شرح التلقين

فصل الجمع بين الصلاتين
قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: ويجوز الجمع بين الصلاتين في السفر في وقت أيتهما شاء إذا جد به السير، والاستحباب في آخر وقت الأولى وأول وقت الثانية. وذلك في الظهر والعصر وفي المغرب والعشاء ولا يتنفل بينهما.

قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل ستة أسئلة. منها أن يقال:
1 - ما الأسباب المبيحة للجمع؟.
2 - وهل يجوز لغير سبب؟.

(1/827)


3 - وما الدليل على جواز الجمع في السفر؟.
4 - وما صفة السفر المبيح للجمع؟.
5 - وما وقت الجمع؟.
6 - ولِمَ قال لا يتنفل بينهما؟.

فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: الأسباب التي تكلم أهل العلم على كونها مؤثرة في جواز الجمع أربعة. أحدها السفر. والثاني المطر. والثالث المرض. والرابع الخوف. وقد تكلم القاضي أبو محمَّد ها هنا على سببين منها وهما السفر والمطر. وسنلحق نحن الكلام على السببين الآخرين في أثناء كلامنا على ما تكلم عليه وإنما انحصرت الأسباب في هذه الأقسام لأنه لا يتصور عذر في غالب الأمر يشق معه أداء الصلاة على الفرض الأصلي سوى هذه الأسباب. ولهذا انحصر الأمر فيها.

والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: أما الجمع لِغير سبب فإنه مأخوذ مما قدمنا الكلام عليه في أول كتاب الصلاة لما ذكرنا اشتراك الظهر والعصر في الوقت. وذكرنا الخلاف في ذلك، وسبب الخلاف. وأشرنا إلى أن من ذهب إلى الاشتراك يستدل بجمع عرفة والمزدلفة. وإن الجمع بعرفة ترك فيه الوقت لفضل الوقوف. فلو كان الوقت فرضًا لما ترك لما ليس بفرض وكذلك تأخير المغرب في المزدلفة لأجل الإفاضة. فلو كان الوقت فرضًا ما ترك للإفاضة، وما ورد من الأحاديث في جمعه عليه الصلاة والسلام في السفر. وأن من نفى الاشتراك يحتج بحديث الأوقات، ويرى أن سبب وجوب الصلاة: الوقت. فلو كان الوقت واحدًا لم يفتقر إلى التمييز بين الصلاتين في النية كما لم يحتج إلى التمييز في سائر أيام رمضان لاستواء أيامه في سبب الوجوب، وكونها من رمضان. فلما افتقر إلى التمييز في الصلاتين علم أن السبب مختلف، وأن الأوقات متميزة، وهذا الذي أحلنا عليه إنما يفيد النظر في الإجزاء إذا خولف في الأوقات حكم الاختيار. وإلا فالجامع لغير عذر منهي عنه عندنا. وقد قال القاضي إسماعيل في المبسوط لما نص على القول بالاشتراك واحتج له إنما هذا عند الضرورة كما فعله الأئمة. وأما من فعله لغير ضرورة فإنه

(1/828)


ينهى (1) عن ذلك ويُؤدب عليه. وفي التأديب هنا نظر لأن القاضي إسماعيل إذا سلم القول بالاشتراك لم يكن الجامع للصلاتين مخالفًا لوقت مفروض إلا أن يقصر الاشتراك على حال الضرورة والعذر وينفيه مع حال الاختيار. فيصح التأديب حينئذٍ. أو يكون أثبت الاشتراك في حال الاختيار وحال الضرورة. لكنه أدب من جمع اختيارًا لتاكد النهي عنده عن ذلك. وإلحاقه بالسنن المؤكدة، فيكون التأديب في ذلك جاريًا على قول من تقدم من أصحابنا أن تارك الوتر يؤدب. وقد قدمنا الاعتذار عن هذا القول وذكرنا ما تأول عليه. فإن جمع جامع اختيارًا فهل تصح الصلاة أم لا؟ في المجموعة قولان.
ذكر عن ابن القاسم فيمن جمع بين العشاءين في الحضر من غير مرض أنه يعيد الثانية أبدًا. قال أبو محمَّد يريد أنه صلاها قبل مغيب الشفق. وذكر عن أشهب فيمن صلى العصر قبل القامة والعشاء قبل مغيب الشفق أرجو أن تكون صلاته صلاة.

والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: أما الجمع في السفر بين الصلاتين المتفق على أنه لا شركة بينهما في الوقت كالظهر مع الصبح والمغرب مع العصر فإنه لا خلاف في منع الجمع بينهما ولو تكاثرت الأعذار.
وأما ما يشترك وقته كالظهر مع العصر والعشاء مع المغرب فإن الجمع بينهما فعلًا لا وقتًا جائز باتفاق فقهاء الأمصار. وذلك بأنْ يُصلى الظهر في آخر وقتها والعصر في أول وقتها فيكون المصلي جمع بينهما فعلأولم ينقل إحداهما إلى وقت الأخرى. وقال أشهب في كتبه: يجوز مع الاختيار للحاضر والمسافر أن يؤخر الظهر فيصليها في آخر وقتها. والعصر أول وقتها. قال وذلك أن ينقضي الظهر وقد صار ظل كل الشيء مثله أو يبتدىء صلاتها حينئذ فإذا صلاها أقام الصلاة وصلى العصر. أو تنقضي المغرب إذا غاب الشفق أو يبتدىء صلاتها حينئذٍ فإذا صلاها أقام الصلاة وصلى العشاء.
وأما الجمع بينهما بنقل الوقت على الجملة فإنه يجوز عندنا وعند
__________
(1) منهي -و-.

(1/829)


الشافعي، ومنع أبو حنيفة من الجمع إلا بعرفة والمزدلفة. وقد وقع في المذهب عندنا الكراهية. فقال مالك في العتبية: أكره جمع الصلاتين في السفر. قال بعض المتأخرين: محمله على جهة إيثار الأفضل لئلا يتسهل فيه من لا يشق عليه. وقال أيضًا إذا ارتحل المسافرون عند الزوال فلا يجمعون. قيل معناه إذا كان نزولهم عند الغروب. وقال في كتاب ابن شعبان يكره الجمع في السفر للرجال ويرخص فيه للنساء. وسبب الاختلاف في هذا أن أحاديث الأوقات وبيانها ثابت مشتهر (1)، وفي بعضها ألفاظ تدل على الحصر على ما ذكر ونفي ما سواه من الوقت. كقوله وقت الظهر ما لم تحضر العصر إلى غير ذلك مما قدمنا ذكره من الأحاديث وهذا ينفي الجمع. وقد تواتر الجمع بعرفة والمزدلفة منقولًا بالعمل في سائر الأعصار ووردت أحاديث بجمعه عليه الصلاة والسلام في السفر سنذكر نصوصها فيما بعد. وهذا يبيح الجمع. فايّ الأمرين أولى أن يؤخذ به؟ فرأى مالك والشافعي أن أحاديث الأوقات عمومات خص منها السفر بما ذكرناه من جمعه عليه الصلاة والسلام في السفر. وأفاد هذا التخصيص الاشتراك في الحضر أو (2) لم يفده على الاختلاف في ذلك ورأيا أن جمع الحجيج معلل في عرفة بمشقة الشغل الملهي عن الصلاة لأنهم في حط رحال وإقبال على دعوات وابتهال فصار ذلك عذرًا أباح الجمع. فقيس عليه المسافر فإنه ربما كانت حاجته للجمع أشد، وأيضًا الجمع بالمزدلفة لمشقة الاشتغال بالإفاضة إلى غير ذلك من المشاق المذكررة في هذا. فصار ذلك عذرًا أيضًا أباح الجمع. ورأى أبو حنيفة أن أحاديث الأوقات أولى أن تتبع لاشتهارها وكثرتها وكونها أقوالًا وأفعالًا، وجمع الحجيج لا يراه معللًا. لاذا لم يكن لم يقس عليه. وأخبار جمعه عليه الصلاة والسلام يتأولها على أنه جمع بينهما فعلًا لا وقتًا. وهو يحيى الجمع فعلًا كما قدمناه عنه. ويؤكد هذا بأنه روي عن أنس أنه جمع بينهما فعلًا. ثم قال هكذا فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبقول ابن مسعود ما صلى عليه الصلاة والسلام صلاة قبل ميقاتها الإ صلاتين صلاة العصر بعرفة وصلاة الفجر بالمزدلفة، فإنه قد
__________
(1) ثابتة مشتهرة -و-.
(2) إذ -و-.

(1/830)


غلس بها (1). وإن ورد من الأخبار ما لا يمكن حمله على الجمع فعلًا، جوّز أن يكون ذلك من غلط الراوي في التقدير. وإن كان حمل الغلط على الرواة بعيدًا. فهذا سبب اختلاف فقهاء الأمصار في هذه المسألة. وأما ما وقع عندنا من الكراهة فقد ذكرنا ما تأول عليه. ويمكن أن يتأول فيه الاحتياط من الاختلاف الذي ذكرناه عن أبي حنيفة. والتفرقة في الكراهة بين الرجال والنساء يمكن أن يكون لشدة حاجة النساء إلى الصون عن الحط والترحال بخلاف الرجال.

والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: يجوز الجمع في السفر وإن كان سفرًا لا تقصر في مثله الصلاة خلافًا لأحد قولي الشافعي في أنه لا يجوز إلا في سفر القصر. ودليلنا جمع أهل مكة بين الظهر والعصر بعرفة والمغرب والعشاء بالمزدلفة. قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله في غير كتابه هذا: ولأنه سفر مباح فأشبه ما يقصر فيه. وتقييده ها هنا بالإباحة إشارة إلى أنه لا يجمع في سفر المعصية. وسنتكلم على الاختلاف في تعلق الرخص بسفر المعصية إن شاء الله تعالى. وأما الشافعي فإنه يحتج في منع الجمع بالقياس على الفطر فلما كان الفطر لا يجوز في قصير السفر فكذلك الجمع. ولا يكون مجرد السفر الطويل مبيحًا للجمع عندنا دون أن يضامه وصف آخر. واختلف في الوصف المشترط فيه. فقال مالك في المدونة: لا يجمع المسافر في حج أو غيره حتى يجدّ به السير ويخاف ذوات أمر فليجمع بين الظهر والعصر، يصلي الظهر في آخر وقتها ثم العصر في أول وقتها إلا أن يرتحل عند الزو الذيجمع حينئذٍ في المنهل.
ويجمع بين العشائين بمقدار ما يكون المغرب في آخر وقتها قبل مغيب الشفق والعشاء في أول وقتها بعد مغيب الشفق. فأشار مالك ها هنا إلى اشتراط الجدّ في السير وخوف ذوات أمر. وهكذا اعتبر أشهب مبادرة ما يخاف فواته والإسراع إلى ما يهمه. واعتبر ابن الماجشون وابن حبيب وأصبغ قطع السفر بمجرده. فاباحوا للمسافر الجمع إذا كان القصد بالجد في السير قطع المسافة ولم يعتبروا خوف ذوات أمر لما روي أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا أعجل به
__________
(1) أخرجه أحمد والبخاري ومسلم. حرز الأماني ج 5 ص، 127.

(1/831)


السير جمع بين المغرب والعشاء (1) فلم يذكر الراوي ها هنا سوى العجلة في السير.

والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: أما وقت الجمع فقد وردت في ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحاديث فروى أنس في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخّر الظهر إلى آخر وقت العصر ثم نزل فجمع وإن زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر وركب (2). وروى أنس أيضًا في كتاب مسلم كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا عجل به السير أخّر الظهر إلى آخر وقت العصر فيجمع ويؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء حتى يغيب الشفق (3). وروى معاذ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في غزوة تبوك إذا ارتحل قبل أن ترتفع الشمس أخّر الظهر حتى يجمعها مع العصر وإذا ارتحل بعد أن ترتفع الشمس صلى الظهر والعصر جميعًا. وإذا ارتحل قبل المغرب أخر المغرب حتى يصليها مع العشاء وإذا ارتحل بعد المغرب عجّل العشاء فصلاها مع المغرب (4) وجمعه - صلى الله عليه وسلم - بعرفة مشهور. وهو من هذا المعنى. لأنه قدم العصر. لأنهم يركبون للوقوف ولا يرفعون حتى تغيب الشمس. وكذلك جمعه بالمزدلفة وتأخيره المغرب، لأن الوقت يدخل عليهم وهم ركبان فلا ينزلون إلا بالمزدلفة.
واعلم بأنا قدمنا في أول كتاب الصلاة من الكلام على الوقت الاختياري والضروري ما هو أصل لهذه المسألة. فإذا علمت من هناك جميع ما قلناه في تحديد الوقت الاختياري ووقت الاضطرار فالجمع ها هنا لا يخلو من ثلاثة أقسام. أحدها أن تصلي الصلاتان في وقت اختيار لهما جميعًا. والثاني أن يصليهما في وقت اختيار لإحداهما ضرورة للثانية (5). والثالث أن يصليهما في وقت ضرورة لهما جميعًا. فأما الجمع بينهما في وقت اختيار لهما جميعًا فلا
__________
(1) مسلم والبيهقي. السنن ج 3 ص 159.
(2) البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود والنسائي والبيهقي. حرز الأماني ج 5 ص 121.
(3) رواه مسلم والبيهقي. السنن في 3 ص 161.
(4) رواه أحمد ومسلم وغيرهما. حرز الأماني حديث 1234 ج 5 ص 118.
(5) الثانية - ساقطة -و-.

(1/832)


يتصور إلا بان تقع أولى الصلاتين في آخر وقتها وأخرى الصلاتين في أول وقتها. وقد عُد هذا القسم في المدونة من قبيل ما لا يرخص فيه للمسافر إلا بأن يجدّ به السير ويخاف ذوات أمر. وقد حكينا قوله في المدونة في هذا لما قال لا يجمع المسافر إلا عند جذ السير وخوف ذوات أمر. فيصلي الظهر آخر وقتها والعصر أول وقتها.
وهذا الذي في المدونة لا وجه لعدّه من قبيل الرخص، لأنه لم يختلف في أن تأخير الظهر إلى آخر وقتها اختيارًا جائز. وقد قدمنا ما قوله أشهب في كتابه من إجازة ذلك للمسافر اختيارًا وللحاضر أيضًا.
وذكرنا قوله وإجازته ذلك بان تنقضي الظهر وقد صار ظل كل شيء مثله، أو يبتدؤها حينئذٍ. وقد تقدم نص قوله في هذا لكنه يمكن عندي أن يكون مالك رضي الله عنه لما رأى أن وقت الاختيار أفضله أوله، وكان مؤخر الظهر إلى آخر وقتها، قد أحل بتحصيل هذا الفضل ألحق التأخير لأجل عذر السفر بأبواب الرخص. وصار فوته الفضل ها هنا لَمّا دعت إليه ضرورة السفر كفوت جملة وقت الاختيار أصلًا الذي لا يلحق منه تقصير لضرورة السفر. وقد أشار أشهب إلى هذا المعنى فقال في المجموعة لا أحب الجمع بين الظهر والعصر إلا بعرفة أول الزوال وهي السنة. قال: وللمسافر وإن لم يجدّ به السير من الرخصة في جمعهما ما ليس للمقيم. وله في جدّ السير أكثر مما له إذا لم يجدّ في ذلك، وللمقيم في ذلك أيضًا رخصة، لأنه يصلي في آخر (1) الوقتين الذي وفت جبريل عليه السلام. فإذا فاء الفيء قامة كان للظهر آخر وقت وللعصر أول وقته وأول الوقت فيهما أحبّ إلينا وإذا ساغ للحاضر جاز للمسافر وإن لم يجد به السير، وكذلك في المغرب والعشاء، ويكون مغيب الشفق وقتًا لهما يشتركان فيه. مع ما روي من جمع المسافر ولم يذكر جدّ السير. وأما جدّ السير فمجتمع عليه. وقد جمع النبي - صلى الله عليه وسلم - في آخر وقت هذه وأول وقت هذه وذلك أن تنقضي المغرب وقد غاب الشفق أو يبتدىء بها حينئذٍ ثم يقيم فيصلي العشاء بعدها. وهذا في الظهر والعصر أجوز منه في المغرب والعشاء لأن المغرب إنما ذكر لها وقت واحد في الحديث.
فأنت ترى أشهب لما ذكر الجمع في آخر وقت الأولى وأول وقت الثانية سماه
__________
(1) أحد - قث.

(1/833)


رخصة. وعقبه بقوله وأول الوقت فيهما أححت إلينا، ليشعر أن عدّه رخصة إنما كان لفوت فضيلة أول الوقت على حسب ما تأولناه على المدونة. وما ذكره أشهب في المغرب والعشاء إنما ذلك على القول بان للمغرب وقتين، وأشار إلى كونهما أخفض رتبة من الظهر والعصر لأجل الاختلاف في وقت المغرب.
وأما الجمع في وقت اختيار لإحداهما ضرورة في الأخرى فيتصور بأن تقع الأولى في أول وقتها، والثانية في وقت لها ضروري ليس باختياري لأن من جمع بين الظهر والعصر عند الزوال فإن الظهر واقعة في وقتها المختار والعصر في وقت اضطرار. ويتصور أيضًا بان تؤخر الظهر إلى آخر وقت العصر فيجمع بينهما.
وأما كونهما يوقعان في وقت ضروري لهما فيتصور بأن يجمع بينهما قبل الغروب.
فإذا وضح لك أن الخروج عن وقت الاختيار إنما يسوغ عند العذر والاضطرار فيجب أن يراعى حال المسافر. فإن كان زالت عليه الشمس وهو في المنهل ويعلم أنه متى رحل لا ينزل إلا بعد الغروب، فإنه ها هنا يجمع بين الظهر والعصر عند الزوال إذا كان رحيله حينئذٍ، لأنا إن منعناه من الجمع فلا بد أن نكلفه النزول ليصلي المعصر قبل خروج وقتها، وفي النزول اضرار به. وإن لم نكلفه النزول صلى العصر بعد الغروب، وتأخير الصلاة عن جميع وقتها محظور. فلما تقابل الإضرار به في تكليف النزول، والتقصير في العصر بأن توقع في وقتها الضروري، رأى لك رحمه الله أن مراعاة الضرورة آكد من مراعاة الاختيار في الوقت. ورأى المخالف أن مراعاة الاختيار في الوقت أولى من مراعاة الضرورة. وقد تقدمت الحجة لمالك في هذا. وقد ذكر في المدونة جمع المسافر في المنهل إذا كان رحيله عند الزوال ولم يذكر إباحة الجمع بين العشاءين إذا كان (1) رحيله عقيب الغروب. وذهب سحنون إلى جواز ذلك في العشاءين كجوازه في الظهر والعصر. وأشار بعض المتأخرين إلى أن مذهب المدونة خلاف ما قال سحنون. ووُجَّه ظاهر المدونة عنده بأن ما بعد الغروب
__________
(1) لمن كان - قث.

(1/834)


ليس بوقت للرحيل في العادة، فإذا وقع نادرًا لم تتعلق به الرخصة كما تعلقت (1) بالرحيل عند الزوال. لأن الرخص لا تتعلق بالشواذ (2). وأما سحنون فإنه يحتج بالقياس على الظهر والعصر. وإذا كانت الإباحة عند الزوال لعذر الرحيل عنده.
فلو زال العذر بان نزل بعد الزوال فجمع بينهما حينئذٍ لا لعذر استئناف الرحيل حينئذٍ فإنه يعيد العصر ما دام في الوقت. رواه زياد عن مالك. قال بعض المتأخرين وكذلك يجب أن يكون حكم من جمع بين الصلاتين ولم يجد به السير عند من شرط في الجمع أن يجد به السير. وفي هذا نظر عندي لأن اشتراط الجد في السير لا يبلغ مبلغ مخالفة وقت الاختيار في الحرمة. وإذا أمكن أن لا يبلغ الجدّ في السير عند من اشترطه مبلغ وقت الاختيار في الحرمة والتاكد، لم يصح إلزامه أن يقول بالإعادة في الوقت فيمن جمع ولم يجدّ به السير. وإن كان المسافر الراحل عقيب الزوال من المنهل يعلم أنه ينزل قبل تصرم وقت الصلاة الثانية لم يجمع، بل يصلي الظهر قبل رحيله والعصر إذا نزل قبل الاصفرار. وكذلك المغرب عند الغروب والعشاء قبل ثلث الليل أو نصفه.
لأن إيقاع كل صلاة ها هنا في وقتها المختار يمكنه على حسب ما يمكن الحاضر، فلا معنى للجمع. وإن كان المسافر، زالت الشمس أو غربت (3) وهو على ظهر، ويعلم أنه ينزل قبل الاصفرار وقبل ذهاب ثلث الليل أو نصفه على الاختلاف في آخر وقت العشاء جمع في آخر وقت الصلاة الثانية ويكون هذا كالراحل عند الزوال من المنهل، وإن كان هذا أخر الأولى فاوقعها في وقت الضرورة والثانية في وقت الاختيار، والراحل من المنهل عند الزوال بالعكس من ذلك. لأنه قدم الثانية فاوقعها في وقت الضرورة وأوقع الأولى في وقت الاختيار. لكنهما يستويان في إزاحة (4) صلاة واحدة عن وقتها المختار. وإنما اتفق نفي الضرر فيهما على هذا الأسلوب من التقديم والتأخير. وإن كان هذا
__________
(1) تتعلق -و-.
(2) النوادر - قث.
(3) أو غربت = ساقطة -و-.
(4) إزاله - قث.

