شرح
التلقين باب في قصر الصلاة
في السفر
قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: القصر في الصلاة الرباعية أن المغرب لا
تتنضّف. والفجر لو قصرت لكانت ركعة وذلك ممنوع. وأداؤها على صفة أداء (1)
التامة إلا في الإتمام.
قال الإمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل ثلاثة أسئلة: منها أن يقال:
1 - ما معني قوله لأن المغرب لا تتنصف؟.
2 - وما معنى استحالة الفجر إلى ركعة؟.
3 - وما معنى قوله على صفة أداء التامة؟.
فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: أما قوله لأن المغرب لا تنصف فلأن
التنصف إنما يكون في عدد الزوج. وأما عدد الفرد فإنه لا ينتصف إلا بتبعيض
الواحد. ولم يقم دليل على جواز تبعيض الركعة الواحدة فتنصف. كيف وقد أشعر
الشرع بأنها في حكم الجزء الواحد وإن كانت ذات أفعال مختلفة.
فالجزء الواحد لا يصح تنصفه. وقد جاء الشرع يكون العبد على النصف من الحرّ
في أحكام شتّى. ولما نُصف طلاق العبد جعل طلقتان لما لم يمكن تنصف الطلقة
الواحدة. وكذلك عدة الأمة قَرْءان لما لم يمكن (2) أن تنصف. ولو جعلت
المغرب ركعتان وأكمل (2) الواحدة المنكسرة لزادت على الشطر في الحقيقة (3)
وخرجت عن حد التخفيف المراد. وبالجملة فإن هذا مما لا يلزم
__________
(1) أداء = ساقطة - و- غ-.
(2) أي المصلي.
(3) بالحقيقة - قث.
(1/881)
تعليله. والاتفاق عليه يغني عن بسط القول
فيه.
والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: أما رده صلاة الفجر إلى ركعة فإن ذلك
لا يستحيل عقلًا. كيف وقد ذهب بعض العلماء إلى أن الصلاة في الخوف ترد إلى
ركعة واحدة ولكن قد تقرر الإجماع أن الصلاة في حال الأمن لا يقتصر فيها على
ركعة واحدة. وإلى هذا أشار القاضي أبو محمَّد بقوله: وذلك ممنوع.
وكأن الصبح خففت عن الصلاة الرباعية والسفر جاء بالتخفيف والحذف من العدد.
والتخفيف والحذف إذا دخل الأصل روعي أعلى مبالغه، وأعلى مبالغ الصلاة
الرباعية. فإذا شُطرت صارت كالثنائية الأصحلية من الفروض. وصار التخفيف في
العدد متناسبًا، وإن كان في الصبح أصليًا وفي الرباعية طارئًا. وقد
أشارت عائشة رضي الله عنها إلى طريقة أخرى فقالت: أول ما فرضت الصلاة
ركعتين فلما أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة صلّى إلى كل صلاة
مثلها إلا صلاة المغرب فإنها وتر وإلاصلاة الصبح لطول قراءتها (1).
والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: أما قوله وأداؤها على صفة أداء التامة
إلا في الإتمام. فإن التغيير دخل الصلاة في الشرع على ضروب شتّى فغيرت من
القيام إلى الجلوس. ومن الركوع والسجود إلى الإيماء إليهما عند المرض. وغير
حكم القبلة في التنفل على الدابة في السفر، وغيرت الهيئة في صلاة الخوف دون
العدد. فلما اختلف التغيير هكذا أخبر القاضي أبو محمَّد أن التعْيير لم
يدخل في هذه الصلاة إلا في حذف العدد خاصة دون ما سواه من قيام وركوع وسجود
واستقبال القبلة ومراعاة ترتيب وهيئة. والتخفيف إذا جاء الشرع به في جهة
واحدة فليس لنا أن نجعله في جهات غيرها إلا بدليل. ومع هذا فقد أشار مالك
إلى أن السفر يؤثر في إجازة تخفيف القراءة فيما الأفضل فيه الإطالة. قال في
المدونة: في صلاة الصبح واسع أن يقرأ فيها بسبح ونحوها في السفر. والأكرياء
يُعْجِلون في صلاة الناس. وكذلك قال أيضًا في المدونة في صلاة المغرب: وأما
المسافر فلا بأس أن يُمِدّ الميل ونحوه ثم ينزل ويصلي.
__________
(1) رواه البيهقي. السنن ج 1 ص 363.
(1/882)
إشارة إلى أن للسفر تاثيرًا في إزاحتها عن
وقتها المعتاد قليلًا. وقد كنا قدمنا الكلام في جمع الصلاتين في السفر،
وإزاحتهما عن وقتيهما المختارين لهما، وإزاحة إحداهما. وذلك مما أثره
السفر. ولكن القاضي أبا محمَّد لم يردْ هذا، لأن الجمع بين الصلاتين في
معنى الرخص، وكذلك ما ذكرناه في مسألة المدونة كأنه لا حق بهذا الأسلوب.
وهو إنما تعرض إلى الكلام على نفس أدائها لا على الرخصة الداخلة في
أوقاتها، لأن ذلك أمر قد بينه عند كلامه على الأوقات.
قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: وحَدُّ صلاة السفر (1) ثمانية وأربعون
ميلًا وفي البحر يوم تام وليلة.
قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل سؤالان: منها أن يقال:
1 - ما الدليل على اعتبار ما قال من المسافة؟.
2 - وكيف تفسر هذه المسافة إن اختلفت جهات التصرف؟.
والجواب عن السؤال الأول: أن يقال: اختلف الناس في مقدار السفر المبيح
للقصر. فمذهبنا ومذهب الشافعي أنه أربعة بُرُد. قال مالك يقصر في مسيرة
يومين. وقال أيضًا يوم وليلة. قال الشيخ أبو محمَّد عبد الحق عن بعض
الأشياخ أن المراد يوم وليلة يُسار فيهما. وإذا كان هذا هكذا كما قاله بعض
الأشياخ فالقولان يرجعان إلى معنى واحد. لأن يومًا وليلة كيومين بلا ليل.
وإن كان الزمان يختلف حتى يصير اليومان أقصر من يوم وليلة فإن المراد زمن
يعتدل فيه ذلك أو يختلف اختلافًا لا يتحسس إليه في المسير. وقال مالك أيضًا
يقصر في ثمانية وأربعين ميلًا. وهذا أيضًا موافق لما تقدم إن كان أراد
بمسير اليومين مشي الإبل بالأحمال لأن سيرها متوسط أربعة وعشرين ميلًا كل
يوم. وهكذا حكى القاضي أبو محمَّد عن بعض أصحابنا أن اليوم والليلة
والأربعة بُرُد واحد. ومعنى قول ابن القاسم رجع عنه أن يترك (2) التحديد
باليوم والليلة. وقال مالك أيضًا رضي
__________
(1) سفر القصر -غ- الغاني.
(2) أي ترك - قث. والكلام غير مرتبط بما سبقه إذا لم يتقدم نقل قول ابن
القاسم.
(1/883)
الله عنه في العتبية يقصر في خمسة وأربعين
ميلًا. وقال في المبسوط يقصر في أربعين ميلًا. وقال في المبسوط أيضًا في
مسافر البحر لا يقصر حتى ينوي اليوم التام لأن الأميال والبُرُد لا تُعرف
في البحر. وهذا الذي قاله في البحر كانه مخالف لما تقدم من التقدير. وقد
اعتذر ها هنا بان الأميال لا تعرف في البحر.
وهذا الاعتذار لا يخرج هذه الرواية عن مخالفة ما تقدم. لأن اليومين أو
اليوم والليلة لا يختلف قدرهما في سفر البر أو البحر. ولو كان مراده بقوله
فيما تقدم يومًا وليلة أن اليوم يسار فيه دون الليل لكان موافقًا لهذا الذي
حكيناه عن المبسوط في تحديد سفر البحر باليوم التام. وقد قال الشيخ أبو
محمَّد عبد الحق: قال بعض شيوخنا إنما قال في البحر يوم دون الليل لأن قطعه
في البحر أكثر من قطعه في سير البر، قلت فلعل معنى قولهم في البر يوم وليلة
إنما هو ليوم يبات فيه فعبر عنه بيوم وليلة فقال بل المعنى: يوم وليلة
سيرًا. وهذا الاعتذار من بعض الأشياخ لسرعة حركة السفينة في البحر. وأنها
تقطع في اليوم قطع سفر البر في يومين، يتضح معه تفرقته بين سفر البر
والبحر. وبما قلناه من اعتبار مسيرة يومين، وهي ستة عشر فرسخًا. قال ابن
عباس وابن عمر رضي الله عنهما. وقال أبو حنيفة المعتبر في سفر القصر ثلاثة
أيام وهي أربعة وعشرون فرسخًا. وبه قال ابن جبير والثوري والنخعي. وروي عن
ابن مسعود رضي الله عنه. وقال الأوزاعي يقصر في مسيرة يوم. وروي ذلك عن أنس
أيضًا أنه يقصر في خمسة فراسخ. وقال الزهري يقصر في يوم تام وهو ثلاثون
ميلًا.
وروي ذلك عن ابن عمر (1). وقال داود وأهل الظاهر يقصر في طويل السفر
وقصيره. وسبب هذا الاختلاف اختلاف ظواهر منها قوله تعالى: {وَإِذَا
ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا
مِنَ الصَّلَاةِ} (2). وظاهر هذا يحيى القصر في قليل السفر وكثيره. كما قال
داود وقال عليه السلام: لا تسافر المرأة يومًا وليلة إلا مع ذي محرم (3).
فاشعر هذا: أن هذا المقدار من الزمان سفر تتغير فيه
__________
(1) عن عمر- قث.
(2) سورة النساء، الآية: 101.
(3) روى البخاري: لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة
يوم ولا ليلة ليس =
(1/884)
الأحوال. وما دونه في حكم الإقامة. وأيضًا
قوله عليه الصلاة والسلام: يا أهل مكة لا تقصروا في أقل من أربعة بُرُد من
مكة إلى عُسْفان (1). ولأن مشقة الحمل والترحال والسير الذي يحصل مقدار
يومين فجعل ذلك حدًا للقصر. فاقتضت هذه الظواهر ما قال مالك والشافعي وخصت
قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} على أن الضرب في الأرض فيه
إشعار سفر مالًا ولا يقتضي أقل الضرب وأقصره. وروي عن النبي - صلى الله
عليه وسلم - أنه قال: يمسح المسافر ثلاثة أيام بلياليهن (2). وهذا يقتضي
مسح المسافر هذه المدة. ولا يمكن ذلك إلا إذا قدّر
السفر بثلاثة أيام. وبقوله عليه الصلاة والسلام في حديث آخر: لا يحل لامرأة
تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفر ثلاثة أيام إلا ومعها ذو محرم منها
أو زوجها (3). وهذا يشعر بتحديد الثلاثة أيام على حسب ما قلناه نحن في
الحديث المروي فيه النهي عن سفرها يومًا وليلة. وبهذه الظواهر أخذ أبو
حنيفة. وأما ما أضربنا عن توجيهه من الأقوال فمأخوذ من هذا الإسلوب لأن
المفهوم أن القصر لأجل المشقة فكل من أولئك (4) يُقدّر المشقة بالتقدير
الذي حكينا عنه. وإذا ثبت ما قلناه بن اعتبار القصر بأربعة برد. فمن قصر في
أقل منها فقال ابن القاسم في العتبية إنْ قصر في ستة وثلاثين ميلًا فلا
إعادة عليه. وقال يحيى بن عمر يعيد أبدًا. وقال عبد الله بن عبد الحكم يعيد
في الوقت. وإن قصر في أقل منها فقد قال ابن القاسم من قصر دون ذلك أعاد
أبدًا. لأنه غير مسافر ولم يعتبر اختلاف الناس في ذلك. وكان ما دون ذلك
يتضح أن معاني السفر مفقودة (5) فيه فلم يتعلق به حكم السفر.
والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: المعتبر عندنا في مقدار السفر أن تكون
الأربعة برد سيرًا محضًا ولا تلفق من سير ورجوع. فمن خرج لسفر نهايته
__________
= معها محرم. فتح الباري ج 1 ص 222.
(1) حديث ضعيف رواه البيهقي: السنن ج 3 ص 137.
(2) أخرجه مسلم والبيهقي والترمذي: سنن البيهقي ج 1 ص 276.
(3) رواه البيهقي. السنن ج 3 ص 138.
(4) أولئك = ساقطة -و-.
(5) مقصودة -و- وهو خطأ.
