شرح التلقين

فصل صلاة المريض
قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: وصلاة المريض بحسب إمكانه ولا يسقط عنه ما يقدر عليه لعجزه عن غيره. ويختار له أن يجلس متربعًا ويثني رجليه للسجود (1). فإن لم يقدر على السجود أومأ. وجعله أخفض من الركوع.
وإن عجز عن الجلوس اضطجع على جنبه (2) الأيمن مستقبل القبلة فإن لم يتمكن من ذلك فعلى ظهره.

قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل ثمانية أسئلة. منها أن يقال:
__________
(1) في السجود -الغاني-.
(2) شقه -و- قث-.

(1/861)


1 - ما حكم المريض إذا عجز عن ركن دون ركن؟.
2 - وما حكمه إذا عجز عن الإيماء برأسه؟.
3 - وما حكمه إذا عجز عن الجلوس وصلى مضطجعًا؟.
4 - وما صفة الإيماء؟.
5 - وفي أي موضع يجوز الإيماء؟.
6 - وما صفة الجلوس؟.
7 - وما الأعذار المبيحة لترك القيام؟.
8 - وما حكم العجز إذا تغير في الصلاة؟.

فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: الأصل عندنا أن يصلي المريض بحسب طاقته بن غير لحوق مشقة له.
فإن عجز عن القيام فأمكنه أن يفعله متكئًا صلى متكئًا. فإن لم يقدر على القيام ولا التوكؤ صلى جالسًا. فإن لم يقدر على الجلوس إلا مستندًا. ولكنه لا يستند إلى جُنُب ولا إلى حائض. فإن فعل أعاد في الوقت. واختلف المتأخرون في علة الكراهة في الاستناد إليهما. فقال ابن أبي زيد وغيره إنما ذلك لنجاسة ثيابهما وأبدانهما.
فلو تحققت الطهارة لجاز ذلك. وقال القاضي أبو محمَّد في غير كتابه هذا إنما كره ذلك لأن مسند المريض إليه يجب أن يكون حكمه حكم المصلي. لأن إمساك المصلي معاونة له على فعل الصلاة فيجب أن يكون متوليه على أكمل أحواله. ولذلك أُمِر من حمل الجنازة أن يتوضأ لها، صلى عليها أو لم يصل. قال بعض المآخرين هذا الحكم يختص بالمستند إليه لا بالمصلي. وقول ابن القاسم يعيد في الوقت إشارة إلى رجوع التعليل إلى المصلي. وطرد ما قال القاضي أبو محمَّد، يقتضي أيضًا أَلاَّ يستند لغير متوض. وقال بعض أشياخي إنما كره ذلك لأنهما في حكم النجس. ولذلك مُنعتا (1) دخول المسجد. ولهذا أعيدت الصلاة في الوقت.
ويتخرج جواز ذلك على قول ابن مسلمة بجواز دخولهما المسجد لأنهما في حكم الطاهر. وقد قال عليه الصلاة والسلام: المؤمن لا ينجس (2). وفي
__________
(1) منعنا -و - قث-.
(2) متفق عليه رواه البخاري ومسلم.

(1/862)


الصحيح أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي وأن بعض ثوبه إذا سجد ليصيب زوجته ميمونة وهي حائض (1).
فإن عجز عن الركوع وقدر على القيام لم يسقط عنه فرض القيام. وقال أبو حنيفة هو بالخيار إن شاء صلى قاعدًا وإن شاء صلى قائمًا. هكذا نقل هذه المسألة عن أبي حنيفة بعض أصحاب الشافعي. ونقلها بعض أصحابنا إذا عجز عن السجود دون القيام فقال أبو حنيفة صلاته كلها جلوس. ونقل بعض أصحاب أبي حنيفة إذا عجز عن الركوع والسجود دون القيام لم يلزمه القيام وإن شاء صلى قاعدًا يومئ إيماء. وبالجملة فإن مذهبنا أن فرض القيام لا يسقط بالعجز عن غيره. وقد قدمنا ما قيل في قيام العاجز عن القراءة. وإنما تكلمنا ها هنا على فرض القيام على الجملة في حق القادر على القراءة.
والدليل على أن القيام لا يسقط بالعجز عن غيره أن الأصل فيما يسقط لعذر أن يتقدر بقدر عذره. فإن كان العجز هو العذر تعذر الساقط بمقدار العجز. لأن العجز كعلة في السقوط والحكم يتقدر بقدر علته. ألا ترى أن العاجز عن القيام خاصة لا يسقط عنه الركوع والسجود. وكذلك القراءة لا يسقطها العجز عن غيرها. والمريض (2) إذا قدر على القعود لم يصل مضطجعًا.
وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "صل قائمًا فإن لم تستطع فقاعدًا فإن لم تستطع فعلى جنب" (3).
فأمر بالقيام على الإطلاق بشرط الاستطاعة.
وأما أبو حنيفة فإنه يحتج بأن القيام تبع لهذه الأركان فإذا سقط المتبوع سقط التابع. وإذا كانِ القيام إنما أريد لها فإن لم تكن فلا معنى لإيجابه. ألا ترى أن النافلة لما سقط فيها الركوع سقط فيها القيام (4). والقراءة لم تجب لأجل غيرها فتسقط بالعجز عن ذلك الغير. وأما القادر على الإيماء قاعدًا، فإنما
__________
(1) روى البخاري بسنده إلى ميمونة قالت كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي وأنا إلى جنْبه نائمة فإذا سجد أصابني ثوبه وأنا حائض.
(2) المومىء -و-.
(3) رواه البخاري والنسائي والبيهقي. الهداية ج 4 ص 34 ونصب الر اية ج 2 ص 175.
(4) لما سقط فيها القيام والقراعة لم تجب -و - قث-.