(1/835)


المسافر الذي أخذه الزوال أو الغروب وهو على ظهر لا ينزل في، النهار إلا بعد الغروب أو في الليل إلا بعد طلوع الفجر جمع الصلاتين في وقتهما المختار فيصلي الأولى في آخر وقتها والثانية في أول وقتها لأن الشرع لم يسوغ له تأخير الصلاة حتى يخرج وقتها الضروري. فإذا كان ذلك لا يسوغ له ولا بد له من النزول فنزول تتفق فيه الصلاتان في وقتهما المختار أولى من نزول يقعان فيه جميعًا أو إحداهما في وقت ضروري. ولو كان المسافر زالت عليه الشمس وهو في المنهل ويعلم أنه إذا رحل نزل بعد الاصفرار فهذا لا بد له من إيقاع الصلاة الثانية في غير وقتها المختار. فإن أبحنا له التعجيل والجمع أوقع العصر مقدمة على وقتها المختار. لان نهيناه عن الجمع أوقعها مؤخرة عن وقتها المختار.
فهذا فيه إشكال. وطريقة النظر فيه الموازنة بين التقديم على الوقت أو التأخير عنه أيهما أخف فيركب؟ وقد أشار بعض أشياخنا إلى تخيير المسافر في ذلك.
ورأى مع هذا أن تأخير العصر أولى لأنها توقع في وقت يخصها. وهذا الذي قاله ومال إليه من التأخير يظهر وجهه إذا قيل إن مؤخر العصر اختيارًا إلى الاصفرار ليس يأثم ولكنه مقضر. وأما إن قلنا بتأثيمه إذا أوقع العصر بعد الاصفرار على ما ذكره ابن سحنون عن مالك فإن ترجيح التأخير يحتاج نظرًا آخر. ولو كان المسافر زالت عليه الشمس وهو على ظهر ولا ينزل إلا بعد الاصفرار فإن ابن مسلمة أشار إلى جواز التأخير ليجمع الصلاتين إذا نزل. فقال فيمن خرج وأجمع السير يومه كله إلى الغروب يجمع إن شاء. وكذلك جمع أهل عرفة حين راحوا. قال: ولا أرى إلا أن وقتهما للضرورة من الزوال إلى الغروب.
وهذا أيضًا يتّضح وجهه على القول بان المؤخّر إلى بعد الإصفرار لا يأثم.

والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: إنما لم يتنفل بين الصلاتين المجموعتين في السفر لأن الجمع إنما أباحه ضرورة الجد في السير، فسقط مراعاة وقت الاختيار لضرورة الاستعجال والتنفل يشعر بالطمأنينة والاستقرار.
فلما نافى التنفل ما وضع الجمع له لم يكن لإدخاله في الجمع معنى. ولهذا اجتنب من اجتنب التنفل في السفر لأنه إنما رأى أنه ينافي ما وضع للمسافر من وضع شطر الصلاة.

(1/836)


قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: ويجوز في الحضر لعذر المطر في المغرب والعشاء دون الظهر والعصر.

قال الشيخ رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل عشرة أسئلة. منها أن يقال:
1 - ما الدليل على جواز الجمع في المطر؟.
2 - وما المساجد التي يجمع فيها؟.
3 - وما الصلوات التي يجمع بينهما (1) فيه؟.
4 - وهل الجمع سنة أم لا؟.
5 - وهل يكون الطين عذرًا كالمطر؟.
6 - وما وقت الجمع؟.
7 - وهل يتنفل بين صلاتي الجمع؟.
8 - ومن الذي يباح له الجمع؟.
9 - وما حكم الجمع في المرض؟.
10 - وما حكمه في الخوف؟.

فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: اختلف الناس في جواز الجمع لأجل المطر فأجازه مالك والشافعي ومنعه أبو حنيفة والمزَني. وقد قال ابن القاسم في المجموعة من جمع بين المغرب والعشاء في الحضر لغير مرض أعاد العشاء أبدًا. قال بعض المتأخرين هذا يقرب من قول أبي حنيفة. وكأن هذا لما رأى ابن القاسم استثنى المرضى خاصة استلوح من ذلك أنه لا يرى المطر عذرًا كالمرض. وأنه لو رآه عذرًا لذكره كما ذكر المرض. وهذه المسألة مبنية على القول بالاشتراك في الوقت، فإذا قيل بنفيه لم يكن للجمع وجه وإذا قيل بإثباته فقد تقابل فضيلتان، إحداهما فضيلة وقت الاختيار، والثانية فضيلة الجماعة، فتجب الموازنة بينهما. فمن رجح فضيلة الوقت لم يجمع ورأى أن صلاة العشاء فذًا بعد مغيب الشفق أولى منها جماعة قبل مغيبه. ومن رجح فضيلة الجماعة ورأى أن صلاة العشاء جماعة قبل مغيب الشفق أولى منها فذًا
__________
(1) بينهما. هكذا في جميع النسخ.

(1/837)


بعد مغيبه جمع. وقد روي أنه عليه الصلاة والسلام جمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء من غير خوف ولا سفر (1). قال مالك أراه في المطر.
وهذا الحديث دليل على جواز الجمع على الجملة على تأويل مالك. وسنتكلم على باقي هذا الحديث بعد هذا إن شاء الله تعالى.

والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: قد قدمنا أن مذهبنا جواز الجمع لأجل المطر فإذا كان جائزًا فسائر المساجد في ذلك سواء. وروى ابن شعبان عن مالك أنه لا يجمع إلا في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهذا الاختلاف راجع إلى ما تقدم من الموازنة بين الفضيلتين. فكانه رأى في المشهور أن فضيلة الجماعة في سائر المساجد تربي على فضيلة وقت الاختيار. وروى في هذه الرواية الشاذة عنه أنها لا تربي إلا إذا كانت في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - لِعظَم فضل الصلاة فيه على غيره من المساجد، وأصل الجمع إنما وقع في مسجده - صلى الله عليه وسلم -. ويمكن أن يكون إنما فعل ذلك فيه لاختصاصه بالفضل، فلا يقاس غيره عليه. وعلى هذه الطريقة قال مالك رضي الله عنه فيمن أتى المسجد وقد جمع الناس فلا يصلي العشاء وحده قبل الشفق إلا في مسجد الحرمين. لأجل أن فضيلة المسجدين تربي على الفضيلة التي أحل بها. وهذا الذي ذكرناه عن مالك يقتضي جواز الجمع في المسجد الحرام. وقد اختلف أي المسجدين أفضل؟ ولو قيل إن مسجد المدينة أفضل لأمكن أن يستخف الجمع في المسجد الحرام لأجل الخلاف فيه.

والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: أما الصلوات التي لا اشتراك بينهما في الوقت كالعصر والمغرب، والعشاء والصبح، أو الصبح والظهر فلا خفاء في منع الجمع بينهما. وأما التي بينهما الاشتراك كالظهر والعصر، أو المغرب والعشاء فعندنا أن الجمع لعذر المطر مختص بصلاتي الليل المغرب والعشاء دون صلاتي النهار: الظهر والعصر. خلافًا للشافعي في إجازته ذلك بين الظهر والعصر كما يجيزه في المغرب والعشاء. وسبب هذا الاختلاف أن
__________
(1) مالك في الموطإ والبيهقي وأبو داود. وفي بحض روايات أبي داود ولا سفر وفي بعضها ولا مطر. قال الحافظ واعلم أنه لم يقع مجموعًا بالثلاثة في شيء من الحديث بل المشهور من غير خوف ولا سفر. حرز الأماني ج 5 ص 131.

(1/838)


الشافعي رأى أن قاعدة جواز الجمع اشتراك الأوقات. والاشتراك ثابت بين الظهر والعصر كثبوته بين المغرب والعشاء، والمطر موجود في حق الجميع فوجب أن لا يفترق الحكم في ذلك. ورأى مالك أن مجرد الاشتراك لا يحيى الجمع دون تحقق العذر. والعذر إنما يتحقق في صلاة الليل دون صلاة النهار، لأن المطر لا يقطع الناس عن التصرف في أمور (1) دنياهم في النهار فإذا كانوا غير منقطعين عن التصرف فتكليفهم التصرف إلى المساجد لا يضر بهم. وهم في الليل لا يتصرفون. فتكليفهم التصرف إلى المساجد مع المطر إضرار بهم.
فلما اختلفت مواقع العذرين، اختلفت مواقع الأحكام. وقد يحتج للشافعي بما قدمناه من حديث ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام جمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء في غير خوف ولا سفر (2). قال مالك أرى ذلك كان في المطر. وقد تأول مالك الحديث على المطر وفي تأويله لذلك تسليم لاحتجاج الشافعي به. ولكنه خالف ما تأول الحديث عليه في الظهر والعصر لما قدمنا ذكره من اعتباره (3) مواقع الضرورة. وقد قال بعض البغداديين من أصحابنا يمكن أن يكون قول مالك: "أراه في المطر" أي في مطر غالب منع من تقديم الظهر فأخرها إلى آخر وقتها. وقد تؤول الحديث على غير تأويل مالك فقيل إنما فعل ذلك ليري اشتراك الوقت. وقد سئل ابن عباس على المراد بذلك فقال: أراد أن لا يحرج أمته. ويمكن أن يكون فعل ذلك لأجل مرض. ويمكن أن يكون إنما جمع بأن صلاهما في وقتهما المختار فصلى الظهر في آخر وقتها، والعصر في أول وقتها الذي كرهه (4) مالك في الظهر والعصر. وقد قال بعض أصحابنا البغداديين لعله فعل ذلك لعذر أوجبه من حشد أو غيره. وقيل يمكن أن يكون هذا مختصًا بمسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - لأجل ما اختص به من الفضيلة على ما قدمناه. فيجوز فيه الجمع بين صلاتي النهار وصلاتي الليل ولا يجوز في غيره
__________
(1) أمر -و-.
(2) مسلم. إكمال الإكمال ج 2 ص 356.
(3) اعتبار - قث.
(4) في آخر القامة الأولى. والعصر في أول القامة الثانية -و-.

(1/839)


من المساجد أصلًا على ما قدمناه من حكايته ابن شعبان عن مالك. وقد اختلفت الرواة عن ابن عباس كما اختلفت التأويلات فروي عنه في غير خوف ولا سفر كما قدمنا، وروي عنه في غير خوف ولا مطر. وهذا يرد تأويل مالك. وروي عنه أنه قال كان ذلك في سفرة سافرها. ويحتمل أن تكون هذه الروايات حكايات عن أوقات متغايرة. وخزج مالك في الموطإ أنه عليه الصلاة والسلام عام تبوك كان يجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء فأخر الصلاة يومًا ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعًا. ثم دخل ثم خرج فصاى المغرب والعشاء جميعًا (1). وهذا الحديث ذكر فيه الجمع بين الظهر والعصر جميعًا. ولكن على وجه تأخير الظهر لا على وجه تقديم العصر. ومالك إنما يكره الجمع بين الظهر والعصر في المطر بأن يقدم العصر عن وقتها المختار كما يفعل في العشاء.
وليس في الحديث ما يقتضي ذلك. وقوله ها هنا في هذا الحديث ثم دخل ثم خرج، ظاهره أنه مقيم لا راحل سائر، لأن الدخول والخروج إنما يستعمل غالبًا في الدخول في المنزل أو الخباء لا في الخروج عن الطريق للصلاة. ثم الدخول إليها للمسير. وإذا كان ظاهره أنه ليس على ظهر الرحيل فلعله فعل ذلك لضرورة مطر. قال أبو الوليد الباجي يتعلق أشهب بظاهر هذا اللفظ. وقال: إن للمقيم رخصة في الجمع بين الصلاتين لغير عذر مطر ولا مرض. وهو قول ابن سيرين، فأطلق النقل ها هنا عن أشهب في جمع الحاضر بين الصلاتين. وقد قدمنا نحن نص قوله وإشارته إلى أن يكون ذلك في وقتهما المختار.

والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: الجمع بين الصلاتين لأجل المطر رخصة. وقد أطلق مالك في المختصر القول بأنه سنة. قال بعض الأشياخ معناه أنه مما عُمل به. وسُن لنا أن نترخص بعمله، وإنما الجمع رخصة. وفي الموازية الجمع في السفر توسعة ورخصة لمن احتاج إليه وليس ذلك بسنة لازمة. وهكذا ينبغي أن يتأول قول مالك في المجموعة: سنة الجمع ليلة المطر أن ينادى للمغرب. على معنى أن من أخذ برخصة الجمع فسنة الجمع وطريقته كذا وكذا. وقد قال ابن قسيط في المدونة الجمع ليلة المطر سنة وقد صلاها
__________
(1) أخرجه مسلم والبيهقي. السنن ج 3 ص 161.

(1/840)


أبو بكر وعمر رضي الله عنهم على ذلك. وهذا يمكن أن يتأول أيضًا كما تأولنا قول مالك.
والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: قد ذكرنا أن المطر عذر يحيى الجمع. فإن لم يكن مطر ولكن كان طين وظلمة، فإن الجمع جائز أيضًا لأن الضرر بالتصرف في الطين في الليلة الظلماء كالضرر بالتصرف في الليلة المطيرة. فإن كان الطين والليلة مقمرة فظاهر المذهب منع الجمع لأن ضياء القمر يقوم مقام ضياء الشمس فلا يشق التصرف في الطين في الليلة المقمرة إلا كما لا يشق التصرف فيه بالنهار. والجمع معتبر بالمشقة. وقد قيل لمالك رضي الله عنه في العتبية ربما ينجلي المطر ويبقى الطين أيجمعون؟ قال نعم.
قال بعض أشياخي ظاهر هذا إجازة الجمع بمجرد الطين وإن لم تكن ظلمة. قال وكذلك قوله: "إذا كان الطين والوحل الكثير أرجو أن يكون له سعة في أن يصلي في بيته" يقتضي جواز الجمع لعذر (1) الوحل. وفي هذا الذي قاله نظر لأنه إنما أباح له التأخر عن الجماعة لأجل الوحل. وقد لا يحيى تقدمة الصلاة قبل الوقت لأجل الوحل لكون التقدمة قبل الوقت آكد من ترك الجماعة. فإذا أمكن أن يكون هذا المعنى قصد، فلا وجه لإلزامه ما قال. وقد ورد في الحديث إباحة التأخر عن الجماعة لأجل العذر. وفي الحديث الثابت إذا كانت ليلة باردة.
وفي بعض الروايات ليلة ذات برد وريح أمر عليه الصلاة والسلام المؤذن أن يقول: "ألا صلوا في الرحال" (2). وقد خرج من محصول ما قدمناه أن الأسباب التي لها مدخل في الجمع ثلاثة: مطر، وطين، وظلمة. فإن اجتمعت جاز الجمع. وكذلك إن اجتمع منها اثنان ما كانا. وإذا انفرد منها واحد فكان المطر جاز الجمع. لان كان الظلام لم يجز وإن كان الطين فقدلان: المنع على ظاهر المذهب والجواز على ظاهر المستخرجة.

والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: أما وقت الجمع، فإن ابن حبيب حكى عن مالك أنه ينادي للمغرب أول الوقت، وإنما نودي لها حينئذٍ ليعلم
__________
(1) لأجل - قث.
(2) رواه مالك والبخاري ومسلم. الموطإ ص 68.

(1/841)


بالوقت من لا يجمع معهم. ويعلن بالأذان في المنار. وأما الأذان للعشاء فقال مالك يؤذن لها في داخل المسجد في مقدَّمه. وقال ابن حبيب يؤذن لها في صحن المسجد أذانًا ليس بالعالي. وقد قدمنا في باب الأذان الاختلاف في تكريره في صلاتي الجمع بما يغني عن إعادته ها هنا. فإذا أذن للمغرب في الوقت المذكور فهل يؤخر فعلها أم لا؟ اختلف قول مالك في ذلك. فالمشهور عنه تأخيرها قليلًا. وروي عنه أيضًا تصلّى بإثر الأذان لها من غير تأخير، وبه قال ابن وهب. ورواه البرقي عن أشهب. فوجه القول بتأخيرها مراعاة التقرب من الوقت المختار للعشاء. ووجه نفي التأخير أن الجمع للرفق والانصراف قبل الظلمة. وهذا إنما يتحصل مع التعجيل. وأيضًا فإن إيقاع المغرب أول وقتها أفضل. وقد قال بعض أشياخنا شأن الناس اليوم تأخير المغرب. فمن صلى المغرب في أول وقتها المعتاد فقد أخر التأخير المراد. وإنما أشار مالك إلى التأخير عن الوقت الذي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصليها فيه. وقد قال رافع بن خَديج كنا ننصرف من الصلاة وإن أحدنا ليرى مواقع نبله. وأشار شيخنا هذا إلى أن الأولى عنده التخيير في صلاة المغرب بين أن تقدم عند الغروب لأنه الوقت الأفضل فيها، ولم تدع ضرورة إلى تأخيرها. أو تؤخر وتجمع مع العشاء. وأما العشاء فيختار فيها ما قاله في المدونة أن ينصرف الناس وعليهم إسفار (1). لأن تقدمتها عن هذا لم تدع إليه ضرورة وتاخيرها عنه يوقع في الضرر. وفي الذي قاله نظر، لأن التخيير في أن يصلي المغرب أول الوقت ثم يؤخر العشاء إلى أن ينصرف الناس وعليهم إسفار، فيه إيقاع العشاء قبل وقتها غير مجموعة لما قبلها. وإنما جاءت التقدمة مع الجمع. والتقدمة مع التفرقة لم تنقل. ولم يصحبها عمل. ألا ترى أن التنفل بينهما منهي عنه علي أحد القولين، لأن في فعله إحالة لمعنى الجمع. وقد كنا قدمنا ذكر ما في ذلك من إحالة معنى الجمع.
فإذا قلنا بالتأخير على القول المشهور فما مقداره؟ قال في المدونة يؤخرون المغرب شيئًا ثم يصلونها ثم يصلون العشاء وينصرف الناس وعليهم
__________
(1) أسفار قليل - قث.

(1/842)


إسفار قليل. وقال أشهب في مدونته: إذا كان المطر، تؤخر المغرب إلى غيبوبة الشفق ثم يجمع. قال مالك في مختصر ابن عبد الحكم تؤخر المغرب ثم تصلى ثم يؤذن للعشاء ويطولون حتى يغيب الشفق أو معه ثم تصلى، وهذا الذي قاله في المختصر وذهب إليه أشهب يكاد أن يُخرج الجمع عن معناه. لأن معناه الرفق بالناس ورفع ما يدركهم من المشي في المطر والطين عند شدة الظلمة والتأخير إلى غيبوبة الشفق أو ما قرب من غيبوبته قربًا كثيرًا يوقع في الضرر الذي كان الجمع لرفعه وإزاحته. وإذا كانوا يصلون العشاء بعد أن غاب الشفق فلا معنى لتأخير المغرب عن وقتها المختار. ولا فائدة في ذلك وهو قد قال في المختصر تؤخر المغرب مع قوله يطول أذان العشاء حتى يغيب الشفق أو معه. وهذا فيه نظر كما قررناه (1).

والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: أما التنفل بين العشاءين إذا جمع فاختلف المذهب فيه. فقال مالك لا يتنفل بينهما. وكل صلاتين يجمع بينهما فليس بينهما نافلة. ووجه هذا قد تقدم. وذكرنا أن التنفل بين المجموعتين يحيل معنى الجمع. وإذا كان محيلًا له ونافيًا لمعناه لم يحسن كما لم يحسن التنفل في السفر لكونه منافيًا (2) لمعنى التخفيف بوضع شطر الصلاة عند من ذهب إلى ذلك. وأجاز ابن حبيب التنفل بينهما وكأنه رأى أن تَنَفل من في المسجد ما دام المؤذن يؤذن للعشاء الآخرة لا يحيل معنى الجمع، لأن الناس ينتظرون المؤذن حتى يفرغ. وقد قال بعض المتأخرين ما قاله مالك مبني على تقدمة العشاء لما في ذلك من الرفق. وما قاله ابن حبيب مبني على جواز التأخير بعد الأذان ليتنفل من يريد. وأشار إلى تخريج الخلاف في التنفل على التقديم والتأخير، وهذا حكم التنفل بينهما.
وأما التنفل بعدهما فقد قال مالك في المستخرجة لا يتنفل بعد العشاء في المسجد. وقال أيضًا لا يُوترون في المسجد ولكن في منازلهم بعد مغيب الشفق. فأما التنفل بعد العشاء فيمكن أن يكون نهي عنه لأنه إنما أبيح الجمع
__________
(1) قدمناه - قث.
(2) مناقضا - قث.

(1/843)


لينصرف الناس إلى منازلهم قبل الظلمة الشديدة، وفي التأخير للتنفل وقوع فيها. وأما الوتر فإنها سنة مؤكدة لم تدع الضرورة إلى تقدمتها قبل وقتها كما دعت في العشاء فلهذا أخرت إلى مغيب الشفق.

والجواب عن السؤال الثامن: أن يقال: لا يمنع قرب الدار من المسجد من الجمع. قال مالك يجمع الناس وإن كان فيهم قريب الدار إذا خرج منها دخل المسجد من ساعته. وقال يحيى بن عمر وغيره يجمع معهم المعتكف في المسجد. قال أبو محمَّد عبد الحق لو كان المعتكف إمامهم لم يكن له عندي أن يجمع بهم، ولكن يستخلف من يصلي بهم ويصلي هو معهم. لأن المعتكف إذا كان مأمومًا جمع معهم لكونه تبعًا للجماعة. فإذا كان المعتكف إمامًا لم يجمع بهم لأنه لا يكون حينئذٍ تبعًا لأحد.
وتنازع الأشياخ في المرأة تجاور المسجد وتصلي أبدًا مع الناس وهي في منزلها هل لها أن تجمع مع أهل المسجد إذا جمعوا؟ فمنع أبو عمران من جَمْعها لكون المطر غير مانع لها من الصلاة بالمكان الذي اعتادت أن تصلي فيه مع الجماعة. فصارت كمن حاول الجمع لغير عذر. وهذا التعليل وإن طرد في المعتكف والبائت في المسجد لغربته فإنهم يجمعون لمعنى آخر غير موجود في المرأة. إذ من كان في المسجد لا يقدر على مخالفة الإِمام بأن يجلس ولا يصلي معه. وخالفه غيره من الأشياخ ورأى أن هذه المرأة تجمع كما يجمع المعتكف.
لأن الجمع وتقدمة الصلاة عن وقتها الاختياري إنما جاز لتحصيل فضل الجماعة. وهذا المعنى يحيى الجمع للمرأة كما أباحه للمعتكف.
وهل يباح الجمع إذا حدث العذر بعد صلاة المغرب؟ في ذلك قولان.
روى أصبغ عن ابن القاسم في القوم يصلون المغرب فهم يتنفلون لها إذ وقع المطر. فقال لا ينبغي أن يعجلوا العشاء إذا فرغوا من المغرب قبل أن يقع المطر. قال ابن أبي زيد وأعرف فيها قولًا آخر لا أعرف قائله. قال ابن أبي زمنين. قال أصبغ إن فعلوا ذلك فلا بأس بذلك إن شاء الله تعالى. قال بعض المتأخرين من ذهب إلى أن الجمع يكون أول الوقت أجاز الجمع ها هنا إذا