(1/885)
أربعة وعشرون ميلًا ونيته أن يعود من فوره
(1) إلى وطنه لم يقصر. وقد سئل في المدونة عن السعاة. فقال ما أدري ما
السعاة؟ وذكر أن مغ يدور في القرى وفي دورانه أربعة برد يقصر. وإنما امتنع
عن الجواب في السعاة لأنهم قد يخرجون لأخذ الزكاة على غير وجهها فيكون
سفرهم سفر معصية. وسفر المعصية لا يقصر فيه على أحد القولين. فلما في سفرهم
من التفصيل عدل عنه إلى ذكر ما لاتفصيل فيه. وهذا الذي ذكره في الدائر في
القرى، وليس بين منزله وأقصاها أربعة برد، محمول على أنه يلفق الأربعة برد
من تطواف لا يَعُد منه ما كان (2) رجوعًا إلى البلد. فإذا ضرب يمينًا
وأمامًا وشمالًا احتسب ذلك كله. فإذا استدبر وجهته راجعًا في طريق بلده
قاصدًا الرجوع إليها لم يحتسب بذلك في الأربعة برد. ولو كان سير المسافر في
بر وبحر فقد قال عبد الملك من توجه إلى سفر فيه بر وبحر فإن كان في أقصاه
باتصال البر مع البحر ما يقصر قصر. قال ابن المواز وإن كان ليس بينه وبين
البحر ما يقصر فيه، وهو يجري في البحر بالريح وغير الريح فإنه يقصر. فإن
كان لا يجري في البحر إلا بريح فلا يقصر حتى يبرز عن موضع إقلاعه. ولو كان
في سفره طريقان أحدهما لا يبلغ مسافة القصر والآخر يبلغها، فان سلك الطريق
الأقصر لم يقصر لقصورها عن مسافة القصر.
وإن سلك الطريق الأبعد، فان كان لغرض فيها كالأمن أو السهولة أو حاجة لا بد
منها فإنه يقصر. وإن كان لغير غرض ففي السليمانية لا ينبغي له أن يقصر.
لأن تركه القاصرة وأخذه بغيرها لغير معنى عبث. ومن كان عابثًا لا يقصر. وهو
أحد قولي الشافعية. والقول الثاني عندهم القصر. وبه قال أبو حنيفة.
فوجه منع القصر ما علل به في السليمانية. قال بعض أصحاب الشافعي قياسًا على
ما لو مشى في الطريق يمينًا وشمالًا حتى طال سفره. قال ووجه القول الآخر
أنه سفر مباح، فجاز فيه القصر، كما لو سلك هذا الطريق لغرض.
قالت طائفة منهم هذا ليس بصحيح لأنا لا نسلم أنه السفر المباح. لأن النبي
عليه الصلاة والسلام قال إن الله سبحانه وتعالى يبغض المشائين من غير إرب.
يعني من غير حاجة.
__________
(1) أربعة وعشرون ونيته أن يعود إلى وطنه -و-.
(2) يكون - قث.
(1/886)
ويراعى مقدار السفر من حيث يخاطب بالصلاة.
ففي السليمانية في النصراني يقدم من مصر يريد القيروان فأسلم بقلشانه أنه
يتم. قال لأن الباقي من سفره لا يقصر فيه. وإذا وجب عليه الإتمام من قلشانه
فطرد هذا يقتضي أن يراعي مقدار السفر من حين البلوغ، في حق من بلغ في أثناء
السفر. وكذلك يراعى في حق المجنون إذا عقل في أثناء السفر. قال بعض أشياخي
في طهر الحائض في أثناء السفر نظر وعندي أنه لا يتضح فرق بينهما وبين ما
تقدم لأنها غير مخاطبة بالصلاة أيام حيضتها إجماعًا، والكافر مخاطب بالصلاة
وبغيرها من فروع الشريعة بشرط تقدمة الإيمان عند جماعة من أهل الأصول.
وإذا لم يعتبر ما مضى من سفره مع الاختلاف في خطابه فالحائض أولى بذلك
لكونها لم يختلف في سقوط الخطاب عنها إلا أن يقال إن الحائض كانت قبل
حيضتها مخاطبة بالصلاة وإنما ارتفع الخطاب عنها لمانع والمانع يتوقع
ارتفاعه في كل جزء من أجزاء السفر فخالفت بهذا من ذكر معها فهذا مما ينظر
فيه. ومن شرط مقدار السفر أن يكون معزومًا عليه لا مترددًا فيه فمن خرج
لبيع سلعة وهو شاك في مقدار مسافة بيعها فإنه لا يقصر الصلاة لأن الأصل
الإتمام والقصر طارئ فلا يصار إليه إلا بعد تحقق السبب المبيح له. وكذلك
قال مالك في المدونة فيمن خرج في طلب آبق أو حاجة فقيل له بين يديك على
بريدين فمشى كذلك أيامًا ولا يدري غاية سفره فليتم في سيره ويقصر في رجوعه
إذا كان أربعة برد فأكثر. وقال مالك في المدونة فيمن واعد قومًا للسفر يمر
بهم، وبينه وبين موضعهم ما لا تقصرُ فيه الصلاة في مثله أو تقدمهم حتى
يلحقوه فإن كان عازمًا على السفر خرج القوم أم لا فليقصر إذا برز عن قريته.
وإن كان لا يخرج إلا بخروجهم فليتم حتى يبرز عن موضعهم أو عن الموضع الذي
يلحقونه فيه. واختلف (1) قول مالك فيمن خرج من الفسطاط إلى بئر عميرة يقيم
به اليومين كما يصنع الأكرياء حتى يجتمع الناس فقال أحب إلى أن يتموا إذا
كان الاكرياء يحبسون الناس. وقال أيضًا يقصرون. وقال يحيي ولم ير
__________
(1) وإن اختلف -و-.
(1/887)
ذلك إلا في الأمير يخرج على الميلين ويقيم
حتى يجتمع بقية جيشه بل قال يتم، فقال بعض المتأخرين إنما ذلك لأجل أن
الأمير هو مختار للإقامة لأن السفر بحكمه. والخارج إلى بئر عميرة غير مختار
للإقامة بل قاصد للسفر والغالب لحاق سائر الناس به فكان له القصر وأنكر
بعضهم هذا الفرق وقال يطرد الاختلاف في السؤالين. واستضعف الفرق لأجل كون
المسير للأمير يقتضي القصر لأن عزمه لا أحد يثنيه بخلاف الخارج لبئر عميرة.
وليس من شرط مقدار السفر أن يكون سيرًا متصلًا. وقد قال مالك فيمن سافر من
مصر إلى مكة يسير يومًا ويقيم يومًا أنه يقصر في سيره وإقامته. ولم ير
تخليل ما دون زمان الإقامة مانعًا من تلفيق السير بعضه إلى بعض. فلو كان
يقيم يومين أو ثلاثًا لقصر أيضًا، وكان حكم الإِمام حكمًا واحدًا. ولو كان
يقيم أربعة أيام لأتم فيها. وأما السير الذي قبلها فإن كان فيه ما تقصر
الصلاة فيه قصَرَ. وإن كان لا تقصُر الصلاة فيه فاختلف في تلفيق بعضه إلى
بعض. وسنعيد الكلام عليه إن شاء الله تعَالى. فقد وقع بين المتأخرين تنازع
فيمن خرج في طلب آبق لا يعلَم موضعه فأتم في سفره فحكمه أن يقصر في رجوعه
إذا كان قد بلغ أربعة برد على ما قاله مالك في المدونة. لو كان لما بلغ
أربعة برد فقيل له إن الآبق على بريد بين يديك أو عن يمينك أو عن يسارك
فعزم على البلوغ إلى الموضع المشار إليه وينقلب منه إلى منزله على كل حال.
هل يضاف هذا البريد إلى حكم ما قبله، فيتم فيه الصلاة ويكون مبدأ القصر من
حيث رجوعه لأجل أنه في البريد المزيد سائر وفي انقلابه راجع، فلا يضم سير
إلى انقلاب *أو يقصر صلاته في هذا البريد ويضاف إلى انقلابه لأنه في حكم
الراجع. وإن كان طالبًا فيه لحاجته. ويكون ذلك كما لو آثر الرجوع من حيث
بلغ الأربعة برد على هذه الطريقة المشتملة على هذا البريد لسهولتها. أو كمن
خرج مسافرًا* (1) ضاربًا في جهة قبلة بلدته، فعرض له بعد خروجه حاجة في
دبرها على بريد فعزم على سيره وانعطافه إلى طريقه الأولى (2) من غير رجوع
إلى بلده فإنه يقصرُ في هذا البريد فكذلك حكم
__________
(1) ما بين النجمين ممحو من -و-.
(2) هكذا في النسختين ولعل الصواب الأول.
(1/888)
البريد الزائد على الأربعة في مسألتنا (1).
قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: والأظهر من المذهب أن القصر سنّة
والإتمام مكروه. فإن كان خلف مقيم فليتبعه وإن كان خلف مسافر فاتم فلا
يتبعه.
قال الفقيه الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل ثلاثة أسئلة. منها أن
يقال:
1 - هل القصر سنّة أو فرض؟.
2 - وما حكم صلاة المسافر خلف المقيم؟.
3 - وما حكم المسافر إذا دخل على عدد ففعل خلافه؟.
فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: اضطرب المذهب في حكم القصر فروى أشهب عن
مالك أنه فرض. وبه قال إسماعيل القاضي وابن سحنون ومال ابن المواز إليه.
وقال ابن سحنون في كتابه قال مالك ومن قال بقوله: فرض الصلاة في السفر
ركعتان. فمن صلاها أربعًا أعاد الصلاة ولم يُعزم عليه لقول مالك وأصحابه:
إن المتم في السفر يعيد في الوقت. قال القاضي أبو محمَّد: جماعة من
البغداديين يرون القصر فرضًا ووافق أبو حنيفة هذه الرواية عن مالك.
وذهب إلى أن القصر فرض. وروي عن مالك في المبسوط أن القصر سنّة. قال القاضي
أبو محمَّد ذهب أكثر أصحابنا إلى أن فرض المسافر التخيير إلا أن القصر أفضل
وهو سنة. وقاله ابن وهب عن مالك. قال ابن القصار قال الأبهري وغيره: هو
مخيّر والقصر أفضل. وحكى أبو جعفر الأبهري أن أبا بكر الأبهري يقول هو غير
بين القصر والإتمام. وقال الشافعي هو غير بين القصر والإتمام. واختلف قول
مالك في أيهما أفضل، وذكر أبو الوليد أن أصحابنا اختلفوا في القصر هل هو
واجب أو مندوب إليه أو مباح؟ وما أضافه إلى المذهب من الإباحة لا يكاد يوجد
لاتفاق المذهب على أن القصر مأمور به إما إيجابًا وإما ندبًا. إلا أن يكون
أبو الوليد تعلق بما نقل عن الأبهري من التخيير
__________
(1) إلى هنا انتهت نسخة قث. إذ ورد بعد هذا أبواب المعاملات قبيل كتاب
الحوالة.
ومن هنا نعتمد النسخة الثالثة من القرويين. ونشير إليها. قل وأوراقها
متداخلة وذلك مع النسخة الأصلية المشار إليها. ب- و.
(1/889)
من غير تقييد بالأفضل. فانه قد حُكي لنا
عنه أنه قد قتد في بعض ما نقلناه عنه.
فأما من قال إنه فرض فإنه يحتج بما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال: إن
الله تعالى فرض للحاضر أربعًا وفرض للمسافر ركعتين (1). وأجيب عنه بأن
معناه: فرضه ذلك إذا اختار. لقول عائشة رضي الله عنها: فرضت الصلاة ركعتين،
ركعتين في الحضر فزيدت في صلاة الحضر وأقرت في صلاة السفر (2). وأجيب عن
هذا بأن المراد بأنها أقرت في السفر في حق في اختار القصر. وأنكر أبو
المعالي هذا الخبر وقال من زعم أن صلاة الإقامة كانت ركعتين ركعتين ثم زيد
فيها فقد جحد الضرورة والبديهة. فإنا نعلم بالتواتر والنقل المستفيض أن
النبي عليه الصلاة والسلام كان يصلي الظهر في الحضر أربع ركعات كما نعلم
أنه كان
يركع في كل ركعة ركوعًا. ومن أبدى في هذا المراء طرق القدح إلى نقل
التواتر.