(1/863)


لم يصل مضطجعًا، لأن استقبال القبلة يجب. والتوجه إليها، إنما يكون بالقيام أو القعود. والمستلقي على قفاه لم يستقبل القبلة، وإنما استقبل السماء، ولو استقبل القبلة بالإيماء على جنبه لم يكن ذلك استقبالًا لأنه إنما يكون الإيماء إلى يسار القبلة لا إلى القبلة. فحقيقة الاستقبال حالة الإيماء غير حاصل. وعمدة أصحاب أبي حنيفة كون القيام تبعًا. وهذا لا يسلم لهم. ولا يسلم لهم ما قالوه في النافلة لأن القيام فيها ساقط في الأصل لا لأجل سقوط الركوع. وإذا ثبت أن القيام لا يسقط بالعجز عن غيره. فلا يخلو القائم: أن يقدر على الجلوس ليسجد أو لا يقدر على ذلك. فإن قدر على ذلك وعجز عن الركوع أيضًا صلى قائمًا وأومأ للركوع ثم جلس وأومأ للسجود فإن قدر على الركوع دون السجود ركع ثم جلس وأومأ للسجود وإن كان القادر على القيام لا يستطيع أن يجلس إذا قام ولا يقدر على الركوع والسجود صلى الصلاة كلها قائمًا موميًا للركوع والسجود. فلو كان المريض لا يعجز عن ركن إلا إذا تلبس بركن آخر مثل أن يكون إذا افتتح الصلاة قائمًا وجلس للسجود في الأولى فإنه لا يقدر على القيام في باقي صلاته. وإن لم يجلس قدر أن يصلي صلاته كلها قائمًا لكنه يومئ للسجود في الثلاث ركعات الأولى ثم يجلس في الرابعة فيسجد، فأي الأمرين أولى به، الاحتفاظ على قيام ثلاث ركعات مع الاقتصار على الإيماء بسجودها أو السجود في سائر الأربع ركعات مع الاقتصار على الجلوس في الثلاث الأواخر منها؟ هذا مما اضطرب فيه المتأخرون فمال أبو إسحاق رحمه الله إلى إيثار السجود على القيام لأن السجود في الأولى يسبق فرضه فرض القيام في الثانية. ولا يترك فرض حضر وهو قادر عليه لفرض آخر لم يحضر. ولأن السجود مجمع على كونه فرضًا وهو من أعظم أركان الصلاة. وإلى هذا مال بعض أشياخي. واعتل بأن القيام مختلف في كونه فرضًا فما أجمع عليه أولى أن يراعى. وذهب بعضهم إلى أنه يصلي الثلاث الأول ركعات قائمًا يومئ فيها للسجود وأن ذلك أولى من صلاته الثلاث ركعات جالسًا ساجدًا. وكأن هذا رأى أن اعتبار القيام أولى. ولا يكاد يتحقق لهذا المذهب ترجيح إذا كان الجلوس بعض القيام. كما أن الإيماء للسجود بعض السجود.

(1/864)


هذا إذا كان تلبسه بركن مفروض يعجزه عن ركن مفروض آخر. وأما لو كان عجزه في ركن ليس بمفروض مثل أن يكون المريض لا يقدر إذا قام أن يقف إلا مقدار قراءة أم القرآن فإن صلّى قائمًا اقتصر عليها وإن صلّى جالسًا قرأ بأم القرآن وسورة فإنه يصلي قائمًا لأن القيام فرض وقراءة السورة التي مع أم القرآن ليست بفرض، فلا يترك فرضًا لما ليس بفرض.

والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: إذا لم يستطع المريض أن يومئ برأسه للركوع والسجود فهل يومئ بطرْفه وحاجبه ويكون مصليًا بهذا الفعل مع النية للصلاة؟ مقتضى المذهب فيما يظهر لي أنه يؤمر بذلك ويكون مصليًا به، وبه قالت الشافعية وقال أبو حنيفة لا يصلي في هذا الحال وتسقط الصلاة. وقد قال ابن القاسم في العتبية إذا لم يقدر المريض على التكبير والقراءة بلسانه فلا يجزيه أن ينوي ذلك (1) بغير حركة اللسان بقدر ما يطيق. وهذا وإن كان فيه إشارة إلى أن النية لا تنفع فإن المراد به أن يأتي بحركة ما في اللسان (2) إذ لا يعجز عنها مع أن العجز عن القراءة أصلًا لا يسقط فرض الصلاة. وكأن أبا حنيفة رأى أن هذا إثبات صلاة بقياس. ولا يثبت أصل الصلاة بالقياس. ولأنه لم يأت بالركوع والسجود ولا ببعض منه، وهما مقصودا الصلاة. والمومىء أتى ببعض ذلك. واحتج أصحابه بأن ابن عمر روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: فإن لم تستطع فعلى القفا تومىء إيماء فإن لم تستطع فالله أولى بقبول العذر (3). واحتجت الشافعية بقوله - صلى الله عليه وسلم -: يصلي المريض قائمًا فإن لم يستطع صلى جالسًا فإن لم يستطع صلّى على جنبه مستقبلًا القبلة فإن لم يستطع صلى مستلقيًا على قفاه ورجلاه في القبلة (4) وأومأ بطرفه وحاجبه (5).

والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: إذا لم يقدر المريض على
__________
(1) ذلك = ساقطة -و-.
(2) بحركة بما في اللسان -و-.
(3) حديث غريب: نصب الراية ج 2 ص 176.
(4) في هامش -و- تصحيح بالقبلة.
(5) أخرجه البيهقي بلفظ قريب منه عن الحسن بن علي. كنز العمال ج 3 ص 234

(1/865)


الجلوس وكان فرضه الاضطجاع فهل يصلي على جنبه أو ظهره؟ فيه قولان: أحدهما أنه يصلي على جنبه وهو المشهور. وبه قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه والشافعي. والثاني أنه يصلي على ظهره ورواه ابن حبيب عن ابن القاسم وبه قال أبو حنيفة وبعض أصحاب الشافعي. وروي عن ابن عمر المذهبان.
فوجه البداية بالجنب قوله - صلى الله عليه وسلم -: صل قائمًا فإن لم تستطع فقاعدًا فإن لم تستطع فعلى جنْب (1). وقد تنازع الناس في قوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} (2). فقال بعضهم المراد به المريض والخائف. فيكون ذكر الجنب على هذا التأويل حجة لهذا المذهب. وقيل المراد ذكر الله تعالى باللسان بعد انقضاء الصلاة، لأن أصحاب التأويل الأول يفتقرون إلى التَجوز يحمل فعل الماضي على المستقبل فيجعلون (3) المراد: بقضيتم: أردتم أن تقضوا. وإلى التجوز أيضًا يحمل الذكر على الصلاة. وحقيقة الذي ما كان باللسان.
واعلم أن التوجه إلى الكعبة مطلوب في الصلاة. فمن قال بالصلاة على الجنْب راعى التوجه بجميع البدن. ومن قال على الظهر راعى التوجه بالصلاة لأن المضطجع على ظهره لو أكمل ما أشار إليه من السجود لكان إلى الكعبة.
والمضطجع على جنبه الأيمن لو أكمل مبدأ حركته لكان إلى يسار القبلة. وإذا قلنا يبتدىء بالجنب فالجانب الأيمن مُبدَّاٌ. فإن لم يقدر عليه فقال ابن المواز يصلي على الأيسر فإن لم يستطع فعلى ظهره ورجلاه إلى القبلة. وقال سحنون يصلي على جنبه الأيمن ووجهه إلى القبلة كما يُجعل في لحده، فإن لم يقدر فعلى ظهره. ووقع في المدونة: يصلي على جنبه أو على ظهره ويجعل رجليه مما يلي القبلة. وتأول عليه أنه لم يُرد التخيير بين هذين. وإنما أراد البداية بالجنب. فإن لم يقدر فعلى الظهر. وكذلك قوله: يجعل رجليه مما يلي القبلة، معناه إذا صلّى على الظهر. وأما لو صلّى على جنبه فرجلاه تلي المشرق. ولو
__________
(1) حديث 914. مختصر المنذري أخرجه البخاري والترمذي وابن ماجة.
(2) سورة النساء، الآية: 103.
(3) فجعلوا - قث.

