدان كما يسجد الوجه (6).
ومنهم من خفف ذلك. وقد اختلف قول الشافعي في إيجاب السجود على اليدين والركبتين والرجلين. وقال ابن القصار الذي يقوى في نفسي: أن السجود على الركبتين وأطراف القدمين سنة في المذهب وهو مذهب أبي حنيفة. واحد قولي الشافعي.
فكأن الموجبين يحملون قوله - صلى الله عليه وسلم -: أمرت أن أسجد على سبعة أعظم، وذكر اليدين والركبتين والرجلين والجبهة، على أن المراد به أوجب ذلك علي.
وهذا يقوى على طريقة من قال: المندوب إليه ليس بمأمور به. وكأن الآخرين
__________
(1) أو الأنف = ساقطة -و-.
(2) للجمع -و-.
(3) رواه الدارقطني عن ابن عباس. واختلف في إرساله وإسناده. والإسناد من أبي قتيبة
وهو ثقة. وزيادة من الثقة مقبولة. نصب الراية ج 1 ص 382.
(4) رواه مسلم عن ابن عباس بلفظ: أمرت أن أسجد على سبعة أعظم الجبهة. إكمال الإكمال ج 2 ص 212.
(5) هو من حديث تعليم النبي - صلى الله عليه وسلم - للرجل الذي لم يحسن الصلاة. البيهقي ج 2 ص 102.
(6) رواه مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول: من وضع جبهته بالأرض فليضع كفيه على الذي يضع عليه جبهته. ثم إذا رفع فليرفعهما فإن اليدين يسجدان كما يسجد الوجه. الزرقاني عن الموطإ ج 1 ص 294 البيهقي ج 2 ص 107.

(1/528)


يرونه محتملًا للوجوب والندب. لأن المندوب إليه مأمور به عند بعض أهل الأصول، وإذا احتمل لم تكن فيه حجة على الوجوب. وإنما يثبتون وجوب السجود على الجبهة بدليل آخر.
والجواب عن السؤال الحادي عشر: أن يقال: لا يجب كشف اليدين عندنا في السجود خلافًا للشافعي في أحد قوليه بإيجاب ذلك. ولنا عليه القياس على الركبتين والرجلين. فإنه لا يجب كشفهما. وقد ذكروا في الحديث لما ذكرت اليدان. ونحن وإن لم نوجب ذلك فإنا نستحسنه (1) ليخرج بكشفهما من الخلاف.
والجواب عن السؤال الثاني عشر: أن يقال: اختلف الناس في السجود على كور العمامة فمنعه الشافعي. وأجازه أبو حنيفة ومالك. واشترط ابن حبيب أن يكون الكور قليل الطاقات. وهذا فيما شد على الجبهة لا فيما برز عنها.
حتى منع من لصوقها بالأرض. فللجواز ما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - سجد على كور العمامة (2). وقياسًا على الركبتين والقدمين، فإن الستر فيهما جائز. وللمنع ما روي أنه نهى عن السجود على كور العمامة (3). وتأول بعض أصحابنا هذا على الكراهة. أو على أنه كور منع من لصوق الأنف بالأرض. وتأول الآخرون حديث الجواز على أنه فعل ذلك لعلة وعذر.
قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: والجلوس والتسليم.
قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل سبعة أسئلة. منها أن يقال:
__________
(1) نستحبه - و - ق -.
(2) روي بألفاظ متقاربة. رواه عبد الرزاق وأبو نعيم والطبراني وابن عدي. نصب الراية ج 1 ص 385. وقال البيهقي: وأصح شيء من ذلك ما روي عن الحسن البصري. البيهقي ج 2 ص 106.
(3) روى البيهقي عن عياض بن عبد الله القرشي قال رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلًا سجد على كور عمامته فأومأ بيده ارفع عمامتك وأومأ إلى جبهته. وهذا المرسل شاهد لحديث صالح بن حيوان السبائي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلًا سجد بجنبه وقد اعتم على جبهته فحسر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن جبهنه. ثم روى آثارًا في المعنى. ج 2 ص 105.

(1/529)


1 - ما الدليل على وجوب الجلوس؟
2 - وما مقدار الواجب منه؟
3 - وما الدليل على وجوب التسليم؟
4 - وهل يتعين أم لا؟
5 - وإن تعين فما صفة (1) لفظه؟
6 - وهل يتكرر التسليم أم لا؟
7 - وما صفة الهيئة (2) التي يفعل عليها؟

الجواب عن السؤال الأول: أن يقال: أما وجوب الجلوس فلأنه - صلى الله عليه وسلم -جل س في آخر صلاته وقال: صلو كما رأيتموني أصلي (3) .. وهذا يقتضي وجوبه. ولأن السلام واجب ولا بد له من محل ولا محل له إلا الجلوس. وما لا يتوصل إلى الواجب إلا به فهو واجب.

والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: أما مقدار الواجب منه، فقدر ما يوقع فيه السلام. وهكذا قال القاضي أبو محمَّد في كتابه هذا: أن الواجب منه قدر ما يعتدل فيه ويسلم. وإنما قلنا بوجوب هذا المقدار لما قدمناه من أن السلام واجب. ولا بد له من محل. ولا محل له إلا الجلوس. وهذا يقتضي وجوب هذا المقدار. وأما إيجاب ما زاد عليه فسنتكلم على سقوطه عند كلامنا على التشهد الثاني إن شاء الله تعالى.

والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: الدليل على وجوب التسليم أنه - صلى الله عليه وسلم - لما صلى، سلم من الصلاة (4). وفعله ها هنا يقتضي الوجوب لما قدمناه. ولأن الصلاة تفتقر إلى تحليل يخرج به منها. كما افتقرت إلى تحريم يدخل به فيها. ولما كان التحريم واجبا كان التحليل واجبا.
__________
(1) ما صفة -ح-.
(2) وما الهيئة -ح-.
(3) تقدم تخريجه.
(4) عن عبد الله بن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسلم عن يمينه وعن يساره. ج 2 ص 88. عن عائشة أنه كان يسلم تسليمة واحدة تلقاء وجهه يميل إلى الشق الأيمن. ج 2 ص 89.

(1/530)


والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: مذهب مالك والشافعي أن التحليل من الصلاة يتعين بالتسليم. وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا يتعين وأنه يتحلل من الصلاة بكل معنى يضادها كالحدث وما في معناه. وذكر عن ابن القاسم أن من أحدث في آخر صلاته في التشهد أن صلاته صحيحة. قال أبو الوليد الباجي وهذا يقرب من قول أبي حنيفة. وهذا الذي ذكر أبو الوليد أنه يقرب من قول أبي حنيفة إنما يصح تأويله فيه على أن ابن القاسم ذكر ذلك فيمن أحدث متعمدًا قاصدا بذلك الخروج (1) من الصلاة لأن أبا حنيفة إنما يقول ذلك فيما قصد به الخروج من الصلاة. وأما (2) وقوع ما يضادها من غير قصد إليه فإنه لا يكون عنده تحليلًا.
وسبب الاختلاف في ذلك يقرب مما قدمناه من القول في تعين تكبيرة الإحرام. وإن من لزم الاتباع عَيَّنَ التحليل والتحريم ومن استعمل القياس لم يعين فيهما. وهكذا الاختلاف أيضًا في السلام. هل هو من نفس الصلاة أم لا؟ يقال فيه ما قلناه في تكبيرة الإحرام.
وقد استدل أصحابنا على التعيين بقوله وتحليلها التسليم (3) وهذا يقتضي قصر التحليل على التسليم لأنه حصر التحليل في التسليم. واستدل المخالف على نفي التعيين بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا رفع الإِمام رأسه من السجدة الأخيرة وقعد، ثم أحدث قبل أن يسلم فقد تمت صلاته (4). وهذا الحديث لم يسلم له ثبوته فلا يلزم تأويله واستدلوا أيضًا بما وقع في الحديث في الشاك كم صلى؟ واتفق إن وقعت زيادته على أكثر أن الركعة والسجدتين نافلة قالوا فلو كان لا بد من
__________
(1) للخروج -ح-.
(2) وإنما -ح-.
(3) روي مسندا عن علي وأبي سعيد الخدري وعبد الله بن زيد وابن عباس أخرجه أبو داود وابن ماجة والترمذي. وقال المسند إلى علي أصح شيء في هذا الباب وأحسنه. نصب الراية ج 1ص 307.
(4) لفظه إذا قضى الإِمام الصلاة فقعد فأحدث قبل أن يتكلم قد تمت صلاته ومن كان خلفه.
رواه الترمذي وإسناده ليس بالقوي. نصب الراية ج 2 ص 63.

(1/531)


السلام ولا يصح التحلل إلا به لكانت هذه الزيادة مفسدة. ولا يؤمر بإصلاح يؤدي إلى إفساد (1). وهذا الذي قالوه لا يلزم. لأن الزيادة غير متحقق كونها نافلة وباطلة. وإنما ذكر في الحديث كونها نافلة تقديرًا لا تحقيقًا. وبإزاء تركها مخافة أن تكون نافلة إيجاب فعلها مخافة أن تكون واجبة. ومن شك هل فعل؟ حكم بأنه لم يفعل. لأن الأصل عدم الفعل. ومن تحقق أنه لم يفعل الركعة الرابعة فيجب عليه فعلها إجماعا. فلا معنى لاستدلالهم بهذا الحديث.
واستدلوا أيضًا بأن المأموم يقضي ما فاته قبل السلام. فلو كان من الصلاة ولا يصح التحلل إلا به لوجب متابعة الإِمام فيه. وهذا لا يلزم. لأن ترك المتابعة إنما يسقط لما بقي على المأموم من الصلاة. والباقي عليه منها واجب اتصاله بما مضى. ولا يصح أن يفرق بينهما بقاطع محلل. فلهذا لم تلزم المتابعة للإمام في السلام، على الفور.
واستدلوا أيضًا بأن الصوم لما ضاده الأكل وخرج منه به، خرج منه بالليل وإن لم يقع أكل. وهذا غير صحيح لأن مناقضة الليل للصوم لا يشترط فيها القصد. وهم يشترطون في الحدث القصد. على أن الصوم يفتقر مبدؤه إلى تصرم الليل. فكذلك منتهاه ينقطع بدخوله. والصلاة لما افتقر مبدؤها إلى نطق، افتقر منتهاها إلى نطق. وقد قال بعض من اشترط التعيين أن الصلاة مبنية على الاحترام والتعظيم. وقصد الحدث ينافي التعظيم. ولا يليق بمحاسن الشرع أن يجعل محللًا من الصلاة. وقد أنكر القفال كون (2) السلام مضادًا للصلاة. ولو قيل له فما باله ينقضها في أثنائها؟ لقال كما تنقضها الركعة والسجدة في غير موضعها. وإذا صح ما قاله القف الذي منع المضادة انسد باب القياس الذي حاولوه لفقد ما قالوه من معنى الأصل.

والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: أما السلام من الصلاة فلفظه متعين وصورته السلام عليكم. فإن نكر السلام ونونه فقال: = سلام عليكم = فذكر القاضي أبو محمَّد في غير كتابه هذا أنه لا يجزيه. وذكر ابن شعبان عن
__________
(1) فساد -و -ق-.
(2) أن يكون -و-.

(1/532)


بعض الناس: أنه يجزيه. وهو أحد قولي الشافعي. وقد قال الشيخ أبو محمَّد بن أبي زيد في الإِمام المُنكر للسلام لا يجزيه. وقال ابن شبلون يجزيه. فمن منع الإجزاء اعتمد على أنه هو المنقول عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وبه مضى العمل. فالاتباع فيه واجب على حسب ما قلناه في تكبيرة الإحرام. وقال ابن شعبان الأولى أن يقال: السلام عليكم لأن السلام هو الله سبحانه. وأما من نكّر فكأنه رأى المعنى متقاربًا. فوجب لتقاربه أن يقع الاعتداد به. وهذا يبعد على أصولنا التي قدمناها في وجوب تعيين لفظ التكبير.

والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: أما الإِمام والفذ فيسلمان تسليمة واحدة في المشهور من المذهب. وروي عن مالك أن كل واحد منهما يسلم تسليمتين ولا يسلم المأموم حتى يفرغ الإِمام منهما. وبإثبات تسليمتين فيهما، قال أبو حنيفة والشافعي والحسن بن صالح وابن حنبل. واختلف هؤلاء في التسليمة الثانية هل هي واجبة أو مندوب إليها؟ فقال الحسن بن صالح وابن حنبل بوجوبها. وقال من قدمنا ذكره من مثبتيها بالندب إليها. وسبب الاختلاف في ثبوتها اختلاف الأحاديث. ففي بعضها أنه سلم واحدة (1). قال بعض المحدثين ولا يثبت ذلك. وفي بعضها أنه سلم تسليمتين (2) إحداهما عن يمينه والأخرى عن شماله. ودليلنا على نفي الوجوب أن التحليل، يحصل بالتسليمة الأولى ولا يجب تكرارها كما لم (3) يجب تكرار التحريم. وأما المأموم فيسلم تسليمتين إحداهما للتحليل من الصلاة والثانية يرد بها على الإِمام.
وهل يسلم ثالثة أم لا يرد بها (4) على من كان على يساره. المشهور إثباتها.
قال القاضي أبو محمَّد: في غير كتابه هذا: ذلك مختلف فيه. فإن أثبتناه
__________
(1) رواه الترمذي وابن ماجة والحاكم والدارقطني. وانفصل صاحب نصب الراية على ضعفه. ج 1 ص 433. كما رواه البيهقي ج 2 ص 179.
(2) عن ابن مسعود وسعد بن أبي وقاص وعمار بن ياسر وعن واثبة ابن الأصقع وجابر بن سمرة. رواه مسلم وأبو داود والترمذي. نصب الراية ج 1 ص 432.
(3) لا -و-.
(4) يرد بها = ساقطة - و - ق -.

(1/533)


فلأن الإِمام ينفرد بحكم عن المأمومين (1) *فأفرد بسلام يختص به دونهم، كما انفردت تسليمة الرد عليه عن تسليمة التحليل لما اختلف حكماهما. وإن نفيناه فلأنه كما جاز أن يجمع جماعة من المأمومين* (2) في الرد عليهم. جاز أن يجمع الإِمام معهم ولا يلزمه إفراده كما لا يلزمه إفراد كل مأموم بسلام. فإن قلنا بالمشهور الذي حكيناه من إثبات تسليمة ثالثة. فبأي سلامي الرد يبدأ؟ قيل بالإمام لأنه السابق بالسلام فكان أولى أن يقدم في الرد وقيل لمن على اليسار.
وحكى القاضي أبو محمَّد في غير كتابه هذا التخيير بينهم. فكأن هذا المخيِّر لم يلُح له ترجيح بينهما فخير فيهما.
والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: روي عن مالك أن المأموم يجهر بتسليمة التحليل جهرًا يسمع نفسه ومن يليه ويخفي تسليمة الرد على من على يساره. قال لئلا يقتدى به في ذلك. قال بعضهم بالتسليمة الأولى يستدعي الرد.
واستدعاء الرد يفتقر إلى الجهر. وتسليمة الرد لا يستدعى بها رد. فلم يفتقر إلى الجهر. والإمام والفذ يسلمان قبالة وجوههما ويتيامنان قليلًا وأما المأموم فقال الشيخ أبو محمَّد يسلم عن يمينه. وهكذا ظاهر رواية ابن القاسم لأنه قال فيه (3) يتيامن ولم يقل قبالة وجهه. وأما من فاته بعض الصلاة فقام لقضائه فهل يخاطب بتسليمة الرد أم لا؟ اختلف فيه قول مالك وعلل بعض المتأخرين ثبوته بأن حكم الإِمام باق عليه في حكم قضائه. فكان الإِمام لم يفرغ بعد من صلاته.
وعلل نفيه بأن من سنة الروإلاتصال بسلام الابتداء. فإذا عدم الاتصال لم يثبت الرد. وهذا اعتلال يقتضي تصور الاختلاف في الرد، وإن كان من يرد عليه حاضرًا لم يذهب. وأشار بعض أشياخي إلى أن الاختلاف (4) لا يتصور مع حضور من يرد عليه وإنما يتصور مع غيبته.

قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: وقد بينا وجوب النية واستقبال القبلة.
__________
(1) عن المأموم -و-.
(2) ما بين النجمين = ساقط -ح-.
(3) فيه = ساقطة -ح-.
(4) الخلاف -ح-.

(1/534)


والواجب المعتد به من النية (1) ما قارن تكبيرة الإحرام سواء ابتديتا (2) في حال أو تقدمت النية واستصحبت ذكرًا إلى التكبير.

قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل سؤالان. منها أن يقال:
1 - ما الدليل على أن المعتد به في النية ما قارن الإحرام؟
2 - وما معنى قوله واستصحب ذكرًا؟

الجواب عن السؤال الأول: أن يقال: اختلف الناس في زمان النية. فالمشهور عندنا ما ذكره القاضي أبو محمَّد من قصر الوجوب على حالة الإحرام. وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة يجوز تقديمها على الإحرام بالزمن اليسير. وبعض أشياخي يشير إلى تخريج الخلاف (3) عندنا في هذا. وقد قدمنا الكلام على أن تخريج الخلاف في ذلك من الاختلاف في تقدم (4) نية الطهارة عليها بالزمن اليسير. وقد ينفصل عنه بأن النية في الصلاة آكد، للإجماع على وجوبها. وأن الطهارة لما اختلف في إيجاب (5) النية فيها أمكن أن يتساهل في جواز التقدمة للنية بالزمن اليسير. وذهب داود إلى أن من شرط النية تقدمها على تكبير الإحرام وأن لا يكونا معًا، تخيلا منه أن إباحة المقارنة تؤدي إلى أن يقع جزء من التكبير عاريًا من النية. وهذا لا يسلم له لأنا اشترطنا وقوعهما معًا. وذلك غير مستحيل. وما لا يستحيل لا يمتنع وجوده.
وأما أبو حنيفة فإنا نرد عليه بأن النية عرض والعرض لا يبقى. وإذا تقدمت وعدمت، وقع الفعل عاريا من النية. فلا يفيد إذن قرب المتقدم. ولا فرق بين القرب والبعد لأن الغرض بالنية تخصيص الفعل بأحد الأنحاء التي (6) يمكن
__________
(1) في النية -و-.
(2) ابتديتا في ح الذي -ح- وابتديا في ح الذي -ق- وابتدأ به في حال واحد في تحقيق الغاني وفي -و-.
(3) الاختلاف -ح-.
(4) تقدمة -و-.
(5) وجوب في -ح-.
(6) الذي -و-.

(1/535)


وقوعها عليها. وإذا وقع عاريا لم يتخصص بذلك.
والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: إنما قيد بقوله ذكرًا لأن النية قد تستصحب حكمًا كمن افتتح الصلاة بنية ثم ذهل عن النية في بعض أثناء الركعات، فإن صلاته صحيحة لأن النية مستصحبة فيما ذهل عنه من جهة الحكم والشرع. فلما كان الاستصحاب قد يكون حكمًا كما مثلناه وهو لا ينفع قبل الدخول في الصلاة لما بيناه، قيد بقوله ذكرًا تحرزًا من هذا. وهو إذا استصحبها ذكرًا (1) فكأنه مجدد للنية حين الإحرام. فعاد الأمر لما قلناه من وجوب المقارنة للنية بتكبيرة الإحرام.
قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: ولفظ التكبير متعين وهو أن يقول الله أكبر لا يجزي غيره من قوله الله الأكبر أو أجل أو أعظم (2). والواجب من القراءة متعين وهو فاتحة الكتاب لا يجوز (3) غيرها في كل ركعة. هذا هو الصحيح من المذهب *وقول آخر الاكتفاء بأكثر الصلاة أو نصفها أو بعضها وهي ضعيفة في المذهب* (4) والاعتد الذي الركوع والسجود واجب. ويجزي منه أدنى لبث ولم نعده فرضًا زائدًا على الركوع والسجود. لأن اسمهما قد تضمنه. ويسجد على جبهته وأنفه. فإن ترك الجبهة فلا يجزيه وإن اقتصر عليها أجزاه. والاعتد الذي القيام للفصل بينهما مختلف فيه والأولى أن يجب منه ما كان إلى القيام أقرب. وكذلك في الجلسة بين السجدتين. والواجب من التسليم مرة ولفظه متعين. وهو أن يقول السلام عليكم لا يجزي غيره. وقدر القيام الواجب ما يكبر فيه للإحرام ويقرأ أم الكتاب. وما زاد على ذلك مسنون. ومن الجلوس قدر ما يعتدل ويسلم وما زاد على ذلك مسنون.

قال الفقيه الإِمام رضي الله عنه: جميع ما في هذا الأصل قد فرغنا نحن من الكلام عليه في مواضعه المتقدمة. ورأينا أن ذلك أقرب تناولًا لمن أحب
__________
(1) ذكرا = ساقطة -و-.
(2) قوله الأكبر أو الأجل أو الأعظم -غ- قوله الأكبر أو أجل أو أعظم- الغاني-.
(3) لا يجزئ غيرها -الغاني -غ-.
(4) ما بين النجمين مثبت -بالغاني- فقط.

(1/536)


المطالعة وأسل للحفظ (1). فلما ذكرنا التحريم استوفينا جميع المسائل المتعلقة به التي منها ما ذكر في هذا الفصل من وجوب التعيين. وكذا صنعنا في القراءة ليكلون له الأخذ في النظر في مسألة قد استوعب جميع فروعها قبل أن ينتقل إلى غيرها. ولكن ننبهك هنا على رموز القاضي أبي محمَّد في هذا الفصل لتستدل بذلك على سعة علمه. فمن ذلك أنه لما ذكر وجوب التعيين في الإحرام *مثل فيما يمنع* (2) مما خالف التعيين بقوله: الله أكبر أو أجل أو أعظم ليشعر بذلك مذهب الشافعي ومذهب أبي حنيفة جميعًا؛ لأن الشافعي لا يجيز أجل وأعظم ويجيزها أبو حنيفة. وأما أكبر فيجيزانه جميعًا كما قدمنا. ومن ذلك قوله في القراءة إن الواجب منها متعين وهو فاتحة الكتاب. هذا أيضًا إشارة إلى ما قدمناه من أن أبا حنيفة، يرى حصول الإجزاء بجميع آي القرآن. ومن ذلك قوله: في كل ركعة. هذا هو الصحيح من المذهب. فهذا أيضًا إشارة إلى ما قدمناه من الاختلاف الكثير في المذهب. ومن ذلك قوله والاعتد الذي الركوع والسجود واجب ويجزي منه أدنى لبث. ومراده بالاعتدال هنا الطمأنينة. وفي قوله أدنى لبث، تنبيه على ما كنا قدمناه من الكلام على مقدار الواجب من الطمأنينة. ومن ذلك قوله الواجب من التسليم -مرة- فيه إشارة إلى مذهب ابن حنبل الموجب تسليمتين كما قدمناه. وفي قوله ولفظه معين وهو أن يقول السلام عليكم مرة، فيه إشارة إلى ما قدمناه من الاختلاف في السلام المُنكر. وفي قوله لا يجزئ غيرها، إشارة إلى ما قدمناه من مذهب أبي حنيفة من صحة التحلل بكل ما يضاد الصلاة. وما ذكره من أن الواجب من القيام قدر الإحرام وقراءة أم القرآن. قد قدمنا الكلام على وجوب القيام للإحرام، والقيام لقراءة الفاتحة مبني على القول بوجوبها. وقد تكلمنا على وجوب القيام على من لا يحسنها (3). فجميع ما اشتمل عليه الفصل الذي ذكرناه عنه قد مضى الكلام عليه موعبًا. فمن شاء معرفته فليطالعه هناك في مواضعه.
__________
(1) تحفظا -و - ح -.
(2) ما بين النجمين = ساقط -و-.
(3) على من يحسنها -ح- وغير واضحة في -و-.

(1/537)


قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: وسنن الصلاة اثنتا عشرة. وهي قراءة سورة مع أم الكتاب (1) والجهر بالقراءة في موضع الجهر، والإسرار بها في موضع الإسرار والاعتد الذي الفصل بين الأركان.

قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل سبعة أسئلة. منها أن يقال:
1 - ما الدليل على أن قراءة سورة مع أم القرآن سنة؟.
2 - وهل تسن في الصلاة كلها أو في بعضها؟.
3 - وهل تنوب بعض السورة عن السورة؟.
4 - وهل تزاد مع السورة سورة أخرى؟.
5 - وهل تكون السورة السابقة للركعة السابقة؟.
6 - وما الدليل على أن الجهر والإسرار سنتان؟.
7 - وما مواضع الجهر والإسرار؟.

فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: اختلف الناس في حكم السورة التي مع أم القرآن. فذكر عن عمر رضي الله عنه وغيره (2) إيجاب قراءة زائدة على أم القرآن. ويحدها (3) عمر رضي الله عنه بثلاث آيات. والغير بما تيسر.
وقد حاول الشيخ أبو الحسن اللخمي أن يخرج من المذهب قولًا بالإيجاب بقراءة السورة. واعتمد على قول عيسى: من ترك السورة (4) عامدًا أو جاهلًا أعاد الصلاة. وأظنه إنما اعتمد على هذه الرواية لما ذكر فيها ترك القراءة جهلًا. لأن القول بالإعادة مع العمد قد يحمل على طريقة القائلين بالإعادة لترك السنن عمدًا. وفي هذا التخريج نظر لأن المذهب اختلف في الجاهل هل هو كالعامد أو لا؟ فإذا قيل إنه كالعامد وكان تعمد (5) ترك السنن يوجب الإعادة لم يسلم له هذا التخريج. فإذا ثبت أن المعروف من المذهب أنها ليست بواجبة فقد اختلف
__________
(1) أم القرآن -الغاني.
(2) وغيره = ساقطة -و-.
(3) وحدها -و-.
(4) القراءة -و-.
(5) عمد.

(1/538)


المذهب هل هي سنة أو فضيلة؟ فالمشهور أن من تركها سهوًا سجد (1). وهذ ابن اء على أنها سنة. وروي عن مالك لا سجود عليه. وهذ ابن اء على أنها فضيلة.
ودليلنا على سقوط الوجوب قوله لا صلاة إلا بقراءة ولو بفاتحة الكتاب (2).
وهذا يقتضي جواز الاقتصار عليها. وأما الدليل على كونها مشروعة فما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في الظهر في الركعتين الأوليين بأم القرآن وسورة (3). وقوله لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن فصاعدًا (4). وتأكدت دلالة هذه الظواهر حتى ألحقت (5) بالسنن ولم تبلغ دلالتها على القول الآخر إلى إلحاقها بالسنن فعدت من الفضائل.
والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: مذهبنا أنها إنما تكون سنة في ركعتين لا في أكثر خلافًا للشافعي في أحد قوليه إنها سنة في الأربع. وقد قال محمَّد بن عبد الحكم: من قرأها في الأخريين فقد أحسن. فلنا قوله كان يقرأ في الظهر والركعتين الأوليين بأم القرآن وسورة وفي الأخريين بأم القرآن.
وللشافعي وابن عبد الحكم قوله حزرنا قيامه في الركعتين الأوليين ثلاثين آية (6)، وفي الأخريين على النصف من ذلك وحزرنا قيامه في العصر في الركعتين الأوليين على قدر الأخريين من الظهر والأخريين من العصر على قدر ذلك.

والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: اختلف المذهب في الاقتصار
__________
(1) يسجد -ح-.
(2) سبق تخريجه.
(3) كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الركعتين الأوليين من صلاة الظهر بفاتحة الكتاب وسورتين يطول في الأولى ويقصر في الثانية. البخاري ومسلم اللؤلؤ والمرجان. حديث 260 وفتح الباري ج 2 ص 386 والأبي ج 2 ص 194.
(4) تقدم تخريجه.
(5) لحقت -و-.
(6) روى مسلم بسنده إلى أبي سعيد الخدري قال: كنا نحزر قيام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين في الظهر قدر قراءة {الم تَنْزِيلُ} [السجدة]- إكمال الإكمال ج 2 ص 195. كما رواه ابن ماجة في سننه وأحمد بإسناد ضعيف. انظر نصب الراية ج 2 ص 2 وسنن ابن ماجة حديث 828.

(1/539)


على بعض السورة التي مع أم القرآن. فقيل مكروه، وقيل جائز أن يقرأ أم القرآن وآية طويلة كآية الدين. فوجه الكراهة مضي العمل بقراءة سورة كاملة. وهذا ينقله الناس قوم بعد قوم. ومخالفة مثل هذا يكره. ووجه الجواز أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى الصبح بسورة المؤمنين. فلما جاء لذكر موسى وهارون أخذته سعلة. فركع (1).
فلو كان مكروها لما ركع عليه. وهذا عندي قد تبين عذره - صلى الله عليه وسلم - فيه. فلا يحتج به على جواز فعل المختار. لكن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تجزيء صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فصاعدًا" (2). ولم يحد هذا الصاعد. فيه إشارة إلى جواز الاقتصار على بعض السورة. والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: يجوز أن يقرأ مع أم القرآن سورتين وأكثر. ولكن الأفضل الاقتصار على *واحدة* (3). فأما الجواز فلقول ابن مسعود: لقد عرفت النظائر التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرن بينهما وذكر عشرين سورة (4). وإنما اخترنا الاقتصار على واحدة لأن السورة تبع لأم القرآن.
فكان الأحسن أن تكون واحدة *كما كانت أم القرآن واحدة* (5). ولكن العمل مضى به والأحسن متابعة العمل. وحديث ابن مسعود محمول على النوافل.

والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: يجوز أن يقرأ في الركعة الأولى بسورة وفي الركعة الثانية بسورة قبلها في ترتيب المصاحف. لأن المشروع قراءة السورة مع أم القرآن. وهذا قد قرأ فيهما كذلك. ولكن المختار أن يقرأ سورة بعدها ليجري في رتبة الصلاة حذو رتبة المصاحف.
__________
(1) طرف من حديث رواه مسلم بسنده إلى عبد الله ابن السائب. إكمال الإكمال ج 2 ص 197.
(2) تقدم تخريجه.
(3) من هنا سقط من نسخة -ح- إلى قوله منها أن يقال هل ترفع اليدان - في مبحث فضائل الصلاة.
(4) رواه مسلم بطرق مختلفة في بعضها النظائر التي كان يقرأ بهن سورتين في كل ركعة.
وفي بعضها النظائر التي كان يقرن بينهن. إكمال الإكمال ج 2 ص 433 - 434. وفتح الباري ج 10 ص 117.
(5) ما بين النجمين مثبت في -ق- ساقط من -و- ومن - ح من غيره.

(1/540)


والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: الدليل على أن الجهر والإسرار سنتان ما نقل من صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - وتنوعها إلى إجهار وإسرار. ومضى عمل المسلمين على ذلك. فإن لم يدل ذلك على الوجوب لمعنى صرف عنه فأقل المراتب أن يدل على أن ذلك سنة كما قلناه.
والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: أما مواضع الإجهار، فصلاة الصبح وصلاة الجمعة والأوليان من المغرب والعشاء والعيدان والاستسقاء والوتر ما لم يمنع من الجهر مانع على ما سنبينه في مواضعه. وقد تكلمنا على الاعتد الذي الفصل بين الأركان فلا معنى لإعادته.

قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: والتشهد الأول والجلوس له والتشهد الثاني والمختار من ألفاظ التشهد: تشهد عمر رضي الله عنه. ولفظه: التحيات لله الزاكيات لله الطيبات الصلوات لله السلام عليك أيها النبي ورحمة الله (1)، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله *وحده لا شريك له* (2) وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. فأما الجلوس فالواجب منه قدر ما يسلم فيه وما يوقع فيه التشهد المسنون. وكذلك القيام الذي يقرأ فيه الزيادة على أم القرآن مسنون غير مفروض. والتكبير في كل خفض ورفع. وقوله سمع الله لمن حمده في الرفع من الركوع. والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -. ولم نذكر سجود السهو لأنه يتنوع إلى واجب وسنة على ما نبينه.

قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل ثمانية أسئلة. منها أن يقال:
1 - ما الدليل على أن التشهد الأول والجلوس له سنتان؟.
2 - وهل يزاد على التشهد الأول؟.
3 - وما الدليل على أن التشهد الثاني والجلوس له سنتان؟.
4 - ولم اختار تشهد عمر رضي الله عنه؟.
5 - وما معنى التحيات الزاكيات الطيبات؟.
__________
(1) ورحمة الله وبركاته: في تحقيق الغاني. وفي -ق-.
(2) ما بين النجمين = ساقط من -غ-.

(1/541)


6 - وما الدليل على أن التكبير مسنون؟.
7 - وما الدليل على أن الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - مسنونة؟.
8 - وإلى ماذا أشار في قوله في سجود السهو أنه يتنوع على ما نبينه؟.

فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: اختلف الناس في التشهد والجلوس له. فقال فقهاء الأمصار هما سنتان. فذهب الليث وأبو ثور وأحمد بن حنبل وداود إلى أنهما واجبتان. وقال أبو الحسن اللخمي اختلف في الجلوس الأول. فقيل سنة وقيل فرض ويجزيء منه سجود السهو. وأشار إلى أن هذا الاختلاف الذي ذكره إنما هو مقصور على الجلوس خاصة. فإن كان أراد أن (1) *الاختلاف وقع في المذهب فإني لم أقف عليه. وإن كان أراد اختلاف الناس فإن اختلافهم إنما وقع في الجلوس والتشهد جميعًا على حسب ما حكيناه. ودليلنا على سقوط الوجوب فيهما أنه - صلى الله عليه وسلم - قام من اثنتين ولم يرجع إلى الجلوس والتشهد (2). ولو وجبا أو أحدهما لرجع إليه. فإن قيل فلعله إنما لم يرجع إليه لأنه لم يذكره. فقيل قد ذكر الترمذي أنهم سبحوا به (3). وهذا يقتضي أنه علم بسهوه لما سبحوا له. وإذا ثبت علمه به ولم يرجع إليه دل على سقوط وجوبه.

والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: التشهد الأول. روى ابن زياد عن مالك رضي الله عنه أنه ليس بعد التشهد الأول موضع للدعاء. وروى ابن نافع أن له أن يدعو بما شاء. وقال الشعبي من زاد على التشهد سجد سجدتي السهو. وكأن الشعبي غلظ القول فيه حتى ألحق الاقتصار على التشهد بالسنن.
__________
(1) أراد أن = ساقطة -و-.
(2) رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي والدارمي ومالك.
(3) الذي رواه الترمذي هو حديث الشعبي. قال: صلى بنا المغيرة ابن شعبة فنهض في الركعتين -الحديث- وعن زياد ابن علاقة قال: صلى بنا المغيرة ابن شعبة فلما صلى ركعتين قام ولم يجلس فسبح من خلفه. فأشار إليهم أن قوموا. فلما فرغ من صلاته سلم وسجد سجدتي السهو وسلم وقال: هكذا صنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وعلق عليه: حسن صحيح. عارضة الأحوذي ج 2 ص 160.

(1/542)


وقد يحتج له بقول ابن مسعود كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجلس في التشهد الأول كأنه على الرضف (1). وكأن مالكًا قاسه في أحد قوليه على التشهد الثاني وأجاز فيه الدعاء. وقد فرق بينهما بأن الجلوس الثاني قد كملت فيه الصلاة فيجلس (2) جلسة مطمئن يحسن فيه الدعاء. وهو في الجلسة الأولى غير مطمئن؛ لأنه متشوف للإتيان بما بقي عليه فلم يحسن الدعاء.

والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: اختلف الناس في التشهد الآخر والجلوس له. فقال مالك ليس بواجبين. وروي ذلك عن علي رضي الله عنه.
وقال الشافعي هما واجبان وروي ذلك عن عمر وابنه رضي الله عنهما. وقد روى أبو مصعب عن مالك إيجاب التشهد الآخر. فالجلوس على هذا يجب كما قال الشافعي. وقال أبو حنيفة الجلوس بقدر التشهد واجب والتشهد في نفسه غير واجب. فأما مالك وأبو حنيفة فيحتجان على سقوط وجوب التشهد لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعلمه للأعرابي. ولو كان واجبًا لعلمه إياه. ولأن الأذكار المفعولة في الأركان كالركوع والسجود واجبة. فكذلك الذكر المفعول في التشهد. وقوإنفصل عن هذا القياس بأن القعود (3) لما كان يقع عادة وعبادة، فميز بين العادة والعبادة بإيجاب الذكر فيه. ألا ترى أن القيام لما كان عادة وعبادة ميزت العبادة عن العادة بإيجاب الذكر وهو القرآن. والركوع والسجود لا يقعان عادة. فلهذا لم يجب الذكر فيهما. فإذا سقط وجوب التشهد بما احتججنا به لمالك وأبي حنيفة. اعتبر مالك الجلوس بالتشهد لأنه إنما يراد له. فإذا سقط وجوب التشهد المراد سقط وجوب الجلوس الذي إنما يراد له. ولم يعتبر أبو حنيفة الجلوس بالتشهد كما قال مالك: بل قال بوجوبه خاصة لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - له. ولم يقم دليل على سقوط وجوبه كما قيل في التشهد. ويعتمد أيضًا على قوله لعبد الله بن مسعود: فإذا رفعت رأسك من السجود وقعدت قدر
__________
(1) عارضة الأحوذي ج 1 ص 161. حسنه الترمذي وصححه ابن العربي. ورواه أبو داود والنسائي وأحمد.
(2) فجلسته.
(3) بالقعود -و-.

(1/543)


التشهد فقد تمت صلاتك (1). وهذا يقتضي مراعاة قدر التشهد. وإن الصلاة تتم دون التشهد وأما الشافعي فإنه يعتمد على فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - للتشهد. وقد قال:
صلوا كما رأيتموني أصلي. وعلى قول ابن مسعود: كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد: السلام على الله قبل عباده (2). الحديث. فقد أخبر ابن مسعود بكونه مفروضًا. وقوإنفصل عن هذا بأن -يفرض- بمعنى يقدر. ويحتج أيضًا بقوله قولوا التحيات لله. والأمر على الوجوب. وهذا لا يسلمه له من قال إن الأمر على الندب.
والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: اختلف الناس في المختار من لفظ التشهد. فاختار مالك رضي الله هـ تعالى عنه تشهد عمر بن الخطاب وهو التحيات لله. الزاكيات لله. الطيبات الصلوات لله. السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته. السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله. واختار الشافعي تشهد ابن عباس وهو التحيات المباركة، الصلوات الطيبات لله. سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله. واختار أبو حنيفة تشهد ابن مسعود وهو التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأن (3) محمدًا عبده ورسوله. ووافق أبا حنيفة الثوري وأبو ثور وأحمد وإسحاق وكل واحد من هؤلاء الفقهاء الثلاثة قد اعتمد فيما اختاره على حديث مشهور. ولكن اختلفت طرق الترجيح بهم. فرجح مالك رضي الله عنه ما اختاره بأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه علمه الناس على المنبر. وما اشتهر هذا الاشتهار حتى قرأه عمر رضي الله عنه على المنبر بمحضر الصحابة رضي الله عنهم ولم ينكره أحد منهم، كان أولى أن يختار وأحق أن يتبع. ورجح الشافعي اختياره بأن رواية ابن عباس رضي الله عنه قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا التشهد
__________
(1) رواه الطبراني في الأوسط وبين أن ذلك من قول ابن مسعود مجمع الزوائد ج 2 ص 142.
(2) رواه البخاري ومسلم والبيهقي. السنن ج 2 ص 138.
(3) وأشهد أن -ق-.

(1/544)


كما يعلمنا السورة من القرآن (1) وهو متأخر لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - مات وهو حدث السنن. فالأظهر أن الذي سمعه هو آخر الأمرين والأخير من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - أحق أن يتبع. ولأن فيه زيادة المباركات ولأن السلام فيه منكر وهو أكثر سلام القرآن. قال الله تعالى: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} (2) {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا} (3) {سلام عليكم ادخلوا الجنة} (4) إلى غير ذلك مما يكثر. ورجح أبو حنيفة ما اختاره بأن رواية ابن مسعود رضي الله عنه قال: أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - بيدي فعلمني التشهد (5). وقال عليه السلام أخذ جبريل بيدي فعلمني التشهد. وهذا يقتضي العناية بنقله والضبط. وقد جرى التعليم عندهم على هذا الأسلوب. فقال محمَّد بن الحسن أخذ بيدي أبو يوسف فعلمني هذا التشهد. وقال أخذ بيدي أبو حنيفة فعلمنيه. وقال أبو حنيفة أخذ بيدي حماد فعلمنيه.
وقال حماد أخذ بيدي إبراهيم فعلمنيه. وقال إبراهيم أخذ بيدي علقمة فعلمنيه.
وقال علقمة أخذ بيدي ابن مسعود فعلمنيه. وأخذ بيد ابن مسعود النبي - صلى الله عليه وسلم -. وبيد النبي - صلى الله عليه وسلم - جبريل عليه السلام كما قدمناه. ولأنه جاء بحرف الواو وهي قد تفيد معنى لا يفيده حذفها فكانت زيادتها أولى. وقد اختلفت إشارات أصحابنا إلى حقيقة اختيار مالك لتشهد عمر رضي الله عنه. فأشار بعض البغداديين إلى تأكد هذا الاختيار حتى كأنه يرى ما سواه ليس بمشروع. وأشار الداودي إلى أنه على جهة الاستحسان وإيثار هذا التشهد. وقد روي عن مالك أنه استحسن أن يعاد من هذا التشهد عند التسليم: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. ويكون السلام من الصلاة بعقب ذلك.
وقال ابن مسلمة إنما اختار هذا: لما روي عن ابن عمر وعائشة رضي الله عنهما من فعل ذلك. وليس من المسنون عندنا التسمية في افتتاح التشهد. واستحبها بعض أصحاب الشافعي فقال بسم الله التحيات لله. وقد روي ذلك عن علي
__________
(1) رواه أحمد ورجاله ثقات. مجمع الزوائد ج 2 ص 139. والحاكم ج 1 ص 267.
(2) سورة الرعد، الآية: 27.
(3) سورة الزمر، الآية: 73.
(4) سورة النحل، الآية: 32.
(5) أخرجه أحمد بلفظ. علمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التشهد بين كفيه. بلوغ الأماني ج 4 ص 5.

(1/545)


رضي الله عنه (1) كان إذا تشهد قال بسم الله خير الأسماء (2). ودليلنا قوله - صلى الله عليه وسلم - فليكن من أول قول أحدكم التحيات لله (3). وسمع ابن عباس رجلًا يقول بسم الله التحيات لله فانتهره. وقال ابن المنذر: ليس في الإخبار الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر التسمية. فإن تعلق من أمر بذلك بقول جابر: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول ذلك (4). قلنا قد قيل بعض رواته فيه ضعف.

والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: التحيات جمع تحية. والتحية الملك. وينشد لعمرو بن معدي كرب:
أسير بها إلى النعمان حتى ... أنيخ على تحيته بخير
أي على ملكه. قال النحاس الذي اعتمد عليه أهل اللغة: أن التحيات لله معناه الملك لله. وحياك الله ملكك الله. وأصل هذا أن الملك كان يحيَّى فيقال له: أبيت اللعن -ولا يحيَّى غيره. ثم سمى الملك تحية. إذ كانت التحية لا تكون إلا من الملوك. وقال غيره التحيات لله، البقاء لله. وقال زهير الكلبي:
من كل ما نال الفتى قد ... نلته إلا التحية
أي البقاء. وقال قوم التحيات السلام قال الله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ} (5).
وقال الكميت ألا حييت عنا يا ردينا (6). ومعنى الزاكيات. أي الصالحات من الأعمال. ومعنى الطيبات أي الطيبات من القول. معنى الصلوات لله أي يراد بها وجه الله. وقيل معناها الرحمة.

والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: التكبير عندنا مشروع في كل
__________
(1) عن علي رضي الله عنه وابن عمر رضي الله عنه -ق-.
(2) سنن البيهقي ج 2 ص 142.
(3) رواه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة عن حطاب ابن عبد الله الرقاشي عن أبي موسى الأشعري. نصب الراية ج 1 ص 421.
(4) رواه النسائي وابن ماجة والحاكم وصححه. وضعفه جماعة. ورجح النووي صحته.
نصب الراية ج 1 ص 421.
(5) سورة النساء، الآية: 86.
(6) تمام البيت: نعمناكم مع الاصباح عينا.

(1/546)


خفض ورفع. وقال عمر بن عبد العزيز والقاسم وسالم وسعيد بن جبير لا يكبر إلا عنوإلافتتاح. ويذكر مثل هذا عن عكرمة. وليس هذا المذهب مما يعول عليه. وقد أجمع المسلمون في سائر الأمصار على مرور الأعصار على التكبير في كل خفض ورفع. وما نقل هذا النقل فلا وجه لإنكار كونه مشروعًا (1). وقد صلى أبو هريرة رضي الله عنه فكبر كلما خفض ورفع. فلما انصرف قال والله إني لأشبهكم صلاة بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (2). فإذا ثبت أنه مشروع فقد قال بعض أصحابنا: ما سوى تكبيرة الإحرام من التكبير ليس بواجب. وقال بعض المتأخرين لعل المراد بهذا أنه ليس بشرط في صحة الصلاة. وإلا فرواية أصحابنا تقتضي وجوبه. وهذا الذي قاله من اقتضاء الرواية الوجوب قد يسلم له إذا قلنا فيمن ترك التكبير سهوًا أو سها أن يسجد عنه حتى طال، إن صلاته تنتقض. وأما إذا قلنا بقول أشهب في مدونته إن السجود من تركه لا يجب كما لا يجب في ترك التسبيح في الركوع والسجود. ويستحب أن يسجد بعد السلام. فإن هذا المذهب يقتضي أنه ليس بواجب على ما قال بعض أصحابنا الذين قدمنا قولهم. ويقتضي أيضًا أنه ليس بسنة. لأنه لم ير السجود منه واجبًا.
وقد قال بوجوبه ووجوب التسبيح في الركوع والسجود أحمد وإسحاق وداود.
وإن ترك شيء من ذلك يبطل الصلاة، إلا داود فإنه لا يرى إبطالها بذلك على حال. ودليلنا على سقوط الوجوب أنه عليه السلام علم الأعرابي الصلاة ولم يعلمه التكبير والتسبيح. ولو كان واجبًا لعلمه إياه كما علمه ما سواه. وأما القول سمع الله لمن حمده فداخل فيما ذكرناه من التكبير.

والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: اختلف الناس في الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في التشهد الآخر. فعندنا أنه مسنون. وعند الشافعي أنه واجب. وبه قال ابن المواز. فدليلنا على أنه ليس بواجب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علم ابن مسعود التشهد وقال له: إذا قلت هذا أو قضيت هذا فقد تمت صلاتك (3). فأشار إلى
__________
(1) هكذا بجميع النسخ. وفي التعبير شيء.
(2) رواه البخاري ومسلم. فتح الباري ج 2 ص 416 وإكمال الإكمال ج 2 ص 146.
(3) رواه أبو داود والبيهقي. ورجح البيهقي أن قوله: إذا قلت هذا أو قضيت هذا ... الخ =

(1/547)


تمامها دون الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم -. وأما من أوجبها فإنه تعلق بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (1). وهذا محمول على الصلاة. إذ لا تجب الصلاة عليه في غير الصلاة. ويتعلق أيضًا بقوله: لا يقبل الله صلاة إلا بطهور وبالصلاة علي (2).

والجواب عن السؤال الثامن: أن يقال: لما أشار القاضي أبو محمَّد إلى تنوع سجود السهو ووعد أنه سيبينه، فإنه إنما ذكر في باب السهو السجود الذي تبطل الصلاة بتركه والذي لا تبطل. فكأنه يشير إلى أن ما بطلت الصلاة بتركه هو الواجب، وما لا تبطل بتركه هو السنة. وسنوعب الكلام عليه في موضعه إن شاء الله تعالى.

قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: وفضائلها سبع وهي رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام إلى المنكبين لا إلى الأذنين. وعنه في رفعهما عند الركوع والرفع منه روايتان.

قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل خمسة أسئلة منها *أن
يقال:
1 - هل ترفع اليدان (3) في الصلاة أم لا؟.
2 - وإن رفعت في كم موضع ترفع؟.
3 - وما منتهى الرفع؟.
4 - وما صفته؟.
5 - وما معناه؟.

الجواب عن السؤال الأول: أن يقال: المشهور عند العلماء وعن
__________
= هو مدرج من كذا من ابن مسعود. السنن ج 2 ص 174 - 175. ونصب الراية ج 1 ص 425.
(1) سورة الأحزاب، الآية: 56.
(2) ابن ماجة رقم 400. والحاكم في المسندرك ج 1 ص 269. وفي إسناده مقال.
(3) من النجم انتهى النقص بالنسخة -ح- فتمت المقابلة في ما يلي على جميع النسخ.

(1/548)


مالك (1) رضي الله عنه إثبات الرفع على الجملة. وروى ابن شعبان عن ابن القاسم عن مالك النهي عن الرفع أصلًا. وتأوله بعض أصحابنا على المدونة لما ذكر الرفع وضعفه. والدليل على ثبوته على الجملة ما ورد في الحديث الصحيح من رفعه (2) - صلى الله عليه وسلم -. ولأنه ذكر في أحد طرفي الصلاة فكأنه من حكمه أن يقترن به عمل كالسلام. وقد يتعلق في النهي عن الرفع على الإطلاق بقول جابر بن سمرة كنا نرفع أيدينا في الصلاة ومر بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "ما لي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذناب خيل شُمْس أسكنوا أيديكم في الصلاة" (3). وهذا على عمومه.

والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: اختلفت الرواية عن مالك في ذلك. فروى ابن القاسم عنه الاقتصار في الرفع على تكبيرة الإحرام. وروى ابن عبد الحكم عنه زيادة الرفع عند الرفع من الركوع. وروى ابن وهب عنه زيادة على هذين الرفع عند الركوع. وقال ابن وهب بزيادة الرفع عند القيام إلى الثالثة. وبرواية ابن القاسم عنه قال أبو حنيفة وبرواية ابن وهب عنه قال الشافعي. فوجه الاقتصار في الرفع على تكبيرة الإحرام ما رواه علي رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يرفع يديه في أول الصلاة ثم لا يعيد (4). وأجيب عن هذا بأن الصحيح بأنه موقوف على علي رضي الله عنه. وروى البراء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا افتتح الصلاة رفع يديه إلى قريب أذنيه ثم لا يعود (5). وأجيب عن هذا بأن عيينة قال: حدثنا يزيد بن أبي زياد ولم يذكر فيه: ثم لا يعود.
وقال الحميدي وغيره يزيد بن أبي زياد ساء حفظه في آخر عمره واختلط.
وقال ابن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرفع يديه في افتتاح الصلاة، ثم لا
__________
(1) عند مالك -و-.
(2) رواه أحمد والأربعة. والبيهقي. وقال الشوكاني لا مطعن في إسناده - الهداية ج 3 ص 166.
(3) إكمال الإكمال ج 2 ص 181.
(4) رواه البيهقي ج 2 ص 80. ووهن هذه الرواية بما ثبت عن علي بطريق أجود أن عليًا رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرفعهما عند الركوع وبعدما يرفع رأسه من الركوع.
(5) أبو داود. مختصر المنذري ح 720.

(1/549)


يعود (1). وروي عن ابن عمر وابن عباس موقوفًا عليهما ومرفوعًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: لا ترفع الأيدي إلا في سبع مواطن: تكبيرة الافتتاح وتكبيرة الأعياد وتكبيرة القنوت وذكر أربعة في الحج (2). وعن ابن عباس أن العشرة الذين شهد لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجنة ما كانوا يرفعون أيديهم إلا لافتتاح الصلاة. ولأنه تكبير للانتقال من حال إلى حال فلم ترفع فيه اليدان كالانتقال من الجلوس إلى السجود. ووجه رواية ابن وهب الحديث الثابت في الموطإ والبخاري ومسلم أن ابن عمر قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يرفع يديه إذا قام إلى الصلاة حتى يكونا حذو منكبيه (3). وكان يفعل ذلك حين يركع وحين يرفع من الركوع. ولأن الرفع شرع في تكبيرة القيام ولم يشرع للتكبير الذي ليس في حال القيام كتكبير السجود.
والرافع من الركوع قائم. والرافع في حكم القائم. ألا ترى أن مدرك (4) الركوع مع الإِمام يكون كمدرك القيام. وإذا ثبت للركوع والرفع منه حالة القيام شرع التكبير فيه. ووجه رواية ابن عبد الحكم أن حديث ابن عمر الذي ذكرناه اختلفت رواة الموطإ فيه. فبعضهم لم يذكر رفع اليدين عنوإلانحناء للركوع، وإنما قال إذا افتتح الصلاة رفع يديه حذو منكبيه. وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك، وقال سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد. وكان لا يفعل ذلك في السجود. فلما اختلف في إثبات الرفع عنوإلانحناء، الرواة، فأسقطه يبيح وأبو مصعب والقعنبي وأثبته ابن القاسم وابن المبارك وابن مهدي وغيرهم. ولم تثبت الحجة لما اختلف فيه الرواة هذا الاختلاف كما ثبت بما اتفقدا عليه. ولعله أيضًا قدر أن المنحني للركوع ليس بقائم على الحقيقة
__________
(1) وفي إسناده مقال وفي متنه اختلاف. نصب الراية ج 1 ص 390.
(2) في مجمع الزوائد لا ترفع الأيدي إلا في سبع مواطن حين يفتتح الصلاة وحين يدخل المسجد الحرام فينظر إلى البيت وحين يقوم على الصفا وحين يقوم على المروة وفيه وعند رمي الجمار. وإذا أقيمت الصلاة وفي الإسناد الأول محمَّد بن أبي ليلى وهو مبنى الحفظ وحديثه حسن إن شاء الله وفي الثاني عطاء بن السائب وقد اختلط. مجمع الزوائد ج 3 ص 238.
(3) مالك والبخاري ومسلم وأحمد. الهداية ج 3 ص 105.
(4) من أدرك - و - ق -.

(1/550)


والرفع إنما شرع في تكبيرة القيام. ووجه ما ذهب إليه ابن وهب رواية البخاري عن ابن عمر أنه كان يرفع إذا قام من ائنتين (1). ويذكر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل ذلك. وقد ذكر في الرفع في تكبيرة السجود أحاديث. قال بعض الحذاق إنها لا تثبت.

والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: اختلف في منتهى الرفع، فقيل حذو الصدر وقيل حذو المنكبين وقيل حذو الأذنين. والمشهور عن مالك حذو المنكبين. وبه قال الشافعي. وروى أشهب عن مالك حذو الصدر. وبحذو الأذنين قال أبو حنيفة. واختلفت الأحاديث على حسب اختلاف هذه الروايات.
فقال بعض المحدثين هو بالخيار بين أن يرفع حذو منكبيه أو حذو أذنيه. وقال بعض أشياخي: يحمل اختلاف الأحاديث على التوسعة يفعل أي ذلك أحب.
فروى ابن عمر الحديث المتقدم في الصحيح وفيه حذو المنكبين. وروى أبو حميد في عشرة من الصحابة أحدهم أبو قتادة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قام اعتدل قائمًا ورفع يديه حتى يحاذي منكبيه (2). وروى مالك بن الحويرث ووائل بن حجر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رفع يديه حذو أذنيه (3). وقد استعمل بعض المتأخرين من أصحابنا هذا الاختلاف بين الأحاديث فقال كان يحاذي بكفيه منكبيه، وبأطراف أصابعه أذنيه فيكون مراد أحدهما بالمحاذاة غير مراد الآخر. وإن استعملنا الترجيح من قبل الإسناد قلنا: ابن شهاب عن سالم عن ابن عمر أصح من قتادة عن نصر بن عاصم عن مالك بن الحويرث.
وقال بعضهم اختلفت الرواية عن مالك ووائل فروي عنهما أيضًا حذو منكبيه. فإما أن تتعارض الروايتان وتسقطان. وتبقى الرواية التي لا اختلاف فيها ولا معارض. وترجيح إحدى الروايتين المختلفتين بالموافق لها من الرواية التي لا اختلاف فيها. وهذا فيه اختلاف بين أهل الأصول وكلا القولين يؤديان إلى مطلوبنا.
__________
(1) فتح الباري ج 2 ص 364.
(2) رواه البخاري ومسلم: الهداية ج 3 ص 99.
(3) رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة وأحمد. الهداية ج 3 ص 115.

(1/551)


والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: أما صفة الرفع فالذي عليه العراقيون من أصحابنا اختيار كون اليدين قائمتين يحاذي بكفيه منكبيه وبأصابعه أذنيه لأن بهذا الشكل يتمكن من بناء الأحاديث المختلفة كما قدمناه، وهو الذي رأيت أشياخي يفعلونه. ولو لم يكن في اختياره إلا البعد عن التكلف لكان معنى يقتضي إيثاره ويحسّن اختياره. واختار سحنون كونهما مبسوطتين وبطونهما إلى جهة الأرض. وحكى عن بعض المتأخرين اختيار إقامة الكف مع ضم الأصابع لأنه زعم أن هذا الشكل فيه معنى حال الرهبة، وهو ما اختار سحنون. وفيه معنى من حال الرغبة وهي الإشارة بالكف نحو السماء والأمر في هذا قريب وإلى ما اختار أشياخي أميل.

والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: أما إبداء معنى معقول في الرفع فلا يلزم. ولم يشتغل بذلك مشاهير الأئمة. ولكن قال بعض أشياخي: القصد به إشعار النفس استعظام ما تدخل فيه. وكثيرًا ما يجري من الناس عند مفاجأة أمر يستعظم رفع اليدين كالفزع منه والمستهيل له. وقال بعض الخراسانيين إن رفع اليدين للمسؤول إنما يكون إذا اختلف مكان السائل من المسؤول وتباين مستقراهما. والباري سبحانه لا مكان له ولا مستقر. فكأن (1) هذه الحركة عنوإلافتتاح تسكين لوحشة النفس من سؤال من ليس في مكان (2)، وبسطًا لها للتضرع والسؤال إذا تحرك البدن بالحركات التي تألفها النفس عند سؤال من ارتفع قدره وعظم شأنه. هذا معنى ما فهمته من كلامه. وذكر عن بعض المتصوفة أن القصد بذلك إشعار النفس بنبذ أمور الدنيا وراء ظهره لتستقبل النفس طلب ما عند الله. وهذا الذي قاله هذا المتصوف إنما يناسبه من الأشكال المتقدمة ما اخترناه في حال الرفع لأن ذلك الشكل هو شكل النابذ للشيء وراء ظهره. وهذه الثلاثة أجوبة دائرة كلها على أن القصد إشعار النفس بأمر ما وهي معان تروق الذهن. وإن صحت وثبت أن قصد الشريعة ذلك، فذكرها ها هنا غرضنا به التنبيه على محاسن الشرع وعنايته بأن يمهد للنفس
__________
(1) فكانت -و-.
(2) في مكان = ساقطة -ح-.

(1/552)


تسهيل سبل الخير وليعلم المصلي معنى أفعاله وما يقصد به.

قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: وإطالة القراءة في الصبح على ما سنذكره والتأمين بعد أم الكتاب. والتسبيح في الركوع والسجود.

قال الفقيه الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل خمسة أسئلة. منها أن يقال:
1 - ما معنى التأمين؟.
2 - وهل يخاطب به المصلون عمومًا أو خصوصًا؟.
3 - وهل يخفى أو يجهر؟.
4 - وهل يؤمّن من لا يسمع قراءة الإِمام؟.
5 - وما الدليل على أن التسبيح في الركوع والسجود مشروع؟.

فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: اختلف في معنى هذه اللفظة. فقيل معناها معنى الدعاء وتقديره اللهم استجيب لي. وقيل تقديره فعل الله ذلك. وهي عبرانية عربتها العرب وبنت نونها على الفتح. وقيل بل هي من أحد أسماء الله سبحانه. وحذف حرف النداء. قال بعض هؤلاء فَنُونُها مضمومة. وقال بعضهم بل حركت بالفتح. واختلف في شدها وتخفيفها. فالمشهور التخفيف. وحكى الداودي التشديد للميم، وأنكر هذه اللغة ثعلب. وعلى القول بالتخفيف وهو المشهور المعروف اختلف في قصرها ومدها وينشد في القصر:
تباعد مني فطحل إذ سألته ... أمين فزاد الله ما بيننا بعدا
وضعف ابن درستويه القصر وتأول أن هذا الشاعر قصر الممدود للضرورة إن ثبت رواية البيت على هذا النظم. وينشد في المد:
ويرحم الله عبدًا قال آمينا (1)

والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: اختلفت الرواية عن مالك، فروي
__________
(1) الشطر هو لعمر بن أبي ربيعة وصدر البيت:
يا رب لا تسلبني حبها أبدًا ... ويرحم الله عبدًا قال آمينا

(1/553)


عنه أن التأمين مشروع لسائر المصلين عمومًا. وبه قال أبو حنيفة والشافعي.
وروي عنه استثناء الإِمام في صلاة الجهر خاصة. وذهب ابن بكير: إلى تخيير الإِمام بين التأمين وإسقاطه في صلاته الجهر. وسبب هذا الاختلاف اختلاف الأحاديث. ففي بعضها إذا أمّن الإِمام فأمّنوا (1) وأيضًا قول ابن شهاب وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول آمين (2). وحديث ابن شهاب هذا وإن كان مرسلًا على المعروف والمشهور فقد أسنده بعضهم. وفي بعض الأحاديث إذا قال الإِمام ولا الضالين فقدلوا آمين (3). وظاهر هذا أنه لا يقول آمين. لأنه لو كان يقولها لم يقل هذا اللفظ الدال على اقتصاره على -ولا الضالين- وقد تأولت كل طائفة الحديث الذي تعلقت به الأخرى. فمن أنكر تأمين الإِمام قال: معنى قوله: إذا أمَّن: أي بلَغ موضع التأمين أو يكون المعنى أن دعاءه بما في خاتمة أم القرآن يسمى تأمينًا. وغير بعيد أن يسمى الداعي مؤمنًا كما يسمى المؤمن داعيًا وقد قال تعالى في موسى وأخيه: "قد أجيبت دعوتكما" (4) وأحدهما داع والآخر مؤمّن.
وأما حديث ابن شهاب فمرسل. وإن وجب العمل به حمل على صلاته - صلى الله عليه وسلم - وحده. أو على إمامته في صلاة السر. ومن أثبت تأمين الإِمام تأول قوله إذا قال ولا الضالين. على أن المراد: أنها علم على تأمينه. فإذا لم يسمع المأموم التأمين لأن الإِمام يخفيه جعل له علم عليه. وهو قول الإِمام: ولا الضالين.
ولما رأى ابن بكير اختلاف هذه الأحاديث وإمكان رد كل طائفة حديث مخالفها إلى حديثها صار إلى التخيير الذي حكيناه. وقد أنكر الحذاق قول من حكينا عنه أن الداعي يسمى مؤمنًا لأنه إثبات لغة بالقياس. وتسمية التأمين دعاء قد علم وجهه واتضح معناه. وتسمية الدعاء تأمينا لا وجه له. وأشار بعض المتأخرين إلى أن قوله: إذا أمّن الإِمام لا يستقل بنفسه دليلًا لجواز أن يكون تأمينه مُباحًا
__________
(1) متفق عليه أخرجه الستة: نصب الراية ج 1 ص 368.
(2) مرسل أخرجه البخاري. فتح الباري ج 2 ص 408. ورواه الدارقطني موصولًا.
(3) أخرجه البخاري عن عبد الله بن يوسف بن مالك ومسلم من حديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه والبيهقي ج 2 ص 55.
(4) سورة يونس، الآية: 89.

(1/554)


فيجعل (1) هذا الفعل المباح علمًا على خطاب المأموم بالتأمين إلا أن يعضد بأن يقال: لم يصر أحد إلى الإباحة فانتفت لعدم قائل بها. وبطل قول من قال بالكراهة. فلم يبق إلا قول من قال بالندب، فيستقل حينئذ الاستدلال بالحديث.

والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: أن يقال اختلف الناس في التأمين هل يخفى أو يجهر؟ فذهب أبو حنيفة إلى إخفائه وذهب الشافعي إلى الإجهار به. ومذهبنا أن المأموم يخفيه. وأما الإِمام فإن قلنا بتأمينه فإنه يخفيه. واختار بعض أشياخي أن يجهر به ليتقدى به. وأشار بعض المتأخرين من أصحابنا إلى تخييره بين الجهر والإخفاء. فحجة من أظهره قوله: إذا أمّن الإِمام فأمّنوا (2).
فلو لم يكن مسموعًا لم يقل إذا أن الإِمام فأمنوا. وقد ذكر أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا يؤمنون حتى يسمع لتأمينهم رجة (3). واعتمد من أخفى التأمين على أن قوله إذا قال ولا الضالين فقدلوا آمين يقتضي إخفاء التأمين. لأنه لو كان يجهر به لم يحتَجْ علمًا عليه. ولا يمكن من قال بالتأمين أن يتأول هذا الحديث إلا على هذا على حسب ما قلناه. وتنازعت الطائفتان أيضًا جهة المعنى فقال من أثبت الجهر ينبغي أن يكون تابعًا لقراءة أم القرآن فإذا جهر بها جهر به، كما جرى الأمر في السورة التابعة لأم القرآن. وقال من أمر بالإخفاء. قال الله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} (4). وقال: {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} (5).
والخائف لا يتكلم إلا همسًا. ولهذا جرى الأمر في مخاطب ملوك الزمن أنه يخفض صوته إشعارًا لهم بالهيبة والخوف. وقد قال تعالى: {وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} (6). وقال في زكرياء: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً
__________
(1) فجعل -و-.
(2) متفق عليه. أخرجه الستة. نصب الراية ج 1 ص 368.
(3) رواه البيهقي بالسنن (حتى أن للمسجد لرجة) بسنده إلى عطاء. كما رواه بسند آخر إليه: إذا قال الإِمام غير المغضوب عليهم ولا الضالين- سمعت لهم رجة بآمين. سنن البيهقي ج 2 ص 59.
(4) سورة الأعراف، الآية: 55.
(5) سورة الأعراف، الآية: 56.
(6) سورة الحجرات، الآية: 2.

(1/555)


خَفِيًّا} (1). وأثنى على الصدقة الخفية لبعدها من الرياء. وإنما شرع رفع الإِمام صوته بالتكبير لكون تكبيراته إعلامًا. ولهذا لم يشرع ذلك في تكبير المأموم.
وهذا كله يقتضي إثبات الإخفاء.

والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: قال مالك في العتبية وعيسى ابن دينار في كتاب ابن مزين فيمن لا يسمع قراءة الإِمام أنه لا يؤمّن. وحكاه ابن حارث عن ابن نافع. وحكى عن ابن عبدوس أنه يتحرى فيؤمّن. وأن لقمان ابن يوسف شبهة بتحري المريض رمي الجمار عنه فيكبر. وإن يحيى ابن عمر أنكر هذا التشبيه لأجل أن التأمين لا يكون إلا في مواضعه. ووجه الذي قاله مالك أنه قد يصادف تأمينه ما هو أولى على الجملة بأن يستعاذ بالله منه، من أن يؤمّن فيه كآي الوعيد. وإذا أمكن ذلك لم يحسن التأمين.

والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: الدليل على أن التسبيح في الركوع والسجود مشروعان (2) قول عقبة ابن عامر: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا ركع قال سبحانه ربي العظيم ثلاث مرات. وإذا سجد قال سبحان ربي الأعلى ثلاث مرات (3). وليس بواجب لأنه لم يعلمه للأعرابي. وقد تقدم حكايتنا عن أحمد وإسحاق وداود إيجابه وبطلان الصلاة بتركه إلا داود فإنه لا يبطلها.
وإذا كان مستحبًا فإن مالكًا لم يحد فيه حدًا. وأنكر في المدونة قول الناس في الركوع سبحان ربي العظيم وفي السجود سبحان ربي الأعلى. وقال لا أعرفه ولا أجد فيه حدا.
والشافعية (4) تستحسن هذا اللفظ وتحده بثلاث. وأشار الثوري إلى التحديد بخمس في الإِمام ليتمكن المأموم من أن يقول ثلاثًا. وقال الحسن: التام من السجود سبع والمجزي ثلاث. وأشارت الشافعية إلى استحسان زيادة
__________
(1) سورة مريم، الآية: 3.
(2) مشروع -و- ق.
(3) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة والحاكم وصححه. نصب الراية ج 1 ص 376.
(4) والشافعي في -ح- والشافعي في بقية النسخ.

(1/556)


القول -وبحمده- لوقوعه في بعض الآثار ولما فيه من زيادة التحميد.

قال القاضي رحمه الله: والقنوت في الفجر وقول المأموم ربنا ولك الحمد وسجود التلاوة.

قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل أربعة أسئلة. منها أن يقال:
1 - ما معنى القنوت؟.
2 - وما حكمه؟.
3 - وما محله من الصلوات؟.
4 - وما محله من الصلاة؟.

الجواب عن السؤال الأول: أن يقال: القنوت ينطلق على أربعة معاني.
أحدها الدعاء يقال فيه قنت وأقنت. والثاني الطاعة ومنه قوله تعالى: {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} (1). والثالث السكوت، ومنه قوله تعالى: {وقوموا لله قانتين} (2).
والرابع القيام. وقد اختلف في قوله عليه السلام لما قيل له: أي الصلاة أفضل؟ فقال طول القنوت (3). فقال بعض الناس معناه طول القيام. وقال بعض البغداديين من أصحابنا: القنوت هو الدعاء وهو المراد بهذا الحديث. والقنوت الذي أخذنا في الكلام عليه قد حصلت فيه هذه المعاني الأربعة بأنه طاعة ودعاء والدعاء محله القيام وفيه السكوت مقدرًا. لأن الآخذ في دعاء القنوت ساكت عن القراءة في محلها.

والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: اختلف الناس في القنوت. فقال أبو حنيفة ليس بمشروع وبه قال الثوري. وذهب إلى هذا يحيى بن يحيى من أصحاب مالك. لكن أبا حنيفة يراه في الوتر في جميع السنة. وقال مالك والشافعي هو مشروع في صلاة الصبح. فعند الشافعي أنه مسنون. والمشهور عن مالك وأصحابه أنه ليس بمسنون ولكنه مستحب. وقال ابن سحنون هو
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 116.
(2) سورة البقرة، الآية: 238.
(3) أخرجه مسلم في باب صلاة الليل.

(1/557)


سنة. والقياس أن فيه السجود. وفي السليمانية أنه يسجد إذا سها عنه. وقال ابن زياد تعمد تركه يفسد الصلاة. وبالغ (1) بعض أصحابنا في إنكار كونه سنة حتى جعل تعمد السجود لتركه يبطل الصلاة. فدليلنا على أنه مشروع قول أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يزل يقنت في الصبح إلى أن فارق الدنيا (2). وحجة أبي حنيفة قول أم سلمة نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن القنوت في الفجر (3). وقد تأول أصحاب أبي حنيفة حديثنا على أن المراد به أنه طول القيام في الصبح حتى فارق الدنيا.
وتأول أصحابنا حديث أبي حنيفة على أن المراد به النهي عن لعن قوم بأسمائهم، أو المراد به النهي عن الجهر به. وقد قال بعض الناس: حديث أم سلمة يرويه محمَّد بن يعلى عن عنبسة بن عبد الرحمان عن عبد الله بن نافع عن نافع وكلهم ضعاف إلا نافع. ونافع لم يلق أم سلمة. وقد روي عن بعض
الصحابة تركه وعن الخلفاء الأربعة فعله.

والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: محله من الصلوات عندنا (4) صلاة الصبح. وعنه في كون الوتر في النصف الآخر من شهر رمضان محلًا له روايتان: الجواز والمنع. وحكي عن ابن حنبل أنه لا بأس به. وروي عنه أنه مقصور على إمام الجيش بدار الحرب يدعو للجيش أو للسلطان الأعظم. وقال إسحاق: القنوت للأئمة عند حوادث تحدث. وما قدمناه من حديث أنس يدل على صحة ما قلناه من الاقتصار على الصبح. إذ لو قنت في غيرها من الصلوات لم يخصها بالذكر.

والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: أما محله من صلاة الصبح فاختلف الناس فيه. فقال مالك: الأفضل أن يكون قبل الركوع من الركعة الثانية (5).
__________
(1) وقال -و-.
(2) رواه الدارقطني والحاكم والبيهقي. صحيح، نصب الراية ج 2 ص 132.
(3) أخرجه ابن ماجة في باب القنوت من صلاة الفجر. والدارقطني والبيهقي. وقال الغماري حديث أم سلمة هذا باطل موضوع. انظر الهداية ج 3 ص 81.
(4) عند في -ح-.
(5) الآخرة في -ح-.

(1/558)


ويجوز أن يكون بعد الركوع. وقال الشافعي وابن حبيب من أصحابنا: المختار أن يكون بعد رفع الرأس من الركوع. وقد ذكر عن بعض الصحابة رضي الله عنهم فعل ما اختاره مالك. وعن بعضهم فعل ما اختاره الشافعي. فالحجة لمالك فيما اختاره قول عاصم لأنس: القنوت قبل الركوع أو بعده؟ قال قبله.
قال عاصم قلت حدثني فلان عنك أنك قلت بعده. قال كذب فلان. إنما قنت النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد الركوع شهرًا أراه بعث قومًا وذكر حديث البراء (1) وهذا يقتضي كون *القنوت قبل الركوع* (2) ولأن في كونه قبل الركوع زيادة بمقدار ما تدرك به الصلاة. فمن تأخر أدرك صلاة من قنت قبل الركوع وفاتته صلاة من قنت بعده. والشافعي يحتج لاختياره: بأنه مذهب أبي بكر وعمر وعثمان فكان عنده أولى. وما ذكره القاضي أبو محمَّد في بقية الفصل من سجود التلاوة قد قدمنا الكلام عليه.

قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: وصفة الجلوس كله صفة واحدة. وهو أن يفضي إلى الأرض بأيسر وركيه (3) ويضع رجله اليسرى تحت يمنى ساقيه ويضع كفيه على فخذيه ويقبض يمناهما ويشير بسبابته منها ويبسط يسراهما.
والسنن والفضائل كثيرًا ما تتداخل وقد بينا جُمَلها. ونحن نبين تفصيلها في تضاعيف ما نورده من المسائل إن شاء الله.

قال الفقيه الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل ثلاثة أسئلة. منها أن يقال:
1 - ما الدليل على اختيار هذه الجلسة؟.
2 - وما معنى الإشارة بالسبابة؟.
3 - وما معنى قوله أن السنن والفضائل كثيرًا ما تتداخل؟.
__________
(1) رواه البخاري والبيهقي - السنن ج 2 ص 207.
(2) ما بين النجمين = ساقط من - ح - و -.
(3) وهي أن يفضي إبهام رجله إلى الأرض بيسرى وركيه. الغاني.
وهو أن يفضي إلى الأرض بيسرى ركبتيه -غ-.
وهو أن يفضي إلى الأرض بأليتيه وركبتيه -و-.

(1/559)


فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: الجلوس يقع مفترشًا. ومعناه:
- أن يفترش رجله فيجلس عليها. ويقع متوركًا ومعناه:
- أن يخرج رجله إلى جانب وركه الأخرى، ويضع أليتيه على الأرض.
- ويقع مقعيًا واختلف في تفسيره، فقال أبو عبيدة هو أن ينصب رجليه ويجلس على أليتيه. قال وسمعت جماعة من أهل العلم يقولون: الإقعاء أن ينصب رجليه ويجلس على عقبيه. وقيل هو أن يفترش رجليه ويجلس على عقبيه.
فذهب مالك رضي الله عنه إلى أن جلوس الصلاة كله في التشهدين وبين السجدتين توركًا (1). وهو أن يثني رجله اليسرى ويخرجها من جهة وركه الأيمن وينصب رجله اليمنى ويجعل باطن إبهامه إلى الأرض ولا يجعل جنبها ولا ظاهرها.
وعند أبي حنيفة أن السنة فيه أن يفترش رجله اليسرى ويقعد عليها وينصب اليمنى ويوجه أصابعه نحو القبلة.
وقال الشافعي بالافتراش بين السجدتين وفي التشهد الأول وهو أن يفترش اليسرى فيجلس عليها وينصب اليمنى كما قال أبو حنيفة. وقال في الجلسة الأخيرة بما قال مالك.
وقال طاوس في الجلوس بين السجدتين رأيت العبادلة. ابن عمر.
وابن عباس (2). وابن مسعود. وابن الزبير. يُقْعُونَ بين السجدتين. وقال أحمد أهل مكة يفعلونه. وقال ابن عباس من السنة أن تمس عقبيك أليتيك. فيحتج لمالك رضي الله عنه بقول ابن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجلس في وسط الصلاة وآخرها متوركًا (3). ويحتج لأبي حنيفة بأن عائشة ذكرت أنه عليه السلام كان يقعد في صلاته. ووصفت الصفة التي ذهب إليها
__________
(1) إما على معنى: يكون توركًا أو هو تورك بالضم.
(2) ابن عباس = ساقط -و-.
(3) رواه أحمد في مسنده ابن مسعود أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علمه التشهد فكان يقول إذا جلس في وسط الصلاة وفي آخرها على وركه اليسرى. الحديث. نصب الراية ج 1 ص 422.

(1/560)


أبو حنيفة (1). ويحتج للشافعي بحديث أبي حميد الساعدي (2) *وقد ذكر في التفرقة بين الجلستين ذكره الشافعي من التفرقة بينهما* (3). وحديث أبي حميد الساعدي رد على العبادلة لأنه وصف صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمحضر عشرة من الصحابة صدقوه. فقال فيه: أهوى إلى الأرض ساجدًا. وقال الله أكبر ثم ثنى رجله اليسرى وقعد عليها ثم أهوى ساجدًا (4). وقد أنكرت تفرقة الشافعي بأن أركان الصلاة المتكررة متساوية الشكل كالقيام والركوع والسجود. فيجب أن يكون الجلوس كذلك. واعتذر أصحاب أبي حنيفة عن حديث أبي حميد بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أسن فلعله جلس في الآخرة تلك الجلسة لطولها ولا يمكنه مع الطول إلا تلك الجلسة. ويرجح أصحاب الشافعي مذهبهم بأن الجلسة الأولى هو مستوفز فيها إلى القيام فوجب ألا يجلس فيها جلسة مطمئن بخلاف الآخرة.
وبأن المصلي قد يشك في جلسته هل هي الأولى أو الأخرى؟ فينتبه لذكر ما هو فيه بشكل الجلسة وبأن التفرقة تشعر من جاء لإدراك الصلاة، يكون الصلاة قوإنقضت. فينصرف لطلب جماعة أخرى، أو لم تنقض فيدخل مع الجماعة.
والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: ذكر ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا جلس في الصلاة وضع كله اليمنى على فخذه اليمنى وقبض أصابع يده إلا التي تلي الإبهام (5). وقال بعض المتأخرين: هذا، يقتضي إطلاقه أن هذا الفعل كان في جميع الجلوس. ولو اختلف حكم الجلوس لفصله ابن عمر. وقال غيره: إنما يختار هذا في جلوس التشهد. وأما الجلوس بين السجدتين فإنه يبسط كفيه على فخذيه.
وقد اختلف المذهب في الأصبع إذا بسطت، هل تحرك أم لا؟ فقال ابن القاسم رأيت مالكًا يحركها في التشهد ملحًا. وقيل لا يحركها بل يجعل جانبها الأيسر مما يلي السماء. واختلف في تعليل كون هذه الأصبع
__________
(1) حديث عائشة أخرجه البيهقي ج 2 ص 129 وأحمد. الفتح الرباني ج 4 ص 14.
(2) رواه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة. الهداية ج 3 ص 128.
والبيهقي ج 2 ص 127.
(3) ما بين النجمين = ساقط -ق-.
(4) البيهقي ج 2 ص 118.
(5) رواه أحمد ومسلم والنسائي في الهداية ج 2 ص 135.

(1/561)


مخالفة لشكل الأصابع. فقيل مَقْمعةً للشيطان. وقال الداودي ليذكر أنه في الصلاة. وقيل إشعارًا بالتوحيد. وقال بعض أصحاب مالك من علل بالمقمعة أو نفي السهو حركها. ومن علل باستشعار التوحيد لم يحركها. وذكر عن يحيى ابن عمر أنه كان يحركها عند قوله: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. وعندي أن ابن عمر إنما حركها عند هذا الموضع لأنها حركة تستعمل في تقرير الأمر وثبوته. ألا ترى أن الإنسان إذا حادث صاحبه حرك إصبعه كالمقرر بها والمحقق حديثه. فلما افتتح المصلي الشهادتين رأى ابن عمر أن ذلك مما يحتاج إلى التقرير. فكأنه قرر (1) على نفسه وحقق عندها صحة ما أخذ فيه.

والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: أما قول القاضي أبو محمَّد ها هنا أن السنن والفضائل كثيرًا ما تتداخل، فإن هذا اللفظ إذا أخذ على مقتضاه في عرف إطلاق العلماء عسر تصور معناه. لأنهم إنما يطلقون التداخل بسقوط اعتبار شيء عند إضافته إلى آخر. مثل قولهم الحدث الأصغر يدخل في الحدث الأكبر. بمعنى أن الوضوء الواجب على البول يسقط بالغسل الواجب على الجنابة. وهذا المعنى لا يتصور في السنن والفضائل. ولكن يتصور فيهما (2) معنى مأخوذ مما قدمناه. حيث قلنا إن السنن والفضائل عبارتان قد تنوب إحداهما عن الأخرى. وتستعمل هذه مكان هذه على مقتضى اللغة. ولكن قَصرَهُما العُرف على ما كان مندوبًا إليه. فمتى قوي الندب وعظم الأجر سمينا الفعل سنة، ومتى ضعف سميناه فضيلة. فكأن السنة فيها معنى الفضيلة وزادت (3) عليها. فصارت الفضيلة كالداخلة في السنة. ولكن هذا المعنى وإن كان صحيحا فلم يرده القاضي أبو محمَّد لأنه معنى يشتمل على جميع الفضائل وجميع السنن. والقاضي أبو محمَّد قيد قوله بأن قال: كثيرًا ما يتداخل. فأشار إلى أنها قد لا تتداخل في بعض الأحيان. فإن كان أراد أن الفضيلة ربما كانت
__________
(1) قدر في -ح-.
(2) فيها -و -ق-.
(3) زيادة -و -ق-.

(1/562)


بعض أوصاف السنة ومقدرة كالجزء منها كالسورة التي مع أم القرآن فإنها سنة وتطويلها أو تقصيرها فضيلة. والطول والقصر وصف من أوصاف السورة (1).
وقد تطلق العبارة بأن السورة المعتاد قراءتها في صلاة الصبح سنة. وإن كان المسنون أصلها لا وصفها بالإطالة أو بالقصر. وكذلك القول فيما ضاهى هذه المسألة فإن أراد هذا فهو معنى صحيح. وإن أراد بالتداخل ما وقع من الاختلاف من عد بعض السنن فضائل وعد بعض الفضائل سننًا. فصارت تدخل بعضها في بعض على هذا المعنى. ويكون المراد أنها تتداخل على مذهب دون مذهب. فيدخل بعض ما عده من السنن في قسم الفضيلة على قول ومذهب.
ويدخل ما عده من الفضائل في قسم السنة على قول ومذهب. فهذا معنى صحيح.
وقد يراد بالتداخل اختلاف حال المصلين. فإن من السنن ما يخاطب به المنفرد. فإذا صار مأمومًا سقط كونه سنة. وربما عد في الفضائل كالقراءة.
فمنها ما يكون سنة في حق المنفرد. وربما عاد فضيلة في حق المأموم. فيكون معنى التداخل دخول الحكمين في جنس من الأفعال على نوع من هذا التفصيل.
وهذه المعاني (2) هي التي يمكن أن تراد. وإن كان بعضها يقرب من لفظه وبعضها يبعد. ولم يرد الإطالة بتمييز بعضها من بعض، وإيعاب القول في كل قسم منها؛ لأن جدوى ذلك وقوف على حقيقة مراده. وإلا فحقائق السنن والفضائل جملة وتفصيلا، تفريعًا وتأصيلًا قد أتينا على جمهوره. ونأتي بالبقية منه في مواضعها (3) إن شاء الله تعالى.
قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: والمختار له بعد تكبيرة الإحرام أن يعقبها بقراءة أم القرآن من غير أن يفصل بينهما بتسبيح أو توجيه أو قراءة بسم الله الرحمن الرحيم سرًّا أو جهرًا أو استعاذة. لا عند قراءة أم القرآن (4) ولا في
__________
(1) السنن -و- ولا معنى له.
(2) معان -ح-.
(3) ونأتي بالبقية في مواضعه -و-.
(4) أم الكتاب -غ-.

(1/563)


التي (1) بعدها. إلا الذي يصلي التراويح أو يقوم الليل أو يعرض القرآن. فإن شاء فصل بين السور بالبسملة (2).

قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل سبعة أسئلة. منها أن يقال:
1 - ما الدليل على أنه لا يفصل بين القراءة والتكبير بشيء؟.
2 - وما معنى قوله تسبيح أو توجيه؟.
3 - وما معنى قوله: قراءة بسم الله الرحمن الرحيم؟.
4 - وما معنى قوله سرا أو جهرًا؟.
5 - ولمَ لم يتعوذ القارئ في الصلاة المكتوبة؟.
6 - وما معنى قوله عند قراءة أم القرآن أو في التي بعدها؟.
7 - ولمَ قال في الذي يقوم الليل ويعرض القرآن إن شاء فصل ببسم الله الرحمن الرحيم؟.

الجواب عن السؤال الأول: أن يقال: اختلف الناس في الفصل بين القراءة والإحرام. فالمشهور عن مالك المنع منه. وقال أبو حنيفة والثوري وأحمد وإسحق: المستحب أن يقول سبحانك اللهم وبحمدك تبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك. وحكى ابن شعبان في مختصره عن مالك أنه كان يقول ذلك بعد إحرامه. ورأيت في كتب المخالفين إثبات الواو في وتبارك. وذكر عن الشافعي أنه كان يقول الله أكبر كبيرًا وسبحان الله بكرة وأصيلا. ويقول وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفًا وما أنا من المشركين. ورأيت في كتب بعض أصحاب الشافعي: أن المستحب أن يقول بعد التكبير وقبل التعوذ: وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفُ اوما أنا من المشركين. إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين. اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك أنت ربي وأنا عبدك ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي ذنوبي جميعًا (3) واهدني
__________
(1) ولا في السورة التي -الغاني-.
(2) ببسم الله الرحمن الرحيم - ح - و - ق -.
(3) جميعًا = ساقطة -ح-.

(1/564)


لأحسن الأخلاق لا يهدي (1) لأحسنها إلا أنت واصرف عني سيئهلالا يصرف سيئها إلا أنت. لبيك وسعديك والخير بيديك والشر ليس إليك. والمهدي من هديت أنا بك وإليك لا منجأ منك إلا إليك تباركت وتعاليت استغفرك وأتوب إليك. وذكر أن المستحب عنده أن يجمع بينه وبين ما حكيناه عن أبي حنيفة.
فإنه (2) مذهب أبي يوسف. وقد حاول الشيخ أبو الحسن اللخمي أن يخرج قولًا عندنا بجواز الفصل بالدعاء. وأشار إلى ما حكيناه عن ابن شعبان. واستحسن الجواز. واحتج بقول أبي هريرة في الصحيحين يا رسول الله إسكاتتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟ قال أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب. اللهم نقني من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس اللهم اغسل خطاياي بالماء والثلج والبرد (3). فأما أصحاب أبي حنيفة فيحتجون بقوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} (4). قالوا (5) ولا تسبيح مشروعًا إلا ما قلناه. واحتجوا بما روت عائشة وأبو سعيد الخدري رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفتتح الصلاة بسبحانك اللهم وبحمدك. وقد خرج مسلم عن عمر رضي الله عنه أنه كان يجهر بذلك في للصلاة (6). وأما أصحاب الشافعي فيحتجون بما روي عن علي بن أبي طالب أنه عليه السلام كان إذا افتتح الصلاة كبر ثم قال: {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} -الآية- إلى أن يقول: وأنا من المسلمين (7).
__________
(1) ولا يهدي -و-.
(2) وأنه - ق - و -.
(3) رواه البخاري ومسلم. إكمال الإكمال ج 2 ص 288.
(4) سورة الطور، الآية: 48.
(5) قالوا = ساقطة -و-.
(6) رواه مسلم موقوفًا على عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وقد بين عياض وجه رواية مسلم له مع كونه موقوفًا.
(7) أخرجه مسلم في التهجد. ولفظه أنه كان إذا قام إلى الصلاة. قال وجهت وجهي ... -الحديث- ورواية مسلم: وأنا من المسلمين. وروي: وأنا أول المسلمين. إكمال الإكمال ج 2 ص 398.

(1/565)


والحجة لمالك قول أنس رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفتتح الصلاة بالحمد لله رب العالمين (1).
وقد انفصل عن هذا بأن المراد به يفتتح القراءة. وقد يعبر على القراءة
بالصلاة كما في الحديث الآخر: قَسَمت الصلاة بيني وبين عبدي (2). وهذا لا يسلم لهم بغير دليل *وليس إذا دل الدليل على حمل الصلاة على القراءة في حديث وجب مثل ذلك في حديث آخر بغير دليل* (3).

*والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: هذا اللفظ الواقع من القاضي أبي محمَّد تنبيه منه على المذاهب التي حكيناها؛ لأنا حكينا أن أبا حنيفة يفتتح بالتسبيح. وعن الشافعية بالتوجيه. فنظم رحمه الله المذهبين جميعًا بهذه الإشارة لما لم يمكنه بسطه (4) في هذا الكتاب لأنه لم يوضع لذلك* (5).

والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: أما بسم الله الرحمن الرحيم فإن القول فيها هل هي قرآن أم لا؟ يتسع. ولكن نقتصر لك علي اللباب ونبوح لك بالأسرار. فنقول: أول ما يجب أن يقدم: الاهتمام بالنظر في الانفصال عن معارضة قد تلتبس (6) هنا على من لا يستبحر في الحقائق: بأن يقول قائل من الطاعنين في الشرع: القرآن معجزته عليه السلام وقاعدة الإِسلام، فكيف اختلف الأئمة المقتدى بهم في أمصار المسلمين في كون البسملة قرآنًا؟ وإذا كانت عند الشافعي قرءانا فهلا كفر مالكًا وأبا حنيفة في مخالفتهما له في ذلك كما يكفر هو وغيره من خالف في كون الحمد لله رب العالمين من القرآن؟ قيل لم يثبتها
__________
(1) البخاري. ومسلم. والنسائي وأحمد وابن حبان والدارقطني وأبو يعلى والطبراني.
ورجال هذه الروايات كلهم ثقات. نصب الراية ج 1 ص 326.
(2) مسلم عن أبي هريرة. إكمال الإكمال ج 2 ص 150 - 151. والأربعة وأحمد.
(3) ما بين النجمين = ساقط -ح-.
(4) بسطها -ح-.
(5) ما بين النجمين = ساقط -و-.
(6) قد يُلبّس في - ح - ق -.