فالأولى تضعيف الرواية أو نسبة رواتها إلى الوهم. وهذا الذي قاله طريقة
انفرد بها. والحديث أشهر من أن ينكر. والصلوات وإن كانت مما ينقل تواترًا
في العادة وأعلام الدين متكررة المتابعة في المسلمين شأنها أن تنقل تواترًا
فإن ذلك إنما يكون مع حصول الأسباب والدواعي الباعثة على النقل، فإذا تبدلت
الأسباب والدواعي تبدل هذا الحكم. وما كان من الشريعة في أول الإِسلام ثم
طرأ عليه النسخ بعد قليل من العمل به وألف الناس خلافه، واستمروا على
الإضراب عنه، وحرم عليهم فعله، فإن الدواعي الباعثة على نقله قد فقدت.
فلا يستنكر فيما هذا شأنه ذهابه واندراسه لعدم الحاجة إلى نقله. والحاجة
إليه هي سبب توافر الدواعي عليه. فإذا استغني عنه فلا معنى للتشاغل بنقله.
وقد أشار أبو المعالي في بعض كتبه (3) إلأصولية إلى مثل هذا المعنى الذي
قلناه.
وأشار القاضي أبو محمَّد رحمه الله إلى نحو هذه الطريقة. ومثله (4) كيف
يهجم هذا الهجوم على خبر رواه مالك في موطئه. ورواه البخاري أيضًا في صحيحه
__________
(1) رواه مسلم عن عروة عن ابن عباس. نصب الراية ج 2 ص 189. وأخرجه أحمد ج1
ص 355.
(2) رواه مالك والبخاري ومسلم وأبو داود والبيهقي والنسائي. الهداية ج 3 ص
315.
(3) كتب -و-.
(4) ومثله = ساقطة -و-.
(1/890)
وغيرهما من مدوني السنن. فإذا كذّب بخبر
رواه مثل هؤلاء فما ظنك بمن سواهم؟ وقد قال أبو بشر الدولابي قدم النبي -
صلى الله عليه وسلم - المدينة وهو يصلي ركعتين ثم نزل تمام صلاة المقيم في
الظهر يوم الثلاثاء لإثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الآخر بعد مقدمه بشهر
وأقرت صلاة السفر ركعتين. وقالت عائشة رضي الله عنها: أول ما فرضت الصلاة
ركعتين فلما أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - لي صلّى لكل صلاة مثلها إلا
المغرب فإنها وتر وصلاة الصبح لطول قراءتها (1). فكان النبي - صلى الله
عليه وسلم - إذا سافر سفرًا عاد إلى صلاته الأولى. أي ركعتين. واحتج أيضًا
بقول عمر: صلاة الأضحى وصلاة الفطر ركعتان وصلاة السفر ركعتان وتمام غير
قصر على لسان نبيكم (2). وأجيب عن هذا بأنه محمول على من اختار القصر مع
أنه قرنه بالسنن فدل على أنه سنّة. ويقول عمر أن النبي - صلى الله عليه
وسلم - ما سافر إلا صلّى ركعتين (3). وبقول ابن عباس إن الله تعالى فرض على
لسان نبيكم للمقيم أربعًا وللمسافر اثنتين.
وبقول ابن عباس أيضًا إن من صلى في السفر أربعًا كمن صلّى في الحضر ركعتين
وبأن عثمان لما أتم الصلاة في الموسم أنكروا عليه الإتمام حتى اعتذر عنه
ولو كان الإتمام سائغًا لما أنكروه. ولا احتاج إلى الاعتذار. وقد أكثر
الناس من الاعتذار على إتمام عثمان وعائشة. فذكر ابن سنجر أن عثمان رضي
الله عنه صلّى بأهل مني أربعًا فأنكر الناس عليه ذلك فقال: يا أيها الناس
إني لما قدمت مني تأهلت. وأنا سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:
إذا تأهل الرجل ببلد فليصل به صلاة المقيم. (4) فذكر ابن حبيب أنه إنما أتم
بمنى خاصة من أجل أنه
__________
(1) روى مسلم عن عائشة أن الصلاة أول ما فرضت ركعتين فاقرت صلاة السفر
وأتمت صلاة الحضر. إكمال الاكمال ج 2 ص 346. وأخرجه البخاري وأبو داود
والنسائي.
مختصر المنذري ح 1455 علق عليه الخطابي. هذا قول عائشة عن نفسها وليس
برواية عن رسول الله. ج 2 ص 47.
(2) أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن سمّاك الحنفي قال: سالت ابن عمر عن صلاة
السفر نقال: ركعتان تمام غير قصر. الدر المنثور. ج 2 ص 210.
(3) هو في -و- أتممناه من نسخة متداخلة الأوراق.
(4) رواه أحمد وأبو يعلي. مجمع الزوائد ج 2 ص 157.
(1/891)
كان له بها أرض وأهل. فتأول أنه غير مسافر.
وقيل أنه تأول أنه أمير المؤمنين فحيث ما كان من البلاد فهو في عمله. وقيل
إنما أتم لأنه كان معه الجند والأعراب ومن لا يعقل فخاف أن يعتقدوا أن
الصلاة عددها ركعتان لا أكثر.
وقيل تأول أن القصر إنما هو لمن يناله تعب السفر دون الترفه. وقال الزهري:
بلغني أن عثمان إنما أتم لأنه أزمع المقام بعد الحج فلعله يريد أزمع المقام
أربعة أيام لضرورة دعته إلى ذلك. وقد قال ابن عمر صحبت عثمان فلم يزد على
ركعتين في السفر حتى قبضه الله تعالى. قال بعضهم هذه إشارة منه إلى أن
عثمان رأى مكانه مكانًا يمنع القصر. وإنما يصح هذا بأن يكون النبي - صلى
الله عليه وسلم - لم يقم بمكة قبل الخروج إلى مني مدة توجب الإتمام. وأقام
عثمان بها مدة توجب الإتمام، واعتقد أن مسافة الخروج إلى عرفة إذا انفصلت
مما قبلها من السفر لا تبيح القصر. وهذا اعتذار بمقام قبل الخروج خلاف
اعتذار الزهري بمقام بعد الخروج. وهذا التأويل بأن الإقامة قبل الخروج إلى
مني تمنع القصر إنما يذكر على جهة إمكان أن يكون ذهب إليه (1). وإلا فالمكي
يقصر بمنى وعرفة وإن لم يكن بينه وبينها ما يوجب القصر. وعلل ذلك بأن عمل
الحاج لا ينقضي إلا في أكثر من يوم وليلة مع الانتقال اللازم فيه. والمشي
من موضع إلى موضع لا يوجب الإخلال به فجرى ذلك مجرى مشي الأربعة برد. ولا
يلزم عليه التنقل من موضع إلى موضع في مسافة قصيرة لأن ذلك لا يلزم بالشروع
(2). وهذا تنقل لازم فكان حكمه حكم السير المتصل. وعلل أيضًا بأن الخارج من
مكة إلى عرفة أنه لا بد له من الرجوع إلى مكة بحكم الشرع فصار في مجموع
السير والرجوع مقدار ما تقصر فيه الصلاة ولا يلزم على هذا من خرج إلى خمسة
وعشرين ميلًا قاصدًا إذا بلغها أن يرجع إلى حيث خرج منه. لأن رجوعه هناك
ليس بلازم. وفي الحج الرجوع لازم. فكان السير والرجوع يقدران تقدير سير
واحد في جهة واحدة. ولعلنا أن نبسط هذا في كتاب الحج إن شاء الله تعالى.
__________
(1) إليه = ساقطة -و-.
(2) بالشرع - قل.
(1/892)
ويمكن عندي أن يكون عثمان أتم لاعتقاد (1)
التخيير وجواز الإتمام (2) في السفر وقد حكينا أن الشافعي يرى في أحد قوليه
أن الإتمام هو الأفضل فخرج من مجموع ذلك ثماني (3) تأويلات لما فعله عثمان.
وأما التأويل على إتمام عائشة فقد قال ابن الجهم قيل لعروة ما بال عائشة
تتم في السفر؟ قال: أراها تأولت ما تأوله عثمان. قال ابن الجهم ويقال أن
الذي تأول عثمان أنه كان يقول: أنا أمير المؤمنين فحيثما كنت من البلاد
فأنا في عملي. وقالت عائشة رضي الله عنها: أنا أم المؤمنين فحيثما كنت فأنا
عند ولدي وفي بيتي. وقد أجيب عن هذا بأن وطن ولدها ليس بوطن لها، فلا يكون
هذا عذرًا. وقال سحنون يقولون إنما أتمت لأن النبي - صلى الله عليه وسلم -
قال لها: إنما هي هذه ثم ظهور الحضر. وأنكر بعض المتأخرين هذا وقال إنه
حديث شيعي لا يصح، وإنما أدخله من قصده الطعن على عائشة رضي الله عنها.
وعندي أن الأولى أن يظن بسحنون أنه إنما نقل ذلك منكرًا له، ولعله أورده في
سياق كلام يفهم منه ذم من سلك هذا التأويل. فنقل الراوي لفظه مجردًا من
القرائن الدالة على قصده. والذي أشار إليه. ومما يعتمد عليه من قال أن
القصر فرض إن (4) الركعتين في السفر يُجزيان قطعًا ولم يقم على إثبات
الزيادة دليل، والزيادة في الصلاة من المبطلات. وأجيب عن هذا بأن الزيادة
إنما تكون من المبطلات إذا ثبت المنع منها، كالزيادة في صلاة الصبح.
وهي (5) في صلاة المسافر جائزة عند من ذهب إلى ذلك. فكونها من المبطلات غير
مسلم. ومنع من ذهب إلى أن القصر فرض أن الركعتين المزيدتين في حكم النافلة،
لأن من تركهما (6) لم يأثم. وما كان يجوز تركه إلى غير بدل من غير مأثم
يلحق بذلك فليس بواجب. وهذا له يجعل الركعتين ليستا بواجبتين. وإذا لم
يكونا واجبتين لم يصح إثباتهما إلا أن يكونا بمعنى النفل. وقد قال أبو
حنيفة إن صلى أربع ركعات فإن جلس للتشهد الأول أجزأته الركعتان الأوليان
وإن لم
__________
(1) لاعتقاده. قل.
(2) ألا يضام -و-.
(3) تمام -و- وثلاث قل والمعنى على ثماني.
(4) وأن -و-.
(5) وهي = ساقطة -و-.
(6) ولأنه وإن تركهما -و-.
(1/893)
يجلس للتشهد أعاد الصلاة* (1) ورأى أن
الزيادة على ركعتين تطوع. فإذا خلط المكتوبة بالتطوع قبل أن يتشهد في
الركعتين بطلت صلاته. ومن أنكر كون القصر فرضًا فلا يعتقد في الركعتين
المزيدتين النافلة المحضة. وإذا لم يعتقد ذلك بطل قوله. وثبت أن القصر فرض.
وأجيب عن هذا بأن الأصل إيجاب أربع ركعات.
والقصر طارئ. فوجب أن للمكلف الخيار في إسقاطه الركعتين. وقد قال عليه
الصلاة والسلام صدقة تصدق الله بها عليكم (2) فإذا لم تقبل الصدقة بقيت
الأربع على أصل الوجوب ولم تصِرْ الركعتان نافلة. وهذا بخلاف ما ليس له حكم
في الأصل فإنه متى قيل فيما لا أصل له إن (3) لم يفعله فلا عهدة عليه فإنه
لا يكون واجبًا. وما نحن فيه له أصل. فإذا لم يختر المكلف قبول ما تصدق به
عليه بقيت الأربع على أصل الوجوب. وهذا كمن له على رجل أربعة دنانير فوهبه
دينارين فلم يقبلهما فإن الأربعة دنانير توصف بأنها باقية على أصل الثبوت
ومتى أداها من هي عليه فإنما أداها بحكم أصل المعاملة، وثبوتها في الذمة.
ولا يقدر بقضائها كمبتدىء تمليك الدينارين اللذين لم يقبلهما. وهذا يوضح:
إن اختار المسافر أربع ركعات لا تخرج الأربع عن أصل الوجوب. وأجيب عن هذا
بأن الأسباب من سفر وإقامة مفوضة إلى رأي العبد. وأما الفعل المأمور به (4)
مفوض أيضًا إلى رأي العبد. والأحكام لا تصح إلا أن تفوض إلى رأي العبد
لأنها تكون كنصف شريعة من قبل العبد والتفويض إلى مشيئته تمليك. والعبد لا
يملك إقامة الشرع (5). فإذا كان هذا هكذا فالأسباب المعلق عليها الأحكام من
سفر وإقامة ففعل العبد فيها ما اختار. والأداء الذي هو فعل الصلاة المرتب
على الأحكام من اكتساب العبد إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل، ولكنه واجب عليه
الفعل.
وجعل الصلاة أربعًا أو اثنتين حكم من الأحكام لا يضاف إلى العبد، بخلاف ما
تمثلوا به في الدين فإن واهب بعض الدين لا يملك ولاية على الموهوب ولا
__________
(1) ما بين النجمين هو -و-.