(1/866)


بدأ هذا المصلي بجانب وحقه أن يبدأ بغيره لأجزأته صلاته. ولو صلى على جنب وهو قادر على أن يصلي قاعدًا (1) مستندًا، لأعاد. قاله بعض الأشياخ.

والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: الإيماء يكون بالرأس والظهر جميعًا. قال مالك في المدونة إذا لم يقدر المريض أن يسجد على الأرض فليومىء بظهره ورأسه. والإيماء للسجود أخفض من الإيماء للركوع. وليس الإيماء على الحقيقة ببدل من الركوع والسجود لأن الإيماء للركوع بعض الركوع والإيماء للسجود بعض السجود، لأن الركوع الانحناء. والسجود إمساس الجبهة بالأرض. ولا يمكن ذلك إلا بحركة الرأس والظهر إلى مبلغ ما.
فالعاجز عن ذلك المبلغ يفعل بعض الحركات التي يفعلها من لم يعجز. فهي مفعولة في الحالين مع القدرة ومع العجز. وهذا لا يكون بدلًا إذ لا يكون بدل الشيء بعضه، هذا هو التحقيق. ومتى أطلق المحقق على ذلك اسم البدل فتوسعٌ وتساهل في العبارة. وإذا ثبت هذا فإن المريض وإن أبيح له الإيماء والجلوس لأجل المرض، فالمأمور به أن يصلي إلى القبلة. قال في المدونة في المريض: لا يصلي إلا إلى القبلة. وإن عسر تحويله إليها احتيل فيه. فإن صلّى إلى غيرها أعاد في الوقت إليها. قال بعض المتأخرين الوقت المشار إليه غروب الشمس في الظهر والعصر. وإنما يعيد في الوقت من لم يقدر على استقبال القبلة. فأما المريض القادر على استقبالها فيعيد أبدًا كالصحيح. وهل على المومىء أن يبلغ نهاية ما في وسعه من الحركة إلى هذا المبلغ المشار إليه؟ ظاهر المدونة أنه ليس ذلك عليه لقوله في المصلي قائمًا يجعل إيماءه للسجود أخفض من إيمائه للركوع. فأشار إلى جواز الاقتصار في الإيماء للركوع على دون المقدور عليه منه. وهكذا قوله في المدونة في القادر على السجود على الأنف دون الجبهة يومئ ولا يسجد على الأنف، فاْمره بترك زيادة مقدور عليها في الإيماء. وظاهر مختصر ابن شعبان أن عليه البلوغ إلى نهاية ما يقدر عليه من الإيماء؛ لأنه قال فيمن رفع إليه شيء يسجد (2) عليه. إن كان أومأ إلى طاقته ثم
__________
(1) جالسا - قث.
(2) فسجد - قث.

(1/867)


سجد على ما رُفع إليه وهو يطيق من الانحطاط للإيماء أكثر من ذلك فسدت صلاته. فأشار بهذا إلى أن الواجب البلوغ إلى نهاية ما يقدر عليه من الإيماء.
وسبب هذا الاختلاف ما كنا قدمنا الإشارة إليه من الاختلاف في الحركة إلى الأركان هل هي فرض مقصودة في نفسها، أو غير مقصودة في نفسها وإنما المقصود الركوع والسجود، فإن قيل هي مقصودة في نفسها حسن القول بان المأمور به نهاية ما يقدر عليه من الإيماء. لا سيما وقد بيّنا أن الإيماء ليس ببدل. وإنما السجود والحركة إليه كفرض واحد عجز عن بعضه وقدر على بعض، فيجب ألا يترك شيء من المقدور عليه لأجل المعجوز عنه. وإن قيل ليست بمقصودة حسن القول بأنه لا يؤمر بالبلوغ إلى نهاية ما يقدر عليه لا سيما إن قدرنا أن الإيماء كعبادة هي بدل من السجود. فإذا فعل منها ما ينطلق (1) عليه اسم إيماء أجزأه كما يجزئ فعل ما ينطلق عليه اسم ركوع. هذا حكم المومىء إذا قصر. فأما لو زاد على المبلغ المأمور به مثل من بجبهته قروح تمنعه من السجود عليها فإنه مأمور بأن يومئ ولا يسجد على أنفه. قال ابن القاسم في المدونة فإن فعل وسجد على أنفه فقال أشهب: يجزيه لأنه زاد على الإيماء.
واختلف المتأخرون في مقتضى قول ابن القاسم هل الأجزاء كما قال أشهب أم لا؟ فقال بعض الأشياخ وحكاه عن ابن القصار هو خلاف قول أشهب. لأن فرض هذا المصلي الإيماء فإذا سجد على أنفه فقد ترك فرضه وصار كمن سجد لركعته فإنه لا يعتد بذلك، وإن كان زاد على مبلغ الركعة. وقال غيره من الأشياخ بل ابن القاسم يوافق أشهب لأن الإيماء لا يحصر بحد ينتهي إليه، ولو قارب المومىء الأرض لأجزأه باتفاق فزيادة إمساس الأرض بالأنف (2) لا يؤثر.
مع أن الإيماء رخصة وتخفيف ومن ترك الرخصة وركب المشقة فإنه يعتد بما فعل. ولو ركب هذه المشقة وسجد على جبهته وأنفه لأجزأه، كمتيمم أُبيح له التيمم لعذر فتحمل المشقة واغتسل بالماء فإنه يجزيه.
لاذا لم يقدر المريض على الركوع وصلّى قائمًا أومأ لركوعه ومد يديه إلى
__________
(1) يطلق - قث.
(2) بالأنف = ساقطة -و-.