(1/566)


الشافعي قرآنًا على حسب ما أثبت غيرها. وإنما أثبتها حكمًا وعملًا لا دلالة اقتضت ذلك عنده سنوردها عليك. فإثبات الشيء قرآنًا قطعًا ويقينًا حتى يُكفر من خالفه إنما يحصل بالنقل المتواتر الموجب للعلم الضروري الذي لا يمكن فيه اختلاف ولا امتراء. ككون بسم الله الرحمن الرحيم من القرآن في أثناء سورة النمل. وأما إثبات تعلق الأحكام بما اقتضاه مضمون ما نقل منه آحادًا كقراءة من قرأ في كفارة اليمين فصيام ثلاثة أيام متتابعات ففيه اضطراب بين أهل الأصول (1)، هل يجب التتابع ويكون هذا كخبر واحد ورد بإيجابه أو لا يجب؛ وهذا يستقصى في كتب الأصول.
وأما إثبات مرتبة ثالثة تنخفض عن الأولى القطعية المُكفّر مخالفها، وترتفع عن هذا القسم الآخر الذي هو العمل بالمظنون بأن يثبت الوارد قرآنًا ويحكم -بكونه كذلك فيكتب في المصاحف ويُقرأ في المحارب عملًا بذلك كله- حكمًا (2) لا قطعًا ويقينا، يجب تكفير مخالفه، فهو (3) ما نحن فيه. وقد اختلف الناس في بسم الله الرحمن الرحيم، فأثبتها الشافعي آية من أم القرآن.
واختلف قوله في إثباتها آية في غيرها من السور ولم يحك عن أحد من السلف إثباتها فيما سوى أم القرآن. ويتبين من عندهم الآي سوى الشافعي وابن المبارك.
وذهب مالك وأبو حنيفة وداود إلى أنها ليست من القرآن في افتتاح شيء من السور أم القرآن أو غيرها. وذكر عن أصحاب أبي حنيفة أن التسمية آية من القرآن أنزلت للفصل بين السور والتبرك بها للابتداء. وإن هذا قول عدل من الأقوال.
واعلم أن ها هنا معان قد تتعارض في الظاهر فمنها ينشأ الخلاف. أحدها أن القرآن معلوم قطعًا اعتنى الصحابة بنقله من جهة الطبيعة ومن جهة الشريعة.
فأما من جهة الطبيعة فإن في طباعهم الاعتناء بالبلاغات والاهتزاز لها والاهتمام
__________
(1) الأصوليين -و-.
(2) لا حكمًا -ح-.
(3) جواب وإما إثبات مرتبة ثالثة.

(1/567)


بحفظها وتدبرها والنظر فيها. ولهذا كانت معجزتهم فصاحة بهرت عقولهم حتى انقادوا للإيمان بها مذعنين. وأما من جهة الشريعة فلكون القرآن أصل هدايتهم وينبوع أحكامهم. وحفظه وتلاوته عبادة من أجل عباداتهم وقربهم. وإذا كان هذا هكذا وجب القطع على أن ما كان من القرآن شاع فيهم وظهر ونقلوه إلينا نقل أمثاله. ولما لم ينقلوا كون البسملة قرآنًا كما نقلوا غيرها ولا ظهر ذلك فيهم كما ظهر في غيرها من الآي وجب القطع على أنها ليست من القرآن. وهذا دليل معتمد به نرد نحن والشافعي ما زاده الروافض وأمثالهم في القرآن. ونقطع على بطلان ما قالوه. فهذه عمدة مالك وأبي حنيفة.
وأما عمدة الشافعي فإنه لما رأى تحفظ السلف لما كتبوا القرآن حتى كانوا يقولون جردوا القرآن. ويكرهون النقط والتفاسير. وكانوا إنما كتبوه حسمًا لمواد الزيادة والنقصان فيه. وجب أن يكون ما اشتمل عليه قرآن. وقد اشتمل على بسم الله الرحمن الرحيم. والانفصال عن هذا أنا لم نفهم عنهم حين تسليم المصاحف إلينا أن البسملة من القرآن كما فهمنا ذلك عنهم في غيرها من الآي. وكما لم نفهم ذلك عنهم ولا فهمه الشافعي في فواتح السور *ونحن الآن نقول إن البسملة ليست من القرآن في افتتاح السور* (1) ونحن مع هذا نشير إلى المصحف فنقول هذا القرآن ونطلق هذا الإطلاق في عصرنا هذا وفي غيره من الإعصار. مع العلم بأننا ننكر كون البسملة من القرآن. فإذا صح إطلاقنا هذا مع اعتقادنا ما قلناه، صح إطلاق الأولين مع كونهم معتقدين ما اعتقدناه مع أنها في المصاحف القديمة مكتوبة بخط على حدة غير متصلة بالسور. وإفرادها بخط على حدة كالإشعار بأنها ليست من السورة. وأيضًا فإن بعض المصاحف المبعوثة إلى البصرة والكوفة ليست فيها البسملة. ولأجل هذا قرأ أبو عمرو وحمزة بترك الفصل ببسم الله الرحمن الرحيم. فإن قالوا: فإن المصاحف اختلفت في قوله {هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} في سورة الحديد، {مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} في سورة براءة وغير ذلك. ثم لم يدل حذف الزيادة من بعض المصاحف على أنها ليست بقرآن. فكذلك حذف البسملة من بعض المصاحف. قلنا حذف
__________
(1) ما بين النجمين = ساقط -ح-.

(1/568)


تلك الأحرف من تلك المصاحف لم يحدث اختلافا على أنها من القرآن، بل هي قرآن عند من كانت في مصحفه. ومن لم تكن عنده. والبسملة ينكر كونها قرآنا جمهور من كانت في مصحفه فضلًا عمن لم تكن في مصحفه. وأما الأخبار الواردة في هذا فقد اختلفت وحاولت كل فرقة تأويل أحاديث الفرقة الأخرى.
فاحتج أصحابنا بقول أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفتتح الصلاة بالحمد لله رب العالمين. وهذا إن تأولوه على أن المراد به السورة من أولها. وأولها البسملة منعهم من ذلك ما أخرجه مسلم عن أنس قال: صليت خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان. فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين، لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم لا في أول القراءة ولا في آخرها (1). وهذا إن تأولوه على أنه كان يخفيها. فإن ظاهره خلاف ذلك لأنه نفى الذكر على الإطلاق. واحتج أصحابنا بحديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل. يقول العبد الحمد لله رب العالمين (2) -. والمراد بقوله قسمت الصلاة الفاتحة لأنه قد فسر المقسوم. وقد قال تعالى: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ} (3). أي بالقرآن في صلاتك. وقد تضمن الحديث ما يبتدىء به المصلي. فلو كان بسم الله آية منها (4) لبدأ بها. وأجابوا عن هذا بأنه إنما حذفها لأن الثناء الذي في البسملة يتكرر في قوله الرحمن الرحيم. وأجيب عن هذا بأنه لو كان الحذف للاختصار لحذف الثاني خاصة حتى تكون البداية بالتي أنزلت بداية. وأيضًا فإنما تكرر بعض البسملة. ودليل آخر من هذا الحديث وهو أن البسملة لو كانت آية لما صح كون الفاتحة نصفين بين العبد (5) وربه كما ورد به الحديث. وأجيب عن
__________
(1) رواه مسلم بسنده إلى قتادة أنه كتب إليه غيره عن أنس بن مالك باب حجة من قال لا يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم. كتاب الصلاة باب 13.
(2) رواه مسلم عن أبي هريرة. إكمال الإكمال ج 2 ص 150 - 151. ورواه أبو داود والترمذي وابن ماجة وأحمد.
(3) سورة الإسراء، الآية: 110.
(4) منها = ساقطة - ح - ق -.
(5) وبين ربه -و-.

(1/569)


هذا بأن المراد: نصفان من جهة العدد لا من جهة المعنى. فالمعنى أن افتتاحها لله واختتامها للعبد. ووسطها مشترك. وهذا غير مسلم لأن ذكر القسمة والتنصيف وعد الآي يقتضي أن المراد بالحديث خلاف ما قالوه. ولا وجه لحمل القسمة والتنصيف على غير ما يقتضيه اللفظ في اللغة إلا بدليل. واستدل أصحابنا بقوله عليه السلام لأبي بن كعب أني لأرجو أن لا تخرج من باب المسجد حتى أعلمك سورة (1) -الحديث- وفيه أنه سأله كيف تقرأ في الصلاة؟ قال فقلت الحمد لله رب العالمين إلى آخرها. فلم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم حين قرأ الفاتحة. فلو كانت البسملة منها لأنكر عليه تركها حين قرأ جملة الحمد لله دونها.
وأما المخالفون فلا يجدون خبرًا صحيحا ولا سقيما يثبتون به كونها آية في سائر القرآن. بل اتفاق القراء على أن سورة الملك ثلاثون آية والكوثر ثلاث آيات. والإخلاص أربع آيات، دليل على أنها ليست من كل السور. إذ لو كانت من هذه السور لزاد عدد هذه السور على ما قلناه. ولم يقل بالزيادة على ذلك أحد. وأيضًا فإنها لو كانت من كل السور لم يحسن إثباتها بين سورة الفيل والتي بعدها. لأن قوله تعالى: {فجعلهم كعصف مأكول} (2) كالتعليل: {لإيلاف قريش} (3). ولا يحسن الفصل بين العلة والمعلول بكلام غير مناسب لهما بل كالقاطع للربط بينهما. ولكن ذكروا أخبارًا تعلقوا بها في كونها من أم القرآن.
منها أنه قرأ البسملة وعدها آية (4). ومنها أنه من ترك (5) بسم الله الرحمن الرحيم فقد ترك آية من كتاب الله (6). وقد عد علي فيما عد من أم الكتاب ومنها أنه عليه السلام كان يقطع قراءته لبسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب
__________
(1) رواه الترمذي العارضة ج 11 ص 5. ورواه أحمد: الفتح الرباني ج 18 ص 70.
(2) سورة الفيل، الآية: 5.
(3) سورة قريش، الآية: 1.
(4) رواه الشافعي تلخيص الحبير ج 1 ص 232. وانظر الهداية ج 3 ص 36. وأخرجه البيهقي ج 2 ص 44.
(5) قوله من ترك -و- ومنها من ترك -ح-.
(6) رواه الديلمي عن طلبة بن عبيد الله. الجامع الكبير ج 6 حديث رقم-21644.

(1/570)


العالمين (1). ومنها إذا قرأتم القرآن فاقرؤوا بسم الله الرحمن الرحيم إنها أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني وأن بسم الله الرحمن الرحيم إحدى آياتها (2).
ونسلك في الجواب عن أحاديثهم هذه ثلاثة طرق: أحدها أنها أخبار آحاد والقرآن لا يثبت بإخبار الآحاد. وقد مر لنا من ذلك كفاية. وهذا جواب كاف عن جميع الأحاديث.
والجواب الثاني: مبني على طريقة من قال من أصحاب أبي حنيفة أنها آية أنزلت للفصل بين السور ولم تنزل آية من أم القرآن. وطريقة هؤلاء في الجواب عن الأحاديث أن يقولوا الأخبار النافية مبنية على أنها ليست من نفس السورة والأخبار المثبتة محمولة على أنها أنزلت للفصل إلا ما وقع من بعض ألفاظ في بعض الأحاديث تمنع من هذا البناء. فإنهم ينكرون صحتها أو يتطلبون لها تأويلًا.
والطريقة الثالثة النظر في عين كل حديث فقوله: عدها آية معناه في الأجر والثواب، أو عدها آية على أنها من سورة النمل. فأخذ كونها آية من هناك وبنى عليه العدد. وقوله: يقطع قراءته ليس فيه تصريح بكونها من القرآن وإنما القصد به ضرب من الحكاية. وقوله: إنها أم القرآن، وأم الكتاب والسبع المثاني ظاهره أن البسملة هي السبع المثاني، وقد علم أن البسملة ليست هي السبع المثاني، مع أن الحديث ضعيف. وقوله فقد ترك آية من كتاب الله قد يتأول عندي على أن المراد به أنها آية من سورة النمل أو كالآية في الأجر والثواب، أو آية (3) أنزلت للفصل، لو قلنا كما قال أصحاب أبي حنيفة. ولم يذكر في ماذا عُدت عليه فيكون نصًا في كونها من القرآن. وهذه التأويلات وإن خرج في بعضها عن مقتضى ظاهر اللفظ فإن ذلك مما لا يضطر إلى الرجوع إليها والتعويل عليها لما قدمناه من أن أخبار الآحاد لا مدخل لها في هذا الباب. وهو (4) الذي أغنانا أن
__________
(1) حديث أم سلمة رواه أحمد وأبو داود. الهداية ج 3 ص 34.
(2) رواه البيهقي ج 2 ص 45.
(3) وأنها آية -و-.
(4) وهذا -ح-.

(1/571)


أذكر (1) لك صحتها أو سقمها ونكشف لك عن رواتها.
والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: إنما قال القاضي أبو محمَّد سرًّا أو جهرا تنبيها على اختلاف الناس في ذلك فقد قال الشافعي السنة أن يجهر بالبسملة. وروي ذلك (2) عن ابن عمر وابن عباس وأبي هريرة. وقال مالك في المبسوط إن جهر بها في المكتوبة فلا حرج. وقال الثوري وأبو حنيفة وأحمد لا يجهر بها. وروي ذلك عن علي وابن مسعود وعمار. وقال ابن أبي ليلى إن شاء جهر وإن شاء خافت.
فحجة من قال بالجهر قول نعيم بن عبد الله المجمر: صليت خلف أبي هريرة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم قبل أم القرآن وقبل السورة. وكبر في الخفض والرفع وقال أنا أشبهكم صلاة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - (3). وبما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أتاني جبريل عليه السلام فعلمني الصلاة وقام فصلى بأصحابه وجهر ببسم الله الرحمن الرحيم" (4). وحجة من لم يقل بالجهر ما ذكر أنس أنه صلى خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلف أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وكانوا لا يجهرون بها (5).
وعن ابن مسعود ماجهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلاة مكتوبة قط بالبسملة (6). وعن عبد الله بن المغفل أنه سمع ابنه يجهر بالبسملة (7) فقال: أي بني إياك والحدث في الإِسلام فإني صليت خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلف أبي بكر وعمر فكانوا لا يجهرون بالبسملة (7). وإذا أردت القراءة فقل الحمد لله رب
__________
(1) أغنانا عن أن نذكر - ق - و -.
(2) وذلك = ساقطة - و - ق -.
(3) أخرجه الطحاوي والدارقطني والحاكم والبيهقي. قال صاحب الهداية: وليس في الرواية وقبل السورة. الهداية ج 3 ص 31.
(4) في سنده خالد بن أياس مجمع على ضعفه. وصوب الدارقطني وقفه. نصب الراية ج 1 ص 341.
(5) رواه أحمد والدارقطني وابن عبد البر. الهداية ج 3 ص 28.
(6) رواه أبو بكر الرازي في التفسير. قال عنه الزيلعي: هذا حديث لا تقوم به حجة لكنه شاهد لغيره من الأحاديث. نصب الراية. ج 1 ص 335.
(7) التسمية -ح-.

(1/572)


العالمين (1). وأيضًا فإن التسمية مذكررة على سبيل الثناء. وسبيل الثناء المخافتة به على ما مر ذكره في التأمين.
والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: اختلف الناس في التعوذ فقال مالك: لا يتعوذ في المكتوبة ويتعوذ في قيام رمضان إذا قرأ. ويتعوذ من قرأ في غير صلاة إن شاء. وقال الشافعي يستحب التعوذ بعد دعاء الاستفتاح وقبل القراءة. واحتج أصحاب الشافعي بقول الخدري أن النبي عليه السلام كان يقول قبل القراءة أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (2). وحجة أصحابنا ما تقدم من أنهم كانوا يفتتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين. وقال بعض أصحابنا في صفة التعوذ أعوذ بالله العظيم من الشيطان الرجيم إنه هو السميع العلم. واختار الشافعية (3) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. واختاره الثوري (4) وأضاف إليه إن الله هو السميع العلم. وقال الحسن بن صالح وابن سيرين أعوذ بالسميع العلم من الشيطان الرجيم. واختاره ابن حنبل. وأضاف إليه إنه هو السميع العلم.
وحجة من أثبت هذه الزيادة قوله تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (5). وحجة الشافعية ما تقدم من حديث الخدري.
وقال بعض أشياخي إنما لم يتعوذ في الصلاة لأن افتتاحها بالتبكير يكون مطردة للشيطان. كما أخبر في الحديث إن المؤذن إذا أذن أدبر الشيطان (6).
والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: أما قوله لا عند قراءة أم القرآن ولا في التي بعدها، فإنا قد قدمنا أن البسملة ليست من أم القرآن ولا في شيء
__________
(1) رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة والطحاوي. وفي إسناده اضطراب. حديث ضعيف. الهداية ج 3 ص 24. وحسنه الترمذي وأيده الزيلعي. نصب الراية ج 1 ص 333.
(2) رواه البيهقي ج 2 ص 35.
(3) الشافعي في -و -ق-.
(4) المزني -و-.
(5) سورة فصلت، الآية: 36.
(6) مالك والبخاري وأبو داود والنسائي والدارمي. الموطإ كتاب الصلاة ج 6 ص 66.
والبخاري كتاب الأذان ج 4. ومسلم كتاب الصلاة ج 4.

(1/573)


من السور التي تقرأ بعدها. وأن الشافعي اختلف قوله في كونها من السور التي
تقرأ بعد أم القرآن ولم يختلف قوله في أنها من أم القرآن. وأما التعوذ فعند
الشافعي أن محله بعد دعاء الاستفتاح (1) وقبل القراءة. ولمالك فيمن قرأ في
الصلاة أنه يتعوذ بعد أم القرآن. وقال أبو هريرة وابن سيرين والنخعي التعوذ بعد
القراءة. واحتج ابن سيرين بقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} (2). وأجيب عن هذا بأن المراد إذا أردت قراءة القرآن. وهذا كقوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ}. أي إذا أردتم القيام إليها. والتعوذ يختص بالركعة الأولى عند أبي حنيفة، والشافعي. وقال ابن سيرين بل يتعوذ في كل ركعة. وقيل إن هذا قول آخر للشافعي. فمن قال بتكرره رآه كالتأمين لما كان من توابع القراءة، ككون التأمين من توابعها. واحتجت الشافعية بأنه كدعاء الافتتاح فوجب أن لا يتكرر. وفُرق بينهما بأن دعاء الافتتاح يراد لافتتاح الصلاة وذلك لا يتكرر. والتعوذ يراد للقراءة. والقراءة تتكرر.

والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: البسملة لا تقرأ في الفرائض (3).
ويجوز قراءتها في النوافل. وقال ابن نافع لا يدعها في فرض ولا نفل. وهذا المذهب إنما يليق بمذهب الشافعي الذي قدمناه.
واختلف المذهب فيمن قرأ السورتين بعد أم القرآن. فروى ابن وهب عن مالك أنه يفصل بينهما بالبسملة. وقال أشهب لا يؤمر بذلك. وإلى هذا المذهب أشار القاضي أبو محمَّد هنا بقوله إن شاء فصل بين السور. والذي عندي في هذه المسألة أن إطلاق القول فيها لا يحسن حتى يعلم لمن يقرأ (4) القارئ. فإن القراء السبعة مختلفون في الفصل بين السور بالبسملة. فمنهم من أثبتها، ومنهم من نفاها. فإذا قرأ القارئ برجل من السبعة فينبغي أن يقرأ له على حسب ما روي عنه من الفصل أو تركه.
__________
(1) الافتتاح - و - ق -.
(2) سورة النحل، الآية: 98.
(3) في الفرض -ح-.
(4) قرأ -ح-.

(1/574)


قال القاضي رحمه الله تعالى: والمختار من قدر القراءة في الصلاة مختلف لاختلاف أعيانها. وهو على ثلاثة أضرب: إطالة وقصر وبينهما. فالإطالة في الصبح والظهر. ويستحب أن يقرأ في الصبح بطوال المفصل أو ما زاد عليه بقدر ما يحتمله التغليس ولا يبلغ به الأسفار. والظهر تليها في ذلك وتقاربها (1).
ويستحب التخفيف في العصر والمغرب. ويستحب في العشاء الآخرة بين القراءتين. والصلوات في الجهر والإسرار على ثلاثة أضرب منها: ما يجهر في جميعها وهي الفجر والجمعة. ومنها ما يسر في جميعها وهي الظهر والعصر.
ومنها ما يجمع الأمرين وهو المغرب والعشاء. وهذا (2) حكم الفرائض. فأما (3) النوافل فتذكر فيما بعد.

قال الفقيه الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل خمسة أسئلة. منها أن يقال:
1 - ما الدليل على صحة ما قال؟.
2 - وهل تقدر الإطالة والقصر والتوسط؟.
3 - وهل الظهر كالصبح؟.
4 - وهل العصر كالمغرب؟.
5 - وهل الركعة الأولى مثل الثانية أم لا؟.

فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: الدليل على صحة ما قاله في هذا الفصل نقل الخلف له عن السلف وظهور العمل به في سائر الأعصار (4). وما نقل هذا النقل فينبغي اتباعه كما عولنا في عدد الركوع والسجود على النقل المستفيض.

والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: قدر أصحابنا القراءة في الصبح
__________
(1) أو تقاربها = الغاني.
(2) هذا بدون عطف - و - ح -.
(3) وأما - و - ح -.
(4) الأمصار.

(1/575)


بطول المفصل. وقالت الشافعية باستحباب طوال المفصل مثل: ق والذاريات ونحوهما. وقال أبو حنيفة يقرأ في الأولى من ثلاثين إلى ستين. وفي الثانية من عشرين إلى ثلاثين. وقد استدل من اختار طوال المفصل مما روي أنه قرأ في الصبح والنخل باسقات. وقرأ في صبح يوم الجمعة ألم تنزيل، وهل أتى على الإنسان. وأما العشاء الآخرة فتقدر القراءة فيها بإذا الشمس كورت ونحوها (1).
وعند الشافعية بأوساط المفصل كالجمعة والمنافقين ونحوهما. وقال أبو حنيفة يقرأ في الأوليين في كل ركعة بعشرين آية غير فاتحة الكتاب. وقال ابن حنبل خمس عشرة آية. واحتجت الشافعية بأنه روي أنه عليه السلام قرأ في العشاء الآخرة بالجمعة والمنافقين (2). والحجة لنا فيما آخترناه قوله عليه السلام لمعاذ لما شُكيت إليه إطالته في صلاة العشاء أفتّان أنت يا معاذ؟ وذكر أنه قال له اقرأ بسورة كذا وكذا قال بسورة والسماء ذات البروج والليل إذا يغشى والسماء والطارق وهل أتاك حديث الغاشية (3).
والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: اختلف أصحابنا في الصبح والظهر فقال أشهب الظهر نحو الصبح. وقال يحيى الصبح أطول.

والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: العصر والمغرب عندنا متساويتان يخفف فيهما. وتقدر القراءة بإحدى السور التي من والضحى إلى آخر القرآن.
ويستحب أن يقرأ الإِمام بأطول ذلك في العصر. وعند الشافعية أن العصر كالعشاء. وكذلك عند أبي حنيفة. وقد ذكرنا ما قدروه في القراءة في العشاء فالعصر عنده مثل ذلك (4).

والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: قال في المختصر لا بأس أن
__________
(1) أخرجه مسلم. إكمال الإكمال ج 2 ص 197. والترمذي والنسائي. الجامع ج 5 ص 335.
(2) الموجود في مسلم وأبي داود أنه قرأ في صلاة الجمعة بالجمعة والمنافقين. الجامع ج 3 ص 243.
(3) رواه مسلم. انظر إكمال الإكمال ج 2 ص 200.
(4) كذلك -ح-.

(1/576)


يقرأ في الثانية بأطول من قراءته في الأولى. وقال في الواضحة: الصبح والظهر نظيران في طول القراءة. ويستحب أن تكون الركعة الأولى أطول ..
وظاهر (1) هذا أن المذهب على قولين. وكذلك اختلفت الشافعية على قولين.
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف يستحب أن تفضل الأولى على الثانية في صلاة الصبح خاصة. وقال الثوري ومحمد يستحب ذلك في جميع الصلوات. فحجة من قال بالمساواة قول الخدري حزرنا قيام النبي - صلى الله عليه وسلم - في الركعتين الأوليين من الظهر قدر (2) ثلاثين آية (3) *ولأن الأخريين تساويًا في القراءة* (4) فكذلك الأوليان. وحجة من قال بالتفصيل قول أبي قتادة أن النبي عليه السلام كان يقرأ في صلاة الظهر في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورة وكان يطيل في الأولى ما لا يطيل في الثانية (5). وقد تأولت الشافعية هذا الحديث على أن المراد به إطالة الأولى بدعاء الافتتاح والتعوذ. وقد تقدم ذكر مذهبهم في دعاء الافتتاح. وقد ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحاديث كثيرة فيما قرأ به. منها قراءته في المغرب بأطول الطوليين (6). وأيضًا بالطور. وأيضًا بالمرسلات. وفي الصبح بالمؤمنين حتى أخذته سعلة قبل إكمالها (7). وقرأ الصديق في الصبح بالبقرة (8).
ولم يفسر الناقل هل قسمها بين الركعتين أو كررها فيهما؟ والظاهر أنه لو كررها لخرج الوقت، بل ربما أن قسمتها إلى أن لا يفرغ منها حتى يسفر. وقرأ عمر في الصبح بيوسف والحج (9). وكان عثمان يقرأ فيها بيوسف (10). وعن
__________
(1) ظاهر = ساقطة -و- أن = ساقطة من -ح-.
(2) بقدر -ح-.
(3) أخرجه مسلم والدارقطني. نصب الراية ج 2 ص 6.
(4) ما بين النجمين ساقط من -و-.
(5) أخرجه مسلم. إكمال الإكمال ج 2 ص 194.
(6) رواه البخاري وأبو داود والنسائي. الجامع ج 3 ص 344. والمراد بأطول الطوليين الأعراف.
(7) أخرجه البخاري ومسلم ومالك وأبو داود والنسائي. الجامع ج 5 ص 345.
(8) رواه مسلم وأبو داود والنسائي. الجامع ج 5 ص 333. وأخرجه البخاري تعليقًا.
(9) رواه مالك في الموطإ وإسناده منقطع.
(10) أخرجه في الموطإ. الجامع ج 5 ص 336 - 337.

(1/577)


النبي - صلى الله عليه وسلم - أحاديث أخر تقتضي التخفيف. وقد أوعبنا الكلام على جميعها وذكرنا صفة البناء فيها وما تأولت عليه فيما أمليناه على البخاري. فمن أحب الوقوف عليه فليلتمسه هناك.

قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: والمصلون ثلاثة: إمام ومأموم ومنفرد.
وهم في أداء الصلاة على ثلاثة أضرب: أحدها يشتركون في الخطاب لفعله، والآخر يختص به الإِمام والمنفرد، والآخر يختص به المأموم دونهما. وليس في ذلك ما يختص به الإِمام دون المنفرد إلا مواضع لا يتصور مقصودها على (1) الانفراد على ما نبينه. فمما يخاطب به الجميع: النية والإحرام والركوع والسجود، والفصل بينهما والجلوس والتسليم المفروض، وجميع الهيئات.
والذي ينفرد به الإِمام والمنفرد وجوب القراءة والجهر بها، وسجود السهو.
وفعل التسليم واحدة والذي ينفرد به المأموم سقوط فرض القراءة وسجود السهو وفعل التسليمة الثانية. ونحن نذكر صفة أداء الصلوات كلها على سياقه (2) وإن طال ليتضح به ما ذكرناه.

قال الفقيه الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل أربعة أسئلة منها أن يقال:
1 - ما الدليل على ما قال؟.
2 - وما معنى قوله إن الإِمام لا يختص دون المنفرد إلا فيما يتصور مقصودها في الانفراد؟.
3 - وما معنى عده سجود السهو فيما يختص بالإمام والمنفرد؟.
4 - ولم لم يكتف بوجوب القراءة عند ذكر الجهر بها؟.

فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: يستدل على صحة ما قاله بما أوردناه في عين كل مسألة أشار إليها وبما نورده فيما بعد. وقد ذكرنا الدلالة على جميع ما عدده فيما يخاطب به الجميع فيما تقدم. فلا معنى لإعادته.
__________
(1) في -الغانى-.
(2) سياقها -و-.

(1/578)


وذكرنا الدلالة على سقوط فرض القراءة عن المأموم وذكرنا حكم تسليمته الثانية. وإنما يصح عند القاضي أبي محمَّد التسليمة الثانية فيما ينفرد به المأموم، على أحد القولين عندنا: أن الإِمام والمنفرد يسلمان واحدة. وأما على القول الذي قدمناه: أن كل واحد منهما يسلم تسليمتين، فلا تعد التسليمة الثانية فيما ينفرد به المأموم.
والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: أما إشارة القاضي أبي محمَّد إلى مواضع لا يتصور مقصودها في الانفراد فإنها حمل الإِمام القراءة وسجود السهو عن المأموم، فإن هذا العمل يختص به الإِمام ولا يتصور في المنفرد. إذ المحمول عنه معدوم عند المنفرد. فتصور العمل من غير محمول لا يمكن.
وكذلك أيضًا اعتقاد الإِمام الإمامة في الجمعة، وصلاة الخوف ينفرد به الإِمام دون المنفرد لأن المنفرد عبارة عمن ليس معه أحد يأتم به. ومن لا أحد معه لا يتصور منه اعتقاد الإمامة.

والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: معنى قول القاضي أبي محمَّد أن المأموم يسقط عنه فرض القراءة وسجود السهو أن الإِمام يحمل عنه نسيان بعض أفعال الصلاة فلا يلزمه لأجل نسيانه سجود ولو كان منفردًا للزمه ذلك. فإن قيل إن المأموم يسجد مع الإِمام إذا سجد للسهو ويخاطب المأموم بذلك. فتراه لم يسقط عن المأموم. قيل إنما يسجد لمتابعة الإِمام لأن سجوده عوض عما ترك بدليل أنه يسجد مع الإِمام للسهو وإن لم يسه هو بنفسه.

والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: إنما لم يكتف القاضي أبو محمَّد فيما عده من خصائص الإِمام بقوله وجوب القراءة عن قوله والجهر بها. لأن وجوبها يسقط وقد يبقى مع سقوطها الندب إليها على قول من قال من أصحابنا إن المأموم يقرأ في صلاة السر دون صلاة الجهر فقد اختص الجهر بالسقوط دون السر في هذا الموضع وإن كان وجوب القراءة ساقطًا عن المأموم في السر والجهر.

قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: فنقول والله الموفق أن وجوب استقبال

(1/579)


القبلة واعتقاد نية الفريضة يستوي فيه (1) الصلوات كلها والمصلون كلهم. وينفرد المأموم باعتقاد (2) الائتمام ولا يلزم الإِمام أن ينوي الإمامة إلا في الجمعة وصلاة الخوف. ولا يجوز للمأموم أن يخالف الإِمام في اعتقاد نيته في الفرض (3) ولا في النفل ولا في غير الصلاة التي يأتم به فيها إلا أن يكون المأموم متنفلًا فله أن يأتم بمفترض.

قال الفقيه الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل ستة أسئلة منها أن يقال:
1 - هل قوله في استقبال القبلة أن الصلوات كلها تستوي فيه على إطلاقه (4) أم لا؟.
2 - وما الدليل على أن المأموم يلزمه اعتقاوإلائتمام؟.
3 - وما الدليل على أن الإِمام لا تلزمه نية الإمامة؟.
4 - ولم استثنى من ذلك الجمعة وصلاة الخوف؟.
5 - وما الدليل على أن المأموم لا يجوز له أن يخالف الإِمام في النية؟.
6 - ولِمَ استثنى من ذلك اقتداء المتنفل بالمفترض؟.

فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: مراده بقوله تستوي فيه الصلوات كلها والمصلون كلهم صلاة الفرض. لأن النفل على الدابة في السفر لغير القبلة يجوز على ما قدمنا (5). وقد ذكر مع وجوب استقبال القبلة اعتقاد نية الفريضة؟ واعتقاد نية الفريضة لا تمكن في النوافل. فدل على أن مراده ما قلناه. وكذلك قوله والمصلون كلهم إنما يريد به مع إمكان استقبال القبلة لأن المسايف الذي لا يمكنه الاستقبال يسقط فرض القبلة عنه.

والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: لما كان معنى الائتمام القصد
__________
(1) فيها -غ-.
(2) نية الائتمام -الغاني-.
(3) نية الفرض -الغاني- النية في الفرض -ق-.
(4) الإطلاق -و-.
(5) قدمناه -ق-.

(1/580)


لمتابعة الإِمام وجب على المأموم أن ينوي ذلك. لأنه إما أن يقال لا يتابعه في الركوع والسجود فهذا، مَن فعله ولم يتابع الإِمام على شيء، فهذا إنما صلى منفردًا. ونحن كلامنا فيمن صلى مؤتمًا. وإن اتفق مقارنة أفعاله لأفعال الإِمام من غير قصد فهذا غير مؤتم أيضًا ولا مقتد. على أنه يبعد في العادة أن تتقارن سائر أفعال الصلاة اتفاقًا. وإن قارنت الأفعال الأفعال بقصد لذلك. وتعمد له، فهذا معنى النية. ولا بد من افتتاح الصلاة بها لئلا يمضي جزء من الصلاة لم يقصد (1) فيه المتابعة.

والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: اختلف الناس في الإِمام هل عليه أن ينوي الإمامة؟ فقال مالك ليس ذلك عليه. وقال الشافعي والثوري وأحمد وإسحاق يجب ذلك عليه. ومتى لم يفعل لم تصح صلاة المأموم. وقال أبو حنيفة يلزمه ذلك إذا أم النساء ولا يلزمه إذا أم الرجال. فحجة من لم يشترط: حديث ابن عباس. والظاهر فيه أن ابن عباس دخل معه في الصلاة بعد أن أحرم. وظاهر هذا أنه عليه السلام لم يفتتح الصلاة بنية الجماعة. وقول أنس كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي في رمضان فجئت فقمت إلى جنبه فجاء رجل إلى جنبه وجاء رجل فقام إلى جنبي حتى كنا رهطًا. فلما أحس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنا خلفه جعل يتجوز في الصلاة. الحديث. وحجة من أوجب نية الإمامة قوله عليه السلام: الإِمام ضامن (2). وإنما يكون الضمان بعد العلم. ولأنه يحمل القراءة فوجب أن يقصد الإمامة ليصح العمل. وأجيب عن هذا بأن الضمان ها هنا لا يشترط فيه العلم، وإنما يضمن ما يتحمله وهو القراءة (3) والسهو. وحمل هذا لا يفتقر إلى نية. ألا ترى أنه لو نوى الإمامة ونوى أن لا يحمل القراءة (3) لم تؤثر نيته هذه في صحة العمل. وأما تفرقة أبي حنيفة بين الإمامة للنساء والإمامة للرجال، فإنه إنما يعتمد في ذلك على أن صلاة المرأة إلى جانب الإِمام يفسد صلاتها، وصلاة الإِمام. وهذا يقتضي أن على الإِمام تأخيرها
__________
(1) تقصد -و-.
(2) أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجة. حديث 981 أو أخرجه أحمد ج 1 ص 314.
(3) القراءة = ساقطة -ح-.

(1/581)


عنه (1) لتصح صلاته. وهذه زيادة فرض عليه لا يلزمه إلا بالقصد للإمامة. فلو أجزنا إمامته لها من غير قصد لأثبتنا عليه فرضًا لم يلتزمه (2). ولم يقصد إليه وليس هو ثابتًا في الأصل. وهذا الذي بني عليه أبو حنيفة لا نسلمه له.
وسنتكلم على قوله بفساد الصلاة لأجل مقام المرأة هذا المقام. وإذا أوضحنا فساد الأصل فسد ما بني عليه.

والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: إنما استثنى صلاة الجمعة والخوف لأن صلاة الجمعة من شرطها الجماعة ولا تصح إلا بها فلما كانت الجماعة من شرط الصحة افتقر إلى القصد إلى ما هو شرط الصحة. ووجبت النية فيه. وأما صلاة الخوف فإنما أوجبوا فيها ذلك، عندي؛ لأن الإِمام يقيم الصلاة بين الطائفتين وينتظر الطائفة الأخرى (3)، وهذا لا يكون إلا مع العلم والقصد. هذا وجه ما قالوه في ذلك. ويلحق بهاتين المسألتين الاستخلاف. فإن الإِمام الذي أحدث فاستخلف افتقر إلى قبول المستخلف للاستخلاف وقبوله لذلك (4) يتضمن نية الإمامة أيضًا في تحصيل فضيلة الجماعة. لأن الإِمام إنما يكتب له فضل الجماعة إذا نواها.

والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: عندنا أن من شرط صحة صلاة المقتدي أن يوافق الإِمام في النية إلا فيما استثناه من جواز اقتداء المتنفل بالمفترض. وقال الشافعي ليس ذلك بشرط في الصحة. وقد خرج بعض شيوخنا مثل هذا، من القول عندنا بجواز إمامة الصبي في الفرائض. وخالفه غيره من الأشياخ وتردد فيه لاعتقاد الصبي نية الفرض. وقد قال بعض أصحابنا فيمن افتتح الصلاة ورأى من هو في خامسة ساهيًا أن صلاته لا تصح. قال ولو قلنا بصحة صلاته لم نناقض بذلك لأن الإِمام صلاه بنية الوجوب. وهذا الذي قاله فيه إشارة إلى الذي تردد فيه بعض الأشياخ. ودليلنا قوله إنما جعل الإِمام
__________
(1) عنه = ساقطة -و-.
(2) يلزمه في -ح- ويلتزمه في بقية النسخ.
(3) الثانية - ح - ق -.
(4) ذلك -ح-.

(1/582)


ليؤتم به فلا تختلفوا عليه (1). واختلاف النيات ضرب من ضروب المخالفات.
ولأن الاقتداء يقتضي المشاركة حتى تصير الصلاتان في معنى الصلاة الواحدة ولا يمكن ذلك إلا بأن يمكن (2) الإِمام على تحريمته صلاة المأموم. والإمام إذا أحرم بالنفل لا يمكنه أن يبني على هذه التحريمة صلاة الفرض التي يفعلها المأموم. ولما لم يمكن ذلك واستحالت المشاركة والاتحاد، وجب المنع من اختلاف النيات. ويحتج الشافعي بحديث معاذ وقد ذكر فيه أنه كان يصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم يصليها بقومه (3). وأجيب عن هذا بأنه لم ينقل أن النبي عليه الصلاة والسلام علم (4) بذلك فأقره. ولو علم به فأقره لأمكن أن يكون معاذ صلى خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - بنية النفل وصلى بقومه بنية الفرض. وقد ردوا هذا بأنه قد قال في بعض طرقه: فكانت له نافلة وكانت لهم فريضة. وأجيبوا عن هذا بأنه تأويل من الراوي وقد يغلط فيما تأول على معاذ. ويحتج أيضًا بما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة الخوف بكل طائفة ركعتين (5). والظاهر أن الثانية كانت نفلًا. وأجيبوا عن هذا بأن يمكن أن يكون صلى صلاة الخوف حضرا أو كان مسافرًا فنوى الإقامة حتى تكون الأربع هي فرضه. ويحتج أيضًا بإمامة عمرو بالناس وه وابن سبع سنين (6). وأجيبوا عن هذا بأنه لم يذكر أنه عليه السلام علم به فأقره. ولعله كان في مبدإ الإِسلام قبل وجوب القراءة. وتعلق صلاة المأموم بصلاة الإِمام، أو لعله كان في النفل. وتعلقوا أيضًا بما روي عن عمر رضي الله عنه أنه صلى بالناس صلاة الفجر فسمع صوتًا حدث من خلفه، فلما فرغ قال عزمت على من أحدث أن يتوضأ ويعيد. فلم يقم أحد فقال جرير بن عبد الله البجلي: رأيت يا أمير إن توضأنا كلنا وأعدنا الصلاة. فقال عمر لم تزل مد كنت سيدا في الجاهلية
__________
(1) أخرجه البخاري. الفتح ج 2 ص 318 ومسلم وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة: الجامع ج 2 ص 388.
(2) هكذا في جميع النسخ. ولعل الصواب يبني.
(3) رواه مسلم: إكمال الإكمال ج 2 ص 200.
(4) أنه علم -و-.
(5) أخرجه البخاري: جامع الأصول ج 5 ص 734.
(6) رواه البخاري وأبو داود والنسائي والبيهقي. الهداية ج 3 ص 187.

(1/583)


فقيهًا في الإِسلام. ففعلوا كذلك. وأجيبوا عن هذا بأنه لم يذكر أن عمر أمّ بهم ثانية. بل الظاهر أنه لم يفعل لأنه كان لا يرى بعد صلاة الفجر التنفل حتى تطلع الشمس. مع أنه يعارض بقول كثير بن أفلح قدمت المدينة ولم أكن صليت الظهر فدخلت المسجد وهم يصلون فصليت معهم الظهر. فلما فرغوا علمت أنهم كانوا في العصر، فقمت فصليت الظهر ثم صليت العصر ثم سألت عن ذلك أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وكلهم أفتوا بما صنعت. واحتجوا من جهة المعنى بأن صلاة الجماعة إنما شرعت للبعد عن الغفلة والسهو بما يلتزم من مراقبة فعل الإِمام، والسهو بعيد عن الجماعة مع ما في الاجتماع والتكاثر على الفعل من تعظيمه في النفوس وإثارة الخشية والخضوع فيها. وهذا إنما يحصل بالمطابقة على الأفعال الظاهرة. وأما النيات فلا يطلع عليها إلا الله فيقدر المتابعة فيها مع أن النية تكون عند الإحرام. والمتابعة والاقتداء أمر يحدث بعد ذلك. فلم يكن للنية فيه مدخل. وأجيبوا عن هذا بأن صفة الصلاة لا تتميز عن الصلاة. فإذا وجبت المشاركة في الأصل وتقدير الاتحاد فيه وجب ذلك في صفته (1) التي لا تتميز عنه.

والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: إنما استثنى صلاة المتنفل خلف المفترض لما كنا أشرنا إليه من أن الاقتداء إنما يحصل متى أمكن الإِمام أن يبني على إحرامه صلاة المأموم. ومن أحرم بالظهر لا يمكن أن يبني على إحرامه صلاة العصر. ومن أحرم بالنفل لا يمكن أن يبني على إحرامه صلاة الفرض.
فأما من أحرم بالفرض فيمكنه أن يبني عليه صلاة النفل كمن أحرم بظهر فرض ثم علم أنه صلاها فإنه يفعل الذي يفعل من هذه الصلاة بعد ذكره بنية النفل. فلما أمكن ن يبني فعل النفل على إحرام الفرض صحت إمامة المتنفل بالمفترض. ولما لم يكن أن يبني فعل الفرض على إحرام النفل لم تصح صلاة المفترض خلف المتنفل. وقد تردد (2) بعض أصحابنا في جواز صلاة ناذر ركعتين
__________
(1) صفة لا تتميز -ح-.
(2) توقف -و-.

(1/584)


خلف متنفل بهمالك ون النذر أخفض رتبة من الفرض وللنظر فيما قال مجال.

قال القاضي رحمه الله: ومن أحرم بصلاة الصبح رفع (1) يديه حذو منكبيه. والإمام (2) والمنفرد يعقبان التكبير بقراءة أم القرآن وسورة من الطوال جهرا على ما قدمناه في كلتي الركعتين. والمأموم (3) سنته بعد التكبير الإنصاف والاستماع. ومن لا يحسن أم الكتاب صلى خلف من يحسنها. فإن لم يقدر كبر واعتدل وسبح إن أحسن ثم ركع، ولا يجوز (4) أن يؤم من يحسنها وعليه أن يأتم به. إلا أن لا يصلح للإمامة. ويجوز أن يؤم مثله. ومن فرغ منهم من قراءة أم القرآن أمّن المنفرد والمأموم. والأفضل للإمام الاجتزاء بتأمين المأموم، والاختيار إخفاء التأمين. وإذا فرغ من القراءة كبروا للركوع (5) واعتدلوا فيه ورفع جميعهم منه.

قال الفقيه الإِمام رضي الله عنه: جميع ما اشتمل هذا الفصل عليه قد مضى القول فيه مستوعبًا في مواضعه؛ لأنا قدمنا الكلام على رفع اليدين وجميع ما يتعلق به ونفينا التوجه الفاصل بين التكبير والقراءة. وذكرنا مقدار القراءة، وذكرنا حكم الأمي وحكم التأمين. وقول القاضي أبي محمَّد ها هنا في الأمي: ولا يجزيه أن يؤم من يحسنها قدمنا الكلام عليه لما ذكرنا اضطراب المذهب في صحة صلاة الأمي مع وجود القارئ. فمن اختار أن يقف على قولنا في هذه الفصول فله طلبه في مواضعه المتقدمة يجد فيه قولًا شافيا.

قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله تعالى: فأما الإِمام فيقول (6): إذا رفع رأسه سمع الله لمن حمده ولا يقول ربنا ولك الحمد. والمأموم لا يقول سمع
__________
(1) يرفع -الغاني-.
(2) فالإمام -غ-.
(3) وأما المأموم -غ-.
(4) ولا يجزيه -الغاني- ح - و -.
(5) كبروا والركوع -الغاني-.
(6) من قول القاضي عبد الوهاب وأما الإِمام فيقول إلى وروى عنه اللهم ربنا ولك الحمد قبيل السؤال الخامس = ساقط من نسخة - ح.

(1/585)


الله لمن حمده ويقول اللهم ربنا ولك الحمد. والمنفرد يجمع الأمرين ثم يكبر للسجود ويجلس منه، ثم يسجد الثانية. وإذا أهوى (1) للسجود فإن شاء وضع يديه قبل ركبتيه أو ركبتيه قبل يديه إلا أن وضع اليدين ابتداء أحسن. وينهض من السجود قائمًا لا يقعد. ثم يقوم إلا أن يضطر إلى (2) ذلك، لمرض أو ضعف.
ويفعل في الثانية من القراءة مثل ما فعل (3) في الأولى. إلا أنه يقنت إن شاء قبل الركوع، وإن شاء بعده. واختاره مالك رحمه الله قبله من غير تضييق.

قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل سبعة أسئلة منها أن يقال:
1 - ما معنى سمع الله لمن حمده؟.
2 - وهل يقتصر الإِمام عليه أم لا؟.
3 - وهل يقتصر المأموم على ربنا ولك الحمد أم لا؟.
4 - وما المختار من لفظ المأموم عندنا؟.
5 - ولمَ جمع اللفظتين المنفرد؟.
6 - ولمَ اختار في السجود البداية بوضع اليدين؟.
7 - ولمَ نهي القائم من السجود عن القعود؟.

والجواب عن السؤال الأول: أن يقال: اختلف في معنى قول المصلي سمع الله لمن حمده. قال بعض أصحابنا معناه الدعاء. وكأن هذا القائل يشير إلى أن المراد به الدعاء بقبول التحميد. وقال بعض الأشياخ المراد به الحث على التحميد وإليه مال بعض الحذاق من غير أصحابنا.

والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: المشهور من المذهب عندنا اقتصار الإِمام على القول: سمع الله لمن حمده. وقال ابن نافع وعيسى ابن دينار بل يضيف إليه ما يقول المأموم: اللهم ربنا ولك الحمد، وبه قال الشافعي. فحجة القول المشهور عندنا قوله عليه السلام في الإِمام وإذا قال سمع
__________
(1) فإذا هوى -الغاني-.
(2) لذلك -و-.
(3) يفعل -الغاني-.

(1/586)


الله لمن حمده فقدلوا ربنا ولك الحمد (1). وهذا يقتضي اقتصار الإِمام على القول: سمع الله لمن حمده. لأنه خص كل واحد من الإِمام والمأموم بقول ما.
فلو كان كل واحد منهما يقول ما يقوله صاحبه لم يكن لهذا التخصيص فائدة. وهذا نحو ما قلناه في نفي التأمين من أن قوله إذا قال: ولا الضالين فقدلوا آمين، يقتضي اقتصار الإِمام على ذلك، وأنه لا يؤمّن. وقد قدمنا ما قيل في ذلك. ولأن معنى سمع الله لمن حمده: الحث على التحميد، فيجب أن يكون الإِمام مختصًا بالحث على ذلك والمأموم مختصًا بالمجاوبة له (2) عما حث عليه بأن يقول: اللهم ربنا ولك الحمد. ويكونان في ذلك كالداعي والمؤمّن. ووجه القول من أن الإِمام يجمعهما ما روي أنه - صلى الله عليه وسلم -: كان يقولهما (3) وانفصل عن هذا بأنه يحتمل أن يكون ذلك كان في صلاة انفرد بها - صلى الله عليه وسلم -.

والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: يقتصر المأموم في المشهور من المذهب عندنا على القول: اللهم ربنا ولك الحمد. وقال ابن نافع وعيسى بل يجمع بين ذلك وبين القول: سمع الله لمن حمده. وبه قال الشافعي. وقال الثوري وأحمد ومحمد وأبو يوسف يجمع بينهما الإِمام ولا يجمع بينهما المأموم. فخرج من مجموع ذلك: أن الشافعي يرى أنهما يجمعان بينهما.
ومالك وأبو حنيفة لا يريان لهما الجمع بينهما. والثوري ومن ذكرنا معه يرون الجمع بينهما للإمام دون المأموم. ودليلنا ما قدمناه من الحديث والمعنى. فلا معنى للإعادة.

والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: اختلفت الرواية عن مالك. فروي عنه أن المختار أن يقول المأموم اللهم ربنا ولك الحمد. فكأنه اختار هذا لأنه كان أعم فائدة. وتنزل تنزيل كلمتين تقديرهما اللهم استجيب لنا ولك الحمد.
وروي (4) عنه: اللهم ربنا لك الحمد بحذف الواو. وقد اختلفت الأحاديث
__________
(1) أخرجه البخاري. فتح الباري ج 2 ص 320.
(2) مختصًا به له على ما حث عليه -ق- ولا معنى له.
(3) أخرجه البخاري ومسلم: نصب الراية ج 1 ص 376.
(4) من هنا اتصلت نسخة -ح-.

(1/587)


ففي بعضها اللهم ربنا ولك الحمد وفي بعضها اللهم ربنا لك الحمد.
والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: أما المنفرد فيجمع بين اللفظتين: سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد. ورأيت بعض أصحاب أبي حنيفة ذكر أنه قد روي عن أبي حنيفة أن المنفرد لا يجمع بينهما، وكأنه قدر أن القول: سمع الله لمن حمده حث على التحميد، والحاث على ذلك لا يؤمر بأن يجاوب نفسه. ونحن لما رأينا أن المنفرد لا مجاوب له أمرناه بأن يجاوب (1) نفسه. ولهذا المعنى جمع المنفرد بين اللفظتين بخلاف المأموم.

والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: اختلف في المختار لمن أهوى بالسجود هل يبدأ بوضع يديه أولًا أو ركبتيه؟ فروي عن مالك أنه لم يحد في ذلك حدًا. وروي عنه أن المختار أن يبدأ بوضع يديه. وعند أبي حنيفة والشافعي المختار البداية بركبتيه. فدليلنا حديث أبي هريرة لا يبرك أحدكم كما يبرك البعير وليضع يديه قبل ركبتيه (2). واستدل المخالف بحديث أبي وائل أنه عليه السلام كان إذا أهوى للسجود وضع ركبتيه قبل يديه فإذا نهض رفع ركبتيه قبل يديه (3). ويقول سعد كنا نضع أيدينا قبل ركبنا (4) فنهينا عن ذلك وأمرنا أن نضع ركبنا قبل.

والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: اختلف الناس في رافع رأسه في سجود ركعة وتر. فقال مالك وأبو حنيفة لا يؤمر بجلوس قبل قيامه. بل يستوي قائمًا من غير جلوس. وقال الشافعي بل يجلس جلسة خفيفة. ودليلنا حديث وائل بن حجر أنه عليه السلام كان إذا رفع رأسه من السجود يستوي قائمًا (5).
__________
(1) يجاوب عن نفسه -و-.
(2) أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي. مختصرًا بي داود ج 1 ص 398.
(3) أخرجه البيهقي. السنن ج 2 ص 99.
(4) سنن البيهقي ج 2 ص 100.
(5) في كشف الأستار عن زوائد البزار (1/ 140 - 141) بلفظ ثم انحط ساجدًا بمثل ذلك ثم رفع رأسه بالتكبير بيديه إلى أن حاذتا بشحمة أذنيه قالما الهيثمي وفيه محمَّد بن حجر قال البخاري فيه بعض النظر وقال الذهبي له مناكير. مجمع الزوائد ج 2 ص 138.

(1/588)


ولأنه لو كان الجلوس مسنونًا لسن فيه ذكر كالتشهد في الجلستين. ولا ينقض هذا بالجلسة بين السجدتين؛ لأنها ليست بمسنونة على القول الذي قدمناه عندنا. ولا نسلم أن التكبير ذكر شرع لهذه الجلسة التي قالوها. واستدل الشافعي بوصف أبي حميد لصلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد ذكر أنه كان يجلس (1).
وأجيب عن هذة بأنه يحتمل أنه يكون ذلك عندما أسن - صلى الله عليه وسلم - وثقل عليه القيام من غير جلوس. أو فعل ذلك في بعض الصلوات لمرض أصابه.

قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله تعالى: ودعاء القنوت على نحو ما ورد في الحديث: "اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونخضع لك ونخنع (2)، اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد، اللهم اهدنا فيمن هديت وعافنا فيمن عافيت وقنا شر ما قضيت إنك تقضي ولا يقضى عليك لا يذل من واليت ولا يعز ما عاديته تباركت وتعاليت". هذه الألفاظ وما يقاربها، وإن كان في نفسمعاجة دعا الله تعالى بها وكل ذلك سر.

قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل خمسة أسئلة. منها أن يقال:
1 - هل للقنوت دعاء مخصوص معين أم لا؟.
2 - وما تصير الألفاظ الغريبة التي وقعت في المستعمل منه؟.
3 - وهل يجوز الدعاء في الصلاة بما شاء على الإطلاق؟.
4 - وما محل الدعاء من الصلاة؟.
5 - ولمَ اختار إخفاءه؟.
__________
(1) الموجود في مسند أحمد ج 5 ص 424 أنه كان لا يجلس وكذلك في البخاري وأبي داود والترمذي حسب ما وجد في جامع الأصول ج 5 ص 415 - 417.
(2) ونستغفرك ونؤمن بك ونتوكل عليك. ونخنع لك ونترك من يكفرك اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد نرجو رحمتك ونخاف عذابك الجد. إن عذابك بالكافرين ملحق اللهم اهدنا الخ. الغاني.

(1/589)


فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: ليس عندنا في القنوت دعاء معين ولا نوقت فيه قولًا ولا مقدارًا من الوقوف. وقد اختلف الناس فيما يختار منه.

فذكر القاضي أبو محمَّد ما في كتابه هذا. وقد روي أن جبريل (1) عليه السلام علم النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا القنوت، وهو: "اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونؤمن بك ونخنع لك ونخلع ونترك من يكفرك اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد نرجو رحمتك ونخاف عذابك الجد إن عذابك بالكافرين ملحق". وقالت الشافعية الدعاء المسنون في القنوت: "اللهم اهدنا فيمن هديت وعافنا فيمن عافيت وتولنا فمين توليت وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا (2) شر ما قضيت إنك تقضي ولا يقضى عليك إنه لا يذل من واليت تباركت ربنا وتعاليت" (3) فما زاد على ذلك فهو حسن. واحتجوا بقول الحسن بن علي رضي الله عنه كلمات علمنيهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ادعو بهن في القنوت: "اللهم اهدنا فيمن هديت وذكر ما قلناه" (4).

والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: قوله نخنع أي نخضع ومعنى قوله نخلع أي نخلع الشركاء والأنداد. ومعنى نحفد أي نبادر وأصل الحفد مداركة الخطو والإسراع فيه. يقال حفد الحادي وراء الإبل إذا أسرع، ودارك خطوه.
ومنه قيل للعبيد والإماء حَفَدة لأنهم يسرعون إذا مشوا للخدمة. قاله ابن قتيبة.
__________
(1) روي في المدونة عن ابن وهب عن معاوية بن صالح عن عبد القاهر عن خالد بن أبي عمران قال: بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو على مضر إذ جاء جبريل فأومأ إليه أن اسكت فسكت فقال يا محمَّد إن الله لم يبعثك سبابًا ولا لعانًا وإنما بعثك رحمة ولم يبعثك عذابًا. ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون ثم علمه هذا القنوت: اللهم إنا نستعينك ... المدونة ج 1 ص 100.
(2) إلى هنا تنتهي النسخة -ح- والاعتماد فيما يلي على النسخة -و- والنسخة -ق-.
(3) رواه أحمد والدارمي وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة. الهداية ج 3 ص 93.
(4) رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم بإسناد صحيح. بلوغ الأماني ج 4 ص 311.

(1/590)


وقال غيره معناه نخدم. يقال حفد العبد يحفد حفدًا إذا خدم. وقال أبو عبيد يقال حفد وأحفد بمعنى. وقال طاووس في قوله تعالى: {بَنِينَ وَحَفَدَةً} (1) أن الحفدة الخدم. وإن كان قد خولف في ذلك. وقال ابن مسعود هم الأَخْتَانُ.
وقال عكرمة هم بنو الرجل، من نفعه منهم. وقال الضحاك هم بنو المرأة من زوجها الأول. ومعنى الجد بكسر الجيم الحق. ومعنى ملحق أي لاحق. يقال ألحقت القوم بمعنى لحقتهم. قال ابن قتيبة هكذا يروى هذا الحرف. ومن قال ملحق بفتح الحاء أراد أن الله يُلحقه إياهم.

والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: مذهب مالك والشافعي جواز الدعاء في الصلاة بما في القرآن من الأدعية وبما ليس فيه منها، خلافًا لأبي حنيفة من قصره الإجازة على ما ورد في القرآن، والأدعية المأثورة. وإن من أصحابه من قال إن دعا بما لا يطلب إلا من الله جاز. وإن دعا بما يطلب من الآدميين بطلت صلاته. وروي ذلك عن الحسن. وروي عنه أيضًا أنه أباح الدعاء في التطوع وكرهه في المكتوبة. وقال عطاء والنخعي يكره أن يسمي من يدعو له باسمه في صلاته. ولنا قوله تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (2) فهذا على عمومه. وقد دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة بما ليس في القرآن كقوله: "اللهم باعد بيني وبين خطاياي" (3). وقوإنفصلوا عن هذا بأنه يشبه أدعية القرآن إذ ليس فيه تسمية أحد، فيقال لهم قد سمى ناسًا في دعاء آخر. منهم الوليد بن هشام وعياش بن أبي ربيعة. وقد تعلق المخالف بقوله في حديث معاوية بن الحكم إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الآدميين (4). وأجاب بعض أصحابنا عن هذا بأن محمله على الكلام المعهود في المخاطبة. وهو وإن كان إنما قال يرحمك الله فإنا لا نجيز مثل هذا لأنه مخاطبة لإنسان. وقال بعض
__________
(1) سورة النحل، الآية: 72.
(2) سورة غافر، الآية: 60.
(3) رواه البخاري في كتاب الدعوات ومسلم في كتاب المساجد وغيرهما.
(4) رواه مسلم وأبو داود والنسائي والدارمي عن معاوية بن الحكم السلمي إرواء الغيل ج 2 ص 112.

(1/591)


أصحابنا إن قال يا فلان يرحمك الله فإنه كالمتكلم لما افتتح دعاءه بالنداء لإنسان.

والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: الدعاء في الصلاة جائز إلا في ثلاثة مواضع: عَقِيب الإحرام قبل أن يقرأ. وعقيب الجلوس قبل أن يتشهد.
وفي الركوع. وقد قدمنا أن ابن شعبان حكى عن مالك الفصل بين الإحرام والقراءة بالتسبيح الذي حكيناه. قال بعض أشياخي ويتخرج عليه جواز الدعاء.
ومال إليه لقول أبي هريرة رضي الله عنه يا رسول الله ما تقول في إسكاتتك هذه. فذكر له الدعاء الذي يقوله حينئذ (1). وقال أيضًا شيخنا هذا: لا يكون الدعاء في الركوع ممنوعًا لما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم اغفر لي يتأول القرآن (2). ووقفت لأبي مصعب على جواز الدعاء في الركوع. واستحبت الشافعية أن يقول بين السجدتين: اللهم اغفر لي وارحمني وارفعني واجبرني وارزقني واهدني للسبيل الأقوم وعافني.
وليس عندنا ولا عند أبي حنيفة فيه ذكر مسنون. واحتجت الشافعية بما روى ابن عباس أنه كان - صلى الله عليه وسلم - يقول: إذا رفع رأسه من السجود: اللهم اغفر لي وذكر الحديث إلى قوله واهدني. وزادت أم سلمة للسبيل الأقوم وعافني (3). قالوا ولأنه جلوس يشرع فيه الاستقرار فشُرع فيه ذكر مسنون كجلوس التشهد. ولا يلزم أن يكون الذكر تشهدًا كما لم يلزم أن يكون الذكر المشروع في قيام القنوت قرآنًا.

والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: إنما استحب السر في الدعاء في القنوت وما أضاف إليه لقوله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} (4) وقد
__________
(1) رواه البخاري. فتح الباري ج 2 ص 73.
(2) رواه البخاري ومسلم ولفظ مسلم عن عائشة كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك. اللهم اغفر لي يتأول القرآن. إكمال الإكمال ج 2 ص 201.
(3) سنن البيهقي ج 2 ص 122.
(4) سورة الأعراف، الآية: 55.

(1/592)


أثنى الله تعالى على زكرياء فقال: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} (1). ولأن الخفوت وضعف الصوت يدل على استيلاء الهيبة على النفس فكان أولى أن يستعمل في طلب الحاجات من الله سبحانه. وقد تقدم هذا المعنى فيما سلف.

قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: ثم يركع ويسجد ويجلس على ما بيناه، فإذا (2) فرغ من تشهده سلم الإِمام والمنفرد واحدة، والمأموم اثنتين، ينوي بالأولى التحليل وبالثانية الرد على الإِمام. وإن كان على يساره من سلم (3) عليه نوى الرد عليه. فأما الظهر فليست تفارق الصبح في الأداء إلا في الأسرار.
والاختيار للمأموم أن يقرأ إذا أسر إمامه ويؤمّن الإِمام فيما يسر فيه ويكبر القائم من اثنتين بعد اعتداله في القيام بخلاف التكبير في (4) سائر أفعال الصلاة التي يأتي بها مع الشروع في الفعل. وسنة الجهر في المغرب والعشاء في الركعتين الأوليين منهما *وكل صلاة تزيد على ركعتين فالسنة فيها قراءة سورة مع أم الكتاب في الركعتين الأوليين منها* (5) والاقتصار على أم الكتاب في الأخيرتين.
وعورة الرجل المخاطب بسترها في الصلاة من سرته إلى ركبتيه. وكذلك الأمة. وعورة الحرة جميع بدنها إلا الوجه والكفين. وتجزيء الصلاة في ثوب واحد. إلا أنه يكره أن يعري كتفيه من رداء، أو ما يقوم مقامه في الجماعة. وله أن يتقي بثوبه الحرَّ والبرد وأذى الأرض. وليس له كفت ثوبه ولا شعره عند الصلاة إلا أن يكون في صنعة صادفته الصلاة عليها فلا يكره له. ويكره له التلثم والاقناع وزيادة الانحناء عن التعديل في الركوع.

قال الشيخ رحمه الله وقدس روحه: قد تقدم الكلام على ما في هذا
__________
(1) سورة مريم، الآية: 3.
(2) وإذا -غ-.
(3) من يسلم عليه - و - ق - الغاني-.
(4) الذي في -و-.
(5) ما بين النجمين انفردت به نسخة الغاني.

(1/593)


الفصل من أحكام السلام وما يقرأ في الركعتين الأوليين والأخريين.
وأحكام العورة مبسوطًا موعبًا في مواضعه. فمن أحب مطالعته فليقف عليه فيما قدمناه. وقد ذكر في هذا الفصل أن الاختيار للمأموم أن يقرأ إذا أسر إمامه. وهذا مما اختلف الناس فيه. والمختار عندنا أن للمأموم أن يقرأ فيما أسر فيه الإِمام. وقال ابن وهب وأشهب لا يقرأ المأموم أصلًا. وبه قال أبو حنيفة.
ودليلنا قول أبي هريرة فانتهى الناس عن القراءة في ماجهر فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1). وهذا يدل على أنهم لم ينتهوا عن القراءة في السر.
ودليل من نفى القراءة في السر قوله عليه السلام في الإِمام: وإذا قرأ فأنصتوا (2) فعم قراءة السر والجهر. وكان ابن عمر لا يقرأ خلف الإِمام، وقال علي رضي الله عنه من قرأ خلف الإِمام مليء فوه ترابًا. وذكر ابن حبيب عن سبعة من الصحابة رضي الله عنهم نفي القراءة في صلاة السر.
وذكر في هذا الفصل أيضًا أن التكبير في القيام من اثنتين يكون بيع الاعتدال. وهذه مسألة اختلف الناس فيها أيضًا. فمذهبنا ما ذكره. وقال الشافعي بل يكون التكبير عند ابتداء القيام قياسًا على تكبير الخفض والرفع *وقد حكى الطبري عن مالك مثل هذا أنه يكبر في حال القيام* (3) وفي الخبر أنه كبر كلما خفض ورفع (4). وهذا يشير لكون التكبير مصاحبًا للفعل.
واحتج لمذهبنا بأن التكبير ينبغي أن يكون في مسألتنا عند كمال الانتصاب قياسًا على تكبيرة الإحرام؛ لأن التكبيرة السابقة للجلسة الأولى إنما كانت لرفع
__________
(1) أخرجه مالك في الموطإ باب ترك القراءة خلف الإِمام فيما يجهر فيه. تنوير الحوالك ج 1 ص 82.
(2) نصب الراية ج 2 ص 14.
(3) ما بين النجمين = ساقطة -ق-.
(4) عن ابن مسعود رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه: الهداية ج 3 ص 11. إرواء الغليل ج 2 ص 35.

(1/594)


الرأس من السجدة والتكبير بعد الجلسة إنما هو للثانية. فيجب أن يكون في مبدإ الثانية، وهي حالة اعتداله وانتصابه. وأكد هذا بعضهم بأن عائشة رضي الله عنها أخبرت أن الصلاة فرضت ركعتين ركعتين فزيد في صلاة الحضر (1). وهذا يشير إلى كون الركعتين الأخريين كصلاة أخرى مزيدة. فينبغي أن يكون الإحرام لها عند تمام الاعتدال وكمال الانتصاب.
وذكر في هذا الفصل أن له أن يتقي بثوبه الحر والبرد وأذى الأرض. وهذا كما قال: لأنه عليه الصلاة والسلام كان يتقي بثوبه حر الأرض وبردها (2).
ولكن قال ابن مسلمة من أصحابنا يكره له أن يسجد على ثوبه الذي هو لابسه لأنه يصير كالساجد على الأرض بغير وجهه. وإنما أبيح السجود على الثوب عندنا لضرورة إتقائه أذى الأرض به. وأما مع الاختيار فيكره السجود على ثياب القطن والكتان. وأجازه ابن مسلمة. ووجه الكراهة ما فيه من الترفه (3).
والصلاة مبناها على التواضع والتذلل لله سبحانه. فقصد الترفه فيها ينافي موضوعها. هذا وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: يا رباح عفر وجهك في الأرض (4). وهذه إشارة منه - صلى الله عليه وسلم - إلى التذلل والخشوع لله سبحانه. وأما ما تنبته الأرض كالحصر فلا كراهة في السجود عليه لأنه خارج عن أبواب الترفه. ولكن كان بعض أشياخي يكره السجود على حصر السامان كما يفعله المترفهون (5). لأن الصلاة عليها المقصود بها الترفه والتعظيم فنهي عنه لذلك.
وذكر في الفصل أنه ليس له كفت ثوبه ولا شعره عند الصلاة وهذا كما قال لنهيه - صلى الله عليه وسلم - المصلي عن فعل ذلك. واستثنى منه ها هنا من كان في صنعة صادفته
__________
(1) أخرجه البخاري. فتح الباري ج 2 ص 9 ومسلم إكمال الإكمال ج 2 ص 345 وغيرهما.
(2) عن أنس بن مالك قال كنا نصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فيضع أحدنا طرف الثوب من شدة الحر في مكان السجود. فتح الباري ج 2 ص 39.
(3) مخافته من الترفيه -ق-.
(4) رواه في كنز العمال وعزاه لابن عساكر بلفظ ترب وجهك ج 8 ص 131.
(5) المتعظمون.

(1/595)


الصلاة عليها. واختار بعض المتأخرين من الأشياخ لهذا أن يزيل تشميره ليأتي بالصلاة على الهيئة الفاضلة.
وكره له في الفصل التلثم والاقناع، وزيادة الانحناء على التعديل في الركوع. وهذا كما قال. وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في صفة ركوعه أنه لو صب على ظهره ماء لاستقر (1). وهذا يشير إلى الاعتدال. والاقناع يكره لخروجه عن الاعتدال. وقد كره ابن عمر تغطية اللحية ورآها من الوجه.
تم كتاب الصلاة الأول
__________
(1) رواه ابن ماجة: السنن ص 872. حديث ضعيف إذ في إسناده طلبة بن زيد وهو منكر الحديث.

(1/596)


باب السهو وما يفسد الصلاة وما يتصل بذلك

قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله تعالى: السهو يقع على وجهين: بنقصان وبزيادة (1). وله سجدتان كثر أم قل (2) كان من أحد الوجهين أو من كليهما.

قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل ثلاثة أسئلة. منها أن يقال:
1 - ما الدليل على صحة تقسيمه للسهو؟.
2 - وما الدليل على الاكتفاء بسجدتين عن جميعه؟.
3 - وما معنى تقييده بقوله كان من أحد الوجهين أو من كليهما؟.

فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: قد جاء الشرع يكون الصلاة على مقادير محدودة فمن أوقع جميع مقاديرها، على ما هي عليه في الشرع، فلا شك في كونه ممتثلا وفي كونه غير مخاطب بسجود أصلًا، إلا أن يسهو عن النية أو عن بعض الأفعال سهوا، بمنع من الاعتداد بالصلاة، فذلك غير مخاطب بالسجود ولا هو مراد بهذا التقسيم. ومن شك في عدد الركعات التي صلى فإنه، وإن خوطب بالسجود فلتقدير (3) نقص أو زيادة على ما نبينه. وذلك لا يخرج عن هذا التقسيم. وإذا ثبت أن الموقع للصلاة على مقاديرها الشرعية غير مخاطب بسجود سهو لم يبق إلا أن يخاطب به من لم يوقعها على هذه المقادير.
وخروجه عنها لا يكون إلا بزيادة فيها أو نقص منها. وهذا يدل على صحة
__________
(1) وزيادة -غ -ق-
(2) قل أو كثر -غ-.
(3) فالتقدير -ق-.

(1/597)


تقسيمه. وقد ذكر عن علقمة (1) والأسود أنه لا سجود في سهو الزيادة ويرد عليهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر خمسًا فسجد (2).

والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: مذهب فقهاء الأمصار الاكتفاء بسجدتين عن جميع ما يسهى عنه وإن كثر مما فيه السجود. وقالت طائفة لكل سهو سجدتان. وقال الأوزاعي إن كان من جنس واحد تداخل. وإن كان من جنسين لم يتداخل. وقال ابن أبي حازم وعبد العزيز بن أبي مسلمة إن كان أحدهما محله قبل السلام والآخر بعد السلام سجد قبل السلام لما يختص بما قبل السلام، وبعد السلام لما يختص بما بعد السلام. فدليلنا على تداخله أنه - صلى الله عليه وسلم - سلَّم من اثنتين ثم مشى ثم تكلم (3). وهذا سهو في ثلاثة مواضع مختلفة الأجناس، ومع هذا فإنما سجد سجدتين. وأيضًا فإن سجود السهو إنما أخر عن سببه إلى آخر الصلاة ليكتفى عن جميعه بسجدتين. ولو لم يُكتف بذلك عن جميعه لجُعِل السجود عقيب سببه. وهذا لم يقله أحد. ويستدل *نفاة التداخل بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لكل سهو سجدتان" (4) وأجيبوا عن هذا بأن الخبر لم يثبت. ولو ثبت لحمل على أن المراد به* (5) لكل سهو انفرد سجدتان.
واستدلوا بأن الدم في الحج لا يتداخل مع تعدد أسبابه. فكذلك سجود السهو. وأجاب ابن القصار عن هذا بأن القياس أن يكون الحج كالصلاة في اتحاد الدم. على أنه يفرق بينهما. بأن الدم يجب في الحج عقيب السبب ولا يجب السجود في الصلاة عقيب السبب بل أخر فيها (6) لجواز أن يتكرر فيكتفي عن جميعه بسجود واحد.
والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: إنما نبه القاضي أبو محمَّد بقوله
__________
(1) غير واضحة في -و- نحتمل عائشة وعلقمة.
(2) أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة مختصر سنن ابن أبي داود للمنذري ج 1 ص 465.
(3) أخرجه الستة إلا ابن ماجة: جامع الأصول رقم 3764.
(4) ابن أبي شيبة عن ثوبان 4483.
(5) ما بين النجمين = ساقط من -و- مثبت -ق-.
(6) بل أخر وقتها -ق-.

(1/598)


كان من أحد الوجهين أو من كليهما على ما ذكرناه من الخلاف عن ابن أبي حازم وعبد العزيز ومصيرهما إلى أن يختص كل سهو بسجوده إذا تباين محله. فأشار القاضي أبو محمَّد رحمه الله إلى اختلاف الأجناس أو المحال لا تمنع من تداخله (1) على حسب ما بيناه. فلما كان التداخل فيما تماثل جنسه ومحله أوضح منه في ما اختلف جنسه ومحله نبه عليه حتى يشتمل كلامه على الغامض والواضح.

قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله تعالى: ويؤخر سجوده (2) إلى آخر الصلاة فيؤتى به (3) في النقصان قبل السلام، وفي الزيادة بعده، وفي اجتماعهما يُغلِّب النقصان فيسجد قبل السلام ويكبر لهما في ابتدائهما والرفع منهما ويتشهد للتين بعد السلام ويسلم. وأما اللتان قبل السلام فإن السلام من الصلاة يكفي منهما. وفي التشهد لهما روايتان.

قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل ثلاثة أسئلة. منها أن يقال:
1 - ما وجه تأخير سجود السهو إلى آخر الصلاة؟؟
2 - وما الدليل على افتراق حكم النقص والزيادة فيه؟.
3 - وما الدليل على التكبير والتشهد فيه؟.

الجواب عن السؤال الأول: أن يقال: أما تأخير سجود السهو إلى آخر الصلاة فمعلل بعلتين: إحداهما: أنه إنما أخر لجواز أن يتكرر السهو فيكتفي فيه وإن كثر بسجدتين ولو أوقع عند سببه لوجب أن يسجد بسهو آخر ويفعل ذلك في ثان وثالث. وهذا لم يصر إليه أحد. والثانية أن الأصل أن يعوض ما سهى عنه بمثله ويفعل عند الذكر له. وحالة الذكر إذا كانت في أثناء الصلاة لا يصح أن يفعل فيها ما ترك سهوًا، أو يفعل العوض منه؛ لأن ذلك المكان قد استحق فعلًا آخر من أفعال الصلاة بأصل الشرع. فإذا تزاحم هو والمتروك على
__________
(1) لا يمنع من التداخل -ق-.
(2) سجودهما - و - ق -.
(3) بهما -الغاني-.

(1/599)


المحل (1) كان أحق به لاستحقاقه إياه في أصل الشرع. فمن رأى أن سجود السهو بعد السلام لم يعترض في تعليله بهذا. ومن رآه قبل السلام قد يعترض بأنه يفعل في محل قد استحق فعلًا آخر من الصلاة. والانفصال عند هؤلاء عن هذا الاعتراض بأن أفعال الصلاة قد تصرمت ولم يبق منها إلا التسليم. والتسليم لا يتعين وقته بل له تأخيره. فصار إيقاع سجود السهو في محل لا يستحق فعلًا آخر يزاحمه سجود السهو عليه. فافترق حال ما قبل السلام من حال ما سواه من أثناء الصلاة.

والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: اختلف الناس في محل سجود السهو.
فذهب علي وابن مسعود وسعد بن أبي وقاص وعمار ابن ياسر وأنس بن مالك وابن عباس وابن الزبير إلى أنه بعد السلام. وبه قال من الفقهاء الحسن البصري وابن صالح والنخعي وابن أبي ليلى والثوري وأبو حنيفة. وذهب أبو هريرة وأبو سعيد الخدري إلى أنه قيل السلام. وبه قال الشافعي والزهري وربيعة والأوزاعي والليث بن سعد. وذهب مالك رضي الله عنه إلى أنه إن كان عوضًا عن نقص كان قبل السلام وإن كان لأجل زياده كان بعد السلام. وبه قال إسحاق وأبو ثور والشافعي في القديم. وذهب ابن حنبل وغيره إلى اتباع ظواهر الآثار. وما لم يرد فيه أثر فالسجود فيه قبل السلام. فالسجود عنده في ترك الجلسة الأولى قبل السلام على حديث ابن بجينة (2) وإذا شك فرجع إلى اليقين فالسجود قبل السلام على حديث أبي سعيد الخدري (3) فإذا شك فكان ممن يرجع إلى التحري.
فالسجود بعد السلام على حديث ابن مسعود (4). وإذا سلم من اثنتين فالسجود بعد السلام على حديث أبي هريرة (5). وذهب داود إلى اتباع الآثار على حسب ما ورد. ومن أصله نفي القياس، فنفى السجود فيما سوى ما وردت به الآثار.
__________
(1) على هذا المحل -ق-.
(2) رواه مالك في الموطإ: تنوير الحوالك ج 1 ص 90. والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي. الجامع ج 5 ص 531.
(3) أخرجه مسلم ومالك والترمذي والنسائي. جامع الأصول ج 5 ص 376.
(4) رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي جامع الأصول ج 5 ص 376.
(5) رواه مالك في الموطإ. تنوير الحوالك ج 1 ص 88.

(1/600)


وأشار بعض العلماء إلى التخيير في محله. وقد قال مالك رضي الله عنه: ما كان الناس يحتاطون في سجود السهو قبل ولا بعد. وكان ذلك عندهم سهلًا. ومدار هذه المذاهب على اختلاف الطرق في بناء الأحاديث المختلفة الظواهر الواردة في السهو. فقد خرج الصحيحان في حديث ابن بجينة لما قام النبي - صلى الله عليه وسلم - من اثنتين أنه سجد قبل السلام. وخرجا في حديث ذي اليدين لما سلم من اثنتين أنه صلى ركعتين ثم سلم ثم سجد سجدتين. وخرجا في حديث ابن مسعود أنه عليه السلام لما صلى الظهر خمسًا سجد سجدتين بعد السلام. فهذه أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - قد اختلفت كما ترى. وقد اختلفت ظواهر أقواله - صلى الله عليه وسلم - في حديث الشك وسنوردها عليك إن شاء الله فيما بعد. فأما داود فلما كان من نفاة القياس أخذ بكل حديث على ما وقع فيه وأنكر ما خرج عنه ولم يستعمل البناء في الأحاديث لجواز ورود التعبد بحسب ما وردت فيه من الاختلاف. وأما ابن حنبل. فلم يستعمل البناء فيها لأجل ما اعتللنا به لداود ولكنه استعمل القياس فيما سواها.
وتمسك فيه بالمعنى. وصار إلى كونه قبل السلام لما سنورده عليك في احتجاج القائلين بأن السجود كله قبل السلام. وأما من أشار إلى التخيير فإنه قد تعذر البناء عليه ولم يجد سبيلًا إلى طرح جميع الأحاديث فاستعملها على جهة التخيير. وأما من قال: السجود كله قبل السلام فإنه يتأول ما ورد من الأحاديث بأنه بعد السلام على ثلاثة أوجه: أحدها أن يقدر أن المراد بالسلام، السلام على النبي - صلى الله عليه وسلم -: السلام (1) المذكور عند التشهد. أو يحمل ما وقع من سجوده عليه السلام بعد السلام على أنه نسي أن يوقعه قبل السلام فأوقعه بعده. أو يحمله على أنه كان ثم نسخ. ويعضده بقول ابن شهاب كان آخر الأمرين السجود قبل السلام. وهذا إشارة إلى أنه كان بعد ثم نسخ. وأما من قال السجود كله بعد السلام فإنه يتأول ما وقع من الأحاديث بأنه قبل السلام على أحد وجهين. إما أن يريد أن السجود قبل التسليمة الثانية وإما أن يريد السجود قبل التسليم منه. وأشار بعضهم إلى تأويل ثالث وهو أن المراد بالسجدتين السجدتان اللتان من نفس
__________
(1) السلام = ساقطة -ق-.

(1/601)


الصلاة. فهذه جملة تأويلات هؤلاء، وهؤلاء (1).
وإنما يبقى النظر في أحد أمرين هل البناء غير واجب فيكون الأمر كما قاله من أَتبع الأحاديث على حسب ما وقعت. أو البناء واجب، فينظر في تأويل الفئتين فترجح طريقة من كان أقرب منهم استمساكًا بالظواهر. وقد دافعت كل طائفة الأخرى عن تأويلها. فقيل أما التسليمة الثانية فلا يسلمها، وإذا لم يسلمها لم يصح البناء عليها. وأيضًا فإن في بعض طرق ابن بجينة فانتظرنا تسليمه (2).
والتسليمة الثانية لا تنتظر. وكذلك حمل القول بأنه سجد قبل السلام على أن المراد به قبل التسليم من سجود السهو، فيه بُعْد عن مقتضى اللفظ وخروج به عما يفهم عنه. وكذلك تأويل السجدتين على اللتين من نفس الصلاة تأويل بعيد وتعسف شديد. وكذلك تأويل السلام على السلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - خروج عن الظاهر. وأيضًا فإنه قال تشهد. ثم سلم. والتشهد بعد السلام على النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وتقدير سهوه عليه الصلاة والسلام عن إيقاع السجود للسهو قَبْلُ بعيد؛ لأن السهو منه نادر. ولما استشعر مالك رضي الله عنه بعد هذه التأويلات وبناء الفريقين وكون كل واحدة من الطائفتين ترد مذهمه ظواهر ألفاظ أحاديث الطائفة الأخرى، استعمل في البناء طريقة ثالثة لا يردها ظاهر لفظ. فأثبت سجود السهو قبل السلام تارة لأن حديث ابن بُجينة تضمن نقصًا فجعل سجود النقص قبل السلام. ورأى حديث ابن مسعود في زيادة الخامسة تضمن زيادة فأثبت سجود الزيادة بعد السلام. وأما مذهبه في سجود الشاك فسنتكلم عليه إن شاء الله تعالى. وقد تمسك فقهاء الأمصار بطريقة المعنى فيقول من رأى السجود قبل السلام أن الأصل أن يوقع عقيب سببه. وإنما أخر لما قلناه من العلل. والعلل التي ذكرناها ترتفع قبل السلام، فوجب أن تفعل عنده ولا تؤخر عنه. وتمسك
__________
(1) هؤلاء الثانية = ساقطة -ق-.
(2) رواه في المسند عبد الله عن أحمد قراءة عن عبد الرحمان بن مالك عن ابن شهاب عن عبد الرحمان الأعرج عن عبد الله بن بجينة أنه قال: صلى لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركعتين ثم قام فلم يجلس فقام الناس معه. فلما قضى صلاته ونظرنا تسليمه كبر فسجد سجدتين وهو جالس قبل التسليم ثم سلم كما رواه من طريق عبد الرزاق وابن بكر قالا: ثنا عن ابن جريج أخبرني ابن شهاب ... الخ مسند أحمد ج 5 ص 345 - 346.

(1/602)


من قال: بأنه بعد السلام بأنه زيادة على المقادير المقدرة في الصلاة فرسمه (1) أن يفعل عنده ولا تؤخر عنه و"تمسك" (2) ويكون خارجًا عنها صيانة للصلاة عن الزيادة في مقاديرها. وتمسك من فرق بين النقص والزيادة بأن سجود النقصان جبر. وجبران الشيء لا يكون إلا في نفسه وقبل تقضيه. وسجود الزيادة ترغيم وليس بجبران (3) الناقص. فوجب أن يكون بعده. هذه النكت التي دارت عليها جملة المذاهب لفظا ومعنى.
وإذا اجتمع النقص والزيادة غلّب مالك حكم النقص إذ السجود بعد السلام ترغيم للشيطان ولا يرغم الشيطان بصلاة ناقصة. وقد قدمنا مذهب عبد العزيز في هذا.

والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: اختلف قول مالك في الإحرام لسجود السهود *الذي بعد السلام* (4) فنفاه مرة وأثبته أخرى. واختلف قوله في التشهد لما قبل السلام من سجود السهو فأثبته مرة لأن من سنة السلام أن لا يقع إلا بعد تشهد. ونفاه مرة أخرى لئلا يتشهد في الرابعة مرتين. وقد اختلف الناس في التشهد والسلام في سجود السهو الذي محله بعد السلام من الصلاة. فمذهبنا إثباتهما. وذهب الحسن إلى نفيهما. وروي ذلك عن أنس بن مالك رضي الله عنه. وذهب النخعي إلى إثبات التشهد دون السلام.
وذهب عطاء إلى التخيير في ذلك إن شاء فعل التشهد والسلام وإن شاء لم يفعلهما. وفي المدونة لابن القاسم إذا انتقض وضوؤه قبل أن يسلم منهما إن لم يعدهما اكتفى بهما. وقيل لا يكتفي بهما.
واختلف القول عندنا في الإحرام لهما إذ لم يوقعهما بعد السلام وأوقعهما بعد أن طال انفصاله من الصلاة. ولو كانتا قبل السلام فنسيهما لأحرم لهما إذ لا يرجع لإصلاح ما انتقض من الصلاة إلا بإحرام. وقد اختلف الرواة في حديث
__________
(1) فوجب -ق-.
(2) هكذا في - و - ق - والظاهر أنها مقحمة.
(3) لما نقص -ق-
(4) ما بين النجمين = ساقط -ق-.

(1/603)


ذي اليدين: فبعضهم ذكر السلام وبعضهم لم يذكره (1). وهذا سبب اضطراب الناس. وكذلك لم يذكر في حديث ابن بجينة التشهد لهما.

قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله تعالى: وإن سها عنهما سجد للتين بعد السلام متى ما ذكر (2). وأما اللتان قبله فيسجدهما ما لم يطل أو ينتقض وضؤوه فإن (3) كان ذلك أعاد الصلاة.
قال الفقيه الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل خمسة أسئلة. منها أن يقال:
1 - هل سجود السهو واجب أو سنة؟.
2 - وما حكم من أخر سجود السهو الذي قبل السلام؟.
3 - وأين يسجده (4) إذا ذكره؟.
4 - وما حكمه إذا ذكره وهو في الصلاة؟.
5 - وما حكم من قدم ما بعد السلام (5) إلى ما قبل السلام؟.

الجواب عن السؤال الأول: أن يقال: اختلف الناس في سجود السهو، فذهب أبو حنيفة إلى أنه واجب وذهب الشافعي إلى أنه سنة، وقد قدمنا قول القاضي أبي محمَّد في هذا الكتاب أنه يتنوع إلى واجب، وسنة. ومعنى ما أشار إليه من هذا التنوع أن ما كان منه بعد السلام فهو سنة وما كان قبله (6) فهو واجب على قولنا: إن تأخير ما قبل السلام إلى ما بعد الصلاة تأخيرًا طويلًا يفسد الصلاة. وسنتكلم في جواب السؤال الثاني على اختلاف المذهب في هذا *عندنا. وثبوت الوجوب أو سقوطه مخرج على ما نذكره من الخلاف في هذا* (7)
__________
(1) لم يذكره = ساقطة -و-.
(2) ما = ساقطة - غ - ق -.
(3) وإن كان -الغاني-.
(4) يسجد -ق-.
(5) الصلاة -ق-.
(6) وما كان منه قبل السلام -ق-.
(7) ما بين النجمين = ساقط -و-.

(1/604)


فحجة الوجوب قوله عليه السلام في حديث ابن مسعود فليتحر به الصواب وليتم ما عليه وليسجد سجدتين (1). وهذا أمر والأمر على الوجوب عند جماعة من أهل الأصول. واستدل بعض الموجبين بجبران الحج. وأجيبوا عنه بأن جبران الحج عوض عن واجب وسجود السهو عوض عن غير واجب. بهذا انفصل بعض أصحاب الشافعي عن القياس على الحج. ولعلنا نحن إن شاء الله نحقق القول في كتاب الحج على هذا الموضع. وحجة من أنكر الوجوب قوله في حديث أبي سعيد كانت الركعة نافلة له والسجدتان (2). فقد صرح بكونهما نافلة. وقال أيضًا والسجدتان ترغمان الشيطان (2). وترغيم الشيطان ليس بواجب. أصله الحوقلة. ولأن الجبران يجب أن يكون بحسب المجبور وحكمه حكمه. لأنه كالتابع له. فلما كان سجود السهو إنما يفعل عوضًا عن ترك سنة لا عن ترك واجب وجب أن يكون السجود في نفسه سنة لا واجبًا.
والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: قد تقرر من مذهبنا أن سجود السهو إذا كان بعد السلام فإن الصلاة تصح، وإن طال الفصل بينه وبين الصلاة.
فأما الذي قبل السلام فاختلف المذهب إذا آخره عن الصلاة حتى طال الفصل بينهما. فروي عن مالك أن الصلاة تفسد من غير اعتبار بالمتروك الذي كان السجود عوضًا عنه. وروي عنه أن الصلاة إنما تفسد إذا كانت عوضًا عن بعض الأفعال. ولم يعتبر الأفعال على الإطلاق ولا اعتبر شيئًا من الأقوال. وقال في المختصر إنما تبطل الصلاة إذا كانت عوضًا عن الجلسة الأولى أو أم القرآن من ركعة. وما سوى هذين فلا يؤثر في بطلانها. وأوجب ابن القاسم الإعادة في أحد قوليه إذا كانت عوضًا عن ثلاث تكبيرات. أو عن القول سمع الله لمن حمده ثلاث مرات. وقال محمَّد بن عبد الحكم لا إعادة، وإن كانت عوضًا عن الجلسة الأولى، أو ترك القراءة في ركعة. وهذا القول حكم بصحة الصلاة مع المتروك على الإطلاق بعكس القول الأول الذي ذكرنا فيه بطلان الصلاة على الإطلاق من غير اعتبار بالمتروك. ولم أقف على خلاف في المذهب.
__________
(1) أخرجه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجة. نصب الراية ج 2 ص 167.
(2) ابن أبي شيبة عن أبي سعيد الخدري 4403.

(1/605)


أما ما كان منها قبل السلام فأوقعه بعد (1) السلام، إن الصلاة لا تبطل.
وقال أبو حنيفة إن تكلم عامدًا قبل أن يسجد لسهوه بطلت صلاته. وأصله أن سجود السهو كله بعد السلام كما قدمناه. وقد اختلف هو وصاحبه محمَّد بن الحسن في تسليم الصلاة الذي يؤمر المصلي بعده بسجود السهو هل يخرج هذا التسليم من الصلاة أم لا؟ فذهب أبو حنيفة إلى أنه يخرج من الصلاة ويحلل منها حكمًا، وينفصل منها المصلي ثم ينفصل بعد ذلك بالسجود؛ لأن السجود جبران. وجبران الشيء بعد إكماله، ويعود في حكم المتصل به. وقال محمَّد بن الحسن لا يخرج التسليم من الصلاة ولا يحلل منها لأن تسليم التحليل لا يؤمر بعده بصلاة هي من الأولى. وعندي أن بطلان الصلاة بالكلام على أصل محمَّد بن الحسن أوضح. وقال الحسن وابن سيرين إذا صرف وجهه لم يسجد.
وقال الحكم وابن شبرمة إذا خرج من المسجد أعاد الصلاة. وقال أبو ثور إن كانتا (2) للنقصان فتعمد وسلم وهما عليه أعاد الصلاة. وإن كانتا للزيادة سلم (3) وسجد سجدتي السهو. وقال أحمد ما كان منه من الصلاة إن تركه عامدًا بطلت صلاته. وإن كان ساهيا أتى به ما لم يتطاول الفصل. فإن تطاول الفصل لم يأت به. وإن لم يذكر سجود السهو قبل السلام ولم يقل بإبطال الصلاة مع طول الانفصال. فظاهر مذهب من قال بذلك من أصحابنا عندي أن يسجد متى ما ذكر. واختلف قول الشافعي. فقال مرة إنه يسجد وإن طال الفصل كجبران الحج فإنه يوقع وإن طال الفصل *وقال مرة أخرى لا سجود عليه إذا طال الفصل* (4) لأن سجود السهو مبني على الصلاة. ومقدر كالجزء منها. ومع الطول يمتنع البناء. وجبران الحج ليس مبنيًا عليه فيفتقر للاتصال. وسبب ما قدمناه من الاضطراب في مذهبنا في تأخير سجود السهو الذي قبل السلام: أن
__________
(1) عقيب -ق-.
(2) إن كان -و-.
(3) سلم = ساقطة -ق-.
(4) ما بين النجمين = ساقط -ق-.