(2) أخرجه مسلم وأحمد والدرامي وأبو داود والترمذي والنسائي. الهداية ج 3 ص
307.
(3) ان = ساقطة -و-.
(4) هكذا ولعل الصواب فمفوض.
(5) إقامة الشرع = ساقطة -و-.
(1/894)
يلزم الموهوب طاعته. فكان للموهوب الرد.
ورد الركعتين من الصلاة لا يصح لأن الله سبحانه واهبها يملك (1) الولاية
على العبد ولا يسوغ رد ما شرع. ولا يناقض هذا يكون المملوك مخيرًا بين
الظهر وصلاة الجمعة، وصلاة الجمعة ركعتان، والظهر أربع. لأن ذلك في معنى
عبادتين مختلفتين كالثلاث خص الذي كفارة الأيمان التي خيّر العبد منها في
الشرع لا في الشروع. ووجه الاختلاف بين الظهر وصلاة الجمعة أن في الجمعة
سعيًا وخطبة وليس ذلك في صلاة الظهر. فكان الركعتين من الظهر تقابل السعي
والخطبة (2). ولا شك في اختلاف ذلك ولا يناقض هذا بتخيير المسافر بين الصوم
والفطر وتفويض ذلك إلى مشيئته لأنه لا إسقاط ها هنا، والعبادة ثابتة. وإنما
خيّر المكلف بين تعجيل يستفيد منه طيبَ نفسه بمساواة المسلمين في الصوم،
(3) وتأخير يستفيد منه تخفيف مؤونة السفر. وهذا أيضًا كالمختلف. والرخصة في
السفر إسقاط عدد. وحقيقة الإسقاط من العدد ينافي إكمال المعدود. فكان ظاهر
إسقاط الشرع ببعض العدد وجوب الاقتصار على الباقي منه لأن العدول عن (4)
إيجاب الاقتصار لا يمكن إلا برد الإسقاط. وإسقاط الشرع لا سبيل إلى رده.
وهذا المعنى المفرق بين إسقاط العدد والتقديم والتأخير يورد جوابًا أيضًا
لمن قال بتخيير المسافر في الصلاة قياسًا منه ذلك على الصوم والفطر.
ومما يعتمد عليه أيضًا من قال إن القصر فرض، إن التخير ما بين أقل الشيء
وأكثره لا يمكن. لأن الأول حاصل على كل حال. والزيادة لا معنى لها.
ولو جرى هذا في حقوق العباد لعُدّ مختار الأثقل مع الإباحة للاقتصار على
الأقل خارجًا عن الحكمة. وحقوق الله سبحانه مبنية على الحكمة. فكان لا معنى
للتخيير بين الأقل والأكثر. وإن نوقض هذا بالتخيير بين الجمعة والظهر في حق
المملوك فقد أجبنا بأن ذلك ليس بتخيير بين أقل وأكثر بل بين مختلفين.
__________
(1) وهبها يملك الولاية -و-.
(2) تقام للسعي والخطبة -و-.
(3) في الصوم = ساقطة -و-.
(4) بياض في -و-.
(1/895)
وكذلك إن نوقض هذا بالتخيير بين الصوم
والفطر فقد أجبنا أنه ليس، بإسقاط، والتعجيل ليس بردّ. وإكمال الأربع كالرد
لما شرع من الإسقاط. ألا ترى أنا قدمنا أن الأحكام لا يصح تفويض شرعها إلى
العباد. وتعجيلها قد فوض (1) إليهم عند سبب ما كما جعل الله للحالف قبل
حِنْثه لوجود سبب الحنث وهو اليمين. وكما جعل للمزكي المقدم زكاته قبل
الحول عند من رأى ذلك. فأنت ترى كيف جاء الشرع بأن تعجيل الأحكام بخلاف
شرعها ابتداء.
وأجيب عن هذا أيضًا بأن إكمال الأربع زيادة ثواب وزيادة مشقة. وفي القصر
زيادة تخفيف ونقصان ثواب فصار ذلك في معنى مختلف. وبعض من قال إن القصر فرض
لم يسلم هذا. وقال لا يسلم أن صلاة المسافر أقل ثوابًا من صلاة الحاضر لأن
الثواب التام في فعل العبد كل ما عليه. وقد سئل عليه الصلاة والسلام عن
أفضل الصدقة قال: جهد المقل أي طاقته (2). وإذا سقطت عبرة الثواب لم يبق
للأكثر فائدة. فهذه عمدة القائلين بأن القصر فرض.
وأما القائلون بأن القصر ليس بفرض فإنهم يعتمدون على قوله: تعالى: {وَإِذَا
ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا
مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} (3).
فلو كان القصر فرضًا لم يقل فيه فلا جناح عليكم إذ لا يعبر عن الواجب بأنه
لا جناح فيه. وإنما يعبر ذلك عما يجوز العدول عنه وأن لا يفعل. وقد اختلف
الناس في هذه الآية هل المراد بها قصر العدد أو قصر الوصف؟ فذهب بعضهم إلى
أن المراد بها قصر العدد.
وذهب بعضهم إلى أن المراد بها قصر الوصف، ثم اختلفت طريقة هؤلاء في قصر
العدد ما مقداره في الآية؟ هل هي (4) جملة واحدة أو مركبة من جملتين؟ وذهب
آخرون إلى أن المراد بها قصر الوصف. وسبب هذا الاختلاف أن الله سبحانه قال
عقب ذلك: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا
وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا
الصَّلَاةَ}. فقال بعضهم المراد بقضيتم أردتم
__________
(1) فرض -و-.
(2) أبو داود. المختصر للمنذري.
(3) سورة النساء، الآية: 101.
(4) في -و-.
(1/896)
قضاءها كقوله: {فَإِذَا قَرَأْتَ
الْقُرْآنَ} أي أردت تراءته. وإذا كان المراد هذا.
وقد قال: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا
وَقُعُودًا}. فإنما القعود إنما يجوز لعذر الخوف. وأيضًا فقد قال تعالى:
{فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} معناه فإذا أمنتم فأدوها
قيامًا. وهذا التأويل يصحح (1) حملها على قصر الهيئة. وقال بعضهم حمل قضيتم
أردتم القضاء تجوّزٌ. أو المراد أن الله أمركم بالذكر بعد الفراغ من الصلاة
ليكون ذكر الله سببًا لنصرتكم. وقد قال تعالى: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً
فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} (2). والمراد بهذا وبقوله
تعالى: فإذا اطمأننتم في أمصاركم فأقيموا الصلاة تامة العدد. ويرجح من
يحملها على قصر الوصف مذهبه بأن القصر في الوصف تخفيف الركوع والسجود لخوف
العدو. وهو القصر الحقيقي. وأما صلاة المسافر ركعتين. فإذا قيل إنّ ذلك
فرضه وأن هذا هو أصل الفرض فلا حقيقة للقصر. ولا يطلق إلا توسعًا. كما لا
يقال في صلاة الفجر إنها صلاة مقصورة لما كان أصل الفرض فيها ركعتين. ويرجح
من يحملها على قصر العدد مذهبه بأن المسافر لما خيّر بين القصر والإتمام
كان اختياره لركعتين قصرًا حقيقة. لأنه حذف من العدد اللازم له في الحضر
شطره. والاقتصار على بعض العدد هو أولى أن يسمى قصرًا من تخفيف الركوع
والسجود. ولأن الإطالة في الركوع والسجود لا تجب. والإطالة وإن شرعت فليست
بمحدودة، وكذلك ما يباح في صلاة الخوف من مخالفة الهيثة لا يسمى قصرًا
حقيقة. وإذا كان هذا هكذا كان العمل على قصر العدد أولى لا سيما وقد جرى
لعمر رضي الله عنه في الآية ما يؤكد هذه الطريقة. فقد خرّج مسلم عن يعلي بن
أمية أنه قال لعمر قول الله عَزَّ وَجَلَّ: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ
أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ}. فقد أمن الناس.
فقال عمر: عجبت مما عجبت منه. فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن
ذلك فقال صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته (3). وظاهر هذا أن عمر
فهم من الآية قصر
__________
(1) وهذا يصح حملها على الهيئة.
(2) سورة الأنفال، الآية: 45.
(3) رواه ابن أبي شيبة وعبد بن حُميد وأحمد ومسلم وأبو داود والترمذي
والنسائي وابن =
(1/897)
العدد إذ عُلّق بالخوف وأن مقتضاها أن
القصر مع الأمن لا يكون حتى قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ما قال. وذكر
عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقول في السفر: أتموا صلاتكم. فقالوا إن
النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي ركعتين فقالت إنه كان في خوف فهل
تخافون أنتم؟ (1) وظاهر هذا إشارة إلى حمل الآية على قصر العدد في الخوف.
ولكنه قد فهم من إشارتها أنها فهمت ما فهم عمر رضي الله عنهما.
ولم تعلم ما علم من إسقاط حكم التعليق بالخوف. ويجب عندي أن يتأول أن قولها
هذا على أنها أرادت تفضيل الإتمام على القصر أو أرادت إعلامهم بجوازه في
السفر كي لا يظنوا أن القصر فرض كما ظن ذلك من ذهب إليه من العلماء.
وإنما دعا إلى تأويل قولها هذا إن الإتمام في السفر لا أعلم أحدًا يقول
بوجوبه.
ومما تجاذبه الفريقان من قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ
فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ
خِفْتُمْ} (2). فهذان تعليقان الأول منهما الضرب في الأرض. وقصر الوصف يجوز
مع الضرب في الأرض ومع عدمه. والثاني منهما الخوف وقصر العدد يجوز مع الخوف
والأمن في السفر. فمن حمل الآية على قصر الوصف التفت إلى جانب التعليق
الثاني وهو الخوف وجعل التعليق الأول كأنه لبيان الحال ولمطابقة العدد. فإن
الخوف لا يكون في القرار، وإنما يكون في الأسفار. ويستدل بأن القائل إذا
قال لزوجته إذا دخلت الدار فأنت طالق إن كلمت زيدًا. فإن الطلاق يتعلق
بالكلام. وإنما الدخول لبيان الحال.
والطلاق إنما يقع بالكلام ولكن بعد الدخول. هذا إن كان حامل هذه الآية على
قصر الوصف ممن يجيز صلاة الخوف في الحضر كما يجيزها في السفر فحينئذ يحتاج
إلى الاعتذار عن التعليق بالضرب في الأرض. وأما إن كان ممن يمنع صلاة الخوف
في الحضر فلا حاجة به إلى الاعتذار عن التعليق الأول، بل التعليقان عنده
مستعملان. إلى هذه الطريقة ذهب ابن الماجشون من أصحابنا.
فقال في المبسوط في صلاة الخوف إنما تأولها أهل العلم في السفر. لقوله
__________
= ماجة وغيرهم. الدر المنثور ج 2 ص 109.
(1) رواه ابن جرير الطبري في التفسير ج 5 ص 155.
(2) سورة النساء، الآية: 151.
(1/898)
تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي
الْأَرْضِ}. لأن صلاته عليه الصلاة والسلام كانت على تلك الهيئة في السفر.
ومن حمل الآية على قصر العدد التفت إلى التعليق الأول .. (1). التعليق
الثاني بحديث عمر وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: صدقة تصدق الله بها
عليكم. الحديث المتقدم (2). هذا جملة القول في سبب الاختلاف في حمل الآية
على قصر الوصف أو قصر العدد. فإن قلنا محملها على قصر الوصف فبيانه يرد في
بابه. وإن قلنا محملها على قصر العدد فقد اختلف الناس في العدد ما المراد
بها؟ فقال بعضهم هو الاقتصار على ركعتين من أربع، وهو الذي يشير إليه ما
قدمناه من حديث عمر وعائشة رضي الله عنهما. ذهب جماعة من الصحابة والتابعين
إلى أن صلاة الخوف ركعة فقالوا فرض الله على المقيم أربعًا وعلى المسافر
ركعتين، وقالوا فقصر الصلاة في الخوف أن يصلي ركعة لأنهم مسافرون فصلاتهم
ركعتان. وقصر الركعتين لا يكون إلا ركعة (3) وهذه إشارة إلى حمل الآية على
قصر العدد إلى ركعة مع اشتراط الضرب في الأرض والخوف، فخرج من مجموع ذلك أن
هؤلاء يحملون الآية على قصر العدد فيستعملون التعليقين جميعًا. كما أن ابن
الماجشون يحمل على قصر الوصف ويستعمل التعليقين جميعًا. فهذا أيضًا مما
يتعلق بالكلام في اختلافهم في قصر العدد. وسنوسع في بابه إن شاء الله
تعالى.