(1/868)


ركبتيه في إيمائه. ولو صلّى جالساّ وهو قادر على الركوع فقد قال مالك فيمن تنفل في محمله يركع متربعًا ويضع يديه على ركبتيه، وإذا رفع رأسه من ركوعه رفعهما.
وإن لم يعجز المريض إلا عن السجود فقد قال مالك في المدونة فيمن لم يقدر على السجود لرمد بعينيه، أو صدل يركع ويقعد ويثني رجليه ويومىء للسجود. قال أبو إسحاق رحمه الله إن قدر أن يومئ للسجدة الأولى من انحطاطه إلى الركوع فعل، لأنه لا يجلس قبل السجدة الأولى. وإن تعذر ذلك عليه جلس ثم أومأ للسجود، ولو حاول هذا المريض أن يجمع بين إيماء وسجود فإنه ينهى عن ذلك. قال مالك في المدونة لا يرفع إلى جبهته أو ينصب بين يديه شيئًا يسجد عليه فإن جهل وفعل ذلك لم يُعِد. وقال أشهب إنما يجزيه إذا أومأ إلى ذلك الشيء برأسه حين يسجد عليه. وأما لو رفعه حتى أمسه جبهته وأنفه لأعاد صلاته أبدًا. وكان أشهب رأى أنه إذا لم يُومِ برأسه لم يحصل السجود ولا ما أُقيم مقامه وهو الإيماء. فإذا أوما فقد حصل المطلوب منه وهو الإيماء، ولا يضره مماسته جبهته لبعض الأشياء. وعلى مقتضى قول مالك في مختصر ابن شعبان يراعي أيضًا في إيمائه أن يبلغ نهاية الحركة المقدور عليها.
واشترط بعض أشياخي أن يقصد بإيمائه الأرض لا الشيء المسجود عليه، لأن المراد بالإيماء عنده أني مطيع غير مستكبر عما دُعيت إليه من السجود على الأرض. وإذا لم تكن الإشارة إلى الأرض وإنما كانت للمسجود عليه لم يحصل الغرض المقصود فلا يعتد بهذا الإيماء. قال ألا ترى أن مالكًا أمره أن يحسر العمامة عن جبهته في حال إيمائه. فكانه استشعر من قول مالك هذا ما قاله: من أن القصد مضاهاة فعل الساجد في التذلل، وإنما حسر في عمامته حتى يستشعر حالة الساجد بالأرض.
وإذا لم يقدر المريض إلا على الاضطجاع فليومىء برأسه ولا يدع الإيماء. وقد قال عليه الصلاة والسلام: من لم يستطع الركوع والسجود فليومىء برأسه إيماء (1).
__________
(1) من حديث جابر أخرجه البزار في مسنده والبيهقي في المعرفة وأبو يعلي في مسنده ومن حديث ابن عمر رواه الطبراني نصب الراية ج 2 ص 176.

(1/869)


والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: من كان فرضه الإيماء فصلى في المحمل وهو عاجز عن القيام أيضًا حتى تكون صلاته في المحمل كصلاته في الأرض فإن المذهب ظاهره مختلف في ذلك. كره مالك في المدونة صلاته في المحمل وإن كان (1) لا يستطيع الجلوس. وروي عن مالك إجازة ذلك إذا تساوت الحال وأمْسكت به الدابة إمساكًا يكون به متوجهًا إلى القبلة. وروي عن مالك أيضًا أنه لا يجوز أن يصلي في المحمل راكبًا إلا إذا لم يقدر أن يصلي بالأرض جالسًا. وظاهر المدونة وإن كان مقتضاه النهي على الإطلاق، فقد تأوله أبو محمَّد على أن معناه أنه لا يصلي حيث ما توجهت به الدابة. وأما لو وقفت واستقبل القبلة لجاز. فالمنع على الإطلاق عنده ليس برواية إذا تُؤول ما في المدونة على موافقة الرواية الأخرى التي حكيناها. ولو كان المريض يقدر على السجود وعلى القيام لم يصل في المحمل لأنه لا ينتقل إلى الجلوس أو الإيماء مع القدرة على القيام والسجود.

والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: أما صفة الجلوس فيمن صلى جالساً فقد قال مالك في المدونة: من تنفل في محمله فقيامه توبع فإذا ركع ركع متربعًا. وقال محمَّد بن عبد الحكم: بلغني عن كبار أهل العلم وخيارهم أنهم إذا صلوْا جلوسًا فيركعون ويثنون أرجلهم على نحو الجلوس بين السجدتين.
وذكر أن محمَّد بن المنكدر وابن أبي حازم وربيعة كانوا يفعلون ذلك إذا صلوا النفل. ومال بعض الأشياخ إلى اختيار هذه الجلسة لما كانت مشروعة في الصلاة كما أشار إليه ابن عبد الحكم. ولكونها أقرب للتواضع. واختلف قول الشافعي فقال مرة بالتربع وقال مرة بالافتراش. واختلف قول أبي حنيفة قال مرة بالتخيير بين هذين وقال مرة بالتربع. فإذا أراد أن يركع ثنى رجله.
ووجه القول بالتربع قول عائشة رضي الله عنها: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي النفل متربعًا. ولأنه بدل عن القيام فخالف غيره في الهيئة كالقيام.
ووجه ما صار إليه الشافعي من الافتراش ما أشرنا إليه من أن الجلوس
__________
(1) فإن كان - قث.

(1/870)


ينبغي أن يوافق هيئة الصلاة. وعنده أن التشهد الأول يجلس فيه مفترشًا. ولأن ابن مسعود أنكر التربع فقال: لأن أجلس على رضف أحب إقي من أن أصلي متربعًا. وهذا المحكي عن ابن مسعود يقابله من اختار التربع بما روي عن ابن عمر وابن عباس وأنس من اختيار التربع.
ووجه قول أبي حنيفة بالتخيير أن القيام، لما سقط تخفيفًا، فالهيئة أولى أن تسقط. وإذا اضطر الجالس إلى مخالفة الهيئة المختارة فعل. وقد سئل مالك في المدونة عن من بركبتيه ما يمنعه من الجلوس والسجود عليهما فقال يفعل من ذلك ما استطاع وتيسر عليه فإن دين الله يسر. وقال مالك في المدونة فيمن تنفل في المحمل إذا أهوى للسجود ثنى رجليه وأومأ بالسجود فإن لم يقدر أن يثني رجليه أوما متربعًا. وقال ابن حبيب من شاء في تنفله قام في ركعة وقعد في ثانية أو قام بعد قعود أو قعد بعد قيام فقرأ ثم عاد للقيام، بدأ أول ذلك كيف شاء. وإن شاء سجد وإن شاء أوما من غير علة وله أن يمُد إحدى رجليه إذا عيي وكذلك في المحمل له أن يقعد بين التربع والاحتباء، فأنت تراه كيف أشار إلى جواز مد الرجل عند الإعياء وإن كان ذلك ليس من هيئة الصلاة. وقد قال في المدونة لا بأس بالاحتباء في النوافل للذي يصلي جالسًا بعقب تربعه. قال بعض الأشياخ معناه: مرة احتباء، ومرة تربعًا. يبدأ بالتربع ثم يعقبه احتباء. وقيل معناه يجعل العقب حذو العقب. ومن رواه بعقب تربعه بالباء التي هي حرف جر لم يصح هذا التأويل عنده.

والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: إذا عجز المريض عن القيام لم يخاطب به. فإن كان لا يعجز عنه، ولكنه تلحقه من القيام إذا تكلفه مشقة فادحة تُلحقه بحكم العاجز فإنه لا يخاطب بالقيام أيضًا. وقال محمَّد بن عبد الحكم إن خاف معاودة علة تضر به إن قام سقط عنه القيام. وكذلك عنده من لا يملك خروج الريح منه إذا قام. فإن القيام يسقط عنه ويصلي جالسًا. وكأنه رأى أن مراعاة فرض الطهارة التي هي شرط في صحة الصلاة أولى من مراعاة فرض القيام.
هل يباح له ترك القيام لقدح الماء من عينيه؟ لا يخلو أن يترك القيام إلى الجلوس أو إلى الاضطجاع، فإن تركه إلى الجلوس وأمكنه أن يصلي جالسًا

(1/871)


ويومىء برأسه جاز ذلك. وإن لم يمكنه الجلوس ولم تمكنه الصلاة إلا مستلقيًا فاختلف المذهب فيه، فمنعه في المدونة. وقال إن صلّى كذلك أعاد في الوقت وبعده، وأجازه أشهب وبه قال أبو حنيفة. وروي عن مالك التسهيل فيه.
وأجازه مالك في كتاب ابن حبيب في اليوم ونحوه. وكرهه فيما كثر من الأيام.
وليس للشافعي فيه نص. قال أصحابه والذي يجيء على المذهب أنه لا يجوز.
فوجه الجواز القياس على جواز السفر في شهر الصوم وإن كان ذلك سببًا في الفطر. والسفر في مواضع لا ماء فيها. وإن كان ذلك سببًا في التيمم. وعلى المسح على الجبائر. وهو انتقال عن فرض للضرورة. وقال أبو إسحاق ولأن التداوي جائز. وإذا كان جائزًا جاز أن ينتقل من القيام إلى الاضطجاع كما يجوز أن يتداوى بالفصد وينتقل إذا توضأ من غسل إلى مسح موضع العِرق وما يليه مما لا بد له من رباطه.
ووجه المنع أن النُجْح بالقدح لم تجر عادة في النفع به حتى يتحقق المقدوح أو يظن غالبًا انتفاعه به. وما كان كذلك لا يباح ترك الفروض لأجله بخلاف الفطر والتيمم في السفر (1). لأن الانتفاع بالسفر في حكم المعلوم وبخلاف المسح على الجبيرة لأن الانتفاع باجتناب الماء معلوم. ويفرق هؤلاء (2) بين المستلقي والجالس عند بعض أشياخي بأن الجالس يأتي بعوض من الركوع والسجود وهو الإيماء بالرأس، والمستلقي لا يأتي بعوض وإنما يأتي عند الركوع والسجود بنية من غير فعل. وقد روي أن ابن عباس لما كفّ بصره أتاه رجل فقال له إن صبرت على سبعة أيام أن تصلي مستلقيًا داويت عينيك ورجوت أن تبرأ. فأرسل إلى عائشة وأبي هريرة رضي الله عنهما وغيرهما من الصحابة رضي الله عنهم في ذلك. فكل قال له إن من في هذه الأيام ما الذي تصنع بالصلاة؟ وأما تفرقة مالك بين ما قلّ من الأيام وما كثر منها فمراعاة لتأكد الحرم لأن الأيام إذا كثرت كثرت صلواتها وإذا قلت قلت صلواتها. والصلوات الكثيرة لها من الحرم أكثر مما للقليلة.
والجواب عن السؤال الثامن: أن يقال: إذا تغيرت حالة المصلي إلى ما هو أكمل وأعلي بني علي صلاته وأدى بقية الصلاة على حسب ما انتقل إليه مثل
__________
(1) في السفر = ساقطة -و-.
(2) هكذا في النسختين ولا يظهر لكلمة =هؤلاء= موقع.

(1/872)


أن يصح المصلي جالسًا في أثناء صلاته، فإنه *يكمل الصلاة قائمًا. وإن انتقل إلى ما هو أدنى كالصحيح يصلي قائمًا ثم يعجز عن القيام في أثناء صلاته فإنه* (1) عندنا-، وعند الشافعي وأبي حنيفة يبني على صلاته أيضًا ويكملها جالسًا. وقال محمَّد بن عبد الحسن تبطل صلاته لما طرأت القدرة على فرض لم يكن. ولنا القياس على من انتقل إلى الحالة العليا لأن ما مضى وتقضى قد وقع على حسب ما أمر به في الحالين. ومن امتثل الأمر فلا معنى للقضاء بفساد فعله. وهكذا عندنا لو صلى مومئًا ثم انتقل إلى القدرة على الركوع وفعل الركن الذي يومئ إليه فإنه يبني على صلاته ويكملها بفعل ما هو أعلى.
وقال أبو حنيفة يستأنف الصلاة وفرق بين هذا وبين الجالس إذا قدر على القيام وإن كانا جميعًا انتقلا إلى ما هو أعلى. فإن أصل القيام في الجالس موجود؛ لأن القيام باستواء النصفين حصلا جميعًا من الشخص والنصف الأعلى من القاعد مستو، وإذا حصل أصل القيام ووجد أصل هذا الركن وقد اشتملت النية على الركن فصح البناء عليه، لأنه إنما انعدم في أول الصلاة تمامه. وأما المومىء فلا ركوع في صلاته ولا سجود لأن الركوع حنوّ الظهر والسجود مماسة الجبين الأرض، والمومىء لم يوجد منه تحريك رأسه فإذا لم ينعقد هذا الركن في أول صلاته لم يصح إكمال الصلاة بما لم تنعقد عليه أولًا (2).
ودليلنا ما تقدم من اعتبار امتثال الأمر. وأن المؤدي فرضه على حسب ما أمر به، لا معنى للحكم بإبطال فعله. وهذه المسألة قد تقدمت الإشارة إلى طريقتها لما ذكرنا فيما سلف للأمي إذا تعلم القراءة في أثناء الصلاة والعريان إذا وجد السترة في أثناء الصلاة. وذكرنا هناك حكم هذه المسائل. وهكذا تقدم الكلام على الإِمام إذا عجز في أثناء الصلاة عن القيام فإنه يستخلف ويرجع إلى الصف فيصلي مأمومًا. وقد أوعبنا حكم إمامة الجالس للقُيّام. وكذلك أيضًا قدمنا ما حكاه ابن حرث من الاختلاف في المريض يصلي بالمرضى فيصح بعض من خلْفَه فمذهب سحنون أنه يخرج من صلاة الإِمام ويتم لنفسه، كما يجوز للأمام أن يصير مأمومًا لوجود عذر فكذلك المأموم يجوز أن يصير فذًا
__________
(1) ما بين النجمين = ساقط -و-.
(2) أولًا = ساقطة - قث.