(1/606)


من اعتبره بحال ما هو (1) عوض عنه لم يبطل الصلاة لأنه عوض عن متروك ليس بواجب. وإلى هذا كان يميل (2) بعض أشياخي المحققين.
ومن أبطل الصلاة به على الإطلاق إذا تطاول الفصل، فإنه ينزله بخلاف منزلة ما هو عوض عنه. ولا يستبعد أن يكون ترك مندوب إليه علمًا على وجوب فعل آخر.
ومن فصل اعتبر تأكيد المتروك وخفته (3). فقد تستخف الأقوال وتنحط رتبتها عن الأفعال لأجل مجيء الشرع يحمل الإِمام بعضها وهي القراءة. وهي من أركان الصلاة. ولم يرد الشرع بحمله فعلًا من الأفعال. ومن قصر الإبطال على ترك الجلسة الأولى وقراءة أم القرآن من ركعة واحدة، قصر التأكيد على هذين خاصة.

والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: من ذكر سجود السهو الذي قبل (4) السلام فإنه يسجد حيث ما ذكره إلا أن يكون عوضًا عن متروك من صلاة الجمعة. فإن ابن المواز قال لا يجزيه إلا أن يكون في الجامع. وكأنه رأى أن الجمعة من شرطها الجامع على الجملة. فكان شرطًا في أجزائها (5). وقد قال ابن شعبان إن الراعف (6) في صلاة الجمعة يتم حيث غسل الدم. فعلى هذا يسجد ذاكر السجود حيث ما ذكر. وكان هذا رأى أن السعي أشد من اعتبار الجامع أو غير ذلك مما سيبسط في باب الرعاف إن شاء الله تعالى.

والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: إذا ذكر سجود السهو الذي قبل السلام وهو في صلاة أخرى فإن ذلك معتبر ومبني على المذاهب التي قدمناها.
فمن رأى أنه لا يبطل الصلاة تأخر الفصل لم يؤثر ذكره في هذه الصلاة، ولكنه يوقعه بعد فراغها. وقد قال ابن القاسم فيمن ذكره (7) من نافلة وهو في نافلة
__________
(1) إن من اعتبر ما هو -ق-.
(2) ميل -ق-.
(3) وحقيقته = ق.
(4) بعد -و-.
(5) إجازتها ق.
(6) في الراعف -ق-.
(7) ذك رنا فلة -ق-.

(1/607)


أخرى قد أط الذيها أنه يستحب له السجود بعد فراغه منها. قال أصبغ ولا يجب ذلك عليه. وأما من حكم ببطلان الصلاة على الإطلاق أو حكم ببطلانها على تفصيل، وكان هذا السجود مما اقتضى تفصيله إبطال الصلاة به، فإنه إن ذكره ولم تطل قراءته في هذه التي هو فيها ولا ركع فيها، فإنه يعود إلى إصلاح الأولى بالسجود، ويقدر هذا الفاصل كالعدم، ما لم يكن سجود السهو من نافلة والذكر في فريضة، فإن هذا لا يقطع الفريضة أصلًا لحرمتها وعلو قدرها على قدر النافلة، فلا يؤمر بإبطال الأعلى بما هو أدنى منه. وإن لم يذكر السجود إلا بعد أن أطال القراءة أو ركع فإنه يكون كذاكر صلاة وهو في صلاة أخرى. وسنتكلم على حكم ذاكر صلاة وهو في صلاة. وقد وقع بين الأشياخ تنازع في ظاهر المدونة فيمن ذكر سجود السهو في فريضة وقد أطال القراءة في فريضة أخرى.
فقال بعضهم يقطع هذه. ولو كانت نافلة لأتمها لأن الفرض الثاني إنما يوقع عند ذهاب وقت الفرض الأول. فلو أمران يصير ما هو فيه من الفرض نفلًا لزاد الأولى تفويتًا. والنفل قد يقع ووقته الأول لم يفت ولو كان تماديه على النفل بفوات وقت الاختيار في الفريضة لقطع (1) كما يقطعه من ذكر (2) وهو فيه قبل أن يركع صلاة فات وقتها. وقد قيل إنما يقطع في الفرض دون النفل لأن الفرض يعود إليه والنفل لا يعود إليه. ولأن الفرض إن تمادى فيه إلى صورة النفل تغيرت نيته الأولى. والنفل لا تتغير نيته فيه. والفرق الأول مال إليه بعض الحذاق. وقال غيره من الأشياخ إنما قال في المدونة تنتقض صلاته ولم يذكر ماذا يفعل. وهذا التنازع أيضًا إنما هو في ظاهر المدونة خاصة وإلا ففي الموازية أنه يقطع في الفريضة كما قال الأولون.

والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: قد قدمنا لمالك أنه أشار إلى أن محل سجود السهو واختصاصه بما قبل السلام أو بما بعد السلام ليس يتأكد. فمن آخر ما قبل السلام إلى ما بعد أجزأته صلاته. ومن قدم ما بعد السلام إلى ما قبل تعمدًا ففي بطلان صلاته اختلاف. فذهب ابن القاسم إلى الأجزاء. وهذا هو
__________
(1) لقطعه -ق-.
(2) من ذكره -ق-.

(1/608)


المستحسن على ما قلناه في نفي تأكيد تعين المحل. وذهب أشهب إلى بطلان الصلاة. وقدره كالزيادة فيها متعمدًا. وإذا (1) لم نقل ببطلان الصلاة فهل يؤمر بإعادته بعد الصلاة ليقع في محله المشروع فيه اختلاف أيضًا.
قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله تعالى: والمتروك بالسهو أربعة أنواع: فريضة وسنة وفضيلة وهيئة، ولا يسجد لشيء من ذلك إلا للسنة وحدها.

قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل سبعة أسئلة. منها أن يقال:
1 - ما الدليل على صحة استيعاب هذا التقسيم؟.
2 - وهل فيه تداخل أم لا؟.
3 - ولِمَ اختص سجود السنن دون ما سواها؟.
4 - وهل تختلف أجناس السنن في هذا أم لا؟.
5 - وهل يعفى عن القليل منها أم لا؟.
6 - وهل كثيرها يفسد الصلاة أم لا؟.
7 - وهل تركها عمدًا كتركها سهوًا؟.

والجواب عن السؤال الأول: أن يقال: الدليل على صحة هذا التقسيم أن المشروع في الصلاة من الأقوال والأفعال، إما أن يأثم بتركه فيكون واجبًا أو لا يأثم بتركه، ويؤجر على فعله فيكون ندبًا. ثم يتأكد الندب فيسمى سنة.
ويضعف فيسمى فضيلة وما سوى ذلك فليس بمشروع لأن المحرم والمكروه والمباح لم يشرع فعله في الصلاة فثبت صحة استيعاب هذا التقسيم.

والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: هذا التقسيم فيه أشكال. وقد يظن به تداخل في التقسيم وذلك أن الهيئة ما كان مباحًا فعله (2). لم (3) يشرع للمصلي ولا أمر به على وجه فإنه غير معدود في المتروكات المشروعات وهو إنما أخذ في تقسيم المتروك المشروع. وإن كانت الهيئة مشروعة ومأمورًا بها
__________
(1) تعمدًا وان -ق-.
(2) إن الهيئة والشكل ما كان منه مباح = ق.
(3) هكذا في النسختين ولعل الصواب: فما لم.

(1/609)


فإن (1) الأمر لا ينفك من أن يكون واجبا أو ندبًا. والهيئة معدودة في جملة الفضائل. وإذا عدت في الفضائل وقع التداخل في هذه القسمة. لكن لما كان رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام وشكل الجلوس في الصلاة أمرًا غير خارج عنها ولا منفصلًا منها. والصلاة راجعة إلى حركات، ولا تنفك الحركات من وقوعها على إحدى الجهات عدها قسمًا غير ما يقع منفصلًا من الصلاة، وتنفك الصلاة منه. ويصح تركه على حياله كالتأمين والقنوت. وقد تقدم للقاضي أبي محمَّد في هذا الكتاب عد الهيئات في الفضائل. لأنه قال وفضائلها سبع وهي رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام. ورفع اليدين من الهيئات. فإذا عد رفع اليدين من الفضائل وهو من الهيئات ثبت أن التحقيق ما قلناه من دخول الهيئات في الفضائل، ولكن العذر عن عدها ها هنا قسما رابعًا ما أشرنا إليه. والمعنى الواحد يختلف تقسيمه باختلاف مواقعه.

والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: قد قدمنا أن المشروع في الصلاة لا ينفك من كونه واجبًا أو ندبًا. والأصل في القضاء الامتثال. فما أفسد أو أتلف فإنما يقضى بمثله. فالفروض إذا تركت تقضى بأمثالها. والمندوب إليه ما ضعفت مرتبته ثم لم يؤثر في نقص كمال الصلاة تأثيرًا يحوج إلى تلافيه فاستغني عن سجود السهو فيه. وما تأكدت مرتبته من المندوبات جاء الشرع بأنها لا تقضى بأمثالها وخرج عن الأصل الذي قلناه. ولما كان تأثيرها في نقص الكمال تأثيرًا متحسسًا إليه تلافى النقص بسجود السهو. فلهذا قصر السجود على ترك المسنون.

والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: لا يختلف جنس السنن عندنا في إيجاب سجود السهو، خلافًا للشافعي في قصره سجود السهو على ترك الأفعال دون الأقوال. ولنا عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لكل سهو سجدتان" (2). وقياس الأقوال على
__________
(1) كان -و-.
(2) أخرجه أبو داود وابن ماجة وقال البيهقي انفرد به إسماعيل بن عياش وليس بالقوي.
نصب الراية ج 2 ص 167.

(1/610)


الأفعال بعلة أن السجود على ترك المسنون إنما شرع تلافيًا لنقص الصلاة.
وانتقاصها يكون بترك الأقوال كما يكون بترك الأفعال. ولم يختلف المذهب عندنا في أن ترك التسبيح في الركوع والسجود لا يوجب سجود السهو (1).
واختلف المذهب في ترك تكبيرات الركوع والسجود. فالمشهور من المذهب إثبات سجود السهو في ذلك. وقال أشهب لا يجب، ويستحب أن يسجد فيه بعد السلام، وصرح بقياس ترك التكبير على التسبيح في نفي إيجاب سجود السهو. ولما رأى السجود في ذلك ليس بواجب، ولكنه مستحب جعل محله بعد السلام لئلا يزيد في الصلاة فعلًا لا يجب فيها. وسلم أن ترك المزيد من تكبيرات إحدى ركعتي العيد يوجب سجود السهو. وهكذا قال أبو حنيفة بقصر سجود السهو على ترك المزيد من تكبيرات العيد دون غيره (2) لما كانت كثيرة يؤتى بها في محل واحد كالتشهد الأول. وقال الشافعي في تارك التكبيرات وتسبيح الركوع والسجود لا يقضيه ولا يسجد له بناء على أصله الذي قدمناه في اختصاص سجود السهو بترك الأفعال. وقال قتادة والأوزاعي يقضيه إذا ذكره. وهذا فاسد لما قدمناه من أن محل الفعل إذا فات لم يقض الفعل بمثله إذا كان مسنونًا، وإنما يُقضى بسجود السهو. وقال الحكم وإسحاق وأبو ثور يسجد للسهو. وقد قدمنا اختصاص سجود السهو بترك السنن دون ترك الفضائل.
وهكذا اختلف الناس فيمن أسر في موضع الجهر أو جهر في موضع السر. فقال الشافعي لا سجود عليه، واحتج له بأن ذلك هيئة لا يقتضي تركه للسجود كوضع اليمين على الشمال. ولم يختلف المذهب عندنا في إثبات السجود في ذلك.
وإن كان وقع لمالك رضي الله عنه فيما روى أشهب عنه فيمن أسر في موضع الجهر أن سجوده بعد السلام، وأصله في النقص أن يكون السجود قبل السلام.
فتأخيره السجود إلى انقضاء الصلاة إشارة إلى ضعف السجود عنده، وتوقى (3) في إثبات السجود قبل السلام من زيادة فعل في الصلاة ليس بواجب. وهذا
__________
(1) سهو -و-.
(2) غيرها -و-.
(3) يرى -ق-.

(1/611)


كنحو ما ذكرناه عن أشهب في استحبابه إيقاع سجود السهو بعد السلام في تارك التكبيرات. وقد حاول بعض الأشياخ أن يخرج في المذهب اختلافًا في الإسرار والإجهار هل يعد ذلك في جملة الهيئات أو لا يعد في جملتها؟ وبنى على هذا اختلاف أصحاب مالك رضي الله هـ تعالى عنه فيمن ترك الإجهار والإسرار تعمدًا هل تبطل صلاته أم لا، وهذا الشيخ وإن سلم له هذا التخريج في عد ذلك هيئة فإنه قد لا ينحو نحو الشافعي في إسقاطه السجود في ذلك لكونه هيئة على ما قدمناه. وقد كنا قدمنا اختلاف المذهب في السجود عند ترك قراءة السورة التي مع أم القرآن. وأشرنا إلى وجه الاختلاف فيه. فمن أحب مطالعته فليقف عليه في باب القراءة.

والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: قد قدمنا أن المندوب إليه يتنوع. فما تأكد منه جُبر بسجود السهو. وما ضعف منه وهو المسمى بالفضيلة لم يسجد فيه للسهو. فاختلف المذهب على هذا الأصل فيمن ترك تكبيرة واحدة هل يسجد للسهو أم لا؟ فمن أثبت السجود فإن التكبيرة الواحدة لحقت بتأكدها بمرتبة السنن فكان في تركها السجود. ومن لم يثبت السجود فيها فإنه يراها لقلتها بالإضافة إلى سائر التكبير لم تتأكد تأكدًا يُلحقها بالسنن التي يجب السجود فيها. وقال في المدونة لا سجود في ترك التكبيرة ونحوها (1) وقال الأشياخ معنى قوله ونحوها القول: سمع الله لمن حمده. وقد وقع في المدونة لفظ آخر يُبعد عندي تأويلهم هذا على مقتضى ظاهره. وهو قوله من نسي سمع الله لمن حمده ذلك خفيف بمنزلة من نسي تكبيرة أو نحوها. وفي المدونة أيضًا فيمن أبدل سمع الله لمن حمده بالتكبير. والتكبير يسمع الله لمن حمده أنه يعود فيفعل ما وجب عليه فإن لم يفعل سجد للسهو قبل السلام. وقد يفهم من إطلاق هذا الظاهر ما كنا حكيناه عن قتادة والأوزاعي من أن تارك التكبير يقضيه بعد فواته؛ لأن هذا إنما ذكر ما أحل به بعد أن رفع رأسه من الركوع. فإذا (2)
__________
(1) والتكبير قال فيه مالك إن نسي تكبيرة واحدة أو نحو ذلك رأيته خفيفا ولم ير عليه شيئًا.
وإن نسي أكثر من ذلك أمره مالك أن يسجد لسهوه. المدونة ج 1 ص 129.
(2) فإذا = ساقطة -و-.

(1/612)


أمر بأن يقول الله أكبر بعد رفعه من الركوع فقد قضى الشيء في غير محله وبعد فواته. ولكن تأول بعض الأشياخ أن المراد بما وقع في المدونة أنه يعود فيقول سمع الله لمن حمده خاصة. فيكون إنما أتى بالتحميد عنده في محله ولم يقض شيئًا بعد فواته. وأكدوا هذا التأويل أيضًا بأنه إذا اقتصر في الإصلاح على التحميد خاصة، صار قوله مرتبًا؛ لأنه لما أعاد التحميد بعد التكبير فقد حصل الترتيب المطلوب في الشرع آخرًا، وإن كان لم يحصل أولًا. وهذا كمن قرأ السورة قبل أم القرآن فإنه إنما يعيد السورة خاصة فيحصل بإعادتها الترتيب آخرًا، الذي أحل به أولًا. وخالف في ذلك بعض الأشياخ فقال يأتي بالتحميد والتكبير؛ لأن التكبير الذي أوقعه قصد به الرفع فلا ينوب له عن تكبير شرع له أن ينوي به الخفض. ولا يحصل الترتيب بإعادة التحميد خاصة لأجل ما قلناه من عدم النية المشروعة في التكبير. ورأيت في بعض (1) التعاليق عن الشيخين أبي القاسم بن الكاتب وأبي عمران أنه إذا عاد لقول ما يجب عليه لم يسجد؛ لأنه إنما يحصل معه زيادة تكبيرة وزيادة التكبير لا سجود فيه. وحكى أبو محمَّد عبد الحق عن بعض أشياخه أنه يسجد بعد السلام. وقال بعضهم إن قلنا أنه يعود فيأتي باللفظتين جميعًا اتضح سجود السهو لأن اللفظتين المطروحتين زيادتان.
وزيادة تكبيرتين يؤمر فيه بسجود السهو. وتردد قوله في السجود على طريقة من قال إنما يأتي بإحدى اللفظتين وأشار إلى بناء ذلك على اختلاف (2) التعليلين. هل أمر بإعادة التحميد خاصة لأنه يعتد بما سبق من التكبير فيكون المزيد التحميد خاصة وذلك لا يقتضي سجود السهو. وإنما أمر بإعادة التحميد خاصة لفوات محل التكبير فيكون قد زاد لفظتين وذلك يقتضي السجود. ونقص التكبير أيضًا يقتضي السجود. واختلف المذهب فيمن أبدل في أحد هذين الموضعين خاصة، فقيل: لا سجود عليه لأن قصارى ما فيه أنه أدخل تكبيرة أو ما في معناها. والإخلال بتكبيرة لا سجود فيه كما قدمناه.
وقيل يسجد قبل السلام لأنه نقص ما كان مأمورًا به أن يقوله فلم يفعل وزاد
__________
(1) فيما علق -ق-.
(2) من بداية هذه الصفحة انقطع تواصل النص بالنسخة.

(1/613)


القول الذي وضعه في غير موضعه، فاجتمع فيه سهوان. فأمر بالسجود لهما بخلاف السهو الواحد الذي هو مجرد ترك تكبيرة.
والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: أما زيادة ركعة في الصلاة الرباعية سهوًا فلم يختلف المذهب في أن الصلاة لا تبطل بها. وقال أبو حنيفة إذا زاد الركعة الخامسة بعد أن جلس في الرابعة مقدار التشهد ولم يذكر حتى سجد فإنه يضيف إليها سادسة وتكون الركعتان نافلة. وإن لم يذكر حتى سجد في الخامسة ولم يكن قعد للرابعة بطلت صلاته. لأنه يرى أن السلام ليس بركن في الصلاة، وإن الخروج من الصلاة يكون بغيره. فإذا جلس مقدار التشهد عدّ خارجًا منها بالنفل. فإن لم يجلس مقدار التشهد فقد خلط النفل بالفرض، فأفسد الفرض. ولا يعذر في هذا السهو وإنما أمره أن يضيف إلى الخامسة سادسة إذا جلس مقدار التشهد ليشفع الركعة النافلة المزيدة. ويستدل على هذا الشفع بما وقع في حديث الشاك من الركعة المزيدة تكون نافلة ويشفعها بسجدتين. ولنا عليه حديث ابن مسعود أنه عليه السلام صلى الظهر خمسًا (1).
فقيل له في ذلك فسجد للسهو. فهذا الحديث حجة عليه على أي الوجهين وقع. فإن تأول أن النبي - صلى الله عليه وسلم -جل س في الرابعة فإنه لم يشفع الخامسة سادسة.
وإن كان لم يجلس في الرابعة فإن صلاته اعتد بها فلم تكن فاسدة. وحديث الشاك إنما ذكر فيه الشفع بسجدتين. وأبو حنيفة يرى في مسألتنا الشفع بركعة كاملة. ومعنى قوله في حديث الشاك كانت الركعة نافلة (2) أي يثاب عليها وإن لم تكن واجبة عليه في باطن الأمر. وإن كثر السهو فاختلف المذهب فيه.
فقيل: زيادة نصف الصلاة كركعة في الصبح واثنان في الظهر تبطل الصلاة.
وقيل لا يعتبر النصف في الصلاة الثنائية وإنما يعتبر زيادة ركعتين. وروي عن مالك أنه لو صلى الظهر ثمانية ساهيًا لم تبطل صلاته. وهكذا قال مطرّف من
__________
(1) تقدم تخريجه من مختصر سنن أبي داود للمنذري ج 1 ص 465.
(2) هو حديث أبي سعيد إذا شك أحدكم فليلغ الشك وليس على اليقين فإذا استيقن التمام سجد سجدتين فإن كانت صلاته تامة كانت الركعة نافلة والسجدتان. وإن كانت ناقصة كانت الركعة تمامًا لصلاته وكانت السجدتان مرغمتي الشيطان. مختصرًا بي داود ج 1 ص 1342.

(1/614)


صلى المكتوبة ستًا فأكثر لم تبطل صلاته وبأنه رأى (1) الطول في قربة بخلافه في غير قربة.

والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: من أحل بشيء من السنن متعمدًا فقد اختلف المذهب فيه على أربعة أقوال: فقيل يسجد كما يسجد الساهي.
وقيل بل هو بخلاف الساهي. واختلف هؤلاء في الإعادة. فقيل لا إعادة عليه.
وقيل يعيد في الوقت. وقيل يعيد أبدًا. فمن أمره بالسجود رأى أن الساهي إذا سجد تلافيًا للنقص مع عذره بالسهو. فالعامد الذي لا عذر له أولى بالسجود.
ومن نفى السجود يرى أن الأصل قضاء ما أحل به بمثله، وتعويضه بالسجود خارج عن الأصل. وإنما ورد السجود في السهو فلم يقس عليه مع خروجه عن الأصل.
ثم تأكد أمر المتروك عمدا عند طائفة من هؤلاء حتى لحق بالواجبات في إفساد الصلاة إذا تعمد تركه، فأوجبوا الإعادة أبدًا. ولم يتأكد عند آخرين فلم يفسدوا بتركه الصلاة. واستحب بعض هذه الطائفة الإعادة في الوقت ليأتي بصلاة متفق على صحتها.

قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله تعالى: فأما الفريضة فلا يجزئ منها إلا الإتيان بها وقد بينا السنن فيما تقدم.

قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل اثنا عشر سؤالًا. منها أن يقال:
1 - ما حكم من ذكر أنه ترك سجدة من ركعة وهو فيها؟.
2 - وما حكمه إن ذكر ذلك من ركعة سابقة؟.
3 - وما حكمه إن ذكر تركها من ركعات؟.
4 - وما حكمه إن شك في تركها؟.
5 - وما حكمه إن ذكر تركها بعد أن زاد في عدد الصلاة؟.
6 - وما حكمه إن فعلها دون إمامه؟.
__________
(1) هكذا في جميع النسخ. ولعل الصواب وكأنه.

(1/615)


7 - وكيف يرجع إلى إصلاح ما ترك من السجود؟.
8 - وما حكم سجود السهو في ذلك؟.
9 - وما حكمه إن نسي الركوع؟.
10 - وما حكمه إن ذكر سجدة أو ركعة في صلاة أخرى؟.
11 - وما حكمه إن نسي التشهد الآخر؟.
12 - وما حكمه إن نسي السلام؟.

والجواب عن السؤال الأول: أن يقال: من ذكر سجدة من ركعة هو فيها لم تنقض بعد فلا خفاء في أنه يسجدها. ولو كانت في الركعة الرابعة فذكرها بعد أن تشهد وقبل أن يسلم، فإنه يسجدها إذا لم يحل بينه وبين ذلك حائل.
ويعيد تشهده لوقوعه في غير موضعه. لأن من سنته أن يؤتى به بعد السجدتين.
وهذا أتى به بعد إحداهما. وإن لم يذكر ذلك حتى سلم من الرابعة، فالمذهب على قولين: فقيل الحكم فيه كما ذكرناه. والسلام لا يحول بينه وبين إصلاح ما هو فيه. وقيل قد حال السلام بينه وبين الإصلاح. والسلام في هذا كركعة تحول بينه وبين الإصلاح فيقضي الركعة في جملتها.

والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: إن ذكر سجدة من الركعة الأولى وقد قام إلى الثانية ولم يقرأ فإنه يرجع لإصلاح ما أحل به. وإن ذكر بعد ما قرأ فكذلك أيضًا. خلافًا لابن حنبل في قوله: إذا قرأبيلت الركعة التي أحل بسجدتها. واعتد بالركعة التي هو فيها، وكأنه رأى أن القراءة لما كانت فرضًا لم يحسن إبطالها لفرض آخر فات موضعه وكان الجماعة رأوا أن السجود آكد من القراءة. وأركان الأفعال آكد من أركان الأقوال، فإنما رجوعه لما هو آكد ثم يعود إلى القراءة فيجد محلها لم يفت. وإما أن ذكر وهو راكع لم يرفع رأسه من الركوع. فالمذهب على قولين: هل انعقاد الركعة تمام الانحناء فيمنعه ذلك من إصلاح ما قبل، إذ لا يحسن إفساد فرض حاصل لفرض فائت. أو انعقادها رفع الرأس منها فيعود لإصلاح ما سبق، إذ أن ركعته لم تنعقد حتى يقدر مفسد ركعته لركعة أخرى. وخيره ابن المواز بين الاعتداد بها وإبطال ما قبلها مما أحل بسجوده أو الرجوع لإصلاح ما فاته. وأما أن ذكر بعد أن رفع رأسه فإن المذهب

(1/616)


عندنا أنه يعتد بما هو فيه ويلغي الركعة التي أحل بسجدتها. وإن لم يذكر حتى سجد للثانية فإن ذلك عندنا آكد في إلغاء ما سبق. وعند الشافعي إن سجد للثانية يعتد به عما ترك من الأولى حتى يكمل به الأولى ويلغي ما فعله في الثانية. ويتخرج هذا عندنا فيمن لم يركع للثانية من قول ابن مسلمة فيمن سجد قبل السلام سجود سهو ثم ذكر أنه لم يسجد للرابعة أنه يعتد بسجود السهو. فإذا اعتد ابن مسلمة بسجود السهو وجعله قضاء عن سجود الرابعة المفروض فأحرى أن يكتفي بسجود ثانية عن سجود أولى لتساويهما في الوجوب وكونهما من أركان الصلاة. وقد كنا قدمنا من الكلام في تبدل النية ما يؤخذ منه تحقيق القول في هذه المسألة. وذكرنا تبدل نية الفرض إلى نية النفل وتبدل النية بين الواجبات فلا معنى لإعادته ها هنا. وأما أصل أبي حنيفة في هذه المسألة فمذكرر في التي تليها.
والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: إذا نسي أربع سجدات من أربع ركعات فعندنا أنه يصلح الرابعة بالسجدة التي أحل بها منها ويبطل ما قبلها.
ويجري كثرة السهو فيها على الاختلاف المذكور عندنا وهو إحدى الروايتين عن ابن حنبل، وعنه رواية أخرى وهو بطلان الجميع. وقال الحسن والثوري والأوزاعي وأبو حنيفة يأتي بأربع سجدات متواليات يكمل بها صلاته. وحكى أصحابنا عن الشافعي أنه يعتد بركعتين بعد إصلاح الرابعة بسجدة. ورأيت في كتب أصحابه الاعتداد بركعتين من غير اشتراط إصلاح الرابعة بسجدة. وأما إن نسي الثاني سجدات فإنه لم يحصل (1) له سوى ركوع الرابعة. فيبني عليها على أصلنا على حسب ما ذكرناه. وحكى الطحاوي عن الحسن بن صالح بن حي أنه يأتي بثماني سجدات متوالية وتتم صلاته.
فدليلنا على أبي حنيفة أن الترتيب واجب في الصلاة فلا يجزئ سجود قبل ركوع ولا ركوع قبل قراءة. فكذلك لا يجزئ توالي السجدات على ما ذكر لعدم الرتبة المشروعة. وأما أبو حنيفة فإنه يرى الصلاة مبنية على ركعات متكررة. وكل ركعة فيها أركان مختلفة من قراءة، وركوع وسجود فإذا حصلت
__________
(1) من هنا يتصل بالنص في نسخة ق.

(1/617)


الركعة بسجدة واحدة فقد حصلت الأركان المختلفة. وإنما بقيت سجدة واحدة هي مكررة بعد الأولى. والتكرير لا يراعى فيه الترتيب كمن فاته بعض ركعات الإِمام، فإنها آخر صلاته، وإن كانت أول صلاة الإِمام، فلم يراع الترتيب ها هنا.
وأيضًا فإن الركعة إذا سجد فيها فقد أتى بأكثرها، والحكم متعلق بأكثر في صحة البناء، كمن أدرك الركوع مع الإِمام.
فأما ما قالوه من قضاء من فاته بعض ركعات الإِمام. فسنتكلم على حقيقته في موضعه وأما ما قالوه فيمن أدرك الركوع مع الإِمام فإنما صح له البداية بالركوع لأن الإِمام ناب عنه في فعل ما قبله. فقُدر المسبوق كالفاعل لما فعل الإِمام فلم تختل عليه الرتبة. وفي مسألتنا لا نائب عنه حتى يقدر حصول الترتيب (1) بالنيابة.
والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: حكم الشاك في ترك السجدة كحكم الموقن بتركها في (2) وجوب إتيانه بها. لكن لو تيقن بتركها وهو في الرابعة، وشك في محلها هل هي من الرابعة أو مما قبلها أو شك في تركها وفي محلها. فالمذهب على قولين: أحدهما أنه يصلح الرابعة بسجدة لجواز أن تكون السجدة منها. ويأتي بعد ذلك بركعة لجواز أن تكون مما قبلها. وهذا مذهب ابن القاسم.
والثاني أنه يأتي بركعة من غير أن يصلح الرابعة بسجدة. وهذا مذهب أشهب.
وسبب هنا الاختلاف تقابل أمرين يطلب الترجيح بينهما *فمن أمره بركعة وسجدة حاذر وقوعه في أمر غير مشروع. وهو التفرقة بين سجدتي الركعة بعمل آخر ليس منها. لأنا لو اطلعنا على أن السجدة المنسية من الركعة الرابعة، لم يجز للمصلي أن يؤخر إيقاعها ويتشاغل بقراءة وركوع قبل فعلها، وهذا لا يجوز مع اليقين. وكان الشاك يمكن أن يكون حاله كحال هذا الموقن. فلم
__________
(1) الرتبة -ق-.
(2) ووجوب -ق-.

(1/618)


يحسن أن يأمره بفعل يقدر فيه الغلط لو تيقن. فلما كان الاقتصار على الركعة خاصة يوقع في هذا تقديرًا عُدل عنه إلى أنه يؤمر بسجدة قبل الركعة. ومن أمره بركعة خاصة حاذر وقوعه في أمر غير مشروع وهو زيادة في الصلاة قد يستغنى عنها. وتفرقة بين الركعة التي هو فيها والركعة التي يقضيها بسجدة قد لا تجب* (1) وإذا كان هذا لا يجوز مع اليقين مُنع الشاك منه خوفًا من الوقوع في الغلط الذي يقدر في الموقن. وإن كان في الأمرين توقى ما ذكرناه فأيهما أحق أن يتوقى؟ اختلف المذهب فيه على حسب ما ذكرناه. وعلى هذا المعنى جرى اختلاف أصحاب مالك في هذا الذي ذكر سجدة في الرابعة وشك في محلها وأمرناه أن يصلحها بالسجود هل يتشهد بعد سجدته لجواز أن تكون السجدة من الرابعة.
وحكم الرابعة أن يتشهد عقيب سجودها فإن لم يتشهد جوزنا عليه الوقوع في الغلط أو لا يتشهد لأنه يتشهد بعد ما يقضي، والتشهد الآخر لا يتكرر. ولأن ما يقوم لقضائه فرض فلا يتشاغل بسنة، ولأنه يجوز أن يكون لم يحصل له سوى ثلاث والثلاث لا يتشهد فيها. فإذا تشهد جوزنا عليه الوقوع في الغلط. وكذلك اختلف أصحاب مالك فيمن ذكر وهو قائم في الثالثة سجدة لا يدري هل هي من الأولى أو من الثانية إذا أمرناه بسجدة يصلح بها الثانية هل يجلس ويتشهد لجواز أن تكون السجدة من الثانية وقد أصلحها فصحت له الركعتان. وترك الجلوس بعد الركعتين غلط. فإن لم يفعل توقينا عليه الوقوع في الغلط أو يؤمر إذا أصلح الثانية بالسجود ولا (2) يجلس ولا يتشهد لئلا تكون الثانية أولى، والجلوس في الأولى غلط. فإن جلس توقينا عليه الوقوع في الغلط. واحتج ابن المواز في الجلوس بأنه إذا أصلح بالسجدة وصار كمن شك لما سجد السجدتين، هل هو في الأولى أو في الثانية، ولو كان ذكره هذا وهو قائم في الرابعة وشك في محل السجدة فإنه إذا أتى بالسجدة جلس لأنه لم يحصل له من الصلاة سوى ركعتين وجلوسه في الركعتين مشروع. فكان هذا بخلاف ما قدمنا الاختلاف فيه.
__________
(1) ما بين النجمين كلام مختلط وغير واضح حاولنا نظمه.
(2) لا يجلس -و-.

(1/619)


والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: قد قدمنا أن من نسي سجدة فإنه يعود لإصلاحها ما لم يَحُل بينه وبين أن يعود لإصلاحها عقد ركعة. فإن عقد ركعة بعد ما نسي فإن كانت الركعة أصلية حالت بينه وبين الإصلاح كعقد الثانية فإنه يمنع من إصلاح الأولى والثالثة من إصلاح الثانية، والرابعة من إصلاح الثالثة. وإن كانت الركعة خامسة زادها غلطًا فهل يَمنع من إصلاح الرابعة أم لا؟ فيه قولان: أحدهما أن ذلك يمنع كما منعت الرابعة من إصلاح الثالثة. والثاني أن ذلك لا يمنع لأن الخامسة المزيدة لا حرمة لها فيراعى إفسادها وإبطالها بخلاف الركعة الأصلية. فإن قلنا إنها لا تمنع من الإصلاح عاد إليه وأكمل به ما وجب من الركعات عليه. وإن قلنا إن ذلك يمنع من إصلاح الرابعة فإن الرابعة قد بطلت إذ لم يمكن إصلاحها. ولما بطلت هل يقضيها أو تكون له الخامسة قضاء عنها؟ فيه قولان مبنيان على ما كنا أشرنا إليه في مسألة الساجد للثانية التارك لسجود الأولى، هل ينوب له ذلك عن سجود الأولى مع قصده بذلك غيرها أم لا ينوب له عن ذلك؟ فكذلك مصلي الخامسة ظنا أنها الرابعة لم يقصد بها القضاء عما وجب عليه من الرابعة التي أفسدها. وقد قدمنا من الكلام في النية ما يؤخذ منه حقيقة الكلام في هذه المسألة. ولو شك هذا الذي زاد ركعة خامسة في السجدة هل أسقطها من الرابعة أو الخامسة لكان جوابه مخرجًا على هذا الخلاف المتقدم: هل الركعة المزيدة لا تمنع من العود إلى الإصلاح فيصلح الرابعة بسجدة أو تمنع من الإصلاح ولكن تنوب عن الرابعة ويكتفي بإحدى الركعتين لقطعه بسلامتهما؟ أو تمنع ولا تنوب فتبطل الرابعة؟ وكذلك لو شك هل إسقاطه لسجدة أو سجدتين مجتمعتين أو مفترقتين؟ فيتخرج على أحد الأقوال المتقدمة أنه يسجد سجدة ينوي بها الخامسة لإمكان أن تكونا مفترقتين وقد بطلت الرابعة. والخامسة تنوب عنها فتصلح بسجدة لجواز أن تكون السجدة منها. ولا يصلح بسجدتين لأننا لو قدرنا أن السجدتين من الخامسة تحققنا كمال الرابعة. والرابعة إذا كملت لم تفتقر إلى مزيد. وإكمال التخريج على بقية الأقوال جار على نحو ما قدمناه.

والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: إذا نسي الإِمام السجدة من ركعة

(1/620)


*وسجدها المأمومون* (1) فلا يخلو أن يكون *لم يحل بينه وبين إصلاحها حائل* (1) أو حال بينه وبين إصلاحها حائل.
فإن كان لم يحل بينه وبين إصلاحها حائل كناسي سجدة من الأولى وهو قائم في الثانية. فإن الإِمام يرجع إلى إصلاح ركعته الماضية فيصلحها بسجدة.
واختلف في المأمومين فأوجب عليهم سحنون متابعته فيها، وإن كانوا قد سجدوها. *وقيل يستحب لهم متابعته فيها وإن كانوا قد سجدوها* (2) وهم بمثابة من رفع من الركعة أو السجدة قبل الإِمام، فالإجزاء قد حصل والمتابعة تستحب. وقال ابن القاسم لا يتابعونه في السجود وأحب إلى أن يعيدوا. وهو أولى من أن يسجدوا ثانية فيزيدوا في صلاتهم متعمدين. وأولى من أن يتبعونه في الركعة فتكون خامسة.
وإن كان قد حال بينه وبين إصلاحها حائل كالإمام يذكر في تشهد الرابعة أنه أسقط سجدة من الأولى وقد سجدها من خلّفه. فاختلف في ذلك. فمر سحنون على أصله وقال لا تجزيهم الركعة القياسجدوا فيها دون الإِمام. ويأتي الإِمام بركعة يتبعونه فيها. وقال محمَّد يعتد المأمومون بها ويقضي الإِمام الركعة دونهم. وقد قدمنا استحباب ابن القاسم للإعادة (3) وهي عنده أولى من زيادة ركعة قد تكون خامسة. وحكى ابن حبيب أن الإِمام إذا ذكر السجدة بعد أن حال بينه وبين إصلاحها حائل فألغى تلك الركعة وبنى على ما سواها أن صلاة المأمومين باطلة لاختلاف بناء الصلاة منهم ومن إمامهم. ولو أن الإِمام زاد ركعة خامسة سهوًا لبطلت صلاة من تعمد اتباعه دون من سها، كسهوه، أو جلس. فلو قال الإِمام ها هنا إنما أتيت بها لكوني أسقطت سجدة من الأولى فتصح صلاة الساهي وتبطل صلاة الجالسين إن جلسوا على شك، وتصح إن أيقنوا أنه لم يسقط. وأما المتعمدون إتباعه فتبطل إن أيقنوا أنه لم يسقط إلا أن أن يتأولوا وجوب اتباعه فتكون إعادتهم مستحبة. وأطلق ابن المواز القول
__________
(1) ما بين النجمين = ساقط -ق-.
(2) ما بين النجمين أثبت في نسخة -ق- على النحو التالي: وقيل لا يؤمرون بمتابعته فيها.
(3) الإعادة -ق-.

(1/621)


بصحة صلاة العامد وبطلان صلاة الجالس. ولو أَتبع الإِمام في هذه الركعة الخامسة من فاتته معه الأولى وهو يعلم بكونها خامسة فقد بطلت صلاته. وإن لم يعلم فليقض ركعة أخرى. ولو قال الإِمام ها هنا كنت أسقطت سجدة من الأولى لأجزته هذه الركعة التي اتبعه فيها، وقد فاتته ولم يعلم بكونها خامسة إلا أن يجمع كل من خلف الإِمام على أنهم لم يسقطوا شيئًا فلا يجزئ هذا الذي اتبعه وهو لا يعلم وليقضها. ويؤمر هذا الذي علم بكونها خامسة ألَّا يتبعه. فإذا لم يتبعه واجتمع الإِمام وكل من خلفه على إسقاط سجدة من الأولى أعاد هذا صلاته. ولو انفرد الإِمام بنسيانها دون من خلفه أجزأت هذا صلاته. وإنما افترق انفراد الإِمام بالنسيان دون من خلفه من اجتماع المأمومين معه عليه؛ لأن الإِمام والمأمومين إذا اجتمعوا على إسقاطهم السجدة من الأولى فقد صارت الخامسة رابعة لهم وسقطت الأولى عن الإِمام والمأمومين كما سقطت عمن فاتته، وسجود السهو ها هنا قبل السلام لاجتماع الزيادة والنقصان فإذا لم يتبعه فيها من فاتته فقد بطلت صلاته لتركه الاتباع فيها يجب عليه الاتباع فيه، فإذا انفرد الإِمام بالنسيان فإنه يتنزل (1) منزلة من استخلف بعد أن فاتته ركعة، فلا يؤم فيها من فاتته. وسجود السهو ها هنا بعد السلام، وإذا كان لا يؤم فيها من فاتته، فلا يقضي من فاتته إلا بعد فراغه منها وسلامه من صلاته، لم تبطل صلاة هذا بترك اتباع من لا يجب عليه اتباعه.

والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: لا يخلو الناسي للسجود إما أن يكون نسي سجدتين، أو سجدة واحدة. فإن نسي سجدتين وذكرهما قبل أن ينحني في الثانية راكعا خرّ لهما ساجدا. وإن ذكرهما وقد حتى ظهره للركوع ولم يرفعه وقلنا إن ذلك لا يمنعه من أن يعود لإصلاح ما نسي، فاختلف هل يرفع رأسه ليخِر للسجود من قيام على حسب ما كان يفعل (2) لو لم يسه. وأما لو كان نسيانه ها هنا لسجدة واحدة فإنه لا يعود إلى القيام لأنه قد كان خر للسجدة الأولى (3)
__________
(1) ينزل -ق-.
(2) يفعله -ق-.
(3) للسجود الأول = ق.

(1/622)


من قيام. ولكن اختلف هل غير ساجدا أو ينحط جالسًا ليسجد للثانية من جلوس إذ لم يكن جلس فمن رأى أن المقصود السجدة دون الحركات إليها لم يأمره إلا بما أحل به من السجود. ومن رأى أن ذلك مقصود كما كان السجود مقصودًا أمره بالرجوع إلى الشكل الذي أحل به ليكون سجوده منه.
والجواب عن السؤال الثامن: أن يقال: قد قدمنا أن المعتبر في سجود السهو عندنا السجود في النقص قبل السلام وفي الزيادة بعد السلام. فناسي السجدة أو السجدتين إنما يعتبر فيه هل حصلت معه زيادة فيسجد بعد السلام، أو نقص بانفراده أو مع الزيادة فيسجد قبل السلام. واختلف المذهب أيضًا فيمن فاته بعض ركعات الصلاة هل يكون قاضيا أو بانيًا فتختلف قراءته بحسب اختلاف حال كونه بانيا أو قاضيًا؟ واختلاف القراءة على المذهبين قد يؤدي إلى نقص يفتقر إلى أن يجبره. فلو نسي سجدة من الرابعة سجدها وأعاد التشهد.
وكان سجوده بعد السلام إن أطال (1) الجلوس بين السجدتين لأنها زيادة محضة. ولو كانت السجدة من الثالثة وذكر وهو في الرابعة لسجد بعد السلام أيضًا. ولو كانت السجدة من الأولى أو من الثانية فاختلف في ذلك فقيل: يسجد قبل السلام لأنه يكون بانيًا فيقرأ في الركعة التي يأتي بها بأم القرآن لا أكثر فيحصل له من هذا أنه لما عادت الثالثة ثانية نقص منها السورة التي مع أم القرآن والجلسة وزاد الركعة الملغية، والزيادة والنقص يسجد لهما قبل السلام، وقيل بل سجوده بعد السلام لأنه يكون قاضيا فيقرأ بأم القرآن وسورة فتتجرد الزيادة من النقص. ولو ذكر في الرابعة سجدة من الثالثة وأخرى مما قبلها فقد صارت الرابعة ثانية. فإن بنينا على القول بالبناء كان سجوده قبل السلام. لأن الركعتين اللتين يأتي بهما يقرأ فيهما بأم القرآن. فحصل من هذا أنه نقص السورة التي مع أم القرآن من الثانية وزاد الملغيتين. وإن بنينا على القول بالقضاء قرأ في أول ما يقضيه بالحمد وسورة وفي التي تليه بالحمد خاصة وسجد بعد السلام *ولو أن الإِمام ذكر وهو في الرابعة نسيان سجدة من الأولى فإن انفرد بنسيانها دون المأمومين سجد بعد السلام لأنه يقرأ فيما يقضي بأم القرآن وسورة. وإن
__________
(1) طال -ق-.

(1/623)


كان قد شاركه في إسقاطها المأمومون أو بعضهم فإنه يسجد قبل السلام وتصير رابعته ثالثة لأنه لما وجب أن يصلي هذه الركعة التي بطلت فمن شاركه في بطلانها صارت صلاته كأنها لم تنقض بعد، ولم تكمل، وصار كإمام لم يصل بمن معه إلا ثلاث ركعات. ولو أن هذا الإِمام المسقط لهذه السجدة التي شاركه فيها المأمومون أو بعضهم علم بسلامة الأوليين وجوز كونها من إحدى الأخيرتين لكان سجوده بعد السلام لتجرد الزيادة ها هنا في صلاته عن النقص. وقال بعض أصحابنا* (1) ولو ذكر سجدتين لا يدري أمجتمعتين أو مفترقتين فليسجد سجدتين ويتشهد ويأتي بركعتين بأم القرآن في كل ركعة ويسجد قبل السلام ولو كان مع الإِمام سجد سجدتين فإذا سلم إمامه قام فأتى بركعتين يقرأ فيهما بأم القرآن وسورة في كل ركعة ويسجد بعد السلام. واستحب أن يعيد الصلاة في المسألتين. وهذا الذي تقدم ذكره تفريع على أحد القولين المتقدمين.
وأما تفرقته بين المأموم والمنفرد فقال ابن المواز: المأموم فيما يفوته أو يسهو عنه قاض. والإمام والفذ بانيان. هذا قول المدنيين وإليه رجع ابن عبد الحكم وفرع على هذا نسيان ثلاثة سجدات لا يدري كيف هي فمر فيها على ما حكيناه عنه من التفرقة بين الإِمام والفذ، فقال في الفذ يسجد سجدتين ولا يتشهد ويأتي بركعة بأم القرآن وسورة، ويجلس. ثم يأتي بركعة (2) بأم القرآن ويسجد قبل السلام. ولو كان مأمومًا سجد سجدتين. فإذا سلم الإِمام أتى بركعة بأم القرآن وسورة ويجلس، وأخرى كذلك ويقوم. وأخرى بأم القرآن ويسجد بعد السلام، وأجرى الجواب في ذلك لأربع سجدات على هذا الأسلوب. وقال ابن عبدوس إذا ذكر المأموم في قيام الثانية سجدة أو شك فيها ولم يقدر على إصلاحها خوفًا من ذوات الركعة التي تليها فإنه يأتي بركعة، بعد سلام الإِمام، بأم القرآن وسورة. فأما الموقن بترك السجدة فلا سهو عليه. والشاك يسجد بعد السلام لجواز أن تكون الرابعة زيادة. ولو كان في قيام الثالثة فذكر سجدة، أو شك فيها ولم يدر هل هي من الأولى أو من الثانية فإن طمع ألا تفوته الركعة خر بسجدة
__________
(1) ما بين النجمين = ساقط من -ق-.
(2) بركعتين -و-.

(1/624)


ثم يتبع الإِمام. فإذا سلم أتى بركعة بأم القرآن وسورة لجواز أن تكون من الأولى ويسجد بعد السلام إذ لعله أصاب بالسجدة موضعها والركعة زيادة. ولو أيقن بسلامة الثانية فيختلف يقينه وشكه. فإن أيقن بالسجدة قضى ركعة ولا يسجد للسهو. وإن شك سجد بعد السلام وإن لم يدرك أن غير بسجدة في الثالثة وتمادى مع الإِمام وشك في السجدة هل تركها من الأولى أو من الثانية فإنه إذا قضى الركعة بأم القرآن وسورة سجد بعد السلام، إذ لعله لم يبق عليه شيء فيصير سهوه بعد الإِمام. ولو أيقن أنها باقية من إحداهما لم يسجد للسهو، وقد وافق ابن المواز ابن عبدوس في جميع ما قاله ها هنا، وقد وقع في المدونة في ناسي السجود من الأولى والركوع من الثانية أنه يسجد للأولى ويبني عليها ولم يذكر سجود السهو فيها. وزاده بعض المختصرين للمدونة في اختصاره فقال يسجد بعد السلام. واختلف هؤلاء المختصرون الذين زادوا سجود السهو، فقال بعضهم إذا نسي السجود. وقال ابن أبي زيد: إذا نسي سجدة. فأما على نقل ابن أبي زيد أن المتروك سجدة. فالسجود بعد السلام كما قال. وأما على نقل غيره أن المتروك سجدتان فإنما يصح السجود بعد السلام إذا ذكر وهو قائم فانحط لهما من قيام. فأما لو ذكر وهو جالس لم يقم فينحط لهما من قيام فسجوده ها هنا قبل السلام لنقصه الانحطاط لهما. وإذا كان المتروك سجدة واحدة فالانحطاط قد فعله للسجدة الأولى فلم ينقص شيئًا. إلى هذا أشار بعض الأشياخ وقد كنا نحن قدمنا اختلافًا في مراعاة الانحطاط للسجود. فهذا الذي أشار إليه بعض الأشياخ مستمر على إحدى الطريقتين اللتين قدمناهما.
والجواب عن السؤال التاسع: أن يقال: إن قرأ في الركعة وسجد ونسي ركوعها فقال مالك: يرجع قائمًا ثم يركع. ويستحب له أن يقرأ قبل أن يركع.
ويتخرج على القول الآخر الذي قدمنا الإشارة إليه أنه يرجع محدودبًا ثم يرفع رأسه ويسجد. وقد أشرنا إلى سبب الخلاف في الحركة إلى الأركان. ولو أن هذا ركع ولكنه سها عن الرفع من الركوع لكان جوابه مأخوذًا مما قدمناه من الاختلاف في الرفع، هل هو فرض أو سنة؟ وقد اختلف قول مالك في هذا فقال مرة تجزيه صلاته. وقال مرة أخرى يتمادى ويعيد. وقال محمَّد إذا فعل ذلك سهوًا رجع إلى الركوع محدودبًا ثم يرفع. وإن رجع إلى القيام معتدلًا أبطل.

(1/625)


قال وإن لم يذكر حتى ركع (1) التي تليها تمادى وأعاد ولم يأمره بإلغاء (2) الركعة للاختلاف. ويتخرج على ما قدمناه، أنه تلغى تلك الركعة *وظاهر كلام ابن حبيب في صفة الرفع أنه لا يرجع محدودبًا لأنه قال من خر من ركوعه للسجود فليرجع إلى القيام كالرافع من الركوع. وكأنه رأى أن القصد بالرفع من الركوع أن ينحط للسجود من قيام. فإذا رجع إلى القيام وانحط منه للسجود فقد حصل المقصود* (3) وقد تنازع الأشياخ في ناسي الركوع من الأولى فذكره وهو راكع في الثانية، ما الذي يجب على القول: بأن (4) عقد الركعة رفع الرأس منها؟ فقال بعضهم يرفع رأسه بنية إصلاح الأولى ولا يكون إتمامًا لهذه؛ لأنه نوى بذلك غيرها وأنكر هذا غيره من الأشياخ. وقال لو صح هذا لوجب أن يركع للأولى إذ لا يمكن أن يرفع بنية الأولى ولم يكن ركوعه لها وإنما كان لغيرها، بل يتمادى على هذه الركعة التي هو فيها ويبطل الأولى وتصير هذه مكانها. وقال غير هؤلاء (5) من الأشياخ في هذين الجوابين نظر. ويحتمل أن يقال يرفع رأسه من غير تكبير ليعود لإصلاح الأولى ثم يركع لها ويرفع، ولا يجزيه الركوع بنية الثانية عن ركوع الأولى كما لم يجزه سجود الثانية عن سجود الأولى.

والجواب عن السؤال العاشر: أن يقال: كنا قدمنا حكم الذاكر سجود السهو قبل السلام وهو في صلاة أخرى، واقتصرنا على ذكر المذهب المشهور.
وقد اختلف في ذاكر ركعة أو سجدة من صلاة فرض وهو في صلاة فرض أخرى، ففي المدونة أنه يرجع لإصلاح الأولى إذا كان قريبًا. وإن أطال (6) القيام أو ركع بطلت الأولى. وفي الموازية أن الركعة خفيفة لا تبطل الأولى. ولمالك في المبسوط في هذا الأصل تخيير المصلي إذا صلى ركعة بين أن يعود إلى إصلاح الأولى أو يمضي على هذه ويعيد تلك. ولمالك في مختصر ابن شعبان
__________
(1) رجع إلى التي -ق-.
(2) بإعادة -ق-.
(3) ما بين النجمين = ساقط -ق-.
(4) إن -و-.
(5) غيره = و.
(6) طال -و-.

(1/626)


فيمن سها عن شيء من الفريضة فأحرم لنافلة أن صلاته تبطل. وظاهر هذا الاقتصار في إبطال الأولى على مجرد الإحرام. وقال أشهب لو صلى سبع ركعات ما عاد (1) إلى المكتوبة وهذه طريقة مطرف وقد قال في الثمانية من دخل من مكتوبة في نافلة قبل السلام فذكر بعد أن ركع ركعتين فإنما عليه سجود السهو ولا يكون أسوأ حالًا من المصلي خمسًا أو ستًا، وفرق بين الفصل بقربة أو بغير قربة.
وأما ذاكر الركعة أو السجدة من نفل وهو في فرض فالمشهور أنه لا يرجع لإصلاح الأولى. وقد قدمنا توجيه هذا في ناسي سجود السهو. وقال محمَّد بن عبد الحكم في ذاكر سجدة من النافلة بعد ركعتين من الفريضة أنه يعود لإصلاح النافلة. وكذلك الساهي عن السلام من النافلة فإنه يعود لإصلاح النافلة فيسلم منها ويسجد. ولو كان ذكره ذلك في الرابعة من المكتوبة، فكان ابن عبد الحكم لما رأى النفل لا يخل قطعه صار بالشروع فيه كالفرض فلم تنحط حرمته عما هو فيه كما تصور الجمهور انحطاطها، فلم يقطع الفرض لأجلها. وقال مطرف فيمن دخل في المكتوبة قبل أن يسلم من النافلة إن ذكر قبل أن يركع رجع فجلس وسلم. وإن لم يذكر حتى ركع مضى إلى الرابعة لينصرف على شفع ويسجد قبل السلام لتركه السلام من الركعتين الأوليين. وأما ذاكر ذلك من نفل وهو في نفل بعد أن ركع الثانية فإنه لا يرجع لإصلاح الأولى ولا يقضيها لأنه مغلوب على فسادها وعلى قول ابن عبد الحكم يرجع لإصلاحها وإن ركع.

والجواب عن السؤال الحادي عشر: أن يقال: قد قدمنا ذكر اختلاف فقهاء الأمصار في وجوب التشهد الآخر. فإن قلنا أنه ليس بواجب فقال في المدونة إن ذكر وهو في مكانه سجد لسهوه وإن لم يذكر حتى تطاول فلا شيء عليه. قال ابن القاسم وكذلك سهوه عن التشهدين جميعًا لا يراه (2) بمنزلة غيره من الصلاة فيما يسهو (3) عنه. وإن قلنا بوجوبه فقال في المبسوط إن لم يذكر حتى انتقض
__________
(1) غير واضحة -ق-.
(2) ألا تراه -ق-.
(3) فيما سها عنه -ق-.

(1/627)


وضؤوه أعاد الصلاة وإن ذهب الوقت. وإن لم ينتقض وضؤوه وكان قريبًا من مصلاه رجع إليه وجلس وكبر وسجد لسهوه ثم سلم. وإن بعد من مصلاه جلس حيث هو وكبر وتشهد. فأمره بالقرب من مصلاه أن يعود لمكانه. وفي البعد منه أن يصلي حيث هو. فأما عوده إلى مصلاه في القرب فلا يظهر وجهه. وأما صلاته في مكانه إذا بعد من مصلاه فحمله بعض الأشياخ على أنه موافق لقول ربيعة في الناسي لبعض صلاته يأتي به وإن بعد ما بينهما ما لم تنتقض طهارته.
وقال مالك لو كان الناسي للتشهد إمامًا صنع كما يصنع الفذ وإن طال وجبت عليه الإعادة. وليس على الناس أن يستأنفوا معه يريد إذا تشهدوا. قال وإن كان مأمومًا حمله عنه الإِمام. وقال ابن القاسم إذا نسيه حتى سلم الإِمام فليتشهد ولا يدعو ويسلم. وقد حمل بعض الأشياخ ما وقع ها هنا في المبسوط من إعادة الصلاة بعد الوقت لترك التشهد على أنه يقتضي القول بوجوب التشهد. وفيه نظر عندي. لاحتمال أن يكون إنما قال ذلك لأنه يجب لأجل السهو عن التشهد السجود قبل السلام. وترك سجود السهو قبل السلام سهو يفسد الصلاة على ما تقدم تفصيل القول فيه. وما ذكره ها هنا من حمل الإِمام له عن المأموم يحتمل أن يكون يراه واجبًا ولكنه من الأركان الواجبة التي يحملها الإِمام عن المأموم كالقراءة. ويحتمل أن يكون رآه من السنن والسنن يحملها الإِمام عن المأموم.

والجواب عن السؤال الثاني عشر: أن يقال: إذا نسي السلام وذكره بعد أن فارق موضعه فلا يخلو إما أن يذكر (1) عن قرب من مفارقته لموضعه أو عن بعد. فإن ذكر عن قرب فإنه يرجع ليأتي بما بقي عليه. واختلف فيه هل يرجع للإتيان بما بقي عليه بتكبير أم لا؟ فالمشهور رجوعه بتكبير ووقع ما ظاهره أنه لا يؤمر بتكبير. وعلى القول إنه يرجع بتكبير اختلف هل يوقعه قائمًا أو بعد أن يجلس. وسبب الخلاف في التخيير أن هذا الناسي للسلام نوى بانصرافه من الصلاة الخروج منها فلا يكون خارجًا عندنا لأنه لم يخرج بسلام. وأبو حنيفة يرى الخروج منها بما يضادها. فإن راعينا خلافه *افتقر في رجوعه إلى تكبير
__________
(1) بذكر ذلك -ق-.

(1/628)


يعود به إلى صلاة قوإنصرف عنها وإن لم يراع خلافه* (1) لم يفتقر إلى تكبير لأنه لم يخرج من الصلاة فيفتقر إلى تكبير يعود به إليها. وقد اختلف في المسلم من اثنتين هل يرجع بتكبير أم لا؟ وهو قد سلم قاصدًا الانصراف من الصلاة.
وسنتكلم عليه في موضعه إن شاء الله تعالى. وإذا رجع ليأتي بما بقي عليه من الصلاة فهل عليه أن يتشهد ليقع السلام عقيب تشهد عار من فاصل بينه وبين السلام أو يكتفي بتشهده الأول لكون هذا الفصل غير معتبر في إبطال الصلاة ولا يتشهد في آخر الصلاة مرتين؟ فيه قولان.
وأما إن ذكر السلام وقد بعد عن موضعه فإن انتقضت طهارته بطلت صلاته. وإن لم تنتقض طهارته بطلت صلاته على المشهور. وقد قدمنا الاختلاف في هذا الأصل. وما ذكره في المبسوط في نسيان التشهد. وهذا حكم من أيقن بنسيان السلام. ولو شك هل سلم أو لا؛ فإنه يسلم ولا يسجد للسهو ها هنا لأنه إن كان قد سلم فسلامه هذا مطرح. وإن كان لم يسلم اعتد بسلامه.
هكذا قال ابن القاسم. ومحمله على أنه لم يبعد من الصلاة. وأما لو بعد منها جرى الأمر على ما قدمناه في الموقن بنسيان السلام وذكر ذلك بعد أن بَعُد.
لجواز أن يكون هذا الشاك لم يسلم.

قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله تعالى: ومن لم يدر كم صلى بني (2) على يقينه وسجد بعد السلام إلا أن يكون ممن لا تيقن له (3) لاستنكاح الشكوك له وغلبتها عليه فلا يلزمه إلا غالب الظن ويستحب له السجود بعد السلام.

قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل ثمانية أسئلة. منها أن يقال:
1 - ما الدليل على أن المستنكح يبني على الظن ومن سواه على اليقين؟.
2 - وما حكم سجود السهو في ذلك؟.
__________
(1) ما بين النجمين = ساقط -ق-.
(2) بقي -غ- وهو خطأ.
(3) يقين له -غ- الغاني -ق- وانفردت نسخة الشرح -و- لا تيقن وهي أصوب.

(1/629)


3 - وهل يجوز للشاك أن يسأل؟.
4 - وما حكمه إذا أخبره مخبر عما شك فيه (1) أو عما يعتقد خلافه؟.
5 - وهل يبطل التسليم الصلاة؟.
6 - وما حكم البناء بعد التسليم (2)؟.
7 - وهل توجب فكرة المتشكك سجودًا أم لا؟.
8 - وما حكم من كثر السهو عليه؟.

والجواب عن السؤال الأول: أن يقال: اختلف الناس فيمن شك في عدد الركعات أو السجدات. فمذهبنا ما ذكره القاضي أبو محمَّد من التفرقة بين المستنكح وغيره. وقال الشافعي يبني على اليقين. وروي ذلك عن أبي بكر وعمر وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم. وقال أبو حنيفة تبطل صلاته في (3) أول شك يعتريه. فإن تكرر ذلك منه بني على اجتهاده. فإن لم (4) يؤده اجتهاده إلى شيء بني على اليقين. وقال أحمد يبني المنفرد على اليقين. واختلفت الرواية عنه في الإِمام فرآه مرة كالمنفرد، ورآه مرة أخرى بخلافه فيبني على غلبة الظن. وقال الشافعي وشريح والأوزاعي وغيرهم تبطل الصلاة ويعيد حتى يتحفظ. وروي ذلك عن ابن عباس وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما وكان عطاء وابن مهران وابن جبير في إحدى الروايتين عنه إذا شكوا في الصلاة أعادوها ثلاث مرات وإذا كانت الرابعة لم يعيدوها. وقال الحسن يبني على وهمه ويسجد سجدتي الوهم. وروي ذلك عن أبي هريرة وأنس رضي الله عنهما. وذكر الطبري عن بعضهم أنه خير المصلي بين أن يأتي بما شك فيه أو لا يأتي به. وسبب هذا الاختلاف اختلاف ظواهر الأحاديث الواردة في هذا. ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: إن أحدكم إذا قام يصلي جاءه الشيطان فلبس عليه حتى لا يدري كم صلى فإذا وجد ذلك أحدكم فليسجد
__________
(1) وما حكمه إن أخبره مخبر بما شك -ق-.
(2) السؤال 6 = ساقط -ق-.
(3) من -ق-.
(4) فلو لم -ق-.

(1/630)


سجدتين وهو جالس (1). وقال أبو سعيد الخدري قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إذا شك أحدكم في صلاته فلا يدري كم صلى فليطرح الشك وليس على اليقين ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم. فإن كان صلى خمسًا شفعن له صلاته وإن كان صلى تمامًا كانت ترغيمًا للشياطين (2). وقال ابن مسعود قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب فليتم عليه (3). وفي بعض طرقه فليتحر أقرب ذلك إلى الصواب (4). وفي بعض طرقه فلينظر أحرى ذلك إلى الصواب (5).
فظاهر حديث أبي هريرة رضي الله عنه اقتصاره على سجدتي السهو من غير أن يؤمر بالإتيان بما شك فيه. وحديث الخدري رضي الله عنه يقتضي الإتيان بما شك فيه. فلما رأى بعضهم هذا التعارض وفقد التواريخ خير المصلي بين أن يأتي بما شك فيه أو لا يأتي به على ما حكاه الطبري. ورجح الحسن حديث أبي هريرة رضي الله عنه فأخذ به. ورجح الشافعي حديث الخدري فأخذ به
وعضده بالقياس على الشاك هل صلى أم لا، فإن عليه أن يصلي. ولأن الركعة في ذمته بيقين فلا يبرأ منها بالشك قياسًا على من شك في صلاة لا يدري عينها فإنه يصلي الخمس طلبًا لليقين لما لم توجد أمارة يظن منها. وكذلك الشاك في عدد الركعات لا أمارة له يظن منها *وأيضًا فإن شك المصلي في فعل هيئة
__________
(1) أخرجه مسلم. إكمال الإكمال ج 2 ص 264. وأخرجه أبو داود في مختصر المنذري ج 1 ص 468.
(2) رواه مسلم: وإن كان صلى لأربع كانت ترغيمًا للشيطان. إكمال الإكمال ج 2 ص 266. والهداية ج 4 ص 93. ولفظ مسلم: إذا شك أحدكم في صلاته فلن يدر كم صلى ثلاثًا أم أربعًا؟ فليطرح الشك وليس على ما استيقن ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم فإن كان صلى خمسًا شفعن له صلاته وإن كان صلى إتمامًا لأربع كانتا ترغيما للشيطان.
(3) أخرجه مسلم. إكمال الإكمال ج 2 ص 267 وأبو داود مختصر المنذري ج 1 ص 466.
(4) أخرجه مسلم من حديث محمَّد بن مثنى قال ثنا محمَّد بن جعفر ثنا شعبة عن منصور إكمال الإكمال ج 2 ص 269.
(5) أخرجه مسلم من رواية ابن بشير إكمال الإكمال ج 2 ص 268.

(1/631)


ولا يتحرى في فعل هيئة* (1) كالشاهد والحاكم إذا شكا فإنهما لا يتحريان.
وأما نحن فإنا أخذنا بهذا في غير المستنكح فإذا استنكحه الشك أخذنا فيه بقوله - صلى الله عليه وسلم -: فلينظر أقرب ذلك إلى الصواب (2). وظاهر هذا الرجوع إلى الظن لا إلى القطع فيبني الأحاديث على هذه الرتبة. على أن بعض أصحابنا تأول قوله فليتحر الصواب على أن المراد به البناء على اليقين لأن البناء عليه هو تحري الصواب، والتحري القصدوقد يقع بفكرة وقد يقع بغير فكرة. كما قال: لا يتحرى أحدكم فيصلي عند طلوع الشمس وعند غروبها (3). فهذا قصد لا فكرة فيه. وهذا التأويل إن سلم لهذا المتأول احتمال الظاهر له فقد لا يسلم هذا الاحتم الذي رواية من روى فليتحر أقرب ذلك إلى الصواب. فإن لفظ أقرب يشير إلى الظن. وأيضًا فإن المستنكح لا يمكنه إتمام الصلاة إلا على الظن لأن فيما لا يقدر فيه إلا على الظن هو (4) أصل الشرع كالاجتهاد للقبلة والأواني والقيم والنفقات. فإن قيل لا أمارة عنده يظن منها كالشك هل صلى أم لا؟ قيل بل له أمارة (5). وهي أن يعلم أن بينه وبين الإحرام من الزمان مقدار ما يصلي فيه ركعات مقدرة على عادته. والشاك هل صلى أم لا، لو كان مستنكحًا لم يجب (6) عليه طلب اليقين. مع أنه قد يمكنه أيضًا أن يأتي بالفرض من غير تقدير وقوع في منهي (7) عنه. بخلاف هذا الذي يحاذر الوقوع في زيادة أو نقص.
ولأجل هذه المحاذرة أمره من ذكرناه بإعادة الصلاة ليأتي بصلاة يتحقق سلامته
__________
(1) هكذا في -و -وهو غير واضح المعنى منبىء بوجود تحريف. أما نسخة -ق- فالحروف أكلتها الأرضة وزادتها الرطوبة تداخلا.
(2) ابن أبي شيبة ج 1 ح 4402.
(3) متفق عليه مشكاة ج 1 ص 327. عن ابن عمر لا تنحيتن عند طلوع الشمس ولا عند غروبها بالصلاة فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان ينهي عن ذلك. المصنف ابن أبي شيبة ص 134 ح 7365.
(4) هو هذا أصل -و-.
(5) فقيل له أمارة -ق-.
(6) لوجب -ق-.
(7) فيما سها عنه -ق-.

(1/632)


من الوقوع في منهي عنه. واعتمد هؤلاء على قوله عليه السلام: لا غرار في الصلاة (1). وتأولوا قوله لا غرار على معنى لا تغرير والباني على اليقين مُغَرر بصلاته. وأجيبوا عن هذا بأن البناء على اليقين يرفع التغرير. وإنما يكون مغرورًا من بني على الظن كما قال أبو حنيفة فيمن تكرر عليه الشك. ويناقض أبو حنيفة فيمن تكرر عليه الشك. فإنه إن زعم أن صلاة الشاك الذي لم يتكرر الشك عليه تبطل مخافة التغرير. فهذه العلة موجودة فيمن تكرر الشك عليه وهو قد فرق بينهما. ثم التغرير في البناء على الظن أشد منه في البناء على اليقين. لأن الباني على اليقين متردد بين أن يكون أكمل أو زاد، والزيادة لا تبطل الصلاة. والظان متردد بين هاذين مع زيادة التجويز أن يكون نقص. والنقص يبطل الصلاة. وأما الذين أعادوا الصلاة ثلاث مرات فلعلهم قدروا أن المشقة إنما ترتفع بهذا القدر من العدد (2) فإذا زاد عليه تحققت المشقة فلم تلزم الإعادة.

والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: أما سجود هذا الشاك للسهو بعد عمله (3) ما أمرناه به فقد قدمنا مذهبنا في محل سجود السهو وما يكون فيه قبل السلام وما يكون بعده. وقد وقع في حديث الشاك ها هنا ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم. وقد كنا قدمنا الكلام على تأويل هذا الحديث وانفصلنا عن استدلال من استدل به على أن محل السجود كله قبل السلام بما يغني عن إعادته ها هنا.
وقد دعا محمَّد بن يحيى ى بن عمر بن لبابة ظاهر هذا الحديث إلى أن قسم محل سجود السهو على غير ما قسمناه. فقال: السجود للنقص المتحقق وفي الشك، قبل السلام. وإنما يسجد بعد السلام من تيقن الزيادة. ولو أن المصلي شك في سهوه، هل هو مما يقتضي السجود قبل السلام أو بعد السلام؟ فالمشهور أنه يسجد قبل السلام. وحكى ابن حارث أنه يسجد بعد السلام.
__________
(1) أخرجه في المسند عن عبد الله قال سمعت أبي يقول سألت أبا عمرو الشيباني عن قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا إغرار في الصلاة فقال: إنما هو لا غرار في الصلاة ومعنى غرار يقول لا يخرج منها وهو يظن قد بقي عليه منها شيء حتى يكون على اليقين والكمال.
المسند ج 2 ص 461.
(2) الغرر -ق-.
(3) علمه -ق-.

(1/633)


والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: اختلف في الشاك هل أكمل صلاته أم لا؟ هل يجوز له أن يسأل المؤتمين به؟ فالمشهور منع ذلك كان في الصلاة أو انصرف منها بسلام ثم حدث له الشك بعد سلامه. ووجه هذا أنه مع الشك مخاطب بالبناء على اليقين كما تقدم. فهو في حكم من يتحقق أنه لم يكمل الصلاة. ومن لم يكمل الصلاة لا يجوز له الكلام. وقيل يجوز السؤال بعد التسليم خاصة. ووجه هذا: أنه بالتسليم خرج من الصلاة في الظاهر فيستظهر بالسؤال حتى يعلم حقيقة ما يعود إليه. ومن لم يسلم لم يخرج من الصلاة فلا يتكلم على شك. ولأن كلامه - صلى الله عليه وسلم - في حديث ذي اليدين إنما كان بعد أن سلم.
وأجاز محمَّد بن عبد الحكم السؤال قبل السلام وبعده. ووجهه أنه كلام لإصلاح الصلاة. والكلام لإصلاح الصلاة غير ممنوع وإن كان في أثنائها.

والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: اختلف قول مالك في الإِمام إذا أخبره من خلفه أنه لم يكمل هل يرجع إليهم أم لا؟ فروي عنه أنه لا يرجع إليهم إذا كان الأمر عنده بخلاف ما قالوه. وبه قال الشافعي. وروي عنه أنه يرجع إليهم وبه قال أبو حنيفة. وقال ابن حنبل يرجع إلى قول اثنين. وبه قال أشهب واشترط أن يكونا عدلين. وقال ابن مسلمة يرجع إلى قول العدد الكثير ولا يرجع إلى العدد اليسير كالاثنين والثلاثة. فوجه القول أنه لا يرجع، قوله - صلى الله عليه وسلم -: إذا شك أحدكم فلم يدر كم صلى أثلاثًا أم أربعًا فليبن علي يقينه (1). ووجه القول بأنه يرجع إليه، رجوعه عليه الصلاة والسلام إلى قول من خالفه.
والظاهر أنه لم يذكر ولا تحقق أنه نسي. إذ لو كان ذلك كذلك لأعلمهم بذلك لئلا يتوهموا عليه أنه رجع إلى قولهم، وهو إنما رجع إلى علم نفسه. ولأن الإنسان يرجع إلى خبر غيره في رؤية الهلال، وكذلك (2) يرجع إلى خبر غيره في الصلاة. وأجيب عن هذا أنه إنما رجع في استهلال الهلال إلى خبر غيره لأنه لا يعتقد بطلان قوله، بخلاف المصلي الذي يعتقد بطلان قول من خلفه. على أن
__________
(1) أخرجه مسلم حديث رقم 57 أو لفظه: إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى ثلاثًا أم أربعًا فليطرح الشك وليس على ما استيقن.
(2) فكذا -و-.

(1/634)


الشاك في الوقت لو أخبره غيره لم يعمل على خبره، فكذلك الشاك في عدد الركعات.
وقوإنفصل الأولون عن هذا أيضًا بأن الزوال له علامات ويقدر على العلم فلم (1) يعول فيه على الخبر.
وقد أشار ابن القصار إلى أنه لا يرجع إلى قولهم في الزيادة إذا تيقن خطأهم لأنهم إن تعمدوا تركه على غلطه فليسوا بعدول، وإن جهلوا لم يرجع إليهم. وإن نسوا ثم أيقنوا فيقينه أولى لتبدل اعتقادهم. ولأن سجود السهو في الزيادة بعد السلام ليس بواجب. وأما إن أخبروه بالنقص فليرجع إليهم لأن يقينهم أولى من يقينه. والمصلي مأمور بالبناء على اليقين.
وأما إذا شك المصلي فأخبره من (2) ليس معه في صلاة فقال بعض أشياخي إذا شك الإِمام ومن خلفه فأخبرهم عدلان أنهم أتموا رجعوا إليهما.
ويختلف إذا كان المخبر عدلا واحدًا. فروي عن مالك أنه لا يرجع إليه. وفي الموازية إذا أخبره واحد أنه أتم طوافه أرجو أن يكون في ذلك بعض السعة.
فمن سلك به مسلك الشهادات اشترط العدد، ومن سلك به مسلك الإخبار لم يشترطه. ولو كان على يقين لم يرجع إلى قول من ليس معه في صلاة، أخبره بالإكمال، أو بالنقص، إلا أن يكونوا عددًا كثيرًا فيرجع إليهم على أصل ابن مسلمة. وقال ابن القصار إذا شك هل صلى أم لا فأخبر أنه صلى فإن كان المخبرون معه في الصلاة فهي كمسألة الإِمام يشك في عدد الركعات لأنهم يراعون أمر صلاته كما يراعيها. وإن لم يكونوا معه لم يقبل منهم لأنهم لا تكون مراعاتهم لصلاته أكثر من مراعاته هو لها. وكذلك لو شهد شاهدان أن القبلة إلى جهة كذا لم يصل إليها من يعتقد خطأهم لأنه يبتدىء الصلاة إلى جهة يعتقد أنها غير القبلة ولا يصلي وراءه الشاهدان لاعتقادهما أنه في غير صلاة.

والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: إذا سلم الإِمام فكلمه بعض من
__________
(1) على العلم فلهذا لم -ق-.
(2) فأخبره غيره من -و-.

(1/635)


خلفه بعد سلامه مخبرا أنه لم يكمل، فقيل تصح صلاته وقيل تبطل صلاته.
وقيل إن جرى ذلك في الركعة الثانية خاصة صحت الصلاة. وإن جرى فيما سواها من الركعات لم تصح. فوجه القول بصحة الصلاة على الإطلاق. حديث ذي اليدين (1) وقد ذكر فيه بعض كلام المأمومين للنبي - صلى الله عليه وسلم -. ولم ينقل أنه أمرهم بالإعادة. ووجه القول ببطلان الصلاة أن الكلام في الصلاة عمدا يبطلها.
وهؤلاء قد تكلموا وهم على علم بأن صلاتهم لم تكمل. ومن تكلم ممن صلى وراء النبي - صلى الله عليه وسلم - فعذره بيّن لتجويز النسخ حينئذٍ، فليس على يقين من عدم الإكمال *ومن بَعْد النبي - صلى الله عليه وسلم - على يقين من عدم الإكمال* (2). وقد أفسد ابن القاسم هذا الاعتلال لما ذكر له عن ابن كنانة بأن القوم تكلموا بعد علمهم بعدم النسخ. ألا ترى أنهم قد قالوا قد كان بعض ذلك لما سألهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان قولهم ذلك بعد الإخبار أنها لم تنسخ. ولما استشعر بعض المتأخرين من أصحابنا صحة انفصال ابن القاسم اعتذر عن كلام بعض الصحابة رضي الله عنهم بعد علمهم بعدم النسخ بأن قال: فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قال: أصدق ذو اليدين استدعى منهم الجواب. ومجاوبته - صلى الله عليه وسلم - لازمة. وامتثال أوامره مشروع. فهو في هذا - صلى الله عليه وسلم - بخلاف من سواه من الأئمة الذين لا تلزم مجاوبتهم. ولعمري إن هذا الذي قاله ليروق. ولكن قد يقول قائل في الممكن أن يجيبوه - صلى الله عليه وسلم - إشارة لا عبارة. والإشارة في الصلاة لا تبطلها. والكلام يبطلها إلا أن يدعي هذا المعتذر بما حكيناه عنه أنه لا يمكنهم إفهامه - صلى الله عليه وسلم - إلا بالعبارة أو يدعي أنه استدعى منهم الجواب عبارة، وإن أمكنت الإشارة.
ووجه القول بالتفرقة بين الثانية وما سواها أن الأصل بطلان الصلاة بالكلام ووقع في حديث ذي اليدين الكلام في الثانية فقصرت الإباحة على الثانية دون ما سواها. وهذا ضعيف. لأن المنع من الكلام تتساوى فيه الركعات
__________
(1) تقدم تخريجه.
(2) ما بين النجمين = ساقط من -ق- ومعناه أن الشك في النسخ وعدم الإكمال ينتفي بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -.

(1/636)


والحاجة إليه تتساوى فيه أيضًا، فلا معنى للتفرقة. على أنه قد خرج مسلم في حديث (1) أن ذلك جرى في الثالثة، وهذا يفسد القول بالتفرقة. وقد وقع في حديث ذي اليدين أنه - صلى الله عليه وسلم - أخبرهم أن الصلاة لم تقصر وأنه لم ينس. وقد ثبت أنه نسي. وهذا إخبار بالشيء على خلاف ما هو عليه وهو معصوم - صلى الله عليه وسلم - من الكذب. والجواب عن هذا أن نقول لو صرح - صلى الله عليه وسلم - بتقييد كلامه فقال ما قصرت ولا نسيت في اعتقادي، وسمع الناس منه هذا التقييد، وهو قوله في اعتقادي، لم يعد ذلك كذبًا ولا إخبارا عن الشيء بخلاف ما هو عليه. فإذا لم يقل ذلك وسكت عن التقييد بقوله في اعتقادي، كانت قرينة الحال دالة على أنه مراده.
لأن المراجعة التي كانت تقتضي ذلك ولا ينكر عاقل أن الإنسان منا قد يقول قولًا أو يفعل فعلًا فينبه على وهم وقع منه فيه فيقول لم يكن ذلك ويشعر المنبه له بأن مراده أني لم أقصد لما أضفت إلى وإن اعتقادي خلاف ما نسبت إلى لا سيما ولم يقع قول ذي اليدين موقع التصميم على أمر يعينه، وإنما وقع منه لفظ تردد بين أمرين فقال أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله؟ كالمستفهم فأجابه بأن الأمرين لم يكونا، يعني على ما أعتقد. وأشعره أنه لم يسلم إلا وعنده أنه قد أكمل الصلاة. وهذا لائق في جواب المستفهم بمثل هذا اللفظ.
كما أن عصمة الأنبياء من وقوع الكذب منهم تعمدًا أو نسيانًا فيه كلام يطول وموضعه كتب الأصول. وقد تكلف بعضهم تأويلا تعسف فيه فتأول قوله - صلى الله عليه وسلم - كل ذلك لم يكن على أن المراد به لم يكن القصر والنسيان جميعًا، وإن كان يمكن أن يكون قد وقع أحدهما. وهذا تعسف وبعيد عن ظاهر اللفظ. وهب أنه سلم له هذا التأويل على بعده فما يصنع في الرواية الأخرى التي ذكر فيها أن الصلاة لم تقصر وأنه لم ينس. وهذا لا يسلك فيه إلا ما سلكناه في الجواب. والاعتماد
__________
(1) هو الحديث الذي أخرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب جميعًا عن ابن عليه قال زهير ثنا إسماعيل بن إبراهيم عن خالد عن أبي قلابة عن أبي المهلب عن عمران بن حصن أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى العصر فسلم في ثلاث ركعات. كتاب المساجد باب السهو في الصلاة حديث رقم 101.

(1/637)


عليه أولى لاطراده وجريانه على الروايتين جميعًا وسلامته من التعسف على ظاهر هذا اللفظ.

والجواب عن السؤال السادس (1): أن يقال: إذا سلم من اثنتين فذكر وهو جالس في مقامه فعليه أن يرجع إلى الصلاة بإحرام ثم يكبر تكبيرة القيام للثالثة.
وقد قال بعض الأشياخ ليس ذلك عليه وإنما يفتقر إلى الإحرام لو قام بعد سلامه أو فعل ما يوجب حاجته إلى الإحرام. وأما إن ذكر بعد قيامه وانصرافه فإنه يفتقر في رجوعه إلى إحرام. فإن رجع بغير إحرام بطلت صلاته عند ابن نافع ولم تبطل صلاته عند ابن أبي زيد وغيره من مشائخ عصره. قال الأصيلي ونيته تكفيه عن الإحرام كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد وقع في المدونة أنه - صلى الله عليه وسلم - رجع بإحرام. وقال بعض الأشياخ لم يثبت لأن ابن سحنون أسنده لابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد قال الشيخ أبو الحسن: ليس في السهو لابن عمر حديث صحيح ولا سقيم. فإذا أمرناه أن يرجع بإحرام فهل يوقعه جالسًا لأنها الحالة التي فارق منها الصلاة، أو يوقعه قائمًا؟.
قال من تقدم من أصحاب مالك يوقعه قائمًا. وقال ابن شبلون يوقعه جالسًا: فإذا قلنا بوقوعه قائمًا فهل يجلس بعد إيقاعه أم لا؟ فيه قولان. قال ابن القاسم يجلس ليأتي بالنهضة التي فعلها أولًا في غير صلاة. وقال ابن نافع لا يجلس، ورأى أن النهضة غير مقصودة في نفسها وقد فات محلها بالقيام فلا يعود إليها.
وإذا قلنا أنه إذا أحرم قائمًا جلس فهل يجلس من سلم حين رفع رأسه من سجود الثانية أو الثالثة؟ قال بعض أصحاب مالك لا يجلس. وقال بعض المتأخرين بل يجري ذلك على القولين لأن ما بين رفع رأسه ومنتهى قيامه لم يفعله في صلاة فيختلف فيه أيضًا.

والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: إطالة التذكر لا تخلو من قسمين: أحدهما أنه تقطع في فعل في تطويله قربة كالقيام والركوع والسجود
__________
(1) السؤال السادس والسابع = ساقطان من نسخة -ق-.

(1/638)


والجلوس فليس في إطالة هذا سجود سهو. لكن سحنون قال في الجلوس: إن أطاله طولًا خرج فيه عن الحد سجد للسهو. وقال أيضًا فيمن أطال القراءة في السجود أو الركوع أو القيام أو القعود، فإنه يسجد بعد السلام لأجل الإطالة. لا لأجل القراءة.
وإن كان (1) لا قربة في تطويله كالجلوس بين السجدتين والمستوفز للقيام على يديه وركبتيه بعد رفعه من السجدتين فإن مالكًا قال في هذا لا سجود عليه. وكأنه رأى أن الشك بانفراده لا يوجب سجودًا وإطالة الفعل عمدا لا توجب سجودًا.
وقال أشهب يسجد للسهو لأنه إنما طولها بالشك ولا قربة في التطويل.
وقد اعتل ابن القاسم لنفي السجود في إطالة التذكر في الركوع أو السجود أو القيام أو القعود بأنه ليس بزيادة ولا نقصان. واعتل أشهب بأن الإطالة لما لم تمنع على الجملة لم يتعلق بها سجود سهو (2).
وقد تلخص من هذا أن الإطالة يراها سحنون توجب سجود السهو على الإطلاق. ومالك وابن القاسم وأشهب لا يوجبون بالإطالة سجود سهو، لكن أشار بعض المتأخرين إلى الاختلاف فيما لا قربة في إطالته وذكر ما ذكرناه في المطيل بين السجدتين عند رفع الرأس منهما.

والجواب عن السؤال الثامن: أن يقال: لا يخلو الاستنكاح ها هنا إما أن يكون كثرة شك فلا يدري سها أم لا، أو يسهو. أو يتكرر ذلك عليه.
فأما الذي يتكرر عليه الشك فإنه لا يلزمه أن يبني على اليقين. وكأن كثرة تكرر (3) الشك أسقطت (3) عنه أن يأتي بالإكمال الذي يؤمر به من لم يتكرر الشك عليه. وهل يسقط عنه هذا التكرر سجود السهو أم لا؟.
اختلف فيه قول مالك فقال مرة يسجد، وقال مرة أخرى لا سجود عليه.
__________
(1) هذا هو ثاني القسمين.
(2) هكذا في النسخة -و- التي عليها وحدها الاعتماد لسقوط الجواب من نسخة -ق- وأشهب يقول بسجود السهو للإطالة. والتعليل يفيد عكس ذلك.
(3) تكرر ساقطة = و. أسقط.

(1/639)


فوجه القول بالسجود قياسًا على من لم يتكرر عليه. ووجهه القول بنفيه أن التكرار إذا أسقط مقتضاه من البناء على اليقين أسقط مقتضاه من السجود. فإن قلنا بالسجود فما محله؟.
فيه اختلاف. قال مالك بعد السلام. ووجه هذا أنه سجود ترغيم.
وتجويز النقص غير معتبر. ولو اعتبر لما اقتصر على سجود السهو لتجويز نقص ما لا يجزئ عنه السجود. وقال ابن حبيب يسجد قبل السلام. ووجهه أن النقص والزيادة يجوز أن يُغلّب حكم النقص على الزيادة في تجويزهما كما غلب في اليقين بهما.
وأما الذي يتحقق السهو ويكثر عليه فإنه يبني ولا سجود عليه قاله في الموازية.

قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله تعالى: ولا يسجد المأموم لسهوه.
والإمام يحمله عنه (1). ويسجد هو مع الإِمام في سهو الإِمام أدركه أو سبقه به (2). فإن سبقه به سجد معه إن كان قبل السلام، وإن كان بعده انتظر إلى أن يفرغ من القضاء ثم يسلم ويسجد (3).

قال الشيخ رحمه الله تعالى: يتعلق بهذا الفصل سبعة أسئلة. منها أن يقال:
1 - لم حمل الإِمام سهو المأموم؟.
2 - ولم سجد المأموم في سهو الإِمام؟.
3 - وإن لم يسجد الإِمام فهل يسجد المأموم؟.
4 - وهل يسجد المسبوق لسهوه فيما يقضيه؟.
5 - ومتى يسجد المسبوق عن سهو الإِمام؟.
6 - وما حكم المسبوق إذا اجتمع عليه سهو الإِمام وسهو نفسه؟.
__________
(1) عنه = ساقطة -الغاني-.
(2) به = ساقطة -غ-.
(3) ثم يسجد -غ- في -و - ق- ثم يسلم. وانفردت نسخة الغاني بالجمع بينهما.

(1/640)


7 - وما حكم المسبوق إذا قام لقضاء ما عليه قبل سلام الإِمام؟.

والجواب عن السؤال الأول: أن يقال: أطبق العلماء على أن المأموم لا يلزمه السجود في سهوه. وحكي عن مكحول أنه قام عن قعود الإِمام فسجد سجدتين، ولنا ما رواه الدارقطني بإسناده عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ليس على من خالف الإِمام سهو. وإن سها الإِمام فعليه وعلى من خلفه (1). وأيضًا فإن معاوية ابن الحكم تكلم في صلاته خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يأمره بسجود. ولأنه لما لزمه سهو الإِمام وإن لم يسه، لم يلزمه سجود عن سهوه؛ لأن الإِمام يتحمله عنه. ولأن الجماعة شرعت ليحصل للمأموم من مراعاة الاتباع والاقتداء ما يبعد صلاته عن السهو، فإذا سها لم يسجد. فكانت كلفة الاقتداء والمتابعة تسقط (2) عنه سجود السهو لتشاغله بمعنى شرع ليبعده عن السهو.
والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: إذا سها الإِمام لزم المأموم أن يسجد معه. لقوله: فإذا سها الإِمام فعليه وعلى من خلفه. ولأنه كما حمل عنهم عهدة ما فعله فليتبعه المأموم ويلزم معه عهدة ما لم يفعله. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنما جعل الإِمام ليؤتم به (3). ومن الائتمام به اتباعه في السجود.

والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: إذا لم يسجد الإِمام للسهو فإن المأموم يسجد، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة. وقال عطاء والحسن والقاسم والثوري والمزني وابن حنبل في أحد الروايتين عنه لا يسجد المأموم. ودليلنا أن سجود السهو إنما شرع في النقص ليتلافى به ما انتقص من الصلاة عن الكمال.
فإذا انتقصت صلاة الإِمام انتقصت صلاة المأموم فيؤمر الإِمام بالإكمال فإن لم يفعل أمر به المأموم كما يؤمر المأموم بفعل السجدة إذا تركها الإِمام. وإن كان السهو زيادة فحكمه حكم النقص في هذا.
واحتج المخالف بأن المأموم لم يسه، وإنما يسجد على سبيل التبع
__________
(1) الجزء الأول ابن أبي شيبة ج 1 ح 4526.
(2) مسقطة -ق-.
(3) تقدم تخريجه. ص 531.

(1/641)


للإمام. فإذا ترك المتبوع لم يفعل التابع. وما قدمناه من مراعاة طلب الكمال انفصال عن هذا.
وقال بعض المخالفين سجود السهو نفل، والمأموم يتابع الإِمام في النفل. والجواب عن هذا ما قدمناه من اختلاف الناس في سجود السهو هل هو واجب أو مستحب، فإن قلنا بوجوبه فمخالفة الإِمام (1) يظهر وجهها. وإن قلنا باستحبابه فإن المأموم لم يخالف الإِمام في حال كونه إمامًا، وإنما يسجد للسهو بعد سلام الإِمام. فالإمام إذا سلم خرج من الإمامة فلم يكن في الأمر للمأموم بالسجود سلوك لطريقة مخالفة للإمام.

والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: إذا قام المسبوق لقضاء ما فاته فسها فيه فإنه يسجد لسهوه. وبه قال ابن عمر وابن الزبير والخدري. وقالت الشافعية لا سجود عليه لقوله - صلى الله عليه وسلم - ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا (2). قلنا إن السهو حدث له في فعل انفرد به فأمران يتلافى نقصه كالمنفرد في الصلاة كلها.
والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: المسبوق لا يخلو من قسمين:
أحدهما أن يكون لم يدرك ركعة مع الإِمام وإنما أدركه في الجلوس الآخر (3) والثاني أن يعقد معه ركعة.
فأما من لم يعقد معه ركعة فاختلف في متابعته الإِمام إذا كان سجوده (4) قبل السلام. فقال ابن القاسم لا يتبعه. وقال سحنون يتبعه. وأما إن عقد معه ركعة فإنه يلزمه أن يسجد لسهو الإِمام فيما سبقه. وهل عليه متابعة الإِمام في السجود في الفعل والزمن أو الفعل دون الزمن؟ اختلف الناس في ذلك. فقال ابن سيرين وإسحاق لا يتابعه في الزمن سواء كان السجود قبل السلام أو بعده
__________
(1) لم يظهر -ق-.
(2) فأتموا. عن أنس بن مالك قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أتيتم الصلاة فأتوا وعليكم السكينة فصلوا ما أدركتم واقضوا ما سبقتم. الطبراني الأوسط. ورجاله موثقون. مجمع الزوائد ج 2 ص 31.
(3) وإنما أدرك الجلوس الأخير.
(4) سجود -و-.