وأما الاختلاف في الآية هل هي مركبة من جملة واحدة أو جملتين؟
فذهب الأكثرون إلى أنها جملة واحدة وقوله تعالى: {إِنْ خِفْتُمْ} اشتراط
يعود إلى ما قبله لا إلى ما بعده على ما مضى من اختلافهم في صفة عودته،
وحقيقة القصر المراد.
وذهب بعضهم إلى أن الآية مركبة من جملتين إحداهما قوله تعالى: {وَإِذَا
ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا
مِنَ الصَّلَاةِ}. فهذا يقتضي قصر المسافر في العدد. وقوله {إِنْ خِفْتُمْ}
ابتداء جملة أخرى لتعليم صلاة الخوف. ويقدر هؤلاء الآية على معنى إن خفتم
أن يفتنكم الذين كفروا أي يحملون عليكم وأنتم
__________
(1) هو في نسخة -و- بمقدار ثلاث كلمات وساقطة من قل.
(2) تقدم تخريجه.
(3) في نسخة -و- إلا ربعة. وبياض في بقية النسخ والصواب ما أثبتناه.
(1/899)
ساجدون وراكعون. ويكون قوله إن الكافرين
كانوا لكم عدوًا مبينًا اعتراض فصل من الكلام في صلاة الخوف بعضه عن بعض.
والواو زائدة في قوله وإذا كنتَ.
وكأن تقدير حمل الآية إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إذا كنت فيهم. قال
بعضهم وجواب الشرط ها هنا فأقمت لهم الصلاة. ويصح عندي أن يكون جواب الشرط
على هذا التأويل فلتقم طائفة منهم معك. وقول من قال فأقمت لهم الصلاة ممكن
أيضًا. رحمل هؤلاء الآيتين على جملتين تأويل فيه تعسف.
وإن كان قد روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: سأل قوم رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - فقالوا يا رسول الله إنا نضرب في الأرض فكيف نصلي؟ فأنزل الله:
{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ
تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} (1). ثم انقطع الوحى. فلما كان بعد ذلك بحول،
غزا النبي - صلى الله عليه وسلم - فصلى الظهر فقال المشركون: لقد أمكنكم هو
وأصحابه من ظهورهم هلا شددتم عليهم! فقال قائل منهم إن لهم أخرى مثلها، في
أثرها. فأنزل الله تعالى: {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ
كَفَرُوا} إلى قوله "عذابًا مهينًا". فنزلت صلاة الخوف بكيفيتها. وهذا
الخبر يعضد ما قاله هؤلاء من كون الآية مركبة من جملتين وأن قوله إن خفتم
ابتداء جملة أخرى.
وقصد بها بيان صلاة الخوف. هكذا ظاهر هذا الخبر وإن كان للآخرين أن يقولوا
بأن الشرط يصح أن يعود على ما تقدم وإن تأخر نزوله. وقد يتأخر التخصيص عن
المخَصَّص مدة من الزمان. وهذا قد يعترض عليه بأنه، لو كان حكم الأصل
ثابتًا في سفر الخوف والأمن فلا يعجب عمر من القصر في سفر الأمن. وقد جاء
عموم القرآن به على هذا التأويل. وهذا أيضًا يفتقر إلى الخوض في بحر عظيم
من الكلام على أحكام التخصيص، والفرق بينه وبين النسخ. والفرق بين تأخير
الاستثناء وما في معناه من ضروب الكلام وما سواه من أنواع التخصيص. والقول
في صيغة التعميم إذا لم يوجد له مخصص هل يقطع على تعميمها أم لا؟ والقول في
جواز تأخير البيان أو منعه. هذه جمل كلها تستعمل في النظر في هذا التأويل
ولا سبيل إلى إيراده ها هنا لا سيما أنا قد
__________
(1) أخرجه ابن جرير عن علي قال سأل قوم من التجار رسول الله. الحديث. الدر
المنثور ج 2 ص 209.
(1/900)
أشبعنا الكلام على الآية بما (1) كتب
التفسير والمعاني أولى به. لأنا لما رأيناها يكثر دورها على ألسنة الفقهاء
ويكئر استدلالهم بها أحببنا أن نُطلع الفقيه على جميع ما قاله أهل المعاني
فيها ونذكر له سبب اختلافهم ليصير إلى ما يصير إليه من المذاهب على بصيرة.
على أنا أوردناها إيرادًا لم أقف عليه لأحد من المصنفين وفيه غاية الإيضاح
لما يتعلق من القول بها. ومما يحتج به من قال إن القصر ليس بفرض.
أن المفهوم من الشريعة أن القصر إنما شرع لتخفيف كلف السفر. ولهذا اعتبر
فيه مبلغ سياق. وإن كان فهم ذلك عن الشريعة فيما يكاد أن يلحق بالنصوص كان
التخفيف موكولًا إلى رأى المخفف عنه. لأن التخفيف والمسامحة والتسهيل
كمناقض العزيمة والختم. وهكذا جرى الأمر في رخص الشريعة من فطر ومسح على
الخفين وغير ذلك. وأيضًا فإن أصل الوقت يقتضي أربعًا والسفر سبب القصر. وقد
وجه لا على معنى أنه الأولى. ألا تري أن المسافر يلزمه أربع إذا اقتدي
بالمقيم. ولو كان ارتفع حكم الأربع لما لزم الإتمام. فإذا وقع كان السفر
سببًا واحدًا يقتضي القصر لا على رفع حكم الأصل، وجب أن لا يكون القصر
فرضًا (2). وقد روي أنه - صلى الله عليه وسلم -: كان يقصر في السفر ويتم
(3) قال أنس كنا نسافر مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فمنا من يقصر ومنا
من يتم فلا يعيب بعضنا على بعض. قال ابن جريج قلت لعطاء أي أصحاب رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - يتم الصلاة في السفر؟ (4) فقال: عائشة وسعد ابن أبي
وقاص. ولو كان الإتمام غير جائز لما خفي عن هذين وعن غيرهما كحذيفة والمسور
وعبد الرحمن بن يغوث. ولا يحسن أن يتأول أنه عليه الصلاة والسلام كان يقصر
ويتم على قصر
__________
(1) بما في كتب التفسير -و-.
(2) أن يكون القصر فرضًا -و-.
(3) قال ابن القيم لا يصح ونقل عن شيخه ابن تيمية أنه كان يقول أنه كذب على
رسول
الله - صلى الله عليه وسلم -. والحديث أخرجه الدارقطني في السنن ج 2 ص 189.
وقال عنه إسناده
صحيح. قال الحافظ ابن حجر وقد استنكره أحمد وصحته بعيدة وذكر ابن حجر في
بلوغ المرام رواه ثقات إلا أنه معلول. الهداية ج 3 ص 316/ 317.
(4) الدر المنثور ج 2 ص 210.
(1/901)
الوصف، لأن الأظهر في هذا التأويل لخلاف
هذا التأويل. هذا جملة ما يتعلق بما قدمناه من الخلاف في كون القصر فرضًا
أو ليس بفرض وما قدمناه من اختلاف عبارة من لم يره بأنه سنّة، وأفضل من
الإتمام، وما حكيناه من التخيير مطلقًا مأخوذ توجيهه مما قدمناه. فقدم
يتأكد فضل القصر عندهم على الإتمام تكدًا يعد به من باب السنن فيعبرون عنه
بأنه سنّة. وقوم لا يبلغ هذا المبلغ عندهم فيعبرون عنه بأنه أفضل. والنظر
فيما قدمناه من الادلة يُستلوح منه سبب اختلاف هذه الطرق أيضًا.
والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: أما صلاة المسافر خلف المقيم فلا يخلو
القول فيها أما أن يُبنى جملى أن القصر فرض أو على أنه سنة. فإن بنينا على
القول بأنه فرض فقد اضطربت طريقة المتأخرين. فذهب بعضهم إلى منع ائتمام
المسافر بالمقيم وأن الصلاة لا تجزي وتعاد أبدًا وإلى هذه الطريقة أشار أبو
محمَّد عبد الوهاب في غير كتابه هذا فقال: لو كان فرض المسافر القصر لما
جاز له الإتمام. كما أن الحاضر لما كان فرضه الإتمام لم يجز له القصر خلف
المسافر. وقال بعضهم لا يمتنع أن يكون القصر فرضًا فإذا ائتم المسافر بمقيم
انتقل فرضه لفرض المقيم كالعبد والمرأة فرضهما أربعٌ، فإذا صليا الجمعة خلف
الإِمام صار ذلك فرضهما. وانفصل الأبهري عن هذا بان العبد والمرأة دخلا في
الخطاب بالجمعة وعذرا بالتخلف لاشتغالهما بخدمة السيد (1) والزوج. وكون
المرأة عورة فصارت كالمريض والمسافر المخاطبين في الأصل المعذورين بما طرأ
عليهما. وإن بنينا على القول بأنه سنة، وقع الترجيح بين فضيلة القصر وفضيلة
الجِماعة فايهما أولى كان بالتقدمة أحق. وهذا مما اضطرب المذهب فيه هل
الجماعة أفضل للاتفاق على فضلها على الجملة والاختلاف في تفضيل القصر وما
اتفق عليه أولى مما اختلف فيه. أو يقدم القصر لأن الجماعة متى أن إلى تغيير
عدد الصلاة كان تركها أولى؟ ألا ترى أن من عليه الجمعة لا يجوز أن
يأْتَئَّم بمن يصلي الظهر أربعًا. وقد يُشْكل طريق الترجيح فيعتضد الفقيه
بزيادة أوصاف فيرجح جانبًا على جانب. هذا هو الأصل الذي تدور عليه
__________
(1) السيد = ساقطة -و-.
(1/902)
الروايات التي نوردها. قال ابن الحارث
اتفقوا على أن من دخل في صلاة المقيم في المساجد الثلاثة العظام أو في
جوامع الأمصار ومع الإِمام أكبر أنه يتم ولا تجب عليه إعادة. واختلفوا فيما
سوى ذلك فروى (1) ابن القاسم وابن الماجشون تقدمة القصر فإن ائتم بمقيم
أعاد عند ابن الماجشون في الوقت ولم يعد عند ابن القاسم. وروى ابن شعبان في
مختصره لا بأس بصلاة المسافر خلف المقيم لفضله وسِنه وفهمه. وقال مالك في
المستخرجة إن قدموا المقيم لسنه وفضله أو لأنه صاحب المنزل فليصلوا بصلاته
صلاة مقيم. وقال مالك أيضًا صلاة المسافر وحده أو مع أصحابه خير له (2) من
صلاته مع المقيمين إلا في المساجد الجامعة التي يرجى فضلها، أو ينزل
المسافر بالرجل في منزله فلا أرى بأسًا أن يصلي في منزله؛ لأن الرجل أحق
بالإمامة في منزله. فأنت ترى كيف أشار ابن الحارث إلى الاتفاق على أن فضيلة
القصر لا ترجح على فضيلة الجماعة إذا كثرت الجماعة الكثرة التي أشار إليها.
وهذا كنحو ما ذكره ابن حبيب من أن فضل الجماعة يختلف. وأنه كلما كثرت
الجماعة كان أكثر أجرًا. وكذلك أيضًا ما أشار إليه من أن الإِمام الأكبر
إنما خصّ بذلك لأن الإِمام الأكبر ومن في معناه من الأمراء تلزم طاعتهم،
والإجماع عليهم. والانفراد بالصلاة دونهم إظهار الخلاف عليهم فالصلاة خلفهم
أفضل من الإنفراد. وكذلك أيضًا ما ذكرناه من تخير صاحب المنزل، والأفضل
الأسن، إنما ذلك لاستحقاق صاحب المنزل وفضيلة الصلاة خلف الأفضل والأسن.
وهذا كله يشعر بأن فضيلته ترجحت على الجماعة حتى غلب (3) بجواز الخروج منه
أحد الأعذار المذكررة. وحكى بعض الأشياخ أن الظاهر من قول مالك تقدم فضيلة
الجماعة. وأورد ذلك مطلقًا. وإذا ائتم المسافر بالمقيم على الصفة التي
أشرنا إلى النهي عنها فقد ذكرنا ما حكاه ابن الحارث من اختلاف ابن القاسم
وابن الماجشون في الإعادة.
وروى مطرّف عن مالك أنه كره للمسافر أن يدخل في صلاة المقيم ورأى أن صلاته
وحده خير له. فإن دخل معه فلا إعادة عليه. وقال مالك أيضًا في
__________
(1) فرأي -و-.
(2) له = ساقطة -و-.
(3) طلب - قل.