(1/873)


لوجود عذر. ومذهب يحيى ابن عمر أنه يتمادى لأنه دخل بما يجوز له.
قاط القاضي أبو محمَّد رحمه الله: ويقف المصلي خلف الصفوف وحده إذا لم يجد في الصف موضعًا ولا يجبذ إليه أحدًا من الصف ولا ينتظر الإمام من سمع حسه. ولا يقطع الصلاة مرور شيء بين يدي المصلي، ويستحب للمصلي في الفضاء أن يكون (1) بين يديه سترة تحول بينه وبين المارين. وقدرها عَظْم الذراع في غِلَظ الرمح.

قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل خمسة أسئلة: منها أن يقال:
1 - لِمَ لمْ ينتظر الإِمام من سمع حسه؟.
2 - وما الدليل على الأمر بالسترة بين يدي المصلي؟.
3 - وما الدليل على أن المار لا يقطع الصلاة؟.
4 - وما صفة السترة؟.
5 - ومن يؤمر بها؟.

فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: اختلف المذهب إذا كان الإِمام راكعًا فأحس بداخل عليه هل يطيل ركوعه ليدرك الداخلُ معه الركعة أم لا؟ فقال ابن حبيب لا يفعل. وقد قال النخعي: من وراعه أعظم حقًا ممن يأتي. وقال سحنون ينتظره ولو طال ذلك. وذكرت الشافعية أن عندهم قولين في ذلك. أحدهما: كراهية الانتظار. والثاني استحبابه. وأنكر الإسفراييني أن يكون قيل عندهم بالاستحباب.
قال: وإنما الخلاف هل يكره أم لا؟ وبالكراهة قال أبو حنيفة وداود وابن المنذر، وبنفي الكراهة. قال الشعبي والنخعي وابن أبي ليلى وأحمد وإسحاق وأبو ثور.
هكذا حكى بعضهم عن النخعي. وهو خلاف ما حكيناه عنه أولًا.
فوجه الكراهة ما أشار إليه النخعي من مراعاة حق من خلفه. فإذا أكمل بهم الركن فلا يسقط حقهم في الشروع في غيره بمراعاة حق آخر. وقد اعتل لهذا القول بأنه متى انتظر، صلّى (2) جزءًا من الصلاة لأجل آدمي. وهو قد أمر أن يخلص صلاته كلها لله. وهذا ضعيف، لأنه إذا اعتقد أنه مأمور بالانتظار، فقد
__________
(1) تكون -غ- الغاني.
(2) صلّى = ساقطة - و

(1/874)


صار الانتظار طاعة لله عَزَّ وَجَلَّ، ولم تخرج الصلاة كلها عن إخلاصها لله تعالى.
ووجه القول بالانتظار ما فعله - صلى الله عليه وسلم - من الانتظار في صلاة الخوف من انتظار الطائفة الثانية بمقدار قضاء الأولى وإتيان الثانية. وهذا أيضًا قد يقال فيها أنها صلاة خرجت عن الأصل لجواز خروج الطائفة الأولى من الإمامة. ولكن إن خرجت عن الأصل بخروج الطائفة الأولى، فلهؤلاء أن يقولوا الانتظار لا خروج فيه عن الأصل فاستدل بفعله عليه الصلاة والسلام.

والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: الدليل على أن السترة بين يدي المصلي مشروعة ما ثبت من أنه - صلى الله عليه وسلم - إذا كان في سفر أو خرج إلى العيدين ركزت له الحربة أو العَنَزة فيصلي إليها وأنه كان يصلي إلى بعيره (1). وقال - صلى الله عليه وسلم - يستر المصلي مثل مؤخرة الرَّحْل يجعله بين يديه (2). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: إذا صلّى أحدكم إلى سترة فليدن من سترته فإن الشيطان يمر بينه وبينها (3). وقوله إذا كان أحدكم يصلي فلا يدع أحدًا يمر بين يديه وليَدْرَأه ما استطاع فإن أبى فليقاتله فإنما هو شيطان (4). قيل يمكن أن يكون المراد بقوله فليقاتله أي فليلعنه.
والمقاتلة قد تكون في اللغة والشرع بمعنى اللعن. قال الله تعالى: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} (5).
معناه لعن الخراصون. وقال: {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} (6). قيل معناه لعنهم الله. وقد يكون المراد تأنيبه على ما فعل بعد تمام الصلاة. وقد قيل معناه فليدفعه دفعًا أشد من الدرء مُنكِرًا عليه ومغلظًا. ويسمى ذلك مقاتلة على سبيل المبالغة. وإنما احتيج إلى تأويل الحديث لأجل الإجماع على أنه لا يجوز له أن يقاتله المقاتلة المفسدة للصلاة. وقد قال مالك يمنعه بالمعروف. وقال أشهب إذا مر بين يديه شيء في بعد منه فليرده بالإشارة ولا يمش إليه. فإن فعل وإلا تركه. وإن قرب منه ولم يفعل فلا ينازعه. فإن ذلك المشي أشد من مرّهِ. فإن
__________
(1) معالم السنن ج 1 ص 340 حديث 657 - 660.
(2) نصب الراية ج 2 ص 81.
(3) رواه أبو داود وابن ماجة وابن حبان. نصب الراية ج 2 ص 83.
(4) رواه البخاري. فتح الباري ج 2 ص 132.
(5) سورة الذاريات، الآية: 10.
(6) سورة التربة، الآية: 30.