(1/642)


وإنما يسجد إذا قضى ما عليه. لأن محل السجود ما بعد القضاء لا ما قبله.
وقال أبو حنيفة يتابعه في السجود فعلًا وزمنًا لأنه يرى أن السجود كله بعد السلام. وقد قدمنا الاختلاف بينه وبين صاحبه في كون تسليم من عليه السهو غير محلل له من الصلاة. وإذا لم يكن التسليم محللًا وكان الإِمام يعود لسجود السهو إلى حكم صلاته حتى كأنه لم يخرج منها أمر المأموم بمتابعته قبل أن يقوم إلى القضاء لكون الإِمام غير مقدر خروجه من الصلاة عند سجوده للسهو.
ومذهبنا أن سجود الإِمام إن كان قبل السلام تابعه فيه المأموم، إذ لو لم يتابعه فيه لكان مخالفًا عليه. وهو يتابعه فيما لا (1) يعتد به مثل إذا أدركه ساجدًا فإنه يسجد معه، وإن كان لا يعتد بالسجود فأحرى أن يتابعه ها هنا. وإن اتبعه لم يعد السجود إذا سلم خلافًا لأحد القولين عند الشافعية بإعادة السجود إذا فرغ من القضاء؛ لأن الإِمام إنما سجد عن سهوه وتابعه المأموم على ذلك فلا يعيد السجود إذ لا يسجد عن سهو واحد مرتين.
وإن كان بعد السلام لم يسجد إلا بعد قضائه لأن الإِمام خرج بالتسليم عندنا من الصلاة وتحلل منها. فلم يكن في تأخر المأموم عن السجود معه مخالفة على الإِمام لزوال الإمامة بالتسليم وفساد (2) هذا التعليل أن يقوم للقضاء عند سلام الإِمام من صلاته لكون المخالفة غير معتبرة حينئذٍ فيما قلناه وهو أحد الأقوال عندنا. وإن كان قد قيل إن المختار قيامه بعد سلام الإِمام من سجود السهو لأن انتظاره إلى أن يسلم من سجود السهو فيه تقليل المخالفة عليه، ومجانبة لأن يكون المأموم يحدث فعلًا مخالفًا لما أحدثه الإِمام. وقيل إن المأموم غير بين هذين المذهبين.

والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: لا يخلو المسبوق إذا سها فيما يقضيه إذا سها إمامه أن يكون سهو الإِمام قبل السلام وقد سجده معه، أو بعد السلام ولم يسجده معه. فإن كان قبل السلام اعتبر حكم سهوه في نفسه فيسجد
__________
(1) في -و- رطوبة. الأقرب: لم.
(2) هكذا في -ق- وهي كلمة ممحوة في -و- والمعنى غير واضح. ولعل الأولى ومفاد.

(1/643)


للنقص قبل، وللزيادة بعد. وقيل لا يعتبر بسهوه وينوب له سجوده مع الإِمام عنه سواء كان سهوه نقصًا أو زيادة. إذ لا يسجد للسهو مرتين. وأما إن كان سجود الإِمام بعد السلام فلا يخلو أن يكون سهو المسبوق زيادة أو نقصانا.
فإن كان زيادة سجد بعد السلام وناب له عن السهوين. وإن كان نقصًا فاختلف فيه. فقيل يسجد قبل السلام عنهما تغليبا لحكم سهوه على حكم سهو الإِمام لما كان سهوه نقصا. وقيل بل يغلب حكم سهو الإِمام فيسجد بعد السلام عنهما.
ولو كان هذا المسبوق استخلفه إمامه بعد أن سها الإِمام فإنه لا يخلو أن يكون سهو الإِمام زيادة أو نقصانًا. فإن كان زيادة فلا يسجد للسهو إلا بعد فراغه من قضائه وتسليمه من الصلاة. فإذا سلم بهم سجد بهم. وإن كان نقصًا فاختلف في سجوده متى يكون؟ فقيل بعد أن يفرغ من قضائه فيسجد حينئذٍ ويسلم بهم. وقيل عند انقضاء صلاة الإِمام. ولو كان هذا المسبوق سها فيما يصليه، بعد إمامه، فلا يخلو إما أن يكون إمامه الذي استخلفه سها، أو لم يسه. فإن كان إمامه لم يسه فلا يخلو سهو المستخلف إما أن يكون مما يسجد فيه بعد السلام أو قبله. فإن كان مما يسجد فيه بعد السلام فلا يتبعه المأمومون لانفصالهم عن حكم الإمامة بالسلام. وإن كان مما يسجد فيه قبل السلام فهل يتبعه المأمومون فيه أو لا؟ اختلف فيه. فقيل لا يتبعونه ووجهه أنه سها في صلاة انفرد بها فلم يلزم (1) اتباعه فيها في سهو. وقيل بل يتبعونه كما يتبع المسبوق إمامه فيما لم يحضر مجه السهو فيه. وإن كان هذا المسبوق قد سها إمامه ثم سها هو فيما يصليه بعده. فإن كان سهو الإِمام نقصانًا كان سجوده عن جميع السهو الذي انفرد به والذي لم ينفرد به قبل السلام. وسواء كان ما انفرد به زيادة أو نقصانًا. وإن كان سهو الإِمام زيادة وسهو المسبوق فيما يصليه بعده زيادة كان سجوده عن جميع السهو الذي انفرد به والذي لم ينفرد به بعد السلام. وإن كان سهو المسبوق نقصانًا حتى اختلف حكم سهوه وحكم سهو
__________
(1) يلزمهم.

(1/644)


إمامه ففيه قولان: ما الذي يغلب من السهوين؟ هل حكم زيادة الإِمام؟ فيكون السجود بعد السلام. أو ما نقصه المسبوق؟ فيكون السجود قبل السلام، وقد تقدم ذلك. وسواء كان سهو المسبوق في بقية صلاة الإِمام أو فيما يقضيه مما فاته لم يتعرض أحد من أصحابنا إلى (1) التفرقة بينهما ولو فرق مفرق بينهما بقدر ما يقع من السهو في بقية صلاة الإِمام. أن الإِمام فعله حتى يتوهم أن الإِمام بنفسه زاد ونقص فيكون السجود قبل السلام، وقدر ما يقع من السهو فيما يقضيه المسبوق لا تعلق (2) له بالإمام فينظر في التغليب بين سهو المسبوق وسهو الإِمام، لكان (3) للنظر في قوله مجال. ولم أر أحدًا من أصحابنا تعرض للتفرقة وهذا مما يحتاج إلى قصد تأمل.

والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: لا يسوغ لمن فاته بعض صلاة الإِمام أن يقضي ما فاته حتى يسلم الإِمام من صلاته. فإن قام للقضاء ظنًا أن الإِمام سلم فهل يعتد بما عمله من القضاء أم لا؟ المشهور أنه لا يعتد بذلك.
وقال ابن نافع يعتد به. فوجه المشهور أن القضاء لما تعين محله وجب أن يكون تقدمته على محله تمنع من الاعتداد به، كما لو قدم السجود على الركوع. فإذا لم يعتد به وأمرناه بإعادته فهل يسجد للسهو؟ لا يخلو من أن يكون صادفه سلام الإِمام وهو جالس أو صادفه وهو ساجد، أو صادفه وهو قائم. فإن صادفه وهو جالس فلا سهو عليه لأن جميع الأفعال التي وقعت منه كانت والإمام في صلاته فهو يحمل ذلك عنه. وإن صادفه سلام الإِمام وهو ساجد فرفع رأسه بعد سلام الإِمام وجلس ثم قام للقضاء سجد بعد السلام لزيادته الحركات التي هي رفع الرأس من السجود. وإن رفع رأسه من السجود ولم يرجع جالسًا بل استوى قائمًا سجد قبل السلام لأنه زاد حركات الرفع ونقص النهضة من الجلوس الذي يجب عليه عند القضاء على طريقة من قال من أصحابنا باعتبار سقوط النهضة.
وإن سلم الإِمام وهو قائم فاختلف في سجوده. فقيل: لا سجود عليه
__________
(1) للتفرقة -ق-.
(2) لا يتعلق له بالإمام فيكون في التغلب -ق-.
(3) لكان جواب ولو فرق مفرق بينهما.

(1/645)


وعلل ذلك بعلتين: إحداهما إن (1) تركه النهضة وقع منه وهو مؤتم، والمؤتم لا سجود عليه. والثانية أنه لم يتركها نسيانًا بل فعلها بعمد وقصد، فإذا لم يسه لم يسجد. وقيل عليه السجود. واختلف هؤلاء في محل سجوده. فقيل قبل السلام لنقصه النهضة والنقص محل السجود فيه قبل السلام. وقيل بل يسجد بعد السلام. ولعل هذا رأي ضعف السجود، فتحفظ من إيقاعه في الصلاة فاستظهر به واستظهر للصلاة فأوقعه بعدها.

قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله تعالى: من قام من اثنتين قبل الجلوس رجع ما لم يعتدل قائمًا فإن اعتدل قائمًا مضى وسجد قبل السلام؛ لأنه نقص.
فإن أخطأ فرجع جالسًا سجد بعد السلام لأنه زاد. وقيل قبله لأنه زاد ونقص.
قال الشيخ الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل خمسة أسئلة. منها أن يقال:
1 - لم رجع قبل أن يستوي قائمًا؟.
2 - ولمَ لم يرجع إذا اعتدل قائمًا؟.
3 - وما حكمه إذا رجع بعد أن اعتدل قائمًا؟
4 - وما حكم سجود السهو إذا لم يعتدل؟.
5 - ولم اختلف في محل (2) سجوده إذا رجع بعد أن اعتدل؟.

والجواب عن السؤال الأول: أن يقال: اختلف المذهب في المتحرك للثالثة ساهيًا إذا ذكر قبل أن يستوي قائمًا. فقيل إذا استقل وفارق الأرض تمادى على قيامه ولم يرجع. وهذا هو المشهور. وحده ابن المنذر عن مالك بأن قال إذا فارق الأرض بأليتيه. وقيل يرجع ما لم يستو قائمًا. فوجه القول بأنه لا يرجع: إن محل الجلوس قد فات فلا يعود إليه بعد فواته. ووجه القول بأنه يرجع أن الأصل قضاء الأفعال بمثلها ما لم يمنع من ذلك مانع، فإذا اعتدل قائمًا فقد تلبس بالقيام، والقيام فرض فلا يترك فرضًا نشب فيه لسنة أحل بها. وما قبل
__________
(1) إن = ساقطة -و-.
(2) محل = ساقطة -ق-.

(1/646)


استوائه قائمًا لم يتلبس بفرض فَيُمنعَ من الانتقال منه إلى السنة.

والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: اختلف الناس فيمن اعتدل قائمًا وقد نسي الجلوس، فمذهبنا أنه لا يرجع. وقال النخعي يرجع ما لم يقرأ. وقال الحسن يرجع ما لم يركع. وقال ابن حنبل إذا لم يقرأ فهو بالخيار بين أن يرجع أو لا يرجع، والأولى أن لا يرجع. فدليلنا ما روي أن المغيرة قام من اثنتين فسبحوا به فأشار إليهم أن قوموا فلما فرغ قال هكذا صنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1).
ولأنا قدمنا أن القيام فرض وذكرنا اختلاف الناس في الجلسة الأولى وبينا أن مذهبنا أنها سنة، ودليلنا على ذلك. وإذا كان ذلك كذلك فلا يترك فرض لسنة.
ولعل النخعي رأى أن القيام إنما يراد للقراءة فإنما يتحقق تلبسه بالفرض إذا تلبس بالقراءة. وكذلك الحسن لعله قدر أن القيام إنما يراد للقراءة، والقراءة في هذه الركعة لا تجب فإنما يتحقق تلبسه بالفرض عند تلبسه بالركوع. ولعل ابن حنبل رأى أن تتساوى المراتب فيما أحل به وفيما أخذ فيه. فخير بينهما واستحسن أن لا يرجع لنوع من الترجيح، ولكونه أقرب لظاهر الحديث. هذا الذي يظهر لي في توجيه هذه الثلاث مقالات.

والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: إذا رجع بعد أن اعتدل قائمًا لم تبطل صلاته في المشهور من مذهبنا. وقيل بل تبطل إذا فعل ذلك عن قصد.
وقال ابن سحنون تبطل ولم يقيد قوله، وقد يتأول قوله على أنه أراد إذا رجع عن قصد كما حكيناه عمن سواه. فوجه المشهور أن نهيه عن الرجوع بعوإلاعتدال لم تقم عليه دلالة قاطعة لا يمكن دخول التأويل فيها. وقد وقع فيه من الخلاف ما حكيناه. فإذا رجع بعد اعتداله فقد أصاب وجه الصواب عند من حكينا قوله من العلماء. فلم تبطل صلاته لذلك. ووجه القول الآخر أنا إذا كنا نوجب عليه التمادي على قيامه، فمتى لم يفعل وتعمد مخالفة المشروع بطلت صلاته كما لو رجع من سجدة إلى ركعة.

والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: ذكر ابن حبيب أنه إذا تزحزح
__________
(1) رواه أبو داود والترمذي. حديث حسن. جامع الأصول ج 5 ص 533.

(1/647)


للقيام ثم ذكر فجلس أنه لا يسجد. وقال أشهب: إذا رجع للجلوس بعد أن قام ولم يعتدل قائمًا فإنه يسجد بعد السلام. وذكر الشافعية (1) قولين في سجود من قام ولم يعتدل ثم رجع. قالوا: فإثبات السجود لحصول الزيادة ونفيه لخفة الزيادة وقلتها. وقياسًا على من مشى خطوة أو خطوتين.

والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: إذا رجع بعد أن اعتدل قائمًا فاختلف في سجوده. فقيل: بعد السلام لزيادة القيام. وقيل قبل السلام لأن سجود السهو قد ترتب عليه واستقر حكمه باعتداله قائمًا ونقصه الجلسة. وهي لا تقضي بمثلها بعد فواتها. فإذا رجع إلى الجلوس فقد زاد بعد تحقق النقص واجتماع النقص والزيادة محل السجود فيه قبل السلام. وعلى هذا الاختلاف يسري حكم جلوسه الذي رجع إليه هل يتمادى عليه حتى يكمل جلوسه أو يرجع إلى القيام حين يذكر؟ فإذا قلنا أن سجوده بعد السلام، تمادى على جلوسمعتى يكمله. لأن التقدير على هذه الطريقة أن الزيادة قد تجردت بحصول القيام الذي رجع عنه. والجلوس لم يأت به ولا بعوض عنه فيجب أن يتمادى على هذا الجلوس الذي رجع إليه. وإذا قلنا أن سجوده قبل السلام فإنه لا يتمادى على جلوسه هذا؛ لأنه قد عوض عن الجلوس المتروك بهذا السجود الذي قبل السلام فلا يجمع العوض والمعوض عنه.
__________
(1) الشافعي -ق-.

(1/648)


مفسدات الصلاة

قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله تعالى: ويفسد (1) الصلاة اثنتا عشرة خصلة:
1 - قطع النية عنها جملة. فأما تغييرها ونقلها فله تفصيل.
2 - والردة.
3 - وطرو (2) الحدث على أي وجه كان من سهو أو عمد أو غلبة.

قال الشيخ الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل أربعة أسئلة. منها أن يقال:
1 - ما معنى قوله بقطع النية عن الصلاة جملة؟.
2 - وما مراده بالتغيير والنقل؟.
3 - ولم أفسدتها الردة؟.
4 - ولم استوى في الحدث سهوه وعمده وغلبته؟.

والجواب عن السؤال الأول: أن يقال: قد قدمنا الدلالة على وجوب النية للصلاة. وذكرنا أنه لا يلزم استصحابها ذكرًا. ولكنها تستصحب حكمًا. ومعنى استصحابها حكمًا أن من نوى الصلاة حين الإحرام ثم ذهل عن النية في أثناء الصلاة فإن ذهوله لا يفسد صلاته وكان النية مذكررة حكمًا. وهذا لمشقة التحرز من الذهول عنها في سائر أجزاء الصلاة. فإذا كان ذاكرًا لها. وخطرت بباله وقصد رفعها ورفضها (3) وأن يوقع بقية الصلاة لهوًا ولعبًا فإن ذلك لا يجزيه
__________
(1) وتفسد -غ-.
(2) طرو ساقطة - و - ق -.
(3) ورفضها = ساقطة -و-.

(1/649)


لقطعه النية جملة وإحداثه معنى ينافي القربة. وقد اختلف فيمن ظن أنه أحدث أو رعف فخرج من الصلاة ثم تبين له خطاه في ظنه هل يبني على صلاته أم لا؟ فقيل يبني قياسًا على حديث ذي اليدين. وقيل لا يبني إذا لم يكن في ليل مظلم يتعذر فيه معرفة الخارج منه، لتركه التثبت قبل الخروج. واختلف لو كان هذا الخارج إمامًا. هل يفسد على من خلفه؛ فإنما ذكرنا هذا ها هنا لأن الخارج لظن الحدث قطع النية عن الصلاة.

والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: كنا قدمنا اختلاف أصحابنا فيمن ظن أن فرضه قد كمل وأنه في نافلة هل يعتد بما عمله بنية النافلة أم لا؟ وذكرنا اختلافهم أيضًا فيمن ظن في أثناء الظهر أنه في العصر فأكملها على ذلك هل تجزيه صلاته أم لا؟ وذكرنا وجه الاختلاف في هذا كله فلا معنى لإعادته ويمكن أن يكون القاضي أبو محمَّد عبر عمن تغيرت نيته عن الظهر إلى العصر بالتغيير.
وعمن انتقلت نيته من الفرض إلى النفل بالنقل. ويمكن أن يكون أراد بالعبارة كل واحد من هذين المعنيين. وكذلك اختلف فيمن زاد ركعة خامسة ساهيًا أو عامدًا ثم تبين له أنها رابعة لفساد إحدى الركعات. وقد تقدم ذكر الخلاف في ذلك. ولما تنوع التغيير والنقل إلى هذه الأنواع ولم يكن القاضي بسطها أشار إليها، بقوله فله تفصيل.

والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: حكم الردة في الصلاة مأخوذ مما تقدم لأن المرتد يستحيل منه التقرب إلى الله عَزَّ وَجَلَّ. وإذا استحال ذلك منه فقد قطع النية عن الصلاة جملة. وقد ذكر القاضي أبو محمَّد أن قطع النية عن الصلاة جملة يفسد الصلاة. والردة منه. مع أن (1) الردة لها مدخل في إفساد الطهارة أيضًا على ما كنا ذكرناه في كتاب الطهارة. وإذا فسدت الطهارة فسدت الصلاة.

والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: الحدث ينقض الطهارة باتفاق وهل ينقض الصلاة أم لا؟ لا يخلو من قسمين إما أن يكون محمدًا أو سهوًا. فإن كان
__________
(1) كون -ق-.

(1/650)


محمدًا نقضها باتفاق وإن كان سهوًا نقضها عندنا خلافًا لأبي حنيفة في قوله لا ينقضها. وأما الشافعي فله قولان. وأصحابه ينصرون من قوليه ما ننصره. وقال الثوري إن كان قيئًا أو رعافُ الم تبطل صلاته. وإن كان غير ذلك بطلت صلاته.
وقد احتج أصحاب أبي حنيفة بقوله عليه السلام: من قاء أو رعف في صلاته فلينصرف وليتوضا وليس على صلاته ما لم يتكلم (1). وروى ابن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: من قاء أو رعف أو مذى في صلاته فلينصرف وليتوضأ وليس على صلاته ما لم يتكلم. قالوا والمذي حدث بإجماع. قالوا وروي عن ابن عباس (2) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله. وكذلك عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وزاد فيه إذا تكلم استقبل الصلاة. قالوا ومذهب الخلفاء الراشدين وابن مسعود وابن عمر وأبي الدرداء وسلمان الفارسي البناء على الصلاة عن (3) الحدث السابق فيها. وعن علي في الغائط والبول. وليس في السلف موافق لمن خالفنا إلا المسور بن مخرمة. وأعلم أن حديث ابن أبي مليكة هو العمدة في الاحتجاج لأنه ذكر فيه المذي والمذي حدث. ولهذا وقع التنازع فيه فقال بعضهم هو مرسل لأن ابن أبي مليكة لم يلق عائشة رضي الله هـ تعالى عنها وقد أسند الحديث إسماعيل بن عياش. وقال الشافعي إسماعيل سيء الحفظ فيما يرويه عن غير الشاميين وابن أبي مليكة ليس شاميًا.
وزعم أصحاب أبي حنيفة أنه لقي عائشة رضي الله عنها فإنه قال سمعت عائشة رضي الله عنها تقرأ: إذ تُلِقّونه بالسنتكم بكسر اللام وتخفيفها. وقد سلم حذاق أصحاب أبي حنيفة أن القياس ما قلناه لولا الخبر. لأن الطهارة شرط في صحة الصلاة. فلا تبنى الصلاة بدون شرطها. ألا ترى أن الوقت لما كان شرطًا ذهب الوجوب بذهابه. وكذلك المحتلم في الصلاة تفسد صلاته وإن كان الاحتلام بغير قصد منه. ولأن المشي في الصلاة من غير حدث يفسدها. فالحدث إذا انضاف إلى المشي لا ينبغي أن يكون مخفيًا لحكمه بل منتقلًا له مع ما ينضاف
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة ج 2 ص 13 ح 5901.
(2) رواه ابن ماجة والدارقطني. وفي إسناده ضعف ج 2 ص 261. نصب الراية.
(3) على -ق-.

(1/651)


إلى ذلك من استدبار القبلة واستقاء (1) الماء والتوضئ. ولأن الطهارة شرط ابتداء فوجب أن تكون شرطًا دوامًا ولا يعارض ذلك بما هو شرط في الابتداء دون الدوام لأن ذلك لعلل. وقد قال بعض أصحاب الشافعي إن نوقضنا بمن انكشفت عورته فرد إزاره على البدار أو ألقت الريح على ثوبه نجاسة يابسة فنفضها أو حوله محول عن القبلة لحظة ثم أرسله فاستدار إليها. قلنا أما النجاسة اليابسة إذا أزيلت عن البدار فإن الثوب لا يتصف (2) بالتنجس ولم يحصل ما يخرم نظام الصلاة بخلاف أن يحمل النجاسة اليابسة، فإن حملها إسقاط لحرمة الصلاة لكونه يسمى حاملًا. ولو كانت النجاسة رطبة فقرض موضعها على الفور لبطلت صلاته لاتصاف الثوب بالتنجس. وكذلك لو انعطف طرف إزاره وبدا شيء من العورة فرد ما انعطف على الفور لم تبطل صلاته. لأن هذا لا يعد زوالًا للستر، وابتداء السترة بعد الزوال. فلو انحل عقد إزاره وزايله الإزار ورده على البدار لبطلت صلاته لأن هذا ستر جديد. وكذلك لو صرف بكليته عن القبلة بطلت صلاته ولو صرف بعضه فعاد إلى الاستقبال لم تبطل؛ لأنه يعد استقبالًا واحدًا.

قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله تعالى: و (3) تعمد الكلام بغير (4) إصلاحها. ولا يفسدها سهوه ولا عمده المقصود به إصلاحها.

قال الشيخ الأمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل عشرة أسئلة. منها أن يقال:
1 - ما حكم الكلام في الصلاة محمدًا من غير عذر؟.
2 - وهل يحل أو لا؟.
3 - وما حكمه محمدًا لإصلاحها؟.
4 - ومما حكمه لصيانة نفس أو مال؟.
5 - ومما حكم القرآن أو الذكر (5) إذا قصد به الإفهام لمعنى مطلوب؟.
__________
(1) استقبال -ق-.
(2) لا يوسف -ق-.
(3) أو تعمد الكلام من غير إصلاحها -الغاني-.
(4) لغير -و-.
(5) والذكر -و-.

(1/652)


6 - وما حكم الكلام سهوًا؟.
7 - وما حكم النفخ والتنحنح؟.
8 - وما حكم الأنين؟.
9 - وما حكم الضحك؟.
10 - وهل يحل الشرب في الصلاة محل الكلام؟.

الجواب عن السؤال الأول: أن يقال: أما تعمد الكلام في الصلاة بغير عذر فإنه يبطل الصلاة. وقد جاءت الآثار بمنعه. واشتهر نقلأوعملًا. ووضوحه يغني عن الإطناب فيه.

والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: كل ما ينطلق عليه اسم كلام فله مدخل في إفساد الصلاة من غير تحديد لحروفه ولا تعيين لها. وقال أبو يوسف كل كلمة من حرفين أحدهما من حروف الزوائد فإنها لا تقطع الصلاة. وحروف الزوائد عشرة يجمعها قولك اليوم تنساه. وقولك سألتمونيها. فكان أبا يوسف رأى أن أصل الكلام ثلاثة أحرف. فالحرف الواحد أقل هذا الأصل والأقل لا يحكم له بحكم الكل. وإذا كانت الكلمة من حرف أصلي وحرف زائد قدر الزائد كانه لم ينطق به وكان النطق إنما وقع بالأصلي وهو حرف واحد.
والحرف الواحد لا يؤثر. ولهذا لم يقطع التنحنح الصلاة لأنه حرفان. أحدهما الهمزة وهي من حروف الزوائد. وهذا الذي قال انما يروق في تعاليل النحاة لا في تعاليل الفقهاء. وما للفقهاء وللكلام على الحرف الزائد والأصلي؟ إنما هذا شغل أهل النحو والتصريف. فإذا كان النطق يسمى كلامًا كان له مدخل في إفساد الصلاة. والنظر في حروفه أصلية أو فرعية، شفوية أو حلقية مجهورة أو مهموسة شغل قوم آخرين. وسنتكلم على التنحنح إن شاء الله تعالى.

والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: أما كلام المتعمد المضطر للكلام لإصلاح الصلاة كالمأموم يتكلم ليشعر إمامه بسهو دخل عليه فاختلف فيه.
فالمشهور أنه لا يبطل الصلاة. وقال المغيرة يبطل الصلاة. والأصل في هذه المسألة كلام ذي اليدين. وقد ذكرنا ما تأوله ابن كنانة فيه. وأشرنا إلى قول

(1/653)


بعض المتأخرين أن كلام من أجاب النبي - صلى الله عليه وسلم - من الصحابة لا يقاس عليه؛ لأن الاستجابة للنبي - صلى الله عليه وسلم - مأمور بها. وقد نبه النبي - صلى الله عليه وسلم - أنسًا لما دعاه وهو في الصلاة على أن من حقه أن يجيبه وتلا عليه قوله تعالى: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} (1). الآية.

والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: إذا تكلم محمدًا لاستنقاذ مسلم كتحذير أعمى من السقوط في مهلكة فإنه عندنا يبطل الصلاة. وإن كان الكلام واجبًا. وقال الأوزاعي لا تبطل الصلاة. ورأى أن وجوب الكلام يمنع من كونه مبطلًا. وقال الشيخ أبو الحسن اللخمي لو كان هذا المصلي في خناق من الوقت لم يبطل كلامه الصلاة قياسًا على المسايف في الحرب لعلة اشتراكهما في إحياء النفس. وفي هذا التشبيه نظر. لأن المسايف لا يبطل كلامه الصلاة إذا اضطر إليه. ولو أوقع الصلاة في أول الوقت. والمصلي الرائي للأعمى يبطل كلامه الصلاة إذا لم يكن في خناق من الوقت مع اشتراكهما في كون الكلام تتساوى الحاجة إليه في أول الوقت وآخره.
ولو خاف المصلي على تلف مال كثير له أو لغيره تكلم وأبطل الكلام صلاته أيضًا. وقال سحنون في إمام يخاف على أعمى أن يقع في بئر أو ذكر متاعًا له خاف عليه التلف، فله الخروج لذلك ويستخلف. وقال أشهب في مدونته إذا خرج المصلي ليغسل النجاسة من ثوبه أو جسده ثم بني فإنه يجزيه قياسًا على الراعف. وقد يتخرج على قول أشهب أن يبني من قطع الصلاة لصيانة نفس أو مال ما لم يحدث ما يمنعه (2) من البناء.

والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: المصلي إذا افتتح على إمامه بالقراءة (3) فإن صلاته لا تفسد لأن قراءة الإِمام له قراءة (4). فإنما اشتغل بإصلاح عمل هو عامله في الحكم، ويعود بإصلاح صلاته. وأما إن فتح المصلي على
__________
(1) سورة الأنفال، الآية: 24.
(2) ما يمنع -ق-.
(3) إذا فتح على إمامه بالقرآن -ق-.
(4) لأن قراءة الأمام قراءته -ق-.

(1/654)


من ليس معه في صلاة فاختلف فيه. عندنا على قولين. فقيل: لا تفسد صلاته وبه قال الشافعي. وقيل تفسد صلاته. واشترط الحنفيون في إفساد الصلاة أن يتكرر ذلك منه مرارًا؛ لأنهم رأوه تعليمًا، والتعليم مما ينفع الناس به بعضهم بعضًا. وإذا كان من أعمال الناس روعي فيه أن يكون كثيرًا كسائر الأعمال بخلاف ما هو فيه من كلام المخلوقين فإنه ينقض الصلاة، وإن قل. لأنه بعينه من نواقض الصلاة. ووجه أحد القولين (1) عندنا بإبطال الصلاة من غير مراعاة لتكرار، أنه يقدر كلكلام في الصلاة بغير القرآن *لما كان لا حاجة به إليه ولا هو من مصلحة صلاته. وأما إن تكلم في الصلاة بالقرآن* (2) لإفهام رجل فقد قال ابن حبيب ما جاز للرجل أن يتكلم به في صلاته من الذكر والقراءة (3) فجائز له أن يرجع بذلك رجلًا أو يوقفه. وقد استأذن رجل على ابن مسعود وهو في الصلاة فقال ادخلوا مصر إن شاء اله آمنين (4). ولقد أجاز مالك والشافعي التسبيح للتنبيه والنائبة. وذهب أبو حنيفة إلى أن التسبيح لإفهام رجل يبطل الصلاة. وقد يتخرج في ذلك قول آخر بإبطال الصلاة قياسًا على أحد القولين عندنا فيمن فتح بالقرآن على من ليس معه في صلاة. وقد قال ابن القاسم فيمن أُخْبِرَ في الصلاة بما يسره فحمد الله تعالى أو بمصيبة فاسترجع، أو يخبر بالشيء فيقول الحمد لله على كل حال أو قال الذي بحمده تتم الصالحات فلا يعجبني. وصلاته مجزية. قالِ أشهب إلا أن يريد بذلك قطع الصلاة. وهكذا قال أبو حنيفة فيمن أخبر في صلاته بما يسر فأجاب عن ذلك باذ قال: الحمد لله إن صلاته تبطل. وقال أبو يوسف لا تبطل صلاته. ووافق أبو يوسف أبا حنيفة على إبطال الصلاة إذا نطق بالاسترجاع مجاوبًا لمن أخبره بما يسوؤه كما أبطل الصلاة بقول المصلي أيضًا: يا يبيح خذ الكتاب بقوة (5)، قاصدًا بذلك تنبيه رجل على أخذ كتاب. وقد تردد في هذا بعض أصحابنا البغداديين. قال لا يلزمنا على
__________
(1) أحد الأقوال -و-.
(2) ما بين النجمين = ساقط -ق-.
(3) والقرآن -ق-.
(4) سورة يوسف، الآية: 99.
(5) سورة مريم، الآية: 12.

(1/655)


إجازة التسبيح بقصد التنبيه، إجازة التنبيه بقوله يا يبيح خذ الكتاب بقوة. لأن هذا مما يستعمل خطابًا في مثل هذا المعنى. ولو أورده على جهة التلاوة وقصد به التنبيه لم يبعد القول بان الصلاة لا تبطل. لأن التنبيه ها هنا في حكم التبع فصار كالمعفو عنه. وقد كنا قدمنا أن إنشاد الشعر المشتمل على الثناء على الله تعالى يبطل الصلاة. ولو كان منشده لا يحسن قرآنًا لما كان ذلك من صنع كلام المخلوقين.
وهذا المعنى هو سبب اختلاف أبي حنيفة وصاحبه في صلاة المجيب بالحمد لله؛ لأن أبا يوسف لما رآه قرآنًا لم يبطل الصلاة. ولما قدره أبو حنيفة مما يستعمله الناس جوابًا في التهنيات لحق بالاستعمال بحكم كلام المخلوقين في هذا. وقد يصعب على أبي يوسف الفرق بين الجواب بالحمد لله والاسترجاع لأنهما يستعملان جميعًا مجاوبة على حسب ما قلناه. وقد استدل أصحابنا على أبي حنيفة بقوله - صلى الله عليه وسلم -: من نابه شيء في صلاته فليسبح (1). فاجاز التسبيح للنائبة تنوب.

والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: اختلف الناس في الكلام في الصلاة على جهة السهو. فمذهبنا أنه لا يبطل الصلاة. وذهب ابن المسيب وقتادة والنخعي إلى إبطاله للصلاة. ووافقهم أبو حنيفة على هذا. لكنه استثنى السلام (2) ناسيًا فلم يبطل به الصلاة. فلم يستثنه من ذكرناه. وسبب الاختلاف في ذلك اختلاف ظواهر الأحاديث. فحديث ذي اليدين يتعلق به من لم يبطل الصلاة لأن ذا اليدين تكلم كالمكره لإصلاح الصلاة، ومجاوبوا النبي - صلى الله عليه وسلم - تكلموا كالمكرهين شرعًا لوجوب مجاوبته والشعبي - صلى الله عليه وسلم - تكلم ناسيًا. ولم تنقل الإعادة لأجل هذا الكلام. وهذا الحديث الذي قدمناه في القيء والرعاف قد ذكر فيه: وليس على صلاته ما لم يتكلم. ولم يفرق بين أنواع الكلام. وذكر أيضًا في بعض الأحاديث الكلام في الصلاة ينقض الصلاة ولا ينقض الوضوء (3). فعم
__________
(1) عن سهل بن سعد قال قال النبي - صلى الله عليه وسلم - التسبيح للرجال والتصفيق للنساء. المصنف ج 2 ص 126 ح 7255.
(2) الكلام -ق-.
(3) أخرجه ابن أبي شيبة بسنده إلى إبراهيم قال: إذا تكلم في الصلاة أعاد الصلاة ولم يعد الوضوء. ولم يرفعه. ج 2 ص 200 ح 8112.

(1/656)


جهات وقوع الكلام، فلأصحابنا أن يتاولوا ما تعلق به المخالف على كلام العمد ويمنعوا من القياس في صلاة قطعت برعاف أو قيء على صلاة لم تقطع برعاف أو قيء. وأما أصحاب إبي حنيفة فإنهم تأولوا حديث ذي اليدين (1) على أنه إنما جرى الأمر فيه كذلك لكون الكلام في الصلاة مباحًا حينئذٍ. وقد رد هذا عليهم بان راوي الحديث أبو هريرة رضي الله عنه. وهو ممن أسلم بالمدينة.
وتحريم الكلام في الصلاة كان بمكة. وأجابوا عن هذا بأنه قد يكون رواه عن غيره وأرسل الحديث. وقد جرى ذلك لأبي هريرة رضي الله عنه في حديث آخر. وقد قال بعض من أنكر إبطال الصلاة بالكلام سهوًا: إن موارد الشرع تنقسم إلى مأمور به ومنهي عنه. فالمأمور به إذا لم يفعل بقيت على المكلف عهدة الامتثال. والمنهي عنه إذا ركب فإنما في ركوبه انتهاك الحرمة، والاجتراء على النواهي. وهذا المعنى إنما يتحقق مع القصد والعمد. والمتكلم على جهة النسيان غير منتهك للحرمة ولا مجترىء على الشرع فلا وجه لإبطال صلاته بكلامه. هذا ولأن القارئ لو جرى في خلال قراءته تغيير حرف من حروف القرآن أو إبداله حتى يكون كالمتكلم لم يمكن أن يقال بإبطال صلاته. وقد تعلق المخالفون لهذا المذهب بان الحدث يستوي سهوه وعمده في نقضه للصلاة، فكذلك الكلام يجب أن يستوي سهوه وعمده في نقض الصلاة. وقوإنفصل عن هذا بأن الحدث مباح لا حرام فيه بخلاف الكلام. وهو ناقض للطهارة بعينه فوجب أن ينقضها كيفما تصرفت به الحال. مع أن التحقيق فيه أنه ليس بناقض لها على الحقيقة. إذ لو كان كذلك لسرى النقض إلى ما قبل الحدث حتى تبطل الصلاة من أولها. وإنما التحقيق فيه أنه أجلها ومنتهاها. والآجال والنهايات لا يختلف حكمها باختلاف الحالات. وأما أبو حنيفة فإنه إنما استثنى السلام من أنواع الكلام لأن السلام شرع في الصلاة وأمر به عند التحليل منها. فإذا وقع في غير حينه محمدًا أبطل الصلاة. وإن وقع في غير حينه على غير عمد لم يبطل الصلاة. لأن قصارى ما فيه قصد التحليل نسيانًا، والقصد من أفعال القلوب.
ومثل هذا الفعل من أفعال القلوب لا يثمر إبطالًا لكونه غير مقصود للتعدي فيه.
__________
(1) تقدم تخريجه.

(1/657)


وإنما حصل كلام جنسه مشروع. وهذا النوع من القصد غير ملوم فيه. فعفي له (1) عنه ولم يؤثر إبطالًا. والكلام لم يشرع في الصلاة على حال فصار كالمبطل لها بعينه. فاستوى سهوه وعمده. ولما تكلمنا على حكم الكلام سهوًا أو محمدًا فاعلم أن الكلام جهلًا يجري عندنا على القولين في الجاهل هل حكمه حكم العامد أو حكم الناسي؟ وقد تعلق من أنكر بطلان الصلاة بالكلام جهلًا بحديث معاوية بن الحكم لما تكلم في الصلاة فاستدعاه النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الآدميين (2). ولم يأمره بالإعادة. وقوإنفصل بعض المخالفين عن هذا بان الجهل حينئذٍ معفو عنه لأن الشرائع لم تكن بُلّغت كلها وإنما بلغها - صلى الله عليه وسلم - شيئًا فشيئًا وعلمها الناس حينًا فحينًا، والمتكلم حينئذٍ يعذر بالجهالة بخلاف الحال الذي بعده لكمال ما بلغ من الشرائع فيه.

والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: التنحنح على قسمين: تنحنح طبعي دعت إليه ضرورة الطباع فهذا لا حكم له. وتنحنح اختياري ليسمع رجلًا فالمذهب عندنا على قولين. هل يبطل الصلاة أم لا؟ فقيل يبطل الصلاة لأنه كالكلام. وقيل لا يبطلها لأنه ليس فيه حرف من حروف التهجي. وقد قدمنا ما قاله أبو يوسف من أن الكلمة التي على حرفين أحد حرفيها من الزوائد لا تبطل الصلاة، وعد التنحنح من ذلك. وأما النفخ في الصلاة فعندنا أنه مأمور باجتنابه في الصلاة فإن فعل فعندنا قولان في إبطال الصلاة به. وقال أبو يوسف لا يبطل الصلاة إلا أن يقصد به التأفيف. وله قول آخر أنه لا يبطلها ولو قصد به التأليف.
فوجه قولنا بالأبطال قوله عليه السلام وقد مر برباح وهو ينفخ في التراب فقال من
__________
(1) فحصل عنه -ق-.
(2) أخرجه مسلم وأبو عوانة وأبو داود والنسائي والدارمي وأحمد وغيرهم. حديث صحيح إرواء الغليل ج 2 ص 101 - 102.

(1/658)


نفخ في الصلاة فقد تكلم (1). ووجه قولن ابن في الإبطال أنه - صلى الله عليه وسلم - قال في سجوده في صلاة الكسوف أف، أف ألم تعدني أنك لا تعذبهم وأنا فيهم (2).
والجواب عن السؤال الثامن: أن يقال: مذهبنا أنَّ مَنْ أَنَّ مِنْ وجع فإن صلاته لا تبطل. ومذهب الشافعية إبطال الصلاة بالأنين إذا أبدى من الأنين حرفين.
فقال أبو حنيفة أن من أنّ من وجع بطلت صلاته وأن من أن خشية لم تبطل صلاته. وهكذا مذهب الحنفيين في البكاء إذا اشتد به يبطل الصلاة؛ لأنهم يرونه عملًا من الأعمال، والعمل الكثير يبطل الصلاة. وقد استدل على نفي الإبطال بقوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} (3) فاثنى عليه بذلك. وهذا لا دليل فيه. لأنه لم يثن عليه بالتاوه في الصلاة، على أن بعضهم قال إن التاوه قولك أؤه (4) بشديد الواو وهي كلمة من أربعة أحرف والكلمة التي عددها هذا تبطل الصلاة.

والجواب عن السؤال التاسع: أن يقال: أما مبدأ الضحك وهو التبسم.
فاختلف فيه على ثلاثة أقوال: فقيل:
1 - لا اعتبار به (5) لخفته.
2 - وقيل يسجد قبل السلام لإخلاله بالخشية والخشوع.
3 - وقيل يسجد بعد السلام لأنه كالزائد في الصلاة.
وأما الضحك الذي هو القهقهة فاختلف فيه هل هو كالكلام يفترق سهوه من عمده؟ أو هو بخلاف الكلام يستوي سهوه وعمده وغلبته. فقيل هو كالكلام لا يبطل الصلاة نسيانه ويبطلها عمده. وقيل بل هو بخلاف الكلام يبطلها سهوه وعمده وغلبته. ولكن الضاحك إن كان مامومًا ولم تجزه صلاته لضحكه فالمشهور أنه يتمادى ويعيد. وظاهر الواضحة أنه يقطع. وإن كان الضاحك إمامًا وتعمد الضحك فقد أفسد على نفسه وعلى من خلفه. وإن غلب عليه
__________
(1) أخرجه البيهقي عن أم سلمة بأن رسول الله يقول لعبد لنا أسود أي رباح ترب وجهك ... وهو ضعيف. قال وروي حديث آخر عن زيد بن ثابت مرفوعًا وهو ضعيف. السنن ج 2 ص 252.
(2) أخرجه أبو داود- حديث صحيح. إرواء الغليل ج 2 ص 124.
(3) سورة التربة، الآية: 114.
(4) أواه في -و-.
(5) فيه -ق-.

(1/659)


استخلف من يتم بهم وأتم معهم. فإذا فرغوا أعادوا.

والجواب عن السؤال العاشر: أن يقال: الشرب في الصلاة ممنوع وسواء
كان فريضة أو نافلة، خلافًا لابن الزبير وابن جبير والحسن وعطاء في قولهم بإجازة ذلك في النافلة. ولنا عليهم أنه عمل ينافي الصلاة فاستوى في المنع الفرض والنفل قياسًا على الكلام وغيره من جملة الممنوعات.

قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: ويفسدها (1) وترك ركن من أركانها.
والعمل الكثير فيها من غير جنسها والقهقهة سهوًا أو محمدًا. وذكر صلاة عليه يجب (2) ترتيبها وفساد صلاة الإِمام لغير سهو الحدث (3). وطرو النجاسة المقدور على إزالتها. وانكشاف العورة المقدور على تغطيتها إذا تعمد ترك الإزالة أو التغطية في "المجمع عليه من ذلك فإن كان قدرًا مختلفًا فيه سهل الأمر قال الشيخ الأمام رضي الله عنه: أما ما يشمل هذا الفصل من ذكر ترك ركن من أركان الصلاة والقهقهة وحكم العورة والنجاسة فإنا قد قدمنا الكلام عليه بما يغني عن إعادته ها هنا. لكنه قد تحرز ها هنا باشتراط القدرة على إزالة النجاسة واشتراطها في تغطية العورة. وهذا التحرز إشارة إلى ما قدمنا القول فيه عند ذكرنا ما ينبعث من الدماء غلبة وما تدعو الضرورة إلى العفو عنه. وعند ذكرنا حكم من لم يجد (4) ما يستر به عورته. وكذلك أيضًا إشارته إلى تسهيل الأمر في المختلف فيه وتشديده في "المجمع عليه، فيه تعريض لما فرغنا من القول فيه لما تكلمنا على المختلف فيه في العورة والنجاسة. وكذلك إفساد الصلاة بالعمل الكثير من غير جنسها معلوم صحته واضح حكمه فلا معنى للإطناب فيه وإنما يفسدها العمل الكثير إذا كان من غير جنسها كما ذكر؛ لأنه إذا كان من غير جنسها أفسد نظامها ومنع اتصالها. هذا جملة ما اشتمل عليه هذا الفصل سوى
__________
(1) ساقطة - و -ق-.
(2) يجب عليه - ق - الغاني -.
(3) الحدث = ساقطة -الغاني-.
(4) وعند ذكرنا لمن لم يجد -ق-.

(1/660)


مسألتين نؤخر الكلام على إحداهما وهي وجوب الترتيب، ونتكلم الآن على المسألة الأخرى وهي فساد صلاة الإِمام بحكم الحدث فهي مما اختلف الناس فيها. فذهب أبو حنيفة إلى بطلان صلاة المأموم إذا كان إمامه غير متطهر.
وذهب الشافعي إلى صحة صلاة المأموم إذا كان لم يعلم يحدث إمامه. وذهب مالك إلى بطلان صلاة المأموم إذا علم بهذا الحدث الإِمام والمأموم. وصحة صلاة المأموم إذا جهلاه جميعًا. وقال بعض أشياخي يتخرج على قوله في المدونة في الإِمام إذا ذكر صلاة وهو في صلاة أخرى أن المأمومين يقطعون.
واعتل بأنه يجب عليهم ما يجب على الإِمام كما قاله أبو حنيفة في بطلان صلاة المأموم علم الإِمام بحدثه أو جهله. وقد قال أبو الفرج القياس على مذهب مالك بطلان صلاة المأموم علم الإِمام بحدثه أو جهله. ويتخرج على القول (1) عندنا بصحة صلاة الفرض خلف الصبي، ما قاله الشافعي من أن صلاة المأموم تصح إذا لم يعلم يحدث إمامه وإن علم الإِمام بالحدث. وقد ذكر ابن عبد الحكم في المولدات أن أشهب ذهب إلى صحة صلاة المأموم وإن علم الإِمام بحدثه. وذكر في المستخرجة في إمام أحدث بعد التشهد متعمدًا وقعد حتى سلم بهم أن صلاة المأمومين لا تبطل. وإن كان هذا قولًا يلزم عليه إيقاعه جميع الصلاة محدثًا لكون الصلاة يتحلل منها بالحدث على ما كنا حكيناه عن أبي حنيفة. ولكن أبا حنيفة اشترط أن يقصد بالحدث التحلل، ففي الرواية إشكال. وأشار القاضي أبو محمَّد إلى أن بطلان صلاة المأموم إذا علم الإِمام بالحدث يجري على الاختلاف في صحة صلاة من ائتم بفاسق. ولهذا فرق مالك بين علم الإِمام وجهله. وقال ابن الجهم تبطل صلاة المأموم *إذا لم يقرأ* (2) وإن كان الإِمام لم يعلم بحدثه. وكذلك جرى الاختلاف في الإِمام إذا طرأ عليه الحدث في أثناء الصلاة فعند الشافعي أن المأمومين يتمون لأنفسهم أفذاذًا وعندنا أنه يستخلف وكذلك رأيت أصحاب أبي حنيفة حكوا عنه ورأيت أصحاب الشافعي حكوا عن أبي حنيفة بطلان صلاة المأمومين وهو البخاري
__________
(1) القولين -ق-.
(2) إذا لم يقرأ = ساقط -ق-.

(1/661)


على ما قدمناه من مذهبه. وقال أبو بكر الأبهري لو ترك الإِمام القراءة لبطلت صلاة من خلفه *بخلاف كونه محدثًا لأن قراءة* (1) الإِمام قراءة للمأموم فإذا تركها الإِمام فكان المأموم تركها. وهذا الذي قاله ابن عبد الحكم هو (2) الذي دعا ابن الجهم إلى اشتراط قراءة المأموم لأن الإِمام إذا بطلت (2) صلاته بطلت قراءته (2). فإذا كان المأموم لم يقرأ والإمام مقدر أنه لم يقرأ. وإن كان لم يقرأ (3) فقد حصل: المأموم صلى بغير قرأءة. وإذا كان لم يقرأ فمذهب (2) بعض أصحابنا لا تجزئ الصلاة خلف الكافر والأمي لأنهما ممن يتأتى الاطلاع على حالهما. وطهارة الإِمام (2) لا يطلع عليها غالبًا. وقال مالك لو أحل الإِمام بالإحرام لبطلت صلاة من خلفه، وإن أحرموا. وقال بعض أشياخي يتخرج على قوله في الإِمام الجنب أن تصح صلاة المأموم (4). وقد كنا قدمنا اختلاف قول أصحاب مالك في الإِمام إذا ذكر وهو في الرابعة سجدة من الأولى وقد سجدها المأمومون فلا يجب عليهم إعادتها معهم أو يعتدون بها (5). ولو كانت الصلاة صلاة جمعة فصلاها الإِمام وهو غير عالم بحدثه لصحت صلاة المأمومين على أصلنا. وقال بعض أشياخي تبطل صلاة المأمومين على قول ابن الجهم وإن (6) قرأوا لأن الجمعة من شرطها الإِمام. وقد فقد ها هنا. وقد قدمنا الاختلاف في الإِمام إذا خرج لظن الحدث غالطًا. هل تبطل صلاة من خلفه (7) أم لا؟ وأشرنا إلى توجيه ذلك. وقد احتج على صحة صلاة المأموم إذا كان إمامه محدثًا لا يعلم بحدثه بان النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر أنه جنب فأشار إليهم أن امكثوا (8) الحديث.
__________
(1) ما بين النجمين = ساقط من -و-.
(2) بياض في -و-.
(3) قرأ -ق-.
(4) المأمومين -ق-.
(5) من قوله وسجدها المأموم بالإفراد إلى يعتد بها -ق-.
(6) ولو -ق-.
(7) عجلته -ق-.
(8) عن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رحل في صلاته وكبرنا معه فأشار إلى القوم أن كما أنتم فلم نزل قيامًا حتى أتانا نبي الله قد اغتسل ورأسه يقطر ماء. الطبراني في الأوسط. ورجاله =

(1/662)


وأجيب عنه بأنه لم يثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - كبر. فيمكن أن يكون ذلك قبل أن يكبر. ولو ثبت أنه كبر فإنه لم يثبت أنهم كبروا. ولو ثبت أنهم كبروا فإنه لم ينقل هل بنوا على صلاتهم أو استأنفوها. وقد احتج على بطلان صلاة المأموم بأنه لو علم يحدث إمامه لبطلت صلاته باتفاق. فلو كان كل فصل فصل (1) لنفسه ولا تعلق له بصلاة الإِمام لم يضره علمه كما لم يضره علم (2) إمامه إذا جهل هو في نفسه.
واحتج على بطلان صلاة المأموم أيضًا بأن سهو الإِمام يلزمه وإن لم يسه هو في نفسه. وما ذاك إلا لكون صلاة الإِمام والمأموم امتزجتا حتى صارتا بالاتحاد كصلاة واحدة. وإذا بطلت صلاة الإِمام بطلت صلاة المأموم. وأجيب عن هذا بأن المأموم لما حمل الإِمام سهوه وجب أن يشارك الإِمام في سهوه حتى يعتدل الجانبان جميعًا. والمأموم لو أحدث ما حمل الإِمام حدثه ولا سري بطلان صلاته إلى بطلان صلاة الإِمام فكذلك حدث الإِمام لا يجب أن يسري إلى صلاة المأموم حتى يعتدل الجانبان أيضًا ها هنا. على أن الإِمام إنما حمل السهو عن المأموم لما كلفه المأموم من معاناة الاقتداء والاتباع مع كون الاتباع مبعد عن السهو. فلهذا حمل السهو عنه وكلف المأموم حكم سهو الإِمام لوجوب المتابعة والاقتداء. والاقتداء والمتابعة إذا وجبا وجب على المأموم ما يجب على الإِمام.
وهذه المعاني مفقددة في الحدث فلم يصح التشبيه.
__________
= رجال الصحيح. وفي رواية أخرى دون هذه في الصحة. إنما أنا بشر مثلكم. وكنت جنبًا فنسيت. مجمع الزوائد ج 2 ص 69.
(1) هكذا في جميع النسخ والصواب لو كان كل فصل مصليًا لنفسه.
(2) عمل -ق-.

(1/663)


باب في الإمامة والجماعة وقضاء الفوائت والنوافل وأوقات النهي ومواضعه والجمع وما يتصل بذلك

قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: يقدم في الإمامة كل من كان أفضل.
والفقيه أولى من القارئ. ولا تجوز إمامة الفاسق ولا المرأة ولا الصبي إلا في نافلة، فتجوز دون المرأة. ولا العبد في الجمعة.

قال الشيخ رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل ثمانية عشر سؤالًا منها أن يقال:
1 - ما الدليل على اعتبار شروط في الإمامة؟.
2 - وما هي الشروط (1)؟.
3 - وما أقسامها؟.
4 - ومن أولى بالإمامة الفقيه أو القارئ؟.
5 - وما حكم إمامة الكافر؟.
6 - وما حكم إمامة المرأة؟.
7 - وما حكم إمامة الصبي؟.
8 - وما حكم إمامة العبد؟.
9 - وما حكم إمامة الطفل؟.
10 - وما حكم إمامة الألكن واللحان؟؟.
11 - وما حكم إمامة الأمّي؟.
__________
(1) وما هي من الشروط -و-.

(1/664)


12 - وما حكم إمامة القارئ من المصحف؟.
13 - وما حكم إمامة الفاسق؟.
14 - وما حكم المخالف في مسائل الاعتقاد والاجتهاد؟.
15 - وما حكم إمامة من للمأموم عليه حرمة؟.
16 - وهل للمنفرد أن ينتقل لحكم الجماعة وإن كان في جماعة أو ينتقل إلى حكم المنفرد؟.
17 - وهل للإمام أن يولي غيره ولاية؟.
18 - وما الذي يفعله المتولي؟.

والجواب عن السؤال الأول: أن يقال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله عَزَّ وَجَلَّ فإن كانوا في القراءة سواء فاعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم إسلامًالأولا يؤمن الرجلُ الرجلَ في سلطانه ولا يقعد في بيته على مكرمته إلا بإذنه (1).
وقال - صلى الله عليه وسلم -: "أئمتكم شفعاؤكم فاختاروا من تستشفعون به" (2). فأمر في الحديث الأول بمراعاة أوصاف وعينها. وأمر في الحديث الثاني باعتبار حال الإِمام وإن لم يصرح بتعين (3) الحال. وذلك يدل على آعتبار ما قلناه من اعتبار شروط.
وأيضًا فإن الذي يورده في منع إمامة الكافر والصبي وغيرهما يدل على مراعاة شروط. وأن الإمامة لا تجوز إلا بعد تحصيل شرائط (4).

والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: الشروط المعتبرة في الإمامة البلوغ، والعقل والإِسلام والذكررية والحرية، والعدالة والعلم بالواجب من فقه
__________
(1) رواه مسلم والأربعة وأحمد. الهداية ج 3 ص 186.
(2) ذكره الغزالي في الإحياء بلفظ أئمتكم شفعاؤكم. أو قال وفدكم إلى الله. علق عليه الزين العراقي. الدارقطني والبيهقي وضعف إسناده من حديث ابن عمر وابن نافع والطبراني والحاكم من حديث مرثد بن أبي مرثد وهو منقطع وفيه يبيح بن يبيح الأسلمي وهو ضعيف. الإحياء ج 1 ص 180.
(3) نفس -ق-.
(4) إلا بعد شروط -ق-.

(1/665)


الصلاة وقراءتها وسلامة الأعضاء التي يكون فقدها قادحًا في الصلاة وستقف على تفصيل (1) هذه الجمل إن شاء الله.
والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: المعاني المانعة من الإمامة على قسمين: أحدهما يمنع صحة الإمامة، والثاني يمنع فضيلتها. فموانع الصحة الأنوثة، وعدم التكليف ونقص الدين على الجملة، وعدم العلم (2) بما لا تصح الصلاة إلا به من قراءة وفقه على الجملة.
وموانع الفضيلة المقتضية كراهية الإمامة هي النقائص. وهي على ثلاثة أضرب: نقمريمنع إكمال (3) الفروض، كالعبد فإنه لا حج عليه ولا جمعة، ولا زكاة. ونقص يقرب من الأنوثة كالخصاء ونقص يحط المنزلة وتسرع إلى صاحبه الألسنة كولد الزنى. وستقف على هذه الجملة إن شاء الله تعالى.

والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: اختلف الناس في الفقيه والقارئ أيهما أولى بالإمامة. فذهب مالك والشافعي إلى أن الفقيه أولى. وبالغت الشافعية في هذا حتى قالت إن من يحسن الفقه الكثير ولا يحسن من القراءة إلا الفاتحة أولى بالإمامة ممن يحسن القرآن الكثير. وذهب أبو حنيفة إلى أن القارئ أولى من الفقيه وبه قال أحمد وإسحاق وابن سيرين والثوري. وقد احتج الشافعي لقوله وقولنا بان ما تحتاج إليه الصلاة من القرآن محصور، وما يحتاج إليه من الفقه في الصلاة غير محصور، فما كان لا ينحصر المقدار المحتاج إليه منه كان أولى بالمراعاة. فالمكثر منه أحق من المقل بالإمامة.
واحتج أصحابنا بهذا المعنى واحتجوا أيضًا بأن في حديث عقبة ابن عامر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يؤم القوم أعلمهم بالسنة (4). وذكر الأقرأ بعد ذلك. واحتج المخالف بالحديث الذي قدمناه وهو قوله عليه السلام: يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله عَزَّ وَجَلَّ فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة. وهذا الحديث صحيح خرجه مسلم. وأجيب عن هذا بأن الصحابة كانوا إذا تعلموا شيئًا من
__________
(1) تفصيل = ساقطة -و-.
(2) القيام -ق-.
(3) كمال -و-.
(4) مسلم بثمرح النووي ح 5 ص 172. وأحمد الساعاتي ج 5 ص 225.

(1/666)


القرآن تعلموا أحكامه. ولهذا قال ابن مسعود كنا لا نتجاوز عن آية حتى نعرف أمرها ونهيها وأحكامها. وإذا كان الأمر كذلك كان القارئ لكتاب الله تعالى فقيهًا لأنه أصل الفقه وينبوع الأحكام. وأما قول الشافعية إذا كان لا يحسن سوى أم القرآن فإنه أولى من القارئ ففيه عندي نظر ويفتقر إلى تفصيل. وقد كنا قدمنا الاضطراب في عد ما زاد على أم القرآن من السنن أو الفضائل (1). وقد ذكرنا قول من قال من السلف بوجوب الزيادة على أم القرآن. والنظر في هذه المذاهب ومراعاتها مما يفتقر إليه في معرفة الصواب في هذه المسألة، وهذه الإشارة يكتفي بها من تأملها.

والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: إذا صلى مسلم مؤتمًا بكافر عالم بذلك فلا خلاف في بطلان صلاته. وإن كان المسلم غير عالم بكفر إمامه فالفقهاء كلهم مجمعون على بطلان صلاته إلا أبا ثور والمزني. وقد استدل على بطلان الصلاة بقوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} (2). وبقوله {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ} (3). فلو لم يعد الصلاة لكان الكافر مساويًا للمسلم. وقياسًا على علم المؤتم بكفر إمامه. وقياسًا على ائتمامه بمجنون يجهل جنونه. ولأن الكفر يمكن الاطلاع عليه والكشف عنه فلا يعذر المؤتم بجهله. ألا ترى أن الحاكم إذا حكم بشهادة كافر نقض حكمه ولم يعذر لتقصيره في البحث عن كفره.
وكذلك لو حكم بشهادة عبد. ولو حكم بشهادة غير عدل لم ينقض حكمه وعذر بخطئه لما كان لم يقصر. وقد ترجح (4) بعض أصحابنا البغداديين في الزنديقال في يسر الكفر ويظهر الأيمان فقال: قد يفرق بينه وبين الكافر الأصلي فإن من أقام زمانًا يظهر الإِسلام ويؤم ويقرأ القرآن ثم اطلع على إسراره الكفر فإن الإعادة تشق وتصعب. قال ويحتمل أن تعاد الصلاة. وهذا الذي تردد فيه (5) بعض
__________
(1) والفضائل -و-.
(2) سورة الحشر، الآية: 20.
(3) سورة السجدة، الآية: 18.
(4) هكذا في جميع النسخ. ولعل الصواب وقد تردد. وهو المنسجم مع قوله بعد وهذا الذي تردد فيه.
(5) فيه = ساقط -و-.

(1/667)


أصحابنا قطع القول فيه بعض أصحاب الشافعي بنفي الإعادة. واعتل بأنه مما لا يظهر غالبًا. وإذا ثبت أن الصلاة خلف الكافر لا تجزئ فهل يكون الكافر بصلاته مسلمًا أم لا؟ اختلف الناس في ذلك فقال الشافعي لا تكون صلاة الكافر إسلامًا. وقال ابن حنبل تكون إسلامًا. وقال أبو حنيفة إن صلى في جماعة إمامًا أو مأمومًا أو صلى منفردًا في مسجد كانت صلاته إسلامًا. وأما مذهبنا فإنه إذا أم بقوم فلا يخلو بعد فراغه من صلاته بأن يعترف بأنه مسلم وأنه صلى معتقدًا للإسلام أو ينكر كونه مسلمًا. فإن زعم أنه مسلم فقد قال سحنون في النصراني إذا أم يعرض عليه الإِسلام. فإن أسلم صحت صلاة من خلفه. وتؤول قوله على أنه أراد بقوله فإن أسلم أي تمادى على إسلامه. وتعقب هذا بعض المتأخرين بأنه كجنب صلى عالمًا بجنابته لكون الكافر غير مغتسل من جنابته. وإن أنكر كونه مسلمًا فلا يخلو من أن يكون ظهر أنه دافع بصلاته عن نفسه وماله عند خوف حدث له أو لم يظهر ذلك. فإن ظهر ذلك فقال سحنون لا يعترض (1) له.
ووقع في بعض الروايات استتابته مطلقًا من غير تفصيل. ولم يتعرض لما تعرض له سحنون. وإن لم يدافع بصلاته عن نفسه وماله فقدلان: أحدهما أن صلاته إسلام فيستتاب كالمرتد. والثاني أنه لا يستتاب، ولا تكون صلاته إسلامًا.
والأصل في هذه المسألة أن تعلم أن الإيمان الذي تنطوي عليه القلوب مما ينفرد بعلمه علام الغيوب. وإنما تعبدنا بظواهر جعلت علمًا عليه فجاء الشرع بجعل لفظ الشهادتين علمًا عليه. وهذا من حكمة الشرع لأن الشهادتين على اختصارهما وإيجازهما تضمنتا كل معنى مطلوب في هذا. فالقول لا إله إلا الله فيه اعتراف بالألوهية والتوحيد. ويتضمن إثبات الصفات وتنزيه الباري تعالى عن سمات المحدثات. والشهادة لمحمد - صلى الله عليه وسلم - بالرسالة يتضمن تصديق سائر الرسل والتزام جميع ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - من العبادات والأحكام. فلما كانت هذه الألفاظ تقتضي التصديق عامًا جعلت علمًا على ما في القلب من الإيمان.
وأما الخاص في مثل هذا *فلا يخلو* (2) إما أن يكون تكذيبًا أو
__________
(1) لا يعرض-و-.
(2) ما بين النجمين = ساقط -و-.

(1/668)


تصديقًا. فإن كان تكذيبًا فلا يختلف في أنه يحل محل التكذيب العام. وإن كان تصديقًا فهذا موضع الاضطراب. وإنما اتفق على التكذيب ووقع الإشك الذي التصديق لعدم الاحتم الذي التكذيب وإمكانه في التصديق. لأن من قال كذب الرسول - صلى الله عليه وسلم - في قوله إن الصلاة واجبة فلا شك في أنه كذبه في قوله إني نبي لأن النبي لا يكذب في واحدة كما لا يكذب في آحاد. وأما من قال صدق في أن الصلاة واجبة فيحتمل أن يكون صدقه في ذلك لأنه وافق ما عنده في شرعه أو في عقله. وإذا أمكن ذلك لم يحل التصديق الخاص محل التكذيب الخاص.
فإذا انكشف لك هذا السر فاعلم أن مثار الخلاف في المسألة راجع إليه. فمن اعتقد أن الكافر يكون بصلاته مسلمًا رأى أن هذا الفعل إنما وقع عن تصديق به، والتصديق الخاص يتنزل منزلة التصديق العام. ومن اعتقد أنه لا يكون مسلمًا أنكر أن يكون هذا الفعل تصديقًا أو سلم كونه تصديقًا وأنكر كون التصديق الخاص يتنزل منزلة التصديق العام. وقد وقعت في الشرع ظواهر تنوزع في كونها دالة على جعل صلاة الكافر علمًا على إسلامه كقوله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ} (1). وأجيب عن هذا بان المراد إنما يستحق عمارة مساجد الله تعالى من كان على هذه الصفة. ألا تراه ذكر الصلاة والزكاة فالمراد أن من كان على هذه الأوصاف استحق عمارة المساجد ومن لم لكن عليها طرد عن المساجد وبقوله في الخبر: من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم (2). وأجيب عنه بأنا لا نتحقق أنه صلى صلاتنا إلا بعد إظهاره الشهادتين لجواز أن يكون قصد اللعب والعبث.
والصلاة لهو ولعب ليست من صلاتنا. وهكذا الجواب عن قوله نهيت عن قتل المصلين (3). وأما الذين غزاهم جرير فاعتصموا بالسجود فقتلهم فوداهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا دلالة فيه على كون الصلاة علمًا على الإِسلام؛ لأنه وداهم بنصف
__________
(1) سورة التربة، الآية: 18.
(2) البخاري. فتح الباري ج 2 ص 42.
(3) رواه الطبراني والدارقطني عن أنس قال الهيثمي فيه عامر بن سنان وهو منكر الحديث.
قال المناوى لكن له شواهد. فيض القدير ج 6 ص 2050.

(1/669)


دياتهم ولو كانوا مؤمنين حقًا لوداهم بجميع دياتهم. ويناقض أبو حنيفة بصلاة المنفرد في غير المسجد. وأما الكافر إذا أذن فإن أبا حنيفة رأى أذانه إسلامًا.
وتردد فيه بعض أصحابنا فقال إن قلنا لا يكون إسلامًا فإنه قد يحكي به إنسانًا كما فعل أبو محذورة قبل أن يسلم. وإن قلنا يكون إسلامًا فلإظهاره في أذانه الشهادتين بخلاف الصلاة. والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: لا تصح إمامة المرأة عندنا وعند أبي حنيفة لا رجالًا ولا نساء. وحكى بعض أصحابنا عن الطبري وداود وأبي ثور جواز إمامتها رجالًا ونساء ورأيت في نقل غيرهم عن أبي ثور والمزني والطبري أنهم أجازوا أن تؤم الرج الذي التراويح إذا لم يكن قارئ غيرها وتقف خلف الرجال. وذهب الشافعي إلى جواز إمامتها النساء ورواه ابن أيمن عن مالك. وقد احتج أصحابنا للمنع على الإطلاق بقوله عليه السلام: خير صفوف النساء آخرها وشرها أولها (1). وبأن كلامها عورة. وقياسًا على الإمامة الكبرى. واحتج للجواز بالقياس على العبد. وأجيب عنه بأن نقص الأنوثة في باب الإمامة آكد وأشد، والمرأة موصوفة بنقص العقل والدين.
والعبد لم يوسف بذلك وقد تنوزع في قوله يؤم القوم أقرؤهم (2). هل يشتمل على النساء أم لا؟ وسبب التنازع في ذلك هل تسمية القوم ينطلق على الرجال خاصة أو على الرجال والنساء؟ واحتج أصحابنا في قصرها على الرجال بقوله تعالى: {لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ} (3). فقابل القوم بالقوم والنساء بالنساء. فلو كان النساء يسمين بالقوم لما صحت هذه المقابلة. وقال زهير:
وما أدري ولست أخال أدري ... أقوم آل حصن أم نساء
فأظهر التشكك بين كونهم قومًا أو نساء. وهذا لا يصح إلا مع قصر لفظ القوم على الرجال. ولو سلم انطلاق القوم على الرجال والنساء لأمكن أن ينازع
__________
(1) رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي. حديث رقم 3862. جامع الأصول.
(2) رواه مسلم والترمذي وأبو داود والنسائي. حديث 3818 جامع الأصول.
(3) سورة الحجرات، الآية: 11.

(1/670)


في دخولهن في الحديث لقوله أقرؤهم لأن هذا الضمير ضمير المذكرين. وقد احتج للرواية الشاذة عندنا وهي قصر جواز إمامتها للنساء بما روي أنه عليه السلام كان يزور أم ورقة في بيتها. وجعل لها مؤذنًا يؤذن لها وأمرها أن تؤم أهل دارها (1). وفي رواية الدارقطني نساء دار أهلها. وقد قال بعض المتأخرين من أصحابنا هذا الحديث مما لا جب أن يعول عليه. وتعلقوا أيضًا في هذه الرواية الشاذة بان عائشة كانت تؤم النساء. وأجيب عنه بأنه إن صح حمل ذلك (2) على أنه كان على وجه التعليم أو كان ثم نسخ. فإن أمت المرأة أعاد صلاته من صلى وراءها، وإن خرج الوقت قاله ابن حبيب. وقد قال سحنون: الخنثى المحكوم له بحكم النساء يعيد صلاته من ائتم به وإن خرج الوقت. وإن كان ممن يحكم له بحكم الرجال لم يعد.
والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: اختلف في إمامة غير البالغ فاجازها الشافعي على الإطلاق. وللشافعي قولان في إمامته للجمعة لاختصاصها باشتراط الجماعة فيها بخلاف غيرها من الصلوات. ومنعت في أحد القولين لمالك على الإطلاق. ومنعت في القول الآخر في الفروض دون النفل. فإن أم غير البالغ فاختلف عندنا في إعادة صلاة من ائتم به. فقال ابن حبيب يعيد أبدًا وبه قال أبو حنيفة. وقال أبو مصعب تمضي صلاة من ائتم به. وقال أشهب في إمام أحدث فاستخلف صبيًا فأتم بالقوم، إنه إن عقل الصلاة وأمرها أجزته وأعاد من خلفه ما لم يذهب الوقت. فإن ذهب الوقت فلا إعادة عليهم. وقد تعلق من أجاز إمامته على الإطلاق بقول عمرو بن مسلمة كنت غلامًا حافظًا قد حفظت قرآنًا كثيرًا فانطلق أبي وافدًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في نفر من قومه فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يؤمكم أقرؤكم لكتاب الله فقدموني فكنت أصلي بهم وأنا ابن سبع أو ابن ثمان" (3). وأجيب عن هذا بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر بذلك ولا نقل أنه علم به فأقره. وإنما توهموا جوازه من قوله يؤمكم أقرؤكم ولم يك عمرو
__________
(1) رواه أبو داود والحاكم والبيهقي. الهداية ج 3 ص 190.
(2) ذلك = ساقطة -و-.
(3) رواه البخاري وأبو داود والنسائي. جامع الأصول. حديث رقم 3828.

(1/671)


حاضرًا في هذا الخطاب. وتعلق من منع إمامته على الإطلاق بأن المفترض إذا صلى خلفه صار كالمفترض خلف المتنفل والمتنفل إذا صلى خلفه فقد صلى خلف من لا يلزمه ما عقد على نفسه من الصلاة. ألا ترى أنه لو خرج من الصلاة قبل تمامها لم يكن عليه قضاؤها. ومن فصل بين الفرض والنفل يرى أن عقده الصلاة لم يحله ولم يبطله فلا معنى لاعتبار ما لم يوجد من الحل والإبطال.
وقد كنا قدمنا في غير هذا الباب تردد بعض الأشياخ في قول أبي مصعب هل هو محمول على أن صلاة الصبي نافلة وصلاة المفترض خلف المتنفل تصح أو محمول علي أن الصبي ... الفرض صحت ... (1) وقول ابن حبيب ها هنا يعيد من أئتم به أبدًا تصريح بتأكيد المنع من إمامته وأنها مما لا ينعقد (2). وقول أشهب بقصر الإعادة على الوقت يمكن أن يكون قاله مراعاة للخلاف. وقول أبي مصعب يحتمل (3) أن يكوِن سلك مسلك الشافعي. فلهذا قال إذا أم صحت صلاة المؤتم ويحتمل غير ذلك.

والجواب عن السؤال الثامن: أن يقال: أما إمامة العبد فإن أبا حنيفة كرهها والشافعي لم يكرهها. ومذهبنا جوازها إذا لم يؤم إمامة راتبة ولم تكن الصلاة صلاة جمعة. وقد روي عن مالك أنه قال: لا يؤم العبد الأحرار إلا أن يكون يقرأ، وهم لا يقرؤون فيؤمهم في موضع الحاجة. وقد كره مالك وابن القاسم أن يؤم في الفرائض إمامة راتبة. وأجاز ابن القاسم أن يؤم في التراويح إمامة راتبة، والسنن عند ابن القاسم كالعيدين والاستسقاء والكسوف كالفرائض يكره أن يكون فيها إمامًا. *وأجاز ابن الماجشون أن يكون إمامًا راتبًا في الفرائض على قوله جواز إمامته في السنن* (4).
__________
(1) في الكلام خلط يوجب عدم الوضوح. وأقرب ما يكون النص عليه "محمول على أن صلاة الصبي نافلة. وصلاة المفترض خلف المتنفل لا تصح، أو محمول على أن الصلاة صلاه ابن ية الفرض صحت صلاة من صلى خلفه".
(2) وأنها لا تنعقد -ق-.
(3) يمكن -و-.
(4) ما بين النجمين = ساقط من -ق-.

(1/672)


وأما إمامته في صلاة الجمعة فمنعها ابن القاسم وأمر بإعادة صلاته وصلاتهم. وأجازها أشهب. فوجه إجازة إمامته في الفرائض قوله - صلى الله عليه وسلم -: "اسمعوا وأطيعوا ولو تأمر عليكم عبد حبشي أجاع ما أقام فيكم الصلاة" (1). وروي عن عائشة رضي الله هـ تعالى عنه أنه كان يؤمها غلام لها. ووجه القول بكراهة إمامته الراتبة في الفرائض أنه ناقص الفروض لسقوط الحج عنه والجمعة والزكاة.
والإمامة مقام رفعة فلا يرتب لها من كان ناقصًا. وسبب اختلاف ابن القاسم وأشهب في إمامته في الجمعة أن العبد لا تتعين عليه صلاة الجمعة وله تركها إلى الظهر. والأحرار تتعين عليهم صلاة الجمعة. فإذا أم في من لا تتعين عليه صلاة الجمعة من تتعين عليه ضارع صلاة المفترض خلف المتنفل. لأن اننفل يشرع فيه المتنفل باختياره. وصلاة الجمعة يشرع فيها العبد باختياره أيضًا، فمنعها ابن القاسم لهذا. ورأى أشهب أنه لما خير بينهما وبين الظهر فاختارها صارت باختياره وشروعه فيها كالفرض المتعين وفارقت النفل لأنها لا يسوغ تركها إلا لفعل آخر وهو الظهر. والنافلة يسوغ تركها لغير بدل. وإمامة الأعرابي عندنا للحضريين مكروهة خلافًا للشافعي. واعتل ابن حبيب بجهله بالسنن. واعتل بعض المتأخرين بأنه يستديم نقص الفرائض كالجمعة والفضائل كالجماعات. فعلى هذا التعليل يقرب حكمه من حكم العبد.

والجواب عن السؤال التاسع: أن يقال: من كان ناقص الخلقة فإنه على ضربين: أحدهما أن يكون العضو المنتقص لا تعلق له بالصلاة. والثاني أن يكون له تعلق بالصلاة. فإن كان لا تعلق له بالصلاة فلا يخلو أن يقرب من الأنوثة أو لا يقرب منها. فإن كان مقربًا منها كالخصي ففي جواز إمامته في الفرائض إمامة راتبة قولان: الكراهة لمالك والجواز لابن الماجشون. ولا يلزم على القول بكراهته كراهة إمامة العنين، فإن العلة ليست بحالة ظاهرة تقرب من الأنوثة بخلاف الخصي. وإن كان غير مقرب من الأنوثة كالعمى فان الإمامة معه
__________
(1) رواه مسلم والترمذي ولفظه عن يبيح بن الحسين عن أمه قالت إنها سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في حجة الوداع: يا ايها الناس اسمعوا وأطيعوا وأن أمر عليكم عبد حبشي مجدع ما أقام فيكم كتاب الله كتاب المساجد ص 240 وكتاب الحج ص 311.

(1/673)


جائزة. وقد أم ابن عباس وعتبان بن مالك وهما أعميان. وقد روي عن ابن عباس أنه قال: كيف لا أؤمهم وهم يعدلوني إلى القبلة. والدليل على الجواز أن قوله يؤم القوم أقرؤهم فعم. وقد استخلف النبي - صلى الله عليه وسلم - ابن أم مكتوم على المدينة بضع عشرة مرة. ولأنها حاسة لا تؤثر في شرط (1) من شروط الصلاة فلم تمنع الإمامة كالصمم. وإن كان العضو له تعلق بالصلاة فإنه على قسمين:
أحدهما أن يتعلق بها تعلق فريضة والثاني أن يتعلق بها تعلق فضيلة. فإن تعلق بها تعلق فريضة (2) كالسقيم العاجز عن القيام فعندنا فيه قولان: المشهور منهما أنه لا يؤم القيّام. وأجاز ذلك مالك في رواية الوليد بن مسلم عنه وأجازه أشهب في مدونته. وبالجواز قال أبو حنيفة والشافعي. وبالمنع قال محمَّد بن الحسن. فإذا (3) قلنا بالجواز فإن المؤتمين (4) الأصحاء يصلون قيامًا. وقال أبو هريرة وجابر وأسيد بن حضير وقيس بن فهو والأوزاعي وأحمد وإسحاق والمزني يصلون جلوسًا. وسبب هذا الاختلاف اختلاف الأحاديث. فروي أنه عليه السلام لما جحش شقه صلى قاعدًا. قال أنس: وصلينا وراعه قعودًا. الحديث.
إلى قوله: فإذا صلى جالسًا فصلوا جلوسًا (5). وصلاته - صلى الله عليه وسلم - في مرضه الذي توفي فيه (6). فقد اضطرب الرواة فيه هل بقي أبو بكر على الإمامة أو خرج عنها وائتم بالنبي - صلى الله عليه وسلم - هو وسائر الناس؟ وقد رجحت رواية من قال إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان هو الإِمام بكونه عن يسار أبي بكر وهذا يقتضي أن (7) النبي - صلى الله عليه وسلم - كان هو الإِمام.
وأجيب عن هذا بأن الرتبة (8) ها هنا خرجت عن المألوف لأن أبا بكر لم يرجع إلى صف الناس ويكون معهم كما تقتضيه المرتبة (8) المألوفة. وقد تأول بعض
__________
(1) شيء -و-.
(2) فريضة = ساقطة -و-.
(3) وإذا -و-.
(4) المأمومين -و-.
(5) أخرجه البخاري ومسلم وباقي الستة. نصب الراية ج 2 ص 42.
(6) متفق عليه من حديث البخاري ومسلم. الهداية ج 3 ص 224.
(7) كونه - صلى الله عليه وسلم -و-.
(8) المرتبة -و-.

(1/674)


الناس من أصحابنا ما خرجه مسلم عن عائشة أن أبا بكر صلى قائمًا يقتدي بصلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، على أن المراد به أنه ينتظر تمكنه من الركوع والسجود كما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقتدي الإِمام بصلاة أضعف القوم *فهذا الحديث فيه من الاضطراب ما ترى. وروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال* (1): لا يؤمن أحد بعدي جالسًا (2). وقدح فيه بأن راويه جابر الجعفي وهو متروك. ورواه عن الشعبي مرسلًا.
فمن منع الإمامة أصلًا يتعلق بهذا الحديث إن ثبت عنده. ومن أجاز ذلك وأمر الناس بالجلوس يتعلق بحديث أنس صلى قاعدًا وصلينا وراءه قعودًا. ومن أجاز ذلك وأمر الناس بالقيام تعلق بصلاته - صلى الله عليه وسلم - في مرضه الذي توفي فيه. وأخذ برواية من روى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان هو الإِمام. ويرى هذا لتأخره أولى أن يتعلق به. لأن حديث أنس كان قبله. وهو كالمنسوخ بهذا. وقد تأول بعض أصحابنا قوله إذا صلى جالسًا فصلوا جلوسًا على أن المراد به النافلة لأن النافلة يجوز ترك القيام فيها اختيارًا. وقال بعضهم وقوله في هذا الحديث فصلى صلاة من الصلوات وهو قاعد يحتمل أن تكون نافلة وهذا فيه نظر. وقد منع في المدونة إمامة الجالس في النافلة كما منعها في الفرض (3). وقد يعتل أيضًا بأن المقيم يصلي خلف المسافر مع زيادة فرض المؤتم على فرض الإِمام فكما لا تمنع زيادة فرض الحاضر على فرض المسافر الائتمام فكذلك لا يمنع زيادة الصحيح على السقيم بالقيام جواز الائتمام. ويؤكد هذا الجمع (4) بان الأصل القعود. ولهذا جاز ذلك في النافلة اختيارًا والقيام للصحيح في الفروض كالفرض المزيد. كما أن أصل الصلاة ركعتان. ولهذا قدرت النافلة بها. فالركعتان كالمزيد على أصل الفرض.
وقد ينفصل عن هذا الجمع بأن الحاضر يصلي الركعتين المزيدتين منفردًا بها غير
__________
(1) ما بين النجمين ممحو من -و-.
(2) قال أبو عمر بن عبد البر لا يصح عند أهل العلم بالحديث لأن رواية جابر الجعفي يرسله وليس بحجة فيما أسند فكيف فيما أرسل. ورواه الدارقطني والبيهقي من رواية جابر الجعفي عن الشعبي مرسلًا. والجعفي كذاب.
(3) الفروض -و-.
(4) الجميع -و-.

(1/675)


مخالف فيها لأحد. كما يقضي المسبوق ما فاته. والقائم (1) المقتدي بالجالس مخالف لمن اقتدى به. والمخالفة ممنوعة. ولأجل منع المخالفة ذهب من ذكرنا إلى أن المؤتمين يصلون جلوسًا ويتركون فرض القيام المقدور عليه لفرض الموافقة في الاقتداء. وقد اختلف المذهب عندنا في الإِمام إذا كان جالسًا لمرض، هل تصح إمامته وهو جالس للجلوس المرضي (2)؟ وكان من أجاز ذلك رأى أن المخالفة لما فقدت ها هنا لم تمنع الإمامة. ومن منع يتعلق بقوله لا يؤمن أحد بعدي جالسًا. وأما لو كان الإِمام يصلي إيماءً فهل يجوز الائتمام به أم لا؟ فأجازها الشافعي ومنعها أبو حنيفة. وظاهر ما أشار إليه أصحابنا أنا لا نجيزها، وإن أجزنا إمامة الجالس. فإن صلاة المومىء لا ركوع فيها ولا سجود فلا يجوز أن ياتم به من صلاته ركوع وسجود كما لا يأتم مصلي الفرض بمصلي الجنازة. وأما إجازة الشافعي فإنه يرى الإيماء إلى الفعل يحل محل الفعل. بخلاف الجنازة التي ليس فيها ما يحل محل الركوع والسجود.
فإذا قلنا بمنع إمامة الجالس، فإن الإِمام القائم إذا عجز عن القيام في أثناء الصلاة يستخلف. وإذا قلنا بإجازة إمامة المريض للمرضى فصح بعض المؤتمين في أثناء الصلاة فحكى ابن حارث عن سحنون أنه يخرج عن الإمامة ويتم وحده.
وذكر عن يبيح بن عمر أنه لا يخرج من الإمامة. وقد كنا قدمنا الكلام على الأمي إذا تعلم في أثناء الصلاة والمتيمم إذا وجد الماء، والمريض إذا صح إلى غير ذلك من المسائل المنخرطة في هذا السلك. وإذا ائتم القائم بالجالس أعاد المؤتم وإن ذهب الوقت. وعند ابن الجلاب يعيد في الوقت لأنه يرى إمامة الجالس مكروهة، والكراهة لا تقتضي الإعادة بعد الوقت. وإذا قلنا بجواز إمامة الجالس فقد روي عن مالك أنه يستحب أن يصلي إلى جنبه من يقتدي به ليكون علمًا على صلاته، ويلحق بهذا القسم إمامة من لا يقدر على النطق وسنتكلم عليه في إمامة الألكن.
وإن تعلق بها تعلق فضيلة كقطع اليد وشللها (3) فقدلان: أحدهما جواز
__________
(1) القيام -و-.
(2) من المرض -و-.
(3) وشبهها. ق.

(1/676)


الائتمام به وعليه جمهور أصحابنا لأنه عضو *لا يمنع من فرض من فروض الصلاة. فجازت الإمامة الراتبة مع فقده كالعمى* (1) وقال ابن وهب لا أرى أن يؤم الأقطع والأشل إذا لم يقدر أن يضع يديه في الأرض. ووجه كراهة ابن وهب لإمامته أنه وإن بلغ نهاية طاقته في فعل لا يتحمله عن المأموم فإنه منتقص عن درجة الكمال فكرهت إمامته لأجل النقص.
والجواب عن السؤال العاشر: أن يقال: أما إمامة الألكن فقد روي عن مالك أنه أجاز أن يؤم الألكن الفصيح (2). وقال الشيخ أبو الحسن معناه أنه لا يخل بشيء من قراءته (3). قال بعض المتأخرين محتجًا لصحة ما قاله الشيخ أبو الحسن (4) إن القراءة يحملها الإِمام عمن خلفه فمتى كان التقصير فيها يخل بشيء من القراءة لم يصح التحمل. فقال القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب في الأعجمي الذي يلفظ بالضاد ظاء والألثغ الذي يلفظ بالراء خفيف الغين طبعًا، أن إمامته صحيحة لأنه ليس في ذلك إحالة معنى. وإنما هو نقصان في أداء الحروف.
وقال بعض الأشياخ إذا كان يعرف الظاء من الضاد إلا أنه لا يستطيع اللفظ بها لعلة في لسانه فإمامته جائزة. وقد روي عن إسماعيل القاضي: إجازة (5) إمامة الألكن إذا كانت لكنته في غير قراءته. وهذا الاشتراط لا معنى له لأن التقصير في غير القراءة لا يخفى أنه لا يؤثر في القراءة مع بعد اختلاف حال النطق بالحرف في القرآن وفي غير القرآن. وأما اللحان فاختلف فيه بعض المتأخرين من أصحابنا: فقيل لا تصح الصلاة خلفه ولو كان لحنه في غير أم القرآن قاله الشيخ أبو الحسن. وإن كان لحنه في أم القرآن لم تصح الصلاة خلفه. وإن كان في غير أم القرآن أجزت الصلاة خلفه، قاله ابن اللباد ووافقه ابن أبي زيد، ورأى أن الإِمام لا تصح صلاته أيضًا. وقيل إن كان لحنه لا يغير معنى *صحت
__________
(1) ما بين النجمين = ساقط -و-.
(2) بالفصيح -و-.
(3) القراءة -و-.
(4) معناه أن القراءة -ق-.
(5) إجازة = ساقطة -و-.

(1/677)


إمامته ما لم يتعمد ذلك فيفسق بتعمده* (1) وإن كان لحنه يغير المعنى كقراءته إياك نعبد وإياك نستعين بكسر الكاف. وأنعمت عليهم بأنعمت بضم التاء لم تصح امامته. إلى هذا ذهب القاضيان أبو الحسن بن القصار وأبو محمَّد عبد الوهاب.
وحكى أبو الحسن اللخمي قولًا رابعًا وهو الجواز على الإطلاق ولم أقف عليه. وسبب الاختلاف في هذه المسألة اعتبار اللحن هل يخرج الكلمة الملحون فيها عن كونها قرآنًا ويلحقها بكلام البشر أو لا يخرجها عن كونها قرآنًا. فكان من فرق بين ما يغير المعنى وما لا يغيره، رأى أن تغير المعنى يخرج الكلمة المغيرة عن كونها قرآنًا. لأن الإعراب نقلها من معنى إلى معنى.
وإذا اختلف المعنى صارت الكلمة كأنها ليست هي التي كانت وهي معربة. وأما من فرق بين أم القرآن وغيرها فكانه رأى أن الإِمام يتحمل القراءة على المأموم ولا صلاة إلا بفاتحة الكتاب. فإذا قرأ الفاتحة ملحونة لم يصح تحمله. وإن كان لحنه لا يغير المعنى كما لو أبدل لفظة بما يسد مسدها في المعنى فقال مكان أنعمت عليهم أفضلت عليهم فإنه لا تصح إمامته، وإن كان أتى بالمعنى.
وكذلك مغير الإعراب وإن كان أتى بالمعنى. وقد قال ابن أبي زيد فيمن صلى خلف من يلحن في أم القرآن أنه لا يعيد إذا استوت حالهم. فكأنه لم ير اللحن كالكلام في الصلاة ولكنه يحل محل ترك القراءة. فإذا استوت حال المصلين في اللحن صاروا كالأمّيين يؤم بعضهم بعضًا. وأما من ساوى بين أم القرآن وغيرها فإنه يتعلق بان مالكًا لما ذكر صلاة من لا يحسن القرآن لم يفرق بين أم القرآن وغيرها. وقد قال في المدونة: إن الذي لا يحسن أشد من ترك القراءة، وكأنه رأى أن اللاحن كالمتكلم بكلام الناس في الصلاة. وإن كان قد يحتمل أن يريد: إن الذي لا يحسن افتتح الصلاة على وجه لا يجوز، والتارك قد يكون طرأ عليه النسيان بعد افتتاحها على ما يجوز. فهذا وجه (2) الأقوال الثلاثة التي حكيناها.
وأما ما حكاه الشيخ أبو الحسن اللخمي فإنه أشار إلى أن وجه الإجزاء أن اللحن
__________
(1) هو ب -و-.
(2) توجيه -ق-.

(1/678)


لا يقع في الغالب إلا في أحرف يسيرة. ولو اقتصر المصلي على ما سواها لأجزأه. واللحن لا يصير الكلمة الملحونة خارجة عن كونها قرآنًا. ولو أخرجها بذلك عن كونها قرآنًا فإنه لم يتعمده. وكذلك لو كان يغير المعنى فإنه لم يعتقد إلا معنى الكلمة المعربة. وهذا الذي أشار إليه أبو الحسن من أن الاقتصار على السالم من اللحن يجزئ، قد أشار أبو محمَّد عبد الحق إلى خلاف فيه، وذلك أنه لما ذكر ما حكاه ابن حبيب من أن الإِمام لا يلقن حتى يقف ينتظر التلقين.
قال أبو محمَّد عبد الحق لو أسقط آية من أم القرآن لا ينبغي أن يلقن وإن لم يقف (1)، لا سيما أن قائلًا يقول إنه كالتارك جملة أم القرآن تبطل صلاته. وقال أبو عمران في ناسي آية من أم القرآن قال إسماعيل يجب على المذهب أن يسجد قبل السلام، وفيها قول آخر أنه لا يسجد فأنت ترى كيف جعل بعضهم ترك اليسير من أم القرآن كترك جميعها، وإن كان قد خولف في ذلك على ما حكيناه، وإن كان قد حكي عن الشيخين أبي محمَّد وأبي الحسن أن عدم تمييز الظاء من الضاد في أم القرآن يجري مجرى اللحن فيها. ووجه هذا الذي قالاه إن النطق بالضاد يخالف النطق بالظاء، وعمل اللسان فيهما عمل مختلف. وهو مما يخفى عن أكثر الخاصة من الناس فضلًا عن عوامهم. فإذا كان النطق بهما مختلفًا، فنطق بالضاد في المغضوب وفي الضالين كنطقة بالظاء، صار كمبدل حرف بحرف، وإبدال حرف بحرف أشد من تغيير إعرابه. وإبدال حركة بحركة لا يخرج المعنى عن ما هو عليه. ولو أبدل الكلمة كلهالمنع من ذلك فكذلك إبدال أحد حروفها. وقد منع مالك من الائتمام بمن يقرأ بقراءة ابن مسعود.
وروى عنه ابن وهب أنه قال: أقرأ ابن مسعود رجلًا {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ} فجعل الرجل يقول: (طعام اليتيم) فقال ابن مسعود (طعام الفاجر) فقلت لمالك أترى أن يقرأ كذلك فقال: نعم أرى ذلك واسعًا. فخرج أبو الحسن اللخمي على هذه الرواية جواز الائتمام بمن يقرأ بقراءة ابن مسعود. ورآه موافقًا لقول ابن شهاب في تأويل قوله أنزل القرآن على سبعة أحرف. فهذا التخريج
__________
(1) هكذا في جميع النسخ. ولعل الأولى حذف الواو -إن لم يقف- لعدم ظهور معنى المبالغة.