(1/844)


وقع المطر بعد صلاة المغرب. وفي الذي قاله نظر لأنه وإن قال بتقدمة الصلاتين أول الوقت فإنه قد ينهى هاهنا عن الجمع لأنهم لم يصلوا المغرب بنية الجمع. وقد اختلف المذهب فيمن صلى المغرب في بيته ثم أتى المسجد وصلى الجامعون فيه المغرب هل يصلي معهم العشاء أم لا؟ فقال بعض المتأخرين محتجًا لما في المدونة من الجواز: إن المغرب تؤدى في وقتها ولا تأثير لها في جواز تقديم العشاء، وإنما تقدم العشاء للتخفيف ولتحصيل فضل الجماعة. وهذا يحتاج إليه من صلى المغرب في بيته كما يحتاج إليه من صلاها في المسجد. قال ووجه الرواية الثانية: إن تقديم العشاء إنما أبيح لحكم الجمع ولذلك وصف به. ولو لم يكن للجمع فيه تأثير لوصف بتقديم العشاء خاصة.
فإذا فات معنى الجمع امتنع تقديم العشاء، فإن صلاّها معهم على القول بالنهي فقد أساء ولا يعيد لأنه مما اختلف فيه. وكان النهي على معنى الاستحباب لما في الوقت من الاشتراك. وبنفي الإعادة قال ابن عبد الحكم وأصبغ. والتعليل في هذه المسألة بأن معنى الجمع إذا فات امتنع تقديم العشاء، يشير إلى ضعف التخريج الذي حكيناه عن بعض المتأخرين في مسألة وقوع المطر بعد صلاة المغرب. وقد ذكرنا الاختلاف في المطر لو وقع بعد صلاتهم المغرب.
فلو كان ارتفع بعد صلاتهم المغرب وقد صلوها بنية الجمع. قال أبو محمَّد عبد الحق لا يمنع من الجمع إذ لا يُؤمن من عودة المطر. والأوْلى عندي مراعاة شاهد الحال. فإن كف المطر كفًا ظهر معه من الصحو ما يؤمن معه من عودة المطر فإنهم لا يجمعون، وكثيرًا ما يقلع المطر إقلاعًا يغلب على الظن معه أنه لا يعود عن قرب. ووقع في العتبية إذا كان المطر لا ينقطع وليس لتعجيلهم منفعة لدوامه، فلا بأس أن يجمعوا. وكذلك ذكر فيها أيضًا إذا كانوا في رمضان لا ينصرفون حتى يقنتوا، إن الأحب ألا يجمعوا فإن جمعوا ثم قنتوا فهم في سعة. وحكى ابن أبي زيد عن أبي بكر أنهم إذا جمعوا ثم قنتوا فعليهم إعادة العشاء. قال أبو محمَّد إنما لم ير مالك الإعادة لأنه لا بد أن ينصرف بعضهم، وأحب إلى أن يكون للأقل حكم الأكثر. فأنت ترى هذا الاضطراب في إجازة الجمع بمجرد المطر دون أن يصحبه ارتفاق بالجمع. وما قاله أبو بكر بن

(1/845)


اللباد من تأكد النهي عن الجمع هو أولى، لأنه قد عقل معنى الجمع في الشرع، وأنه حيث ما وقع إنما وقع للارتفاق به كما ذكرناه في جمع الحجيج بعرفة والمزدلفة، والجمع في السفر. وكذلك الجمع في المطر إذا لم يحصل به ارتفاق فلا معنى له. ولما استشعر أبو محمَّد صحة هذا الذي قلناه اعتذر عن مالك بأنه إنما وسع فيه إذا وقع مراعاة لحق من يريد الانصراف، ثم أشار إلى مراعاة عدد من يحب الانصراف هل هم الأكثر فيغلب حقهم في الجمع أم لا؟ وهذا الذي قاله من اعتبار حكم أكثر له أصل في الشرع وطريقة في النظر.

والجواب عن السؤال التاسع: أن يقال: اختلف الناس في جواز الجمع لأجل المرض فاجازه مالك *رضي الله عنه على الجملة* (1). ومنعه الشافعي رحمه الله وابن نافع من أصحابنا. وحكى ابن مزين عن ابن نافع أنه لا يجمع قبل الوقت ورأى أنه يصلي كل صلاة لوقتها. فمن أغمي عليه حتى ذهب وقته لم يكن عليه قضاؤه. فاحتجت الشافعية بان الجمع لأجل الارتفاق في جمع الحجيج وجمع المسافر معلوم. ولا ارتفاق في جمع المريض بل إيقاعه الصلاتين مفترقتين أسهل عليه وأرفق به. ورأى أصحابنا أن لجمعه معنى. إما تحصيل الصلاة في وقتها الضروري إذا خاف أن يغمى عليه في وقتها الاختياري حتى يفوت. صاما لأن تحريكه (2) مرة لصلاة واحدة أسهل عليه وأرفق به من أن يتحرك لها مرتين، أو يفتقر إلى وضوء ثان للصلاة الثانية إن لم يجمعهما. وإذا ثبت العذر والارتفاق جاز الجمع كجمع الحجيج وجمع المسافر. لا سيما وقد ذهب ابن سيرين وابن المنذر إلى إجازة الجمع للحاضر من غير عذر لما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - جمع بين الظهر والعصر من غير خوف ولا سفر (3). وروي من غير خوف ولا مطر. وقد كنا قدمنا أن بعض المتأخرين حكى عن أشهب أنه قال: إن للمقيم رخصة في المجمع بين الصلاتين غير عذر مطر ولا مرض. وأشار إلى أن أشهب يوافق ابن سيرين وقلو قدمنا نص ما وقع لأشهب في هذا. فإذا كان هؤلاء
__________
(1) ما بين النجمين ممحو -و-.
(2) هكذا في جميع النسخ ولعل الصواب تحركه.
(3) انظر حرز الأماني ج 5 ص 131.

(1/846)


ذهبوا إلى إجازة جمع الحاضر من غير مرض. فكيف بالحاضر إذا كان مريضًا وله ارتفاق في الجمع؟ وإنما ذكرنا مذهب هؤلاء ها هنا لنشعرك بأن مراعاة الاشتراك قد قوي عند طائفة حتى أجازت الجمع لغير عذر.
فإذا ثبت جواز الجمع فمتى وقته؟ اختلف المذهب في ذلك. فقال في المدونة، إن كان الجمع خوف الغلبة على العقل جمع بين الظهر والعصر عند الزوال وبين المغرب والعشاء عند الغروب. وإن كان للارتفاق جمع في صلاتي النهار وسط وقت الظهر وفي صلاتي الليل عند غيبوبة الشفق. واختلف على هذه الطريقة في وسط وقت الظهر فقال ابن حبيب: إذا كان الفيء ذراعًا وقال بعض الأشياخ بل نصف القامة. ومعنى قوله عند غيبوبة الشفق إذا فرغ منها غاب الشفق حينئذٍ. وهذا الاختلاف ها هنا في وسط الوقت كنحو الاختلاف في قوله في المدونة في المريض، والخائف، والمسافر، أنهم يتيممون وسط الوقت.
فقال ابن أبي زمنين: وسط وقت الظهر نصف القامة. وهذا نحو ما حكيناه ها هنا عن بعض الأشياخ. وقال أبو عبد الله محمَّد بن سفيان المُقرىء ينبغي أن يكون وسط الوقت على ضرب من التقريب عند ثلث القامة لأن الشمس عند زوالها تبطىء حركاتها وكلما مالت أسرعت. فعلى قوله هذا يجمع المريض عند ثلث القامة. وفي مختصر ابن عبد الحكم أن وقت الجمع يستوي فيه الخائف على عقله والمرتفق بالجمع، فيجمعان بان تؤخر الظهر إلى العصر والمغرب إلى العشاء. وفي مختصر ابن شعبان أنهما يستويان أيضًا ولكن يكون وقت الجمع أول وقت الظهر وأول وقت المغرب. وذهب أشهب وسحنون وابن حبيب إلى أنه إذا جمع للارتفاق جمع بينهما في آخر وقت الظهر وأول وقت العصر. ورأى بعض الأشياخ أن المريض الخائف على عقله غير في إيقاع الظهر عند الزوال أو عند آخر القامة. لأن تعجيل الصلاة أول الوقت غير واجب. فإن اختار تعجيل الظهر خير في العصر بين أن يجمعها مع الظهر أو يؤخرها. فإذا قلنا بأن الخائف على عقله يجمع أول الوقت فإن فعل ثم لم يغب عقله فقد قال عيسى يعيد الآخرة. وكأنه رأى أن الجمع أول الوقت احتياطًا للصلاة من أن يخرج وقتها ولم تصلّ لذهاب العقل. فإذا علم أن العقل لم يذهب فقد ارتفع شرط

(1/847)


إباحة التعجيل للثانية. وقد تقدم من الكلام في جمع المسافر ما يعلم منه وجه الاختلاف في هذا المعنى فمن تدبر ما قلناه هناك علم سبب هذا الاضطراب.

والجواب عن السؤال العاشر: أن يقال: أما الجمع لأجل الخوف من العدو فقال ابن القاسم في العتبية لم أسمعه ولو فعله لم أر به بأسًا. وقد قال قبل ذلك لا يجمع بينهما فإن الله تعالى قال: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} (1).
فوجه إجازة الجمع بأن الجمع إنما شرع للارتفاق على ما قدمنا والحاجة إلى الارتفاق به في خوف العدو أمسّ فكان جواز الجمع أولى. ووجه المنع ما اعتل به لِما مُنع لأن الله سبحانه لما قال: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا}، اقتضى ذلك الاقتصار على الارتفاق بتحويل الصلاة عن هيئتها وشكلها لا بتحويلها عن وقتها. وتحويلها عن وقتها زيادة على ما وقع في القرآن. فلا يثبت إلا بدليل.
فإذا قلنا بجواز الجمع فمتى وقته؟ أشار بعض المتأخرين إلى أنه يجري على حكم ما قدمناه في المريض من مراعاة شاهد الحال. فإن كان خوف العدو يتوقع منه تأخير الصلاة عن وقتها جمع في أول الوقت كما يجمع المريض في أوله إذا خاف تأخير الصلاة عن وقتها بذهاب عقله، وإن كان الخوف لا يبلغ إلى ذلك ولكن يمنع من الإقبال عليها والانفراد بها كما يجب، جمع في وقتها المختار.

فصل الرعاف في الصلاة
قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: ومن رعف في صلاته فإن كان يسيرًا قتله وتمادى. وإن كان كثيرًا نظر فإن كان قبل تمام ركعة بسجدتيها قطع ومضى وغسل (2) الدم واستأنف. وإن كان بعد عقد (3) ركعة بسجدتيها فهو غير إن شاء
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 239.
(2) يغسل -غ-.
(3) عقد - ساقطة -غ-.

(1/848)


قطع وإن شاء مضى فغسل الدم في أقرب المواضع وبنى. وهذا للمأموم. واختلف في المنفرد.