(1/903)
رواية ابن الماجشون وأشهب لا يصلي خلف
المقيم فإن كان في مسجد فإن فعل أعاد في الوقت. إلا أن يكون بمسجد الحرمين
أو مساجد الأمصار الكبار. فمن نفى الإعادة فلخفَّة الكراهة ومن أثبتها في
الوقت فليأتي بالصلاة على أكمل فضيلة. وقد قيل لسحنون أن عبد الملك روى عن
مالك في المسافر يدخل خلف المقيم أنه يعبد فقال ما سمعت خلقًا قال هذا.
وهذا خلاف المسائل وإبطال (1). وهذا الذي استبعده سحنون لا معنى لاستبعاده.
لأن إعادة الصلاة في الوقت لتقع على الوجه الأكمل طريقة مشهورة. وقد- ذكرنا
اضطراب المتأخرين في البناء على أن القصر فرض. وذلك يُحسّن الإعادْة. وقد
وقع في بعض نسخ التفريع لابن الجلاب في مسافر ائتم بحضري أنه يتم معه
أربعًا ثم يعيد في الوقت وبعده. وكأنه رأى أن مقتضى القول بان القصر ليس
بفرض يدعو إلى إتمام الصلاة. والقول بأنه فرض يمنع من الاعتداد بها، ويوجب
إعادتها أبدًا. فإذا كان هذا قد أعادها أبدًا فما ظنك بما أنكره سحنون من
إعادتها في الوقت؟ وهذا الذي ذكره ابن الجلاب من الإعادة أبدًا يشير إلى
صحة إحدى الطريقتين من أن المصمم على أن القصر فرض يمنع من ائتمام المسافر
بالمقيم ويوجب الإعادة أبدًا. ولما كان ابن الجلاب لم يصمم في هذا الذي
نقلناه عنه، جمع بين المذهبين. وإن كان في قبالة هذا أن أبا حنيفة ممن يرى
القصر فرضًا وهو يرى الائتمام خلف المقيم. يستظهر بهذا من قال من أصحابنا
من الإتمام بناء على أن القصر فرض. وإذا ائتم مسافر بمقيم، على القول بان
القصر فرض، وسلكنا طريقة من قال إنه لا يتم فلينو في أول صلاته ركعتين فإذا
فرغ مع الإِمام منها فلا يتبعه في الركعتين الأخيرتين بل يسلم أو يجلس حتى
يسلّم بسلامه على ما مضى من القول فيه في حكم انتظار المأموم في مثل هذا
فيما تقدم من كتابنا.
وقد اختلف قول أشهب وقول سحنون أيضًا في رجلين ذكرا صلاة واحدة من يوم واحد
إلا أن أحدهم سفري فائتم السفري بالحضري هل يثبت السفري حتى يتم الحضري
ويسلم بسلامه أو يتم معه؟ فقدلهما بالجلوس على اتّباعه وانتظاره لسلامه
تصريح بان البناء على القول بان القصر فرض يقتضي أن لا يكمّل الصلاة
__________
(1) هو كثير في نسخة. وعدم وضوح في قل.
(1/904)
خلف المقيم كإحدى طريقتي المتأخرين. لأنهما
إذا قالا ذلك في صلاة سفرية فات وقتها، مع اختلاف الناس فيها، هل تقضى تامة
سواء ذكرها في حضر أو سفر، فأحرى أن يقولا ذلك في صلاة لم يفت وقتها. وأما
قولهما بالإتمام فتردد بين الثلاثة طرق: أحدها البناء على أن القصر ليس
بفرض. والثاني على أنه فرض ولكن يتعين الفرض بالاقتداء. والثالث وهو أبعدها
أن يكونا رأيًا أن ما يقضيه المسافر لما اختلف الناس في إتمامه خفّ اتباعُ
الإِمام في الإتمام، بخلاف ما حضر وقته من صلاة المسافر. وإذا قلنا بان
المسافر يُتِم خلف المقيم فإنما يكون ذلك إذا أدرك ركعة فأكثر. فاما إن
أدرك أقل من ركعة فإنه يكمل على إحرامه صلاة سفر. وقال أبو حنيفة والشافعي
يتم وإن لم يدرك مع الإِمام إلا التشهد. فاما نحن فنحتج بقوله - صلى الله
عليه وسلم -: " من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة" (1). دليل هذا
الخطاب أنه لا يكون مدركًا بأقل من ركعة قياسًا على صلاة الجمعة فإنها لا
تدرك بأقل من ركعة عندنا وعند الشافعي دون أبي حنيفة وقد فرقت الشافعية بين
الجمعة وبين ما نحن فيه بأن مدرك بعض الجمعة يتقل إلى عدد أقل لأن الظهر
أربع والجمعة ركعتان. فلم يتقل إلى الأقل بإدراك ما دون الركعة. والمسافر
يتقل من ركعتين إلى أكثر. والانتقال من الأقل إلى أكثر يكون بدون الركعة.
وغير بعيد أن يكون التخفيف معلقًا بإدراك ما له قدْر. والزيادة معلقة بما
لا قذر له. وأما المخالف فإنه يحتج بأن ابن عباس سئل فقيل له ما بال
المسافر يصلي ركعتين في حال الإنفراد وأربعًا إذا ائتم بمقيم؟ فقال تلك
السنّة. ولم يقيد ما قال بإدراك ركعة. وبأنه عليه الصلاة والسلام قال:
"إنما جعل الإِمام ليؤتم به" (2). وبقوله: "وما فاتكم فاقضوا" (3). وأجيب
عن هذا بأن الائتمام إنما يكون مع الإِمام. ومسألتنا إنما تتصور بعد فراغ
الإِمام.
وكذلك قوله فاقضوا معناه ما وجب، وفي الواجب اختلفنا. وأما خبر ابن عباس
__________
(1) متفق عليه عن أبي هريرة. فيض القدير ج 6 ص 44.
(2) رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة. جامع الأصول ج 5
ص 619.
حديث رقم 3882.
(3) رواه عيينة عارضة الأحوزي ج 2 ص 124.
(1/905)
فالغرض منه السؤال عن تعليل الحكم ببيان ما
يكون به مدركًا. واحتجوا أيضًا بأنه قد ألزم نفسه موجب تحريم الإِمام
بدخوله معه فلزمه ما التزم. وأجيبوا عن هذا بأنه إنما يكون ملتزمًا إذا
أدرك الصلاة ولا يدركها بأقل من ركعة. واحتجوا أيضأ بأنه قد أخذه حكم
الإِمام لأن الإِمام لو أحدث متعمدًا لأبطل عليه. وأجاب ابن القصار عن هذا
بأن ظاهره لأ يسلمه بل يقول يبني على إحرامه. وهذا حكم المسافر إذا صلّى
خلف مقيم وهو عالم أن الإِمام مقيم. وإن صلّى خلف من لا يعرف حاله فإن
صلاته مجزية قاله سحنون. وقالت الشافعية يلزم الإتمام وإن قصّر إمامه. وكان
سحنونًا رأى أن ليس من شرط صحة الصلاة التعرض لعدد ركعاتها ها هنا. وأجاز
(1) اعتقاد مطابقة الإِمام في نيته (2) على الجملة لا يعلم (3) تفصيلها مع
اعتقاد الوجوب على الجملة. وهذا كطريقة أشهب فإنه قال في الموازية فيمن
صلّى مع الإِمام وهو لا يدري يومه ذلك أيَوْمَ جمعة أم يوم خميس فإنه يجزيه
ما صادف من ذلك. فإن دخل على إحداهما فصادف الأخرى فإنه لا يجزئ. فأنت ترى
كيف فرّق بين نية الإجمال وبين نية التفصيل إذا أخطأ فيها.
وهذا كما وقع في الحج: فإن أبا موسى أحرم وأهل بالتلبية ثم قدم على النبي -
صلى الله عليه وسلم - بمكة في حجة الوداع فقال - صلى الله عليه وسلم -: بم
أهللت؟ فقال له: بما أهل به نبي الله - صلى الله عليه وسلم - (4). فقال: قد
أحسنت. وقدم عَليٌّ من سقايته فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بم
أهللت؟ فقال بما أهل به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فقال: أهل وآمكث
حرامًا. فأنت ترى كيف وقعت نية هذين رضي الله عنهما في الحج محالة على نية
النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم ينكر ذلك عليهما مع كون أفعال الحج لا
تلزم فيها المتابعة كما تلزم في الصلاة خلف الإِمام. وأما قول الشافعية
يلزم الإتمام وإن قصر إمامه، فلعلهم رأوه ل ماجهل حال (5) الإِمام ودخل مع
الإِمام على الإتمام لأن الأصل
__________
(1) أجاب -و-.
(2) بقيته -و-.
(3) اعلم -و-.
(4) وراه البخاري ومسلم. فح الباري ج 4 ص 160 - 16 أو إكمال الإكمال ج 3 ص
(5) فلعلهم أوهموا لما جهل الإِمام -و-.
(1/906)
صلاة الحضر. وإنما ينتقل عنها عند اعتقاد
السفر. وهذا لما لم يعتقد لزمه الوفاء بما دخل عليه.
ولو صلّى المسافر خلف من اعتقد فيه حالة فظهر له خلافها، فقد إختلف المذهب
فقال سحنون إذا ظن أنه مسافر أو أنه مقيم فأخطا في ظنه فإن صلاته لا تجزيه.
وقال أشهب بل تجزيه. وسبب هذا الاختلاف مراعاة عدد الركعات في أصل عقد
النية وسنتكلم عليه. وقد قال ابن حبيب في المسافر الظان في مسافر فإذا به
مقيم فأتم أنه يعيد في الوقت كمسافر أتم صلاته. وسنتكلم على إتمام المسافر.
ولو تبدلت على المسافر *حال الإِمام بان تتغير نية الإِمام* (1) أو تفسد
صلاته، فإن كانت نية الإِمام تغيرت بأن يكون نوى الإقامة في أثناء صلاته
فإنه لا يتم بالمسافرين الذين خلفه الصلاة. لأن صلاته قد انتقضت. واختلف هل
يسري انتقاضه إلى من خلفه فيبطل عليهم أم لا يسري ذلك إليهم فيستخلف عليهم؟
اختلف في ذلك قول ابن القاسم، وبالاستخلاف قال مالك. أما الاستخلاف فقياسًا
على الحدث. قال ابن القاسم كنت أرى أن يبطل على المأمومين ثم رأيت أن لا
يكون أسوأ حالًا من الحدث. وأما نفي الاستخلاف فأنه كالقاطع محمدًا (2).
قال بعض أصحابنا الحدث بالغلبة، وإحداث النية في المقام تعمدًا وإن كانت
نية الإِمام لم تتبدل ولكن فسدت صلاته يحدث غلب عليه (3) أو ذكر أنه على
غير وضوء فإنه يستخلف، كإمام صلى بمقيمين. وإذا وضح جميع ما قدمناه في حكم
ائتمام المسافر فقد قال ابن حبيبَ: صلاة المقيم بإمامة المسافر أيسر من
صلاة المسافر بإمامة المقيم بالكراهة (4). لأن المسافر إذا صلّى بإمامة
المقيم تغيرت صلاته عن سنتها. وإذا ائتم المقيم بالمسافر أتم لنفسه بعد فرك
إمامه. وقال ابن حبيب أيضًا: اتفقت الروايات عن مالك أنه إذا
__________
(1) ما بين النجمين = ساقط -و-.
(2) كالقاضي قال بعض -و-.
(3) غلب عليه = ساقطة -و-.
(4) هكذا في -و- وفي قل.
(1/907)
اجتمع مسافرون ومقيمون أنه يؤم المسافرين
مسافر والمقيمين مقيم، ولا مقيم مسافرين إلا أن يكون ذلك في المساجد
الجامعة التي تصلي فيها الأئمة يعني الأمراء، فإن الإِمام يصلي بصلاته. فإن
أم مقيم أتم معه المسافرون. وإن كان مسافرأ أتم من خلفه من المقيمين. فأنت
تراه ها هنا كيف أشار إلى كراهية ائتمام المقيم بالمسافر مع أنه لا يخالفه
في الفعل إلا بعد فراغه على ما أشار إليه. ومع أن النبي عليه الصلاة
والسلام قال لأهل مكة: "أتموا الصلاة فإنا قوم سَفْرٌ" (1). لكن استثناءه
الصلاة خلف الأمراء يسقط عنه الحجة لصلاة النبي عليه السلام بأهل مكة.