(1/679)


زلل. والمسألة عظيمة الموقع. وأقل ما في الإبدال تحكم التمني والشهوة وافساد بلاغة القرآن. ومن علم ما يطلبه البلغاء من تناسب النظام علم ما قلناه.
ومالك لا يقطع على أنه قال ما روي عنه في هذه الرواية الشاذة. ولو قطعنا به لتأولناه على وجه يوافق الصواب كما تأول العلماء ما حكي عن ابن مسعود في هذا واضطروا إلى الاعتذار عنه لما كان عندهم الإبدال مما لا يتسامح فيه. وقد أشبعنا الكلام على هذه المسألة. وتأويل قوله عليه السلام أنزل القرآن على سبعة أحرف (1) وذكرنا تأويل ما حكي (2) عن ابن مسعود وابن شهاب (3) في كتابنا المترجم بقطع لسان النابح في المترجم بالواضح وهو كتاب نقضنا فيه كتابًا ألفه بعض حذاق نصارى المشرق قصد فيه إلى جمع المطاعن التي تشبث بها الملحدون وقذفها الطاعنون على ديننا وأضافوها إلى العقل والنقل فاكتفينا بذكرها هناك عن ذكرها ها هنا لاشتغال أهل الأصول عن (4) الخوض فيها دون أهل الفروع.

والجواب عن السؤال الحادي عشر: أن يقال: لا يصح أن يأتم القارئ بالأمي وبه قال أبو حنيفة وابن حنبل وهو أحد أقوال الشافعية. وقال الثوري وأبو ثور وابن المنذر يجوز ذلك وهو أحد أقوال الشافعية أيضًا. واختاره المزني وروي ذلك عن عطاء وقتادة. وللشافعية قول ثالث بإجازة ذلك في الصلاة التي يسر فيها دون التي يجهر فيها فدليلنا على المنع أن الإِمام يحمل القراءة عن المأموم وهي القراءة الواجبة في صلاة الجماعة. وأعظم مراتب قراءة المأموم عندنا أن تكون مستحبة ولا ينوب الفعل المستحب عن الواجب. وأما المجيزون للائتمام فإنهم يقولون إن العجز عن القراءة لا يمنع من أن يكون العاجز إمامًا للقادر عليها، كما لا يمنع إمامة العاجز عن القيام للقادر عليه. ونحن وإن قلنا بمنع إمامة الجالس فقد أنكرنا الأصل الذي قاسوا عليه. وإن أجزنا فرقنا بان الجالس أتى ببدل عن القيام وهو الجلوس مع أن القيام لا يتحمله الإِمام عن
__________
(1) البخاري ومسلم. إكمال الإكمال ج 2 ص 427.
(2) ذكر-و-.
(3) وابن شهاب = ساقط -و-.
(4) هكذا ولعلّ الصواب بالخوض فيها.

(1/680)


المأموم. فلم يعد (1) إخلال الإِمام به إخلالًا من المأموم بخلاف القراءة التي يتحملها الإِمام، فإنه يعد إخلاله بها إخلالًا من المأموم.
وأما تفرقة الشافعية بين صلاة السر وصلاة الجهر فبناء منهم على أحد القولين (2) في أن القراءة في صلاة السر تجب على المأموم فلا يكون الإِمام متحملًا لها عنه بخلاف صلاة الجهر. وقد اضطرب المذهب في الأمي هل عليه أن يطلب قارئًا يصلي وراءه أم لا؟ فقال بعض أصحابنا لا دليل على أن الأمي يجب عليه أن يأتم بغيره. وصلاة الجماعة غير واجبة. وإنما أجزأ (3) المأموم القارئ قراءة إمامه وإن كان الائتمام غير واجب في الأصل؛ لأن المأموم لما اختار الائتمام وشرع فيه وجب عليه. ولما صار واجبًا عليه أجزأت عنه قراءة إمامه. وقال بعضهم القراءة مع القدرة واجبة والائتمام بقارىء يقوم مقام القراءة فعليه أن يفعل فإن لم يفعل فكانه ترك القراءة مع القدرة عليها. فهذا وجه اختلاف أصحابنا في إعادة الإِمام الأمي إذا صلى خلفه قارئ. وقد قال أشهب في مدونته في أمي صلى بقوم فيهم من يقرأ أن صلاة الإِمام تجزيه، وإن كنت أكره أن يصلي فذا ما دام أميًا. ولابن القاسم أن الإِمام يعيد لأنه وجد قارئًا يأتم به فلم يفعل. وقال بعض الأشياخ إن كان الإِمام عالمًا بالقارىء المؤتم (4) به فإنه يعيد وإن لم يعلم به ولم يجد قارئًا يأتم به فشرع في الصلاة ثم طرأ عليه قارئ فائتم به فإنه لا يعيد. وذكر ابن حبيب عن جماعة من أصحاب مالك في الأميين يؤم بعضهم بعضًا أن ذلك لا يجوز إلا أن لا يجدوا قارئًا. ووقع لسحنون أن صلاتهم تامة. وحكى عنه ابنه أن ذلك إذا لم يجدوا من يصلون معه وخافوا ذهاب (5) الوقت. وبصحة صلاة الأمي إذا أم قارئًا قالت الشافعية، وبالبطلان قال أبو حنيفة. واختلف أصحابه في تعليل ذلك فقال أبو حازم إنما بطلت
__________
(1) يقدر -و-.
(2) أقوالهم -و-.
(3) وأما اجزاه -و-.
(4) أي عالمًا بأميته.
(5) ذوات -ق-.

(1/681)


صلاته لأنه يمكنه أن يقتدي بالقارىء فعلى هذا لا يجوز له أن يصلي وحده.
وقال الكرخي إنما بطلت صلاته لأنه لما أحرم معه القارئ صح إحرامه ولزمه القراءة عنه، فلما عجز عنها بطلت صلاته. وقد احتج للقول بان الجماعة لا تجب على الأمي بأن رجلًا جاء للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله إني لا أستطيع أن آخذ شيئًا من القرآن فقال له: قل سبحان الله. الحديث (1). فلو كان الائتمام واجبًالأمره به. وأما الذي ذكره الكرخي فلا وجه له لأن الأمي إذا لم يلزمه تحمل القراءة لنفسه لم يلزمه أن يتحمل لغيره. فنحن إذا قلنا بالبطلان نعلل بغير تعليل الكرخي. وروي (2) أن الائتمام واجب عليه، وإذا أحل به بطلت صلاته كما قدمنا بيانه.

والجواب عن السؤال الثاني عشر: أن يقال: إمامة القارئ عندنا من المصحف تكره في الفرائض دون النفل. وهذا إذا ابتدأ الإمامة ناظرًا فيه. وأمّا أن يطلب منه حرفُ اوهو في أثناء الصلاة فإن ذلك منهي عنه في النفل والفرض. وقال أبو حنيفة إذا أم من (3) المصحف فسدت (4) صلاته. وقال بعض أصحابنا (5) لا تفسد ولكنه يكره لأنه صنيع أهل الكتاب، ولأن النظر في المصحف ليس من أعمال الصلاة فيكره إدخاله فيها إلا أنها لا تفسد؛ لأن النظر عمل قليل. وروي أن ذكران مولى عائشة رضي الله عنها كان يؤم بها في شهر (6) رمضان في المصحف (7) ...
__________
(1) عن عبد الله بن أبي أوفى. قال جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال إني لا أستطيع أن آخذ من القرآن شيئًا فعلمني ما يجزئني. فقال قل: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله. قال يا رسول هذا لله فما لي؟ قال قل: اللهم ارحمني وعافني واهدني وارزقني. قال هكذا بيديه وقبضهما فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أما هذا فقد ملأ يديه من الخير. رواه أبو داود. مشكاة المصابيح ج 1ص 275 ح 858 مختصر سنن أبي داود ح 795 وصحح الدارقطني هذا الحديث.
(2) ونرى -و-.
(3) في المصحف -ق-.
(4) بطلت -و-.
(5) أصحابه -ق-.
(6) شهر ساقطة -و-.
(7) رواه البخاري تعليقًا في إمامة العبد والمولى قال الحافظ وصله ابن أبي داود وابن

(1/682)


والجواب عن السؤال الثالث عشر: أن يقال: أما الفاسق بجوارحه لا من جهة الاعتقاد والتأويل والاجتهاد كالزاني وشارب الخمر فاختلف المذهب فيه.
فقيل لا تجزي الصلاة خلفه. وقيل بإجزائها. وقال ابن حبيب من صلى وراء من يشرب الخمر فإنه يعيد أبدًا إلا أن يكون الوالي الذي تؤدى إليه الطاعة فلا إعادة على من صلى خلفه إلا أن يكون حينئذٍ سكران. قاله من لقيت من أصحاب مالك. وهكذا اختار الأبهري أن الصلاة خلف الفاسق بغير تأويل تعاد أبدًا. وقد قال في الموازية فيمن صلى وفي جوفه الخمر وليس بسكران أن من صلى خلفه يعيد أبدًا. وهذا إشارة إلى الإعادة لكونه مصليًا بالنجاسة متعمدًا. وإن رأى أن النجاسة ها هنا وإن كانت باطنة تعتبر. وقال ابن وهب لا يصلي خلف عاصر الخمر فمن صلى خلفه لم يعد. قال بعض المتأخرين هذا يقتضي أن الفسق بإجماع لا يمنع صحة الائتمام. وقيل في إمامة الفاسق تستحب الإعادة في الوقت. ومذهب الشافعية أن الصلاة خلفه تجزئ، إلا أنها تكره ابتداءًا. وقد احتج لمنع الائتمام به بقوله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ} (1). فلو صح الائتمام بالفاسق كان مساويًا بالمؤمن العدل. والظاهر قد اقتضى أنهما ليس سواء. وقال عليه السلام: "أئمتكم شفعاؤكم فاختاروا (2) بمن تستشفعون" والفاسق ممن لا يستشفع ولأن المأموم لو علم أن إمامه غير متطهر لم تجزه صلاته لكون إمامه فاسقًا إذ تعمد ترك الطهارة، فكذلك إذا فسق الإِمام بشرب الخمر أو الزنى. وقد أجيب عن هذا بأن العلة في بطلان صلاة المأموم كون الإِمام المحدث في غير صلاة. وإن الظواهر الأولى يعارضها قوله صلوا خلف من قال لا إله إلا الله وخلف كل برّ وفاجر (3). وقد تنوزع في تهمته في الصلاة فقال من صحح إمامة الفاسق لا تلحقه تهمة في الصلاة لأن مرتكب
__________
= أبي شيبة ووصله الشافعي وعبد الرزاق من طريق آخر. حديث رقم 3825 جامع الأصول.
(1) سورة السجدة، الآية: 18.
(2) فانظروا -ق-.
(3) رواه الدارقطني عن ابن عمر وأعله ابن الجوازي بمحمد ابن الفضل وقال متروك الحديث وطحن فيه أحمد أيضًا. نصب الراية ج 2 ص 28.

(1/683)


الكبائر بحكم الشهوة وغلبة الهوى لا باعث يبعثه على التلاعب في صلاته وقال من منع إمامته بل يتهم على ما يتعلق بصلاته مما يصلح الصلاة ويفسدها. وقد يستخف ترك الصلاة أصلًا. فاستخفاف ترك شروطها أولى أن يظن به. وقد تردد جواب بعض أصحابنا في إمام صلى في دار مغصوبة عالمًا بذلك فقال: إن قلنا بالإجزاء فلأن المعصية ها هنا راجعة لحق العباد فهي بخلاف ما يرجع لحق الله تعالى كالزنى وشرب الخمر. وإذا قلنا لا يجوز فطردًا لباب المعاصي المانعة من العداله.
والجواب عن السؤال الرابع عشر: أن يقال: أما المخالف في مسائل الاعتقاد فإنه على قسمين: مخالف في مسائل أصولية قطعية. ومخالف في مسائل فروعية (1) ظنية. فإن كانت مخالفته في الأصول القطعية فإن كان كفرًا صراحأ لا مراء فيه كالتهود والتنصر فقد تقدم الكلام عليه. وإن كان مما يشكل كونه كفرًا كالاعتزال وغيره من مذاهب أهل الأهواء فإن فيه اختلافًا. فقيل لا تجزئ الصلاة خلفه. قال مالك: من صلى الجمعة وراء قدري أعادها ظهرًا.
وقال محمَّد بن عبد الحكم فيمن صلى خلف البدعي يعيد أبدًا إلا أن تكون الجمعة، لكونها فرضًا على الأعيان. وقال أصبغ وابن حبيب ببطلان الصلاة خلف البدعي وإنها تعاد أبدًا. إلا أن ابن حبيب اشترط أن لا يكون واليًا، فإن كان واليًا فالصلاة وراءه جائزة. وإن أعاد في الوقت فحسن. وقال ابن القاسم يعيد في الوقت. وقال سحنون لا يعيد في وقت ولا غيره. وقد حكاه عن جماعة من أصحاب مالك. وسبب هذا الاختلاف أن الصلاة خلف الكافر لا تصح، وتصح خلف المؤمن العدل. فمن قال إن الله سبحانه ليس بعالم فقد كفر والكافر لا يصلى خلفه. ومن قال إن الله سبحانه عالم ولكن لا علم له وإنما هو عالم بنفسه كما تقول المعتزلة فقد اختلف أئمة الأصول في تكفيره. فمنهم من كفره لأنه رأى أن اعتقاد نفي علم البارئ تعالى يمنع من اعتقاد كونه عالمًا، ونافي العلم عنه ناف لكونه عالمًا. ومنهم من رأى أن نافي العلم لم يصرح بنفي كونه عالمًا بل يكفر من أنكر كونه عالمًا فلا يضاف إليه مذهب هو يكفره
__________
(1) هكذا ولعل الصواب فرعية.

(1/684)


ويبطله، وان كان يلزمه القول به. هذا هو سبب الاختلاف في تكفيرهم.
والاختلاف في تكفيرهم هو سبب الاختلاف في إجزاء الصلاة خلفهم. والقول في تكفيرهم، أو تفسيقهم بما قالوه دون (1) إضافة الكفر إليهم من أغمض مسائل الأصول. وقد عد المسألة القاضي أبو بكر بن الطيب على عظم تبحره في الأصول من الدقائق. ولا يمكننا بسط القول فيها ها هنا. وقد صرح مالك بالتكفير، فروي عنه فيمن يقول بخلق القرآن أنه قال: هو كافر فاقتلوه. وقد سئل عن تزويج القدري: أنه قال: لا يزوج. قال الله تعالى: {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ} (2). وروي عنه خلاف هذا هذا أنه قال فيمن قال بخلق القرآن يوجع ضربًا ويحبس حتى يتوب. فأنت ترى اضطراب قوله رحمه الله في هذه المسألة وهو إمام الفقهاء كما اضطرب فيها رأي القاضي أبي بكر وهو إمام المتكلمين.
وهذا يشعرك بما قلناه من إشكالها. وقد نقلنا عن ابن حبيب ها هنا أنه استثنى من أهل البدع الولاة كما نقلناه عنه أنه استثناهم (3) في إمامة فاسق الجوارح ولا معنى عندي لاستثناء الولاة من أهل الباع إن كان يقول بتكفيرهم وهو ظاهر قوله بالإعادة أبدًا لأن الكافر لا تجزئ الصلاة وراءه وإن كان واليًا. وإن عول في استثنائهم في فاسق الجوارح على صلاة أنس وابن عمر خلف الحجاج فإنه يحتمل أن يكونا رضي الله عنهما خافا منه إن تأخرا عن الصلاة خلفه فصليا خلفه تقية وأعادا. وإن كانت المخالفة في مسائل فروعية (4) ظنية وما طريقه الاجتهاد فقد تقدم كلامنا على هذا لما ذكرنا حكم اختلاف المجتهدين في القبلة وأنهم لا يؤمهم من خالفهم في الاجتهاد في جهة (5) القبلة وقد ذكرنا قول أشهب فيمن صلى خلف من لا يتوضأ من القُبلة أنه يعيدى أبداً ولو صلى خلف من لا يتوضأ من مس الذكر لم يكن عليه إعادة. وإن أبا الحسن اللخمي ألزم على هذا منع صلاة المالكي خلف الشافعي والشافعي خلف المالكي. وذكرنا أن هذا الذي
__________
(1) دون كون إضافة -و-.
(2) سورة البقرة، الآية: 221.
(3) إنهم استثناءهم -و-.
(4) هكذا في جميع النسخ.
(5) طلب -و-.

(1/685)


ألزمه لا يلزم (1) وبسطنا القول في إفساد هذا الالتزام. واعتذرنا عما وقع لأشهب وسحنون في هذا فلا معنى لإعادته.
والجواب عن السؤال الخامس عشر: أن يقال: لما كان للأمراء حرمة على الرعايا، وجب أن تكون الإمارة مرتبة يستحق بها المتقدم في الصلاة. وفي الحديث الذي قدمناه: ولا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه (2). وكذلك صاحب الدار أولى بالإمامة وإن كان عبدًا. فرأى أن حق ملك المحل يفي بنقص العبودية. ويوفي (3) عليه. وإذا كان المنزل لامرأة فهي وإن كانت ليست من جنس من يؤم فإن حقها لا يبطل، ولكنها تستخلف من يؤم بهم لأنها إنما منعت من الإمامة لا من الاستخلاف. ويستحب لها أن تستخلف أحق القوم بالإمامة. وكذلك الأب أولى من ابنه بالإمامة، والعم أولى من ابن أخيه قال مالك وإن كان العم أصغر فإن العم أحق إلا أن يأذن الأب أو العم فيجوز له أن يؤمهما (4). قال سحنون وذلك إذا كان العم في العلم والفضل مثل ابن الأخ. وألزم بعض أشياخي سحنون أن *يشترط في كون الأب أحق أن يكون مساويًا لابنه في العلم والفضل كما اشترط ذلك في العم. وقد لا يلزم ذلك لكون* (5) الأب آكد حرمة وأوجب برًا. والعم إنما يشبه بالأب فلهذا استحق الحرمة على ابن أخيه (6) بالشيء أخفض منه مرتبة وقد كنا ذكرنا في تعديد النقائص ما تسرع إليه الألسنة كولد الزنا فإنه مما تسرع الألسنة إلى الطعن فيه. وقد اختلف فيه فكره مالك أن يكون إمامًا راتبًا. وقال ابن دينار لا تكره إمامته إذا كان في نفسه أهلًا لذلك. وإلى هذا ذهب ابن نافع ومحمد بن عبد الحكم والثوري والأوزاعي.
__________
(1) لا يلزمه-و-.
(2) جزء من حديث أخرجه مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة والحاكم. نصب الراية ج 2 ص 24.
(3) ويرى -و-.
(4) إن يؤمهما = ساقط -و-.
(5) ما بين النجمين ممحو -و-.
(6) كلمة ممحوة في -و- ومختلطة في -ق- لم نهتد لتبينها.

(1/686)


والجواب عن السؤال السادس عشر: أن بقال: من صلى منفردًا فليس له نقل صلاته وتحويلها إلى الجماعة. وبه قال أبو حنيفة. وللشافعي قولان: أحدهما ما قلناه، والثاني: له أن ينقل صلاته من الانفراد إلى الجماعة.
واحتجوا على هذا بحديث أبي بكر رضوان الله عليه لما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الصلاة وأبو بكر يصلي فخرج أبو بكر من الإمامة فصار مأمومًا. والإمام كالمنفرد فقد نقل أبو بكر صلاته عما هو في معنى المنفرد إلى حكم الجماعة.
وقد قدمنا نحن اضطراب الرواة في هذا الحديث واختلافهم فيه وأن بعضهم زعم أن أبا بكر لم يخرج عن الإمامة. فإذا قلنا بهذه الرواية لم يكن لهم في هذا الحديث تعلق. ولو سلمنا أن الإِمام في حكم المنفرد فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "وإنما لامرىء ما نوى" (1). والنية معتبرة في مبدأ العبادة والمنفرد ابتدأ الصلاة بنية الانفراد فلا يكون له تحويلها، وأما المأموم فلا يجوز له نقل صلاته من الجماعة إلى الانفراد. وبه قال أبو حنيفة، وأجاز ذلك الشافعية على اختلاف عندهم في جوازه، إذا فعل ذلك اختيارًا بغير عذر. ودليلنا قوله عليه السلام: إنما جعل الإِمام ليؤتم به (2). وتحذيره من رفع الرأس قبله. وتهديده أن يبدل الله رأسه رأس حمار على ما وقع في الحديث (3). وهذا يقتضي منع الخروج من الإمامة. وقد اتفق على أن سهو الإِمام يلزم المأموم وإن لم يسه المأموم في نفسه. فلو كان له أن يخرج من إمامته لم يلزمه حكمه ولا سهوه. واحتجت الشافعية بأن معاذًا لما طول وخرج رجل من صلاته لأجل التطويل ولم ينكر النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك عليه لما أعلمه. وأجيب عن هذا بأنه لم يذكر في الحديث أنه خرج منها وبنى عليها منفردًا، ويحتمل أن يكون قطعها غالطًا في قطعها. وإذا احتمل ذلك سقط التعلق به. واحتجوا أيضًا بصلاة الخوف وأن الطائفة الأولى خرجت من الإمامة وأتمت لنفسها. وأجيبوا عن هذا بان صلاة الخوف شرع فيها هذا الفعل للعذر وصار الخروج من الإمامة فيها مشروعًا وما سواها من الصلوات لا يمكن أن
__________
(1) متفق عليه.
(2) تقدم تخريجه.
(3) رواه أحمد. بلوغ الإماني ج 5 ص 277.

(1/687)


يقال إن الخروج من الإمامة مشروع والعذر له مدخل في التحويل. ألا ترى أن من كان في فرض لم يجز له أن يحوله نفلًا. ولو ابتدأ فريضة يظنها واجبة عليه ثم ذكر أنه صلاها لتحولت نافلة. وقد قال ابن القصار يحتمل على قول مالك في الإِمام يحدث ولم يستخلف وأتم من خلفه وحدانًا أن صلاتهم تجزيهم أن يجوز للمأموم أن يخرج من صلاة الإِمام. ويحتمل أن يفرق بين الأمرين أن هؤلاء لم يخرجوا من حكم الإِمام إلا لعذر. وهذا الذي أشار إليه ابن القصار من ترديد القول في تخريج مذهب الشافعية من المسألة التي ذكرها ليس من الإشكال بحيث يجب (1) ترديد القول فيه؛ لأن الإِمام إذا أحدث فقد بطلت إمامته. وإذا (2) بطلت إمامته لم يبق إلا إلزامهم استيناف إمام آخر لم يلتزموه حين شروعهم في الصلاة. ومخرج نفسه من إمامة من لم تبطل إمامته لا يصلح لأنه حلٌّ لما عقد وإبطال لما التزم. فلهذا يجب ألا يردد القول في هذه المسألة.
والجواب عن السؤال السابع عشر: أن يقال: قد قدمنا حكم استخلاف الإِمام إذا أحدث وذكرنا ما في ذلك من الخلاف وسنذكر حكم استخلافه إذا ذكر صلاة نسيها. ولو أنه أحصر عن القراءة فهذا مما اختلف الناس فيه. فذكر ابن سحنون فيمن أحصر عن القراءة فعلم أنه لا يقدر على القراءة في بقية الصلاة أنه يستخلف ويصلي مامومًا خلف النائب عنه. ووافقنا أبو حنيفة على أنه يستخلف. وخالفه صاحباه وقالا تبطل صلاته وصلاة من خلفه. ورأيا أنه إنما ضمن وتحمل صلاة بقراءة، فإذا عجز عما ضمنه وتحمله بطلت صلاته وصلاة من اقتدى به. ولنا نحن القياس على الحديث. وقد تأخر أبو بكر رضي الله عنه وتقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المشهور وهو مما نجعله أصلًا في مسألتنا.
ولو أن الإِمام إذا أحصر عن قراءة بعض السورة التي مع أم القرآن لم يكن له عندي أن يستخلف لأن صلاته تصح مع تركه فعل ما عجز عنه. وقد قال أصحابنا فيمن لقن فلم يتلقن أنه بالخيار بين أن يركع أو يشرع في سورة أخرى.
__________
(1) يجب = ساقطة -و-.
(2) ومن -ق-.

(1/688)


فإذا كان للأمام أن يستخلف فليس ذلك بواجب عليه لأنه إنما التزم أن يقتدي به ما دام الاقتداء به ممكنًا. فإذا تعذر ذلك فليس عليه أن يأتي بعوض منه. لكن لما كان المأمون ممنوعين من الكلام كان من حسن النظر لهم أن يقيم لهم من يصلي بهم. فإن أقام لهم مصليًا بهم فلا يلزم المأمومين أن يأتموا به لأنهم إنما التزموا الاقتداء بالأول فلا يلزمهم الاقتداء بمن أقامه الأول. وقد قال سحنون إذا استخلف الإِمام *رجلًا فلم يتقدم حتى تقدم غيره وصلىِ المستخلف وراءه* (1) فصلاتهم تامة. وهذه إشارة لما قلناه من أنهم لا يلزمهم الاقتداء بمن أقامه الإِمام لهم. وإذا استخلف الإِمام ثم عزل خليفته لما عاد إلى حال الإمامة، فيه قولان. قال في العتبية في إمام أحدث فاستخلف ثم توضأ وأخرج المستخلف وأتم بهم أن ذلك لا ينبغي. فإذا فعل فينبغي إذا تمت الصلاة أن يشير إليهم أن يثبتوا حتى يقضي لنفسه. وقد جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر يصلي بالناس فتاخر وتقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - (2). وقال يبيح بن عمر لا يجوز هذا لأحد بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -. ومال بعض أشياخي إلى الأخذ بحديث أبي بكر اعتمادًا منه على الرواية التي خرجها أصحاب الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بالناس وأبو بكر إلى جنبه يسمع الناس تكبير النبي - صلى الله عليه وسلم - (3). وهذا عند موته فلا ناسخ له. وقد كنا نحن قدمنا اختلاف الرواية (4) فيمن كان الإِمام، لما تكلمنا على إمامة الجالس بالقيّام. وقد أشار بعض المتأخرين إلى أن ما وقع في الحديث من خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا يقاس عليه غيره. ويؤمر الإِمام إذا أحدث أن يستخلف قبل أن يعمل بهم عملًا وهو محدث. فلو أحدث وهو راكع لاستخلف من يرفع بهم لئلا يقتدوا به إذا رفع فيرفعوا. وقيل يرفع رأسه من غير تكبير. ولو أن القوم اغتروا به فرفعوا برفعه لما أخذ هذا القول (5): فقد قال بعض المتأخرين لا تفسد صلاتهم بخلاف الإِمام إذا سلم عقيب حدثه فسلموا بسلامه على القول بان الصلاة تفسد
__________
(1) ما بين النجمين ممحو -و-.
(2) مسلم عن سهل بن سعد الساعدي. إكمال الأكمال ج 2 ص 176 - 177.
(3) رواه مسلم ج 2 ص 170 - 175 وأبو داود والنسائي وابن ماجة بلوغ الأماني ج 5 ص 285.
(4) قدمنا الاختلاف -و-.
(5): هكذا في النسختين.

(1/689)


لأن المسلم يسلم ليتبع وهذا رفع ليستخلف فيكون الرافعون معه كالرافع قبل إمامه غلطًا فيرجعون إلى الركوع ليرفعوا برفع المستخلف ولو رفعوا برفعه ولم يستخلف عليهم أتموا صلاتهم.

والجواب عن السؤال الثامن عشر: أن يقال: إذا استخلف بعض المأمومين فمن شرط صحة استخلافه أن يكون أحرم قبل أن يحدث الإِمام ليحصل مع الإِمام في صلاة واحدة قبل الحدث. فإذا أحرم بعد أن أحدث الإِمام فلا يصح استخلافه لأنه لا تعلق بين صلاته وصلاة من استخلفه ويصير المأموم معه بمثابة من أحرم قبل إمامه فتفسد صلاتهم إن اتبعوه. وأما صلاته في نفسه فإنها تفسد إن استخلفه على ركعة أو ثلاث لجلوسه في غير موضع الجلوس. وإن استخلفه على ركعتين فيجري على القولين في ترك قراءة السورة متعمدًا. إلى هذا أشار ابن عبدوس. فإن كان قد أدرك الإحرام معه أو ألفاه راكعًا فعقد الركعة معه بالركوع فإنه يصح استخلافه. وإن كان ألفاه قد رفع رأسه من الركوع فهل يصح استخلافه أم لا؟ في ذلك قولان: أحدهما أنه لا يصح ويؤمر المستخلف باستخلاف غيره فان لم يفعل وائتموا به فصلاتهم باطلة، وقيل صلاتهم صحيحة. وسبب هذا الاختلاف أن المستخلف لا يعتد بالسجود الذي يفعله عند خروج الإِمام لأنه لم يعقد ركوعه. فإنما يفعله بحكم ما لزمه من وجوب الاقتداء بالإمام الأول. والمأمومون يقتدون به فصارت نيتهم فيه مخالفة لنية المستخلف فلا يجزيهم الاقتداء به ولا اتباعه فيما ليس هو في الأصل واجبًا عليه كما لا يجزي المفترض الصلاة خلف المتنفل. ومن قال بالإجزاء رأى أن هذا الاختلاف لا يؤثر لأن هذا المستخلف واجب عليه فعل السجود الذي فعل لو لم يحدث إمامه. فلما أحدث الإِمام واستخلفه فكان الإِمام لم يذهب وكأنهم لما اقتدوا بمستخلفه اقتدوا به. فإذا صح الاستخلاف لصحة ما ذكرناه من هذه الشروط المعتبرة فإن كان موضع المستخلف بعيدًا من الإِمام أكمل بهم الصلاة في موضعه وجاز ها هنا مخالفة الرتبة للضرورة وكون المشي الكثير مفسدًا للصلاة. وإن كان موضعه قريبًا تقدم إلى موضع الإِمام لتحصيل الرتبة إذ لا مانع

(1/690)


يمنع من تحصيلها. ويكون تقدمه إليها على الهيئة (1) التي صادفه الاستخلاف عليها. فيتقدم الراكع راكعًا والجالس جالسًا والقائم قائمًا فيكمل فعل الأول.
فإن علم حيث انتهى الأول من القراءة قرأ من حيث قطع الأول. وإن ثم يعلم ففي السليمانية أنه يبتدىء قراءة أم القرآن من أولها إذا كانت صلاة سر، وكأنه رأى أن تجويز كون الإِمام لم يقرأ إما لنسيان أو غيره يقتضي ابتداء المستخلف القراءة من أولها. وإذا استخلف الإِمام رجلًا على بقية الصلاة وقد فاته بعضها فهل يستخلف من يسلم بالقوم ثم ينهض للقضاء؟ أو ينهض للقضاء وينتظرونه حتى يسلم بهم؟ في ذلك قولان: المشهور (2): إته يشير إليهم كالآمر لهم بالجلوس ثم ينهض للقضاء. فإذا فرغ منه سلم بهم. لأن السلام من بقية صلاة الأول وقد حل محله في الإمامة فيه، فلا يصح خروجه عن ذلك بغير معنى يقتضيه. وانتظار القوم لفراغه من القضاء أخف من الخروج من إمامته. وقيل يستخلف من يسلم بهم؛ لأن السلام من بقية صلاة الأول كما قدمنا. فلا ينبغي له (3) أن يقضي قبل فرك الصلاة. وخروج القوم عن الاقتداء به إلى الاقتداء بمن أقامه مقامه أخف من انتظاره.
وسبب هذا الاختلاف ما أشرنا إليه من أن هذا المصلي تدفعه الضرورة إلى الخروج عن الأصل على المذهبين جميعًا. فالنظر في أي الخروجين أخف هو مثار الخلاف. ولو ساوى هذا المستخلف طائفة من القوم في ذوات ما فاته فهل يقضون ما فاتهم أفذاذًا في حال قضائه ويسلمون بسلامه أو يؤخرون قضاءهم حتى يسلم المستخلف من صلاته؟ في ذلك قولان: فكان من أمر بالقضاء في حال قضائه يتعلق بأن الطائفة الأولى في صلاة الخوف تصلي قبل فراغ الإِمام على إحدى الروايات المنقولة في صلاة الخوف. ومن أمر بالتأخير إلى فراغ المستخلف يتعلق برواية ابن عمر في صلاة الخوف. فقد تضمنت أن الطائفة الأولى تؤخر الإكمال، حتى يفرغ الإِمام.
__________
(1) الحالة -ق-.
(2) الجمهور يرون -ق-.
(3) له = ساقطة -ق-.

(1/691)


ولو أن هذه الطائفة القياساوت المستخلف في الفوات ائتمت به فيما تساووا في فواته لكان في صحة صلاة المؤتمين به قولان: أحدهما أن صلاتهم بإطلة والآخر أن صلاتهم صحيحة. وقد أشار بعض المتأخرين إلى أن القول بإبطال الصلاة يحتمل وجهين أحدهما: إن المؤتمين به لزمهم حكم الأول.
ومن حكم الإِمام الأول أن لا يصلي تلك الصلاة مع إمام غيره. فصلاة ما فات وراء المستخلف كصلاته وراء غيره من الأئمة، والحكم فيه أن يقضي فذًا.
والوجه الثاني، أن من ائتم بمأموم فعليه القضاء. ويشير إلى صحة هذا التعليل قول ابن المواز: من أَتبع المأموم في القضاء فمن كان معه في الصلاة أو من غيرهم بطلت صلاته. وهذا يقتضي أن المؤتم بمأموم لا تصح صلاته لأن قوله أو من غيرهم يقتضي بطلان صلاة من دخل مؤتمًا معه في ركعة الفوات. وقد قال ابن حبيب في إمام كان يصلي بقوم في السفر فرأى أمامه جماعة تصلي بإمام فجهل فصلى بصلاتهم أجزته صلاته وأعاد من وراءه أبدًا لأنهم لا إمام لهم.
وقد اختلف الأشياخ في الاقتداء بمسمع تكبير الإحرام هل تصح الصلاة معه أم لا؟ فمنهم من منع صحتها ومنهم من لم يمنع صحتها لأن في الصحيح.
في صلاته - صلى الله عليه وسلم - في مرضه فتأخر أبو بكر وقعد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر إلى جنبه يسمع الناس تكبير النبي - صلى الله عليه وسلم - (1). ومنهم من منع صحتها بشرط أن يكون الإسماع بغير إذن الإِمام. وقد ساوى ابن عبد الحكم في كتاب ابن المواز بين من ابتدأ الصلاة بإمام فأتمها فذًا أو ابتدأها فذًا فاتمها بإمام أو قضى ما وجب عليه فذًا مؤتمًا. في أن الصلاة تعاد في هذا كله. وإن كان قد قال (2) في المدونة في إمام أحدث ولم يستخلف فصلى القوم وحدانًا إن صلاتهم تجزيهم. وحمل بعض أشياخي مطلق قول ابن عبد الحكم الذي حكيناه على أنها لا تجزيهم. وقد كنا قدمنا الكلام على نقل صلاة الجماعة إلى الانفراد ونقل صلاة الانفراد إلى الجماِعة، وذكرنا اختلاف الناس في ذلك وحجة كل فريق وما ذكرناه عن ابن حبيب وعن ابن عبد الحكم يجب أن ينظر فيه بعد اعتبار هذا الذي ذكرنا أنا قدمناه. وما فعله
__________
(1) رواه مسلم ج 2 ص 170 - 175. وأبو داود والنسائي وابن ماجة. بلوغ الأمافي ج 5
ص 285.
(2) مما قال -ق-.

(1/692)


المسبوق من القضاء وللإمام حكم عليه (1) فإنه لا يعتد به وإن كان جاهلًا. لأن الإِمام عليه حكم. كمن فاتته ركعة. فلما سلم إمامه قام لقضائها. فأخبره الإِمام أنه قد كان أسقط من الركعة التي فاتت هذا معه سجدة، فإنه لا يعتد بقراءته بأم القرآن لأن الإِمام من حقه أن يبني هذه الركعة على صلاته.
فكأن المأموم قضى والإمام من يفرغ من صلاته. وإذا لم يعتد بها كان كالتارك لها. فإن كان في صلاة الصبح ولم يشعر حتى فرغ من صلاته أعادها وإن كان فيما سواها من الصلوات لم تبطل صلاته على القول بأن ترك قراءة أم القرآن في أقل الصلاة لا يبطلها ويسجد قبل السلام. وكذلك يعتبر في ركوعه فإن كان ركع ورفع في زمن قريب حكم الإِمام أن يبني فيه، فإنه لا يعتد بركوعه لأنه فعله أيضًا وحكم الإِمام باق عليه.
وهذا الذي ذكرناه من اعتبار حكم القرب المجيز للإمام البناء، إنما نعتبره بشرط أن لا يكون الإِمام قطع صلاته بتعمد كلام أو سلام. وإذا كان ركوعه بعد طول قيام لا يبني الإِمام في مثله فإنه يعتد بالركعة ولا يعتد بقراءة أم القرآن على ما فصلناه. وإذا كان هذا فعل فعلًا لا يعتد به فإنه يلغيه كأنه لم يفعله. وإذا اعتد بصلاته بعد تصحيحها فإنه يقدر كالظان أن إمامه سلم فقام ليقضي فسلم الإِمام وهو قائم، فحكم سجود هذا قد تقدم الكلام فيه، والاختلاف (2) فيه. ولو أن هذا المسبوق بركعة الناسي إمامه سجدتها، استخلفه إمامه فأكمل بالقوم ثم قضى الركعة، فإنه يعتد بها وإن ركعها بالقرب لأنه
كالمستخلف عليها ويسجد قبل السلام ويسجد القوم معه. ثم يقضي الإِمام بعد سلام المستخلف ركعة فذًا ويصليها الناس أيضًا أفذاذًا قبل سلامهم ويصيرون كقوم غفلوا عن ركعة حتى سلم إمامهم. ويصير المستخلف كأنه لم يفته شيء.
ولو علموا بذلك قبل أن يركعها وصلوها معه لأجزأتهم، وكذلك الإِمام لو أدركه فيها لاتبعه.

قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: ومقامات المأموم مع الإِمام أربعة:
أحدها عن يمين الإِمام وذلك للرجل وحده. والثاني خلفه وذلك للرجلين فأكثر
__________
(1) والإمام عليه حكم -و-.
(2) وذكر الاختلاف -ق-.

(1/693)


وللرجل والصبي العاقل الذي (1) يثبت، والمرأة وحدها وجماعة النساء إذا لم يكن معهن رجل. والثالث صفوف خلفه لا صف واحد وذلك للرجلين فأكثر ومعهما (2) امرأة أو نساء. فإن الرجال يقومون صفُ ا (3) خلف الإِمام والنساء خلفهم. والرابع إلى جنبه وخلفه وذلك للرجل الواحد والمرأة وحدها (4) أو جماعة نساء فإن الرجل يكون عن يمين الإِمام والنساء خلفه.

قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل عشرة أسئلة. منها أن يقال:
1 - ما الدليل على أن الواحد يقف عن يمين الإِمام؟.
2 - وما الدليل على أن الإثنين يقفان خلفه؟.
3 - وما الدليل على أن أحدهما إن كانت امرأة قامت خلفه؟.
4 - وما حكم المرأة إذا صلت إلى جنب الإِمام؟.
5 - وما حكم المأموم إذا صلى أمام إمامه؟.
6 - وما حكمه إن صلى وراء الصفوف؟.
7 - وما حكمه إن كان بينه وبين الإِمام حائل يمنع المشاهدة؟.
8 - وما حكمه إن كان بينه وبين الإِمام طريق أو نهر؟.
9 - وما حكم الإِمام إذا كان مكانه أرفع من المأموم؟.
10 - وما حكم المشروع في هيئة الصفوف؟.

الجواب عن السؤال الأول: أن يقال: مذهبنا أن الواحد يقف عن يمين إمامه خلافًا لابن المسيب في قولة يقف عن يساره. وللنخعي في قوله: يقف وراءه. فإن جاء أحد وقف معه، فإن ركع الإِمام ولم يجيء أحد تقدم فوقف عن يمينه. ودليلنا حديث ابن عباس وقد ذكر فيه أنه قام عن يسار النبي - صلى الله عليه وسلم - فحوله
__________
(1) الذي = ساقطة -الغاني-.
(2) وإن كان معها امرأة -الغاني-.
(3) صفًا واحدًا -الغاني-.
(4) وحدها = ساقطة -غ-. الغاني-.

(1/694)


النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى يمينه (1). وأما ابن المسيب فإنه يتعلق يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - عن يسار أبي بكر في الصلاة التي كانت في مرضه - صلى الله عليه وسلم - فإنا قد قدمنا اختلاف الرواة في كون أبي بكر رضي الله عنه في تلك الصلاة إمامًا على أن تلك القصة لو ثبت كون أبي بكر إمامًا فيها لكان مقام النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى جنب أبي بكر من خصائصه التي لا تتعدى إلى غيره فلا تكون حجة لما قاله ابن المسيب.

والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: موقف الاثنين خلف إمامهما. وبه قال عمر وابنه وعلي رضي الله عنهم وذهب ابن مسعود إلى أن أحدهما يقف عن يمينه والآخر عن شماله ولنا أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى برجلين فأقامهما خلفه (2).

والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: إذا كان مع الإِمام رجل وامرأة قام الرجل عن يمينه والمرأة خلفه. وقال الحسن يصلي بعضهم خلف بعض ولنا ما روى أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعله عن يمينه والمرأة أسفل منه (3).

والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: إذا قامت المرأة إلى جانب إمامها وخالفت الترتيب المشروع لم تبطل صلاتها ولا صلاة إمامها. وقال أبو حنيفة تنعقد صلاتها ثم تبطل صلاة الإِمام، فإذا بطلت صلاة الإِمام بطلت صلاتها.
ووافقنا الشافعي على صحة صلاة الإِمام خاصة دون المرأة. ودليلنا أن الاصطفاف ليس بفرض فالإخلال به لا يفسد الصلاة. وأبو حنيفة رأى أن الرتبة (4) في المقام في هذه المسألة مفروضة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أخروهن حيث أخرهن
__________
(1) متفق عليه. الهداية ج 2 ص 202.
(2) رواه أحمد ومسلم وأبو داود والبيهقي عن جابر بن عبد الله قال: قمت عن يسار النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخذ بيدي فأدارني ثم أقامني عن يمينه ثم جاء جابر بن صخر فتوضأ ثم جاء فقام على يسار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخذ بأيدينا جميعًا فدفعنا حتى قمنا خلفه. هذا لفظ مسلم. الهداية ج 3 ص 205.
(3) لفظ مسلم وأقام المرأة خلفنا. شرح النووي ج 5 ص 164.
(4) الترتيب -و-.

(1/695)


الله" (1). ولا مكان يجب تأخيرهن عنه إلا مكان الصلاة. ولأن المرأة إنما لم تؤم الرجال لأن تأخيرها واجب. والمتأخر لا يصح أن يكون إمامًا. ولم تمنع الإمامة للنقص لأن العبد يؤم وهو منقوص بالرق. وقد نوزعوا في هذا التعليل بأن الجمعة لا تنعقد بهن وإن كن متاخرات. وإنما ذلك لأنهن لسن بأهل لانعقاد الجماعة لنقصهن. فكذلك إنما لم يكن أئمة لنقصهن. وقد قال بعض أصحاب الشافعي في الرد على أبي حنيفة أن المرأة إذا وقفت في غير الموقف المشروع، فمقتضى ذلك ألا تنعقد صلاتها كما لو تقدم متقدم على إمام في موقفه فإنه لا تنعقد صلاته. فإذا كانت المرأة لا تنعقد صلاتها لم تبطل صلاة الإِمام. وهذا الذي قاله في بطلان صلاة المأموم بمخالفة الموقف هنا نحن نتكلم عليه إن شاء الله تعالى. والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: إذا وقف المأموم بين يدي إمامه لم تبطل صلاته عندنا خلافًا للشافعي في أحد قوليه. ودليلنا أن مخالفة الرتبة لا تفسد الصلاة كما لو وقف عن يسار الإِمام فإن صلاته لا تبطل. لأنه - صلى الله عليه وسلم - أدار ابن عباس ولم يأمره بالابتداء. وفرقت الشافعية بين مخالفة الموقف المختار بالتقدم أو الكون على اليسار. لأن اليسار موقف لبعض المأمومين في حال، والتقدم ليس بموقف لأحد. وهذا غير مستقل لأنا وإن سلمنا أن اليسار موقف لبعض المأمومين فإنه ليس بموقف لمن تكلمنا عليه وهو العادل إليه عن اليمين اختيارًا، وإنما المعتمد على ما قلنا في أن ترتيب الموقف ليس بشرط في صحة الصلاة ولا الإخلال به إخلال بأحد أركانها.

والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: صلاة المنفرد خلف الصف مع وجود الفرج بين يديه يكره عندنا ويقع بها الإجزاء. وبه قال الشافعي وأبو حنيفة وقال ابن حنبل إن انضاف إليه آخر قبل الركوع صحت صلاته وإن ركع وحده بطلت صلاته. ثم إذا انضاف إليه آخر كان كالفذ أيضًا. وقال النخعي والحكم والحسن بن صالح وإسحاق وابن المنذر تبطل صلاته. ونقل بعضهم
__________
(1) ليس بمرفوع وإنما أخرجه عبد الرزاق في مصنفه عن ابن مسعود من قوله. الهداية ج 3 ص 195.

(1/696)


عن ابن حنبل هذا المذهب مطلقًا. وقال ابن وهب في المجموعة إذا خرج أحد عن الصف بطلت صلاته ودليلنا أن أبا بكرة رضي الله عنه جاء والشعبي - صلى الله عليه وسلم - راكع فركع دون الصف ومشى إلى الصف وهو راكع. فلما قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاته قال: "أيكم الذي ركع دون الصف ومشى إلى الصف وهو راكع. فقال أبو بكرة أنا. فقال: زادك الله حرصًا ولا تعد. ولم يأمره بالإعادة" (1). فإن قيل قوله لا تعد نهي، وركوب ما نهي عنه يبطل الصلاة. قيل: إنما نهاه عن السعي والإسراع وهو المراد بقوله. ولا تعد. مع أن تركه - صلى الله عليه وسلم - أمره بالإعادة يبطل قولهم بوجوب الإعادة. وأيضًا فإنه - صلى الله عليه وسلم - صلى بأنس واليتيم والعجوز من ورائهم (2) وحدها ولم تبطل صلاتها. ولأن مخالفة الموقف المختار لا يفسد الصلاة كما قدمناه. ويحتج المخالف بما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى فأبصر رجلًا صلى خلف الصفوف وحده فأمره أن يعيد الصلاة. روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: لا صلاة لمنفرد خلف الصف (3). والجواب عن هذا أن أمره بالإعادة إن ثبت حملناه على الاستحباب. وأشار بعض أصحابنا إلى أنه لا يثبت. وقوله لا صلاة يحمل على نفي الكمال، مع تسليم صحته أيضًا.
وإن كان المنفرد يخشى ذوات الركعة إن منع من الركوع دون الصف، فهل يباح له الركوع دون الصف أم لا؟ فلا يخلو من قسمين: أحدهما أن يكون قريبًا والثاني أن يكون بعيدًا. فإن كان قريبًا جاز له ذلك. وروى أشهب عن مالك لا يحرم الداخل حتى يصل إلى الصف. وإطلاق هذه الرواية يقتضي المساواة بين القرب والبعد. واختلف في حد القرب فقيل: قدر ذلك صفان فيباح على هذا أن يمشي فرجتين. وقيل ثلاثة صفوف. وقال إسماعيل يعتبر في ذلك أن يكون بحيث يدرك أن يسجد مع الإِمام في تلك الركعة في الصف. وإذا كان من القرب بحيث يباح له الركوع فإنه يدب ليصل إلى الصف. ومتى يدب؟ عن مالك روايتان:
__________
(1) أخرجه أحمد والبخاري وأبو داود والنسائي والبيهقي. الهداية ج 3 ص 214.
(2) البخاري ومسلم. نصب الراية ج 2 ص 40.
(3) رواه أحمد وابن ماجة والطحاوي والبيهقي وابن حزم من حديث علي بن شيبان عن أبيه وصححه ابن خزيمة وابن حبان وابن حزم. الهداية ج 3 ص 212.

(1/697)


إحداهما أنه يدب راكعًا، والثانية إذا رفع رأسه من الركوع. وفي حديث زيد بن ثابت فركع ثم دب (1). وهذا لفظ يحتمل هذين المذهبين. وإن كان بعيدًا ففيه (2) قولان: أحدهما أنه يباح له الإحرام دون الصف احتياطًا من الفوات. والثاني أنه ينهى عن ذلك حكاه ابن حبيب. ووجهه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا جاء أحدكم الصلاة فلا يركع دون الصف حتى يأخذ مكانه" (3). وهذا إذا كان منفردًا أو بمكان إحرامه عدد قليل لا يحلون محل جزء مقصود من الصف. قال مالك في العتبية: من جاء والإمام راكع وعند باب المسجد قوم يصلون فليركع معهم ليدرك الركعة إلا أن يكونوا قلة فليتقدم إلى الفرج أحب إليَّ. ولو كان الإِمام على حال يشك معه المأموم في تحصيل الركعة وإدراكها معه حتى يجوز أن يكون ركوعه بعد رفع الإِمام رأسه فلا ينبغي له أن يدخل معه، فإن فعل وعقد معه الركعة وشك في إدراكها فقال أشهب لا يعتد بها. وقال ابن الماجشون يتمادى على صلاته ويعيد. وقد يحتج لأشهب بالحديث الوارد في الشاك أنه يبني على اليقين. فإذ ابن ي على اليقين وألغى تلك الركعة التي شك في فعلها فكذلك يلغيها إذا شك في إدراكها.

والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: إذا كان بين الإِمام والمأموم حائل يمنع المشاهدة وسماع الصوت حتى لا يجد طريقًا للاقتداء به فلا خفاء بان الائتمام لا يتصور. وإذا كان بينهما حائل يمنع المشاهدة ولا يمنع سماع نطق الإِمام فإن كان مكان المأموم أمام الإِمام فقد مضى كراهته وذكر اختلاف الناس فيه. وإن لم يكن أمام الإِمام ففي المدونة: لا بأس بالصلاة في دور محجورة بصلاة الإِمام في غير الجمعة إذا رأوا عمل الإِمام والناس أو سمعوه. واحتج لذلك بصلاة أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجرهن بصلاة الإِمام. فظاهر هذا: الجواز مع وجود الحائل إذا سمع صوت الإِمام. وقد اختلف قوله في المدونة في صلاة الرجل في غير الجمعة على ظهر المسجد والإمام في "خله فأجازه مرة لأن أبا هريرة وصالحًا مولى التؤمة صليا على ظهر المسجد والإمام أسفل وكرهه مرة
__________
(1) رواه البيهقي ولفظه قال: دخل زيد بن ثابت المسجد والإمام راكع فركع دون الصف حتى استوى في الصف. الهداية ج 3 ص 106.
(2) من هنا اختلطت الأوراق في نسخة -ق- فنظمناها كما يجب وأثبتنا الترقيم حسبما هو موجود بالنسخة.
(3) أخرجه الطحاوي عن أبي هريرة. شرح معاني الآثارج 1 ص 396.

(1/698)


أخرى. وقال بعض أشياخي بكراهة ذلك إذا لم ير المأموم الإِمام، وإن سمعوه.
واعتل بانهم لا يدرون ما يحدث عليه ولكنه تجزئ الصلاة عنده مع هذه الكراهة. وقد كره في المدونة أن يصلي على أبي قبيس وقعَيْقِعان بصلاة الإِمام في المسجد الحرام. وذكر أبو محمَّد عبد الحق عن بعض أصحابنا أن الصلاة تجزيء إن وقعت. وأنكر هذا وقال: لا صلاة لهم واعتل بأن البعد يمنعهم من مراعاة فعل الإِمام وعلم سهوه وظاهر قوله بطلان الصلاة. ووقع في كتاب ابن حبيب في أهل سفينة صلى إمامهم بمن في أعلاها ومن في أسفلها أن صلاة الأسفلين تعاد في الوقت. واعتل له بعض المتأخرين بان ذلك إنما كان كذلك لكون الأسفلين لا يتحصل لهم مراعاة حال الإِمام. وهذا الاضطراب في الإعادة يشير إلى الكراهة التي ذكرها شيخنا. ولكنه استخف ذلك مع الضرورة إذا ضاق الموضع بمن مع الإِمام فكان يكره كون الإِمام في بيت المسجد وآخرون فوقه أو هو فوقه وآخرون في بيته ويستخف مع ضيق الموضع. وأشار إلى أنه يدخله مع الاختيار تفرقة الصفوف مع ما اعتل به من عدم العلم بمراعاة الفعل إذا لم يروه.
ومنعت الشافعية الائتمام مع وجود الحائل المانع من المشاهدة. وأجازه أبو حنيفة. واعتلت الشافعية بان حائط المسجد يبنى للفصل بين المسجد وغيره فلا يجوز الائتمام مع وجود الفاصل. وأما إذا كان المأموم بحيث يرى الإِمام ولا يسمع صوته فظاهر ما نقلناه عن المدونة جواز الائتمام لأنه قال لا بأس به إذا رأوا عمل الإِمام أو سمعوه فجعل الرؤية بمجردها كافية. وكره أيضًا ذلك شيخنا واعتل بان صلاة المأموم تكون تخمينًا وتقديرًا. وهذا الذي قاله صحيح.
لأن المأموم إذا حصل ساجدًا فلا طريق له إلى العلم برفع الإِمام رأسه إلا الصوت. فإذا لم يسمع الصوت لم يصح منه الاقتداء. ومحمل ما في المدونة عندي على أن المأموم له طريق إلى علم ذلك إما بمشاهدة أفعال المأمومين أو بغير ذلك من الطرق التي يبيح بها فعل الإِمام.

والجواب عن السؤال الثامن: أن يقال: مذهبنا جواز (1) الائتمام وإن كان بين الإِمام والمأموم نهر صغير أو طريق خلافًا لأبي حنيفة وابن حنبل في قولهما إن ذلك يمنع الائتمام. ودليلنا أن أنسًا كان يصلي في بيوت حميد بن عبد الرحمن بن عوف بصلاة الإِمام ولم ينكر عليه أحد. فإن احتج لأبي حنيفة
__________
(1) جواز = ساقطة -و-.

(1/699)


بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من كان بينه وبين الإِمام طريق فليس مع الإِمام" (1). فقد أجيب عن هذا بأن هذا الخبر لا يعرف في كتب أهل الحديث. وإن صح حُمِلَ على طريق يمنع الاقتداء. وأشار شيخنا إلى كراهته في هذا الأصل على الجملة. فقال لا بأس أن يصلي أصحاب الأسواق جماعة وإن كانوا على خلاف السنة من تفرقة الصفوف، وفرقت بينهم الطريق. لأن هذه ضرورة. وظاهر هذا كراهة كون الطريق حائلة مع الاختيار.

والجواب عن السؤال التاسع: أن يقال: مذهبنا منع الإمامة، والإمام أرفع مما عليه المأمومون. فإن فعل ففي (2) المدونة تعاد الصلاة أبدًا لأنهم يعبثون إلا أن يكون الارتفاع يسيرًا فتجزيهم الصلاة. وقدر بعض المتأخرين الارتفاع بقدر الشبر وعظم الذراع. إلى هذا نحا الشيخ أبو محمَّد.
ودليلنا ما رواه ابن سنجر في كتابه أن حذيفة بن اليمان قدم المدائن فقام يصلي على دكان فجذبه سلمان. فقال: ما أدري أطال العهد أم نسيت؟ أما سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يصلي الإِمام على شيء أنشز مما عليه أصحابه" (3). ومعنى أنشز أرفع. وذكر بعضهم أن هذا ذكره أبو داود أن ابن مسعود جذبه (4). فلما فرغ من صلاته قال له ابن مسعود ألم تعلم أنه قد نهى عن ذلك؟ قال بلى، قد ذكرت حين جذبتني. ورواه الشافعي ألم ترني تابعتك.
فإن قيل فقد صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر بالناس. وهذا يعارض حديثكم. قيل قد نبه - صلى الله عليه وسلم - على العلة التي من أجلها فعل ذلك لأنه لما فرغ من صلاته قال إنما فعلت ذلك لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي (5). وقد استحبت الشافعية لأجل
__________
(1) قال النووي هذا حديث باطل لا أصل له وإنما يروى عن عمر رضي الله عنه من رواية ليث بن أبي سليم عن تميم. وليت ضعيف وتميم مجهول. المجموع شرح المهذب ج 4 ص 181.
(2) فعلى -و-.
(3) رواه البيهقي عن أبي سعيد الخدرى. الهداية ج 3 ص 201.
(4) رواه مع أبي داود والحاكم والبيهقي وابن الجارود. الهداية ج 3 ص 200.
(5) رواه البخاري ومسلم وأبي داود والنسائي وابن ماجة من حديث سهل بن سعد. الهداية ج 3 ص 199.

(1/700)


هذا الحديث إذا أراد تعليم المأمومين أن يصلي على موضع مرتفع ليروه ويتعلموا صلاته. وقال بعض أصحابنا إنما نهى مالك عن صلاة الإِمام مرتفعًا على أصحابه لأن بني أمية فعلوه على وجه الكبر، والجبرية. فرآه من العبث ومما يفسد الصلاة. وذهب سحنون ويحيى بن عمر إلى إجازة الائتمام إذا ضاق وموضع الإِمام على المأمومين. وقال فضل ابن مسلمة: تعليله بأنهم يعبثون يشير إلى قصر المنع على موضع واسع يمكن أن يصلي مع الإِمام فيه غيره. وكذلك أيضًا ذهب بعض الأشياخ إلى صحة الصلاة إذا كان مع الإِمام قوم في مكانه المرتفع. وكأنه رأى أنه لما لم يختص بالارتفاع صحت صلاة الأسفلين.
فإن قيل قد قال مالك لا يعجبني أن يصلي الإِمام بقوم على ظهر المسجد والناس خلفه أسفل من ذلك. وهذا خلاف لما ذكرتموه عن بعض الأشياخ.
قيل: محمله عندي على أنه إنما كره ذلك لكون الأسفلين لا يرونه وقد قدمنا وجه كراهة الائتمام بمن لا يرى. وقد ذكرنا قول ابن حبيب في إمام السفينة يصلي فوقها ومعه قوم وفي أسفلها قوم يصلون معه، إن الأسفلين يعيدون في الوقت. وأشار بعض الأشياخ إلى أن هذا ليس برد لقول من قال بجواز الائتمام بإمام مرتفع وشاركه في الارتفاع قوم لأن ابن حبيب إنما اعتبر في ذلك كون المأمومين لا يمكن لهم مراعاة فعل الإِمام. وقال بعض أشياخي إذا صلى رجل في موضع مرتفع لنفسه فأتى رجل فائتم به فإن صلاتهما تصح. وكأنه رأى أن افتتاحه لنفسه يشعر بعدم قصده العبث والكبر. وإن كان قد قيل لبعض الأشياخ لِمَ لم يمنع كون الإِمام تحت المأمومين لعلوهم عليه؟ وهلا كان هذا من العبث أيضًا؟ فقال حال الإمامة تشرف حال الارتفاع فلا يظن بهم قصد العبث. وأشار إلى أنهم لو قصدوا العبث لأعادوا. وقال وأما علو الإِمام عليهم فلا يراعى فيه القصد لأنه فعل قديمًا كبرًا وتجبرًا فتحمى الذريعة فيه ويجري المقاصد وغير المقاصد مجرى واحدًا. وكأن هذا إشارة إلى ما قاله شيخنا وما حكيناه عن سحنون من إجازة ذلك إذا ضاق الموضع بالإمام. وعن بعض الأشياخ في صحة الصلاة إذا شاركه بعض المأمومين في الارتفاع، يشير إلى صحة ما قاله شيخنا

(1/701)


من إجازة ذلك إذا ضاق الموضع. ولعل هذا الذي حكيناه عنه حماية للذريعة، إنما يحميها إذا افتتح الصلاة مرتفعًا على المأموم غير قاصد للكبر.
ولا تطرد الحماية فيمن افتتح الصلاة منفردأوحده، ثم طرأ عليه من ائتم به في مكان منخفض منه؛ لأن هذا لم يفتتح الصلاة قاصدًا للإمامة فيؤمر فيها وإن لم يقصد العبث، كما يؤمر به من قصده. وفي كلامه احتمال ولعله لا يخالف شيخنا فيما قال. ويمكن عندي أن تجعل صلاته - صلى الله عليه وسلم - على المنبر قصدًا للتعليم حجة للجواز إذا ظهرت العلامات الدالة على عدم قصد الكبر على ما أشار إليه سحنون وغيره.

والجواب عن السؤال العاشر: أن يقال: تسوية الصفوف مأمور بها. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "سووا صفوفكم فإن تسوية الصفوف من إقامة الصلاة" (1). وأكد - صلى الله عليه وسلم - أمرها حتى توعد عليه فقال: "لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم" (2). وكان - صلى الله عليه وسلم - يقول قبل أن يحرم: "اعتدلوا وتراصوا" (3). وكان أمير المدينة يعاقب من خرج عن الصف.
ويبتدىء الصف من خلف الإِمام ثم عن يمينه وعن شماله حتى يكمل. وفي المدونة من دخل المسجد وقد قامت الصفوف قام حيث شاء. إن شاء خلف الإِمام أو عن يمينه أو عن يساره. وتعجب مالك ممن قال يمشي حتى يقف حذو الإِمام. وليس هذا الذي تعجب منه مالك رَدًّا لما اخترناه من كون مبدأ الصف خلف الإِمام لأن هذا الذي (4) في المدونة إنما تكلم عن رجل وحده، وقد كملت الصفوف. ونحن أخبرنا بالمختار عندنا في مبدأ الصف الأول. وهل يجوز أن يبتدأ صف قبل إكمال ما قبله؟ ظاهر المذهب على
__________
(1) البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وأحمد. فيض القديرج 4 ص 115 ح 4728.
(2) رواه مسلم من حديث نعمان بن البشير. شرح النووي ج 4 ص 156.
(3) رواه أحمد قال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبل علينا بوجهه قبل أن يكبر فيقول تراصوا وفي رواية أقيموا صفوفكم وتراصوا واعتدلوا فإني أراكم من وراى ظهري. بلوغ الأماني ج 5 ص 309.
(4) هذا الذي قال في المدونة -و-.

(1/702)


قولين: والمختار (1) أن لا يُبْتَدَأَ صف حتى يكمل ما قبله لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أتموا الصف الأول ثم الذي يليه فإن كان نقص فليكن في الآخر" (2). وخرج مسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؛ ثم قال: يتمون الصف الأول ويتراصون" (3). وذكر في المدونة إذا كانت طائفة عن يمين الإِمام أو حذوه في الصف الثاني أو الأول، فلا بأس أن تقف طائفة عن يسار الإِمام في الصف ولا تلصق بالطائفة التي عن يمينه. قال ابن حبيب وهو كصف يبنى عليه.
والذي ذكرناه أنه المختار من إكمال الصف قبل الشروع فيما يليه، لورود الحديث بإتمامه والتراصص فيه. مع قول ابن مسعود كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يمسح مناكبنا في الصلاة ويقول: "استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم ليليني منكم أولوا الأحلام والنهى" (4). يشير إلى النهي عن هذا الذي أجازه في المدونة.
وأما الصلاة بين الأساطين فإن كان لضرورة من ضيق المسجد فإنه جائز عندنا وما في عن ابن مسعود من كراهة الصلاة بين السواري محمله على كون المسجد متسعًا. وقد كره مالك تقطيع الصفوف. والشأن في الصلاة سد فرج الصفوف. وإذا رأى المأموم فرجة فليتقدم إليها ليسدها وإن خرق إليها الصفوف خرقًا لا يضر. وما أجزناه من اتصال الصفوف بالعمل (5) غير مناقض لهذا الذي قلناه من النهي عن تقطيع الصفوف. وقد رأى أبو إسحاق ما حكيناه عن المدونة من إجازة قيام طائفة غير متصلة بطائفة أخرى، يشير إلى إجازة تقطيع الصفوف ولا يؤمر المصلي بسد فرجة في الصف.
وأما الصلاة بين الأساطن لغير ضرورة فظاهر المدونة كراهته لتقييده الإجازة بالضرورة. وفي المبسوط إجازته اختيارًا. وقال في الصف بين السواري لم يزل ذلك
__________
(1) والاختيار -و-.
(2) أخرجه أحمد عن أنس وأبو داود والنسائي والبيهقي سنده جيد: بلوغ الأماني ج 5 ص 316.
(3) إكمال الإكمال ج 2 ص 182.
(4) رواه مسلم من حديث أبي مسعود. شرح النووي ج 4 ص 154.
(5) بالعمد -ق-.

(1/703)


يعمل به عندنا ولم أسمع أحدًا أنكره ولا كرهه. وقد احتج لكراهته بأنه خارج عن التراصص والمحاذاة بالمناكب التي وردت في الأحاديث التي ذكرناها.

قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: والجماعة في غير الجمعة مندوب إليها متأكدة (1) الفضيلة. ويستحب للمنفرد إعادة ما عدا المغرب في الجماعة.

قال الشيخ الأمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل خمسة عشر سؤالًا. منها أن يقال:
1 - ما حكم صلاة الجماعة؟.
2 - وما معنى اختلاف الأحاديث في مقدار أجرها؟.
3 - وهل يؤمر بالجماعة من صلى في جماعة؟.
4 - وهل يؤمر بها من صلى وحده؟.
5 - وهل يؤمر بالصلاة منفردًا من صلى في جماعة؟.
6 - ومن الجماعة التي يؤمر بإعادة الصلاة معها؟.
7 - ومن الجماعة التي يمنع من صلى فيها على الإعادة في جماعة؟.
8 - وهل يؤم من صلى في جماعة؟.
9 - وهل تعاد الجماعة في مسجد واحد؟.
10 - وما حكم من أقيمت الجماعة عليه وهو في صلاة؟.
11 - وما الذي يعاد من الصلوات في جماعة؟.
12 - وبأي نية تعاد؟.
13 - وهل يجتزىء بالصلاة المعادة إن بطلت الأولى أو تقضى الثانية إن بطلت؟.
14 - وما حكم من حضر عشاؤه وحضرت الجماعة؟.
15 - وما صفة المشي إليها؟.

الجواب عن السؤال الأول: أن يقال: اختلف الناس في صلاة الجماعة في غير الجمعة. فالظاهر من مذهبنا ومذهب الدهماء من العلماء أنها سنة مؤكدة.
__________
(1) متأكد -الغاني-.

(1/704)


وذهب بعض أصحابنا وبعض أصحاب الشافعي إلى أنها فرض على الكفاية.
وذهب عطاء والأوزاعي وأبو ثور وابن حنبل وداود إلى أنها فرض على الأعيان.
واختلفوا هل هي شرط في صحة الصلاة؟ فقال بعض أهل الظاهر هي شرط في صحة الصلاة. وقال من سواهم ممن ذكرنا ليست بشرط في الصحة.

وسبب هذا الاختلاف اختلاف الظواهر. فلنا على نفي الوجوب، والاعتداد بصلاة المنفرد قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "صلاة الجماعة تفضل صلاة أحدكم وحده بخمسة وعشرين جزءًا" (1). والتفاضل لا يكون إلا بين شيئين اشتركا في معنى وتفاضلا فيه. وهذا يقتضي كون صلاة المنفرد فيها فضل يقصر عن صلاة الجماعة. وإذا ثبت أن فيها فضلًا ثبت إجزاؤها والاعتداد بها. فإن قيل قد يفاضل بين شيئين لا يشتركان في المعنى الذي تفاضلا فيه كما قال تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} (2). ولا مقيل لأهل النار.
وكما ورد في الخبر: كل ذي مال أحق بماله. ولا حق لغير صاحب (3) المال.
قيل لا يصح هذا التأويل في هذا الحديث لتحديد إجزاء الفضل بخمسة وعشرين. ولو كانت صلاة المنفرد لا فضل فيها أصلًا لم يكن ذكر خمسة وعشرين أولى من ذكر أقل منها أو أكثر من العدد. لأن فضل صلاة الجماعة يكون حينئذ منفردًا لا فضل يقابله حتى ينظر في زيادته عليه أو نقصانه عنه. وهذا واضح لا خفاء به. وقال محجن: كنت قد صليت في أهلي. فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا جئت فصل مع الناس وإن كنت قد صليت" (4). ولم يقل إن كانت صلاتك في أهلك منفردًا فاعدها. وأما المخالف فإنه يحتج بظواهر منها
__________
(1) أخرجه مسلم ولفظ: صلاة الجماعة أفضل من صلاة أحدكم وحده بخمسة وعشرين جزءًا. إكمال الإكمال ج 2 ص 320.
(2) سورة الفرقان، الآية: 24.
(3) ذي المال -و-.
(4) رواه مالك والشافعي والنسائي والدارقطني والحاكم والبيهقي. الهداية ج 3 ص 179.

(1/705)


قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من سمع النداء فلم يأت أو قال فلم يجب فلا صلاة له، إلا من عذر" (1). وأجيب عن هذا بأنه يحتمل أن يكون المراد به صلاة الجمعة. أو يكون المراد به غيرها من الصلوات ويكون المعنى لا صلاة كاملة. ويحتج أيضًا بقوله عليه السلام: "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد" (2). وأجيب عن هذا بأنه محمول على تقدير لا صلاة له كاملة. وقد ذكرنا في مواضع من كتابنا حقيقة اختلاف أهل الأصول في مثل هذا النفي. هل يكون مجملًا أو عمومًا في نفي الذات وأوصافها وتخص الذات بدليل أو عموم في نفي أوصافها خاصة التي
ها هنا الإجزاء أو الكمال، أو مترددًا بين الوصفين ها هنا ترددًا متساويًا أو ترددًا مع كون أحدهما أظهر بما يغني عن بسط القول فيه ها هنا.
وقد أجيب عن هذا الحديث أيضًا بأنه لم يصرح فيه بذكر الجماعة؛ لأنه لم يقل إلا في المسجد جماعة. وإذا لم يقل ذلك لم يكن فيه دليل. ويحتج أيضًا بقوله - صلى الله عليه وسلم - لابن أم مكتوم: أتسمع النداء؟ قال: نعم. قال: لا أجد لك رخصة (3). وأجيب عن هذا بأن تقديره لا أجد لك رخصة تنفي عن صلاتك النقص. أو لعله كان في مبدأ الإِسلام وهم محتاجون للتناصر والتكاثر. ويحتج أيضًا بقوله عليه السلام لقد هممت أن آمر بحطب فيحتطب ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها ثم آمر رجلًا يصلي بالناس ثم أخالف إلى رجال فأحرق عليهم بيوتهم. والذي نفس محمَّد بيده لو يعلم أحدهم أنه يجد عظمًا سمينًا أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء (4). قالوا وهذا التوعد لا يكون إلا على ترك فرض.
وأجيب عن هذا بأنه هَمَّ ولم يفعل (5) ما توعد به. والواجب لا يكفي فيه الهم
__________
(1) أخرجه البيهقي بسنده إلى سعيد بن جبير عن ابن عباس موقوفًا وعن أبي موسى الأشعري موصولًاوموقوفُ اوالوقف أصح. سنن البيهقي ج 3 ص 57.
(2) رواه البيهقي عن علي موقوفًا ومرفوعًا وعن أبي هريرة موقوفًا. والأصح الوقف. السنن ج 3 ص 57.
(3) أخرجه مسلم وأحمد وأبو داود وابن ماجة والحاكم والبيهقي. الهداية ج 3 ص 170 - 171.
(4) رواه مالك والبخاري ومسلم وأحمد وأبو داود والنسائي وغيرهم. الهداية ج 3 ص 172.
(5) ولم ينفذ -ق-.

(1/706)


بالعقاب. وهذا ضعيف لأن الندب لا يهم فيه بالعقاب، ولا يخبر عن نفسه بمثل هذا فيه. لكن الجواب عن الحديث بان يقال محمله على المنافقين التاركين الصلاة خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - نفاقًا عليه وزهدًا فيه واعتقادًا لتكذيبه. وهذا كفر يحتمل أن يعاقب فاعله على تكذيبه بأشد من هذا. ودليل هذا أنه وصف هؤلاء الرجال المتخلفين عن الصلاة معه بوصف لا يليق بأحد من أصحابه - صلى الله عليه وسلم - ولا يليق إلا بكافر أو منافق؛ لأنه أشار إلى أن الشيء الحقير الذي لا قدر له آثر عندهم من صلاة العشاء خلفه - صلى الله عليه وسلم -. وهذا مما لا يظن بمسلم أنه يعتقده. مع أن قوله عليه السلام ثم آمر رجلًا يصلي بالناس يشير إلى تخلفه - صلى الله عليه وسلم - عن الجماعة. ولو كانت الجماعة فرضًا على الأعيان لما أخبر أنه يهم بذلك. والمرمتان المذكررتان في هذا الحديث اختلف في تفسيرهما فقال مالك هما السهمان. وقال ابن وضاح هي حديدة كالسماق كانوا يكومون كومًا من تراب ويقومون عنده عن أذرع ويرمونها بها. وقال أبو عبيدة هي اللحم الذي بين ظلفي الشاة. وهذا حرف لا أدري ما هو ولا ما وجهه. ولكن هذا تفسيره. وقد تعلق المخالف أيضًا بآثار رويت عن الصحابة رضي الله عنهم كمثل ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: الجماعة واجبة. واستدل بان الله تعالى يسقطها في الخوف وتلا: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ} (1). وأجيب عن هذا بأن لا دليل في الآية لأنه لم يقل تعالى: أقم لهم الصلاة فيكون أمرًا، قد يتعلق به. وإنما قال فأقمت. وهذا خبر عن أمر يفعله باختياره. وكمثل ما روي عن ابن مسعود أنه قال لو صليتموها في بيوتكم لخالفتم سنة نبيكم. ولو خالفتم سنة نبيكم لضللتم. وأجيب عن هذا بأنه قد صرح بكونها سنة. وهذا الذي قلناه. وأما قوله لضللتم فعلى جهة التغليظ أو محمول على التمالؤ على ترك الجماعة على رأي من قال من أصحابنا أنها من فروض الكفايات لا يسوغ لأهل بلد أن يتمالأوا على تركها كما لا يسوغ لهم التمالؤ على ترك الأذان لأنه إخلال بشعار الإِسلام. وإذا ثبت تأويل جميع ما تعلق به المخالف وسقطت الحجة به، تعلقنا بان الله تعالى أمر بالصلاة أمرًا مطلقًا لم يشترط في ذلك جماعة. فإذا قوبلنا بشيء من أخبار الآحاد، قال
__________
(1) سورة النساء، الآية: 102.

(1/707)


أبو حنيفة: هي زيادة على النص والزيادة على النص نسخ. والنسخ لا يكون بأخبار الآحاد. وقال مالك هي متاولة بدليل قوله: صلاة الجماعة أفضل من صلاة أحدكم وحده (1) الحديث. فإن قيل بل حديثكم متاول بدليل أحاديثنا، ومحمول على أن صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ إذا قطعه عن الجماعة مرض أو عذر. قيل هذا تأويل فيه استكراه وتعسف. ولا يحمل خطاب النبي - صلى الله عليه وسلم - الخارج مخرج التعميم في كل فذ، المقصود به: تحضيض (2) ذوي القدرة على الجماعة وترغيبهم فيها لئلا يزهدوا فيها، على مريض أو من كان في معناه ممن لا يمكنه حضور الجماعة. ولو رغب فيها ما نفع ترغيبه لعجزه عنها. مع أن المرض والعجز نادر شاذ لا يلبق أن يحمل مثل هذا الكلام عليه.

والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: اختلفت الأحاديث الواردة في فضل الجماعة فروى أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "صلاة الجماعة أفضل من صلاة أحدكم وحده بخمسة وعشرين جزءًا" (3). وروى ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة" (4). وروى أبو صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صلاة الرجل في جماعة تضاعف على صلاته في بيته وفي سوقه خمسة وعشرين ضعفُ ا. وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء فخرج إلى مسجد لا يخرجه إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا رفع له بها درجة وحط بها عنه خطيئة. فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه، اللهم صل عليه، اللهم ارحمه فلا يزال أحدكم في صلاة ما انتظر الصلاة" (5). وقد أكثر الناس الأجوبة عن اختلاف
__________
(1) أخرجه البخاري ومسلم ومالك عن أبي هريرة. الهداية ج 3 ص 164 - 165.
(2) تخصيص -ق-.
(3) رواه مسلم عن أبي هريرة. إكمال الإكمال ج 2 ص 320.
(4) رواه مالك والبخاري ومسلم ولفظ مسلم: صلاة الرجل في الجماعة تزيد على صلاته وحده سبعًا وعشرين درجة. إكمال الإكمال ج 2 ص322 والهداية ج 3 ص 164 - 165.
(5) رواه مسلم ولفظه صلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاته في بيته وصلاته في سوقه بضعًا وعشرين درجة. الحديث. إكمال الإكمال ج 2 ص 329.

(1/708)


الرواة في مقدار الفضل فقد ذكر أبو هريرة مع الخمسة والعشرين لفظ الجزء.
وذكر ابن عمر مع السبع والعشرين لفظ الدرجة فيحمل (1) على أن الجزء أكثر من الدرجة بمقدار ما. فإذا قسمت الأجزاء على مقادير الدرج صارت سبعًا وعشرين. وهذا تعسف شديد. وليست الدرجة ولا الجزء تسمية لمقادير محدودة حتى تختلف التسميات لاختلاف المقادير، وإنما المراد ها هنا أن ما حصل في صلاة الفذ من الفضل يضاعف بمثله لمن صلى في جماعة أضعافًا تنتهي إلى عدد ما. وهذا يستحيل معه اختلاف لفظ الدرجة والجزء. وقيل يمكن أن يكون أحد الحديثين أشير به إلى أقوام بأعيانهم، وخوطب به قوم مخصوصون. والآخر خطاب لمن سواهم. فيبنى الحديثان على صنفين كما يبنى العمومان إذا تعارضا. وقيل يمكن أن يبنى الحديثان على نوعين من الصلوات كم ابن ي هؤلاء على نوعين من الناس فيكون التضعيف في بعض الصلوات بخمسة وعشرين (2). وفي بعضها بسبع وعشرين. ويعتضد أصحاب هذا التأويل بما في حديث عثمان أن صلاة العتمة في جماعة تعدل قيام نصف ليلة. وصلاة الصبح في جماعة تعدل قيام ليلة (3). وقيل يبنى الحديثان على حالين فالسبع والعشرون في الجماعة الكثيرة والإمام الفاضل، والتزام شروط الكم الذي حكم الإمامة والصلاة. والخمسة والعشرون فبما قصر عن ذلك. وقيل الخمسة وعشرون فيمن صلى فذًا في المسجد فتفضله الجماعة في المسجد بخمسة وعشرين جزءًا. والسبع والعشرون فيمن صلى وحده في بيته فتفضله الجماعة في وجه المسجد بسبع وعشرين. وإنما اختلف الفضل عند هؤلاء ما بين المسجد والبيت لأن من صلى في البيت لم يكتب له ثواب السعي للمساجد والخطى إليها. وقد نبه في حديث أبي صالح على معنى فضل صلاة الجماعة. وأشار إلى التعليل
__________
(1) فيحتمل -ق-.
(2) خمسًا وعشرين. وفي بعضها سبعًا وعشرين -و-.
(3) أخرجه مالك وأحمد وأبو داود والترمذي ومسلم ولفظ مسلم بسنده إلى عثمان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من صلى العشاء في جماعة فكأنما صلى نصف الليل ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله. إكمال الإكمال ج 2 ص 325. وبلوغ الأماني ج 5 ص 168.

(1/709)


بالخطى إلى المساجد وانتظار الصلاة. ومن صلى في بيته قد أقصر عن درجة من صلى في المسجد فذًا. لعدم خطوه إلى المساجد. فلهذا زاد التضعيف عليه بسبع وعشرين. وعلى هذا قال هؤلا يمكن أن يحمل حديث أبي صالح على أن صلاة الجماعة في المسجد تفضل صلاة الرجل في بيته وسوقه. فإن صلاحها في بيته أو سوقه جماعة فما ذكر من التضعيف ... (1) الصلاة في البيت ما نبه عليه أبو صالح في حديثه جميع هذه التأويلات أشار أصحابنا إلى إمكان حمل الحديثين عليها وعندي أنه قد يستغنى عن ذلك كله إذا قيل بأن حصر هذا الخطاب بعدد لا يدل على نفي ما زاد بل تكون الزيادة لا حكم لها في الخطاب وأن الله تعالى أوحى إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - بأنه يفضل بعدد من الثواب ثم أوحى إليه بأنه زاد فيه إذا كان حديث الخمسة وعشرين سابقًا. وإذا أمكن هذا لم تكن هذه التأويلات مضطرًا إليها ولكن من لم يسلك هذه الطريقة فلا بد أن يركب أحد هذه التأويلات.

والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: مذهبنا أن من صلى في جماعة فلا يعيد في جماعة أخرى خلافًا لأحمد وإسحاق. والظاهر من مذهب الشافعي أنه يصلي في جماعة أخرى. ومن أصحابه من قال: لا يصلي. ودليلنا قول ابن يسار رأيت ابن عمر جالسًا على البلاط والناس يصلون، فقلت: يا أبا عبد الرحمن مالك لا تصلي؟ فقال: إني قد صليت. إني سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا تعاد الصلاة في يوم مرتين (2). وقد استثنى مالك رضي الله عنه الثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد المدينة ومسجد إيليا. ووجه استثنائه لهذه الثلاثة المساجد فضل الصلاة فيها على غيرها فتعاد الصلاة فيها طلبًا للفضل.
كما يعيد الفذ صلاته في جماعة طلبًا للفضل.

والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: من صلى وحده فله أن يعيد في جماعة لقوله - صلى الله عليه وسلم - لمحجن: "إذا جئت فصل مع الناس وإن كنت قد صليت في
__________
(1) كلمة غير واضحة في جميع النسخ.
(2) رواه أبو داود والنسائي. نيل الأوطار ج 3 ص 188 - 189. وسنن النسائي ج 2 ص 114.

(1/710)


أهلك" (1). فإن كان أمره بإعادة الصلاة، وإن كان قد صلاها في أهله جماعة، فأمره بذلك إذا كان قد صلاها في أهله وحده أولى. ولقوله - صلى الله عليه وسلم - لرجلين لم يصليا معه: "إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم" (2).
الحديث. ولأن صلاة الجماعة أفضل فكان لمن صلى فذًا طلب الأفضل. فإذا ثبت أن له أن يعيد فلا تلزمه الإعادة وله أن يخرج من المسجد ما لم تقم الصلاة وهو فيه. وكذلك لو رأى الناس يصلون وهو مار فإنه لا تلزمه إعادة الصلاة معهم.

والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: أما من صلى في جماعة فلا خفاء في أنه لا يعيدها وحده ولا ينتقل عن الأعلى للأدنى. والإعادة إنما يطلب بها الإكمال فلا يطلب هذا الأنقص. لكن بعض أشياخي قال: يلزم على قول مالك: أن من صلى في جماعة له أن يعيد في المساجد الثلاثة، أن يعيد من صلى في جماعة فذا في هذه المساجد طلبًا لزيادة الفضل على صلاته في جماعة (3). وقد قال مالك فيمن أتى المسجد الحرام ومسجد الرسول عليه السلام وقد صلى في أهله وهو يطمع أن يدرك الجماعة في غيره أنه يصليها فيه فذالأولا يخرج للجماعة في غيرها. قال لأن الصلاة فيها فذا أفضل (4) من الجماعة في غيرها وهذا يؤكد ما قلناه. ومحمل الحديث في تفضيل صلاة الجماعة على صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة على تساوي فضل البقاع المصلى فيها. ولو اختلفت البقاع وتساوت الصلاة في الانفراد أو الجماعة لكانت الصلاة في مسجده - صلى الله عليه وسلم - تفضل على غيرها من البقاع بألف صلاة إلا ما استثني في الحديث الوارد بذلك. ولو اختلفت البقاع والصلاة لكانت الصلاة في مسجده عليه السلام جماعة تفضل الصلاة فذا في غيره من البقاع المشار إليها سبع وعشرين ألفُ ا.
__________
(1) رواه مالك في الموطإ وأحمد والنسائي والحاكم وسنده جيد. بلوغ الأماني ج 5. ص 339.
(2) رواه أبو داود والترمذي والنسائي والدارقطني وابن حبان والحاكم. وقال الترمذي حسن صحيح. بلوغ الاماني ج 5 ص 338.
(3) يلزم على قول مالك أن من صلى في جماعة له أن يعيد في المساجد الثلاثة فذًا طلبًا لزيادة الفضل = ق.
(4) أعظم -ق-.

(1/711)


والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: إذا وجد المصلي فذا رجلين سواه أعاد الصلاة معهما لأنه إنما يعيد طلبًا لفضل الجماعة وأقل الجماعة اثنان.
فاما إن وجد رجلًا واحدًا فإنه لا يعيد معه قاله الشيخ أبو الحسن قال الشيخ أبو عمران إلا أن يكون هذا الواحد إمامًا راتبًا فهو كالجماعة. ألا ترى أنه إذا صلى الإِمام الراتب وحده فإنه لا يعيد في جماعة لأنه وحده كالجماعة.

والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: من صلى معه رجل بالغ فإنه لا يعيد الصلاة. فإن كان غير بالغ فاختلف الأشياخ فيه إذا كان الصبي يعقل الصلاة فقال بعضهم لا يمنع ذلك الإعادة لأن صلاة الصبي نافلة، فلا تمنع الإعادة. وإنما يمنعها الاجتماع على الفرض. وقال بعضهم لا يعيد تلك الصلاة في جماعة وكأنه رأى أن الصبي دخل بنية الفرض فلا يضره سقوطه في الباطن عنه. وقد كنا قدمنا إلزام بعض أشياخنا لأبي مصعب على قوله بصحة الائتمام بالصبي في الفرائض أن يجيز صلاة المفترض خلف المتنفل. وذكرنا أن غيره من الأشياخ تردد في هذا الإلزام لأجل ما أشرنا إليه من كون الصبي معتقدًا للفرض.
ولو صلى في بيته مع امرأته أو مع أخته فهل يعيد في جماعة؟ قال الشيخ أبو الحسن اختلف فيه أصحابنا في أيام الشيخ أبي محمَّد، والذي أذهب إليه أنه لا يعيد. لأنه هو والمرأة جماعة. وإلى هذا نحا الشيخ أبو عمران. ولو ائتم رجل بآخر لم يعلم أنه غير متطهر فقد قال أبو إسحاق لا يعيد المأموم في جماعة. واحتج بإمام الجمعة يصلي ناسيًا للطهارة فإن الجمعة تجزي من خلفه وإن كانت الجماعة من شرط الجمعة. فعدم العلم بطهارة الإِمام في مسألتنا لا تمنع من حصول حكم الجماعة. قال وانظر لو كان المأموم هو الذاكر أنه على غير وضوء هل يمنع الإِمام من إعادة الصلاة في جماعة، وهذا الذي تردد فيه أبو إسحاق في المأموم لا يتضح وجه تردده فيه مع إمضائه القول في الإِمام لأن اعتقاد الجماعة قد حصل فيما تردد فيه. وحصل مع هذا الاعتقاد فعل الجماعة ظاهرًا. فوجب أن يمنع من الإعادة في الجماعة كما لو كان الإِمام هو الناسي

(1/712)


لوضوئه. وقد منع في المدونة إمامًا راتبًا صلى وحده لتأخر الناس عنه أن يعيد في جماعة أخرى ولم يحصل له سوى اعتقاد الجمع فكيف بهذا الذي حصل له اعتقاده وفعله.

والجواب عن السؤال الثامن: أن يقال: من صلى وحده فلا يصح أن يؤتم به لأنه لا يدري أيتهما صلاته، فالمؤتم به يقتدي بمن لا يتحقق أنه في فرض يعتد به. قال بعض أشياخي: ولو نوى رفض الأولى لجرى صحة الائتمام به على القولين في صحة الرفض. فمن صححه صحح الائتمام به لبطلان الأولى.
ومن لم يصححه لم يصحح الائتمام به للتردد في فرضه كما قدمنا. ولو نوى بصلاته الثانية النافلة لجرت صلاة من ائتم به على القولين في صحة الائتمام بالصبي. وقد كنا نحن قدمنا الكلام على ائتمام المفترض بالمتنفل. وذكرنا تردد بعض الأشياخ في تخريج ذلك على إمامة الصبي لكون الصبي معتقدًا الفرض. وما قدمناه يغني عن إعادته ها هنا.
فإن أم من صلى وحده فإن صلاة المأموم لا تجزيه. قال سحنون يعيد المأموم وإن خرج الوقت ما لم يطل لاختلاف الصحابة في ذلك. قال ابن حبيب يعيد المؤتمون أفذاذًا لأجل صحة صلاتهم عند آخرين فراعى ابن حبيب خلاف هؤلاء القائلين بصحة الصلاة خلفه. والصلاة إذا صحت لا تعاد في جماعة عندنا. ومن لم يراع خلاف ما ذكرناه فيما تقدم من الذاهبين إلى أن الصلاة ولو صحت جازت إعادتها في جماعة وإن صليت في جماعة. وعندي أنه إنما سلك هذا المسلك لأنا إذا راعينا صحة الصلاة على قول غيرنا ترتيبًا على هذا، منع إعادتها في جماعة على مذهبنا. وإجازة ذلك على مذهب غيرنا. ومراعاة مذهبنا أولى من مراعاة مذهب غيرنا.

والجواب عن السؤال التاسع: أن يقال: مذهبنا أن المسجد إذا كان له إمام راتب فصلى فيه فإنه ينهى عن أن يصلي فيه جماعة بعده، وبه قالت الشافعية.
واشترطت إذا لم يكن المسجد على قارعة الطريق، وكان في المحلة (1). وذكر
__________
(1) المحجة -و-.

(1/713)


ابن مزين عن أصبغ أنه دخل مع أشهب المسجد وقد صلى إمامه. فأمر أصبغ أن يأتم به. وظاهر هذا أنه يجيز الجمع. وحكاه عنه ابن حارث. وأضاف إليه إجازة الجمع. وقال عطاء والحسن والنخعي وقتادة وأحمد وإسحاق بجواز ذلك. وروي ذلك أيضًا عن أنس وابن مسعود. وروي عن أحمد رواية أخرى أنه قال لا يصلي في المسجد الحرام ولا في مسجد المدينة ويصلي فيما سوى ذلك من المساجد. فأما من أجاز ذلك فإنه يتعلق بعموم قوله عليه السلام: "صلاة الجماعة تفضل صلاة أحدكم وحده" (1). الحديث. ونحن إن سلمنا العموم في مثل هذا خصصناه بضرب من الاستدلال: وهو ما ذكره القاضي إسماعيل من أنه يؤدي إلى العداوة والبغضاء وتفرق الكلمة. لأن الإِمام الراتب يقع في نفسه أن المنفردين بجماعة أخرى تأخروا عنه واتخذوا إمامًا لأنفسهم، لاعتقادهم أن الإِمام الراتب ليس بأهل للإمامة، فتقع الشحناء والعداوة بين الأئمة. ويؤدي إلى افتراق الكلمة. وقد علل أيضًا ذلك بتعليل آخر وهو أن في الأذن فيه تطريقًا لأهل البدع لأن يتخذوا لأنفسهم إمامًا يصلون خلفه. وأيضًا فقد كانت الصحابة رضي الله عنهم إذا دخلوا المسجد وقد صلى فيه إمامه صلوا أفذاذًا. وكذلك السفينة عندنا لا يجمع فيها مرتين. لأن ما عللناه في المساجد يوجد مثله في السفن. ولو كان المسجد له إمام راتب في بعض الصلوات خاصة فإنه يمنع الجمع في تلك الصلوات. وأما ما سواها من الصلوات التي ليس فيها إمام راتب فهل يمنع فيها من الجمع إذا تقدمت جماعة أم لا؟ اختلف في ذلك قول مالك. والأظهر (2) على أصلنا في إجازة الجمع في المساجد، التي لا إمام لها راتبًا، الجواز. لأن المتقدمين بالجمع لم يكن لإمامهم حق في المتقدم في تلك الصلاة، فيقدر من أتى بعده، كالمنازع له في حقه. إذا ثبت أن المعنى الذي من أجله وقع المنع مراعاة حقوق الأئمة، فإن ذلك يطرد في كل ما فيه حق لهم. فلو حاول قوم أن يجمعوا قبل الإِمام الراتب لنهوا عن ذلك. لأن فيه من أذي أذى قلب الإِمام ما فيه إذا جمعوا بعده، وكذلك لو استخلف الإِمام الراتب لم
__________
(1) تقدم تخريجه.
(2) الأشهر -ق-.