(1/875)


مشى إليه ونازعه لم تفسد صلاته. وقد قال عثمان بن عفان رضي الله عنه لرجل درأ رجلًا فكسّر أنفه: لو تركته كان أهون من هذا. وقال ابن شعبان إذا درأه فخرّ ميتًا فإن ديته على عاقلة الذي درأه، ولو لم يُذكر فيما حكيناه عن عثمان رضي الله عنه أنه جعل في كسر الأنف شيئًا. وأجرى ذلك بعض المتأخرين على الاختلاف فيمن جبذ إصبعه من فم من عضه فقلع أسنانه. فقد قال مالك يضمن. وقال غيره لا ضمان عليه.

والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: عندنا أنه لا يقطع الصلاة مرور شيء. وقال الحسن يقطع. وقال قوم المرأة تقطعها والحمار والكلب الأسود.
ودليلنا قوله - صلى الله عليه وسلم -: لا يقطع الصلاة شيء (1). واستدل المخالف بقوله - صلى الله عليه وسلم -: يقطع صلاة الرجل إذا لم يكن بين يديه قدر مؤخرة الرحْل، الحمار والكلب الأسود والمرأة. قال أبو ذر فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم -: فقلت ما بال الأسود من الأحمر من الأبيض؟ فقال: الكلب الأسود شيطان (2). وأجيب عن هذا بأنه منسوخ بما قدمناه. وأنه يحمل على معنى اشتغال المصلي بهؤلاء بدليل حديث عائشة رضي الله عنها وقولها فأنسَلُّ من قبل رجلي السرير (3). الحديث. وإخبارها فيه بانها تنسل بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم -وهو يصلي، إشارة إلى أن مرور المرأة لا يقطع الصلاة. وقد ذكرت المرأة في الحديث الذي استدل به. المخالف. وقال الأبياني فيمن مر بين يدي رجل فظن أن ذلك يقطع صلاته فابتدأ بإحرام جديد إن ذلك لا يضره لأنه إنما زاد تكبيرة وقراءة. ومراده من فعل ذلك في أول ركعة. ولهذا قال إنما زاد تكبيرة وقراءة. وأما لو كان بعد ركعة فإن إحرامه لا يقطع ما تقدم ويصير كمن زاد في صلاته جهلًا.

والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: أما السترة فقال مالك هي مثل عظْم الذراع في جلة (4) الرمح وإنما جعل الارتفاع بمقدار عظم الذراع لقوله - صلى الله عليه وسلم -: إذا
__________
(1) رواه أبو داود والدارقطني مسندًا ورواه مالك والبخاري موقوفًا. نصب الراية ج 2 ص 76 - 77.
(2) رواه مسلم. نصب الراية ج 2 ص 78.
(3) رواه البخاري. فتح الباري ج 2 ص 128.
(4) الحيلة بضم الجيم الغلظ = لسان العرب ج 11 ص 118.

(1/876)


وضع أحدكم بين يديه مثل مؤخرة الرحل فليصل ولا يبالي من يمر من وراء ذلك (1). فارتفاع مؤخرة الرحل نحو مما قاله مالك. وأما اعتباره غلظ الرمح فلأنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا خرج يوم العيد أمر بالحربة فتوضع بين يديه فيصلي إليها والناس وراءه (2). وكان يفعل ذلك في السفر. وكره مالك السوط فإن فعل أجزأه. ومن صفة السترة أن تكون ظاهرة لا تشغل المصلي. وقال ابن القاسم لا يعجبني أن يصلي المصلي وأمامه مجنون مُطبق لا يعرف الوضوء ولا الغسل، ولا صبي ولا امرأة ولا كافر. وقد بلغني أن أبا سلمة بن عبد الأسود كره أن يصلي وأمامه رجل مأبون في دبره. وإن صلّى وهو أمامه لم أر عليه إعادة ناسيًا كان أو عامدًا وهو بمنزلة الذي يصلي وأمامه جدار مرحاض. وقال مالك لا يصلي إلى نائم وكأنه رأى أنه قد يحدث منه ما تنزه الصلاة عنه. وفي مسند ابن سنجر قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إني نُهيت أن أصلي إلى النائم والمتحدثين (3). وتجوز الصلاة إلى ظهر الرجل إذا رضي أن يثبت له حتى تنقضي صلاته ولا يصلي إلى وجهته ولا إلى جنبه لأن ذلك مما يشغله. واختلف في الصلاة إلى الحلقة فأُجيز لأن الذي يليه ظهر أحدهم وكره لأن وجه الآخر يقابله. ولو صلى أحد إلى سترة وراءها رجل جالس يستقبل المصلي بوجهه لاختلف فيه على طرد هذا التعليل الذي اعتللنا به فيمن صلّى إلى الحلقة. قال مالك له أن يصلي وراء المتحدثين. قال ابن حبيب إن لم يعلنوا حديثهم. *وخفف مالك أن يصلي إلى الطائفين. وكأنه رأى أنهم في معنى من هم في صلاة. ويجوز أن يصلي إلى البعير* (4) لأن
__________
(1) رواه أبو داود وابن ماجة. مختصر المنذري ج 1 ص 340. روى عبد الرزاق بسنده أن من سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: إذا كان بينك وبين الطريق مثل مؤخرة الرجل فلا يضرك من مر عليك. ح 2276ج 2 ص 10.
(2) روى عبد الرزاق أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إنما كانت تحمل معه الحربة لأن يصلي إليها. ح 2287 ج 2 ص 12.
(3) أخرجه أبو داود بسنده إلى ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تصلوا خلف النائم ولا المتحدث. وأخرجه ابن ماجة وفي سنده رجل مجهول وقال الخطابي هذا حديث لا يصح. مختصر المنذري ج 1 ص 341 نصب الراية ص 96/ 97.
(4) ما بين النجمين ممحو -و-.

(1/877)