قال الشيخ رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل ثمانية أسئلة. منها أن يقال:
1 - لِمَ بنى الراعف؟.
2 - وما حكم الدم الذي يخرج له في الصلاة؟.
3 - وما حكمه إذا تكلم في طريقه؟.
4 - وفي أي موضع يبني؟.
5 - ولِمَ لم يبن إذا لم يعقد ركعة؟.
6 - وهل يلغي بعض ما عمله إذا بني؟.
7 - ولمَ اختلف في المنفرد دون المأموم؟.
8 - وما صفة بنائه؟.

فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: أما الراعف فقد يتعلق في بنائه برواية ابن أبي مليكة عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من قاء أو رعف أو أمذى في صلاته فلينصرف وليتوض وليبن على صلاته ما لم يتكلم" (1). وقد قدمنا نحن الكلام على هذا الحديث لما رددنا على أبي حنيفة قوله إن الحدث عن غلبة يبنى معه على الصلاة إذا توضأ. وذكرنا ما قيل في هذا الحديث. وإن ابن أبي مليكة لم يلق عائشة. وإن كان أصحاب أبي حنيفة قالوا: قد لقيها.
لأنه قال سمعتها تقرأ إذ تلِقّونه بألسنتكم بكسر اللام وتخفيفها. وإن كان إسماعيل بن عياش أسند هذا الحديث فإن الشافعي قال إسماعيل سيء الحفظ فيما يرويه عن غير الشاميين. وابن أبي مليكة ليس شاميًا. وقد روى أصحاب أبي حنيفة مثل هذا الحديث من طرق غير طريق عائشة رضي الله عنها. وقد قال ابن عباس كان عليه الصلاة والسلام إذا رعف في صلاته توضأ قيل معناه غسل الدم. وما تقدم من الكلام على هذه الأحاديث يغني عن إعادته. وقد روي
__________
(1) روى ابن ماجة عن عائشة رضي الله عنها من أصابه قيء أو رعاف أو مذي فينصرف فليتوضأ ثم ليبن علي صلاته وهو في ذلك لا يتكلم. في سنده إسماعيل بن عياش وهو ضعيف في روايته عن الحجازيين ح 122 أو الهداية ج 4 ص 40.

(1/849)


عن ابن عباس وابن عمر وأنس رضي الله عنهم أن الرعاف لا يمنع البناء. قال القاضي أبو محمَّد ولا مخالف لهم. وأشار إلى أنها صارت كمسألة إجماع من الصحابة.
وإذا جاز البناء فإنه رخصة. والأفضل عند مالك أن يقطع ويستأنف، ولمالك في المجموعة: "ولولا ما قالت العلماء يبنى في الرعاف لرأيت أن يتكلم ويبتدىء. ولكن الشأن ما مضوا عليه. قيل فإن اختار الراعف أن يتكلم ويبتدىء. قال فلا بأس بذلك. وظاهر هذه الرواية أن القطع ليس بأفضل فإن اختار القطع وتكلم قبل أن يبتدىء الصلاة صحت صلاته. وإن ابتدأ من غير أن يتكلم فقال ابن القاسم يعيد الصلاة. قال ابن حبيب: كمن زاد في صلاته تعمدًا" (1). وكأنه رأى أن التمادي، لما كان جائزًا له ولم يحصل منه مما يضاد الصلاة ما يكون قاطعًا لها، وإنما حصل منه مجرد النية للقطع، لم يعدّ قاطعًا، وصار فيما يفعله كزائد في الصلاة تعمدًا. وقد كنا تكلمنا على تحويل النية في الصلاة عند ذكر القاضي أبي محمَّد في مفسدات الصلاة قطع النية عنها. فمن أحب تحقيق القول في هذا فليقف عليه هناك.

والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: الدم القاطر من أنف المصلي لا يخلو أن يكون لا يرجو انقطاعه إذا انصرف لغسله أو يرجو ذلك. فإن كان لا يرجو انقطاعه إذا انصرف لعادة علمها من نفسه، فإنه لا ينصرف. ويكفه ما استطاع ويمضي على صلاته. وقد قال ابن المسيب فيمن رعف فلم ينقطع عنه الدم أتم صلاته إيماء. وقاله مالك أيضًا. قال ابن مسلمة إنما أومأ لأنه إن سجد أضر به ذلك وكثر عليه الدم، فجاز الإيماء للضرورة كمن برأسه صداع يمنعه من السجود. وقال ابن حبيب ليس عليه أن يركع ويسجد ويقوم ويقعد فيتلطخ بالدم. فأشار ابن مسلمة إلى أن العلة ضرورة المرض وما في معناه. وأشار ابن حبيب إلى أن العلة صيانة الثوب والبدن عن التلطخ بالدم فيمكن أن يكون ابن حبيب رأى أنه إذا ركع وسجد تلطخ بالدم، فصار حاملًا للنجاسة. وإذا لم يفعل
__________
(1) متعمدًا - قث.

(1/850)


أمِن من التلطخ (1) وحمل النجاسة، فيكون أباح الإيماء للصون من النجاسة. ويمكن أن يكون رأى ذلك للتأذي بالتلطخ (1) فيكون ذلك كما حكاه ابن حبيب أيضًا في مسافر حضرته الصلاة والأرض كلها طين، فإنه يومئ للسجود عند ذلك عند مالك وأصحابه (2) إلا ابن عبد الحكم فإنه قال يجلس ويسجد على الطين. ولمالك في العتيبة أنه يجلس ويسجد على الطين بقدر طاقته. واختلاف قول مالك في هذا مبني على تقابل أمرين فينظر في أيهما أولى والأولى ترك السجود صيانة للثوب والبدن من الطين، أو تقدمة حق الله تعالى في السجود. وإن تأذى بالطين، فقد تقدم اختلاف كثير في فروع مبنية على مثل هذا الأصل.
وقد قيل ينبغي أن يؤخر هذا الراعف الصلاة إلى آخر الوقت المفروض رجاء أن ينقطع الدم عنه حينئذٍ. وكان هذا نحا به ناحية الراجي وجود الماء.
وإن كان هذا الراعف يرجو انقطاع الدم، فإن (3) كان يسيرًا يزيله بحكّه بين أصابعه فإن يفتله بين أصابعه (4) ويتمادى على صلاته. وإن كان كثيرًا ويذهبه الفتل لثخانته فاختلف فيه: هل يفتله ويمضي على صلاته أو يخرج لغسله؟ فقال ابن حبيب: رأيت ابن الماجشون يصيبه الرعاف في الصلاة فيمسحه بأصابعه حتى تختضب فيغمس أصابعه في حصباء المسجد ويردها ثم يمضي على صلاته. وفي المدونة ينصرف من الرعاف في الصلاة إذا سأل أو قطر، قل ذلك أو كثر فيغسله ويبني على صلاته. وإن كان غير قاطر ولا سائل قتله بأصابعه وتمادي. وكان أبو هريرة وابن المسيب وسالم رضي الله عنهم تتخضب أصابعهم دمًا من أنوفهم فيفتلونه ولا ينصرفون. وقال مالك في المبسوط *إذا خرج من أنف المصلي دم ففتله* (5) فإن كان يسيرًا فلا بأس به. وإن كان كثيرًا فلا أحب
__________
(1) التلطخ بالدم - قث.
(2) تعليق في هامش نسخة -و- ولأنه إذا سجد في الخصخاض دخل ذلك في عينيه فيتحصل له بسجوده عليه أذية فلأجل ذلك أباح له الإيمان بالسجود دون الركوع.
(3) وإن كان -و-.
(4) بين أصابعه = ساقطة - قث.
(5) ما بين النجمين ممحو -و-.

(1/851)


ذلك حتى يغسل أثر الدم. وفي المجموعة قيل لمالك إن امتلأت له أربع أصابع إلى الأنملة، ويقدر أن يفتله؟ قال لا شيء (1) عليه. قيل له إن امتلأت الأربعة إلى الأنملة الوسطى قال هذا كثير. ورأى أن يعيد صلاته. قال بعضهم معنى قوله: إن امتلأت له أربع أصابع إلى الأنملة أي كلما امتلأت أنملة فتلها. وإنما قال في امتلاء الأصابع إلى الوسطى ما قال لأنه امتلأ له أكثر من الدرهم فصار حامل نجاسة. فلهذا قال يقطع.
وأما لو سأل ولم يصل إلى بدنه أو ثيابه فإنه ينصرف ويغسل الدم ويبني.
وقد أشار بعضهم فيما حكيناه عن ابن المسيب ومن معه إلى أن ظاهره اختضاب الأصابع كلها وهذا في حيز الكثير. ولعل المراد الأنامل العليا.
وسبب الاختلاف في هذا القسم ما كنا قدمناه من الاختلاف هل يراعى موضع النجاسة أو قدرها. فراعى عبد الملك قدر النجاسة وراعى في المبسوط موضعها لأنها حلت في محل كثير، وإن أذهبها الفتل. وقد تقدمت الإشارة إلى أن المذهب على قولين في هذا الأصل.
وإن كان هذا الكثير لا يذهبه الفتل ويرجو انقطاعه متى غسله فهذا ينصرف لغسله في أقرب المواضع إلى ثم يعود إلى صلاته.

والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: إذا تكلم الراعف في صلاته محمدًا بطلت صلاته. واختلف المذهب في كلامه سهوًا، فقال ابن حبيب إن تكلم في انصرافه أبطل صلاته وإن تكلم في رجوعه لم تبطل صلاته. وفي كتاب ابن سحنون أن الإِمام يحمل ذلك عن الراعف إذا كان قد عقد معه ركعة. وفي المدونة إن رعف الإِمام (2) فلما خرج تكلم بطلت صلاته. قال ابن الماجشون: إن تكلم (3) سهوًا أو عمدًا. وفي كتاب ابن سحنون إن تكلم سهوًا. والمستخلف في الصلاة حمل ذلك عنه. فوجه الإبطال مع العمد للكلام قصده بفعل ما يضاد
__________
(1) يفتله فلا شيء عليه -و-.
(2) إن رعف إمام - قث.
(3) إن تكلم - قث.

(1/852)


الصلاة. ووجه الإبطال مع السهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من قاء أو رعف أو أمذى في صلاته فلينصرف وليتوضا وليس على صلاته ما لم يتكلم" (1) فعم أنواع الكلام سهوه وعمده، وكون الراعف فذًا أو مأمومًا. وقد أشار ابن الماجشون إلى هذا بقوله إذا تكلم الراعف في ذهابه لغسل الدم عنه ابتدأ صلاته. وذلك لأن السنة إنما جاءت في بناء الراعف ما لم يتكلم. لكن قوله إذا تكلم في ذهابه لغسل الدم، إن أراد سائرًا أو راجعًا فإنه لا يتحقق له وجه. لأن عموم الحديث يقتضي المساواة بين السير والرجوع. وكذلك قوله في المدونة فلما خرج تكلم، إن كان أراد أيضًا بذكر الخروج والتقييد به، الإشارة إلى التفرقة بين السير والرجوع، فهذا خلاف مقتضى العموم أيضًا. وإن كان أراد بما في المدونة وبما قال ابن الماجشون المساواة بين السير والرجوع ولم يقع ما ذكرناه عنهما تقييدًا، فهو مقتضى العموم (2). وأما ابن سحنون فإنه رأى أن الإِمام يحمل ذلك عنه كما يحمله عنه لو كان خلفه ولم يرعف. وكذلك المستخلف يحمل عن من استخلفه لأنه صار كإمام له. لكن تقييد ابن سحنون بعقد الركعة إن كان أراد به أن من لم يعقد ركعة فلا يبني فهذا لا فائدة لإيراده ها هنا؛ لأنه إذا كان من لم يعقد ركعة لا يبني وإن لم يتكلم فلا شك أنه إذا تكلم أحرى أنه لا يبني. وإن كان أراد به: يبني وإن لم يعقد ركعة لكن الإِمام لا يحمل عنه الكلام إذا لم يعقد ركعة. فهذا غير واضح. لأنه إذا كان في حكم الإِمام استوى عقد الركعة وترك عقدها كما يستوي ذلك فيمن لم يرعف، وقد تكلم قبل عند الركعة أو بعد عقدها. وقول ابن سحنون إن رعف قبل أن يعقد معه ركعة لم يحمل عنه الإِمام السهو: ظاهره عندي أنه أراد أنه لا يحمله وإن بني. لأن من لم يبن لا شك في أنه ليس في صلاة فيحمل عنه فيها ما يحمل.
وإن اختلف المذهب في الإِمام إذا أبطل صلاته هل يسري ذلك إلى إبطال صلاة الراعف؟ ففي كتاب ابن سحنون أن صلاة الراعف تبطل وهو طرد قوله إن الإِمام يحمل عنه سهو الكلام. وفي المجموعة عن سحنون لا تبطل صلاة
__________
(1) تقدم تخريجه قريبًا.
(2) فهو ما اقتضى العموم -و-.