(1/714)


يكن له أن يجمع بعد من استخلفه. وقال مالك إن صلى المؤذن فلم يأته أحد.
ثم أتى إمام المسجد والناس. فإن كان المؤذن ممن يؤمهم إذا غاب إمامهم فهو كالإمام صلاته وحده كصلاة (1) جماعة لا يجوز لهم أن يجمعوا بعده تلك الصلاة. وإن كان ممن لا يصلي إذا غاب الإِمام فهو كرجل من الناس. ويحمل هذا الذي قاله مالك على أن المؤذن صلى في وقت لا يؤمر فيه بانتظار الإِمام.
وأما لو صلى في وقت صلاة الإِمام المعتاد أو بعد ذلك بيسير لكان من حق الإِمام أن يعيد تلك الصلاة لأن من أم قبله كالمتعدي في الإمامة لمسابقة الإِمام في الإمامة. وإنما يكون للناس إسقاط حق الإِمام إذا طال تأخره حتى أضر بهم، فإنهم يكون لهم حينذٍ أن يقدموا من يصلي بهم. وعلى طرد التعليل الذي قلناه يمنع الفذ أن يصلي والإمام يصلي، سواء أحب الفذ أن يصلي فرضًا أو نفلًا.
ويمنع أيضًا أن يجلس والإمام يصلي وأن يخرج بعد أن تقام الصلاة.
وقد قال في المدونة فيمن صلى في جماعة فليخرج من المسجد إذا أقيمت تلك الصلاة. فمنع الجمع قبله أو بعده ومنع الصلاة في حين صلاته أو الجلوس في حال صلاته تأخرًا عن الصلاة معه أو الخروج بعد إقامة الصلاة، كل ذلك معلل بما قلناه من إيذاء قلب الإِمام. ولو تعمد الفذ التأخير عن الإِمام فيأتي المسجد ويصلي وحده لمنع من ذلك لما فيه من إيذاء الإِمام. وإنما يجوز للفذ أن يتقدم بالصلاة أو يتأخر مع عدم القصد لما يؤدي قلب الإِمام.
وصحن المسجد حكمه حكم المسجد في جميع ما قدمناه. وما قدمناه من حديث الأسود فيه إشارة إلى بعض ما في هذا الباب.

والجواب عن السؤال العاشر: أن يقال: من أقيمت عليه الصلاة وهو في صلاة في المسجد فلا تخلو الصلاة التي هو فيها من ثلاثة أحوال (2) أحدها أن تكون هي تلك الصلاة التي أقيمت. والثاني أن تكون صلاة نفل. والثالث أن تكون صلاة فرض آخر.
__________
(1) صلاة -ق-.
(2) أقسام -ق-

(1/715)


فأما إن كانت تلك الصلاة التي أقيمت فلا تخلو من ثلاثة أقسام إما أن تكون إقيمت عليه الصلاة قبل أن يعقد ركعة أو بعد عقدها أو بعد أن عقد ركعتين. فإن أقيمت عليه ولم يعقد ركعة فظاهر المذهب على قولين: أحدهما وهو المشهور أنه يقطع. وذكر أشهب أنه يتم ركعتين ما لم يخف ذوات الركعة مع الإِمام فيقطع. وعن ابن القاسم في كتاب ابن سحنون فيمن أقيمت عليه الصلاة وهو في المغرب لم يعقد ركعة أنه يكمل ركعتق ويسلم. ولم يشترط ألا تفوته الركعة مع الإِمام وهذا إن أخذ على ظاهره كان قولًا ثالثًا.
وإن أقيمت عليه وقد عقد ركعة فلا يخلو: إما أن تكون الصلاة التي هو فيها وأقيمت عليه ما سوى المغرب. أو المغرب فإن كانت ما سوى المغرب فإنه يضيف إليها ثانية. هكذا (1) مطلق الروايات. وحملها بعض الأشياخ على أن ذلك إذا لم يخف ذوات ركعة مع الإِمام. واحتج برواية أشهب عن مالك قال:
قيل لمالك: فإن علم أن الإِمام سيسبقه ببعض صلاته ويدرك بعضها. قال: لا ينبغي له أن يصلي والإمام يصلي إلا أن يفرغ هو قبل أن يرفع الإِمام رأسه من الركعة الأولى.
وإن كانت الصلاة هي المغرب فاختلف قول ابن القاسم. فقال يضيف إليها أخرى كسائر الصلوات. وقال: في المدونة يقطع. ورآها بخلاف غيرها من الصلوات لما كانت المغرب لا تنفل (2) قبلها. فلو أمره بإكمال ركعتين لأمرد بالتنفل قبل المغرب. وأشار بعضهم إلى أنه إنما رآها بخلاف غيرها من الصلوات لأجل أن نية الوتر ينافي نية الشفع. فلو شفع الركعة لفعل ما ينافي نية الوتر التي دخل عليها. وتشفيعه ركعة الظهر لا ينافي ما دخل فيه لأنه على نية الشفع دخل.
وإن أقيمت عليه وقد صلى ركعتين فلا يخلو أيضًا: إما أن يكون سوى المغرب أو المغرب فإن كانت سوى المغرب فإنه يسلم من ركعتين. وإن كانت
__________
(1) وهكذا -و-.
(2) لا يتنفل -ق-.

(1/716)


المغرب فاختلف في ذلك قول ابن القاسم أيضًا. فقال في المجموعة: يسلم من اثنتين كسائر الصلوات وذكر ابن حارث أنها رواية ابن غافق في المدونة. وقال في المشهور من رواية المدونة: يكملها ثلاثًا ويخرج. وأجرى أشهب المغرب مجرى سائر الصلوات فقال إن صلى منها ركعة أضاف إليها ثانية. وإن صلى اثنتين سلم منهما كأحد قولي ابن القاسم.
ولو كان هذا الذي ذكرنا أنه عقد ركعتين لم تقم عليه الصلاة حتى عقد الثالثة فإنه يكمل صلاته بالرابعة بنية الفرض ثم يعيدها مع الإِمام على أن ذلك إلى الله تعالى على ما نذكره في إعادة الفذ. وأشار بعض الشيوخ إلى أن محمل ذلك على أنه لم يخف ذوات ركعة مع الإِمام. وأما لو خاف لقطع بسلام.
واحتج في هذا بما احتج به فيما قبل من رواية أشهب. وفيه نظر عندي. لأن هذا مأمور بالإكمال بنية الفرض وقد يكون عند الله تعالى هو المحسوب فرضه والقطع فيه مع إكماله بنية الفرض لخوف ذوات ركعة مع الإِمام أثقل منه إذا قطع من ركعة مخافة أن تفوته ركعة مع الإِمام. لأن هذا لم يفسد بقطعه فرضًا. بل فرضه قد فسد. وإنما امتنع من إكمال صورة الفعل. وقد يكون إدراك ركعة مع الإِمام أولى من إكمال صورة الفعل بنية النفل.
وسبب الاختلاف فيما اختلف فيه من ذلك: الموازنة بين المنهيات ليعلم أيها أخف فيركب. فقطع العمل أو تغير النية فيه منهي عنه. وصلاتان معًا منهي عنه أيضًا وتحصيل ركعة مع الإِمام مأمور به. فالمواضع التي أمر فيها بالقطع من أمر به رأى أنه أخف من صلاتين معًا. وأخف من فوت ركعة مع الإِمام.
والتمادي إنما أمر به من أمر لأنه رآه أخف من قطع الصلاة والتمادي إلى صورة النفل (1) تخفيفُ القبح القطع فهذا السر الذي دار عليه جميع ما تقدم في مسائل هذا الباب.
وأما إن كانت صلاة نفل ففي المدونة فيمن كان في نافلة ولم يركع حتى أقيمت عليه الصلاة: أنه إن كان ممن يخف عليه الركعتان أن يقرأ فيهما بأم القرآن وحدها ويدرك الإِمام قبل أن يركع فلا يقطع نافلته. فإن قيل لم فرق
__________
(1) الفعل = ق =.

(1/717)


في المدونة بين من كان في فرض أو نافلة فأقيمت عليه الصلاة قبل أن يعقد ركعة فأمره في النافلة بالإكمال على الشرط الذي ذكرتموه وأمره في الفريضة بالقطع؟ قيل فعل ذلك لثلاث علل: إحداها أنه إذا قطع الفريضة عاد إليها.
وإذا قطع النافلة لم يعد إليها. لأنه لم (1) يتعمد قطعها. فعوده إلى العبادة يسهل (2) قطعها عند سبب يقتضيه. وما لم يعد إليه يثقل القطع فيه. والثانية أن الفريضة لو أمرناه بالتمادي لم يتماد لإكمال صورة الفرض؛ لأن ذلك لا يصح.
وإنما يتمادى ليكمل صورة النفل. واقتصاره على صورة النفل بعد أن أحرم على صورة الفرض قطع للفرض (3). فلما كان الفرض لا يخلو من قطع استخف قطعه قبل إكمال صورة النفل. والثالثة أنه لما *أمره بإكمال النفل لم يأمره بتغيير النية التي أحرم عليها وإذا أمره بالتمادي في الفرض إلى صورة النفل* (4) أمره بتغيير نيته واعتقاد نية النفل بعد أن أحرم على نية الفرض. وتغيير النية يثقل فاستخف القطع لأجله.
وأما إن كانت الصلاة التي هو فيها صلاة فرض آخر غير الذي أقيمت عليه كمن كان في الظهر فأقيمت عليه العصر فاختلف في ذلك على ثلاثة أقوال: فأجرى ابن القاسم هذه المسألة مجرى ما لو أقيمت عليه الصلاة بنفسها فقال إن كان ركع ركعه أتم ركعتين إلا أن يخاف ذوات ركعة مع الإِمام فليقطع. ومراعاته ها هنا فوت ركعة الإِمام يؤكد تأويل الذي قدمنا ذكره عن بعض الأشياخ. وقال مالك إن كان يطمع أن يفرغ من صلاته ويدرك الصلاة مع الإِمام فعل. وإلا قطع ودخل مع الإِمام ثم استأنف الصلاتين. وحمل بعض المتأخرين هذه الرواية على أنه إنما أذن له في الإكمال ما لم يخف ذوات ركعة. فإن قيل فما الفرق على هذه الرواية ما بين إقامة صلاة أخرى عليه وبين إقامة تلك الصلاة بعينها؟ قيل: قد قال بعض المتأخرين من أصحابنا: يحتمل أنه يساوي مالك بينهما ويرى إذا
__________
(1) لا -و-.
(2) لعوده إلى العبادة فيسهل -و-.
(3) الفرض.
(4) ما بين النجمين = ساقط - و - ق -.

(1/718)


أقيمت عليه الصلاة التي هو فيها وطمع بإكمالها قبل ركوع الإِمام أكملها وإليه نحا في رواية أشهب. ولا فرق بين أن تقام الصلاة التي هو فيها *أو صلاة أخرى. لأنه إنما أمر بالقطع في الجميع لئلا يقع في صلاتين معًا. وقد يفرق بينهما بأن من أقيمت عليه الصلاة التي هو فيها* (1) إذا قطع وصلى مع الإِمام اعتد بصلاته معه، وحصل له فضل الجماعة. والذي اْقيمت عليه صلاة أخرى إذا قطع لم تحصل له الصلاتان جميعًا. أما الأولى فلإبطاله إياها وأما التي مع الإِمام فلأنه صلاها وعليه صلاة. وإذا أمر بالتمادي والإكمال ثم الصلاة بعد ذلك مع الإِمام حصلت له الصلاتان جميعًا فأمر بالتمادي لأن فيه تحصيل (2) الصلاتين، وفي القطع إبطالهما فحسن القرق بينهما. وقال محمَّد بن عبد الحكم يتم صلاته التي هو فيها ويخففها. فإن أدرك مع الإِمام شيئًا صلى وإن لم يدرك صلى لنفسه. وإن لم يكن دخل في الصلاة خرج من المسجد فأمره بالإكمال لنفسه كما أمره مالك ولكنه لم يشترط ما اشترطه مالك من مراعاة فوت صلاة الإِمام. وإنما لم يشترط ذلك لأنه رأى أن في قطع صلاة الظهر (3) التي هو فيها زيادة في فواتها. ومراعاة ذوات الوقت عنده أولى من مراعاة حق الإِمام.

والجواب عن السؤال الحادي عشر: أن يقال: مذهب مالك رضي الله عنه إعادة الصلوات كلها سوى المغرب هكذا ذكر عنه مطلقًا. وذكر مالك في العتبية أنه لا يعيد أيضًا العشاء إذا أوتر. وقال المغيرة من أصحابه يعيد الصلوات كلها وبه قال الشافعي. وروي عن ابن عمر وابن مسعود وأبي موسى رضي الله عنهم أنه يعيد الصلوات كلها إلا المغرب والصبح. وبه قال النخعي والأوزاعي. وقال الحسن وأبو ثور وابن حنبل وبعض أصحاب الشافعي يعيد الصلوات كلها إلا الصبح والعصر، إلا ابن حنبل قال يصليها مع إمام الحي دون غيره.
وأما أبو حنيفة فاختلفت النقلة عنه فنقل ابن القصار من أصحابنا عنه مثل مذهب الحسن أنه يستثني الصبح والعصر. ونقل غيره من أصحابنا وأصحاب
__________
(1) ما بين النجمين = ساقط -و-.
(2) لأنه فيه يحصل -و-.
(3) الظهر = ساقطة -و-.

(1/719)


الشافعي قصر جواز الإعادة على الظهر والعصر خاصة.
وإذا قلنا بمنع إعادة العشاء إذا أوتر فمتى أعادها أعاد الوتر عند سحنون ولم يعد (1) عند يحيى بن عمر. وإذا قلنا بمنع إعادة المغرب فمتى أعادها اختلف قول مالك فيه. فروي عنه ابن القاسم *أنه يضيف إليها ركعة ليشفع صلاته بها. وروي عنه ابن وهب أنه يعيدها ثانية* (2). ودليلنا علي إعادة الصلوات كلها حديث محجن لما قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا جئت فصل مع الناس وإن كنت قد صليت" (3). ولم يفرق فيه بين سائر الصلوات. وقال الأسود شهدت الصبح مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجته بمسجد الخيف فلما انصرف رأى رجلين لم يصليا معه. فقال: علي بهما. فقال: ما منعكما أن تصليا معنا؟ فقالا قد صلينا في رحالنا. فقال لا تفعلا. إذا صليتما في رحالكما، ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم فإنها لكم نافلة (4). فعم سائر الصلوات وخرج الحديث على سبب وهو صلاة الصبح فصار كالنص على إعادتها وردًا على من منعه. فإن قيل في مقابلة هذا العموم عموم آخر وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تُصَلَّى صلاة واحدة في يوم مرتين". قيل معناه لا تُصَلَّى مرتين على جهة الوجوب بدليل ما قدمناه من حديثنا. وأما المستثنون للصبح والعصر فإنهم يحتجون بقوله - صلى الله عليه وسلم - لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس ولا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس (5).
وجوابهم عن هذا أن المراد ما سوى الصلاة المعادة لأجل الجماعة بدليل حديثنا. وقد ذكرنا أنه خرج على سبب وهو صلاة الصبح.
وأما مالك فإنه إنما استثنى المغرب لأنها وتر صلاة النهار فإذا أعادها
__________
(1) ولم يعده -ق-.
(2) ما بين النجمين -ممحو بالنسخة -و-.
(3) أخرجه النسائي. السنن ج 2 ص 112.
(4) أخرجه أبو داود والترمذي. جامع الأصول ج 5 ص 651.
(5) البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة وأحمد. فيض القدير ج 6 ص 428 ح 9893.

(1/720)


صارت شفعًا. ولأنه لا بد أن تكون إحدى صلاتيه نافلة (1). والتنفل بثلاث لا يجوز. ولا تكون صلاة الوتر حجة على جواز التنفل بالثلاث لأن الوتر صلاة مسنونة فاتبع في عددها ما سن فيها.
وأشار بعض الناس إلى أن ابن عمر إنما أضاف إلى صلاة المغرب صلاة الصبح لأنه رآها صلاة أقرت (2) على الفريضة الأولى. فأشبهت صلاة السفر وكان لا يتنفل في السفر إلا من جوف الليل حرصًا على أن يلتزم رخصة التخفيف. وإعادة الصبح كالإخراج لها عما شرع فيها من بقائها على الأصل.
وأما منع مالك إعادة العشاء إذا أوتر فإنما ذلك عندي لأنه لا يوتر في ليلة واحدة مرتين، ومن شأن العتمة أن يوتر بعدها. فلو كانت إعادتها مشروعة لأعيدت على حسب ما شرعت أولًا، وذلك يقتضي إعادة الوتر وإعادة الوتر لا تجوز.
وأما اختلاف أصحابنا في إعادة الوتر فيحتمل أن يكون مبنيًا على الاختلاف في كيفية نية الإعادة. فمن ذهب إلى الإعادة بنية النفل لم يعد الوتر إذا سلك طريقة من قال: من تنفل بعد وتره فلا يعيد الوتر على ما سنذكره في باب الوتر إن شاء الله تعالى. ومن ذهب إلى الإعادة بنية الفرض أعاد الوتر لأنه لا يدري أي صلاتيه هي الفرض؟ فإذا أمكن أن تكون الثانية هي الفرض ومن شأن الفرض في هذه الصلاة أن يوتر بعده فيؤمر بالإعادة للوتر.
وأما اختلاف قول مالك في إعادة صلاة المغرب ثالثة فإنه إنما أمر به في أحد قوليه لأنه يرى أن منع إعادة المغرب لأجل أنها وتر النهار فإذا صلاها ثانية فقد شفعها فيؤمر بإعادتها ثالثة ليزيل ما أفسد من موضوعهلالا سيما إن قيل إن للوتر مدخلًا في النفل بدليل الوتر في صلاة الليل. وإنما أمر في قوله الثاني أن يشفعها بركعة لأنه كانه يرى أن منع الإعادة لأجل أن النافلة مطلقة لم يشرع فيها وتر. فإذا فعل تدارك ذلك بإشفاعه ما لم يفت لا سيما إن قيل إن نية الشفع لا
__________
(1) إحدى الصلاتين نفلًا -و-.
(2) إشارة إلى حديث عائشة رضي الله عنها.

(1/721)


تنافي نية الوتر على طريقة من رأى ذلك.
والجواب عن السؤال الثاني عشر: أن يقال: اختلفت الرواية عن مالك رضي الله عنه في الصلاة المعادة. فروي عنه أن الأولى فرضه، والثانية نفل.
وروي عنه أن ذلك إلى الله تعالى يجعل أيتهما شاء فرضه. وإليه ذهب ابن عمر رضي الله عنه. وهذا يقتضي أن يصلي الثانية بنية الفرض. هكذا قال بعض أصحابنا البغداديين، يؤمر المعيد أن ينوي بها فرضًا، وروي عن الشعبي والأوزاعي أنهما قالا أنهما فرضاه، فإن أرادا فرضيه بمعنى التردد بينهما فهو كقولنا هذا. واختلف قول الشافعي أيضًا على حسب ما اختلف عليه قول مالك.
وأما أبو حنيفة فذهب إلى أن الثانية نفل. وروي ذلك عن علي رضوان الله عليه
والثوري وأحمد وإسحاق. واختلف عن ابن المسيب وعطاء، فروي عنهما أن
الأمر في ذلك إلى الله تعالى كأحد قولينا. وروي عنهما أن الثانية فرضه. وقال بعض أشياخي: إذا اتفق مالك وأصحابه على جواز إعادة الصبح والعصر اقتضى ذلك أن الأخيرة (1) ليست بنافلة. ولو قيل إنها نافلة للزمهم أن يمنعوا إعادة الصبح والعصر. وأشار بعض الأشياخ أن القولين مبنيان على صحة الرفض. فإن منعناه كانت الأولى فرضه لأنها لا ترفض. وإن جوزناه صح أن يكون فرضه مترددًا. وقد احتج من قال إن الثانية نفل بقوله في الحديث الذي قدمناه قبل هذا فإنها لكم نافلة. وأجيبوا عن هذا بجوابين أحدهما: أن الضمير محتمل على ماذا يعود، على الصلاة الأولى أو الثانية؟ وإن احتمل *أن يكون أراد بقوله: نافلة الصلاة الأولى لم تكن فيه حجة على أن الثانية نفل. والثاني أن النفل -الزيادة- فيحتمل أن يريد أنها* (2) زيادة على الواجب الأول. واحتجوا أيضًا بأن الذمة قد برئت بالصلاة الأولى فإذا تيقنا براءتها فلا وجه إلا جزم القول بان الثانية نفل. وأجيبوا عن هذا بأن تأدية الفرض تقع على وجهين: وجه نقص. ووجه كمال. وإن المكلف إذا أوقعها على وجه النقص كان له إعادتها على صفة الكمال بنية الفرض. فيقبل الله منه أي الصلاتين شاء. وقد يمكن أن يقال إن
__________
(1) الثانية -ق-.
(2) هو في نسخة -و-.

(1/722)


الذمة موقوفة فإن لم يعد تحققنا براءتها. وإفي أعاد كان الأمر إلى الله تعالى.
واحتج من قال بأنه يعيد بنية الفرض أن الإعادة إنما أذن فيها إذا كانت في جماعة، فلو كانت الثانية نفلًا لما شرط في الأذن الجماعة. وأجيب عن هذا أنه إنما شرط ذلك لأن الجماعة سبب هذا النفل، فعلق فعل هذا التنفل عليه. كما علقت السنن بأسبابها. واحتجوا أيضًا بأنها لو كانت نفلًا لم يشترط في الإذن في الإعادة أن يكون صلى الأولى فذالأولجازت الإعادة في جماعة بعد جماعة إلى غير حد. لأن النفل لا يقف على عدد. وهذا أيضًا قد يجاب عنه فيقال سبب هذا النفل الجماعة فإذا حصلت لم يتكرر بتكررها (1) لأن ما في الثاني من الفضل نحوٌ مما في الأول فلا معنى للتكرير.

والجواب عن السؤال الثالث عشر: أن يقال: إذا صلى فذًا ثم أعاد في جماعة فذكر بعد إعادته أن الأولى كانت على غير طهارة فهل يكتفي بصلاته الثانية أم لا؟ في ذلك ثلاثة أقوال: قال ابن القاسم تجزيه الثانية. وقال ابن الماجشون لا تجزيه لأنه صلى الثانية على جهة السنة" على جهة أداء الفريضة (2). ومراد ابن عمر في قوله في الصلاتين هما إلى الله أي في التقبل لا في الاعتداد. وقال أشهب إن كان حين دخوله في الثانية ذاكرًا للأولى فلا تجزيه هذه، وإن لم يكن ذاكرًا أجزأته.
وهكذا اختلف أيضًا إذا صلى مع الإِمام لفضل الجماعة معتقدًا أنه صلى في بيته ثم ذكر أنه لم يصل فقال ابن القاسم تجزيه. وقال أشهب لا تجزيه.
وأما إذا كانت الأولى على طهارة وأحدث في أثناء الثانية فهل عليه قضاؤها أم لا؟ في ذلك أربعة أقوال: روى المصريون عن مالك: ليس عليه أن يعيد الثانية. قال أشهب ولو قصد بصلاته مع الإِمام رفض الأولى لم تلزمه الإعادة. وروي عن مالك أنه يعيدها وبه قال ابن كنانة وسحنون، واختلفا في التعليل. فقال ابن كنانة لأنه لا يدري أيتهما صلاته وقال سحنون لأنها وجبت
__________
(1) والنفل يتكرر بتكررها -و-.
(2) الفرض -و-.

(1/723)


عليه بدخوله فيها. وفائدة اختلافهما في التعليل عندي أن الحدث إذا كان عن
غلبة فمقتضى قول سحنون أن الإعادة لا تلزم. لأنه علل الإعادة بالتزام المعيد
إياها، والنافلة إذا حدث فيها عن غلبة لم يعدها. ومقتضى قول ابن كنانه أنه
يعيد لأنه علل الإعادة بما يشير إلى أن الأولى قد ارتفضت. وإذا جاز رفضها وجاز أن تكون الثانية هي الفرض، فالفرض من أفسده عن غلبة قضاه. وقد أشار ابن مسلمة في المبسوط إلى هذا الذي ظهر لي إشارة عن بعد. فقال يعيد الثانية سواء كان حدثه عن غلبة أو عمد. فتنبيهه عن الغلبة إشارة لما خرجته على التعليل. وقال عبد الملك إن أحدث بعد عقد ركعة أعاد الثانية لأنه أدرك صلاة الإِمام. وإن كان قبل أن يعقد ركعة لم تلزمه إعادتها. وحكى هذا المذهب ابن سحنون عن أبيه. وقال مالك في كتاب ابن سحنون إن كان أراد بصلاته مع الإِمام أن يجعلها فرضه والتي صلى وحده نافلة، أو كان أراد أن يكون الأمر إلى الله تعالى في صلاتيه فليعد الثانية. وسبب هذا الاختلاف في إجزاء الثانية عن الأولى الاختلاف في كيفية النية للثانية. فان كانت الثانية صليت بنية النفل فلا شك أنها لا تجزيء عن الأولى إذ لا تجزئ صلاة نفل عن صلاة فرض.
وإن صليت بنية الفرض أجزأت الثانية عن الأولى، وإن صليت بنية أن الأمر لله سبحانه أجزأت أيضًا، وفيه نظر عندي. لأن النية للثانية وقع فيها تردد فقد لا تنوب عن نية الجزم. وأشار بعض أشياخي إلى أنه لو ذكر الثانية خاصة على غير طهارة اعتد بالأولى إن صلى الثانية بنية التردد. وإن صلاه ابن ية الفرض جرى اعتداده بالأولى على اختلاف في صحة رفضها.
وأما الاختلاف في قضاء الثانية إذا أحدث فيها فإنه يجري أيضًا على اعتبار كيفية النية للثانية، هل نوى بها النافلة أو الفرض، فإن نوى النفل فإنه يلزمه لدخوله فيه على ما أشرنا إليه. وإن نوى الفرض نظر هل ارتفضت الأولى به أم لا، فإن ارتفضت فلا شك في الإعادة لأنه لم تحصل له الأولى ولا الثانية. وإن لم ترتفض الأولى نظر هل تجري الصلاة الثانية مجرى الواجب الأصلي فتقضى وإن أحدث فيها عن غلبة أم لا؟ على هذا يدور الخلاف المتقدم، سوى القول الذي فرق فيه بين أن يعقد ركعة أو لا يعقدها، فإنه لا وجه له سوى ما أشار إليه

(1/724)


من التعليل من أنه إنما يدرك صلاة الجماعة بعقد ركعة مع الإِمام. فكانه يرى أنه إنما التزم وقصد فضل الجماعة فلا تلزمه الصلاة إلا بالدخول في ذلك والدخول في ذلك لا يكون إلا بعقد ركعة وهو توجيه ليس بالواضح. وقد وقع في أحد هذه الأقوال الأربعة قول مالك إن كان أراد بصلاته مع الإِمام أن يجعلها فرضه والتي صلى وحده نافلة، أو أراد أن يكون الأمر إلى الله. وهذا إشارة منه إلى صحة كون النية جازمة. وصحة كونها مترددة على ما كنا أشرنا إليه. وهكذا قول مالك في المبسوط فيمن صلى في بيته ثم أتى المسجد فوجد الإِمام جالسًا آخر صلاته فكبر وجلس معه، أنه إن كانت نيته حين دخل مع الإِمام، أن يجعلها فرضًا (1) وصلاته في بيته نافلة، فعليه أن يتمها وقد أجزت عنه صلاته في بيته.
فأشار ها هنا إلى صحة الدخول بنية الفرض الجازم وجعل عليه الإتمام لأجل الالتزام وإن كان لم يعقد ركعة مع الإِمام.

والجواب عن السؤال الرابع عشر: أن يقال: إذا حضر العِشاء والعَشاء فقال ابن حبيب إنما يؤمر بتقدمة الطعام إن كان جائعًا قد اشتهاه حتى يشغله ذلك عن الصلاة. ونحوه قالت الشافعية يبدأ بالصلاة أيضًا إن كانت نفسه لا شوق إلى الطعام، فإن كانت تتوق إليه أكل منه ما يسكن نفسه. وقال الثوري وأحمد وإسحاق يبدأ بالطعام بكل حال، وروي ذلك عن عمر وابنه رضي الله عنهما، وقال بذلك داود. ورأي: أنه إن بدأ بالصلاة بطلت صلاته. وقد تعلق من قال يبدأ بالطعام بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وإذا حضر العشاء وأقيمت الصلاة فابدأوا بالعشاء" (2).
ورأى داود إن مخالفة هذا وركوب النهي في تقدمة الصلاة يفسدها: فحمل ابن حبيب والشافعية على كون النفس تتوق إلى الطعام لأن ذلك يمنع من استيفاء الصلاة والقيام بسائر حقوقها كما نهي الحاقن عن الصلاة لاستعجال الحقنة له عن استيفاء حقوق الصلاة.
والجواب عن السؤال الخامس عشر: أن يقال: أجاز مالك الإسراع في
__________
(1) ظهرًا -و-.
(2) رواه البخاري ومسلم ولفظ مسلم عن أنس إذا حضر العشاء وأقيمت الصلاة فابدأوا بالعَشاء. إكمال الإكمال ج 2 ص254و 290.

(1/725)


المشي إلى الصلاة إذا أقيمت ما لم يسع (1) أو يحث وكره الإسراع الذي يبتهر فيه، وسئل عمن خرج إلى الحرمين فسمع مؤذن المغرب في الحرس فحرك فرسه ليدرك الصلاة فقال لا بأس به، وقالت الشافعية المستحب أن يمشي على سجية نفسه وعليه السكينة، وإن خاف فوت الجماعة. وروي ذلك عن زيد بن ثابت وأنس بن مالك وأبي ذر. وروي عن ابن عمر أنه أسرع المشي إلى المسجد لما سمع الإقامة، وعن ابن مسعود أنه اشتد إلى الصلاة وقال: أبادر حد الصلاة: يعني التكبيرة الأولى، وكان الأسود بن يزيد يهرول إذا ذهب إلى الصلاة. والدليل على النهي عن السعي المنافي للخشوع والسكينة قوله عليه السلام: إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون ولكن ائتوها وأنتم تمشون وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا (2). ولأن السعي الشديد يتعبه فيبقى أثره في الصلاة فيمنعه من الخشوع واستيفاء حقوق الصلاة. فصل قضاء الفوائت قال القاض أبو محمَّد رحمه الله: والترتيب في الفوائت واجب بالذكر في الخمس فدون. وهي أولى عند ضيق الوقت من الحاضرة ويقضيها على صفة أدائها.

قال الشيخ الأمام رحمه الله: يتعلق بهذا الفصل اثنا عشر سؤالًا. منها أن يقال:
1 - ما الدليل على وجوب القضاء على الجملة؟.
2 - وهل يقضي الساهي ما كثر من الصلوات؟.
3 - وهل يقضي العامد ما ترك من الصلوات؟.
4 - وهل يجب ترتيب الفوائت (3).
__________
(1) يسرع -ق-.
(2) عن أبي هريرة إذا نودي للصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون وأتوها وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا. الموطإ ص 66. وسنن البيهقي ج 2 ص 221.
(3) بعضها على بعض -و-ق.

(1/726)


5 - وهل يجب ترتيبُ الفوائت مع الحاضرة في سعة الوقت؟.
6 - وهل يجب في ضيق الوقت؟.
7 - وإذا وجب ترتيب القليل فما حده؟.
8 - وهل يجب (1) الترتيب بعد فعل الحاضرة؟.
9 - وما حكم من ذكر صلاة في صلاة (2)؟.
10 - وهل تقضى الفوائت بعد الصبح وبعد العصر؟.
11 - وما الدليل على أنها تقضى على حسب الأداء؟.
12 - وما حكم الشك في ترتيب المتروكات.

الجواب عن السؤال الأول: أن يقال: اختلف أهل الأصول في العبادة المؤقتة بوقت هل يجب قضاؤها بالأمر المقيد بالوقت أو إنما يجب القضاء بأمر ثان؛ فإن قلنا يجب القضاء بالأمر الأول لم يفتقر إلى دليل يوجب القضاء. وإن قلنا إنما يجب القضاء بأمر مجدد وهو الأصح لم نوجب القضاء على الحائض والمجنون لفقد الأمر بذلك. على أنه قد قام الدليل على سقوطه عنهما.
وأوجبنا القضاء على الناسي والمتعمد والنائم لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها" (3). فهذا أمر بالقضاء بعد ذوات الوقت؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - أورده لما نام عن الصلاة حتى خرج وقتها. وقد تقرر الإجماع على وجوب القضاء على الجملة وإنما اختلف في تفاصيله.

والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: اتفق العلماء بأسرهم إلا من شذ على أنه تقضى المنسيات وإن زادت على الخمس صلوات، والدليل عليه الحديث المشهور أنه - صلى الله عليه وسلم - لما عرّس ليلة بطريق مكة ووكل بلالًا أن يوقظهم للصلاة فرقد بلال ورقدوا حتى استيقظوا وقد طلعت عليهم الشمس (4)
__________
(1) يجب = ساقطة -و-.
(2) وهو في صلاة -ق-.
(3) مسلم. إكمال الإكمال ج 2 ص 344.
(4) رواه مالك مرسلًا في الموطأ ص 33 - 35. رواه البخاري ومسلم. نصب الراية ج 2 ص 163. والإكمال ج 2 ص 344.

(1/727)


فاستيقظ القوم وقد فزعوا، فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يركبوا حتى يخرجوا من ذلك الوادي وقال: إن هذا واد به شيطان. الحديث. إلى قوله فإذا رقد أحدكم عن الصلاة أو نسيها ثم فزع إليها فليصلها كما كان يصليها في وقتها. وفي بعض طرقه من نسي الصلاة فليصلها إذا ذكرها فإن الله تعالى يقول: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي}. فقوله من نسي الصلاة أو إذا رقد أحدكم عن الصلاة فعم الصلوات وإن كانت أكثر من خمس عند من قال بالعموم في مثل هذا. وقد وقع في بعض الطرق: لا كفارة لها إلا ذلك. فأشار إلى كون القضاء مكفرًا وهذا يستوي فيه القليل من الصلوات والكثير. فإن قيل أنتم توجبون القضاء على الفور ولا تبيحون التأخير في قضاء الصلاة، بخلاف الصوم إلا أن تكثر كثرة يشق قضاؤها على الفور متوالية فيباح التأخير بقدر زوال المشقة. والشعبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المذكور أخر الصلاة عن وقت الذكر وأمرهم بالاقتداء (1) فقد صار الحديث متروك الظاهر عندكم. فأجاب الناس عن هذا التأخير بأجوبة منها: إن ابن وهب وابن دينار قالا: إن التأخير منسوخ. وهذا وإن قال بالنسخ في التأخير خاصة فلا يلزمهما على هذا أن يجعلا الأمر بالصلاة منسوخًا. ولكن لا بد من بيان الناسخ حتى ينظر فيه. فقال ابن دينار هو قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} (2). وقوله من نام عن صلاة. الحديث. وهذا الذي قاله غير صحيح. أما الآية فلا يصح أن تكون ناسخة لأنها مكية وهذه القصة كانت بعد الهجرة إلى المدينة بأعوام.
فالآية متقدمة على القصة ولا يتقدم الناسخ على المنسوخ لأن الحقيقة نسخ الأول بالآخر لا نسخ الآخر بالأول. وأما الحديث فلم تدع ضرورة إلى جعله ناسخًا لأن النسخ إنما يكون مع التنافي الذي لا يمكن أن يحمل قوله من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها على ما إذا ذكرها في كل مكان سوى هذا الوادي. وإذا أمكن ذلك لم يمكن القطع على النسخ على أنه - صلى الله عليه وسلم - لما قال: هذا الذي قال تلا الآية عقيب قوله. وأجرى تلاوتها (3) مجرى التعليل لِمَا قال.
__________
(1) هكذا في جميع النسخ.
(2) سورة طه، الآية: 14.
(3) الآية -و-.

(1/728)


وصار هذا كالإشارة إلى أخذه الحكم من الآية، وإذا صار الحكم مأخوذًا من الآية لم تكن الآية ناسخة لما قدمناه من كونها سابقة للقصة. ومن أصحابنا من أجاب عن ذلك بجواب آخر فقال: إنما أخر الصلاة ليكمل اجتماع الناس إليه لكون الرحيل سببًا ليقظة جميعهم وانتباههم وهذا ضعيف. لأن من لم ينتبه لا لوم عليه في التأخير ومن انتبه لا يسوغ له التأخير. فكيف يقدر فعل ما لا يسوغ في أصل الشرع طلبًا لتحصيل فعل من مكلف آخر لا لوم عليه إن لم يفعل؟ ولو استيقظ أحدهم عند طلوع الشمس ولم يصل الصبح فقد لا يسوغ له أن يشتغل بتنبيه آخر ليصلي معه تشاغلًا تفوته معه الصلاة إذا كان معه جماعة (1) سواه.
وإن كان ابن القصار قد أجاز لمن فاتته الصلاة أن ينتظر آخر حتى يتوضأ ويصليا جماعة (2). وفيما قاله من جواز الانتظار مجال للنظر. والشعبي - صلى الله عليه وسلم -، الظاهر أنه استيقظ معه جماعة، ففضل الجماعة حاصل. وقد ذكر مالك أنه لم يبلغه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ركع حيئذٍ للفجر. وقال لا يركع النائم حتى يبدو حاجب الشمس للفجر، وإن كانت ركعتا الفجرُ من سنن هذه الصلاة. فأنت ترى مالكًا كيف نهى عن ركوعهما خوفًا من زيادة الفوات. وإن كان قد قال أشهب بلغني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ركع. قال ابن زياد: وقاله غير مالك. وهو أحب إليّ أن يركع. وقد قال سحنون فيمن ذكر صلاة منسية بعد أن ركع الفجر: أنه يعيد ركعتي الفجر إذا صلى المنسية. كما يعيد الصبح إذا صلاها. فأعطى ركعتي الفجر حكم صلاة الصبح في الأمر بالترتيب لما كانت متعلقة بها، وكأنها جزء من أجزائها. وقد يكون في هذا إشارة إلى ما اختار ابن زياد. ومن أصحابنا من أجاب عن هذا التأخير بأنه إنما كان لكون الوادي به الشيطان. وهذا هو الحق ولا معنى للنظر في معنى آخر سواه. ومتى سلم أن قوله - صلى الله عليه وسلم - إن هذا الوادي به شيطان، خرج مخرج التعليل للتأخير، لم يحسن للفقيه أن يشتغل بالنظر في تعليل آخر إلا أن ينظر في علة أخرى تكون مؤكدة لما علل به النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو يقصد به رد الأصول
__________
(1) جماعة - ساقطة -و-.
(2) جميعًا -ق-.

(1/729)


بعضها لبعض. وقد ذهب أبو حنيفة إلى تعليل التأخير بمعنى آخر فقال إنما كان ذلك كذلك لأنه استيقظ حين طلوع الشمس وذلك الزمن لا يصلح فيه قضاء الفوائت. وهذا الذي قاله فاسد من ثلاثة أوجه: أحدها على مقتضى أصلنا فإنا نخالفه في منعه قضاء الفوائت عند طلوع الشمس ونجيز قضاءها في كل وقت.
والثاني على مقتضى أصله لأنه وإن منع قضاء الفوائت في هذا الوقت فهو يجيز صلاة صبح يومه في هذا الوقت وهو - صلى الله عليه وسلم - إنما صلى يوم الوادي صبح يومه.
هكذا حكى بعض أصحابنا عن مذهبه. ومذهبه خلاف ما قال. وسنتكلم عليه في قضاء الفوائت. والثالث على مقتضى *الحديث، ومقتضى الحديث يرد عليه من وجهين لفظًا ومعنى* (1) فأما اللفظ فقوله - لم يستيقظوا حتى ضربتهم الشمس وفي بعض طرقه فما استيقظنا حتى أيقظنا حر الشمس. وهذا لا يكون إلا بعد ارتفاع الشمس وتمكنها في الطلوع. وأما المعنى فإنه علل يكون الوادي به شيطان ولم يعلل يكون الشمس طالعة. فالعدول عن تعليله - صلى الله عليه وسلم - لا يصح على حسب ما بيناه. فإن قيل فلو علمنا ذلك الوادي، هل تجوز فيه الصلاة أم لا؟ قيل تعليل النبي - صلى الله عليه وسلم - ينقسم إلى قسمين: تعليل يعلم وجوده حساُ وتعليل لا يعلم وجوده إلا من جهته - صلى الله عليه وسلم -. فما كان يعلم حسًا أو في معنى الحس لزم طرده والجري معه حيث جرى. وما كان غيبًا لا يعلم إلا بوحي كتعليله ترك الصلاة على قتلى أحد بالحالة التي يبعثون عليها. وترك تخمير رأس المحرم بالحالة التي يبعث عليها. وتعليله ترك الصلاة في هذا الوادي بان به شيطانًا على ما أشار إليه في الحديث لا يلزم طرده إلا حيث تتحقق العلة. وتحقق العلة موقوف على الوحي بالغيب. وهذا الوادي وإن علم السامعون منه - صلى الله عليه وسلم - حينئذٍ قطع أن به شيطانًا وظنناه نحن ظنًا إن لم يتواتر الخبر عندنا. فإنا نجوز أن يكون الشيطان ذهب منه الآن. فهل يكون هذا التجويز يحيى الصلاة فيه أم لا؟ ذهب الداودي إلى أنه لا يبيحه (2) وأشار بعض المتأخرين إلى أنه يمكن القول بالإباحة لأجل هذا التجويز. والأصل القضاء على الفور فلا يزال عنه بالشك.
فإن قيل فما معنى تلاوته - صلى الله عليه وسلم - لقوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} وإشارته إلى
__________
(1) ما بين النجمين ممحو في نسخة -و-.
(2) لا يحيى الصلاة فيه.

(1/730)


أخذ الحكم من الآية. والآية خطاب لموسى - صلى الله عليه وسلم -. وهو غير مخاطب بأن يخاطبنا بشريعة من قبله. قيل هذا مما اختلف فيه أهل الأصول. فمن قال إنا مخاطبون بشريعة من كان قبلنا فلا يلزمه على هذا جواب. ومن قال لسنا مخاطبين بها كان جوابه أن يقول أوحي إليه - صلى الله عليه وسلم - أن يعمل بهذه الآية. فلم يعمل بها بمجرد كونها خطابًا لموسى عليه السلام بل للوحي إليه أن يعمل بها. وتلاوته - صلى الله عليه وسلم - لهذه الآية عند هذه القصة يشهد بصحة قول بعض المفسرين لها القائلين إن معناها أقمها حين تذكرها. والمراد بالذكر ذكر الصلاة. وإن كان قد قال غير هؤلاء المفسرين فيها أقوالًا أُخر. منهم من قال معنى لذكري أي لأذكرك بالمدح. وقيل معناه لتذكرني فيها، وقيل معناه إذا ذكرتني. وقد قرئ في الشاذ للذكر قيل معناه لتذكرني فيها.
وقرىء لذكرَى أبدلوا من الياء ألفا كما قالوا يا غلامًا وقرىء للذكرى.

والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: اتفق جماعة الفقهاء على أن المتعمد لترك الصلاة، عليه قضاؤها. خلافًا لداود وأبي عبد الرحمن الشافعي وكأنهما رأيا أن قوله - صلى الله عليه وسلم - من نام عن صلاة أو نسيها يقتضي دليل الخطاب فيه أن العامد ليس عليه أن يصليها. ورأى جمهور الفقهاء أن في ذكر النائم والناسي تنبيهًا على العامد؛ لأن النائم والناسي لا إثم عليهما ولا لوم في ترك الصلاة.
والعامد مأثوم ملوم فهو أحق بالتكفير من الناسي. لأنه المذنب حقًا، والنائم لا ذنب له. على أنه قد قيل: إنه يمكن أن يحمل قوله عليه السلام أو نسيها على التارك لها محمدًا؛ لأن الناسي يسمى تاركًا. فيكون الحديث انتظم القسمين، ذكر فيه النائم، وفي ذكره تنبيه على الناسي. وعبر على التارك محمدًا بالناسي.
وقد اختلف عندنا في الحربي إذا أسلم ببلد الحرب وترك الصلاة جهلًا بوجوبها هل تلزمه إذا علم بوجوب القضاء لأنه مُخاطَبٌ تَرَك الصلاة محمدًا، أو لا يلزمه لأنه بموضع لا يمكنه تعلم الشريعة فيه فصار كالمغلوب على الترك بإغماء أو غيره؟ فقال سحنون عليه القضاء. وقال محمَّد بن عبد الحكم لا قضاء عليه. وهذا كله إنما يحتاج إليه إذا قيل إن قضاء ما فات يفتقر لأمر ثان. وأما إذا قيل يلزم قضاؤه بالأمر الأول كان الاقتصار على مجرد الأمر بالصلاة كافيًا في إيجاب القضاء على العامد والناسي.

(1/731)


والجواب عن السؤاله الرابع: أن يقال: أما الفوائت فيجب ترتيب بعضها على بعض مع الذكر لجميعها. فمن نسي صبح يوم وظهره وذكر ذلك فإنه يصلي الصبح ثم الظهر. ولا يجوز له أن يصلي الظهر قبل الصبح. ولما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما ترك من الصلوات التي حبسه المشركون عن فعلها بدأ بالأول فالأول (1). فصلى الظهر ثم العصر ثم المغرب ثم العشاء. وهذا يدل على صحة ما قلناه من وجوب ترتيب الفوائت.

والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: إذا فاتت إنسانًالأصلواتٌ وأمكنه قضاؤها وإيقاع الصلاة الحاضرة قبل تصرم وقتها كان الحكم البداية بالفوائت لما قدمناه من وجوب الترتيب. ولكن متى هذا الوقت الذي إذا أمكن فعل الحاضرة فيه وجب أن تقدم الفوائت؟ فيه قولان: أحدهما، أنه الوقت المختار قاله أشهب وابن حبيب. وقد روي عن مالك أنه يؤخر الظهر والعصر لأجل الفوائت إلى اصفرار الشمس. وهذه الرواية تحتمل عندي أن تكون جنوحًا منه إلى أن الوقت المختار يمتد في الظهر إلى الاصفرار. والثاني أن المراعى في ذلك وقت الاضطرار. وروى أشهب (2) عن مالك أيضًا أن المراعى في ذلك إلى غروب الشمس، فمتى أدرك فعل الحاضرة قبل الغروب اشتغل بالمنسيات وإن كان متى اشتغل بالمنسيات فاته الوقت الذي أشرنا إليه. فإن كانت المنسيات قليلة فسيرد حكمها. وإن كانت كثيرة فاختلف في ذلك على ثلاثة أقوال: أحدها أنه يبدأ بالمنسيات إلا أن يخشى ذوات الحاضرةَ فيصليها ثم يعود لقضاء ما بقي عليه، وهو مذهب محمَّد بن عبد الحكم. والثاني أنه يبدأ بالمنسيات، وإن خرج وقت الحاضرة إذا كان يصلي جميعها من غير تأخير
لبعضها عن بعض. وهو مذهب محمَّد بن مسلمة. والثالث مذهب ابن حبيب
__________
(1) من حديث ابن مسعود أخرجه الترمذي والنسائي وأخرجه أبو يعلى والبيهقي عن يبيح بن أبي أنيسة. ورواه النسائي عن أبي سعيد الخدري وفي الأسانيد المذكورة مقال. نصب الراية ج 2 ص 164 - 166. والنص الذي أثبته الإِمام الماصري مروي بالمعنى.
(2) أشهب = ساقطة - و- ق -.

(1/732)


وهو جواز البداية بالحاضرة لأنه قال: إن كان أخر الظهر إلى وقت يجوز لغيره تأخيرها إليه أتى بما ذكر. وبدأ به (1) وإن كثر. وإن كان إن بدأ به خرج الوقت، بدأ بالظهر إلا أن تكون المنسيات خمس صلوات فأقل. وأما الاختلاف في تحديد الوقت الذي بإدراكه يجب تقديم المنسيات، فسببه الاضطراب فيما بين الاصفرار إلى الغروب. هل يقع التاثيم بتأخير صلاة الظهر والعصر إليه أم لا؟ فمن أثم لم يبلغ بالتحديد إليه. لأن تأخير الحاضرة إليه يصير في معنى تأخيرها إلى بعد الغروب. ومن لم يؤثم بالتاخير إليه أباح تأخير الحاضرة إليه لعدم الإثم. وقد أشار ابن حبيب إلى هذا بقوله فيما حكيناه عنه إذا أخر الظهر إلى وقت يجوز لغيره تأخيرها إليه. فأشار إلى جواز التأخير. وقد حكينا (2) عنه وعن أشهب أنهما يراعيان الوقت المختار، فإن وسعا فيه إلى الاصفرار في الظهر فهو مبني على ما قلناه. لان لم يوسعا في الظهر إلا إلى القامة فهذا لا وجه له، إلا أن ينظر في تأخير الظهر عن القامة هل هو مما يجوز أم لا، وهذا مضى مستقصى في الكلام في الأوقات. أو يسلك في ذلك مسلك من رأى أن الترتيب مستحب وليس بواجب أصلًا على ما سنذكره، ويعتقد أن استحباب (3) فعل الصلاة في الوقت المختار آكد من استحباب الترتيب. وأما الاختلاف فيها إذا كثرت كثرة لا يمكن الإتيان بجميعها إلا بفوات الحاضرة فإن ابن عبد الحكم رأى أن قضاء المنسيات على الفور. فما دام وقت الحاضرة واسعًا فلا رافع لهذا الوجوب. فإذا ضاق وقت الحاضرة ارتفع الوجوب بوجوب آكد منه عنده. فإذا ارتفع هذا المانع بفعل الحاضرة عاد الوجوب على ما كان عليه أول مرة. وإن ابن مسلمة رأى أن المنسيات، إذا وفي بجميعها دفعة واحدة قدمت ولو فاتت الحاضرة لوجوب الترتيب، وتقدمة الأسبق. وإذا كان لا يوفي بجميعها دفعة واحدة فلا فائدة في تأخير الحاضرة عن وقتها؛ لأنه إذا لم يقدم جميع المنسيات فلا بد أن يصلي الحاضرة. فترك صلاتها من غير شغل بالقضاء لا يصح كما لا
__________
(1) بداية -ق-.
(2) حكي -و-.
(3) أن استحبابه -و-.

(1/733)


يصح تعمد تركها لمن لا صلاة عليه. وإن ابن حبيب على ظاهر كلامه، لما رأى أنه لا بد من فعل الحاضرة وعليه بقية من الصلوات المنسيات، أجاز البداية بالحاضرة في سعة الوقت، إذ لا يمكن إيقاع الحاضرة ولا صلاة عليه. وإذا لم يمكن إيقاعها ولا صلاة عليه فلا فرق بين كثرة الصلاة وقلتها إذا خرجت عن العدد الخمس الذي يقدم على الحاضرة.

والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: أما المنسيات إذا كثرت فقد فرغنا الآن من حكمها وذكرنا الواجب على القول بمراعاة الترتيب. ويتضح مذهب من لا يوجب الترتيب عند ذكرنا مذاهبهم في هذا السؤال. وأما المنسيات إذا قلت فاختلف في المقدم عند ضيق الوقت هل تقدم الصلاة الحاضرة أو المنسية؟ على ثلاثة أقوال: فالمشهور عندنا تقديم المنسية. وقال ابن وهب تقدم الحاضرة وخير أشهب بينهما. وهذا الاختلاف مبني على وجوب الترتيب أو استحبابه. فالشافعي يراه مستحبًا. فمن صلى الحاضرة عنده وعليه صلاة أجزأته صلاته. ولكنه خالف الاختيار إذا كان وقت الحاضرة واسعًا. فإن ضاق فالاختيار تقديم الحاضرة. وعندنا أن الترتيب واجب فمن صلى الحاضرة وعليه صلاة خالف الواجب. ويختلف عندنا في اعتداده بما صلى وهو ذاكر لصلاة عليه. فإن قلنا أن الترتيب واجب وهو شرط في صحة الصلاة لم يعتد بما صلاه. وإن قلنا أنه واجب وليس بشرط في صحة الصلاة. أو قلنا بما حكيناه عن المخالف أنه مستحب اعتد بالصلاة التي صلى. والتخريج على هذا الأصل مطرد في ضيق الوقت وسعته. لكن المصلي الحاضرة في ضيق وقتها وعليه صلاة ذاكر لها فيه إشكال عندي: هل يطرد هذا فيه قول من قال من أصحابنا إن الترتيب شرط في صحة الصلاة، وقال بتقدمة الفائتة أو لا يطرد هذا فيه لأجل اختلاف أهل المذهب في الفائتة والتي ضاق وقتها أيهما يقدم؟ وظاهر كلام ابن القصار طرد الخلاف فيه ولكنه ذهب إلى سقوط الترتيب فيما تماثل من الصلوات الفوائت كظهرين فاتتا من يومين ماضيين *واستدل بتساويهما في الصورة والهيئة ووقت الذكر فلا معنى لاعتبار الترتيب مع هذا التساوي. وإنما يعتبر فيما اختلف من الصلوات

(1/734)


واقتضب هذا من قوله* (1) إن من نسي ظهرًا أو عصرًا لا يدري السابقة منهما إنه يصليهما ويعيد ما بدأبه منهما. وإنما لم نقل ذلك في ناسي ظهرين من يومين لا يدري أيتهما قبل صاحبتها لتماثلهما. ولو وجب الترتيب مع التماثل لأعاد ظهر اليوم الثالث. وهذا الذي زعم إنا لا نقول به، فيتخرج عندنا (2) فيه اختلاف إذا عين اليومين ولم يدر أيتهما قبل صاحبتها على ما سنشير إليه في موضعه. ولكنه مع هذا كله راعى الترتيب في ظهر يومه مع ظهر فائتة لاختلاف معنى وقتيهما بخلاف الفائتتين. وأشار إلى تردد فيه فقال: ولو قيل بسقوط الترتيب فيه لم يبعد.
وأما أبو حنيفة فاختلف قوله فقال مرة بما حكيناه عن الشافعي. وقال مرة أخرى بوجوب الترتيب مع الذكر إذا كانت الصلوات المنسية خمسًا فأقل، كما حكيناه عن مذهبنا. ولكنه يُسقط الترتيب مع ضيق الوقت وتُقدم الحاضرة كما حكيناه عن ابن وهب. وإذا وجب الترتيب عنده بتقدمة المنسية كان شرطًا في صحة الصلاة. فلا صلاة عنده مع سعة الوقت لمن عليه صلوات.
وحكي عن الزهري وربيعة وغيرهما إيجاب الترتيب على الإطلاق.
وأضيف إلى ابن حنبل اعتباره شرطًا في صحة الصلاة مع عدم الذكر. وأن من نسي صلاة في شبابه ولم يذكرها إلا في شيخه أنه يعيد سائر الصلوات التي بين زمن تركه وذكره. وسبب الاختلاف في الترتيب على الجملة أنه روي (3) في ذلك أربعة أحاديث. أحدها قوله عليه السلام: إذا نسي أحدكم صلاة فذكرها وهو في صلاة مكتوبة فليبدأ بالتي هو فيها فإذا فرغ منها صلى التي نسيها (4). وظاهر هذا سقوط الترتيب؛ لأنه أمر بالبداية التي هو فيها ولم يأمر بإعادتها بعد قضاء
__________
(1) ما بين النجمين ممحو -و-.
(2) عندنا- ساقطة -ق-.
(3) ورد -ق-.
(4) رواه البيهقي وأعله بان في سلسلته عمر بن أبي عمرو وهو مجنون لا أعلم يروي عنه غير بقية.

(1/735)


المنسية. وروي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا صلاة لمن عليه صلاقه" (1). وهذا اللفظ يخمل أن يكون المراد به لا صلاة كاملة فيكون مطابقًا لمذهب من لم يوجب الترتيب وغير مناقض للحديث المتقدم. ويحتمل أن يراد به لا صلاة مجزية فيكون مطابقًا لقول من أوجب الترتيب ورآه شرطًا في الصحة. وإذا احتمل الوجهين حمل عليهما جميعًا أخذًا بالعموم عند قوم من أهل الأصول. وامتنع حمله على العموم عند قوم آخرين، فيجب الوقف فيه. فيعضد حمله على نفي الإجزاء بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من نسي صلاة فذكرها مع الإِمام مضى على صلاته مع الإِمام فإذا سلم قضى التي فاتته ثم أعاد التي صلى مع الإِمام" (2). فالأمر بالإعادة إن حمل على الإيجاب كان دلالة على كون الترتيب شرطًا في الصحة. وروي عنه عليه السلام أنه لما فاتته أربع صلوات يوم الخندق قضاهن على الترتيب (3). فمن زعم أن فعله على الوجوب بمجرده أو لكونه ها هنا كالبيان استدل به في وجوب الترتيب. ومن لم يره كالبيان وحمل مجرد فعله على الاستحباب استحب الترتيب ولم يوجبه. فمن أنكر وجوب الترتيب حمل قوله لا صلاة لمن عليه صلاة على نفي الكمال أو على أن المراد به لا صلاة نافلة لمن عليه صلاة أو منع الاستدلال به بان يغلب الدليل فيه فيقال: الحاضرة إذا ضاق وقتها فهي صلاة عليه فلا يصلي الفائتة، وهذه حاضرة عليه. ويحمل أمره بإعادة التي صلى مع الإِمام على الاستحباب. ومن خالفه يحمل النفي على الإجزاء بما قدمناه، ويمنع من حمل قوله لا صلاة على النفل، لحق (4) العموم. وينكر كون اللفظ محمولًا على أن المراد به: إن التي عليه هي الصلاة الحاضرة لأن المفهوم منه صلاة ترتبت في الذمة متى صارت عليه. والحاضرة لم تترتب في الذمة. ويمكن حمل إعادة ما صلى خلف الإِمام على الاستحباب لاعتقاده أن الأمر على الوجوب.
__________
(1) ذكر ابن الجوزي في العلل أنه سئل أحمد عن هذا الحديث فقال: لا أعرف هذا ولا سمعته عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. نصب الراية ج 2 ص 166.
(2) رواه الدارقطني والبيهقي وهو حديث موقوف. نصب الراية ج 2 ص 162. والسنن للبيهقي ج 2 ص221.
(3) هو من حديث ابن مسعود رواه الترمذي والنسائي وابن حبان عن أبي سعيد الخدري. نصب الراية ج 2 ص 165 - 166.
(4) بحق -ق.

(1/736)


هذا سبب الخلاف من ناحية الآثار. وأما من ناحية الاعتبار فيستدل من أوجب الترتيب بان الحاضرة، الزمن الذي هو فيه وقت لها في الأصل، والفائتة هو وقت لها لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فليصلها إذا ذكرها. وروي فذلك وقتها لا وقت لها إلا ذلك" (1). وإذا كان الوقت لهما جميعًا قدمت الفائتة لكونها أسبق. ولأنها في الشريعة هكذا رتبت مقدمة. ولأن الجمع بين صلاتي عرفة والمزدلفة لما وقع قدمت فيه الظهر على العصر لكونها أسبق، وإن كان الوقت قد حول في ذلك اليوم وتغير فلم يكن تغييره وتحويله يحيى سقوط الترتيب. وينفصل عن هذا من خالف فيه. بأن السبق لا تأثير له. لأن الحاضرة أحق بالوقت لكونه وقتًا لها بالأصل، وبأن الجمع بين صلاتي عرفة والمزدلفة إنما لم تقدم العصر لأجل أن وقتها لم يدخل بعد، وإنما يدخل وقتها ذلك اليوم بعد فراغ الظهر. وغلا بعضهم في هذا الانفصال حتى ركب أن الجمع في السفر وبعرفة والمزدلفة لو كان بعد في خول وقت الثانية، لصح صلاة من قدم الثانية على الأولى وأنه غير بين أن يقدم الثانية أو الأولى. واشتد نكير ابن القصار على راكب هذا. وقال ما ظننت أحدًا يقوله ويركبه. ويرى أن تقدمة العصر يوم عرفة إنما لم يجز لحق الرتبة لا لحق الوقت لأن الوقت مشترك. ولعل ابن القصار إنما استبعد تخييره البداية بأي الصلاتين شاء *وأما صحة الصلاة إذا وقعت* (2) فقد أشار بعض المتأخرين إلى تخريج الخلاف عندنا في كون الترتيب ليس بشرط في صحة الصلاة من رواية ابن زياد عن مالك في ذاكر الظهر والعصر من يومه في وقت العصر فبدأ بالعصر جهلًا أو سهوًا فليعدهما، وإن لم يذكر حتى ذهب يومه لم يعد شيئًا. فقد ذكر ها هنا في هذه الرواية أن ترك الترتيب في صلاتي اليوم جهلًا بعد دخول وقت الثانية لا يمنع من الإجزاء. واستدل من أسقط وجوب الترتيب بأنه لو كان واجبًا وشرطًا في الصحة لاستوى نسيانه وعمده، والترتيب مع النسيان ساقط. وأيضًا فإن الكثير من الصلوات لا يقدم على الحاضرة لضيق وقتها. فلو كان الترتيب واجبًا لِحَقّ السبق لاستوى قليل الصلوات وكثيرها.
__________
(1) وروى البخاري ومسلم: لا كفارة لها إلا ذلك. انظر السنن للبيهقي ج 2 ص 218.
(2) هو في -و-.

(1/737)


ويجاب عن هذا بأنه لا يبعد كون الشيء واجبًا مع الذكر دون النسيان. ويسقط كونه شرطًا في الصحة في حق الناسي دون الذاكر كستر العورة وغسل النجاسة في إحدى الطريقتين. وأجاب ابن القصار بأن الإجماع حصل على الصلوات الكثيرة فلهذا لم يقدمها. وأشار إلى أن العلة أن الصلوات إذا زادت على مقدار الخمس المختلفة وقع فيها التكرير، والتكرير يسقط الترتيب على حسب ما كنا قدمنا مذهبه فيه.
وأما سبب الاختلاف من ناحية الاعتبار في كون الترتيب شرطًا في الصحة كما اختاره القاضي أبو محمَّد أو ليس بشرط في صحتها. فإن من رآه شرطًا رأى أنه معنى لا يتصور انفصاله عن الصلاة فوجب أن يكون شرطًا في صحتها كتكبيرة الإحرام. ومن لم يره شرطًا يرى أن تقديم الصلاة التي هو في وقتها ليس فيها أكثر من تأخير الأخرى عن وقتها فلا يمنع ذلك صحة صلاة الوقت؛ لأنه لا يقال أنه أوقعها فيما ليس بوقت لها.

والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: اختلف في مقدار القليل من الصلوات التي تقدم على ما ضاق وقته. فذهب بعض أصحاب أبي حنيفة إلى أنه ست صلوات. والمشهور من مذهب مالك أنه خمس صلوات. وذهب بعض أصحابه إلى أنه أربع صلوات. فأما قول بعض أصحاب أبي حنيفة فيرد من ناحية أنه عدد دخل فيه التكرير على نحو ما كنا قدمناه عن ابن القصار. وأما المشهور من مذهبنا فالحجة له أنه عدد لا تكرير فيه لأن الخمس صلوات مختلفات. فإذا زادت سادسة كانت السادسة كإحدى الخمس والترتيب يسقط مع التكرير ويثبت مع عدمه. ولا يعدم إلا في الخمس فأقل. فوجب التحديد بها.
وأما وجه من حد بأربع فلأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الخندق إنما رتب أربع صلوات، ولم ينقل عنه ترتيب فوائت زائدة على هذا العدد. فوجب الاقتصار عليه. ولأن الترتيب في الصلوات يقاس علي الترتيب في الركعات، وأكثر الركعات أربع فوجب أن يكون أكثر الصلوات المرتبة أربعًا. وإذا راعينا العدد القليل في وجوب الترتيب لم يفترق الحكم فيه في أن يكون هو جملة العدد الذي لم يكمل عليه سواه. أو كان بقية بقيت عليه من فوائت قضاها. قاله بعض الأشياخ.

(1/738)


والجواب عن السؤال الثامن: أن يقال: إذا صلى صلاة لوقتها غير ذاكر لصلاة عليه ثم ذكرها فلا يخلو إما أن يذكر بعد خروج وقت التي صلى أو قبل خروج وقتها. فإن ذكر بعد خروج وقتها فلم يختلف المذهب أَلَّا قضاءً عليه.
وكذلك لو قضى منسية ناسيًا للأخرى قبلها فلا إعادة عليه. لأنها بالفراغ منها تلتحق بما خرج وقته. وروي عن مالك فيمن ذكر ظهر أمسه وعصره بعد غروب الشمس فبدأ بالعصر ثم الظهر فإن علم مكانه أعادها. وإن طال فلا شيء عليه.
قال الشيخ أبو محمَّد أراه يعني بقوله يعيدها العصر؛ لأنه صلاها ذاكرًا لصلاة عليه. فأما تأويل الشيخ أبي محمَّد فتعسف على اللفظ. وإن كان صحيحًا من جهة المعنى. لأنه إذا صلى العصر ثم الظهر اعتد بالظهر وجعلها أولى وألغى ما قبلها وأعاد بعد صلاتها صلاة العصر. فيحصل الترتيب. فلا معنى لإعادة الظهر كما قال. وهذا كما نقول فيمن نكس وضوعه حتى ختم بوجهه، أنه يبني على غسل وجهه. لأنه ببنائه عليه يحصل الترتيب. وأما حمله الرواية على أنه صلى العصر ذاكرًا لصلاة عليه فليس في لفظها ما يقتضي ذلك. بل نقلها متصلة بالرواية التي قدمنا حكايتها عن ابن زياد فيمن بدأ بعصر يومه قبل الظهر جهلًا أو سهوًا. فإن حملت الرواية على ما ذكرت عقيبه فقد يصح حملها على السهو أيضًا. وأيضًا فإن من صلى عصر أمسه ذاكرًا لظهر أمسه، فقد خالف الترتيب الواجب. وقد قدمنا اختلاف المذهب على قولين في صحة الاعتداد لما خولف فيه الترتيب محمدًا. فمنهم من يعتد بالصلاة. ومنهم من لا يعتد بها، ويقول تعاد الصلاة أبدًا. وهذه الرواية قد فُرِّقَ فيها بين قرب الزمن وبعده. فإن كان قدر أن قرب الفراغ من الصلاة المنسية يقدر كأنه وقت دها لجواز أن يمتد الفعل إليه، فتكون الإعادة حينئذ لها طريقة. لأن من اعتد بالصلاة المخالف ترتيبها يؤمر بالإعادة في وقتها ليحصل الترتيب. ولكن هذه الرواية تقتضي أنه لا يكون الفراغ *من فعل المنسية تصرمًا لوقتها* (1) وأن المصلي يعيدها إذا ذكر في مكانه لإخلاله بالترتيب. وأما إن ذكر من صلى الصلاة الحاضرة صلاة منسية قبل أن يخرج وقت التي صلاها، فإنه يؤمر بالإعادة لها ليحصل الترتيب المشروع.
__________
(1) ما بين النجمين ممحو -و-.

(1/739)


وقال أبو بكر الوقار إنما يؤمر بالإعادة في الوقت إذا كانت المنسيات خمسًا فأقل. فإن كانت أكثر من ذلك فلا يؤمر بالإعادة في الوقت. وكأنه رأى أن الترتيب غير معتبر إذا كثرت المنسيات. فإن كان غير معتبر فلا معنى لإعادة الصلاة ولا لاعتبار الوقت في تلافي الترتيب. واختلف في تحديد الوقت الذي بالذكر فيه يؤمر بالإعادة. فقيل وقت الضرورة. وقيل من صلى العص رنا سيًا للظهر فإنه يعيد العصر ما لم تصفر الشمس. وهذا يراعي وقت الاختيار.
والتوجيه للقولين قد تقدم أسلوبه قبل هذا. وهو الموازنة بين فضيلة الترتيب وكراهة (1) الصلاة بعوإلاصفرار. فلا معنى لبسطه ها هنا.
ولو أن هذا المأمور بالإعادة في الوقت لما ذكر الصلاة المنسية في الوقت نسي أن يعيدها في الوقت (2) حتى ذهب. فهل يعيدها بعد الوقت أم لا؟ في ذلك قولان: بنفي الإعادة لأن الإجزاء قد حصل. والإعادة طلب للكمال. ولا يطلب الكمال بعد تصرم الوقت. وإثبات الإعادة لأنه بالذكر خوطب بالإعادة. فصارت كالصلاة الأصلية إذا نسيها حتى خرج وقتها. ولو كانت الصلاة المنسية ذكرها بعد أن فرغ من صلاة الجمعة، فإنه إذا قضى المنسية لم يعد الحاضرة. عند أشهب، لخروج وقت صلاة الجمعة بالفراغ منها. وأعادها عند مالك ظهرًا لبقاء وقت الظهر.

والجواب عن السؤال التاسع: أن يقال: من ذكر صلاة وهو في صلاة فلا تخلو الصلاة المنسية من أن تكون قد ذهب وقتها أو لم يذهب. فإن كان قد ذهب وقتها فاختلف في ذكرها هل يفسد الصلاة الحاضرة التي هو فيها أم لا يفسدها؛ وهذا الاختلاف قد سبق ذكره وتوجيهه لما ذكرنا الاختلاف في الترتيب، هل هو شرط في الصحة أم لا؛ فإن قلنا لا يفسدها استحب له القطع على الجملة إن كان فذًا أو إمامًا. وإن كان مامومًا لم يستحب له القطع، بل يؤمر بالتمادي إلا أن يكون في صلاة المغرب أو الجمعة ففيها قولان (3). فأما
__________
(1) كر اهية -ق-.
(2) في الوقت = ساقطة -و-.
(3) قولان = ساقطة -و-

(1/740)


المغرب فمذهب المدونة أن المأموم يتمادى فيها كسائر الصلوات. ومذهب ابن حبيب أنه لا يتمادى فيها بخلاف غيرها من الصلوات بل يقطع المغرب عنده المأموم والفذ. وإن كان صلى واحدة شفعها بثانية وإن كان صلى ثالثة شفعها برابعة. وكل بني على أصله. لأن مذهب المدونة أن من صلى صلاة ذاكرًا لأخرى لا تفسد صلاته بل يعتد بها. وإنما يعيدها في الوقت استحبابًا ليحصل الترتيب. ومذهب ابن حبيب أن ذكره صلاة فائتة (1) وهو في صلاة أخرى يفسدها ويعيد ما هو فيه في الوقت وبعده. ويرى أن التمادي فيه ابن ية النافلة.
فإذا كان هذا أصله أمر بقطع المغرب لئلا يكون متنفلًا قبل صلاة المغرب. لكن أشار بعض الأشياخ إلى أنه يلزمه قطع المأموم في سائر الصلوات، إذا كان ذكره لصلاة منسية يفسد ما هو فيه؛ لأن صلاته إذا فسدت فلا معنى لمراعاة فضل الجماعة في صلاة فاسدة. ويلزم أن يكون القطع واجبًا لا مستحبًا في حق سائر المصلين فذًا كان أو مأمومًا. لأن الصلاة إذا فسدت وجب قطعها ولم يجز التمادي على إكماله ابن ية الفرض. وأما الجمعة فقال أشهب إن علم أنه إذا قطع وصلى المنسية أدرك ركعة من الجمعة فليقطع. وإن أيقن أنه لا يدرك تمادى.
فإذا فرغ صلى المنسية ولم يعد ظهرًا لخروج الوقت. وإن أعادها ظهرًا فحسنٌ.
وقال الشيخ أبو الحسن مذهب مالك اتباع الإِمام. فإذا فرغ صلى المنسية وأعاد الجمعة ظهرًا. وكان بعض أشياخي يرى أن الأولى في النظر أن يستوي سائر المصلين في التمادي على صلاتهم لعقدهم الإحرام فيها ناسيًا (2) لصلاة أخرى. لأنهم أحرموا بوجه جائز فلا يؤثر في صلاتهم ما طرأ عليها في أثنائها مما لا يجوز الابتداء عليه مع الذكر، كطريان الماء على المتيمم وهو في الصلاة. وإذا أُمِر الإِمام الناسي لصلاة فائتة بالقطع، فهل يسري ذلك لصلاة المأمومين أم لا؟ عن مالك في ذلك روايتان: إحداهما القطع والأخرى الاستخلاف. فوجه القطع أن الترتيب ليس بمعنى منفصل عن الصلاة فيسري فساد صلاة الإِمام فيه إلى صلاة
__________
(1) فائتة في الذمة -ق-.
(2) ناسيًا بالأفراد - هكذا في جمبع النسخ.

(1/741)


المأمومين كنسيانه تكبيرة الإحرام. وقد أشار ابن حبيب محتجًا للاستخلاف إلى أن نسيان تكبير الإحرام بخلاف نسيان صلاة فائتة. فقال إنما يقطع المأمومون إذا ذكر إمامهم أنه صلى تلك الصلاة التي صلى بهم أو دخل من نافلة في فريضة بغير سلام. أو نسي الإحرام وشبه ذلك، فهؤلاء يقطعون. وإن لم يعلموا حتى فرغوا أعادوا. غير أن من كان إمامهم قد صلى ما صلى بهم فلا يعيدون جماعة لأجل الاختلاف في إجزاء صلاتهم. ولم يذكر فرقًا بين هؤلاء وبين ناسي صلاة فائتة. وقد اعتل بعضهم لقطع المأمومين بأن قال إن القطع لا يتعين على الإِمام ولا هو متفق على وجوبه. بل لو تمادى على صلاته لأجزأته. فإذا قطع والحالة هذه صار كقاطع صلاته محمدًا لغير سبب. وذلك يفسد صلاة المأمومين. فلما ضارع (1) هذا الإِمام الناسي *قاطع الصلاة لغير سبب* (2) "احتيط للمأمومين بأن أمروا بابتداء الصلاة. وهذا الذي أشار إليه بعضهم من أن قطعه غير واجب، وأن تماديه يجزيه، وإن استحب الإعادة للترتيب. وقد قال خلافه أبو العباس الإبياني: إن الإِمام إذا جهل وتمادى بهم لزمتهم الإعادة في الوقت وبعده. وهذا الذي قاله الإبياني إنما يتضح عندي على القول: بأن ذكر صلاة في صلاة يفسدها. وأما على القول الآخر بأنه لا يفسدها. فالذي قاله الآخرون: من صحة اعتداده بالصلاة أظهر.
ووجه القول بالاستخلاف قياسًا على الحدث. وإذا قلنا بالاستخلاف فالمعروف ثبوته في سائر أجزاء الصلاة.
وقال ابن كنانة في كتابه: إن كان لم يعقد الإِمام بالقوم ركعة استخلف وإن كان قد عقد بهم ركعة أتم ثم أعاد صلاته. ونقل عنه ابن حبيب وغيره الاستخلاف مطلقًا لكنه في كتابه فصله كما قلناه. ولا وجه له إلا أن يكون رأى أن لا حرمة لصلاته قبل أن يعقد ركعة فحسن عنده قطعه واستخلافه. فإذا عقد منها ركعة قبح القطع لحصول حرمة الصلاة. ............ (3) فأمره
__________
(1) فلما صار -و-.
(2) من هذا الموضع نقص بنسخة -و-.
(3) هو بمقدار أربع كلمات.

(1/742)


بالتمادي. وعلى هذا الأسلوب جرى الاختلاف في المأمومين إذا لم يذكر إمامهم الصلاة المنسية حتى فرغ. هل يعيدون الصلاة في الوقت لتحصل فضيلة الترتيب أو لا يعيدون؟ فإذا قلنا يسري من صلاة الإِمام إلى صلاتهم ها هنا بعض ما تلافوه أمروا بالإعادة. وإذا قلنا أنه لا يسري لم يؤمروا بالإعادة. وإذا أمر المصلي بالقطع وهو في أثناء الصلاة، فهل يقطع في الحال أو يؤمر بالتمادي؛ لأن كمال الصورة التي يسلم منها المصلي وهو العدد الشفع؟ لا تخلو الصلاة التي هو فيها من أن تكون فرضًا أو نفلًا. فإن كانت فرضًا لم يخل أن يذكر المنسية قبل أن يعقد ركعة، أو بعد أن عقد ركعة. فإن ذكرها بعد أن عقد ركعة فلا يخلو إما أن لا يكون عقد ركعة سواها أو عقد سواها. وإن عقد سواها فلا يخلو أن يكون على وتر أو شفع. فإن ذكرها قبل أن يعقد ركعة ففيه قولان.
أحدهما: وهو المشهور أنه يقطع والثاني أنه يكمل ركعتين.
فوجه القطع أن الصلاة التي لم يعقد منها ركعة ليست لها من الحرمة المتاكدة ما يحيى تأخير الصلاة الفائتة. فلا يحسن به التمادي، فيزيد الفائتة فواتًا. ووجه التمادي إلى إكمال ركعتين أن الفائتة إنما خوطب بها الناسي في الصلاة التي هو فيها، وقد أثرت بإحالتها من نية الفرض إلى نية النفل. فإذا حصل التأثير لم يحسن القطع قبل الصورة التي يسلم منها في الشرع. وتأخير الفائتة إنما يمنع لغير عذر. وهذا عذر.
وإن ذكرها بعد أن عقد ركعة فلا يخلو إما أن تكون الصلاة زائدة على الثنائية كالظهر والمغرب، أو ثنائية. فإن كانت زائدة عن الثنائية أضاف إلى ركعته أخرى لأن عقد الركعة يؤكد حرمة الصلاة. والخروج من الصلاة على ركعة واحدة لا يحسن. فأمر بالتمادي إلى صورة النفل. وهي ركعتان. والمنسية مع هذا لم تخل من تأثير كالتي هو فيها لأنها نقلتها من أربع إلى آثنتين. ومن نية الفرض إلى نية النفل.
وإن كانت الصلاة ثنائية كصلاة الصبح. فمقتضى إطلاق الروايات أنها كسائر الصلوات. وقال بعضصح مقتضى اختيار ابر الِقاسم في الرباعية أن

(1/743)


يقطع بعد ثلاث ليؤثر ذكر المنسية في منع الإكمال، أن يقطع في الصبح بعد ركعة ليؤثر ذكر المنسية أيضًا في منع الإكمال. وإن ذكر المنسية بعد أن زاد على عقد ركعة وهو على شفع فإن كان على أربع فقد كملت صلاته. وصار كالذاكر بعد الفراغ. وإن كان على ركعتين في صلاة الصبح فقد كملت صلاته أيضًا. وإن كان في الثانية من الرباعية سلم من شفعه. ولم يعتد بصلاته لعدم كمال عدد ركعاتها. وإن ذكر المنسية بعد أن زاد على ركعة وهو على وتر فإن كان في المغرب فقد كملت صلاته. وإن كان في الرباعية ففيه روايتان، إذا ذكرها بعد ثلاث. إحداهما الإكمال لحصول جل الصلاة. والثانية القطع ليحصل للمنسية تأثير في هذه التي هو فيها. لأنه إن تمادى للإكمال لم يكن للمنسية تأثير.
وإن كانت الصلاة التي هو فيها نفلًا فلا يخلو من قسمين. أحدهما أن يذكر ذلك قبل أن يعقد ركعة أو بعد أن عقد ركعة. فإن ذكر ذلك قبل أن يعقد ركعة قطع لأنه لا كبير حرمة لما هو فيها. ولو أمر بالتمادي إلى إكمال ركعتين لم يكن للمنسية تأثير لا في نقص عدد ولا في نقل نية. وإن ذكر بعد أن عقد ركعة فعنه روايتان. إحداهما الإكمال لتاكد حرمة ما هو فيه بعقد الركعة. والثانية القطع لأن الإكمال يمنع من كون المنسية لها تأثير. فركعة من النافلة كثلاث من الفريضة. واختلف قول مالك في المسألتين جميعًا. ولكن اختلف اختيار ابن القاسم فيها. فاختار من قوله في النفل أن يكمل ومن قوله في الفرض أن يقطع.
فإن قيل ما وجه اختلاف اختياره؟ قيل إنما اختلف اختياره فيهما لأن المنسية إنما يجب أن يكون لها (1) تأثير عنده في صلاة أوجبت الشريعة الترتيب بينها وبينها. والشريعة إنما جاءت بالترتيب بين صلاتي فرض لا بين صلاتي فرض ونفل. فلما لم يكن بين الفرض والنفل ترتيب في أصل الشرع لم يقتض عنده ذكر الفرض في النفل تأثيرًا. ولما جاء الشرع بالترتيب بين الفرضين أثرت المنسية في التي هو فيها لاستحقاقها رتبة السبق عليها، فاقتضى ذلك القطع.
وهذا معنى يروق لولا ما يعترض عليه بأن مقتضاه يوجب أن لا يؤثر الفرض في النفل وإن لم يعقد ركعة من النفل. وابن القاسم يرى أن ذكر الفرض يؤثر في
__________
(1) إنما يجب لها تأثير -ق-.

(1/744)


النفل إذا لم يعقد من النفل ركعة، ويأمر بقطع النافلة. قد ينفصل عنه بأن يقال إنما افترق الحكم عنده في النفل بين أن يعقد ركعة أو لا يعقدها لأنه إذا عقد ركعة صارت لصلاته حرمة استحقت بها الوقت. ألا تراه - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة" (1). وإذا استحقت النافلة الوقت لم تقطع لغيرها، وإذا لم يعقد منها ركعة لم تكن لها حرمة تستحق بها الوقت، فوجب قطعها للمنسية التي استحقت الوقت لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فليصلها إذا ذكرها" (1) وفي رواية أخرى: فإن ذلك وقتها.
فهذا وجه اختلاف اختيار ابن القاسم. والانفصال عما قد يعترض به على التوجيه. وأما إذا كانت الصلاة المنسية لم يذهب وقتها، فهل يستحب لبعض المصلين إلاّ يقطع كما يستحب له ذلك في الفائتة أم لا؟ في ذلك قولان: أحدهما أنه يستحب للمأموم أن يتمادى. قاله في المدونة فيمن نسي الظهر فذكرها وهو مع إمام في العصر أو مغرب ليلته. وقال ابن حبيب: يقطع المأموم إذا ذكر ظهر يومه وهو في عصره أو مغرب ليلته وهو في عشائها. ويقطع وإن كان على وتر لأنه في خيار من وقت الأولى. وهي فرض والتي هو فيها لا تجزيه، فمبادرته للأولى أولى. فأما ابن حبيب فقد وجه قوله. وأما وجه القول الآخر فإنه رأى أنه إنما استحب التمادي إذا ذكر ما فات وقته مع استحقاقه الوقت بالذكر فأحرى أن يستحب التمادي إذا ذكر صلاة لم يذهب وقتها ذهابًا كليًا كما ذهب في الفائتة.
وأما الفذ الذي لا يستحب له التمادي بل يؤمر بالقطع فإن حكمه حكم من نسي سجود السهو الذي يبطل تركه الصلاة. وقد ذكرنا حكمه مبسوطًا في باب السهو.
وإن ذكر قبل أن يعقد ركعة وهو في فريضة قطع وفي النافلة يتمادى فإن ذكر بعد أن عقد ركعة أضاف إليها أخرى كان في نفل أو فرض. قال بعض الأشياخ: لا يختلف قول مالك ها هنا في النفل بعد ركعة، ولا في الفرض بعد
__________
(1) تقدم تخريجه.

(1/745)


ثلاث. كما اختلف قوله في ذاكر الفائتة، لاتساع الؤقت ها هنا وضيقه في التي فات وقتها. وقد ذكرنا في باب السهو أن ناسي السجود قبل السلام المبطل للصلاة إذا لم يطل ما مضى من الصلاة التي هو فيها فإنه يقطع ليرجع لإصلاح الأولى. وها هنا بعقد النفل يمضي عليه إذا لم تتقدم منه صلاة يجب أن يعود لإصلاحها، بل هو ناس للصلاة أصلًا. وإنما أحلناك على باب السهو إذا لم يجب العود للإصلاح.

والجواب عن السؤال العاشر: أن يقال: اختلف الناس في قضاء الفوائت المفروضة هل يجوز قضاؤها في سائر الأوقات أو يمتنع في بعض الأوقات؟ فذهب مالك والشافعي إلى إجازة ذلك في سائر الأوقات. ومنع أبو حنيفة من قضائها عند طلوع الشمس وعند استوائها وبعد اصفرارها. وأجاز أداء عصر يومه عند الغروب والاصفرار. ومنع من ذلك في صبح يومه حتى قال: لو صلى ركعة من الصبح فطلعت عليه الشمس فإن صلاته تبطل.
ودليلنا قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها". الحديث (1). فجعل وقتها وقت الذكر ولم يفرق بين وقت ووقت. فاقتضى عمومه استيعاب سائر الأوقات. ويحتج أبو حنيفة بأخبار النهي. ويؤكد حجته بأن النهي إنما كان لمقارنة الشمس الشيطان على ما أشار إليه في الحديث. وهذا المعنى موجود في صلاة الفرض كوجوده في صلاة النفل. وهذه الأخبار متعارضة فيجب بناؤها فنقول نحن أخبار النهي محمولة على النوافل. ويقولون هم أخبار الأمر بقضاء المنسية محمول على ما سوى هذه الأوقات. وإذا أمكن أن يبنى حديثهم على حديثنا وحديثنا على حديثهم وجب النظر في الأرجح من التأويلين. والأولى من البناءين. فنرجح نحن بناءنا بأن قد أبقينا أحد الخبرين على عمومه وهو خبر الأمر بقضاء المنسية، وخصصنا أحاديث النهي فحملناها على النوافل.
وأبو حنيفة في بنائه يخصص كلا الخبرين، فيخصص من خبرنا الأوقات التي ذكر. ويخص من خبره عصر يومه. فإنه يبيح صلاته في الوقت الذي يقتضي عموم خبر النهي المنع منه. فإذا كان بناؤه فيه تخصيص كلا الخبرين وتخصيص
__________
(1) تقدم تخريجه.

(1/746)


الخبر إزالة له عن ظاهره. وكان بناؤنا إنما فيه تخصيص أحد الخبرين كان بناؤنا الأولى. لأن إخراج خبر واحد عن ظاهره أخف من إخراج خبرين عن ظاهرهما. ويرجح أبو حنيفة بناءه بان خبره معلل بعلة يستوي فيها الفرض والنفل. فكان البناء الذي يصح طرد التعليل معه أولى من الذي لا يطرد التعليل معه. وأجيب عن هذا بان الكفرة إنما كانت تصلي حين مقارنة الشمس قرن الشيطان صلاة ليست عليها وإنما بقصد السجود للشمس. فحقيقة التعليل إنما يطرد فينا إذا صلينا صلاة ليست علينا. وأيضًا فإنا نرجح بأن تفريقنا بين الفرض والنفل، يظهر للفرقان بينهما وجه. وتفرقته بين عصر يومه وصبحه لا وجه لها.
فإن قيل بل له وجه لأن الفراغ من العصر يكون في وقت تجوز فيه الصلاة والفراغ من الصبح يكون وقت نهي عن الصلاة فيه. قيل لو عكس هذا فأجيزت الصبح ومنعت العصر لكان أولى. لأن الابتداء بالعصر يكون في وقت النهي، والابتداء بالصبح ليس في وقت النهي. فمراعاة حال الابتداء أولى. لأن المؤثر في التمادي أولى أن يؤثر في الابتداء. وقد يؤثر النهي في الابتداء ولا يؤثر في التمادي. وقد وافقنا أبو حنيفة على جواز قضاء الفوائت بعد صلاة الصبح وبعد صلاة العصر إذا لم تطلع الشمس ولم تصفر، وإن كانت النوافل عنده وعندنا حينئذٍ لا تجوز. فلم يطرد النهي في هذا. ولا ساوى بين الفرض والنفل. بل فرق بينهما. وكون النهي في هذا لأجل الفعل وهو صلاة الصبح والعصر.
والنهي عند الطلوع والاصفرار لأجل الوقت لا يدرأ ما قلناه من ضعف بنائه واضطراب أصله فيه.

والجواب عن السؤال الحادي عشر: أن يقال: مذهبنا أن الفوائت تقضى على حسب ما توجه الخطاب بها حين الأداء. فمن فاتته صلاة يسر بقراءتها في وقتها فإنه يسر قراءتها في وقت قضائها. وإن فاتته صلاة يجهر بقراءتها حين أدائها جهر بقراءتها حين قضائها. خلافًا للشافعي في مراعاة حكم زمن القضاء.
فقال من فاتته صلاة بالليل فإن قضاها بالنهار أسر. وإن قضاها بالليل جهر.
ووافقه الأوزاعي إلا أنه جعله بالخيار إذا قضاها بالليل بين أن يجهر أو يسر.
ووافقنا الشافعي على أنه إن فاتته صلاة نهارية فإنه يسر القراءة. وإن قضاها بالليل جهر اعتبارًا بحال الأداء. والفزق على أصله هو صلاة النهار وصلاة الليل. أن

(1/747)


صلاة النهار يجب أن يعتبر فيها حالة الأداء لأنه إذا قضاها بالليل وجهر بالقراءة صارت حالة القضاء أكمل من حالة الأداء (1). وإذا فاتته صلاة الليل فقضاها بالنهار أسر لأنه لا ينكر أن يكون القضاء أقل كمالًا من الأداء. والجهر صفة معلقة بالوقت فتسقط بفوات الوقت. كتكبيرات أيام التشريق. ولنا أن الصلاة إذا فاتت فقد ترتبت في ذمته ووجب قضاؤها. والقضاء يجب أن يكون مماثلًا للمقضي.
والأصل في القضاء الأمثال (2)، فوجب اعتبار حالة الأداء لتحقق المماثلة، لا سيما على القول إن القضاء إنما يلزم بمجرد القول الأول. ولهذا قلنا وقال جمهور الفقهاء إن من نسي صلاة في الحضر فذكرها في السفر أنه يقضيها حضرية كما وجبت عليه خلافًا لداود والمزني وإحدى الروايتين عن الحسن في مسيرهم إلى أنها تقضى سفرية اعتبارًا لحالة الفعل لا بحالة الترك. ولا حجة لهم في أنه عليه السلام جعل وقت الذكر وقتًا للمنسية، فيجب أن يعتبر وقت الذكر. لأنه عليه السلام قال: فليصلها. وهذه إشارة إلى حالة الصلاة المتروكة. ولا حجة لهم بمن فاتته صلاة في حال الصحة فذكرها في حال المرض أنه يصليها على مقتضى حالته من المرض؛ لأن المريض لا يمكنه فعلها على الوجه الذي وجبت عليه.
وفي تأخيرها إلى زمن الصحة تفويت. والمسافر يمكنه فعلها في الحال تامة على حسب ما وجبت عليه.
ومن شرط توجه الأمر الإمكان. فتوجه على المسافر الإتمام لإمكانه وسقط عن المريض القيام لعدم إمكانه. وأما لو نسي صلاة في السفر فذكرها في الحضر فإنه يقضيها على حسب ما كان يؤديها عندنا وعند أبي حنيفة. فعلى قولنا (3) أن القصر فرض، يتعين عليه القصر في القضاء.
وعلى قولنا أنه سنة يسر أيضًا في القضاء. ومن ذهب إلى التخيير خير أيضًا في القضاء. فذهب الشافعي في أحد قوليه إلى أنه يقضيها تامة. وكمن فاتته صلاة حكمه أن يتيمم لها فإنه يقضيها بطهارة الماء إذا وجد الماء وكالمريض إذا فاتته صلاة حكمه أن يصليها جالسًا فإنه يقضيها إذا صح قائمًا. ودليلنا على ما قدمناه من وجوب اعتبار حالة الوجوب وأن الثابت في الذمة لا يجب الزيادة عليه لا
__________
(1) أن صلاة الليل يجب أن يعتبر فيها حال الأداء. والقضاء لا يكون أكمل من الأداء -ق-.
(2) المثال -ق-.
(3) هكذا في النسختين. ولعل الصواب فعلى قوله.