ولعله أشار إلى الكراهة فيما سوى ذلك لاختلاف نية الإِمام والمأموم في عدد
الركعات. وإذا كان المحاولون للصلاة صنفين: مسافرين وحضريين، فقد قدمنا أن
المأمور به انفراد كل *طائفة بإمام يساويها* (2) في حكمها. فإن صلّى مسافر
بمقيمين فذكر أنه على غير طهارة أو أحدث مغلوبًا فأنه يؤمر أن يستخلف
مسافرًا *فإن لم يفعل وقدم مقيمًا فلا يقبل استخلافه ويقدم مسافرًا. فإن
جهل وقبل الاستخلاف وأتم صلاة الإِمام، فإن المسافرين يتمون لأنفسهم وقيل
يستخلف مسافرًا يتم بهم* (3). وقيل بل يثبت المسافرون حتى يسلموا بسلامه
بعد فراغه وكذلك المقيمون أيضًا اختلف فيهم هل يتمون أفذاذًا بعد فراغ صلاة
إمامهم أو بعد سلام المستخلف؟ وبَسْطُ هذا الاختلاف وتوجيهه قد مضى في باب
السهو. وكذلك لو نوى (4) الإِمام المسافر الإقامة في أثناء صلاته وخلفه
الصنفان فقال عيسى أحب إليّ أن تنتقض عليهم أجمع. وقال في الاستخلاف قال
ابن القاسم وإذا استخلف هذا الخارج فلا يضيف إليه ركعة ويجعلها نافلة
بمنزلة ما لو كان وحده ولم يدخل معهم وليتم بنية الصلاة وتجزيه. وقد تأول
بعض المتأخرين هذا على أنه يريد أن يقطع ما كان فيه ويدخل بإحرام جديد فإذا
سلم الإِمام أتم هذا بقية صلاته وتجزيه. وهذا التأويل
__________
(1) رواه مالك في صلاة المسافر إذا كان إمامًا. الموطأ ص 111.
(2) طريقة من هؤلاء في حكمها -و-.
(3) ما بين النجمين = ساقطة -و-.
(4) نسي -و-.
(1/908)
تعرف حقيقته من كلامنا على حكم تبدل النية
في أثناء الصلاة. وقد أشار هذا المتأخر إلى أن وجه قول عيسى: ينتقض عليهم
أجمع أنه قد حصل للمسافرين، في هذه الصلاة إمامان مسافر ومقيم. وحكم الصلاة
خلف كل واحد منهما يختلف، واتباع حكم أحدهما مخالفة على الآخر. وقد كنا
قدمنا نحن خلاف هذا التعليل، وأن التعليل هو كون القطع ها هنا كالتعمد لقطع
الصلاة وهو أولى؛ لأنه تعليل يعم من خلفه من الحاضرين (1) والمسافرين.
وقالت الشافعية إذا نوى الإِمام الإقامة في أثناء الصلاة أتم ولزم من خلفه
الإئتمام، (2) كما لو ائتموا بمقيم أول الصلاة. وقد اختلف الناس في مسافر
صلّى خلف مقيم ففسدت صلاة الإِمام، فقال أبو حنيفة لا يلزم المأموم الإتمام
لأنه إنما لزمه حكم الاقتداء فإن زال الاقتداء سقط حكمه كما إذا صلّى
الجمعة. وقالت الشافعية الفرق بينهما أن الجمعة لا تقضى. ومسالتنا مما يصح
فيها القضاء فيلزم المأموم إتمامها على الوجه الذي دخل عليه. وهكذا قالت
الشافعية إذا ائتم مسافر بمقيم ثم أفسد صلاته فإنه يلزمه الإتمام كما لم
تفسد صلاته. وقال الثوري يصلي ركعتين. وهذا يعلم حقيقة القول فيه من كلامنا
على نية المسافر.
والتزامه لما يلتزم من العدد (3).
والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: إذا قلنا إن القصر فرض المسافر فيما
ينويه كالحاضر لأن كل واحد فرضه متعين، إما ركعتان أو أربع. ولهذا قال أبو
حنيفة لا يفتقر إلى نية القصر لأنه كان يراه فرضًا. وإذا قلنا إن القصر ليس
بفرض قيل من شرط جوازه أن ينويه عند عقد الإحرام. قال بعض أشياخي لا يصح أن
يلتزم القصر أو الإتمام قبل الشروع في الصلاة ويصح أن يدخل في الصلاة على
أنه بالخيار بين القصر والإتمام، وكأنه رأى أن عدد الركعات لا يلزم المصلي
أن يعقد في نيته حين الإحرام. وقد أشرنا إلى هذا حين تكلمنا على مسافر،
ائتم بإمام لم يعلم هل هو مسافر أو مقيم. ولا شك أن المصلي إذن لم
__________
(1) الحاضرين = ساقطة -و-.
(2) هكذا في جميع النسخ ولعل الصواب: الإتمام.
(3) لما يلزم العدد -و-.
(1/909)
يلزمه التعرض لعدد الركعات، حين شروعه في
الصلاة، على الخيار. وقالت الشافعية لا يجوز له القصر حتى ينوي القصر عند
الأحرام بالصلاة، فيمكن أن يكون قالوا ذلك إيجابًا على المصلي التعرض لعدد
الركعات في أصل نيته.
ويمكن أن يكون قالوه بناء على أن الأصل في الفروض المستقرة الأربع. وهو
صلاة الحاضر. والسفر طار على هذا الأصل أباح الترخص بصلاة ركعتين. فإذا لم
يقصد إلا الترخص حين الإحرام خوطب بما هو الأصل المستقر وهو صلاة الحاضر.
وهذا التعليل الثاني هو الذي عللوا به (1). وقال المُزني منهم لا تختص نية
القصر عند الإحرام، وينوي في أثناء الصلاة. وكأنه رأى أن عِدة الركعات لا
يلزم التعرض لها حين الإحرام. وإحرامه مطلقًا ليس بالتزام للإتمام. ولو
سُلم أنه هو الأصل. هذا حكم نيته وصفة إيقاعها حين شروعه. وأما إذا أوقعها
(2) على عدد أكثر أو أقل فهل له أن يفعل خلافه؟ الظاهر من مذهبنا أنه ينهي
عن ذلك. وقال بعض الناس يجوز له القصر وإن نوى الإتمام (3). واحتج بأنه إذا
(4) خير في العبادات قبل الدخول فيها خير فيها بعد الدخول، كالصوم عند من
أباح الإفطار في صوم التطوع بعد الشروع فيه. وأجيب عن هذا بأن حج التطوع لا
يخير فيه بعد الشروع فيه بخلاف ما قبل الشروع. فدل على أن ذلك أصل غير مطرد
بعد تسليم التخيير في الصوم.
وهذا التعليل إلى ي اعتل به لهذا الرجل يوجب جواز الإتمام، وإن دخل بنية
القصر. ولو أنه اقتصر على جواز الرجوع إلى القصر بعد نية الإتمام لكان له
وجهة في النظر لأن القصر هو الأفضل. فكانه سُومح أن يرجع عن النية المكروهة
إلى النية الفاضلة. وإذا قلنا بقول من قال من أصحابنا أن القصر فرض ففي
تماديه إلى الأربع نظر، فضلًا عن إجازة تحويل نية القصر.
فإن فعل خلاف ما دخل عليه من العدد فإن المذهب اختلف في هذا
__________
(1) قالوا به -و-.
(2) إذا وقعنا -و-.
(3) وإن نوى الإتمام به -و-.
(4) إذاً = ساقطة -و-.
(1/910)
الأصل في مسائل كثيرة. منها اختلافهم فيمن
دخل يوم الجمعة يظنه يوم الخميس أو يوم الخميس يظنه الجمعة. فقال أشهب لا
تجزئه الصلاة (1). وقال في المدونة إن نوى الجمعة فكان الخميس أجزأ. وإن
نوى الخميس فكانت الجمعة لم تجزه. ففي السليمانية تجزيه الصلاة والإعادة
أحوط. وقد قدمنا الاختلاف في مسافر ائتم بمن ظنه مقيمًا فإذا به مسافر أو
بمن ظنه مسافرًا فإذا به مقيم. وهذا كله جار على الاسلوب الذي قلناه فيمن
دخل على عدد ففعل خلافه. وعلى هذا الأصل يجري القول في المسافر إذا فعل
خلاف ما دخل عليه ثم المسافر إن أحرم على أربع وفعلها ساهيًا عن السفر أو
التقصير فقال ابن المواز يعيد في الوقت. وقد كان ابن القاسم يجيز في هذا
سجدتي السهو *حين تبين له واستبصر فرجع عن ذلك. وذكر عن ابن حبيب عن مالك
إذا أتم المسافر ناسيًا أنه يسجد للسهو. وقال ابن حبيب على الساهي سجود
السهو* (2) إلا على قول ابن الماجشون الذي يقول إذا كثر السهو أعاد. وقال
سحنون إن كان ناسيًا لسفره فإنما عليه الإعادة في الوقت وهو كالعامد
والجاهل. فإن كان ذاكرًا لسفره (3) فصلى أربعًا ناسيأوهو يظن أنها ركعتان
أعاد أبدًا، لكثرة السهو. وذكر ابن نافع اختلاف قول مالك في المسافر إذا
أتم ساهياَ هل يعيد في الوقت أو يسجد لسهوه. وقال ابن المواز الذي رجع إليه
ابن القاسم أنه يعيد في الوقت عامدًا أو جاهلًا أو ناسيًا. وقال ابن المواز
إذا عقد إحرامه على أربع فليعد في الوقت ساهيًا أو عامدًا. وإن عقد على
ركعتين فأكمل أربعاً فإنه يسجد للسهو ويعيد أبدًا *في العمد. وقال سحنون
يعيد أبدًا لكثرة السهو. قال ابن المواز ليس كسهو مجتمع عليه. فأما الإعادة
في الوقت مع نية الأربع* (4) وفعلها فليأت بالصلاة على ما هو أكمل.
وأما اختلافهم في إبطال هذه الصلاة لكثرة السهو فقد قدمنا في باب السهو حكم
السهو إذا كثر والاختلاف فيه. ولكن هذا السهو ها هنا لما كان مختلفًا فيه
وفي إباحة زيادته انخفضت رتبته عن السهو المجتمع عليه كما أشار إليه ابن
__________
(1) الصلاة = ساقطة -و-.
(2) ما بين النجمين = ساقط من -و-.
(3) لسفره ساقط -و-.
(4) ما بين النجمين = ساقط من -و-.
(1/911)
المواز. وكان سحنونًا لم يعرج على هذا
الاختلاف وأجراه على حكم كثرة السهو المجمع عليه. وقد يحتج لجواز التنقل عن
العدد الذي دخل عليه بفطر النبي عليه الصلاة والسلام مخيرًا بين أن يصوم أو
يفطر بنية العزم على القضاء في المستقبل. فإن اختار الصوم وتلبس به فإنه
كاختيار المسافر القصر وتلبسه به، *أو الإتمام وتلبسه به* (1). فإذا انتقل
إلى خلاف ما دخل عليه صحت صلاته قياسأ على إفطاره - صلى الله عليه وسلم -
بعد أن تلبس بالصوم. فكانه أشار إلى أن المخيَّر في العبادة له التخيير في
انتهائها كما في ابتدائها. وقد أجاز مطرت من أصحابنا للصائم رمضان في السفر
أن يُفطر بعد تلبسه بالصوم. واحتج بهذا الحديث وإن كان مالك (2) قد منعه من
الفطر. وقيل إن إفطار النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن الناس أصابهم العطش
وأبوا أن يفطروا حتى رأوه - صلى الله عليه وسلم - أفطر. وهو يفطر في تبدل
نية المسافر من (3) وجه آخر وهو ما كنا قدمنا الإشارة إليه من كون (4)
الركعتين في حكم النافلة كان للمسافر تركها إلى غير بدل من غير ماثم يلحقه.
وإذا كان في معنى النافلة افتتح الصلاة على أربع كمفترض بركعتين ومتنفل
بركعتين، والتنفل لا يلزم بالنية حتى يقارنها شروع في الفعل فينظر (5) في
الزكعتين الأخيرتين لما كانتا متصلتين بالأوليين. هل يقال إن الشروع في أول
الصلاة كالشروع في آخرها كما نوى ركعتين نافلة وأحرم بهما فإن الشروع في
الأولى شروع في الآخرة أو يقال إن الركعتين الأخيرتين لما اختلف حكمهما مع
الأوليين لم يكن الشروع في أول الصلاة شروعًا فيهما. وصار ذلك كمن نوى
التطوع بصلاة وبحج (6) فإن الشروع في إحدى العبادتين لا يكون شروعًا في
الأخرى لاختلافهما جنسًا. وكذلك الركعتان الآخرتان لاختلافهما مع الأوليين
حكمًا. هذا مما ينظر فيه على هذه
__________
(1) ما بين النجمين = ساقط من -و-.