(1/853)


الراعف. وكأنه رأى أن بخروجه لغسل الدم صار كمن خرج عن حكم الإِمام.
واختلف في الراعف إذا مشى في ذهابه على قشب يابس فقال ابن سحنون تبطل صلاته وقال ابن عبدوس لا تبطل. قال بعضهم هو كالصلاة في طريق المسجد وفيها أرواث الدواب وأبوالها. وقد فُرّق بينهما بأن الراعف ليس بمضطر إلى المشي على القشب اليابس بخلاف طريق المسجد بحصول الضرورة فيها.

والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: لا يخلو الراعف إذا خرج لغسل الدم أن يرجو إذا عاد إلى مُصلاّه إدراك بعض صلاة الإِمام أو لا يرجو إلى إدراك شيء من صلاته. فإن رجا إدراك بعض صلاة الإِمام فلا يخلو إما أن يرجو إدراك.
ركعة فأكثر أو إدراك أقل من ركعة. فإن رجا إدراك ركعة فأكثر فلا بد من عودته لاتباع الإِمام في بقية صلاته. لأنا إنما أبحنا له مفارقته للضرورة فإذا ارتفعت الضرورة فلا يصح أن يصلي منفردًا *ما يمكنه فيه اتباع إمامه* (1) وإن كان لا يدرك إلا أقل من ركعة فالمشهور من المذهب أن يعود لاتباع إمامه في بقية صلاته ولو لم يبق منها إلا التشهد. وقال ابن شعبان يصلي مكانه. فوجه المشهور أنه لا يسوغ له مفارقة الإِمام فيما قل أو جل إذا لم يرعف، فكذلك إذا رعف وزال حكم الرعاف. ووجه قول ابن شعبان أن ما دون الركعة لا تتاكد حرمته تأكيدًا يباح له المشي في الصلاة وفعل ما يضادها من مشي واستدبار قبلة مما تدعو الضرورة إليه. وإذا لم يكن له هذا التاكد في الحرمة جاز مفارقة الإِمام لصيانة الصلاة من فعل يضادها. وقد منع المذهب في أحد القولين من بناء الراعف على ما دون الركعة، لما لم يكن لما دون الركعة من التأكد حرمة تمنع من إبطاله عند الضرورة. ولو رجع لرجاء الإدراك، فتبين أنه أخطأ في تقديره ووجد الإِمام قد أكمل صلاته أتم هذا صلاته ولم تبطل لرجوعه حيث لا يجب عليه الرجوع في الباطن. لأنه رجع رجوعًا مأمورًا به. إلى هذا ذهب ابن القاسم في المبسوط.
وإن كان لا يرجو إدراك شيء من صلاة الإِمام فلا يخلو إما أن يكون في صلاة الجمعة أو في غيرها من الصلوات. فإن كان في صلاة الجمعة فإنه يرجع
__________
(1) هو في نسخة -و- والتصحيح من - قث.

(1/854)


إلى الجامع لكون الجامع شرطًا في صلاة الجمعة. وهل الرجوع ها هنا شرط في صحة الصلاة أم لا؟ المذهب على قولين: المشهور منه والظاهر من قول مالك أنه شرط في الصحة. وإن إكمال الصلاة لا يجزي إلا فيه. وقد قال ابن المواز فيمن ذكر سجدتي السهو قبل السلام من الجمعة فلا يسجدهما إلا في المسجد، فإن سجدهما في غير المسجد لم يجزه. وقال المغيرة في الراعف إن حال بينه وبين الرجوع واد فليضف لركعته ركعة أخرى ثم يصلي أربعًا. فلم ير إكمال الصلاة جائزًا في غير المسجد، وإن كان قد منع من المسجد. هذا إذا كان الفرض عنده الأربع التي يأتي بها بعد إكمال الجمعة. والقول الثاني إن الرجوع إلى الجامع ليس بشرط في الصحة. قال ابن شعبان: يرجع إلى أدنى موضع يصلي فيه بصلاة الإِمام فيُتم هناك لأن الجمعة لا تكون إلا في المسجد. فإن أتم في موضعه لم أرَ عليه إعادة. فأشار ها هنا إلى أن الرجوع إلى الجامع من فضيلة ما بقي عليه من فضيلة صلاته لا من شرط صحتها. وكأن الجامع إنما يجب عند تكامل شروط الجمعة. فهذا إذا سقط عنه اعتبار الجماعة فيما بقي من صلاته سقط عنه اعتبار الجامع في شروط الصحة. وقوله يكمل في أدنى موضع يصلي فيه بصلاة الإِمام. إنما اعتبر أدنى ما يصلى فيه بصلاة الإِمام لأن ما زاد على ذلك مستغنى عنه. فإن قيل فإذا كانت الصلاة عنده جائزة بموضعه فالرجوع إلى أدنى موضع مستغنى عنه فيجب ألا يؤمر به.
قيل قد رآه الجمهور شرطًا في الصحة. فكأن أقل المراتب فيه عند ابن شعبان أن يراه فضيلة فيأمر به للخروج من الخلاف وتحصيل هذه الفضيلة.
وإن كان في غير صلاة الجمعة أكمل في موضعه. هذا هو المعروف من المذهب.
وفي المدونة عن مالك يرجع إلى إتمام الصلاة في مسجدي الحرمين المسجد الحرام ومسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وكأنه رأى أن فضيلة المكانين تقتضي الرجوع وإن لم يكن المكانان شرطًا في صحة الصلاة. وهذا كمسلك ابن شعبان في أمره بالرجوع إلى صلاة الجمعة إلى حيث تصلى فيه الجمعة وإن لم يكن الرجوع عنده شرطًا في الصحة. فإن ظن هذا المصلي أنه لا يدرك فصلى مكانه

(1/855)


ثم تبين له أنه أخطأ وأنه لو رجع أدرك، فإن صلاته تجزيه. وقد قدمنا قول ابن القاسم في المبسوط في هذا المعنى.
ولو كان الراعف في صلاة الجنازة ففي الموازية يرجع إذا غسل الدم إلى الموضع الذي صلى فيه فيتم بقية التكبير. وكذلك صلاة العيدين. ولو أتم صلاة العيدين في بيته أجزأه. وقال أشهب إن خاف ذوات الجنازة أو العيدين فليمض على صلاته ولا ينصرف. وكذلك إن رأى في ثوبه نجاسة وليس معه غيره ويخاف الفوات في انصرافه. وليس كمن كان على غير وضوء فأراد التيمم للإدراك لأن التيمم لا يكون إلا في سفر أو مرض.

والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: اختلف قول مالك فيمن رعف قبل أن يعقد ركعة بسجدتيها هل يبني أم لا؟ فوجه البناء المراعاة لحرمة إبطال الصلاة. ووجه القطع والاستئناف أنه لم يمض من الصلاة ما له من تأكد الحرمة ما يباح معه فعل ما يضاد الصلاة من مشي وغيره. وقال بعض المتأخرين هذا الاختلاف مبني على الاختلاف في الفذ هل يبني أم لا؟ فمن جوزه جوزه ها هنا.
ومن منعه للفذ منعه ها هنا. ولذلك فرق ابن حبيب بين الجمعة وغيرها لأن الجمعة لا تكون إلا بإمام ولا يحصل للمأموم حكم صلاة الإِمام إلا بأن يصلي ركعة بسجدتيها. وعلى طريق (1) من قال لا يبني على أقل من ركعة لضعف حرمتها على ما أشرنا إليه جرى الأمر في مسألة المدونة فيمن رعف بعد سلام الإِمام أنه يسلم وتصح صلاته. ورأى أن إيقاع السلام بالنجاسة مع قلة مقداره والاختلاف في كونه فرضًا أولى من فعل ما يضاد الصلاة من مشي وغيره. لكنه قال في المدونة إذا رعف قبل الإِمام خرج لغسل الدم. وكان طرد ما قلناه من التعليل يقتضي أنه ينصرف، لكن حمل المسألة بعض الأشياخ علي أن المراد بها أن الإِمام لم يسلم بالحضرة. فأما لو سلم عقيب رُعافه فإنه لا ينصرف بل يسلم وتصح صلاته. وهذا الاعتذار صحيح يسلم من المناقضة فيما قلناه لأنه إذا لم يسلم بالحضرة والمأموم يجوز تطويل اللبث فإطالة اللبث بالنجاسة لا يحسن.
__________
(1) طريقة - قث.

(1/856)


والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: أما الراعف فقد اختلف المذهب فيه إذا رعف، وقد عمل بعض أجزاء الركعة. إما القراءة خاصة أو القراءة والركوع أو القراءة والركوع وسجدة واحدة؟ هل يعتد لما عَمِله من ذلك ويبني عليه أو يلغيه ويستأنف جملة عمله (1) إذا عاد؟ فمذهب مالك في المدونة الإلغاء. ومذهب ابن الماجشون وابن حبيب الاعتداد بما عمل والبناء عليه. وقد روى ابن وهب أيضًا عن مالك الجنوح إلى هذا الذي حكيناه عن عبد الملك، وأنه لو فعله الراعف لأجزأه. وسبب هذا الاختلاف ما كنا قدمنا الإشارة إليه في مواضع من تقابل أمرين تجب الموازنة بينهما أيها أخف فيرتكب؟ وذلك أن تكرير العمل في الصلاة خارج عن أصل ما شرع. وتفرقة أجزاء الركعة بعضها عن بعض خارج أيضًا عن أصل ما شرع فيها. فأي هذين الخروجين أخف فيرتكب؟ وفيه وقع الخلاف. والأولى ترك الإعادة والبناء على ما مضى إذا قيل بصحة البناء في الرعاف. لأن الراعف قد دخلت التفرقة في صلاته. فلا فرق بين أن تدخل بين ركعاتها أو بين أجزاء ركعاتها. وتكرير العمل لم يدخل صلاته.
فإحداث أمر لم يكن مراعاة لأمر قد كان لا معنى له.
فإذا قلنا أنه يبني على ما مضى فإنه يرجع إلى الحالة التي عليها قطع. فإن لم يكن فرغ من القراءة قرأ من حيث انتهى. وإن كان فرغ من القراءة ركع إذا رجع. وإن رعف في مبتدأ جلسته قبل أن يتشهد رجع إلى الجلوس والتشهد.
وإذا قلنا أنه لا يبني وأصابه الرعاف في أول ركعة وألغى ما عمل، فهل يلغي الإحرام أو يبني عليه؟ اختلف فيه فقال ابن القاسم وأشهب يبتدىء الإحرام. وقال سحنون لا يبتديه. وقد كنا قدمنا الاختلاف في صحة البناء فيمن لم يعقد من الصلاة ركعة. وذلك اختلاف وتوجيهه عائد ها هنا. وقد قال بعض المتأخرين إن الإحرام ركن قائم بنفسه كالركعة التامة فصح البناء عليه بخلاف بعض الوكعة. فأشار بهذا إلى التفرقة بين إلغاء ما لم يكمل من أجزاء الركعة الأولى وترك إلغاء الإحرام منها. وإن أجزاء ما عمل منها إنما اختلفت في
__________
(1) ويستأنف عمله - قث.