(1/748)


سيما على القول إن القضاء يجب بمجرد الأمر الأول. فإنما يقضى بحسب ما توجه عليه الأمر الأول. فاما ما ذكروه من صلاة الجمعة فلا حجة فيه لأن الأصل الظهر، والجمعة بدل منها. فإذا استحال فعل الجمعة رجع إلى الأصل وهو الظهر. وهكذا ما ذكروه في التيمم فإن الأصل طهارة الماء والتيمم بدل عنها بشرط. فإذا لم يوجد الشرط رجع إلى الأصل. وكذلك المريض الأصل فرض القيام عليه. وإنما رخص له في القعود بشرط. فإذا لم يوجد الشرط الذي هو العجز عن القيام وهو سبب الرخصة رجع إلى الأصل وهو القيام.
وقد فرق بعض أصحابنا أن قال: القيام والقعود من الهيئات والهيئات يعتبر فيها حال الأداء كمريض لم يصل في مرضه، فإنه إذا صح صلى قائمًا. أو صحيح لم يصل في صحته فإنه إذا مرض قضى الصلاة قاعدًا. وأما العبد فإنه يعتبر فيه حالة الوجوب كحاضر سافر فإنه يقضي تامة، ومسافر حضر فإنه يقضي مقصورة. ولو نسي صلاة سفر فقضاها في سفر آخر فإنه يقضيها مقصورة خلافًا لأحد قولي الشافعي في أنه يقضيها تامة لزوال سبب الترخيص عندهم الذي هو السفر المبيح لقصرها حال الخطاب بها وما قدمناه من مراعاة حال الوجوب يرد قولهم في هذا.

والجواب عن السؤال الثاني عشر: أن يقال: أما الشك في ترتيب المتروكات،
فإن الناس قد أكثروا في التفريع منه ومدار جميع ما فرعوه على اعتبار تحصيل
اليقين ببراءة الذمة. والنظر في تحصيل عدد الأحوال المشكوك فيها، فيوقع من
الصلوات أعدادًا على ترتيب ما يحيط بجميع حالات الشكوك. هذا هو الأصل الذي يشمل جميع هذه المسائل، وما نذكره من الفروع يوضح وجه العمل فيه.
فمن ذلك أن من نسي صلاة لا يدري أي الصلوات الخمس هي؛ فإنه يصلي الصلوات الخمس *لأن كل صلاة من الخمس يمكن أن تكون هي المنسية يصلي على عدد حالات الشك خمسًا* (1) لتستوفي جميع أحوال الشك. وأما إن علم عين الصلاة وجهل يومها فإنه يصليها غير ملتفت لعدد الأيام. لأن الصلاة الواحدة لا تختلف باختلاف الأيام. وإذا كان اليوم المنسي منه تلك
__________
(1) ما بين النجمين = ساقط -ق-.

(1/749)


الصلاة مجهولًا فصلى تلك الصلاة، ينوي بها يومها الذي تركت منه فقد برئت ذمته. ولا قدرة له على أكثر من ذلك. لأنه وإن كرر فعل تلك الصلاة فلا يحمل في نيته إلا على يوم مجهول. فإذا كان لا بد من الإحالة على جهالة فلا فائدة في التكرار. وقد كما قدمنا ما ذكره ابن القصار من قولنا: إن من نسي ظهرًا أو عصرًا ما يدري أيتهما قبل صاحبتها فإنه يصلي ظهرًا بين عصرين أو عصرًا بين ظهرين مراعاة لحال الترتيب لما اختلفت الصلوات. وأنا لم نقل ذلك فيمن نسي ظهرين من يومين لا يدري أي اليومين قبل صاحبه. وإنما ذلك لسقوط مراعاة الترتيب، للتماثل (1) بين الصلوات. وهذا الذي قدمناه يقدح في قوله هذا لأنا لو أمرناه أن يصلي الظهر ثلاثة أيام مجهولات كما أمرنا ناسي الظهر والعصر ها هنا أن يصلي ثلاث صلوات لم يفده التكرير؛ لأنه وإن كرر الظهر لم يحمل في نيته إلا على يوم مجهول. وهكذا نرى (2) في اليومين الأولين فلا فائدة في تكرير ثالث مجهول. لكن لو علم هذا الشاك أعيان الأيام وجهل رتبتها لكان المذهب على قولين: فمنه إذا نسي ظهرًا لا يدري أمِنَ السبت هي أو من الأحد؟ ففي كتاب ابن حبيب أنه يصلي ظهر السبت وظهر الأحد. وفي كتاب ابن سحنون أنه يصلي ظهرأواحدة. وهكذا ذاكر صلاة يوم واحدة لا يدري سفرًا أو حضرًا أنه يصلي صلاة يوميَن يوم للسفر ويوم للحضر سوى المغرب والصبح فإنه لا يكررهما لأنهما لا يقصران. هذا مذهب ابن القاسم. وحكى ابن سحنون عن بعض أصحابنا أنه يكررهما وهذا مراعاة للاختلاف في الأيام. ومنه أيضًا إذا نسي ظهرًا أو عصرًا لا يدري الظهر للسبت والعصر للأحد أو العصر للسبت والظهر للأحد فإنه يصلي ظهرًا للسبت ثم عصرًا للأحد ثم عصرًا للسبت ثم ظهرًا للأحد. وهذا على مراعاة اختلاف الأيام. وأما على القول بترك مراعاتها فإنه يصلي ظهرًا بين عصرين أو عصرًا بين ظهرين. وقد قال ابن المواز إن ذكر ظهرًا أو عصرًا من يومين لا يدري أيهما قبل. فليصل ظهرًا بين عصرين أو عصرًا بين ظهرين. قال الشيخ أبو محمَّد: لم يذكر ابن المواز وسحنون تفرقة بين يوم معروف أو غير
__________
(1) وإذا لم نقل ذلك فيما يماثل من الصلوات -ق-.
(2) كلمة غير واضحة تحتمل نرى - ونوى وهي ممحوة في -ق-.

(1/750)


معروف. وهذه إشارة من الشيخ أبي محمَّد إلى ما قلناه من تصور الخلاف في الأيام المعينة المجهول ترتيبها. وقد كنا قدمنا نحن الاختلاف في إعادة المغرب والصبح في مسألة الشاك في اليوم المنشيءل هو سفر أو حضر؟ ولعل اختلاف هذا اليوم بالسفر والحضر يلحقه بالأيام المعينة. وأما الأيام المجهولة فيبعد الخلاف فيها. ولو روعيت الأيام المجهولة على من نسي ظهرًا لا يدري يومها من غيره أن يكررها بعدد ما مضى له من أيام عمره في زمن البلوغ. وحضرت شيخنا أبا محمَّد عبد الحميد رحمه الله فأتاه بعض الخواص عنده ممن كان يقرأ معنا عليه ممن اشتهر بالوسوسة فقال: لقد كنت أصلحك الله البارحة أصلي صلاة المغرب بمسجد فلان فأتى هذا لمفتى وأشار إلى الموسوس فصلى إلى جانبي وسمعته عند الإحرام يقول صلاة المغرب ليلة كذا. فأنكرت نفسي تسميته الليلة. ثم خشيت أن يكون ما قاله إنما هو لما يسمع منك. فجئت أسألك. فأظهر شيخنا النكير على صاحبنا. واعتذر للسائل عنه بما اشتهر من وسوسته. فلما انصرف السائل أقبل علينا حملة أهل الميعاد فقال هل يتخرج من المذهب اعتبار ذكر (1) القلب يوم الصلاة عند النية فلم يظهر لنا شيء. فأشار رحمه الله إلى نحو ما نحن فيه من هذا الباب من اضطراب الأصحاب في مراعاة اختلاف الأيام وذكر ما قيل في إمامة من نسي صلاة في يوم لمن نسيها من يوم آخر. وهذا الذي قاله رحمه الله يفتقر إلى بسط طويل وإنما ذكرناه عنه لتعلقه بما نحن فيه ولكونه منبهًا على ما قد يؤمر به المصلي عند عقد النية. وتحقيق القول في ذلك لا يمكن بسطه ها هنا.
ومن فروع هذا الباب: أن من نسي ظهرًا ولا يدري هل هي سفرية أو حضرية فإنه يصلي ظهرًا تامة وظهرًا مقصورة ليستوعب الصلاتين حال الشكين. ولو نسي ظهرًا أو عصرًا ولا يدري أيتهما قبل صاحبتها فإنه يصلي ظهرًا بين عصرين أو عصرًا بين ظهرين كما قدمناه. لأن بهذا العدد وهذه الرتبة يحاط بجميع حالات الشكوك. فإذا صلى الصلاتين أعاد ما بدأ به منهما. فإن كانت المعادة هي الأولى كانت المعادة لغ وَا واكتفي بما تقدم. وإن كانت هي الآخرة كانت البداية بها ملغاة وحصلت الرتبة بالإعادة. ولوانضاف إلى هذا
__________
(1) أهل القلب -ق-.

(1/751)


الشك في هاتين الصلاتين شك آخر وهو أن يشك بعد علمه أن إحداهما من سفر والأخرى من حضر في السفرية منهما حتى صار الشك في حالتين. إحداهما: هل الظهر قبل العصر أو بعدها وهل الظهر هي سفرية أو العصر؛ فإن في ذلك اختلافًا. ذكره ابن س القاسم في العتبية: أنه يصلي ست صلوات ظهرًا أو عصرًا تامتين ثم مقصورتين ثم تامتين فإن شاء بدأ بهما مقصورتين وختم بما بدأ به على حسب ما قلناه فيمن نسي ظهرًا أو عصرًا لا يدري أيتهما قبل صاحبتها.
والتعليل فيهما واحد. لكن بالجملة الأولى فيها شك واحد وهي الرتبة. فاكتفى فيها بثلاث. وهذه زاد فيها شك آخر وهو القصر والتمام. فضوعف العدد لتضاعف الشك. فصارت الثلاث ستًا. وذكر ابن سحنون عن بعض أصحابنا أنه رتب هذه الست على خلاف هذه الرتبة فيصلي ظهرًا تامة ثم عصرًا مقصورة ثم يعيد العصر تامة ثم الظهر مقصورة ثم يعيد الظهر تامة ثم الظهر مقصورة ثم العصر تامة.
ونقل ابن حارث هذا السؤ الذي كتابه فجعل شكه في الظهر والعصر هل هما سفريتان أو حضريتان؟ ونقل جواب ابن القاسم من المستخرجة الذي بدأ بذكره. وليس الأمر كما نقل عن المستخرجة. بل ذكر في المستخرجة أنه يعلم أن إحداهما سفرية وا لأخرى حضرية ولا يدري السفرية من الحضرية. ونقل عن ابن سحنون ما حكاه عن بعض أصحابنا لكنه جعل الأخيرتين عصرًا ثم ظهرًا خلاف ما نقله الشيخ أبو محمَّد أنه ظهر ثم عصر ولكنه مضى في نقله عن ابن سحنون على أن صورة السؤال أنه حكى عن أبيه قولين آخرين في السؤال الذي صوره: أحدهما أنه يصلي أربع صلوات ظهرًا حضرية وعصرًا سفرية ثم يعيد الظهر سفرية والعصر حضرية. قال ابن سحنون وهذا كله جوابه. ثم رجع عنه. فقال يصلي ست صلوات: ظهرًا تامة ثم يعيدها مقصورة ثم عصرًا تامة ثم يعيدها مقصورة. ثم ظهرًا تامة ثم يعيدها مقصورة. فصار في الجملة أربعة أقوال على ما نقل ابن حارث. ولكن هذا الذي حكي من القول الآخر المرجوع إليه ذكره ابن حبيب عن أصبغ في السؤال الذي نقلناه نحن عن المستخرجة أنه أجاب فيه بما نقلناه عن ابن القاسم من المستخرجة. وظاهر نقل ابن حبيب عن أصبغ أنه يشير إلى أن تصور السؤال على الصورتين مخالف بين الجوابين عنه. فأول ما يجب أن يعلم في هذا أن الجواب الذي حكاه سحنون أنه رجع إليه. ونقل ابن حبيب مثله عن أصبغ هذا الجواب الصحيح الذي أرى

(1/752)


أن يعتمد عليه. وهو جواب يصح على النقلين جميعًا على نقلنا ونقل ابن حارث (1)، وعليه يعول أئمة الحساب. ونحن نذكر أهل الحساب في هذا.
فإذا فرغنا منه تعقبنا ما سواه من الأجوبة. فالذي أصله الحساب في هذا أن من نسي ظهرًا وعصرًا لا يدري أيتهما قبل، فإنك تأخذ عدد المنسيات وهما اثنان فتضربهما في أقل منهما بواحد وذلك واحد في اثنين باثنين وتزيد على هذا العدد الصلاة الأولى فتكون ثلاث صلوات عصر أبي ن ظهرين على حسب ما قدمناه لك. ولو كان مع ذلك لا يدري سفريات ولا حضريات ولا إحداهما سفرية والأخرى حضرية فإن وجه العمل واحد، تأخذ هذه الثلاث صلوات الحضرية التي أدى إليها هذا الحساب فتعيد عند فراغك من كل حضرية تلك الصلاة بعينها سفرية ولو كان الذي نسي ثلاث صلوات حضريات صبحًا وظهرًا وعصرًا من ثلاثة أيام لا يدري أيتهما قبل. فإنك تضرب أيضًا العدد ثلاثة في أقل منها بواحد وهو اثنان فثلاثة في اثنين بستة. ثم يزيد الصلاة الأولى فيصير سبع صلوات فتبدأ بالصبح. فإذا كملت الثلاث أعدتها ثم أعدت ما بدأت به وهو الصبح. وإن كانت الثلاث صلوات لا يدري هل هي حضريات أجمع أو سفريات أجمع أو منهن حضريات ومنهن سفريات. فكل صلاة تقضى صلاة حضر وصلاة سفر.
وإذا صليت الظهر أولًا حضرية أعدتها سفرية. وكذلك العصر ثم يعيدها كذلك بتكريرهما فتبلغ عدد الصلوات إحدى عشرة صلاة الصبح ثم الظهر تامة ومقصورة ثم العصر كذلك ثم تعيد ما بدأت به وهو الصبح. فإن كان الذي نسي أربع صلوات صبحًا وظهرًا وعصرًا ومغربًا فتضرب أيضًا الأربعة في أقل منها بواحد وتزيد الصلاة الأولى فإذا ضربت ثلاثًا في أربع وزدت الصلاة الأولى بلغت ثلاث عشرة صلاة. هذا إذا كان يوقن أنها كلها حضرية فإن شك في السفر والحضر على حسب ما قلناه فيزيد مع كل صلاة حضرية تقضى صلاة سفرية فتبلغ سبع عشرة صلاة فيصلي صبحًا ثم ظهرًا تامة ومقصورة ثم عصرًا كذلك إلى المغرب ثم الصبح. فإذا كانت الصلوات المنسية المجهول رتبتها خمسًا فيكون عليه إحدى وعشرون صلاة لأنه تضرب الخمس في أقل منها بواحد. وذلك
__________
(1) على التعليلين جميعًا على ما نقلناه - ونقل ابن حارث.

(1/753)


خمس في أربع بعشرين. وتزيد الصلاة التي بدأت بها فيكون الجميع إحدى وعشرين صلاة. فإن كان مع ذلك شك في السفر والحضر على حسب ما قدمناه فيزيد مع كل صلاة تقصر صلاة سفر. ويكون التكرير في هذا على حسب ما تقتضيه الرتبة التي بيناها. وهذا على القول بأن ما لا يقصر لا يعاد إذا شك في يومه هل هو من السفر أو الحضر. وقد قدمنا في ذلك اختلافًا في المذهب. فإن قلنا بإعادته زاد تعداد الصلوات على ما رسمناه ولم يقصر الإعادة على ما تقصر خاصة.
وهذا إذا تدبروا حكم تصوره في الذهن، لم يصعب، وفرعت عليه ما شئت من المسائل بعد الآن إلى تعقب الأجوبة المتقدمة. فأما ما حكاه ابن حارث في السؤال الذي يصوره أنه يصلي أربع صلوات ظهرًا وعصرًا سفرية ثم ظهرًا سفرية ثم عصرًا حضرية فإنه ينحل من وجهين: أحدهما أنه يمكن أن يكونا جميعًا سفريتين. فالظهر مقدمة ولا يوجد في هذه الرتبة ظهر سفرية سابقة لعصر سفرية. والثاني أنه يمكن أن يكونا حضريتين والعصر مقدمة ولا يوجد في هذه الرتبة عصر حضرية سابقة لظهر سفرية. وأما من قال يصلي ست صلوات ظهرًا وعصرًا حضريتين ثم يصليهما سفريتين ثم يعيدهما كما بدأهما حضريتين وإن شاء بدأ بالسفر وختم به فإنه جواب صحيح على ما نقلناه نحن من المستخرجة.
وعلى ما يستقيم على ما نقله ابن الحارث عنها. لأنه إن بدأ بهما حضريتين وختم بمثل ذلك انحل عليه وجود عصر سفرية بعدها ظهر سفرية. وإن بدأ بهما سفريتين وختم بمثل ذلك، انحل عليه عصر حضرية بعدها ظهر سفرية. فكأنه إن بدأ بشيء انحل عليه وجود عكسه مع عكس الصلاتين في الحالين. وأما من قال يصلي ست صلوات ظهرًا حضرية ثم عصرًا سفرية ثم ظهرًا حضرية ثم عصرًا سفرية، فإنه صحيح على نقل الشيخ أبي محمَّد وتصويره السؤال على أنه إنما شك في عين أي الصلاتين صلاة سفر. وأما على ما صوره ابن الحرث من السؤال أنه شك هل هما جميعًا سفريتان أو حضريتان ونقله أنه يختم بالعصر سفرية. ثم الظهر حضرية، فإنه ينحل لعدم وجود ظهر سفرية بعدها عصر سفرية. وإن بنينا نقل ابن حرث السؤال على نقل الشيخ أبي محمَّد للجواب وهو عدم ظهر سفرية بعدها عصر سفرية. ومن هذا الباب لو أنه نسي صلاة

(1/754)


وتاليتها ولا يدري ما هما، فإنه يصلي الخمس صلوات على رتبتها في الشريعة. ويبدأ بالصبح ثم يعيدها إذا فرغ من الخمس صلوات التي تليها خاصة في هذه الرتبة، كيفما قدرت، وبإعادة الصبح يتحقق إتيانه بما نسي. لأنا نجوز أن تكون المنسية العتمة ثم الصبح. فلو لم يعد الصبح لم يتحقق براءة الذمة. ولو كان نسي صلاة وتاليتها ولا يدريهما أيضًا، فإنه يصلي ست صلوات يبدأ بالصبح ثم يمر بثالثيها وهي العصر. ثم الثالثة من هذه الثالثة وهي العشاء. ثم الثالثة من هذه الثالثة وهي الظهر. ثم الثانية من هذه الثالثة وهي المغرب. ثم يعيد الصبح. وإعادة الصبح ها هنا لما قلناه من جواز أن تكون المنسية، المغرب وثالثتها الصبح. فلولا الإعادة لم تتحقق براءة الذمة. ولو كان نسي صلاة ورابعتها فإن ما عليه ست صلوات أيضًا. الصبح ثم رابعتها وهي المغرب ثم رابعة الرابعة وهي الظهر. ثم رابعة رابعة هذه الرابعة وهي العشاء ثم رابعة هذه الرابعة وهي العصر ثم يعيد الصبح للمعنى الذي ذكرناه، لجواز أن تكون المنسية العصر. فلولا إعادة الصبح لم تتحقق براءة الذمة أيضًا. ولو كان نسي صلاة وخامستها فإنه يصلي أيضًا ست صلوات وليس عليه أكثر من هذا العدد ويعيد ما بدأ به فيصلي الصبح وخامستها وهي العشاء ثم خامسة هذه الخامسة وهي المغرب ثم خامسة هذه الخامسة وهي العصر ثم خامسة هذه الخامسة وهي الظهر. ثم يعيد الصبح للعلة التي ذكرناها. وهي لجواز أن تكون المنسية العشاء وخامستها الصبح فلولا الإعادة للصبح لم تتحقق براءة الذمة. ولو كان نسي صلاة وسادستها وحادية عشرها وسادسة عشرها على هذه السنة وهي أن تكون الصلاة الثانية بعد حصول الخمس فإنه يصلي عشر صلوات يصلي كل (1) * واحدة من الخمس ويعيدها فيصلي صبحين وظهرين وعصرين ومغربين وعشاءين. وإنما كان هذا كذلك لأنه إذا كانت الثانية بعد عدد له خمس كالسادسة والحادية عشر، والسادسة عشر فإن الصلاة الأولى مثل الثانية سواء.
والسادسة من الصبح صبح والسادسة من الظهر ظهر وكذلك الحادية عشر من الصبح صبح، ومن الظهر ظهر. فصار محصول السؤال أنه نسي صلاتين
__________
(1) هنا ينتهي النقص من نسخة -و-.
قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: لم أتبين موضع النجمة الأخرى

(1/755)


متماثلتين من يومين لا يدري عين الصلاة فإن عليه صلاة يومين. فإن نسي صلاة واحدة من يوم واحد عليه الصلوات الخمس. فإذا علم أنه نسي مثل تلك الصلاة من يوم آخر صار عليه صلاة يومين. وهذا واضح. وإنما ذكرنا هذه المسائل ليكد الطالب فيها فهمه فيكتسب من كده بفهمه فيها انتباهًا وتيقظًا فيما سواها من المعاني الفقهية وغيرها مما يطالعه. وفيما أوردناه منها كفاية.

قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: ومن فاته بعض الصلاة (1) قضى أولها كما فعل الإِمام.
قال الإِمام رحمه الله: يتعلق بهذا الفصل خمسة أسئلة. منها أن يقال:
1 - ما الدليل على أن المأموم يقضي كما فعل الإِمام؟.
2 - وهل الفذ يكون فيما بطل من صلاته قاضيًا كالمأموم أم لا؟.
3 - وما حكم المأموم إذا فاته شيء من صلاة الإِمام بعد دخونه فيها وهو بصقة من تُفكِنه الصلاة كالناعس والغافل؟.
4 - وما حكمه إن كان بصفة من لا تمكنه الصلاة كالراعف؟.
5 - وما حكمه إذا سبق إمامه بالفعل؟.

الجواب عن السؤال الأول: أن يقال: اختلف قول مالك فيما أدركه المسبوق من صلاة الإِمام هل هو أول صلاته أو آخرها؟ فروي عنه أنه أولها.
وبه قال الشافعي ومحمد بن الحسن. وروي عنه أنه آخرها وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف. قال القاضي أبو محمَّد في إشرافه وهو المشهور عن مالك.
وفائدة هذا الاختلاف النظر في الصفة التي يفعل المأموم، هل يفعل كما يفعل إمامه في أقواله وأفعاله، أو في القول الذي هو القراءة دون ما سواها من الأفعال التي هي قيام وقعود. أو يفعل على حكم نفسه غير ملتفت لفعل إمامه؟ فتنازع المتأخرون في تأويل هذا الاختلاف. فذهب جمهورهم: إلى أن المذهب لم يختلف في حكم قيام المأموم وقعوده أنه يفعله على مقتضى صلاة نفسه لو كان منفردًا لا على مقتضى ما فعله إمامه. وذهب بعض أشياخي إلى أن المذهب
__________
(1) الصلوات -غ-.

(1/756)


يختلف في حكم قيامه وقعوده، هل يعمل فيه على حكم نفسه لو كان منفردًا أو على فعل إمامه؟ فأما الجمهور فإنهم يستدلون بأجوبة المتقدمين من أصحاب مالك في آحاد مسائل سنذكرها في قضاء الراعف. وهي مشتملة على أنه وإن اعتبر في القراءة حكم إمامه، فإنه يعتبر في القيام والقعود حكم نفسه. ومن آكد ما يستدلون به من هذه المسائل قول مالك في المدونة: فيمن أدرك ركعة من الظهر أنه يأتي في أول قضائه بركعة يقرأ فيها بأم القرآن وسورة ويجلس؛ لأنها وسط صلاته. ثم بركعة أخرى يقرأ فيها بأم القرآن وسورة، ثم يقوم منها ولا يجلس لأنها ثالثته. فأنت ترى مالكًا كيف فرق في هذه الركعة الثالثة بين القراءة وبين القيام والقعود. فجعله في القراءة قاضيًا لأنها ثانية. وفي القيام بانيًا لأنها ثالثة المصلي. وقد قال الشيخ أبو محمَّد: لا خلاف بين مالك وأصحابه أن القاضي إنما يفترق من الباني في القراءة فقط لا في قيام أو جلوس. وإن كل مأموم فقاض. وكل فذ أو إمام فبان. وأما شيخنا هذا الذي ذهب إلى إجراء (1) القولين في القيام والقعود فإنه يحتج بعموم إطلاق ما نقل من الخلاف عن مالك، ولم يفصل الناقلون عنه القراءة من (2) القيام والقعود. ويحتج أيضًا بقول القاضي أبي محمَّد ها هنا أنه يقضي كما فعل الإِمام. وبقوله في موضع آخر: إن مقتضى القول إن الفائت هو أول الصلاة، أن يقضي من فاتته ركعتان من المغرب ركعتين لا جلوس بينهما. وينفصل عما تعلق به الآخرون من مسألة المدونة بأنه إنما أمره بان يقرأ في الثالثة بسورة مع أم القرآن وإن كان عنده بانيًا على حكم نفسه احتياطًا لأجل الاختلاف في ذلك. والذي قاله الأولون هو الصحيح. ومن تتبع أقاويل سلف المذهب ومسائلهم في هذا الباب علم أنهم لا يختلفون في القيام والقعود. ولم يرد ما رتب (3) عليه من ذلك بإطلاق القاضي أبي محمَّد ها هنا. وليس إطلاقه بأعظم من إطلاق مالك رحمه الله تعالى. وقد حمله بعض أصحابه على ما ذكرناه عنهم. وكذلك يجب أن يحمل إطلاق
__________
(1) أحد -ق-.
(2) بين -و-.
(3) ما وقف -و-.

(1/757)


أبي محمَّد ها هنا. وأما ما أشار إليه في صلاة المغرب فلا معتصم لشيخنا هذا فيه. لأنا لو سلمنا أن طريقة القاضي أبي محمَّد كطريقته، لكان ما أشرنا إليه من الروايات يرد عليه. فكيف ومن الممكن أن يكون القاضي أبو محمَّد إنما أراد بهذا مناقضة لمن ركب أحد القولين وتصحيحأ للقول بالبناء. وإن المُدرَك هو أول الصلاة، لا على أن ذلك قولًا قيل في المغرب. كيف وقد قيل (1) يجهر بالقراءة فيهما مع كونه يجلس بينهما ففرّق بين القراءة والجلوس. وتأويل مسألة المدونة بأنه فعل ذلك احتياطًا لا معنى له. لأنه قد يغلب عليه. فيقال ولعل الذي قاله في القراءة هو الأصل وإنما جلس في أول قضائه احتياطًا. وبالجملة فلا معني إخراجه الرواية عن ظاهرها بغير دليل يلجئ إلى ذلك وعلي هذا يعتمد فيها. لأنه قد يصح الاحتياط بزيادة سورة فلا يصح الاحتياط بالجلوس في غير موضعه. لأن الزيادة في القراءة لا تفسد الصلاة .. والجلوس تعمدًا في غير موضعه قد يفسد الصلاة. فإن قيل إذا صححتم طريقة من قال إن المذهب لا يختلف في القيام والقعود، فعلى ماذا تحملون الخلاف المنقول عن مالك. قيل المشهور من مذاهب الأشياخ أنه يحمل على حالين. فما روي عنه أن المدرك هو أول الصلاة فمحمول على اعتبار القيام والقعود على حكم نفسه.
وأما ما روي عنه أنه آخرها فمحمول على اعتبار القراءة على ما كان الإِمام يقرأ.
وأما مذهب شيخنا الذي قدمناه فإن الاختلاف عنده محمول على ظاهره في القيام والقعود وفي القراءة. وأظن أن بعض الأشياخ كان يميل إلى حمل الخلاف على القراءة خاصة دون القيام والقعود. فأما من يقول إن المدرك هو أول الصلاة، فإنه يحتج بقوله عليه السلام: "ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا" (2). والتمام إنما يكون بعد حصول الأول. وأما من يقول إن المدرك هو آخر الصلاة، فإنه يحتج بقوله: "ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا" (3). وهذا
__________
(1) قال إنه يجهر -ق-.
(2) تقدم تخريجه.
(3) البخاري في كتاب الأذان وما فاتكم فأتموا هكذا في رواية الزهري. ورواه ابن عيينة =

(1/758)


يقتضي أن المدرك هو آخر الصلاة. لأنه جعل الفائت يقضى. والقضاء يحل محل الأداء. ولو لم يفت وأدى لكان أولًا بإجماع. فإذا فات وعبر عنه بالقضاء، دل على أنه يفعل على أنه أول. ويؤكد هذا وصفه بالفوات. وذلك (1) يشير إلى أن الأول فات، فيؤدى على حسب ما فات. وقد تأولت كل طائفة خبر الأخرى. فمن تعلق بقوله: "وما فاتكم فأتموا" يحمل على قوله: "وما فاتكم فاقضوا". على أن المراد به فأدوا. وقد يكون القضاء بمعنى الأداء بدليل قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا} (2). ومعنى القضاء ها هنا الأداء لا خَلفُ ما فات. ويدفع عن هذا التأويل بأن الظاهر في الخبر أن يحمل القضاء على خلف ما فات. لأن ذكر الفوات قبل القضاء يشعر أن المراد به ما قلناه. وقوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ} ليست هناك صلاة فائتة. فلهذا لم تحمل الآية على خَلَف ما فات. وأيضًا فإن قوله: "فما أدركتم فاقضوا" أمر بالأداء. وقد قابله بقوله: "وما فاتكم فاقضوا". وهذه مقابلة تقتضي أن يكون القضاء ها هنا بخلاف الأداء. ومن تعلق بقوله: "وما فاتكم فاقضوا" يحمل على قوله: {فَأَتِمُّوا}. على أن المراد به الإكمال (3) الذي هو ضد النقصان. والإكمال (3) لا يقتضي أولأولا آخرًا. وقد يبتدأ الشيء من آخره فيكمل بأوله. ويبتدأ من أوله فيكمل من آخره. وتنازعت أيضًا الطائفتان طرق الاعتبار، فيحتج من يقول المدرك أول الصلاة، بأن التحريم أول الصلاة فيجب أن يكون الذي يليه أولها أيضًا. وجتج من يقول إنه آخرها بأن المدرك لو كان أول الصلاة لكانت نية المأموم ونية الإِمام يختلفان. لاعتقاد الإِمام أن ركعته آخر الصلاة. واعتقاد المأموم أنها أول الصلاة. وقد قال عليه السلام: "إنما جعل الإِمام ليؤتم به" (4).
__________
= فاقضوا. قال ابن حجر بعد أن تتبع الروايات والحاصل إن أكثر الروايات ورد بلفظ فاتموا. وأقلها بلفظ فاقضوا. فتح الباري ج 2 ص 259. وكذلك الترمذي. انظر العارضة ج 2 ص 124.
(1) وهذا -و-.
(2) سورة الجمعة، الآية: 10.
(3) الإتمام -ق-.
(4) البخاري. فتح الباري ج 2 ص 319 مسلم. إكمال الإكمال ج2 ص 168.

(1/759)


وقال: (فلا تختلفوا عليه). واختلاف هذين في هذا الاعتقاد ركوب لهذا النهي.
ولأن المدرك لسجدة يسجدها مع الإِمام ولا يعتد بها. فلو كان بانيًا على حكم تحريم نفسه لما صح أن يسجد ما لا يعتد به. وإنما سجد ما لا يعتد به لأنه بأن على حكم الإِمام.

والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: أما الفذ فإذا بطلت إحدى ركعات صلاته، مثل أن يذكر في آخر صلاته أنه نسي سجدة من الأولى. فإن المذهب على قولين. هل يكون في الركعة التي يأتي بها عوضًا عما بطل قاضيًا أو بانيًا؟ فقال ابن القاسم وغيره يكون بانيًا بخلاف المأموم. وقال أشهب وغيره يكون قاضيًا كالمأموم. فوجه ما ذهب إليه ابن القاسم أن الفذ لو كان قاضيًا فيما بطل حتى يجب أن يقرأ فيما يأتي به عوضًا عن الأولى بأم القرآن وسورة لأذى ذلك إلى عكس الترتيب. وأن يكون المفعول آخرًا هو المعتقد أولًا. وأن يكون المقروء في آخر الصلاة أم القرآن وسورة. وذلك خلاف للترتيب. وما أدى إلى خلاف الترتيب (1) فمعدول عنه. وإنما استخف في المأموم مخالفة هذه الرتبة مراعاة لرتبة أشد منها وهي المخالفة على الإِمام. فلو لم يعتقد فيما أدركه أنه آخر صلاته، والمفعول آخرًا أولهلالخالفت نيته نية الإِمام. ومخالفة الإِمام قد نهي عنها. ولما كان الفذ لا يتوقع في مخالفته الرتبة الوقوع في مخالفة في (2) رتبة أشد منها، بقي على الأصل الذي قلناه.
ووجه ما ذهب إليه أشهب أن الفذ لو كان بانيًا لأدّي أيضًا إلى فساد الرتبة من ناحية النية. بأن (3) تصير الركعة التي فعله ابن ية كونها ثانية أولى، وتصير الثالثة ثانية. وتبدّل نيات الركعات يؤثر في الاعتداد بها. ألا ترى قوله في المدونة في ناسي سجود الأولى وسجد للثانية ولم يركع لها إنه لا يجزيه ذلك عن سجود الأولى. لأنه إنما سجد بنية الثانية. فرأى أن نية الأركان قض من تبدلها.
__________
(1) الرتبة -ق-.
(2) في = ساقطة -ق-.
(3) من أن -ق-.

(1/760)


والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: إذا غُلب المأموم عن أن يفعل ركنًا من أركان الصلاة كالركوع والسجود، فهل يفعله بعد فراغ الإِمام منه أم لا؟ لا يخلو هذا الركن من أحد قسمين. إما أن يكون ركوعًا أو سجودًا. فإن كان ركوعًا وغلب على فعله قبل أن يشرع الإِمام نيه حتى فرغ منه الإِمام وفعله ورفع رأسه من ركوعه، فعنه في ذلك ثلاث رواييات. إحداها أنه يقضي ما فاته.
والثانية أنه لا يقضيه ويلغي تلك الركعة. والثالثة التفرقة بين أن يكون عقد ركعة أو لم يعقدها. فإن كانت هذه الغلبة في أول ركعة ألغاها. وإن كانت في ركعة ثانية (1) مما بعدها قضى ما فاته. فوجه القضاء أنه قد حصل مؤتمًا بالإمام وواجب عليه الاقتداء به. فإذا منع من الائتمام به، عاد إليه بعد زوال المانع. ولا يكون هذا ممنوعًا كما يمنع من قضاء ما فاته قبل الدخول حتى يفرغ من الصلاة. لأن هذا فاته ما لزمه أن يقتدي بإمامه فيه والآخر فاته ما لم يتوجه عليه الاقتداء به فيه. ووجه نفي القضاء فيه قياسًا على ما فات قبل دخوله في الصلاة. ووجه التفرقة بين الركعة الأولى وما بعدها أن من عقد ركعة حصل بها مدركًا للصلاة.
ومن أدرك الصلاة قضى ما فاته مع الإِمام وهو في الصلاة. ومن لم يدرك ركعة فدم يحصل له ما يبيح له القضاء قبل فراغ الإِمام (2). بل صار كمن فاته شيء قبل الدخول في الصلاة. وإذا وجب القضاء فإنه إنما يجب بشرط أن لا يفوته أن يفعل مع الإِمام ما هو آكد من تشاغله بالقضاء. واختلف في هذا الذي هو آكد، فقيل هو سجود الركعة التي غلب على ركوعها. وقيل بل هو عقد الركعة التي تليها. فوجه القول باعتبار السجود وهو المشهور أن السجود مجمع على كونه فرضًا وهو ركن من أركان الصلاة. فلا وجه لأن يتشاغل بقضاء ركن فات، حتى يفوته ركن آخر هو حال.
ووجه القول باعتبار عقد الركعة التي تليها أن الركعة وإن كانت مركبة من أجزاء مختلفة، فهي في حكم الشيء الواحد الذي لا يتعدد. فركوعها وسجودها كالشيء الواحد. فإذا دخل الفوات في بعضها لم يعتبر ذوات البعض الآخر
__________
(1) غير واضحة في -و-.
(2) الصلاة -ق-.

(1/761)


ها هنا. وإذا لم يعتبر فلا ركن بعد ذلك إلا الركعة التي تليها. والركعة التي تليها تشتمل على قراءة وركوع. والقراعة لا تجب على المأموم. فوجب اعتبار عقد الركعة. فإن قلنا باعتبار السجود، فهل تعتبر السجدتان جميعًا أم الأولى منهما؟ في ذلك قولان. المشهور منهما اعتبار السجدتين جميعًا لأن بهما تفرغ الركعة.
والثاني اعتبار السجدة الأولى لأنها ركن وفرض مجمع عليه، فوجبت مراعاتها ومحاذرة فواتها. وهذا القول ذكره ابن أبي زمنين عن بعض أشياخه (1). فقال معنى القول إنه يتبعه ما لم يرفع رأسه من سجودها: معناه السجدة الثانية. وقد سألت عنها أحمد بن عبد الله اللؤلئي ففسره لي كذلك. وذلك أن بعض أصحابنا خالفني فيها وقال يعني (2) السجدة الأولى.
وإذا قلنا باعتبار الركعة فما عَقْدُها ها هنا؟ المنصوص رفع الرأس منها.
ويتخرج على القول الآخر تمام الانحناء فيها. ومن شرط إجازة القضاء لمن غلب على الركعة (3) أن يمكنه بعد إحرامه فعلها مع الإِمام. فأما لو أحرم والإمام راكع فلم يمكنه الركوع حتى رفع الإِمام لأن الزمن الذي بين إحرامه ورفع الإِمام لا يحمل الركوع، فإنه لا يقضي هذا الركوع. وقد فاتته الركعة من غير خلاف في المذهب. ومن شرط الركعة الحائلة أيضًا بينه وبين قضاء ما فاته أن يكون فيها متمكنًا من متابعة الإِمام تصح مخاطبته بذلك.
وأما لو نعس عن ركوع الإِمام وتمادى نعاسه إلى أن عقد ركعة أخرى، فإنه لا يمنعه ذلك من إصلاح أول ما نعس فيه من الركعات. لأنه غير مخاطب حال نعاسه في الركعة الثانية بمتابعة الإِمام فيها. وإن كان هذا الركن المغلوب عليه سجودًا فإنه يتبع الإِمام ما لم يعقد الركعة التي تليها بأن يرفع رأسه منها.
قاله في المدونة في المزاحم في صلاة الجمعة عن سجود الأولى أنه يتبعه ما لم يرفع رأسه من التي تليها وعلى القول بان عَقْد الركعة تمام الانحناء يتبعه ما لم يتم انحناؤه ويُكمل ركوعه. ولو اعترته هذه الغلبة وهو في ركوعه لم يرفع رأسه
__________
(1) أصحا به -ق-.
(2) يعني ساقطة -ق-.
(3) على الركعة منها -و-.

(1/762)


فإنه يؤخذ حكمه مما قدمناه. فإن قلنا أن عقد الركعة رفع الرأس منها، صار هذا كالمغلوب قبل أن يركع الإِمام. وقد تقدم حكمه. وإن قلنا أن الركعة تنعقد بتمام الانحناء فهو كالمغلوب بعد رفع الإِمام رأسه يتبع الإِمام ما لم يعقد التي تليها. والغلبة المعتبرة في هذا: النعاس والغفلة.
وأما المزاحمة ففيها قولان. أحدهما: وهو مذهب ابن القاسم أنها بخلافهما لا يباح معها قضاء ما فات من الركوع. لأن الزحام فعل آدمي يمكن التحرز منه. فعد المزاحَم عن الركوع مقصرًا، فيلغي تلك الركعة. والناعس والغافل مغلوبان بفعل الله تعالى لا صنع للخلق فيه فعذرا. والثاني وهو مذهب أشهب وابن وهب وعبد الملك أنها مثلهما يباح معها قضاء ما فات. قال عبد الملك المزاحم أعذر لأنه مغلوب.

والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: أما الراعف إذا رعف بعد أن عقد مع الإِمام ركعة فخرج لغسل الدم ثم رجع فوجد الإِمام قد صلى بعده ركعة، فإنه لا يتشاغل بقضائها. بل يدخل مع الإِمام بما هو فيه. فإذا فرغ من صلاة الإِمام قضى ما فاته معه. وقد يقع في النفس أن منع مالك رحمه الله للراعف أن يقضي ما فاته قبل فراغ صلاة الإِمام يشير إلى خلاف ما كنا قدناه من أن الناعس إذا تمادى نعاسمعتى عقدت عليه ركعة ثانية، فإنها لا تحول بينه وبين إصلاح ما نعس فيه أولًا لما كان غير مخاطب باتباع الإِمام في حال نعاسه. وهذا الذي قلناه في الناعس مما اختاره بعض أشياخي. وقد يفرق بين الناعس والراعف، أن الراعف خرج من الصلاة وفارق الإِمام. وإنما رخص له في العودة إلى الصلاة *بعد الخروج منهالأمر سنذكره في موضعه. فصار ما فعله الإِمام وهو مفارق له خارجًا عن صلاته، كما فعله* (1) قبل أن يدخل معه في الصلاة. فلما كان لا يقضي المسبوق ما فاته قبل دخوله في الصلاة، فكذلك الراعف لا يقضي ما فاته بعد خروجه من الصلاة. لأن الإِمام فعل ما فعل والمسبوق والراعف خارجان عن صلاته. والناعس لم يخرج عن صلاته ولا معه ما يمنعه من متابعة الإِمام من ناحية الشرع. والراعف لو حاول متابعة الإِمام قبل غسل الدم لمنع من
__________
(1) هو في -و-.

(1/763)


ذلك من ناحية الشرع. مع أن الراعف، الغالب عليه أن تفوته أركان كثيرة من الصلاة لا يمكن قضاؤها وإدراك الإِمام. والغالب في الناعس أنه إنما تفوته أركان يسيرة يمكنه فعلها وإدراك الإِمام. إذ لو نام نومًا طويلًا لانتقضت طهارته. فهذا أقصى ما يمكن أن يفرق به بين الناعس والراعف فيما قبناه. وهذا الراعف إذا قضى ما فاته، فإنه (1) يقرأ فيه بما كان الإِمام يقرأ فيه. وقد يجتمع على الراعف خطاب بقضاء وبناء، بان يفوته شيء قبل الدخول في الصلاة فيوصف فعله فيه بأنه قضاء، وبعد دخوله فيها فيوصف فعله فيها بأنه بناء، فاختلف بأيهما يبدأ: فقيل بالبناء وإليه ذهب ابن القاسم وقيل بالقضاء وإليه ذهب سحنون. ومئال ذلك أن يصلي الراعف الركعة الثانية لا أكثر، أو الثالثة لا أكثر، أو إياهما جميعًا لا أكثر. فإن قلنا بتقدمة البناء قرأ في أول ما يأتي به بأم القرآن لا أكثر حتى يفرغ مما عليه من أفعال البناء. لأنه إنما يتصور البناء ها هنا في الركعتين الأخيرتين من الصلاة أو إحداهما. وإن قلنا بتقدمة القضاء قرأ على حسب قراءة الإِمام فيما سبقه به ثم يعود بعده إلى البناء. واختلف القائلون بالبناء إذا فرغ منه وصادف فراغه منه موضع قيام على عدد ركعاته هل يقوم مراعاة لمقتضى صلاته لو انفرد أو يجلس لأن القضاء لا يقام إليه إلا من جلوس؟ فقال ابن حبيب لا يجلس. وكأنه رأى أنه إنما جلس من عليه قضاء مع الإِمام لئلا يخالفه. فإذا لم يكن إمام يحاذر مخالفته بني في القيام والقعود على حكم نفسه على ما ذكرنا أنه أصل المذهب. وقال ابن القاسم بل يجلس وكأنه رأى أنه لما كانت رتبة القضاء ألا يقام إليه إلا من جلوس، أمر هذا بالجلوس، وإن لم يكن في موضعه مراعاة لهذه الرتبة. وهكذا اختلف المذهب فيمن ليس عليه بناء وقام إلى القضاء وكان قيامه من جلوس لم يقع في موضعه لو كان فذا كمدرك ركعة أو ثلاث. فالمشهور أنه يقوم بغير تكبير؛ لأن جلوسه مع الإِمام إنما كان محاذرة للمخالفة. فهو كالعدم فقدرت تكبيرته عند رفع رأسه من السجود كأنها مقارنة لقيامه للقضاء. وقيل يقوم بتكبير. وكأن هذا قدر أن
__________
(1) فإنه = ساقطة -و-.

(1/764)


الجلوس فاصل بين تكبيره وقيامه، فلا بد أن يأتي بتكبير لافتتاح القيام. وقدّر أن التكبير في الوتر من الركعات لرفع الرأس من السجود لا للقيام، وقد فعله.
ولو كان جلوسه في موضع الجلوس لاتفق على أنه يقوم بتكبير. وما ذكرناه من اختلاف القائلين بالبناء في الجلوس يتصور فيمن أدرك الثانية والثالثة لا أكثر، ثم أتى بعد غسل الدم بالرابعة. فهي رابعة إمامه فيجلس فيها عند ابن القاسم ليقوم للقضاء من جلوس. ولا يجلس عند ابن حبيب؛ لأنها ثالثته (1). وكذلك لو أدرك الثانية لا أكثر، كان بانيًا في ركعتين يجلس في الأولى منهما لأنها ثانيته، ويختلف في الثالثة منهما على ما تقدم. ولو كان مدركًا للثالثة لا أكثر لارتفع الخلاف ها هنا إذا أتى بالرابعة؛ لأنها موضع جلوس لإمامه وله لو انفرد.
فوجه البداية بالبناء أن المسبوق لو لم يرعف لأتى ببقية الصلاة قبل قضاء ما سُبق به. فإذا رعف في بقية الصلاة بقيت هذه الرتبة في استحقاق النية المتقدمة على ما فات على حاله لا تتغير. ووجه القول بتقدمة القضاء، أن الأصل تقدمته لأنه أول الصلاة. وإنما آخره المسبوق إلى الفراغ لئلا يخالف الإِمام ويقع في صلاتين معًا ويكون شغله بقضاء ما سُبق يمنعه من فعل ما لحق. فإذا زالت هذه العلل عادت الرتبة لأصلها. وقد أشار (2) إلى هذا سحنون فقال: إنما كان يبني أولًا قبل القضاء اتباعًالإمامه. وهذا الذي صورناه في اجتماع (3) القضاء والبناء في الراعف يتصور في حاضر أدرك من صلاة مسافر ركعة فإنه ما فاته يعد قضاء وما يكمله من صلاة الحاضرة يعد بناءً. وقد كنا قدمنا أن في مسائل الراعف ما يشير إلى صحة ما قاله الجمهور من الأشياخ أن القيام والقعود لا يختلف المذهب فيهما. فمن ذلك قول ابن القاسم فيمن أدرك الثانية من الظهر بسجدتيها ثم رعف فخرج لغسل الدم، فإذا الإِمام قد فرغ، أنه يبني ثم يقضي يأتي بركعة بأم القرآن ويجلس لأنها ثانيته ثم يأتي بأخرى بأم القرآن ويجلس كما كان يفعل إمامه ثم يأتي بركعة القضاء بأم القرآن وسورة. وهكذا فرع مسائل الراعف من
__________
(1) ثالثة -ق-.
(2) ذهب -ق-.
(3) من اجتماع -ق-.

(1/765)


قدمنا قوله من الأشياخ أن المذهب يختلف في القيام والقعود وجرى في تعريفه على أن القيام والقعود يراعى فيه حكم نفسه غير معرج على إشارة للخلاف فيه.
فهذا الراعف *المدرك للثانية من الظهر، جعله يجلس في ثانيتها وإن كان الإِمام لا يجلس في ثانيتها، فلم يعتبر فعل الإِمام. وقد لا يتضح الفرقان بين نفي اعتباره ها هنا واعتبار فعله مما (1) سواه من ليس براعف. وقد يتعلق ها هنا بأمر ابن القاسم له* (2) بالجلوس في رابعة الإِمام وإن كانت ليست بموضع جلوس.
وقد كنا قدمنا الاعتذار عن هذا. ووجهنا أمره بالجلوس. ولما كانت صلاة الظهر يستغرب الجلوس فيها إلا مرتين كثر في الأولى (3) امتحان الخواطر. فإن قيل كيف يتصور صلاة ظهر يجلس في الأربع ركعات كلها. ومسألة ابن القاسم هذه فيها (4) يجاوب عن ذلك؛ لأن مدرك الثانية من الظهر جلس فيها متابعة للإمام، فلما عاد بعد غسله الدم وقد فرغ الإِمام من الصلاة جلس في أول ما يقضيه لأنها ثانية، وفي الثاني مما يقضيه لأنها رابعة الإِمام ولا يقوم للقضاء إلا من جلوس. وجلس في ركعة القضاء لأنها آخر صلاته فقد صارت صلاة الظهر كلها جلوسًا.

والجواب عن السؤال الخاص: أن يقال: المأموم حكمه أن يتابع إمامه ويقتدي به في أفعاله لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " "إنما جعل الإِمام ليؤتم به" (5). والائتمام يقتضي أن تكون أفعال المأموم بعد أفعال الإِمام، إذ السابق له غير مؤتم به.
وقد قال عليه السلام: "أيها الناس إني إمامكم فلا تسبقوني بالركوع ولا بالقيام ولا بالانصراف" (6). وكذلك فاعل الفعل مع إمامه معًا، لا تحصل له حقيقة الائتمام لأن الفعلين إذا وجدا في زمن واحد فليس أحدهما بأن يقال فيه هو تبع للآخر أولى من الآخر بأن يقال ذلك فيه. فأما مسابقة الإِمام فلا شك في منعها.
__________
(1) فيما يساويه -ق-.
(2) ما بين النجمين ممحو - ز-.
(3) الأولى = سا قطة -ق-.
(4) بها -ق-.
(5) تقدم تخريجه.
(6) رواه مسلم. إكمال الإكمال ج 2 ص 179 كما رواه النسائي.

(1/766)


فإن فعل وسبقه بأن يركع ويرفع ساهيًا قبل إمامه فذلك ملغى غير معتد به.
وعليه متابعة الإِمام فيما يفعله بعد ذلك من الركوع، وإن لم يرفع رأسه من ركوعه حتى حصل الإِمام راكعأولكنه رفع قبله فإنه إن كان (1) لم يتابع الإِمام في حال ركوعه بمقدار الفرض من الركوع فحكمه حكم من رفع قبل ركوع إمامه، فإن كان قد تابع الإِمام في حال ركوعه بمقدار الفرض فركوعه معتد به لحصول متابعة الإِمام بمقدار الفرض. فإذا حصل الركوع معتدًا به وخالف في الرفع قبل إمامه، فإن علم أنه يقدر على أن يعود للركوع ليتابع الإِمام في الرفع فعل ذلك.
لأن المتابعة مأمور بها ولم يفت محلها. فتركه العود للمتابعة مع القدرة عليها مخالفة على الإِمام. وإن علم إن عاد لا يدركه راكعأولا يقدر على متابعته في الرفع فهل عليه أن يعود أم لا؟ فيه قولان: أحدهما أنه لا يعود وإليه ذهب مالك وأشهب. والثاني أنه يعود وإليه ذهب سحنون، وأمره إذا عاد أن يبقى بعد الإِمام
بقدر ما انفرد الإِمام به بعده.
فوجه قول مالك إنه قد خالف الإِمام فيما انتقل عنه الإِمام فلا يتلافى هذه المخالفة بمخالفته فيما عليه الإِمام الآن. فلما كان تلافي المخالفة لا يمكن إلا بمخالفة لم يأمره مالك بذلك.
ووجه قول سحنون أنه يجب أن يعود للمتابعة وإن أدى ذلك إلى مخالفة في الحال كما فعل ذلك من فاته بعض الركعة مع الإِمام فإنه يفعله وإن خالف الإِمام في الحال، لا سيما إن (2) قلنا بأن الرفع من الركوع فرض، ولكن ليس في هذا التوجيه ما يقتضي أمر المأموم بلبث ما انفرد الإِمام دونه. لأن الغرض تلافي ما خالف فيه الإِمام من المتابعة. وذلك يحصل بالعودة والرفع بعده من غير مراعاة لبث (3).
ويمكن عندي أن يكون وجه اللبث أن مقدار ما انفرد به الإِمام بلبثه قد كان مما يؤمر المأموم فيه بمتابعة الإِمام. فالعودة وإن لم تكن لأجله فإنها إذا
__________
(1) وإن كان -ق-.
(2) بأن -و-.
(3) اللبث -ق-.

(1/767)


وجبت وجب أن تعود المتابعة على حسب ما كانت. وقد كان مقدار ما انفرد الإِمام به مما تجب المتابعة فيه. وقد قال مالك فيمن ظن أن الإِمام قد رفع رأسه فرفع هو رأسه فإذا الإِمام لم يرفع، فإنه يرجع فيسجد ثم يرفع برفع الإِمام ولا يتخلف عنه إلا أن يكون لم يتم السجدة فليتمها. فأمره ها هنا بأن لا يتخلف ولم يعتبر مقدار ما فاته من سجود الإِمام حال تشاغله بالرفع فيامره أن يتخلف بقدره. ويمكن عندي أن يكون إنما لم يأمره ها هنا بالتخلف لأجل أن في التخلف مخالفة الإِمام في الرفع، والرفع فرض مقصود. فلا تصح مخالفة الإِمام فيه في الحال لزيادة لبث في هذه السجدة على مقدار الفرض وقد فات. فهذا حكم الرفع قبل الإِمام.
فأما الخفض قبله لركوع أو سجود فإنه إن قام بعد ركوع الإِمام راكعًا (1) أو بعد سجوده ساجدًا مقدار فرضه صحت صلاته. وإن كان قد أخطأ في سبقه الإِمام وإن لم يقم بعد ركوع الإِمام وسجوده مقدار فرضه لم يصح ركوعه ولا سجوده، وعليه أن يرجع لاتباع الإِمام بالركوع والسجود على حسب الواجب، وقد تقدم في تفاصيل الكلام بيانه. وقد روي عن مالك أنه قيل له فيمن سبق الإِمام بالسجود ثم سجد الإِمام وهو ساجد فهل يثبت على سجوده أم يرفع رأسه ثم يسجد؟ فقال يسجد كما هو إذا أدركه الإِمام بسجوده وهو ساجد. وقد اختلفت إشارات المتأخرين في هذا الأصل فأشار بعضهم إلى أنه لا يختلف في هذا الذي قاله مالك من بقائه ساجدًا ولا يرفع ليسجد بعد الإِمام. وذكر أنه لم يختلف المذهب في أن الخفض للركوع والسجود مقصود وإنما المقصود الركوع والسجود. وأشار إلى أن الإتفاق للمذهب على كونه غير مقصود يمنع من إجراء الخلاف في رفعه ليخفض بعد إمامه.
وأشار بعض أشياخي إلى أن إجراء الخلاف فيه مما ذكرناه من الرفع قبل الإِمام؛ لأن الغرض حصول المتابعة في الرفع فكذلك في الخفض. وقد قال مالك في الأعمى يخالف إمامه في فعله إن كان ركوعه وسجوده قبل الإِمام فليستأنف الصلاة دان كان بعد ركوع الإِمام وسجوده بقليل فلا بأس به.
__________
(1) ر اكعًا = سا قطة -و-.

(1/768)


ومحمل قوله إذا ركع قبل الإِمام أو سجد قبله على أنه فعل الركوع والرفع منه قبل أن يركع الإِمام أو السجود والرفع منه قبل أن يسجد الإِمام. فأما لو ركع قبله أو سجد قبله وبقي راكعًا أو ساجدًا حتى ركع الإِمام أو سجد لكان حكمه على التفصيل الذي قدمناه فيمن فعل ذلك سهوًا أو غلطًا. وأما قوله إن فعل ذلك بعد الإِمام بقليل فلا بأس به. فلا معنى لاشتراطه القرب. بل حكمه حكم الناعس والغافل يقضي ما فاته به الإِمام إذا ركع الإِمام ورفع قبل أن يركع، أو يسجد ورفع قبل أن يسجد ما لم يمنع من قضاء ما فات من ذلك مانع قد ذكرناه في مسألة الناعس، إلا أن يريد مالك أن الأعمى يمكنه التحرز من مخالفة الإِمام فيصير كتعمد الفوات فإن هذا يمنع من قضاء ما فات إذا بعد. فهذا صحيح فيما بعد. ولكنه يلزم عليه منع قضاء ما قرب إذا صار كالمتعمد لأن يفوته الركوع والرفع منه. وهذا حكم المسابقة في الأفعال.
وأما المسابقة في الأقوال فإن الأقوال على قسمين.: فضائل وفرائض. فأما الفضائل فإنه ينهى عن تقدم الإِمام فيها فإن تقدمه فيها لم تفسد الصلاة لأن تركها مما لا يفسد الصلاة، ففعلها قبل الإِمام كالترك لها. وأما الفرائض كالإحرام والسلام فإن تقدم الإِمام في أحدهما عمدًا لم يعتد بصلاته. وإن تقدمه سهوًا لم يعتد بها في الإحرام؛ لأنه عقد صلاته غير مؤتم. واعتد بها في السلام، وحمله عنه الإِمام كما يحمل عنه سهو الكلام. فهذا حكم مسابقة الإِمام في الأفعال والأقوال.
وأما تأخره عنه بأن يدخل في الفعل بعد خروج الإِمام عنه فإن تعمد هذا ممنوع. وأما فعله مع الإِمام معًا، فلا خلاف في الإحرام والسلام والقيام من اثنتين في أنه لا يفعل ذلك مع الإِمام معًا. وأما ما سوى ذلك من الركوع والسجود والتكبير ففيه قولان: أحدهما وهو الأظهر أنه لا يفعل ذلك إلا بعده، فلا يركع حتى يراه راكعًا ولا يسجد حتى يراه ساجدًا لقوله عليه السلام: "إذا ركع فاركعوا" (1). والفاء هنا للتعقيب والثاني أن له أن يفعل ذلك معه. وروي
__________
(1) تقدم تخريجه. حديث إنما جعل الإِمام ليؤتم به.

(1/769)


ذلك عن مالك ولا وجه له فإن تقارن فعل الإِمام والمأموم فأَما الإحرام والسلام ففيهما قولان: أحدهما أنه يعيد الإحرام، فإن لم يفعله أجزأته صلاته *والثاني أنه لا يعتد بذلك الإحرام المفعول مع الإِمام ولا تجزيه صلاته ويعيدها أبدًا* (1). وقد قدمنا فيما سلف ذكر الخلاف في هذه المسألة. وقول محمَّد بن عبد الحكم إذا لم يسبق الإِمام بشيء من حروف التكبير لم تُجْز المأموم صلاته.
وأما الركوع والسجود فإن فعل الإِمام منه أكثر من مقدار الفرض صحت صلاة المأموم لأنه قد اتبع الإِمام في مقدار الفرض وفيما يقع عليه اسم ركوع وسجود، وهذا بخلاف تكبيرة الإحرام على القول بمنع الاعتداد بالصلاة. لأن الركوع والسجود يدوم ويتكرر منه مقدار الفرض، وما يقع عليه اسم ركوع.
وتكبيرة الإحرام لا تكرر فيها وهي فرض واحد لا يتبعض ولا يقع عليه اسم (2) تكبير. وإن كان الإِمام لم يأت من الركوع إلا بمقدار الفرض فقد أجراه بعض المتأخرين على الاختلاف في تكبيرة الإحرام إذا وقعت مقارنة لإحرام الإِمام لما لم يحصل ها هنا من المأموم متابعة كما لم تحصل في تكبيرة الإحرام. وقد حصلت المتابعة لامام إذا زاد على مقدار الفرض والاقتداء به فيما يسمى ركوعًا وسجودًا فلهذا لم تجر على تكبيرة الإحرام.
__________
(1) ما بين النجمين = ساقطة -و-.
(2) ولا يقع على إجزائها تكبير -و-.

(1/770)


النوافل

قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: والنوافل ضربان: منها ما له وقت مرتب وهو ما لا سبب (1) له سوى وقته، ومنها ما يتعلق بسبب فهو تابع له لا يتعلق (2) بالوقت. ومنها مبتدأ لا سبب له. فالمتعلق بالأوقات منها صلاة العيدين والوتر وركعتا الفجر. والمتعلق (3) بسبب: صلاة الكسوف والاستسقاء وسجود القرآن وتحية المسجد، والركوع عند الإحرام وركوع الطواف. ويلحق بالأول قيام شهر رمضان، وقيام الليل والركوع قبل العصر وبعد المغرب. فأما صلاة العيدين والكسوف والاستسقاء فتذكر في مواضعها.
قال الإِمام رضي الله عنه: هذا الفصل نتكلم على ما يتعلق به عند تفصيل القاضي أبي محمَّد الكلام على ما أجمل فيه لكنه قد وقع في كلامه هذا ما يسبق إلى النفس إنكاره. وذلك أنه حصر التقسيم بعدد جعله كالجنس له، ثم نوعه وفسره بما هو أكثر من ذلك العدد. فقال: والنوافل ضربان: منها ما له وقت مرتب، ومنها ما يتعلق بسبب، ومنها مبتدأ لا سبب له فأتى بثلاثة بعد أن ذكر أنها اثنان ولعله رحمه الله لما ذكر في تصير المتعلق بالأوقات العيدين والوتر مما قد يظن به أن له سببًا وهي (4) صلاة العشاء أعاد في القسم الثالث ذى ما أشار إليه في الأول بلفظ مقابل للقسم الثاني مقابلة تضادد وعكس حتى ينبه على أن من النوافل ما ابتدىء ابتداء بغير سبب كالعيدين فإنها يعلم أنها شرعت غير
__________
(1) سبيل -غ-.
(2) ولا -الغاني-.
(3) وما يتعلق بسبب فصلاه - غ - ق -.
(4) وهو -ق-.

(1/771)


متعلقة بسبب يزول بزواله بخلاف صلاة الكسوف المتعلقة بسبب لا يثبت إلا عنده فكأن حرصه على البيان أوقعه في هذا الذي قد يستدرك عليه في هذا التقسيم. ولو أورده على غير هذه الرتبة لكان أشبه بعلو منصبه في تحقيق المعاني والبلاغة في إيرادها. وقد أورد هذا المعنى في أول كتاب الصلاة على غير هذه الرتبة فقال السنة على ضربين: سنة مبتدأة إما لأوقات وإما لأسباب تفعل عندها. وسنة مشترطة في عبادة غيرها. وفسر الأول بالوتر والعيدين والكسوف والاستسقاء وفسر الثاني بركوع الإحرام والطواف. فأنت تراه كيف جمع الوتر مع الكسوف وجمعها مع العيدين اللذين لا إشك الذي أنهما من غير سبب. وعد ها هنا أيضًا ركوع الطواف فيما هو مشترط في عبادة، وعده في الفصل الذي نتكلم عليه فيما يتعلق بسبب. والشيء قد يكون له وصفان، فيعد تارة بأحد وصفيه في نوع. ويعد تارة أخرى بوصفه الآخر في نوع آخر. ثم قال ها هنا ويلحق بالأول قيام رمضان وقيام الليل والركوع قبل العصر وبعد المغرب.
وكان من حق هذا المستلحق أن يعد غير ملحق لأنه نافلة معلقة بوقت. ولكنه لما قصر المندوب إليه عن رتبة ما مثل به القسم الأول لأنه لم يقل فيه أحد أنه سنة، جعله ملحقًا ليشعر بذلك انخفاض رتبته في النوافل عن رتبة ما قبله، وأنه غير معدود معها في الرتبة. وذكر قيام رمضان مع ذكره قيام الليل وإن كان قيام رمضان داخلًا في قيام الليل، والتداخل في التقسيم عيب. لينبه أيضًا على ارتفاع رتبة قيام ليل رمضان علي ليل ما سواه مما لم يرد الشرع بإلحاقه برمضان. وذكر الركوع قبل العصر وبعد المغرب ما لتأكدهما عنده علي غيرهما من النوافل. ولقد عد ابن الجلاب الركوع بعد المغرب من السنن وهذا لتاكده. وقد كنا أوردنا فيما سلف من الأحاديث ما يقتضي فضيلة الركوع قبل العصر.
وذكر القاضي أبو محمَّد في هذا الفصل ركعتي الفجر. وقد كنا قدمنا الكلام على الاختلاف فيهما، هل هما من الرغائب كما قال مالك أو من السنن كما قال أشهب؟ قال بعض المتأخرين رأى أشهب أن السنن كل ما قدّر ولم يكن للمكلف الزيادة فيه بحكم التسمية المختصة به. وركعتا الفجر من ذلك أنها (1) ما فعله عليه السلام
__________
(1) يظهر أن في الكلام نقصًا.

(1/772)


في الجماعات وتكرر. وركعتا الفجر ليستا من ذلك. ويستحب مالك الاقتصار فيهما على أم القرآن والإسرار لقول عائشة رضي الله عنهما: إني لأقول أقرأ فيهما بأم القرآن أم لا؟ ولو سمعت ما قدرت (1). ولأنها مع صلاة الصبح في صورة الصلاة الرباعية وركعتان من الرباعية تسر قراءتهما ويقتصر فيهما على أم القرآن. ولمالك في مختصر ابن شعبان يقرأ فيهما بسورتين من قصار المفصل. وثبت أنه عليه السلام قرأ فيهما بـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ}. وروي أنه قرأ في الأولى {قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} (2) الآية. وفي الثانية {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} الآية.
ومن أتى المسجد بعد أن ركع الفجر في بيته (3) فاختلف قول مالك هل يركع أم لا؟ فأشار ابن الحرث إلى أنه اختلاف قول في إعادتهما. وعقب نقله اختلاف قول مالك بقول سحنون ليس عليه أن يعيدهما. وإلى هذا مال بعض المتأخرين من أهل العصر. وأنكر ذلك بعض الأشياخ وحمل الاختلاف على الاختلاف في تحية المسجد وإليه ذهب أبو عمران. واعتل بان مالكًا عورض بقوله عليه السلام: لا صلاة بعد الفجر إلا ركعتي الفجر (4). فانفصلَ (5) بحديث تحية المسجد. وهو أثبت مما عورض به.
ولو لم يركع الداخل المسجد للفجر في بيته فقال الشيخ أبو الحسن بن القابسي يركع للتحية ثم يركع للفجر وقال أبو عمران إذا ركعهما للفج رنا با له عن التحية كما تنوب صلاة الفريضة. وأشار إلى ضعف قول أبي الحسن. قال بعض أشياخي: أما على قول مالك فيمن ركع للفجر أنه لا يحيي المسجد فإن هذا يقتصر على ركعتي الفجر. وأما على قوله الآخر فهو بالخيار بالاقتصار على
__________
(1) رواه مالك في الموطإ.
(2) سورة البقرة، آية 136.
(3) وقد ركع في بيته الفجر.
(4) رواه الترمذي. العارضة ج 4 ص 211: لا صلاة بعد الفجر إلا سجدتين. علق عليه القاضي بأنه حديث غريب ورواه البيهقي: لا صلاة بعد الفجر إلا ركعتي الفجر. بطرق عديدة. السنن ج 2.
(5) ففصل -و-.

(1/773)


ركعتي الفجر لكونهما تنوبان عن التحية أو يصلي التحية ثم ركعتي الفجر. قال وهذا يرجع إلى الخلاف في التنفل بعد الفجر. فمن أجازه ركع للتحية وتنفل بما أحب. وقد قال مالك لا بأس أن يصلي بعد الفجر ست ركعات وأجاز صلاة الحزب لمن فاته. وإنما كرهه ابتداءًا حماية. فللفذ أن يتنفل بما شاء إذا تأخرت إقامة الصلاة. ومن أقيمت عليه الصلاة وهو بالمسجد ولم يركع للفجر فليصل مع الإِمام ويترك ركعتي الفجر لقوله عليه السلام: إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة (1). وإنكاره عليه السلام على المصلي (2) عند إقامة الصلاة بقوله: أصلاتان معًا؟ (3) فكان عمر رضي الله عنه يضرب على الصلاة (4) بعد الإقامة.
وخالف ابن مسعود فكان يصليهما والإمام يصلي. ودخل ابن عمر المسجد والناس في الصلاة فدخل بيت حفصة فصلى ركعتين ثم خرج. .. (5) وقال ابن الجلاب يخرج من المسجد ويركعهما إذا كان الوقت واسعًا ولم يعتبر ما في الخروج من أذى الإِمام. وأما إن كان لم يدخل المسجد فإن قدر على صلاتهما خارجًا منه وإدراك ركعتي الفرض صلاهما. وإن كان إن تشاغل بهما فاته الركوع مع الإِمام فليتركهما. وروي عن مالك رواية أخرى أنه يصليهما ما لم يخف ذوات الصلاة. وبه قال أبو حنيفة. وراعى الأوزاعي وسعيد ابن عبد العزيز ذوات الركعة الآخرة أيضًا لكنهما قالا إذا لم يخش فواتها (6) وكان في المسجد أنه يركعهما في ناحية من المسجد. ومن صلى الصبح ولم يركع للفج رنا سيًا فله أن يركعهما بعد طلوع الشمس. قال الأبهري يكونان تطوعًا لا ركعتي الفجر.
قال بعض المتأخرين إنما صلاهما بعد طلوع الشمس لأنه (7) لم يحل بينه وبين فعلهما صلاة فرض. قال ومقتضى هذا أنه يصليهما ما لم يصل الظهر. وقال
__________
(1) رواه أحمد ومسلم والأربعة من حديث أبي هريرة. الهداية ج 4 ص 169.
(2) على المصلي = ساقطة -و-.
(3) رواه مالك مرسلًا. الموطأ ص 99 حديث رقم 31.
(4) على صلاة -و-.
(5) هو -و-.
(6) فواتهما -و-.
(7) لأنهما -و-.

(1/774)


الشافعي يمتد وقتهما إلى الزوال. وحكى بعض أصحابنا عن مالك أنه لا يصليهما بعد الزوال. وقال بعض أصحاب الشافعي يمتد وقتهما إلى طلوع الشمس. وقال أبو حنيفة إن أحب قضاهما عند ارتفاع الشمس. وقد كنا قدمنا في باب الصلاة المنسية حكم صلاتهما لمن نسي الصبح حتى طلعت الشمس وإنما أوردنا الكلام على ركعتي الفجر على خلاف رتبتنا في تعديل المسائل إجمالًا ثم الشروع في الجواب بعد ذكر جميعها لأن القاضي أبا محمَّد لم يقصد الكلام على حكمهما وإنما ذكرهما ها هنا متمثلًا بهما. فلهذا عدلنا عن الرتبة فيها.

قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله تعالى: وأما الوتر فسنة بعد العشاء الآخرة وهو ركعة بعد شفع منفصلة عنه.

قال الشيخ رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل عشرة أسئلة. منها أن يقال:
1 - هل الوتر واجب أم لا؟.
2 - وما عدده واحدة، أو ثلاث؟.
3 - وهل من شرطه أن يكون متصلًا بشفع أم لا؟.
4 - وهل يعاد إذا أعيد التنفل أم لا؟.
5 - وهل من شرطه أن ينوي عدده؟.
6 - وما حكم السهو في عدده والشك فيه؟.
7 - وما حكم مدرك ركعة مع الإِمام من الشفع؟
8 - وما وقته؟.
9 - وما قراءته؟.
10 - وما حكم ذكره في الصلاة؟.

الجواب عن السؤال الأول: أن يقال: قد قدمنا فيما سلف ذكر الاختلاف في وجوبه وما ذهب إليه أبو حنيفة فيه وقول سحنون يجرح تاركه. وأصبغ يُؤَدب تاركه. وما قاله بعض الأشياخ في طريقة هذين وذكرنا الأدلة في ذلك لنا وعلينا فمن أحب مطالعة ذلك فليقف عليه هناك.

(1/775)


والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: اختلف الناس في عدد الوتر فقالت الشافعية أقله ركعة وأكثره إحدى عشرة ركعة. يسلم في (1) كل ركعتين وإن صلاها بتسليمة واحدة جاز. وقال أبو حنيفة الوتر ثلاث لا يفصل بينهما بالسلام ولا ينقص منها ولا يزاد عليها. وبه قال علي وعمر وأبي وأنس وابن مسعود وابن عباس وأبو أمامة رضي الله عنهم.
وأما مذهبنا فإنه اختلف القول فيه فقال مرة الوتر واحدة. وقال في كتاب الصوم يوتر. بثلاث. وفي الموازية فيمن ذكر سجدة لا يدري من الشفع أو الوتر أنه (2) يسجد سجدة ثم يعيد الشفع والوتر. وقد ذهب بعض أشياخي إلى أن هذا يقتضي كون الوتر ثلاثًا وأن الاقتصار على واحدة لا يجزئ لأنه أمر ها هنا بإعادة الشفع ولا معنى لإعادته إلا أن يكون الوتر لا يصح إلا به. لأنه إذا سجد سجدة الإصلاح تيقن سلامة الوتر لأن السجدة إن كانت من الوتر فقد أصلحه. وإن كانت من الشفع فقد بطل الشفع وسلم الوتر، فلا معنى لإعادة الشفع إلا أن يكون شرطًا في صحة الوتر. وهذا عندي تأويل ضعيف. لأن المذهب لم يختلف عندنا في كراهة الاقتصار على ركعة واحدة في حق المقيم الحاضر الذي لا عذر له. وإنما اختلف المذهب في المسافر ففي المدونة لا يوتر بواحدة.
ولمالك في كتاب ابن سحنون إجازة وتره بواحدة، وأوتر سحنون في مرضه بواحدة ورآه عذرًا كالسفر. فإذا ثبت أن المذهب لم يختلف في نهي الحاضر عن الوتر بواحدة، صح أن يأمره ابن المواز بإعادة الشفع ليأتي بالوتر على الصفة الكاملة كما تعاد الفرائض في الوقت ليؤتى بها على الصفة الكاملة.
وقد اختلف المذهب في الموتر بواحدة، فقال سحنون إن كان بحضرة ذلك شفعها بركعة ثم أوتر. وإن تباعد أجزأه، فأمره سحنون بشفع الركعة بالحضرة يطابق قَول ابن المواز. لأن ابن المواز أمره بالإصلاح بالسجدة، ولا يصح الإصلاح بها إلا في القرب. لكن أشهب قال فيمن أوتر بواحدة أنه يعيد وتره
__________
(1) من -و-.
(2) أنه = ساقطة -و-.

(1/776)


بإثر شفع ما لم يصل الصبح. وهكذا ذكر ابن سحنون أن ابن نافع ذكر في الموتر بواحدة يأتي بركعتين ثم بالوتر لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يوتر له ما قد صلى" (1).
وهذا لم يصل شيئًا. فمقتضى قول أشهب وابن نافع منع الاعتداد بواحدة وأن الوتر ثلاث والتعويل عليهما في هذا المذهب أولى من التعويل على ما ذكره ابن المواز. وكان أشهب لما رأى الركعة موترة اقتضى ذلك أن يكون قبلها موترًا. ويجب أن يكون من جنسها. فإذا وقعت الركعة غير موترة (2) خرجت عن حقيقتها. وإذا خرجت عن حقيقتها بطلت وإذا بطلت قضيت ما لم يخرج وقتها بصلاة الصبح. فإذا خرج وقتها لم تقض لأن النوافل لا تقضى بعد أوقاتها.
وكان سحنونًا رأى أن هذه الركعة لما فصلت بالسلام مما قبلها اقتضى ذلك استقلاله ابن فسها. وأشعر بأن الشفع قبلها من شرط الفضيلة لا من شرط الصحة. إذ لو كان من نفس الوتر لم يُفصل فيه بسلام.
وأما الشافعية فاحتجت بأنه عليه السلام قال: "إن الوتر حق وليس بواجب فمن أحب أن يوتر بخمس فليفعل ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل ومن أحب أن يوتر بواحدة فليفعل" (3). وبأن ابن عمر قال: الوتر ركعة. ويقول كان ذلك وتر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر، قالوا وهو مذهب جماعة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لا ينكر ذلك منهم أحد (4). وقال أبو أيوب لمن شاء أن يوتر بسبع أو بخمس أو بثلاث أو بركعة. وقال ابن عباس إنما هي واحدة أو خمس أو سبع أو أكثر من ذلك يوتر بما شاء. وروي عن سعد ابن أبي وقاص أن ثلاثًا أحب إليه
__________
(1) رواه الشيخان. فح الباري ج 3 ص 134 - 135. ورواه أحمد ج 2 ص 49.
(2) كلمة ممحوة غير واضحة بجميع النسخ.
(3) روى أبو داود والنسائي وابن ماجة والبيهقي عن أبي أيوب الأنصاري وليس في مروياتهم وليس بواجب. ونص أبي داود الوتر حق على كل مسلم فمن أحب أن يوتر بخمس فليفعل ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل ومن أحل أن يوتر بواحدة فليفعل.
مختصر المنذري ج 2 ص 137 والسنن ج 3 ص 24 - 25 ونصب الرابة ج 2 ص 112. وروى الترمذي أيضًا عن علي قال الوتر ليس بحتم كصلاتكم المكتوبة ولكن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وعلق عليه بأنه حديث حسن. العارضة ج 3 ص 242.
(4) أحد = ساقطة -و-.

(1/777)


من واحدة وخمسًا أحب إليه من ثلاث وسبعًا أحب إليه من خمس. وروي مثله عن أبي موسى الأشعري.
وأما أبو حنيفة فإنه يحتج بما روي عن عائشة رضي الله عنها أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يسلم قبل الوتر (1). وبأنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاة البتيراء (2). وبقول ابن مسعود ما أجزت ركعة قط. وقياسًا على صلاة المغرب. وأجيبوا عن هذا بان حديث عائشة رضي الله عنها إن ثبت فمحمول على الجواز والآخر أفضل لأنه أمر به، وهو أثبت منه وأصح. وأجيبوا عن نهيه عن الصلاة البتيراء. فإنه إن ثبت، وكان المراد به الوتر كما فسره الراوي، فمحمول على الاقتصار على ركعة لا شفع قبلها، هذا تأويل أصحابنا فيه. وأما تأويل الشافعية فيه فإن معناه عندهم الركعة الناقصة التي لا يكمل ركوعها ولا سجودها. وإنما حملوه على هذا لأنهم لا يمكنهم أن يتأولوه كتاويلنا لإجازتهم الاقتصار على ركعة واحدة. وأما قول ابن مسعود فمحمله على الفرائض لأنه قيل له: صلاة السفر ركعتان وصلاة الخوف ركعة. فقال ما أجزت ركعة قط. وأما القياس على المغرب فلا يسلم إلا بعد إبداء جامع بينهما. ثم الفرق أن المغرب وتر لشفع هو أربع. والوتر الذي نتكلم عليه إنما هو وتر لنافلة غير محصورة بعدد. وأما نحن فنحتج بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى" (3). فأمر بالوتر بواحدة وذكر تقدم الشفع قبلها، وقال: الوتر ركعة من آخر الليل. وقال ابن عباس صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ركعتين ثم أوتر فتلك ثلاثة عشرة ركعة. ولو أوتر بثلاث لكانت خمس عشرة ركعة. وإن أجابوا عن هذا بما ذكرناه عن عائشة رضي الله عنها بأنه لم يسلم قبل الوتر فقد تقدم جوابه.
__________
(1) رواه النسائي والحاكم. نصب الراية ج 2 ص 118.
(2) رواه أبو عمر بن عبد البرقي التمهيد. وفي سنده عمان بن محمَّد بن ربيعة. قال عبد الحق الغالب على حديثه الوهم. نصب الراية ج 2 ص 120 و 172.
(3) رواه مالك والبخاري ومسلم والبيهقي. الفتح ج 3 ص 134 والسنن ج 3 ص 12 أو مختصر المنذري ج 2 ص 95.

(1/778)


والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: اختلف في الوتر هل من شرطه أن يكون متصلًا بشفعه فروي عن مالك فيمن تنفل بعد العشاء ثم انصرف فلا ينبغي أن يوتر حتى يأتي بشفع. وروي عنه أيضًا إجازة ذلك. وبالأول أخذ ابن القاسم فقال فيمن صلى مع الإِمام أشفاعًا ثم انصرف ثم رجع فوجده في الوتر فدخل معه فقال لا يعتد بها، وأحب إليّ أن يشفعها بركعة ثم يوتر. قيل له فإن فعل قال: إن فعل فالوتر ليس بواحدة وفي رواية أخرى فالوتر ليس بواجب (1). وقد روي عن ابن القاسم فيمن أصبح ولم يوتر أنه إن كان تنفل بعد العتمة فليونر الآن بواحدة. وهذا لأنه ليس بوقت للنافلة إلا لضرورة، مع تقدم النفل المصحح للوتر على أحد القولين، وإن لم يقارنه. قال أصبغ فيه: إذا لم يتنفل بعد العتمة فإنه يشفع قبل وتره.
فوجه الأول الاتباع لفعله لفعله - صلى الله عليه وسلم - والصحابة بعده، وأيضًا فإن الشفع مختص بالوتر، ألا تراه ينسب إليه ويسمى باسمه. وهذا يقتضي مقارنته له.
ووجه الثاني أنه قد وُجد من النافلة ما يكون هذا وترًا له فوجب (2) صحة الوتر وإن لم يقارن ما كان وترًا له (3). ألا ترى أن المغرب توتر صلاة النهار ووقتها مفارق لوقت صلاة النهار.

والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: المشهور من المذهب أن من تنفل، بعد وتره فإنه لا يعيد الوتر. وقال في المبسوط فيمن أوتر ثم ظن أنه لم يصل إلا ركعتين فأوتر بركعة ثم ذكر بعد أن فرغ أنه كان أوتر فإنه يضيف إليها أخرى (4) ثم يستأنف الوتر. وظاهر هذا أن من شفع بعد وتره يعيد الوتر. هكذا جعله بعض أشياخي قولًا آخر. فوجه الأول قوله عليه السلام: لا وتران في ليلة (5). ووجه القول الثاني قوله عليه السلام: "واجعلوا آخر صلاتكم بالليل
__________
(1) ليست بواحدة -و-.
(2) يوجب -و-.
(3) له = ساقطة -و-.
(4) أخر ى = سا قطة -و-.
(5) رواه الترمذي حسن غريب. العارضة ج 3 ص 245.

(1/779)


وترًا" (1). وقد ذهب بعض الناس إلى أن من كان له تهجد فالأولى أنه لا يوتر مع الإِمام وهذا ليكون وتره آخر تنفله علي مقتضي ظاهر قوله: واجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترًا. واختار ابن المنذر أن يوتر مع الإِمام، وهذا لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الرجل إذا قام مع الإِمام حتي ينصرف كتب له بقية ليلته " (2). وقد ذهبت طائفة إلى أن من سلم من وتره ثم رأى أن عليه ليلًا فأراد التنفل أنه يشفع وتره بركعة أخرى. وروي ذلك عن عثمان وعلي وابن عمر وأنكره جماعة من الصحابة، وأكثر الفقهاء. لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا وتران في ليلة. ولأن السلام ينافي استدامة الصلاة ويمنع إضافة ما بعدها إليها (3).

والجواب عن السؤال الخاص: أن يقال: اختلف المذهب فيمن أحرم بشفع ثم أحب أن يجعله وترًا. أو أحرم بوتر ثم أحب أن يجعله شفعًا فقال مالك في الموازية: ليس له ذلك في الأمرين جميعًا. وذكر الداودي عن (4) أصحابنا أنه لا يجوز أن يوتر بركعة تفتتح بغير نية الوتر. واختلف إن أحرم فيهما على شيء ففعل خلافه فقال أصبغ يجزيه. وقال محمَّد لا يجزيه إذا أحرم بشفع ثم جعله وترًالأولعله يجزيه إذا أحرم بوتر فشفعه. فوجه الإجزاء فيهما قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فإذا خشي احدكم الصبح ركعة" (5).وظاهر هذا أنه إذا خشي الصبح وهو في الشفع انصرف من ركعة لأنه لم يفرق بين من خشي الصبح وهو في صلاة أو في غير صلاة. وإذا ثبت بظاهر هذا الحديث صحة وتر من أحرم على شفع فقس عليه من أحرم على وتر فشفعه. وأيضًا فإن الوتر والشفع نفلان.
والقصد إلى العدد ليس بشرط في صحة الصلاة. وهذا قد نوى النفل فلا يينعه الإجزاء مخالفة القصد في العدد. ووجه تفرقة ابن المواز أن الوتر آكد من الشفع فإذا أحال الأضعف إلى الأقوى لم يجزه. لأن الأقوى يفتقر إلى زيادة نية لقوته
__________
(1) رواه أحمدج 2 ص 20 والبخاري. الفتح ج 3 ص 141.
(2) رواه عبد الرزاق بسنده إلى أبي ذر من حديث قيام شهر رمضان ليلة ثلاث وعشرين وخمس وعشرين. أخرجه البيهقي ج 2 ص 494.
(3) إليه -و-.
(4) من.
(5) أبو داود. المختصر للمنذري ص 2 ص 95.

(1/780)


فلهذا لم يُجز من أحرم بشفع أن يجعله وترًا. وإذا أحرم (1) وأحال الأقوى إلى الأضعف أجزأه. فلهذا أجزأ من أحرم بوتر إذا شفعه. ومما يشهد بصحة هذا أن الفرض يصح أن يحال إلى النفل ولا يصح أن يحال النفل إلى الفرض. ومما خُرّج على هذا قول مالك فيمن افتتح الصلاة في المسجد فلما صلى منها ركعة أقيمت عليه الصلاة أنه يشفع ركعته. ولو كان في المغرب لقطع ولم يشفع. فلما كانت المغرب وترًا لم تحل إلى الشفع بخلاف غيرها من الصلوات التي ليس في إحالتها تحويل الأقوى إلى الأضعف. وقد كنا تكلمنا على علة التفرقة بين المغرب وغيرها في موضعه وعللناه بعلة أخرى سوى هذه العلة.

والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: من زاد في وتره ركعة ساهيًا فقال مالك يجزيه ويسجد لسهوه، وفي المبسوط يستأنف وتره وهذا مخرج على ما قدمناه من الاختلاف في كثرة السهو. وقد ذكرنا اختلاف الأصحاب في حد ما يفسد الصلاة منه. فتُرد هذه المسألة إليه. وكذلك إذا شك فلم يدر هل جلوسه في الأولى أو في الثانية أو في الوتر فإنه يبني على ما قدمناه من الشك في عدد الركعات. وأنه مأمور بان يبني على اليقين، واليقين ها هنا ركعة فليأت بأخرى ويسلم. ويسجد لسهوه ثم يوتر لواحدة. وهذا جار على ما أصلناه من البناء على اليقين لأنه لم يستيقن الأصلاة الشفع خاصة. وشك هل أوتر أم لا، فكان عليه أن يوتر كمن شك هل صلى أم لا؟.
فأما أمر ابن القاسم له في المدونة بالسجود فقد خالفه غيره وقال لا سجود عليه. واختلف المتأخرون في وجه أمر ابن القاسم له بالسجود بعد السلام. فصار الأبهري وبعض الأشياخ إلى أنه إنما أمره بذلك لجواز أن يكون أضاف ركعة الوتر إلى ركعتي الشفع من غير سلام فيصير قد صلى الشفع ثلاثًا فيسجد بعد السلام لأجل الزيادة. وأنكر هذا بعض الأشياخ ورأى أن مقتضى هذا التعليل أن يكون السجود قبل السلام لركه السلام من الشفع. كقول أشهب فيمن لم يسلم من الشفع وصلى الوتر أنه يسجد. قال ابن المواز يريد قبل السلام. وذهب بعضهم إلى أن وجه ما قاله ابن القاسم أنه لما شك في الوتر
__________
(1) أحرم = سا قطة -ق-.

(1/781)


وكان من حقه أن يأتي به، شفع ما هو فيه بسجدتين لئلا يكون متنفلًا بركعة واحدة. واقتصر ها هنا على تشفيعها بسجدتين دون أن يشفع بركعة أخرى لئلا يكون لم يوتر فتقع له هذه الركعة مفردة. ثم بعدها ركعة الوتر. والإتيان بركعة مفردة ثم أخرى مفردة غير مشروع؛ لأن التنفل لا يكون بواحدة. وكذلك لو قدرنا أنه أوتر لكان فيه التكرير الممنوع. فلما كان الشفع بركعة يوقع في مكروه عدل عنه إلى الشفع بسجدتين. وقد جاء الشرع بكونهما شافعتين لقوله في حديث الشاك وإن كانت الركعة التي صلاها خامسة شفعها بهاتين السجدتين (1).

والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: من أدرك ركعة من الشفع مع الإِمام فلا يسلم معه وليصل معه الوتر. فإذا سلم منه سلم معه ثم أوتر، إلا أن يكون الإِمام لا يسلم في شفعه. ففي سلام هذا مع الإِمام قولان: أحدهما أنه لا يسلم إذا سلم الإِمام من وتره لأنه شفع المأموم وقد كان إمامه لا يسلم من شفعه فيؤمر هذا بان يفعل كفعل إمامه. وهذا مذهب ابن القاسم. والثاني أنه يسلم لأن المأموم مأمور عندنا أن يسلم من الشفع. وإنما أمرنا من دخل مع الإِمام في أول شفعه بان لا يسلم من الشفع إذا كان الإِمام لا يسلم منه لئلا يخالف على الإِمام فيكون الإِمام يفعل فعلأويفعل هو خلافه. وهاهنا لا مخالفة على الإِمام بل صورة الحال موافقة للإمام في الظاهر. وإذا لم تكن فيه مخالفة أمران يفعل فيما ينفرد بفعله ما هو البخاري على مذهبه. وإلى هذا ذهب مطرت وابن الماجشون. وطريقة الشيخ أبي محمَّد في هذا حمل قولهم يصلي معه الوتر على أن المراد به محاذاة الإِمام في الركوع والسجود لا الائتمام به في ركعة الوتر؛ لأنه لو ائتم به لكان محرمًا قبل إمامه. وعلى هذا الأسلوب جرى الأمر في مدرك الركعة الأخيرة من أحد أشفاع رمضان. فإنه إذا صلاها مع الإِمام لا يسلم بسلامه ولكنه إذا قام الإِمام إلى شفع ثان حاذي هذا في قضاء ركعته فعل
__________
(1) رواه أحمد وجمسلم وأبو داود والحاكم والبيهقي: إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدْر كم صلى أثلاثًا أم أربعًا؟ فليصل ركعة وليسجد سجدتين وهو جالس قبل التسليم فإن كانت الركعة التي صلاها خامسة شفعها بهاتين السجدتين وإن كانت رابعة كانتا ترغيمًا للشيطان. نيل الأوطارج 3 ص 142.

(1/782)


الإِمام فإذا صلى ركعة القضاء جلس فتشهد وسلم، ثم هو بالخيار بين أن يدخل هو في صلاة الإِمام أيضًا أو ينتظره حتى يسلم. إلى هذا ذهب مالك رحمه الله.
وذهب ابن القاسم إلى أنه يتبع الإِمام في ركعة القضاء. وكأن هذا يقتضي ألا يحاذيه في ركعة الوتر. لكن الشيخ أبا محمَّد حمل الأمر في هذه الرواية عن ابن القاسم، على أن ابن حبيب تأول ذلك عليه. وإنما مراد ابن القاسم أن يصحبه بصلاته إذا قام الإِمام إلى الشفع الآخر من أشفاع رمضان. وقول مالك ها هنا يوافق تأويل الشيخ أبي محمَّد.