أبوال الأنعام طاهرة وقد صلّى عليه الصلاة والسلام إلى بعيره. وقال مالك لا يصلي إلى الخيل والحمير فإن أبوالها نجسة، وأبوال الإبل والبقر والغنم طاهرة.
قال ابن القاسم كأنه لا يرى بأسًا بالسترة إلى البقرة والشاة. ويكره أن يصلي إلى الحجر الواحد ولا بأس بالحجارة يكومها ويصلي إليها. ولا يصلي إلى ظهر امرأة وإن كانت امرأته. واختار بعض أشياخي إذا صلى إلى مثل الرمح والحَرْبة أن يجعله على جانبه الأيمن لقوله عليه الصلاة والسلام إذا قام أحدكم إلى عمود أو خشبة فلا يجعله نصب عينيه ولكن على جانبه الأيمن (1). وقال المقداد ما رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي إلى عمود أو عود أو شجرة إلا جعله على جانبه الأيمن أو الأيسر، لا يصمُده صمدًا (2). ولا يكون الخط عندنا سترة. قال مالك: الخط باطل لا أعرفه. وذهب بعض الناس إلى جوازه. واختلفوا في صفته قال ابن حنبل يخط عرضًا. وقال مسدد يخط طولًا. قال ابن أبي زيد صورة الخط عند من يذهب إليه أن يخط خطًا من القبلة إلى الدبور عوضًا من السترة.
ويؤمر المصلي بالدنوّ من سترته لقوله - صلى الله عليه وسلم -: إذا صلّى أحدكم إلى سترة فليدن إلى سترته. فإن الشيطان يمر بينه وبينها (3). قال مالك ليس من الصواب أن يصلي بينه وبين سترته قدر صفين. واختلف في القدر الذي يكون بين المصلي وبين (4) سترته. فقيل قدر شبر، وكان الشيخ أبو الطيب عبد المنعم إذا قام للصلاة دنا من الجدار قدر الشبر. وقيل قدر ثلاثة أذرع. وقال الداودي ذلك واسع. أكثره ثلاثة أذرع وأقله ممر شاة. واختلفت ظواهر الأحاديث فقال سهل بن سعد كان بين مصلَّى النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين الجدار قدر ممر الشاة (5) وقدر ذلك شبر. وقال بلال رضي الله عنه: صلّى عليه الصلاة والسلام في الكعبة وجعل بينه
__________
(1) رواه ابن القيم بسنده إذا صلى أحدكم إلى عمود أو سارية أو شيء فلا يجعله نصب عينيه وليجعله على جانبه الأيسر. معالم السنن ج 1ص 342
(2) رواه أبو داود بلفظ صاحبه بدل جانبه وقال ابن القيم في إسناده ثلاثة مجاهيل. معالم السنن ج 2 ص 341 حديث: 661.
(3) تقدم تخريجه.
(4) وبين = ساقطة -و-.
(5) رواه البخاري: فتح الباري ج 2 ص 120.

(1/878)


وبين الجدار قدر ثلاثة أذرع (1). وقد قيل معنى ممر الشاة إذا كان ساجدًا وثلاثة أذرع إذا كان قائمًا. ولو كان قدر ممر الشاة وهو قائم لاحتاج إلى أن يتأخر للسجود وذلك عمل في الصلاة مستغنى عنه.

والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: أما المصلي الذي لا يأمن المرور بين يديه فإنه مأمور بالسترة. واختلف فيه إذا أمن من المرور بين يديه.
فقال مالك لا بأس أن يصلي في السفر لغير سترة. وقد صلّى النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الفضاء. وقال ابن القاسم في الحضر إذا أمن أن يمر بين يديه فلا بأس أن يصلي إلى غير سترة. وحكى ابن حبيب عن مالك (2) أنه قال: لا يصلي المصلي إلا
إلى السترة في حضر أو سفر. أمن أن يمر بين يديه مارّ أو لم يأمن. وكأنه رأى أن السترة من سنة الصلاة لا لأجل المار خاصة.
والسترة إنما يؤمر بها الإِمام أو الفذ. وأما المأموم فلا سترة عليه. وقد اختلف في وجه سقوط السترة عن المأمومين فقال مالك لا بأس أن يمر الرجل بين يدي الصفوف لأن الإِمام سترة لهم. وقال القاضي أبو محمَّد لأن سترة الإِمام سترة له ولمن خلفه. وهكذا قال البخاري أن سترة الإِمام سترة لمن خلفه (3).
ومن صلّى في مكان مشرف فقد قال مالك إن كان تغيب عنه رؤوس الناس وإلا جعل سترة. والسترة أحب إلى إلا أن لا يجد.
وإذا سقطت السترة فقد قال مالك إذا استتر الإِمام برمح فسقط فليقمه إذا كان ذلك خفيفأوإن شغله فليدعْه.
وأما التأثيم في المرور بين يدي المصلي فقال ابن حبيب بلغني عن بعض التابعين أنه من مر بين يدي من صلّى إلى غير سترة فإثم ذلك على المارّ. قال بعضهم إنما نُهي أن يمرّ بين يدي من صلى إلى سترة. واعلم أن التأثيم قد يتعلق
__________
(1) رواه البخاري: فتح الباري ج 2 ص 126 ورواه النسائي شرح السيوطي ج 2 ص 63.
(2) وذكر ابن حبيب عن عبد الملك - قث.
(3) رواه البخاري: فتح الباري ج 2 ص 117.

(1/879)


بالمارّ والمصلي وقد يسقط عنهما وقد يسقط عن المصلي دون المارّ أو المارّ دون المصلي. فإن صلى إلى غير سترة في موضع يغلب على ظنه المرور بين يديه أثم المصلي لما تعرض إليه. والمارّ لارتكابه المحظور. هكذا قال بعض المتأخرين. وقال بعضهم إن لم تكن للمارّ مندوحة عن السير بين يديه وكان صبره إلى أن يفرغ المصلي يشق عليه لم يكن على المار إثم وانفرد المصلي به.
وأما سقوطه عنهما فبان يصلي إلى موضع يأمن المرور فيه فطرأ من اضطر إلى الجواز بين يديه وكان الصبر يشق عليه فها هنا يسقط الإثم عنهما. أما المصلي فلأنه لم يتعرض وأما المارّ فللضرورة. وأما سقوطه عن المصلي دون المارّ فبأن يصلي إلى سترة فإن المار ينفرد بالإثم لتعديه دون المصلي فإنه فعل ما يؤمر به، وبأن يصلي إلى غير سترة بموضع يأمن المرور فيطرأ عليه من يمرّ بين يديه ولا ضرورة به للمرور وله عنه مندوحة. وأما سقوطه عن المارّ دون المصلي فبأن يصلي إلى غير سترة في موضع لا يأمن المرور، وبالمارّ ضرورة إلى المرور لا يمكنه معها الصبر إلى أن يفرغ.
ويُنهي المصلي عن أن يناول غيره شيئًا وكذلك يُنهى من على يمينه أن يناول من على شماله شيئًا. ومرور سائر الأشياء بين يدي المصلي كمرور الإنسان. وكره مالك أن يحدّث من على يمينه من على شماله. قال وحسن أن يتأخر عنهما. وكأنه رأى أن في المحادثة إشغالًا له كما في المرور، فلهذا نهى عنها.
وقد تقدم الكلام على ما افتتح القاضي أبو محمَّد به في هذا الفصل من مقام المصلي وحده خلف الصفوف فيما سلف من كتابنا هذا ووسعنا القول فيه وفي فروعه بما أغنى عن إعادة الكلام عليه على هذا المقدار ها هنا.

(1/880)