(1/857)


الإلغاء للفرق الذي ذكرناه. وقد اختلف المذهب في الراعف في الأولى من صلاة الجمعة قبل إكمالها، ثم أتى وقد فرغ الإِمام. ففي المدونة يبتدىء الظهر أربعًا. و (1) قال سحنون يبني على إحرامه. وروي عن مالك أيضًا أنه يقطع ويبتدىء بإقامة. وقال أشهب: أستحب أن يتكلم ويبتدىء، وإن بني على إحرامه أجزأه. وإن كان قد سجد سجدة فسجد أخرى وصلى ثلاثًا أجزأه فاباح له البناء على الركوع وإحدى السجدتين. وإن كان ذلك إنما وقع بنية الجمعة فأكمل عليه صلاته ينوي بها الظهر. ولو أكمل هذا على هذه السجدة صلاة الجمعة لتخرج عند شيخنا أبي الحسن اللخمي صحة الصلاة من قول أشهب في الموازية: في من أدرك الثانية من الجمعة ثم ذكر بعد سلام الإِمام سجدة، فإنه يسجدها ويأتي بركعة وتجزيه الجمعة.
وهذا التخريج للنظر فيه مجال. وقد يفرق بين المسألتين بان ناسي إحدى السجدتين من الثانية حتى سلم الإِمام لم يحل بينه وبين إصلاحها حائل على أحد القولين عندنا، وإذا لم يحل بينه وبين إصلاحها حائل وكان مأمورًا بفعلها قدّر كانه فعلها مع الإِمام وتابعه فيها. ومن تابع الإِمام في صلاة الجمعة في ركعة بسجدتيها بني عليها جمعة من غير خلاف عندنا. والذي رعف في الأولى بعد أن ركع وسجد سجدة قد فعل الإِمام في حال تشاغله بغسل الدم جميع الركعة الثانية. وعَقد الإِمام ركعة كاملة يمنع من العود لإصلاح ما فات في حق الغافل.
وإذا منع من العود لإصلاح ما فات، فقد صارت السجدة التي يفعلها بعد سلام الإِمام غير مقدر فيها متابعة الإِمام. وإذا لم يُقدّر فيها متابعة الإِمام لم يدرك من الجمعة ركعة كاملة. ومن لم يدرك من الجمعة (2) ركعة كاملة فلا جمعة له من غير خلاف عندنا.
وجملة الأمر مسألة أشهب في الموازية إنما بناها على أن السلام لا يحول بين المصلي والإصلاح. وهو قول مشهور عندنا. وأما إن كانت ركعة كاملة فإنها تمنع الغافل من العود للإصلاح من غير خلاف عندنا أعلمه على ما مضى بسط القول في باب الناعس. ومن تدبر هذا تبين أن تخريجه رحمه الله فيه
__________
(1) الواو = ساقطة في جميع النسخ.
(2) ص الجمعة = ساقطة - قث.

(1/858)


نظر. فإن قيل أنتم بنيتم القدح في تخريجه على أن السلام لا يمنع الناعس من الإصلاح ويمنعه عقد الركعة من الإصلاح. والراعف بخلاف الناعس لأن الراعف إذا جاء وقد عقد الإِمام بعده ركعة فإن له أن يفعل بعض أجزاء الركعة التي رعف فيها، وإن عقد الإِمام بعده ركعة، ما لم يكن التشاغل بفعل ما بقي عليه من أجزاء الصلاة يفوته الركعة التي أصاب الإِمام فيها. وأبو الحسن إنما خرج من قول أشهب في الغافل عن السجدة الآخرة من الجمعة مسألة الراعف قبل إكمال السجدة من الركعة الأولى. والراعف يحول بينه وبين الإصلاح والبناء ما فعله الإِمام بعده سواء كان السلام أو عقد ركعة. وإذا استوى في حق الراعف السلام وعقد ركعة كان التخريج صحيحًا. قلنا الغرض مما قلناه أن صلاة الجمعة من شرطها الجماعة في ركعة كاملة من غير خلاف في المذهب.
ومسالة أشهب في الغافل عن السجدة الأخيرة حتى سلم الإِمام. قدّر أشهب أن المأموم إذا سجد بعد سلام الإِمام فكأنه سجد معه وتابعه، وصار كرجل تأخر بعد سجود الإِمام قليلًا. وإذا قدّر هذه الركعة كأنها كلها مفعولة مع الإِمام صح بناء الجمعة عليها. والسجدة الأخيرة من الركعة الأولى قد لا يقدّر أشهب كونها مفعولة مع الإِمام لكثرة ما فعل الإِمام بعدها من الأفعال التي تمنع من الإصلاح في بعض الأعذار، بخلاف السلام الذي لا يمنع من الإصلاح في عذر من الأعذار على أحد القولين. وإذا كان ما فعل الإِمام بعد السجدة الأولى أشد حرمة ها هنا لكونه مانعًا من الإصلاح في حق الغافل دون الراعف من السلام الذي لا يمنع أحدًا من الإصلاح، وأمكن أن تقدّر السجدة المفعولة من بقية الصلاة (1) مضافة إلى الركعة الثانية فيصير الجميع كأنه لم ينسحب عليه حكم الجماعة. إذ إنما ينسحب حكم الجماعة على من صحت له ركعة مع الإِمام، لم يتضح هذا الإلزام. ولو فعل هذا الراعف بعد رعافه فعلًا من أفعال الصلاة هل يعتد به ويبني عليه أم لا؟ ذهب ابن حبيب إلى أنه يعتد بثلاثة أشياء رفع رأسه من الركوع وهو راعف أو من السجود أو قيامه إلى الثالثة بعد فراغ تشهده. وكأنه وأى إذا حصل له الركوع والسجود ولا رعاف به ثم عرض له الرعاف فرفع منهما
__________
(1) الأولى - قث.

(1/859)


فإن الرفع منهما يجزيه ولا يعيده إذا عاد إلى البناء. لأن المقصود من الركعة والسجدة قد حصل فإذا حصل المقصود سالمًا من موانع الصلاة عُدّ ما تعلق به وكان تابعًا له في حكم السالم، وإن كان به رعاف حينئذٍ.
وقد كنا قدمنا اضطراب القول بني الرفع من الركوع هل هو فرض في نفسه أم لا؟ وذكرنا ما قاله الناس في الرفع من السجود وأشرنا إلى الاضطراب أيضًا في الحركة إلى الأركان. وهل القيام إلى الثانية مراد في نفسه أو المراد حصول المصلي قائمًا؟ وإذا لم تكن هذه الأمور مرادة في نفسها كان قول ابن حبيب أوضح منه إذا بني على القول بأنها مرادة في نفسها. وإذا قلنا بأن الراعف يعتد بأجزاء الركعة ويبني عليه، فإنه متى عاد فعل الأجزاء الباقية من الركعة ما لم يكن تشاغله بفعلها يفيته مع الإِمام عقد الركعة التي صادفه فيها ولا يمنعه من البناء وإكمال ما بقي عليه من الركعة صلاة الإِمام ركعة في غيبته، بخلاف الناعس لأن الناعس إذا زال عذره والإمام لم يعقد ركعة كان اتباع الإِمام أولى به من تشاغله بقضاء ما فات. لأنه إن تشاغل بقضاء ما فات زاد في الفوات.
والراعف في حال غسله الدم غير مأمور باتباع الإِمام فيما عقده بعده. ولا يمكنه ذلك، فلهذا لم يمنعه ذلك من الإصلاح. ولكنه إذا صادف الإِمام في حال يكون تشاغله بإصلاح ما رعف فيه يفيته الركعة مع الإِمام منع ذلك وصار كالناعس.
وكذلك الناعس لو تمادى به النعاس حتى عقد الإِمام ركعة أخرى لم يمنعه ذلك من الإصلاح لما كان في حال نعاسه غير مخاطب بالاتباع كالراعف إذا تشاغل بغسل الدم (1)، فالراعف والناعس جاريان على أصل واحد.

والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: اختلف المذهب في الراعف إذا كان فذًا هل يبني أم لا؟ فأجاز مالك له البناء. ومنعه ابن حبيب، فكأن مالكًا رأى أن الظواهر والآثار عن الصحابة المقتضية للبناء لا تخص مصليًا دون فصل فحملها على إطلاقها. وكان البناء في الراعف لحرمة قطع الصلاة، واحيتاطًا من إبطال العمل بمانع وقع عن غلبة، ولم يؤثر في نقض الطهارة. وهذا حاصل في الفذ كما هو حاصل فيمن كان في جماعة. وكان ابن حبيب رأى أن البناء في
__________
(1) ساقطة -و-.

(1/860)


الرعاف لحرمة الجماعة وفضلها. ألا ترى أن المصلي يقطع في بعض الأعذار إذا كان فذًا. ولا يقطع إذا كان في جماعة لحرمتها. ولا يبني إذا كان فذًا لفقد حرمة الجماعة التي هي سبب البناء.

والجواب عن السؤال الثامن: أن يقال: أما صفة بناء الراعف فقد تقدم القول فيه مبسوطًا لما تكلمنا على القضاء والبناء. وهل يكون المأموم إذا فاته شيء قاضيًا فيه أو بانيًا؟ وهل يكون الفذ أيضًا قاضيًا أو بانيًا؟ وهل القضاء والبناء إنما يفترتان في القراءة خاصة دون القيام والقعود أو يفترقان في جميع ذلك؟ وإذا اجتمع القضاء والبناء أيهما يقدم؟ وذكرنا ما في هذا كله من الاختلاف، وسبب الاختلاف فيه، فلا معنى لإعادته. وفي الموازية أن الإِمام إذا سجد سجدة التلاوة بعد خروج الراعف أن الراعف إذا عاد لإصلاح ما فاته سجدها قبل إكمال صلاته، ليقْفوَ أثرَ إمامه ويفعل على حسب ما كان يفعل.
وهذا هو المعتمد في هذا الباب إكمال الصلاة على ما بقي من ترتيبها سوى ما أشرنا إليه من الاختلاف في الفصول التي قدمناها فمن أحب بسط فروع هذا الباب، طالع هذا الموضع الذي أحلناك عليه.