والجواب عن السؤال الثامن: أن يقال: أما صلاة الوتر فمبدأ وقتها عند الفراغ من صلاة العشاء فإن قدمت على ذلك مع الذكر والعمد لم يعتد بها، وإن قدمت نسيانًا لصلاة العشاء، أو أخرت عنها ولكن بطلت صلاة العشاء لعدم الطهارة وشبهه فإنه لا يعتد بها أيضًا خلافًا لأبي حنيفة والثوري في مصيرهما إلى الاعتداد بها إذا قدمت نسيانًا قياسًا على سقوط الترتيب بين صلاتي فرض مع النسيان. وهذا لا يسلم له لأن الوتر عندنا غير واجب. ولأنه يفعل تبعًا لصلاة أخرى والفرضان ليس أحدهما تبعًا للآخر. فالفرع بخلاف (1) الأصل، مع تسليم الأصل. وأما آخر وقتها فطلوع الفجر. واختلف في صلاته بعد الفجر إذا لم يصلّ الصبح فقال مالك: يصلي حينئذٍ. ووتجهه بعض المتأخرين على أنه وقت ضرورة للوتر. وبصلاته حينئذٍ قال ابن عباس وابن عمر وغيرهما من الصحابة، رضي الله عنهم. وقال ابن مسعود: وقت الوتر ما بين صلاة العشاء وصلاة الصبح. وذهب أبو مصعب إلى أنه لا يُقْضى بعد الفجر. وقال ابن الجهم: إنما قال مالك يُصلى بعد الفجر وإن كان من صلاة الليل للاختلاف في الفجر. فقد قال قوم هو من الليل وقال قوم من النهار وقال قوم حال بين حالين. فلتاكده أحب قضاءه في هذا الموضع. ومذهب الشافعية أن بطلوع الفجر يخرج وقته. كما قال أبو مصعب لكنهم يقولون بقضائه. وقال سعيد بن جبير من فاته الوتر يوتر من الليلة القابلة. وقال طاوس يصلي الوتر وإن صلى
__________
(1) يخالف -و-.

(1/783)


الصبح. فحجة من جعل آخر وقته طلوع الفجر قوله - صلى الله عليه وسلم - في كتاب مسلم: "بادروا الصبح بالوتر" (1). وقوله: " فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة توتر له ما قد صلى" (2). وروي أيضًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إذا طلع الفجر فقد ذهب فعل صلاة الليل والوتر فأوتروا قبل الفجر" (3). وأما إجازة مالك صلاته بعد الفجر إذا لم يصل الصبح، فقد أشار إلى توجيهه ابن الجهم. وأما من قضاه بعد خروج الوقت فلأنه سلك بالسنن مسلك الفرائض في قضائها بعد الوقت على الجملة.
ولو كان قد ذكر الوتر ولم يصل الصبح في زمن لم يبق بينه وبين طلوع الشمس سوى قدر ركعتين فاختلف في ذلك: فقيل يصلي الصبح وقد فات وقت الوتر. وقيل لم يفت لأنه إذا صلى الوتر أدرك ركعة من الصبح قاله أصبغ. وقال في مدرك مقدار أربع ركعات أنه يوتر بثلاث ويصلي الصبح. وعلى القول الآخر يوتر بواحدة ليحضل جميع الصبح قبل الطلوع.

والجواب عن السؤال التاسع: أن يقال: أما القراءة في الشفع فقد اختلفت الرواية فيها عن مالك، فروي عنه في المجموعة أن الناس يلتزمون في الوتر قل هو الله أحد والمعوذتين وما ذلك بلازم وإني لأفعله. أما الشفع فما عندي فيه شيء يستحب القراءة به دون غيره. وروى عنه ابن شعبان أنه يقرأ في الأولى بسبح وفي الثانية قال يا أيها الكافرون وإليه ذهب الشافعي إذا اختار المصلي أن يوتر بثلاث لأن مذهبه إباحة الوتر بواحدة كما قدمنا. وقد كنت في سن الحداثة وعمرني عشرون عامأوقع في نفسي أن القراءة في الشفع لا يستحب تعيينها إذا كانت عقب تهجد بالليل. وإن الاستحباب إنما يتوجه في حق من اقتصر على شفع الوتر فأمرت من يصلي التراويح في رمضان أن يوتر عقيب
__________
(1) إكمال الإكمال ص 2 ص 383.
(2) تقدم تخريجه قريبًا.
(3) رواه الترمذي وابن عدي ولفظه إذا طلع الفجر فقد ذهب كل صلاة الليل والوتر فأوتروا قبل طلوع الفجر. قال الترمذي تفرد به على هذا اللفظ سليمان بن موسى. قال في إرواء الغليل سليمان بن موسى خلط قبل موته وهو لين الحديث. انظر عارضة الأحوذي ج 3 ص 243. وإرواه الغليل ج 3 ص 154.

(1/784)


فراغه من عدد الأشفاع ويأتي بجميع مقروآته بالحزب الذي يقوم به فيه ويوتر عقيبه. فتمالأ المشائخ المفتون حينئذٍ بالبند على إنكار ذلك واجتمعوا بالقاضي وكان ممن يقرأ علي، ويصرف الفتوى فيما يحكم به إلى. فسألوه أن يمنع من ذلك فأبى عليهم إلا أن يجتمعوا لمناظرتي على المسألة فابوا، فأبى. واتسع الأمر وصارت المساجد تفعل كما فعلت وخفت اندراس ركعتي الشفع عند العوام إن لم تُخص في رمضان بقراءة. فرجعت إلى المألوف. ثم بعد زمن طويل رأيت أبا الوليد الباجي أشار في كتابه إلى الطريقة التي كنت سلكت، فذكر في بعض كتبه قول مالك في الشفع: ما عثدي فيه شيء يستحب القراءة به فيه، فقال هذا يدل على أن الشفع من جنس سائر النوافل. قال وهذا عندي لمن كان وتره واحدة عقيب صلاته بالليل. فأما من لم يوتر إلا عقيب الشفع فإنه يستحب له أن يقرأ في الشفع بسبح وقيل يا أيها الكافرون، فأنت ترى أبا الوليد كيف فصل التفصيل الذي كنت اخترته. وذكر أن الوتر إذا كان عقيب صلاة الليل لم يفتقر في الشفع إلى قراءة معينة، اللهم إلا أن يكون أراد قيام المتهجدين في غير رمضان. لأن (1) رمضان يجتمع فيه الناس على التنفل ويُتّبع فيه فعل السلف بالاقتصار على عدد معلوم فيكون مخالفًا لما سواه من قيام الليل. فقد يمكن أن يقصد إلى ذلك. وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقرأ في الأولى بسبح اسم ربك الأعلى وفي الثانية بقل يا أيها الكافرون وفي الثالثة بقل هو الله أحد (2).
وقالت عائشة رضي الله عنها كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الركعتين اللتين يوتر بعدهما في الأولى بفاتحة الكتاب وسبح، وفي الثانية بفاتحة الكتاب وقيل يا أيها الكافرون وفي الثالثة بفاتحة الكتاب وسورة الإخلاص وقيل أعوذ برب الفلق، وقيل أعوذ برب الناس. وظاهر حديث عائشة هذا يرد على ما كنا اخترناه في سن الحداثة، واختاره أبو الوليد الباجي لأن عائشة رضي الله عنها حكت فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -. والظاهر أنها حكت وتره عقيب تهجده في السحر - صلى الله عليه وسلم -. لكن مما
__________
(1) لأجل أن -ق-.
(2) أخرجه الترمذي وقال حسن غريب. عارضة الأحوذي ج 2 ص 249 - 250 وكذلك أبو داود مختصر السنن ج 2 ص 124 - 125.

(1/785)


يحتج لهذا المذهب الذي كنا اخترناه أن غيرها ممن حكى قيام النبي - صلى الله عليه وسلم - وعدد ركعاته ووصفها لم يذكر أنه خص الركعتين اللتين يليهما الوتر بقراءة. وقد قال بعض الأشياخ المختار ما قاله مالك من أن الشفع لا تستحب فيه قراءة معينة لقوله عليه السلام: "فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة توتر له ما قد صلى" (1). وظاهره أن الشفع لا يفتقر أن يخص بنية ولا بقراءة. وأما القراءة في الوتر فإن المختار عند مالك أن يقرأ بأم القرآن والإخلاص والمعوذتين. وقال في المجموعة أن الناس يلتزمون في الوتر قراءة قل هو الله أحد والمعوذتين وما ذلك بلازم، وإني لأفعله. وذهب أبو حنيفة وأحمد والثوري وإسحاق إلى الاقتصار فيها على فاتحة الكتاب وسورة الإخلاص. وحجتهم ما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يوتر بسبح وقيل يا أيها الكافرون وقيل هو الله أحد ويَقْنُت في الثالثة قبل الركوع (2). ولنا عليهم حديث عائشة رضي الله عنها المتقدم وهو أولى. ولأن فيه زيادة والزيادة مقبولة من العدل. ولو قرأ بأم القرآن خاصة في وتره سهوًا فلا سجود عليه، قاله مالك. ولو نسي أن يقرأ في ركعة وتره، فقد استحب مالك أن يضيف إليها أخرى ويسجد لسهوه ثم يوتر. وقال بعض المتأخرين (3). والقراءة في ركعة الوتر جهرًا. وهو بالخيار في شفعها. إن شاء جهر وإن شاء أسرّ. فإن أسز في الوت رنا سيًا سجد قبل السلام. وإن جهل أو تعمد فعليه الإعادة في ليلته، وبلغني ذلك عن يبيح بن عمر. قال بعض الأشياخ هذا استحسان بعيد. وقد اختلف فيمن تعمد الإسرار في الفرض هل يعيد فكيف في الوتر؟ وقال بعض الحذاق: المجهور فيه الصبح والجمعة والأوليان من المغرب والعشاء ومن غير الفرائض العيدان والاستسقاء والوتر إذا أمّ فيها بالناس. فأما الناس في المساجد فإنهم يسرون إذا أوتروا أفذاذًا لئلا يجهر بعضهم على بعض في القراءة. ويُسرّ في غير الفرائض في ركعتي الفجر وصلاة الكسوف. وأما النوافل التي لا تتعدد
__________
(1) تقدم تخريجه قريبًا.
(2) تتبع النسائي الروايات ولم يذكر ويقنت في الثانية قبل الركوع وكذلك ابن ماجة وكذلك أحمد. شرح سنن النسائي ج 3 ص 243 - 247 وابن ماجة 1171 - 172 أو بلوغ الأماني 1093.
(3) الاشياخ -ق-.

(1/786)


فهو بالخيار بين الجهر والإسرار. واستحب ابن حبيب الجهر في نافلة الليل.
وقال الشيخ أبو محمَّد يستحب الأسرار في نافلة النهار. وهكذا في المبسوط أنه يخافت بالقراءة. وقال القاضي أبو محمَّد اختلف في الجهر في نافلة النهار فقيل جائز وقيل مكروه.

والجواب عن السؤال العاشر: أن يقال: أما الوتر إن ذكرها وهو في صلاة الصبح وهو في وقت يمكن إذا قطع وأوتر أن يدرك الصبح قبل طلوع الشمس فإنه لا يخلو من أن يكون فذًا أو إمامًا أو مأمومًا. فإن كان فذًا فالمشهور أنه يقطع وفي المبسوط لا يقطع. وإن كان إمامًا، ففي كتاب ابن حبيب أنه يقطع.
ويتخرج على القول الآخر أنه لا يقطع. وإن كان مأمومًا فقيل: يقطع وقيل لا يقطع، وقيل إن شاء تمادى مع الإِمام فإذا فرغ أوتر وأعاد الصبح. وهذه الثلاثة أقوال مروية عن مالك. وحمل بعض أشياخي تماديه إذا اختار ذلك على القول بالتخيير على أنه يتمادى بنية النفل. وسبب الاختلاف في جميع هذه الأقسام تقابل الأعمال وترجيح بعضها على بعض. فمن أنكر القطع فلأن الوتر سنة وصلاة الصبح فريضة فلا يقطع الفرض لما هو دونه. ومن قال بالقطع فلأن الوتر سنة مؤكدة يخشى فواته والصبح إن قطعها لم تفت وعاد إليها. ومن فرق بين المأموم وغيره فلاجل أن الجماعة مسنونة فاجتمع صلاة الفرض وسنة الجماعة. فكان آكد. من الوتر. فلهذا لم يقطع المأموم.
ولو أن ذاكر الوتر ذكرها وهو بالمسجد وقد أقيمت الصلاة فإنه يخرج لصلاتها لتأكدها ولا يخرج لركعتي الفجر. وقد أسكتَ عبادةُ المؤذن لأجل الوتر مع ما روي من قوله عليه السلام: إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة (1).
قال بعض حذاق المتأخرين يحتمل أن يعتقد حمل الحديث على المأموم. وأما الإِمام فله إسكات المؤذن والإتيان بمؤكد النفل. لأن الصلاة لا تنفذ إقامتها دونه. وهو بخلاف غيره. وقد روى ابن القاسم عن مالك إذا أخذ المؤذن في الإقامة للفجر ولم يكن الإِمام ركع ركعتي الفجر فلا يخرج إليه ولا يُسْكته.
وليصل ركعتي الفجر قبل أن يخرج إليه. قال بعض الأشياخ أسكت عبادة
__________
(1) تقدم تخريجه.

(1/787)


المؤذن لتأكد أمر الوتر. ولأنه لو صلى لم يأت به بعد ذلك. وركعتا الفجر إن شاء صلاهما إذا طلعت الشمس. وهذه إشارة إلى أنه لا يسكت المؤذن لركعتي الفجر. وقد قدمنا قول مالك لا يسكته وليصل ركعتي الفجر قبل أن يخرج إليه.
فقد نهى عن إسكاته. ولكنه ذكر أنه يصليهما قيل الخروج إليه. ولم يذكر إذا لم يمكنه صلاتهما. وقد قدمنا إشارة بعض الأشياخ في هذا. والأسبق إلى النفس من ظاهر هذه الروايات أنه لا يسكته. وقد ذكرنا تفرقته في الخروج من المسجد إذا أقيمت الصلاة بين صلاة الوتر وركعتي الفجر فأخرجه في الوقر لتأكدها. ولم يخرجه لركعتي الفجر لانخفاض رتبتهما عن حرمة الإقامة (1).
__________
(1) إلى هنا تنتهي النسخة التي كان الفراغ من نسخها يوم الجمعة العاشر من جمادى الأولى من عام 698.

(1/788)


سجود التلاوة (1)

قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله تعالى: وأما سجود القرآن فعزائمه (2) إحدى عشرة سجدة. أولها خاتمة الأعراف (3)، وثانيها في الرعد عند قوله وظلالهم بالغدو والآصال (4). وثالثها في النحل عند قوله: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (5). ورابعها في بني إسرائيل في قوله: {وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} (6). وخامسها في مريم عند قوله: {وَبُكِيًّا} (7). وسادسها أولى الحج في قوله: {إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} (8). وسابعها في الفرقان عند قوله: {وَزَادَهُمْ نُفُورًا} (9). وثامنها في النمل عند قوله: {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} (10). وتاسعها في آلم تنزيل عند قوله: {وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} (11). وعاشرها في "ص" عند قوله: {وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} (12) وقيل {وَحُسْنَ مَآبٍ} (13) والحادية عشر في
__________
(1) من هنا اعتمدنا إلى جزء الثاني من نسخة مكتة القرويين بفاس ونشير بقث = قرويين ثاني.
(2) فعزائمها -و-.
(3) آخر سورة الأعراف، الآية: 206.
(4) سورة الرعد، الآية: 5.
(5) صورة النحل، الآية: 50.
(6) سورة الإسراء، الآية: 109.
(7) سورة مريم، الآية: 58.
(8) سورة الحج، الآية: 58.
(9) سورة الفرقان، الآية: 60.
(10) سورة النمل، الآية: 26.
(11) سورة السجدة، الآية: 15.
(12) سورة ص، الآية: 24.
(13) سورة ص، الآية: 25.

(1/789)


فصلت عند قوله: {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} (1)، وقيل: {وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ} (2) وليس في المفصل منها شيء. ويسجدها من قرأها في صلاة فرض أو نفل، واختلف عنه في فعلها في الأوقات المنهي عنها.

قال الإِمام رضي الله تعالى عنه: يتعلق بهذا الفصل ثلاثة عشر سؤالًا. منها أن يقال:
1 - هل سجود التلاوة واجب أو مستحب؟.
2 - وما عددها؟.
3 - وما مواضعها؟.
4 - وما حكم قراءتها في الصلاة؟.
5 - وما حكم من نسي أن يسجدها في الصلاة؟.
6 - وما حكم من أراد أن يسجدها فنسي فركع؟.
7 - وما حكم سامعها؟.
8 - وما حكم تكررها؟.
9 - وهل تفرد بالقراءة؟.
10 - وما حكم السلام فيها والإحرام؟.
11 - وهل من شرطها الطهارة؟.
12 - وما حكم سجودها في الوقت المنهي عنه؟.
13 - وما حكم سجود الشكر؟.

الجواب عن السؤال الأول: أن يقال: اختلف الناس في سجود التلاوة فذكر بعض أصحابنا أنه سنة عند مالك والشافعي، وواجب عند أبي حنيفة.
فأما ما (3) ذكره عن أبي حنيفة والشافعي فصحيح. وأما ما (3) ذكره عن مالك فإن المتأخرين من أصحابه اضطربوا، فبعضهم أطلق القول بأنها سنة. والقاضي أبو محمَّد أطلق القول في هذا الكتاب أنها فضيلة. والذي اشتهر من قول مالك
__________
(1) سورة فصبت، الآية: 37.
(2) سورة فصلت، الآية: 38.
(3) ما = ساقطة -و-.

(1/790)


فيها:- اجتمع (1) الناس- وروي عنه: الأمر المجتمع عليه عندنا أن عزائم سجود القرآن إحدى عشرة سجدة ليس في المفصل منها شيء. قال بعضهم معنى العزائم: إنها آكد مما سواها. ومعنى قوله: اجتمع (1) الناس: أنهم أجمعوا على السجود فيها. ولم يرد أنهم أجمعوا على (2) ألا سجود إلا فيها كما ظن به بعض الناس. وقد (3) استدل كل واحد من المتأخرين على أن ما ذكره هو مذهب مالك بما وقع في المدونة. فاستدل من قال: أنها سنة، بقوله يسجدها بعد الصبح ما لم يسفر وبعد العصر ما لم تصفر الشمس، فألحقها بحكم صلاة الجنازة. ورفعها عن رتبة النوافل. وهذا يقتضي كونها سنة.
واستدل الشيخ أبو القاسم بن الكاتب على أنها مستحبة بقوله: كان مالك يستحب له إن قرأها في إبان الصلاة ألا يدع سجودها. وينفصل عن هذا الأولون بأن إطلاق الاستحباب لا ينفي كونها سنة.
وأما أبو حنيفة فيستدل بما ورد في القرآن من الأمر كقوله واسجد واقترب (4). وأجيب عنه بأنه يمكن أن يحمل على سجود الفرض. وبأنه (5) يقتضي السجود قبل التلاوة. وهذا لا يجب إلا بالتلاوة. ويستدل أيضًا بان السجدة جعلت في القرآن علمًا على ترك الاستكبار. وترك الاستكبار واجب، وعلمًا على ترك السآمة والنفور عن الطاعة وما جعل علمًا على الواجب فهو واجب. وأجيب عن هذا بأنه *لم يرد ما ذكره في سجود التلاوة. وإنما ورد إنكارًا للتكذيب والعناد. ودعاءً* (6) إلى الطاعة والانقياد. ويستدل أيضًا بان صيانة الصلاة عن الزيادة فيها لاضافة ما ليس منها إليها واجب. فلو كانت السجدة نفلًا لما سجدها المصلي. لأن الصيانة الواجبة أولى من النفل. فلما
__________
(1) أجمع - قث.
(2) على = ساقطة -و-.
(3) قد = ساقطة -و-.
(4) سورة العلق، الآية:19.
(5) وأنه - قث.
(6) ما بين النجمين ممحو -و-.

(1/791)


كانت في الصلاة دل سجودها على أنه واجب من وجوب الصيانة. وأجيب عن هذا بأن المصلي لم يقطع القيام المفروض لأن القيَام المفروض هو ما اشتمل على القراءة الواجبة وما زاد فليس بمفروض: فلا ينكر قطع ما ليس بفرض بما ليس بفرض. وإن صوروا مصليًا لا يحسن أم القرآن ويحسن آيات فيها سجدة، وأوجبوا عليه الإتيان بتلك الآيات، فقد قال بعض المتأخرين من أصحاب الشافعي لا يبعد المنع ها هنا من سجود التلاوة، وحتى لا ينقطع القيام المفروض. وأما مالك والشافعي فيستدلان بأن رجلًا قرأ بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يسجد فقال - صلى الله عليه وسلم -: "كنتَ إمامًا فلو سجدت لسجدتُ معك" (1) ولم ينكر عليه ترك السجود. وبأن عمر رضي الله عنه قرأ سجدة على المنبر فسجد ثم قرأها في يوم آخر فتهيأ الناس للسجود فلم يسجدها. وقال إن الله لم يكتبها علينا إلا أن نشاء.
ولم ينكر ذلك عليه أحد. وأجيب عن هذا بأن ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - السجود إنما كان في الحال. قال المخالفون: عندنا السجود على الفور إذا لم يسجد القارئ.
وهذا الذي قالوه خلاف لتعليل النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه لم يعلل بأكثر من تَركه السجود.
ولم يذكر عزمه على السجود على الفور إذا لم يسجد القارئ في المستقبل.
والظاهر أنه لو كان لذكره. وأجيب عن فعل عمر أن معناه إلا أن نشاء قراءتها ولم يكتب علينا تعجيلها إلا أن نشاء. وهذا خروج أيضًا عن ظاهر قول عمر.

والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: اختلف المذهب في عدد سجود التلاوة فالمشهور أنه إحدى عشرة سجدة. وذكر القاضي أبو محمَّد في غير هذا الكتاب عن مالك أنه قال العزائم أربع عشرة سجدة. وأضاف إِلى الإحدى عشرة ثلاث سجدات من المفصل وجعلها من العزائم. وقال ابن وهب وابن حبيب هي خمس عشرة سجدة. وأثبتا ثانية الحج. وأما الشافعي فإنه اختلف قوله: فقال مرة أربع عشرة سجدة سوى سجدة "ص" فإنها سجدة شكر. وقال مرة أخرى
__________
(1) حديث عطاء بن يسار أن رجلًا قرأ عند النبي - صلى الله عليه وسلم - السجدة فسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم قرأ آخر عند السجدة فلم يسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله أقرأ فلان عندك السجدة فسجدت وقرأت عندك السجدة فلم تسجد فقال كنت ... الخ روي موصولأوهو واهي الإسناد وروي مرسلًا قال الحافظ ورجاله ثقات. انظر إرواء الغليل ج 2 ص 227.

(1/792)


إحدى عشرة سجدة فأسقط منها سجدات المفصل وبه قال ابن عباس وابن عمر
وأبي وزيد رضي الله عنهم. وأما أبو حنيفة فإنه قال بالأربع عشرة إلا أنه أسقط
الثانية من الحج وعد مكانها سجدة "ص". وقال أبو ثور ثلاث عشرة فأسقط
منها سجدة النجم. وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال عشرة وأسقط سجدة "ص". وقال علي وابن مسعود العزائم أربع: ألم تنزيل وحم تنزيل والنجم. واقرأ باسم ربك لأنه أمر بالسجود، والبقية وصف. وهكذا حكى عنهما ابن شعبان. وحكى عنهما غيره أنهما قالا: أربع سجدات من العزائم، سجدتا الحج، وآخر النجم، وآخر العلق.
فأما نفي السجود من المفصل وهو المشهور عندنا، فلقول زيد بن ثابت إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يسجد في: "والنجم" (1) ولقول ابن عباس إن النبي - صلى الله عليه وسلم - ترك السجود في المفصل بعد الهجرة (2). وأما إثباته فإن أبا هريرة رضي الله عنه صلى العتمة فقرأ {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} فسجد، فكيل له ما هذه السجدة؟ فقال: سجدت فيها خلف أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم - ولا أزال أسجدها حتى ألقاه (3). وقال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه: أقرأني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمس عشرة سجدة في القرآن ثلاث منها في المفصل (4). ولأن السجود في غير المفصل عند مدح لمن (5) سجد أو ذم لمن (5) ترك. وكذلك سجود المفصل وسجدة النجم أمر. وانفصل هؤلاء عن حديث زيد بأنه محمول على أنه كان القارئ فلم يسجد لعذر منعه من السجود، فلهذا لم يسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -. لأنه قال قرأت على
__________
(1) رواه الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي والبيهقي عن زيد قال: قرأ على النبي - صلى الله عليه وسلم - السجدة فلم يسجد فيها. الهداية ج 4 ص 268.
(2) رواه أبو داود الطيالسي والسجستاني عن عكرمة عن ابن عباس قال لم يسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شيء من المفصل بعد ما تحول إلى المدينة قال النووي ضعيف الإسناد وقال ابن عبد البر منكر. الهداية ج 4 ص269.
(3) أخرجه الشيخان والنسائي. الهداية ج 4 ص 275.
(4) رواه أبو داود وابن ماجة والدارقطني والحاكم والبيهقي وفي سنده الحارث بن سعيد وهو غير معروف وعبد الله بن منين وهو مجهول. الهداية ج 4 ص 273.
(5) من -و-.

(1/793)


النبي - صلى الله عليه وسلم -: {وَالنَّجْمِ} فلم يسجد ولم يقل إني سجدت. وأما حديث ابن عباس فأجيب عنه بأنه لم يشهد جميع إقامة النبي - صلى الله عليه وسلم - في المدينة، وإنما كان قدومه سنة ثَمان بعد الفتح فلا يُرد حديث أبي هريرة مع صحة سنده بمثل هذا. مع كونه مثبتًا والمُثبِت أولى. مع جواز أن يحمل على أنه ترك السجود ليشعر بسقوط وجوبه أو يكون تركه لأنه اتفق أن كان عذرٌ منع من السجود. وأما السجدة الثانية من الحج فقد تعلق من أثبتها بقول عبد الله بن عمرو بن العاصي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقرأه خمس عشرة سجدة (1). وأجيب عنه بأنه لم يقل أنه سجد فيها ولا أمره بالسجود. ولعله أراد أن يخبر أنه سمع القرآن كله منه أو أكثره.
وتعلقوا بقول عقبة: يا رسول الله في الحج سجدتان قال نعم. من لم يسجدهما فلا يقرأهما (2) وبأنه مذهب عمر وأبي وعلي وابن عباس وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم. وقال ابن إسحاق أدركت الناس سبعين سنة يسجدون في الحج سجدتين قالوا والآية وإن ذكر فيها الركوع مع السجود فلا يقتضي ذلك سقوط السجود في التلاوة. وقياسًا على قوله تعالى: {وَاسْجُدِي وَارْكَعِي} (3) لأن هذا قياس ترده الآثار التي ذكرناها.
أما قول الشافعي في سجدة "ص" إنها ليست من العزائم لما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - قرأها فسجد ثم قرأها في الجمعة الأخرى فلم يسجد حتى تشوف الناس سجودها فنزل وسجد، وقال إنها توبة نبي. ولكن رأيتكم تشوفتم السجود فسجدت (4). فلا دليل فيه على أنها بخلاف غيرها من العزائم لأن الغرض بالخبر الإشعار بسقوط وجوبها. وكذلك قوله سجدها داود توبة ونحن نسجدها
__________
(1) تقدم قريبًا. الهداية ج 2 ص 273.
(2) أخرجه د - ت وأحمد والحاكم قال الترمذي ليس إسناده بالقوي وقال الحاكم لم نكتبه مسندًا إلا من هذا الوجه نصب الراية ج 5 ص 179.
(3) سورة آل عمران، الآية: 43.
(4) عن أبي سعيد الخدري قال الحاكم وهو على شرطها وقال البيهقي حسن الإسناد صحيح. الهداية ج 4 ص 278 - 279.

(1/794)


شكرًا (1). فلا دليل فيه. لأن سجود التلاوة يكون لنفي الاستكبار أو الائتمار (2) أو الشكر. وأما قول ابن عباس ليست من العزائم فمعناه ليس مما ورد بلفظ الأمر بالسجود، أو في مواضع التعظيم والمدح وإنما هي توبة نبي. على أنه روي عنه أيضًا أنه قال سجدها داود وأمر صاحبكم أن يقتدي به (3) يعني النبي - صلى الله عليه وسلم -. وفي بعض الطرق عنه أنه سئل عن قوله تعالى: {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ}، فقال أولئك الذين هداهم الله فبهداهم اقتده (3). وقد سجد عثمان في صلاته وسجد الناس معه ولم ينكر عليه أحد. فلو كانت سجدة شكر كما قاله الشافعي لم يجز إدخالها في الصلاة.

والجواب عن السؤال الشاك: أن يقال: أما مواضع السجود فقد ذكره القاضي أبو محمَّد في كتابه هذا وذكر الاختلاف فيه في موضعين. فأما سجدة "ص" ففيها قولان. كما ذكر فاختار ابن حبيب قوله: {وَحُسْنَ مَآبٍ} (4).
واختار الشيخ أبو الحسن ابن القابسي {وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} (5) وهو الذي ذكره الوقار. فأما اختيار {حُسْنَ مَآبٍ} فلأنه متصل بذكر السجدة ومتضمن للثناء على فعلها وإشارة للحض عليها، فكان إيقاع السجود عنده أولى. وأما اختيار قوله وأناب، فلأنه اللفظ المشتمل على ذكر ما فعله من الركوع والإنابة. فكان حقيقة التشبيه به فيه يقتضي فعله عند ذكر ذلك عنه.
وكذلك الاختلاف في سجدة حم تنزيل فذهب مالك والشافعي إلى أنها عند قوله تعالى: {تَعْبُدُونَ} (6) وروي عن عمر رضي الله عنه وقال ابن وهب من أصحابنا وأبو حنيفة عند قوله {وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ} (7) وإليه ذهب ابن عمر رضي الله عنه. وتوجيه هذا الاختلاف كنحو توجيه ما تقدم في سجدة "ص".
فمن قال: تعبدون فلأنه موضع الأمر فكانت حقيقة الامتثال السجود عند ذكره.
__________
(1) عن ابن عباس رواه النسائي وأحمد والحاكم. وهبة الألمعي مع نصب الراية ج 2 ص 181.
(2) الائتمان -و-.
(3) أخرجه ابن أبي شيبة. انظر الدر المنثور ج 5 ص 304.
(4) سورة ص، الآية: 40.
(5) سورة ص، الآية: 24.
(6) سورة فصلت، الآية: 37.
(7) سورة فصلت، الآية: 38.

(1/795)


ومن قال لا يسئمون فلانه تمام معاني السجدة فإنها شرعت مرة بالأمر ومرة بذكر استكبار الكفرة. وذكر خشوع المطيعين. وفي الآية الأولى أمر وفي الثانية ذكر استكبار الكفرة وخشوع الملائكة فكان إيقاع السجود عند استيفاء المعنيين أولى. وقد جاءت سجدة الرعد والنحل والحج بمدح من سجد، وسجدة الفرقان وغيرها بذم من عاند. فامرنا بالتشبه بالممدوحين والمخالفة للمعاندين.
وجاءت سجدة النجم وغيرها بالأمر بالسجود فامتثلناها. فلما اشتملت سجدة حم على معنيين مما ذكرناه (1)، حسن إيقاع السجود عند استيفائهما مع أنه إحوط. وزيادة هذا المقدار من التلاوة لا يُخرج عن حكم السجود على القول الأول.
وأما مواضع السجود التي لم يذكرها القاضي أبو محمَّد فذكر ابن حبيب أن السجدة الثانية في الحج عند قوله: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (2). وفي النجم آخرها عند قوله: {وَاعْبُدُوا} (3). وكذلك في الانشقاق والعلق. عند خاتمتهما. قال القاضي أبو محمَّد السجدة في الانشقاق عند قوله تعالى: {لَا يَسْجُدُونَ} (4).

والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: أما المصلي صلاة الفرض فهل يجوز له أن يقرأ ما فيه سجدة أم لا، فإنه إن كان إمامًا وخاف أن يُخلّط على من خلفه نهي عن ذلك. وإن أمن التخليط على غيره إذا سجد أو كان فذًا فظاهر المذهب على قولين: فإن كانت الصلاة صلاة سر فإن سجوده يتقى منه أن يخلط عليهم، وإن كانت صلاة جهر والجماعة كثيرة فكذلك أيضًا لأن الجهر وإن كان رافعًا للتخليط فالكثرة توقع فيه. وإن كانت الجماعة قليلة. فإنه يؤمن من التخليط. فأجازه مالك في المجموعة والعتبية. وكرهه في المدونة للإمام على الإطلاق. وكذلك أيضًا كره في المدونة للفذ وأجيز ني غيرها. وأما الشافعي فإنه لا يكره قراءة سجدة في الصلاة. وأما أبو حنيفة فإنه يكره ذلك في صلاة
__________
(1) ذكرنا -و-.
(2) سورة الحج، الآية: 77.
(3) سورة النجم، الآية: 53.
(4) سورة الانشقاق، الآية: 21.

(1/796)


السر دون الجهر. والدليل على الجواز حديث أبي هريرة لما صلى بهم فقرأ بالانشقاق فسجد ثم قال سجدت بها خلف أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم - وأيضًا فإنه قد ثبت أنه عليه السلام كان يقرأ في يوم الجمعة في الصبح بـ {الم} "السجدة" وهل أتى على الإنسان (1). وكان عبد العزيز بن مروان وأبو بكر بن حزم يؤمان بهما في الصبح يوم الجمعة وحديث أبي هريرة وما ذكر معه فإنما هو في صلاة الجهر. فلهذا قصر أبو حنيفة الجواز على صلاة الجهر وحملناها نحن على الأمن من التخليط، فلهذا اشترطناه. وأما الشافعي فيحتج للجواز، وإن كانت صلاة سرّ، بما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - سجد في الظهر فرأى أصحابه أنه قرأ سورة سجدة (2). وأما اختلاف أصحابنا في الفذ، والإمام الذي يأمن من التخليط فسببه أن من اعتبر في علة الكراهة التخليط أجاز للإمام الذي يأمن من التخليط وللفذ.
ومن اعتبر زيادة في الصلاة على مقاديرها اختيارًا. وأن ذلك على خلاف المشروع كره للإمام وإن أمن وللفذ.
وإن قرأ الإِمام السجدة في الموضع الذي أجزناه له فلا شك أنه مأمور بسجودها ومن خلفه مأمور باتباعه. وإن قرأها في الموضع الذي نهيناه عنه سجد بها. إذ لا يحسن الإخلال بالسجود بعد قراءتها. واختار بعض أشياخي إذا قرأ سورة السجدة ألا يقرأ موضع السجدة تحرزًا من الكراهة. فإن قرأها وكانت صلاته سرًا أعلن بقراءة (3) السجدة ليشعر من خلفه أنه لذلك سجد وقد قال أبو هريرة كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي بنا الظهر ويسمعنا الآية أحيانًا (4). فإذا أسمعهم الآية لغير سبب (5) مثل ما نحن فيه. فأحرى فيما يقتضيه سبب. وهو إزالة التخليط عن المأمومين.
__________
(1) كلام غير واضح بمقدار أربع كلمات.
(2) رواه أبو داود: مختصر المنذري عدد 770 الحديث. وأحمد والحاكم والطحاوي عن ابن عمر حرز الأماني ج 4 ص 162.
(3) بقراءته للسجدة - قث.
(4) رواه البخاري ومسلم: نصب الراية ج 2 ص 3. والسدي والسيوطي على النسائي عن البراء بن عازب وعن أبي سعيد الخدري وعن أبي قتادة ج 2 ص 163 - 166.
(5) لغير سبب اقتضى ذلك مثل -و-.

(1/797)


وأما المأمومون هل يتبعونه في سجوده إذا وضعه في الموضع الذي نهيناه عنه؛ وهذا لا يخلو أن يكون جهر بالسجدة أو لا يجهر. فإن كان جهر بالسجدة فلا شك في اتباعه. وإن كانت صلاة سر ولم يجهر بها، ففي السليمانية قولان: أحدهما أنهم يتبعونه، فإن لم يفعلوا فلا شيء عليهم. قاله ابن القاسم. والثاني لا يتبعونه إذ لا يدرون أنه قرأ سجدة ويجوز أن يكون ساهيًا. قاله سحنون وتصح صلاتهم عنده وإن لم يتبعوه.
ولا يقرأ السجدة الخطيب على المنبر يوم الجمعة. قاله أشهب. وكأنه رأى أن النزول للسجدة (1) يؤثر في نظام الخطبة واتصالها وتركه مع القراءة لا ينبغي. فَنُهي عنه كما ينهى الإِمام عن قراءتها في الصلاة إذا خاف التخليط على المأمومين. فإن قرأها الخطيب فقال أشهب ينزل فيسجد الناس معه. فإن لم يفعل فليسجدوا ولهم في الترك سعة؛ لأنه إمامهم. وينبغي أن يعيد قراءتها إذا صلى ويسجد. وقال مالك لا يسجد. والعمل على آخر فعل عمر رضي الله عنه.

والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: قارئ السجدة إن جاوزها بيسير سجدها وقرأ من حيث انتهى. وإن جاوزها بالكثير رجع إليها فقرأها وسجد ثم عاد إلى حيث انتهى في القراءة. فكذلك المصلي إذا نسي سجودها عند قراءتها وقرأ بعدها يسيرًا فإنه يسجد حينئذٍ وإن قرأ بعدها كثيرًا عاد إليها. ولو نسي فقدمها عند آية قبلها ظن أنها السجدة فليقرأ السجدة ويسجد لها ثم يسجد لسهوه بعد السلام. وإن كان المصلي لم يذكرها حتى عقد الركعة التي هو فيها ورفع منها فإنه لا يخلو أن يكون (2) في فرض أو في نفل. فإن كان في فرض لم يعد إلى قراءتها. قاله في المدونة. وقال ابن حبيب: قال مالك وأصحابه يعود إلى قراءتها في الثانية ويسجد. وإن كان في نافلة فإنه يعود إلى قراءتها في الثانية. لم
__________
(1) للسجود - قث.
(2) إما أن يكون - قث.

(1/798)


يختلف فيه المذهب فيما علمت. وإن ذكر وهو راكع لم يرفع ففيه قولان. وهما مبنيان على ما قدمناه في عقد الركلعة هل هو تمام الإنحناء أو رفع الرأس؟ فقال مالك في هذه المسألة يمضي على ركوعه وقال أشهب بل ينحط للسجود. وإذا أمر المصلي الناسي للسجدة في ركعته أن يسجدها في الثانية فهل يسجدها قبل قراءة أم القرآن أو بعد قراءتها؟ اختلف الأشياخ فقال الشيخ أبو محمَّد بن أبي زيد بعد قراءتها. وقال الشيخ أبو بكر بن عبد الرحمان بل قبل قراءتها. قال وإنما يكره أن يقدم قبل أم القرآن ذكر أو دعاء في الركعة الأولى إذا أحرم. وأما في غيرها فلا يكره ذلك. وكان الشيخ أبا محمَّد حافظ على الرتبة (1) الأصلية وهي كون السجود بعد القراءة، وكان الشيخ أبا بكر حافظ على تعجيل القضاء، ورأى أنه إذا صارت الركعة الثانية هي محله، قُدم أولها. لأنه أقرب إلى موضعها الأصلي. وإن لم يذكر المصلي للنافلة السجدة حتى عقد الثانية، فقد فاته (2) السجود وقضاؤه في هذه الصلاة. وقال أشهب بل يسجد وإن لم يذكر إلا وهو جالس لم يسلم أو قد سلم.

والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: أما قارئ السجدة فإنه لا يركع بها عندنا. قاله مالك وابن القاسم لأنه إن قصد بفعله الإتيان بما عليه من الركوع فقد ألغى السجدة. وإن قصد السجدة فقد أحالها عن صفتها وأزالها عن هيئتها.
ونحا ابن حبيب إلى إجازة ذلك. وهكذا قال أبو حنيفة أن الركوع يقوم مقام السجود ولكنه جعل ذلك من ناحية الاستحسان. واحتج بقوله تعالى: {وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} (3).
وأجيب عنه بان المراد أنه سجد وعبر عن السجود بالركوع بدليل قوله: {وَخَرَّ} إذ لا يقال خرّ راكعًا وإنما يقال خرّ ساجدًا. ويمكن عندي أن يكون ابن حبيب رأى أن السجود الأصلي المتصل بالركوع يُغني عنها لأن صورته كصورتها. وهو يفعل عقيب قراءتها فاكتفي به عنها. كما ينوب غسل الجنابة عن غسل الجمعة لتساويهما في الصورة وحصول الغرض من غسل
__________
(1) المرتبة -و-.
(2) فات -و-.
(3) سورة ص، الآية: 24.

(1/799)


الجمعة بغسل الجنابة. فإن قلنا بما قاله مالك وتعمد فعل الركوع اعتد بركعته وقرأها في ثانيته على حسب التفصيل الذي أمرنا به ناسي سجودها عند قراءتها في الأولى، فذكر في الثانية. وإن لم يتعمد الركوع ولكنه أراد السجود لها فركع ناسيًا فهل يعتد بركوعه أم لا؟ فيه قولان: أحدهما أنه لا يعتد به. فإن ذكر وهو منعن خر لسجدته، وإن ذكر وقد رفع لم يعتد بركعته وألغاها. وهذا مذهب ابن القاسم. والثاني أنه يعتد بركعته. وإلى هذا ذهب مالك. فإن ذكر وهو منعن رفع متممًا للركعة. وإن ذكر بعد أن رفع فقد تمت الركعة ويقرأ السجدة فيما بعد على حسب ما تقدم. فإن قلنا بالإلغاء فقال بعض المتأخرين: يسجد السجدة ثم يقوم فيقرأ شيئًا ثم يركع. وإنما أمره ها هنا بقراءة شيء استحسانًا ليكون الركوع عقيب قراءة على حسب عادات الشرع وإلا فقد قال ابن حبيب من قرأ سورة في آخرها سجدة فسجد ثم قام فإن شاء ركع وإن شاء قرأ من الأخرى شيئًا ثم ركع. وسبب هذا الاختلاف في الاعتداد بهذه الركعة أن الانحطاط للركوع ها هنا لم يكن بنية الركوع ولكن بنية السجود. والركوع فرض والسجود نفل. فإن قلنا أن الحركة إلى الأركان غير مقصودة في نفسها وإنما القصد أن يحصل المصلي راكعًا فهذا قد حصل راكعًا فينوي بركعته الفرض. وأعظم مراتب الانحطاط أن يكون كالفرض (1). ولو صح الركوع مع عدمه لاكتفي به.
وها هنا قد صح الركوع. وإن قلنا أن الحركة إلى الأركان مقصودة في نفسها وقلنا إن الخروج عن نية الفرض إلى نية النفل لا يمنع الاعتداد كالمصلي في نفل وهو في فرض يعتقد أنه أكمل، اعتد هذا بركعته. وإن قلنا أنه يمنع الاعتداد لم يعتد هذا بركعته. ولقد استبعد ابن حبيب قول ابن القاسم حتى تأول قوله: لا يعتد بالركعة. على أن مراده لا يعتد بالركعة في النيابة (2) عن السجدة، ولا معنى لاستبعاده مع ما أريناك من وجه قوله. وحاول الشيخ أبو محمَّد خلاف ما حاول ابن حبيب فتأول قول من قال بالاعتداد على أنه إنما أجاب عن من قصد في الانحطاط الركوع ساهيًا عن السجدة. ولكنه مع هذا أشار إلى تخريج الخلاف
__________
(1) كالعدم - قث.
(2) الثانية - قث -وهو غير مستقيم.

(1/800)


في المسألة على الاختلاف في تحويل النية. وإذا قلن ابن في الاعتداد فذكر وهو منعن فخر ساجدًا فهل عليه سجود السهو أم لا؟ قال ابن حبيب: إن طال الركوع سجد بعد السلام. وفسر أبو محمَّد الطول ها هنا بالطمانينة في الركوع.
وإن قلنا بالاعتداد بالركعة، ففي المجموعة يقرأ السجدة فيما بقي من صلاته ويسجد بعد السلام. ولم ير المغيرة في هذا سجود سهو. والذي قاله المغيرة هو الأصل، إذ ليس ها هنا زيادة تقتضي السجود بعد السلام، ولا يظهر عندي للسجود بعد السلام وجه على مقتضى أصل المذهب إلا أن يعتقد أن الحركة إلى الركوع لما حولت النية فيها صارت كالعدم. وعدمها لا يمنع الاعتداد، ولكنه نقص يقتضي سجود السهو. ومقتضى النقص أن يكون قبل السلام لكنهم ربما أخروه إلى بعد السلام، لما كان إثبات السجود فيه ضعف احتياطًا للصلاة لئلا تكون فيها زيادة، وقد قدمنا قول أشهب أن ناسي التكبير يسجد بعد السلام لضعف السجود فيه، فاحتيط فيه من الزيادة في الصلاة.

والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: اختلف الناس في المستمع لقراعة السجدة. فعندنا أن المستمع لها يسجد مع القارئ دون السامع. وقال أبو حنيفة القارئ والمستمع والسامع سواء. وبما قلناه قال جماعة من الصحابة رضي الله عنهم. روي أن عثمان مر بقاصّ فقرأ سجدة ليسجد معه عثمان رضي الله عنه فلم يسجد. فقال ما استمعنا له. وقال ابن مسعود وعمران بن حصين ما جلسنا لها. وقال سلمان ما غدونا لها. وإذا ثبت أن السامع لا يسجد وإنما يسجد المستمع الذي جلس للقارىء، فإن لسجوده شروطًا. منها: أن يكون القارئ ممن يؤتم به فإن كان ممن لا يؤتم به كالمرأة فإن المستمع لا يسجد، وكالصبي فإنه لا يسجد أيضًا. ويتخرج أيضًا على القول بجواز إمامة الصبي في النافلة أن يسجد معه المستمع. أو كرجل بالغ على غير وضوء فإن المستمع لا يسجد. أو كان بالغًا فاسقًا وفسقه يمنع من الائتمام به فإن المستمع لا يسجد. فإن كان القارئ ممن يؤتم به ولكنه قرأ قراءة يُنْهى عنها كالقاصد لقراءة القرآن وسجوده بالناس لا لإرادة التعليم، فإن المستمع لا يسجد وإن سجد القارئ وإن كانت قراءته مما تجوز سجد وسجد معه المستمع. وإن لم يسجد القارئ فإن

(1/801)


كان في صلاة لم يسجد المأموم لئلا يخالف الإِمام *لورود النهي عن مخالفة الإِمام. وهكذا عندي لو قرأ المأموم سجدة لم يسجد على أصلنا لئلا يخالف الإِمام فيه* (1) وبه قال أبو حنيفة. وقال محمَّد بن الحسن يسجدها ومن سمعه إذا فرغوا من صلاتهم. وهذا غير صحيح لأنه وإن تحرز من المخالفة ففيه التأخير للسجود وذلك لا يصح على أصلنا. مع أن قراءته كالتبع لقراءة الإِمام فقدرت كالعدم. فلم توجب سجودًا. وإن كان في غير صلاة ففيه قولان: فقال ابن القاسم في المدونة يسجد المستمع. وقال غيره من أصحاب مالك لا يسجد المستمع. واحتج ابن حبيب لهذا القول: بترك سجود المأموم إذا لم يسجد الإِمام. وقد قدمنا أن الصلاة إنما لم يخالف فيها الإِمام لورود النهي عن مخالفة الإِمام. لكن مما يحتج به لهذا القول ما روي أن رجلًا قرأ آية فيها سجدة وهو عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فسجد الرجل وسجد معه النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم قرأ آخر آية فيها سجدة وهو عند النبي - صلى الله عليه وسلم -. فانتظر الرجل أن يسجد، فلم يسجد فقال الرجل يا رسول الله قرأت السجدة فلم تسجد فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كنتَ إمامًا فلو سجدتَ سجدتُ معك" (2). ومما يحتج به لابن القاسم أن المستمع خوطب بالسجدة كما خوطب القارئ بها. فإذا اشتركا في الخطاب فيها فلم يمتثله أحدهما فلا يؤمر الآخر بارتكاب النهي لركوب غيره له. ولو كان السامع للقراءة مصليًا سمعها من قارئ غير فصل فإنه لا يسجد عندنا؛ لأنا نشترط في سجوده وهو في غير صلاة أن يكون مستمعًا فكيف به إن كان في صلاة مشتغلًا بعمل آخر. ومن كان في صلاة فليس بمستمع وإن كان سامعًا. وقال الحكم وحماد يسجد. وبه قال النخعي إلا أنه يشترط ألا يكون ساجدًا. وقال ابن سيرين وأبو حنيفة يسجد إذا فرغ من الصلاة. وبنى أبو حنيفة على أصله في السامع يسجد وإن لم يكن مستمعًا. ولا يمكن هذا أن يسجد في الصلاة فأخر إلى بعد الفراغ. وقد نوقض في هذا بأنه يقول إذا قرأ المصدي آية سجدة في الصلاة ودم يسجد فإنه لا يسجد إذا فرغ.
__________
(1) ما بين النجمين = ساقط -و-.
(2) تقدم: ارواء الغليل ج 2 ص 227.

(1/802)


والجواب عن السؤال الثامن: أن يقال: إذا قرأ القارئ آية سجدة بعد ما سجد، فإنه يسجد عندنا، وعند الشافعي. وقال أبو حنيفة لا يسجد استحسانًا.
فلنا أنه ممن يخاطب بالسجود وقد وُجد سبب السجود فشرع له السجود كما لو أعادها في مجلس إخر. واحتج لأبي حنيفة بأنه اجتمع سبب سجدتين في مجلس واحد فأجزأه سجود واحد، كما لو لم يسجد. وأجيب عن هذا بأنه إذا سجد فعل الموجب عن سبب السجود، وإذا لم يسجد فإنه لم يفعل الموجب فاكتفي بسجود واحد، ألا ترى أن الحدود إذا لم تقع وقد تكرر السبب فإنه يكتفى بحد واحد، وإذا تكرر السبب بعد استيفاء الحد كرر الحد. وهذا الذي ذكرته من تكرر السجود هو أصل المذهب عندي، إلا أن يكون القارئ ممن يتكرر ذلك عليه غالبًا كالمعلم والمتعلم، فهذا فيه قولان في المذهب إذا كان المعلم والمتعلم بالغَيْن، فقال ابن القاسم يسجدانها أول مرة ولا إعادة عليهما في ترديدها. وقال غيره لا سجود عليهما ولا في أول مرة. فكان ابن القاسم رأى أن المشقة إنما تحصل بالتكرار وإنما يحصل التكرير بعد أول مرة. ورأى غيره أنهما لما كانا منتصبَيْن لشغل يتكرر سقط السجود، في أوله وآخره. ولو كان المعيد للقراءة ليس بمعلم ولا متعلم، وإنما اتفق إعادتها بأن قرأ حزبه ثم أعاد اتفاقًا أو لغرض ما، فإن الأظهر عندي أن يسجد على أصل المذهب كما بدأت بذكره. وإن كان بعض المتأخرين رأيته قد وجه سقوط السجود على المعلم والمتعلم، بان قال إذا تكرر على القارئ والمستمع السجود سقط. كما لا يلزم الجنب المزيد للنوم إعادة الوضوء إذا أحدث. لأن ذلك يتكرر على القارئ. فأشار في هذا الكلام إلى سقوط السجدة مع التكرار من غير اعتبار حال القارئ. ولو أن معلمًا قرأ عليه متعلم حرفُ افيه سجدة فسجد، ثم أتى آخر فقرأ حزبًا فيه سجدة أخرى لسجدَا جميعًا، العالم والمتعلم. لأن قارئ جميع القرآن يسجد جميع سجداته. ولا يسقط عنه بتكرير السجود. هذا اختيار بعض أشياخي وهو قد يتضح وجهه على قول ابن القاسم الذاهب إلى أن المعلم والمتعلم يسجدان السجدة أول مرة ويسقط عنهما السجود إذا كرراها. لأن هذا المعلم السامع جميع سجدات القرآن من آحاد بعددها لم يتكرر عليه سجود

(1/803)


سجدة واحدة، بل هو في كل سجدة لم يسجد لها إلا مرة. وأما على قول من قال من أصحابنا أن المعلم والمتعلم لا يسجدان، ولا في أول مرة، لما كانا منصوبين لأمر يتكرر، فإن سجود المعلم ها هنا فيه نظر على أصلهم؛ لأنهم إنما راعوا مشقة التكرر فاسقطوا المبدأ والمُعاد. والتكرر ها هنا حاصل للمعلم. فإن قيل فقارىء القرآن كله تتكرر عليه السجدات ولا يسقط عنه السجود لمشقة التكرار. قيل قد أشرنا فيما تقدم إلى أن المنتصب للتعليم والمُتعَلِم هما بصدد من يتكرر ذلك عليهما على مدى الأيام فخففت المشقة لهما بخلاف قارئ القرآن لغرض غير غرضهما. فهذا مما يمكن أن يذهب إليه من ذهب إلى هذا القول الثاني الذي أشرنا إليه. وهكنا اختار شيخنا أيضًا إذا تكررت السجدة بعينها على المعلم أن المكررين لها إن كانوا جماعة، واحدًا بعد واحد سجد كل واحد من المتعلمين ولا يسجد المعلم إلا مع أولهم لحصول التكرر فيه دونهم وإن كان المكرر لها عليه رجل واحد لسقط السجود مع التكرر *في ثاني مرة فما بعدها عنهما جميعًا لتساويهما جميعًا فيه* (1).

والجواب عن السؤال التاسع: أن يقال: كره في المدونة أن يقتصر على قراءة السجدة مجردة مما قبلها ومما بعدها. واختلف الأشياخ في تأويل قوله هذا، فحمله بعضهم على أن المراد به نفس السجدة دون جملة الآية التي هي منها. وحمله بعضهم على أن المراد به جملة آية السجدة وهذا الأشبه. لأنه لا فرق بين قراءة كلمة السجدة أو جملة الآية التي هي منها. لأنه إذا قرأ جملة الآية ليسجد صار كمن قرأ نفس الكلمة، المتعلق السجود بها. فكان هؤلاء الذين حملوا كراهته (2) لقراءة آية قصدًا إلى السجود رأوا أن ذلك خلاف ما مضى به العمل، وأن الشرع إنما جاء بسجود من قرأ جملة اتفق فيها ذكر سجدة. فاما من قرأ آية ليسجد فلم يأت الشرع به فكره. لأنه بخروجه عن الشرع يضاهي من سجد في غير موضع السجود. وإذا كره هؤلاء الاقتصار على قراءة الآية فالاقتصار على قراءة كلمة السجدة ينبغي أن يكون أقرب إلى الكراهة.
__________
(1) ما بين النجمين ممحو -و-.
(2) كراهيته - قث.

(1/804)


والجواب عن السؤال العاشر: أن يقال: أما سجود التلاوة فلا يسلم منه عندنا. وأما التكبير له خافضًا ورافعًا فاختلف قول مالك فيه. فأثبته مرة وضعفه مرة أخرى إلا أن يكون في صلاة فلم يختلف قوله في إثباته. وبمثل قولنا في إثبات التكبير خافضًا ورافعًا ونفي السلام (1). قال أبو حنيفة في إحدى الروايتين عنه. وعنه رواية أخرى أنه يكبر للرفع دون الخفض. وبمثل قولنا أيضًا في إثبات التكبير خافضًا ورافعًا. قال ابن حنبل إلا أنه أثبت السلام. وبمثل قولنا في إثبات التكبير خافضًا ورافعًا. قال الشافعي إلا أنه زاد تكبيرة أخرى للافتتاح وأثبت السلام في أحد قوليه دون تشهد.
فأما إثبات التكبير في الصلاة فإنه في عبادة مشروع في سجودها التكبير فجرى الأمر في سجودها الفرض والنفل مجرى واحدًا. وأما إثباته في أحد القولين في غير الصلاة فتشبيهًا بسجود الصلاة. ولأنه - صلى الله عليه وسلم - قرأ القرآن فلما مرّ بالسجدة كبّر وسجد (2). وأما نفيه فلان التكبير إنما شرع في الصلاة وسجود التلاوة بمجرده ليس بالصلاة المعهودة. وأما إثبات الشافعي تكبيرة الافتتاح فقياسًا على صلاة مبتدأة، وابتداؤها إنما يكون بتكبيرة الافتتاح. وقد قال بعض الأشياخ إنما اختلف قول مالك في التكبير ولم يختلف قوله في نفي التسليم لأن التسليم إنما يكون فيما كبر فيه للافتتاح قائمًا. ألا ترى أن صلاة الجنازة لما كان تكبير افتتاحها قائمًا شرع فيهآ السلام. فعورض هؤلاء بسجود السهو لما كان السلام ثابتًا فيه وتكبيره جالسًا، فأجاب بعضهم بأنه تبع لصلاة شرع فيها السلام، فشرع في التابع لها. وأجاب بعضهم بأن العقد للصلاة آكد من الحل؛ لأنها يخرج منها بالحدث وغيره كما حكيناه عن أبي حنيفة. فلأجل الاختلاف في افتقار الصلاة إلى التسليم ضعف حتى انحطت رتبته عن التكبير.

والجواب عن السؤال الحادي عشر: أن يقال: من شرط سجود التلاوة عندنا أن يكون القارئ طاهرًا ويستقبل بسجوده القبلة. ويجب عندي أن يراعى
__________
(1) ونفى السلام = ساقط -و-.
(2) رواه أبو داود: نصب الراية ج 2 ص 179.

(1/805)


فيه ما يراعى في سجود الصلاة من طهارة النجس وستر العورة. لأنه جزء من أجزاء الصلاة فروعي فيه ما يراعى في كلها. وقد قال ابن المسيب الحائض تومىء برأسها وتقول اللهم لك سجدت. وروي ذلك عن عثمان رضي الله عنه.
وما قدمناه من القياس على الصلاة يرد هذا المذهب، وكذلك يرد فعل الأسود بن يزيد وعلقمة وعطاء ومجاهد أن الماشي إذا قرأ آية السجدة يومئ إلى السجود. ولأن الماشي يمكنه السجود على الأرض فلم يجز له الإيماء كسجود الصلاة.

والجواب عن السؤال الثاني عشر: أن يقال: أما إذا اصفرت الشمس بعد العصر أو أسفرت بعد الصبح فإن سجود التلاوة حينئذٍ ينهى عنه حتى تغرب الشمس أو تطلع. وأما قبل ذلك وقد صليت العصر أو الصبح ففي المذهب ثلاثة أقوال. قال مالك السجدة صلاة فلا تصلى حينئذٍ. وقال ابن القاسم بل يسجد حينئذٍ وفرق مطرت وابن الماجشون بين ما بعد العصر وما بعد الصبح فأجازاها بعد الصبح ولم يجيزاها بعد العصر، وهكذا فرقا في ركعتي الطواف وأجرياها مجرى سجود التلاوة. فاما النهي فقد أشار إلى توجيهه مالك حيث قال إن السجود صلاة. وإذا ثبت أنه صلاة كما قال منع بعد العصر وبعد الصبح، كما تمنع النوافل حينئذٍ. وأما الإجازة فلأن سجود التلاوة سنة والسنن تصلى حينئذٍ.
وقد كنا قدمنا في الكلام في قضاء الفوائت جملًا في أحكام الأوقات المنهي عن الصلاة فيها. وسنبسط القول فيها فيما بعد إن شاء الله عَزَّ وَجَلَّ. وعند بسط القول فيها يتضح حكم الصلاة حينئذٍ. وأما ابن الماجشون وصاحبه فرأيا أن النهي بعد العصر آكد منه بعد الصبح فلهذا فرقا بينهما.

والجواب عن السؤال الثالث عشر: أن يقال: اختلف الناس في سجود الشكر فالمشهور عن مالك كراهته وإنكاره. وحكى ابن القصار عنه الجواز وبه قال ابن حبيب. وأما الشافعي فحكى عنه اين القصار الجواز. وذكر أصحابه أنه سنة. وهو مذهب أبي بكر وعلي وكعب بن مالك. وأما أبو حنيفة فذكر ابن القصار عنه أنه يراه سنة في قول وفي قول آخر يجيزه. وحكى غير ابن القصار عنه أنه يكرهه في أحد قوليه. فأما المنكرون له فيتعلقون بأنه - صلى الله عليه وسلم -

(1/806)


لم يذكر عنه أنه سجد شكرًا عند تجدد نعمة وارتفاع نقمة. ولو كان مشروعًا لفعله. أو جائزًا لاتفق وقوعه منه مع تكرار نعم الله عليه وعلى أصحابه. ولا نعمة أشرف من الإيمان بالله والهداية للإسلام ولم ينقل عن أحد ممن أسلم على يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه شكر (1) نعمة الإيمان بالسجود. وأما المجيزون له فيحتجون على الجواز بقوله - صلى الله عليه وسلم - في سجدة "ص" سجدها داود توبة ونحن نسجدها شكرًا (2). وبقول أبي بكر رضي الله عنه كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا بلغه شيء يُسرّ به خرّ ساجدًا (3). وروي أيضًا أنه سجد عليه الصلاة والسلام يوم فتح مكة. وحين جيء برأس أبي جهل. وحين كتب إليه علي في إسلام أهل همدان (4). وروي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: لقيت جبريل فأخبرني أنه من صلى عليّ صلى الله عليه ومن سلم عليّ سلم الله عليه فسجدت شكرًا لله تعالى (5). وفي البخاري أن كعب بن مالك خرّ ساجدًا لما بشر بتوبة الله عليه (6). ومن أثبت سجود الشكر سنة رأى أن الاقتداء بأفعاله - صلى الله عليه وسلم - مشروع وقد سجدها ها هنا فيما ذكرناه، فكان سجود الشكر مشروعًا ليحصل الاقتداء به - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) أنه سجد لشكر -و-.
(2) سنن النسائي بشرح السيوطي ج 2 ص 159.
(3) أخرجه الخمسة إلا النسائي. نيل الأوطار ج 2 ص 128.
(4) لم أجد هذه الثلاثة مجموعة في حديث واحد. لكن روى ابن ماجة سجوده يوم بُشر برأس أبي جهل وفي رجال إسناده مقال رقم الحديث 1391. وروى الدارمي عن شعثاء قالت: رأيت ابن أوفى صلى ركعتين وقال: صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الضحى ركعتين حين بُشر بالفتح أو برأس أبي جهل. سنن الدارمي ج 1ص 341.
(5) أخرجه أحمد والبيهقي والحاكم. نيل الأوطار ص 2 ص 128. وإرواء الغليل ج 2 ص 229 "صحيح).
(6) من حديث طويل أخرجه البخاري في غزوة تبوك وفيه يقول كعب سمعت صوتًا صارخًا أوفى على جبل سلع بأعلى صوته يا كعب بن مالك أبشر فخررت ساجدًا وعرفت أنه قد جاء فرج. فتح الباري ج 8 ص 184 وقيل الأوطار ج 2 ص129. وابن ماجة ح 1393.

(1/807)


الأوقات المنهي عن التنفل فيها

قال القاضي أبو محمَّد: والأوقات التي نهي عن التنفل فيها وقتان، بعد العصر حتى تغرب الشمس، وبعد الصبح حتى تطلع. فأما الأحوال التي نهي عن التنفل فيها فتختص ولا تعم، كحال خطبة الإِمام وشروعه في الصلاة وغير ذلك. والاختيار في النفل مثنى مثنى، والجهر بالقراءة فيها جائز ليلًا ونهارًا.

قال الشيخ الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل عشرة أسئلة. منها أن يقال:
1 - ما الدليل على النهي عن التنفل في الوقت الذي ذكر؟.
2 - وهل يلحق به غيره من الأوقات؟.
3 - وهل سائر البلاد وسائر الأيام في النهي واحد أم لا؟.
4 - وما الدليل على أنه لا يركع إذا خطب الإِمام أو شرع في الخطبة أو في الصلاة؟.
5 - وما معنى قوله وغير ذلك؟.
6 - ولِمَ اختار في النفل مثنى مثنى؟.
7 - وَلِمَ أجاز الجهر فيه؟.
8 - وهل يصلي جالسًا اختيارًا؟.
9 - وهل يصلي إيماءً أو اضطجاعًا اختيارًا؟.
15 - وما حكم قطعه؟.

الجواب عن السؤال الأول: أن يقال: قد قدمنا في باب الكلام في قضاء

(1/808)


الصلاة المنسية قول بعض أصحابنا إن الأوقات المنهي عن الصلاة فيها (1) وقتان راجعان إلى الفعل. وهو إذا صُليت الصبح أو العصر، ووقتان راجعان لنفس الوقت. وهما بعوإلاصفرار وعند الطلوع (2). وذكرنا اختلاف الناس فيما يتعلق بذلك الفصل. وقد اختلف الناس في صلاة التطوع بعد صلاة الصبح وبعد صلاة العصر، فمذهبنا النهي عنها على حسب ما ذكره القاضي أبو محمَّد. وبه قال أبو حنيفة ووافقنا الشافعي على ذلك فيما لا سبب له. فاما ماله سبب من النوافل فإنه يجيزه. وبما ذهب إليه الشافعي قال جماعة من الصحابة رضي الله عنهم.
وقال ابن المنذر يجوز فعل النوافل بعد العصر إلى أن تصفر الشمس. وقال داود بل إلى أن تغرب. وذهبت طائفة إلى قصر النهي على طلوع الشمس حتى ترتفع. وعلى دنوها أيضًا إلى الغروب للمغيب حتى تغيب. وذكر الطبري أن هذا مذهب ابن مسعود وابن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاصي وبلال رضي الله عنهم. وذكر عن علي وأبي أيوب وتميم الداري وأبي الدرداء رضي الله عنهم أنهم كانوا يصلون ركعتين بعد العصر. وعن ابن عمر رضي الله عنه أنه كان يصلي بعد صلاة الفجر.
فاما نحن فنستدل بقوله عليه الصلاة والسلام: لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس ولا بعد العصر حتى تغرب الشمس (3). وقد قال ابن عباس شهد عندي رجال مرضيون ارتضاهم عمر بن الخطاب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاة بعد صلاتين صلاة الصبح وصلاة العصر (4). واختلفت إشارات الذاهبين إلى ما ذهبنا إليه، وفي معنى النهي عن ذلك. فمنهم من أشار إلى أن النهي عن ذلك حماية لئلا توقع التوسعة فيه إلى الصلاة حالة الطلوع والغروب. وقد أشار إلى هذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ لأنه لما نهى تميمًا الداري عن الصلاة بعد
العصر فقال له تميم: صليتها مع النبي - صلى الله عليه وسلم -. فقال عمر: ليس من إياكم من أنهى
__________
(1) فيها = ساقطة -و-.
(2) وعند طلوع الشمس - قث.
(3) رواه البخاري ومسلم والبيهقي. السنن ج 2 ص 452.
(4) متفق عليه والأربعة وأحمد: مختصر المنذري ج 2 ص 81.

(1/809)


أيها الرهط. ولكني أخاف من قوم يأتون بعدكم فيصلون بعد العصر إلى الغروب حتى يمروا بالساعة التي ينهى عنها. وأشار آخرون إلى أنه إنما نهى عن ذلك حقًا لهذين الفرضين ليكون ما بعدهما مشغولًا بما هو تبع لهما من دعاء ونحوه تخصيصًا لهاتين الصلاتين بذلك دون ما سواهمامن الصلوات. ونهي عن الصلاة بعدهما لأنه شغل بفعل مقصود في نفسه وهو الصلاة.
وأما الفرض فإنه يقضى حينئذٍ لأنه لا يمنع فرض مراعاة لتوابع فرض غيره. وكذلك ما له سبب من النوافل ورآه الشافعي كالفرض لا ينبغي أن يمنع لما يتبع غيره. ورأيناه نحن كما لا سبب له من النوافل. ويحتج الشافعي على صحة ما ذهب إليه بما روته أم سلمة أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى ركعتين بعد العصر فلما سئل عنهما أخبر أنهما عِوَض عما شغله عنه الوفد من ركعتين بعد الظهر (1). وأجيب عن هذا بأنه خصوص له - صلى الله عليه وسلم - لأن أم سلمة قالت: دخل علىّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد العصر فصلى ركعتين فسألته عنهما فقال ركعتان كنت أصليهما بعد الظهر فشغلني الوفد عنهما. فقالت أنصليهما إذا فاتتنا. قال: لا (2). وهذا كالنص في اختصاصه بهما. ويحتج أيضًا بقول قيس بن فهو. قال: رآني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصلي ركعتي الفجر بعد صلاة الصبح فقال ما هاتان الركعتان يا قيس؟ فقلت يا رسول الله لم أكُ صليت ركعتي الفجر فهما هاتان الركعتان.
فسكت (3). وأما داود فاحتج له بقول عائشة رضي الله هـ تعالى عنها قالت: والله ما ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركعتين بعد العصر قط (4). وهذا لا دليل فيه لاحتمال أن يكون لم تصفر الشمس. وابن المنذر يجيز التنفل ما لم تصفر الشمس، ويحتمل أن يكون فيما له سبب. هكذا حمل الشافعية هذا الحديث على ما له سبب، وأشاروا إلى أنهما الركعتان اللتان بعد الظهر، اللتان شُغِل عنهما. وهذا ضعيف لأن عائشة أخبرت بتكرر ذلك. واللتان شغل عنهما لم يتكرر الشغل عنهما.
__________
(1) رواه البخاري ومسلم وأحمد: بلوغ الأماني ج 6 ص و209 - 212.
(2) تقدم تخريجه.
(3) رواه الترمذي ج 2 ص 214 وأبو داود مختصر المنذري. حديث رقم 1223.
(4) متفق ورواه أحمد والنسائي والبيهقي: بلوغ الأماني ج 4 ص 206.

(1/810)


وأجاب أصحابنا بأنه يحتمل أن يكون المراد أن دخوله - صلى الله عليه وسلم -عليها بعد وقت العصر، لا بعد فعل العصر. وأما ابن المنذر فإنه يحتج بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تصلوا بعد العصر إلا أن تصلوا والشمس مرتفعة" (1). وأجيب عن هذا بأن إخبار النهي المطلق أشهر وأكثر رواة. وأما الذين قصروا النهي على طلوع الشمس حتى ترتفع وعلى دنوها للغروب حتى تغيب فيحتجون بقوله عليه السلام: لا يتحز أحدكم فيصلي عند طلوع الشمس ولا عند غروبها (2). فقصر النهي على هذين الزمانين يدل على نفيه عما سواهما.

والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: إذا طلع الفجر كره التنفل سوى ركعتي الفجر، وبه قالت الشافعية في ظاهر مذهبهم. قال بعضهم وفيه وجه آخر أنه لا يكره. فوجه النهي قوله عليه الصلاة والسلام: لا صلاة بعد طلوع الفجر إلا ركعتي الفجر (3). وأيضًا فإنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يصلي بعد الفجر إلا ركعتي الفجر. وأيضًا فإن صلاة النهجر أول الوقت أفضل. ففي إباحة التنفل في هذا الوقت ذوات فضيلة أول الوقت. ويحتج أيضًا من أجاز بالأحاديث الواردة في النهي وفيها من التقييد ما يدل على جواز التنفل في هذا الوقت كقوله: نهي عن الصلاة بعد صلاتين الصبح وصلاة العصر (4). فقُيد النهي بفعل الصلاة فدل على أنه قبل فعلها يجوز. وإذا ثبت النهي فعندنا أنه يستحب لمن فاته حزبه بالليل أن يصليه حينئذٍ لأجل الاختلاف في هذا الوقت، ولأنه أمر لا يتكرر. وكالقضاء لنافلة فاتت.
وهكذا التنفل بعد غروب الشمس ينهى عنه لما ذكرناه من أن في إباحته تأخير المغرب. وقد تقرر أن أول الوقت فيها أفضل. وعلى ذلك مضى العمل.
بل قال قائلون: ليس لها إلا وقت واحد. لكن بعض أشياخي أجاز التنفل بعد
__________
(1) أخرجه أبو داود والنسائي وأحمد: مختصر سنن أبي داود 2 ص 81 حديث 1229.
(2) رواه مسلم: إكمال الأكمال ج 2 ص 439.
(3) رواه الترمذي ج 2 ص 211.
(4) رواه البخاري ومسلم والبيهقي. السنن ج 2 ص 452.

(1/811)


الغروب إلى أن تقام الصلاة وبعد طلوع الفجر إلى أن تقام الصلاة لقوله في الصحيحين: بين كل أذانين صلاة قال ذلك ثلاث مرات ثم قال ذلك لمن شاء (1). ومراده بالأذانين الأذان والإقامة. وفي حديث آخر قال: "صلوا صلاة قبل صلاة المغرب" (2). وقال عقبة بن عامر كنا نفعله على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (3). وأما الصلاة إذا استوت الشمس نصف النهار. ففيه قولان: أجازها مالك في المدونة. وقال في المبسوط لا أحبها للذي بلغني من النهي فيها عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. فأما الجواز فلما قدمناه من النواهي المقيدة مثل حديث طلوع الشمس وغروبها وبصلاة الصبح والعصر. وهذا يقتضي قصر النهي على ذلك. وقد قال مالك ما أدركت أهل الفضل والعبادة إلا وهم يهجرون ويصلون نصف النهار. وأما النهي فلما رواه في الموطإ بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الشمس تطلع ومعها قرن الشيطان فإذا ارتفعت فارقها ثم إذا استوت قارنها فإذا زالت فارقها فإذا دنت للغروب قارنها فإذا غربت فارقها" (4). ونهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة في تلك الساعات.

والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: لم يفرق أحد من أصحابنا بين مكة وغيرها من سائر البلاد في حكم ما قدمناه من النهي. وبه قال أبو حنيفة.
وأجاز الشافعي صلاة التطوع بمكة في جميع الأوقات المنهي عن الصلاة فيها.
فلنا عموم النواهي انمتقدمة ولم يفرق فيها بين مكة وغيرها. ولأن النهي كان لمعنى مقارنة الشمس قرن الشيطان. وهذا المعنى يعم سائر الأمكنة فوجب أن لا يخص مكان دون مكان، كالنهي عن صوم يوم النحر. لما كان المعنى عم الأمكنة كلها. واحتج الشافعي بما رواه أبو ذر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس ولا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس إلا بمكة إلا
__________
(1) متفق عليه أخرجه الأربعة أيضأوالبيهقي: مختصر المنذري. حديث رقم 1238.
والبيهقي ج 2 ص 474.
(2) رواه البخاري وأبو داود والبيهقي: بلوغ الامانى ج 6 ص 27 أو السنن ج 2 ص 474.
(3) رواه أحمد والنسائي سنده جيد: بلوغ الامانى ج 6 ص 210.
(4) أخرجه مسلم. إكمال الإكمال ج 2 ص 436 والترمذي والبيهقي السنن ج 2 ص 454.

(1/812)


بمكة إلا بمكة" (1). وهذا يخصص ما تقدم من النواهي المطلقة والزيادة مقبولة.
وبقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ي ابن ي عبد مناف من ولي منكم من أمور الناس شيئًا فلا يمنعنّ أحدًا طاف بهذا البيت وصلى آية ساعة شاء من ليل أو نهارًا" (2). وهكذا لم يفرق أصحابنا بين يوم الجمعة ولا اغيرها. فإذا قلنا بالنهي عن الصلاة نصف النهار نهي عن ذلك يوم الجمعة أيضًا. وبه قال أبو حنيفة. وأجاز الشافعي وأبو يوسف التطوع في نصف نهار يوم الجمعة. فلنا عموم النهي. وله قول الخدري: نهى عليه الصلاة والسلام عن الصلاة نصف النهار حتى تزول الشمس إلا يوم الجمعة (3). ولأن الناس يوم الجمعة ينتظرون الصلاة فيغلبهم النوم فأبيحت لهم الصلاة ليشتغلوا بها عن النوم.

والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: اختلف الناس في الركوع تحية المسجد حال خطبة الإِمام يوم الجمعة، فمنعه مالك وأبو حنيفة وأجازه الشافعي، ورأى أن حكم تحية المسجد في هذا الحال باق على أصله.
فاحتج أيضًا بقوله عليه الصلاة والسلام: إذا قلت لصاحبك أنصت والإمام يخطب أنصت فقد لغوت (4). فإذا نهي عن التشاغل بقول: أنصت وكان الركوع أشد شغلًا فهو أولى بالنهي. ولقوله عليه الصلاة والسلام: إذا دخل أحدكم المسجد والإمام يخطب فلا صلاة له ولا كلام حتى يفرغ (5). وهذا نفي لجميع الصلوات حيئنذٍ إلا ما خرج بدليل، ويقوله عليه الصلاة والسلام لرجل دخل المسجد وهو يخطب: اجلس فقد آنيت وآذيت ولم يأمره بالركوع (6). وهكذا صنع عمر ابن الخطاب رضي الله عنه لما دخل عثمان وهو
__________
(1) هذا حديث أبي ذر. رواه البيهقي: السنن ج 2 ص 46 أو في إسناده ضعف.
(2) رواه الحميدي والبيهقي. السنن ج 2 ص 461.
(3) رواه البيهقي. السنن ج 2 ص 464.
(4) متفق عليه ورواه الأربعة والطحاوي: نصب الراية ج 2 ص 202.
(5) رواه الطبراني في الكبير. جامع السيوطي. حديث 1223.
(6) هذا رواه أحمد حرز الاماني ج 4 ص 188. ورواه ابن ماجة. حديث رقم 1115.

(1/813)


يخطب وجرى بينهما ما جرى ولم يأمره بالركوع (1).
وأما أصحاب الشافعي فإنهم يحتجون بعموم الأمر بتحية المسجد وبأن رجلًا جماء والشعبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب يوم الجمعة فقال: أصليت يا فلان؟ قال لا. قال: قم فاركع (2). وبغير ذلك مما سنبسطه إذا أعدنا الكلام على المسألة في باب صلاة الجمعة، وحينئذٍ نتكلم على تأويل كل طائفة أحاديث الطائفة الأخرى.
وأما قوله عطفًا على الركوع في الخطبة وحال شروعه في الصلاة فقد تقدم الكلام عليه لما ذكرنا حكم من أقيمت عليه الصلاة وهو في المسجد فصلى النافلة. وبالجملة فإن التنفل والإمام يصلي داخل في عموم النهي عن صلاتين معًا.

والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: أما قوله وغير ذلك فإنه إشارة إلى أحوال أخر سنبسط الكلام عليها في مواضعها كالآتي مُصلّى العيد فإنه لا يركع قبل صلاة العيد ولو كانت صلاة العيد في الجامع. فعن مالك في إجازة تحية الجامع روايتان. وكذلك التنفل بعد صلاة الجمعة سنتكلم عليه في موضعه. وقد تقدم الكلام على أن من عليه صلاة منسية فإنه لا يشتغل عن قضائها بالتنفل. فإلى هذه المعاني أشار القاضي أبو محمَّد رحمه الله بقوله وغير ذلك.

والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: اختلف الناس في عدد التنفل فعندنا أنه مثنى مثنى يسلم من كل ركعتين سواء كان التنفل، ليلًا أو نهارًا. وقالت الشافعية بما قلنا إلا أنها أجازت ما سواه كالتنفل بركعة وبثلاث وبأربع وبما زاد على ذلك وترًا كان أو شفعًا معدودًا كان أو غير معدود، يخرج عن جميع ذلك كله بتسليمة واحدة. وذهب أبو حنيفة إلى التفرقة بين نافلة الليل والنهار فقال في نافلة النهار: الأفضل أربع والجائز ركعتان، وفي نافلة الليل الأفضل أربع والجائز ركعتان وست وثمان ولا يزيد على ذلك. ومن الناس من ذهب إلى أن
__________
(1) رواه مسلم: إكمال الأكمال ج 3 ص 413. ورواه الترمذي. العارضة ج 2 ص 280.
(2) متفق عليه والأربحة والطحاوي: نصب الراية ج 2 ص 203.

(1/814)


صلاة الليل مثنى مثنى وصلاة النهار أربع. وقد اختلفت الأحاديث في هذا الباب فروي عنه - صلى الله عليه وسلم -: صلاة الليل مثنى مثنى (1). وروي عنه حديث ابن عباس لما بات عند خالته ميمونة فحكى أنه صلى ركعتين ثم ركعتين (2). الحديث. وروي عنه حديث عائشة أنه كان يقوم من الليل: فيصلي أربعًا فلا تسل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي ثلاثًا (3). وروي عنها أيضًا أنه كان يصلي من الليل ثلاث عشرة يوتر من ذلك بخمس ولا يجلس في شيء إلا في آخرها (4). وروي عنها أيضًا أنه كان يصلي تسع ركعات لا يجلس منها إلا في الثامنة ثم ينهض ولا يسلم ويصلي التاسِعة. فلما أسن - صلى الله عليه وسلم - وأخذه اللحم أوتر بسبع (5). وروي أربع قبل الظهر لا يسلم فيهن تفتح لهن أبواب السماء (6). فأما مالك فعول على قوله عليه الصلاة والسلام: صلاة الليل مثنى مثنى (7). وحديث ابن عباس، ورجحهما لأن الفرائض أكثرها ضعف أقلها فلتكن النوافل كذلك. فلما كان أقل النوافل ركعة وجب أن يكون أكثرها ركعتين. وبأن التسليم في كل ركعتين فيه زيادة في الأذكار والقُرب وأحوط لسلامة ما خرج منه إذ العمل المتصل يفسد أوله بفساد آخره. وأما من خالفه فيحتج بما أوردناه من الأحاديث المخالفة لهذا. وقد قال بعض أصحابنا: قول عائشة رضي الله عنها: كان يصلي أربعًا، لا دلالة فيه. لأنها لم تذكر هل صلى الأربع بتسليمة أو بتسليمتين. وأما أحاديث أربع قبل الظهر لا يُسلّم فيهن، فقال بعض الناس رواية عبيدة بن مغيث قال يحيى بن سعيد لو حدثت عن ابن مغيث بشيء لحدثت بهذا الحديث. وقد ذكر
__________
(1) متفق عليه وخزج طرقه نصب الراية ج 2 ص 143 - 145 والبخاري ومسلم وأبو داود
والنسائي وابن ماجة مختصر المنذري ح 1282 ج 2 ص 95.
(2) مالك والبخاري ومسلم الموطاص 95.
(3) رواه مالك والبخاري ومسلم. الموطاص 95.
(4) أخرجه البخاري ومسلم وأحمد. حرز الأماني ج 4 ص 266.
(5) رواه النسائي. شرح السيوطي والسندي ج 3 ص 201.
(6) رواه أبو داود وابن ماجة. جامع الأصول ج 6 ص 24. والبيهقي السنن ج 6 ص 488.
(7) تقدم تخريجه قريبًا. (8) للسلامة فأخرج منه =و=.

(1/815)


عنه أيضًا أنه قيل له الذي ترويه كله عن إبراهيم سمعته منه؟ فقال منه ما سمعته ومنه ما أقيس عليه. وهذا يوجب عدم الثقة بحديثه. ويرجح المخالفون أيضًا حديثهم بأن السلام مُخرج من العبادة. ومن خرج منها فلا يعود إليها. فكان ترك اشتراطه في كلل ركعتين أولى. ولأن البقاء على الصلاة أشق من التحلل. فكان بزيادة المشقة فيه أولى. وقد احتج على الشافعية في إجازتهم الاقتصار على ركعة واحدة بما كنا قدمناه في غير هذا الموضع، من أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن البتيراء.
وبأن ما لا يجزئ في الفرض لا يجزئ في النفل كالسجدة. وأجابوا عن الخبر بأنه مرسل أرسله محمَّد بن كعب. وأيضًا فإن ابن عمر فسر البتيراء بان يقوم الرجل فيصلي ركعة يقرأ فيها ويتم ركوعها وسجودها ثم يقوم إلى الثانية فلا يقرأ فيها ولا يتم ركوعها ولا سجودها. وأجابوا عن القياس على السجدة بأنها لا تجمع أفعال الصلاة بخلاف الركعة. على أن النفل لا يقاس عليه الفرض.
واستقبال القبلة يسقط في النفل ولا يسقط في الفرض. على أنه قد يعكس القياس المذكور على الفرض بان يقال: أول الشفع صلاة فرض فيجب أن يكون (1) الوتر صلاةَ نفل. هذا المعنى من القياس وإن لم يكن. نصَّ عليه أصحاب مالك والشافعي فهو مقتضب مما نصوا عليه.

والجواب عن السؤال السابع: أن بقال: أما الجهر والإسرار في النافلة فجائز. واستحب ابن حبيب الجهر في نافلة الليل واختار مالك رفع الصوت فيها. وكان الناس يتواعدون بالمدينة لقيام القُرَّاء بالليل. وأما نافلة النهار فقال
مالك في المبسوط: يخافت فيها بالقراءة.

قال الشيخ أبو محمَّد يستحب فيها الإسرار. وذكر القاضي أبو محمَّد أن في الإجهار فيها قولين: الجواز والكراهة. وقد كنا قدمنا ذكر الخلاف في هذه المسألة.

والجواب عن السؤال الثامن: أن يقال: القيام ركن من أركان الصلاة وشرط في صحة صلاة الفرض مع القدرة عليه. لقوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ
__________
(1) أن يكون أول الوتر - قث.

(1/816)


قَانِتِينَ} (1). وخص من هذه الآية العاجز عن القيام في الفرض. لقول عمران بن حصين رضي الله عنه كانت به بواصير فسالت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "صل قائمًا فإن لم تستطع فقاعدًا فإن لم تستطع فعلى جَنْب" (2). وخص بهذا الحديث أيضًا من لا يستطيع القيام في النافلة إذا قلنا أن الآية واردة في الفرض والنفل. وأما من يستطيع القيام في النافلة فإن له تركه والصلاة جالسًا *ويخص هذا بما روي من صلاته - صلى الله عليه وسلم - النافلة جالسًا* (3) ولقوله عليه الصلاة والسلام لعمران بن حصين وقد سأله عن صلاة الرجل قاعدًا فقال: إن صلى قائمًا فهو أفضل ومن صلى قاعدًا فله أجر نصف القائم ومن صلى نائمًا فله أجر نصف القاعد (4). وقد اختلف الأئمة في تنصيف الأجر على ماذا يحمل؟ فحمله ابن الماجشون على من صلى قاعدًا مع القدرة على القيام. ورأى أن من أقعده المرض في المكتوبة أو النافلة فإن أجره في القعود كاجره في القيام. ورأى بعض المتأخرين أن التنصيف في صلاة الفرض جالسًا مع العجز عن القيام أو في صلاة النافلة جالسًا مع القدرة على القيام أو العجز عنه. وذكر إسماعيل القاضي أن الحديث ورد في النوافل.
قال لأن الإتيان بها غير واجب. فإذا أتى بها جالسًا كان له نصف أجر القائم على رأي من قدمنا ذكره من المتأخرين. وتخصيص الحديث بالنوافل يفتقر إلى دليل وكان بعض أشياخي يميل إلى طريقة ابن الماجشون ويحتج لها بإخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - عمن كان له حزب من الليل فغلب بالنوم عليه أن له أجره ونومه صدقة عليه (5).
فإذا كانت الغلبة المانعة من فعل الصلاة يكتب معها أجر جميع الصلاة فالغلبة عن بعض الصلاة يكتب له أجر ذلك البعض. وهذا الذي قاله شيخنا يروق ولكن يلزم على طرده أن يكتب للحائض أجر الصلاة أيام حيضها لما كانت مغلوبة على تركها. فإن التزم هذا فقد طرد أصله. وبالجملة فإن التحقيق أن القياس الشرعي
__________
(1) صورة البقرة، الآية: 238.
(2) أخرجه الجماعة إلا مسلمًا. نصب الراية ج 2 ص 175.
(3) ما بين النجمين = ساقط -و-.
(4) البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة. نصب الراية ج 2 ص 150.
(5) رواه مالك وأبو داود والنسائي. الموطإ ص 93.

(1/817)


لا يستعمل في مقادير الثواب إلا أن يرد من الرسول - صلى الله عليه وسلم - لفظ يقوم مقام العموم حتى يشتمل على ما يتنازع فيه من ذلك. ويستعمل القياس فيه في العمليات لتقدم بعضها على بعض في العمل. وهذه إشارة يَفهم منها ما وراءها من خاض في علم الأصول وعلم أحكام القياس وحيث يجوز. وإذا ثبت أن له أن يصلي النافلة جالسًا فله أن يقوم ليأتي بالركوع على إكماله وله أن يومئ به جالسًا. فاما قيامه ليركع فلما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - قام بعد جلوسه فقرأ وركع (1). وأما ركوعه جالسًا فلأنا لو منعناه منه لكنّا أوجبنا القيام في النافلة وقدمنا أنه لا وإذا ثبت أن له الجلوس فإنما يكون ذلك إذا افتتح النافلة عليه. فأما لو افتتحها قائمًا ثم أحب أن يجلس ففيه قولان: أجازه ابن القاسم ومنعه أشهب.
وكان بعض أشياخي يرى أن الاختلاف إنما يحسن فيمن افتتح قائما ونوى القيام في جميعها غير ملتزم له. فأما من التزمه فإنه لا يختلف في أنه لا يجلس. كما لا يُختلف فيمن افتتحها قائمًا ونيته أن يجلس، أن الجلوس يجوز له. وأما من افتتحها جالسًا فلا شك أن له أن يقوم لأنه ينتقل إلى ما هو أفضل. وقد صلى - صلى الله عليه وسلم - جالسًا حتى إذا أراد أن يركع قام فقرأ نحوًا من ثلاثين آية (2). فإن قيل ظاهر هذا حجة لابن القاسم في إجازته القعود بعد القيام لكون هذا الخبر مبنيًا (3) على أنه يرجع إلى القعود بعد أن قام. قيل: قال بعض المتأخرين يحتمل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ينوي ذلك عند افتتاح نافلته.
وقد قدمت قول بعض أشياخي إن الخلاف لا يتصور فيمن نوى عند الافتتاح الجلوس بعد القيام.

والجواب عن السؤال التاسع: أن يقال: أما الإيماء في النافلة فقال ابن القاسم لا يومئ الجالس للسجود إلا من علة. فإن أومأ من غير علة في
__________
(1) أخرجه مسلم. إكمال الإكمال ج 2 ص 372.
(2) رواه البخاري ومسلم والبيهقي. السنن ج 2 ص 490.
(3) لكن هذا الخبر يبنى - قث.

(1/818)


النوافل أجزأه. وقال عيسى لا يومئ من غير علة في نافلة ولا غيرها. قال بعض المتأخرين ظاهر قول ابن القاسم الكراهة. وظاهر قول عيسى المنع.
وقال ابن حبيب له ذلك في النافلة كما له ترك القيام مع القدرة. وأما تنفل المضطجع اختيارًا فاختلف فيه على ثلاثة أقوال: فقيل يُمنع الصحيح والمريض. ويجوز لهما عند الأبهري. ويجوز للمريض خاصة عند ابن الجلاب، وهو ظاهر المدونة. وقد احتج الأبهري للجواز على الإطلاق بما قدمناه من حديث عمران بن حصين وقد ذكر فيه: ومن صلى نائمًا مثل نصف أجر القاعد. وظاهر الحديث أنه في المختار كما قدمناه.

والجواب عن السؤال العاشر: أن يقال: أما النافلة فليس له أن يقطعها قبل إكمالها لأنها عمل متصل شرعًا، فالشروع في أوله التزام لآخره. وقال الشافعي وابن حنبل له قطعها متى شاء. وكأنهما رأيا أنها لما لم تكن واجبة في أصل الشرع وإنما هي موقوفة على اختيار المكلف اقتضى ذلك بان يكون بالخيار بين الفعل والترك متى شاء. والاختلاف في هذه المسألة كالاختلاف في جواز قطع صوم التطوع وسنتكلم عليه في موضعه إن شاء الله تعالى ونذكر ما تعلق به الشافعي من الأحاديث الدالة عنده في الصوم على ما قال.
وسنتكلم أيضًا في كتاب الحج على قطع حج التطوع والصد عنه وفواته بما يكون الوقوف عليه يكشف الغطاء عن الاختلاف في هذه المسألة. وأما لو قطعت النافلة غلبة كما لو أحدث مغلوبًا فإنه لا قضاء عليه لمّا كان الفعل في أصله غير واجب. ولم يكن القطع باختياره فيعَدّ قاطعًا لما التزم. ولو كانت النافلة منذورة لقضاها وإن قطعت. لأنها بالنذر والإحالة على الذمة تُشبه الصلوات الفرائض المحالة على الذمة. لكن لو كان النذر في الصلاة نذرًا معينًا، كالناذر تنفل ساعة بعينها فَغُلِب على ترك الصلاة فيها فإن هذا يتخرج على القولين في ناذر صوم يوم بعينه فغُلب على إفطاره. فإن أصحابنا اختلفوا في قضائه.

(1/819)