(2) وإن كان لمالك منعه -و-.
(3) وقد ينظر في تبدل المسافرين وجه -و-.
(4) حكم -و-.
(5) ينظر -و-.
(6) نوى التطوع والحج -و-.
(1/912)
الطريقة. فإن قلنا ليستا بمعنى النافلة بل
هما واجبتان كوجوب الأولى إلا أن يختار المكلف سقوط الوجوب. ومنهم من لم
يختر سقوط الوجوب نفيًا (1) على الأصل، فلا شك ها هنا في المصلي إذا نوى
الأربع لم يكن له التنفل لأنه لما شرع في الوجوب لزمه على حسب ما شرع فيه.
وكذلك أيضًا ما حكيناه من كون المسافر إذا صلى أربعًا يعيد في الوقت وإن
كان عامدًا، ينبغي أن ينظر في تعمده لذلك. فإن كان قصد إليه لاعتقاده
التخيير أو أن الإتمام (2) أفضل لاجتهاده أو تقليده في ذلك من يسوغ تقليده
فإنه لا معنى للإعادة ها هنا. أما المجتهد فإنا لو أمرناه ما أطاع، لأن
الأمر له مثله. وأما العامي فإنا نبيح له تقليد من قلده، لكنه لو فعل ذلك
جهلًا بحكم صلاة المسافر لحسُن أن يقال بالإعادة في الوقت على القول بأن
القصر سنة. وأما على القول بأنه فرض أو أنه غير فقد أشرنا إلى ترديد القول
في ذلك فيما تقدم ونبهنا على ما يجب أن يكون مقتضى المذهبين. وإذا قلنا
بالإعادة في الوقت فهل يكون الوقت وقت الاختيار أو وقت الضرورة؟ قال
الأبياني وقته وقت الصلاة المفروضة. وقال أبو محمَّد في صلاة النهار وقت
النهار كله. وقد قدمنا سبب الاختلاف في مثل هذا في مواضع. وذلك أن إيقاع
الصلاة في الوقت الضروري إيقاع فيه نقص وإيقاعها في السفر أربعاً إيقاع فيه
نقص فأي النقصين أولى أن يعتبر؟ هذا هو موضع الاختلاف. ومما يجري على ما
قدمنا فيمن نوى شيئًا فاحب أن يفعل خلافه كمسافر صلّى بمسافرين فقام من
اثنين فسبحوا به فتمادى وجهل، فإن الإِمام يعيد في الوقت. واختلف في
المأمومين ففي المدونة. أنهم يقعدون فإذا سلم الإِمام سلموا بسلامه وتجزيهم
صلاتهم. وروي عن مالك أيضًا أنهم يسلمون وينصرفون. ولمالك أيضًا أنهم يصلون
معه ويعيدون. فأمرهم بالتمادي معه.
وظاهر أمرهم أنهم أحرموا على ركعتين. وقال سحنون إن أتم ناسيًا لسفره أو
لإقصاره أو متأولًا فإنه يعيد هو ومن اتبعه في الوقت ويعيد من لم يتبعه
أبدًا. ألا ترى أنهم لو سبحوا به حين قام من الركعتين فرجع إليهم وسلم
لكانت عليهم
__________
(1) يقينًا -و-.
(2) الائتمام -و-.
(1/913)
الإعادة أبدًا لأن صلاته على أول نيته.
وأما إن أحرم على اثنتين فتمادى سهوًا فليسبحوا به إلى وقت لو سبح (1) وسلم
لأجزاته. فإن زاد سلموا أو قدموا من يسلم بهم وصاروا كإمام أحدث بغلبة. قال
ابن عبدوس يسبحون به إلى أن يرفع رأسه من الركعة فحينئذ يبطل على نفسه
ويخرج القوم من إمامته. وإن كان في القوم مقيمون أتموا لأنفسهم. فأما
اختلاف قول مالك فيهم فهل يسلمون الآن أو ينتظرونه حتى يسلموا بسلامه؟ ..
(2). اختلف قول مالك في ائتمام المأمومين فإن قلنا بصحة ذلك إتبعوه وإن
قلنا بمنعه لم يتبعوه. فإنما اختلف قول مالك فيهم هل يسلمون الآن أو
ينتظرونه حتى يسلموا بسلامه، لأن النظر في تعديه وزيادته هل يكون بها كمفسد
الصلاة فينعزل بذلك عنه ويسلمون دونه أو لا يكون كالمفسد فلا ينعزل عن
السلام الذي يؤمرون به كما يؤمر به الإِمام. وأما قول سحنون بإعادته وإعادة
من اتبعه في الوقت إذا كان متأولًا أو ناسيًا لسفره.
فبناء على ما تقدم من توجيهنا إعادة المسافر في الوقت إذا أتم. وأما إعادة
من لم يتبعه أبدًا فلأجل أنه قدرهم كالخارج على الائتمام بإمامته متعمدًا.
فأما قوله فيه إذا كان زاد الركعتين سهوًا فإنه يعيد أبدًا، فقد قدمنا نقل
ذلك عنه. وأشرنا إلى أنه يرى أن كثرة السهو يبطل الصلاة، وإن كان مختلفًا
فيه. وإذا كان هذا هكذا فما (3) قاله من أن القوم لا يتبعونه صحيح. ولكن لا
ينعزل حتى يصير إلى حالة تبطل بها صلاته فيعزل حينئذ. وأما تحديد ابن عبدوس
ذلك برفع رأسه من الثالثة فبناء على أن صلاة المسافر ركعتان. وأن زيادة
ركعة (4) هي نصف صلاته تبطل الصلاة على طريقة من قال أن زيادة نصف الصلاة
سهوًا يبطل الصلاة.
ومما يجري على هذا الأصل أيضًا مسافر أمّ بمقيمين وأتم بهم الصلاة، فإن
المذهب اختلف فيه لما كان من حقهم أن يتموا أفذاذًا فأتموا بإمامة المسافر.
فروى ابن زياد أن المأمومين تجزيهم صلاتهم. وقال ابن المواز: إذا
__________
(1) لو أثبته وسلم أجزته =قل=.
(2) هو في -و- بمقدار أكثر من سطر. ونقص في - قل.
(3) كما -و-.
(4) ركعة = ساقطة -و-.
(1/914)
صلى مسافر بمسافرين ومقيمين، فأتم بهم
فليعد الإِمام والمسافرون في الوقت *واختلف في الحضريين فقيل لا يعيدون
أيضًا إلا في الوقت. وقال ابن القاسم يعيدون في الوقت* (1) وبعده. وقال ابن
المواز: من أجل أن الركعتين اللتين كان ينبغي أن يصلوهما أفذاذًا صلوهما
بإمام. ولابن كنانة في غير الموازية أن الإِمام يسجد سجدتي السهو ولا شيء
على المأمومين. قال سحنون أصل هذه المسألة صلاة عمرو رضي الله عنه بالقوم
جنباً فأجزأتهم الصلاة ولم تجزه.
وحمل ابن عبدوس كلام سحنون على أن الإِمام ابتدأ الصلاة ناويًا الإكمال
ناسيًا لسفره. قال وأما لو ابتدأها وهو عالم أو جاهل فإنها لا تجزيه ولا
تجزيهم. ألا ترى أن الجنب لو تعمد لأبطل على من خلفه. قال وليس الجنب هكذا.
لأن الجنب ابتدأ الصلاة وهو ينوي أن يأتي بها بكمالها. فأتى بها على ما
نوى. وهذا المسافر صلى ركعتين سهوًا فلا يعتد بهما أحد. كالأمام يصلي خامسة
فلا يعتد بها من فاتته الركعة الأولى. وهذا الذي وقع في هذه المسألة من
الاضطراب مأخوذ توجيهه مما قدمناه فيما سلف من هذا الكتاب في كلامنا على من
وجب عليه أن يصلي فذا فصقى بإمام. وقد مضى فيه كلام مقنع، ومما أشرنا إليه
ها هنا من أحكام الزيادة إذا كانت مختلفًا فيها هل تكون كالمتفق عليها.
وقول ابن كنانة بالسجود للسهو ينبني على هذا كما قدمنا الإشارة إليه وفصلنا
القول فيه. فمن تأمل ما أحلناه عليه علم وجه ما قيل في هذه المسألة.
قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: ويستمر المسافر على القصر وإن عرضت له
إقامة ما لم يبلغ بعزيمته أربعة أيام بلياليهن فإن (2) بلغته أتم.
قال الفقيه الإمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل ثلاثة أسئلة. منها أن
يقال:
1 - ما الدليل على أن هذا القدر من الإقامة يبطل حكم السفر؟.
2 - وهل يحل غير هذا المقدار محله في قطع حكم السفر؟.
__________
(1) ما بين النجمين = ساقط -و-.
(2) فإذا -غ-.
(1/915)
3 - وما حكم الشك في الأسباب القاطعة لحكم
السفر؟.
فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: اختلف الناس في هذه المسألة على أربعة
عشر قولًا، فقالت عائشة رضي الله عنها: إذا وضع المسافر رحله سواء كان في
البلد أو خارجًا مثله. وقال الحسن البصري: إذا دخل المسافر البلد أتم. وقال
ربيعة: إذا عزم على إقامة يوم وليلة أتم. وعن ابن المسيب أربع روايات
إحداها: إذا وطن نفسه على (1) أكثر من ثلاثة أتم. والرواية الثانية: إذا
أقام ثلاثة أتم. *والرواية الرابعة: إن نوى إقامة خمسة عشر يومًا أتم* (2).
والرواية الثالثة: إذا نوى إقامة أربعة أتم. وبه قال عمر وعثمان رضي الله
عنهما ومالك والشافعي وأبو ثور. وقال ابن حنبل: إن نوى إقامة مدة يفعل فيها
أكثر من عشرين صلاة أتم. وهذا كنحو التحديد *بأربعة أيام* (3). وقال ابن
المواز وسحنون من أصحابنا: إن نوى إقامة يصلي فيها عشرين صلاة أتم. *وروي
عن ابن عباس وعلي رضي الله عنهما: إن نوى إقامة عشرة أيام أتم* (4) وعن ابن
عمر رضي الله عنه ثلاث روايات يروي عنه إن نوى إقامة ثلاثة إثني عشر يومًا
أتم وبه قال الأوزاعي - والرواية الثانية إن نوى إقامة ثلاثة عشر يومًا
أتم.
والرواية الثالثة (5) إن نوى إقامة خمسة عشر يومًا أتم. وروى ذلك عن عمر
رضي الله عنه، وبه قال الثوري، وأبو حنيفة. وهي الرواية الرابعة عن ابن
المسيب وبها قال المزني. وقال ابن جبير إن نوى إقامة أكثر من خمسة عشر
يومًا أتم. وبه قال الليث. وروي عن ابن عباس إن نوى إقامة تسعة عشر يومًا
أتم. وبه قال إسحاق.
فأما التحديد بأربعة أيام فوجهه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: يقيم
المهاجر بمكة بعد
__________
(1) على = ساقطة -و-.
(2) ما بين النجمين = ساقط -و- وقدم الرواية الرابعة على الثالثة ليتأتى له
أن يصله بقوله وبه قال الثوري وأبو حنيفة وهي الرواية الرابعة عن ابن
المسيب.
(3) ما بين النجمين = ساقط -و-.
(4) ما بين النجمين = ساقط -و-.
(5) ما بين النجمين- ساقط -و-.
(1/916)
قضاء نسكه ثلاثاً (1). وقد كان المسلمون،
لما هاجروا من مكة إلى المدينة حرم عليهم المقام بمكة لأنها دار شرك فلما
صارت دار إسلام حرموا على أنفسهم المقام بها فأذن لهم - صلى الله عليه وسلم
- في ثلاثة أيام. فأشعر ذلك بكونها في حكم السفر. وأن ما زاد في حكم
الإقامة، وجعل عمر رضي الله عنه لأهل الذمة لما أجلاهم من الحجاز إذا قدموا
أن يقيموا ثلاثاً فدل على أن ما زاد على الثلاث في حكم الإقامة. وقد جعل
الله الثلاثة قريبًا. قال {فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ} (2) فعقروها
فقال: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ} (3). وأما دخوله -
صلى الله عليه وسلم - مكة صبيحة يوم الأحد الرابع من ذي الحجة وقد كان صلى
الصبح قبل دخوله. فأقام بها بقية الرابع والخامس والسادس والسابع وصلى
الصبح بها في اليوم الثامن ثم خرج إلى مني وكان يقصر في هذه الأيام. وهذه
المدة يصلى فيها عشرون صلاة (4)، فإنه دخل بعد أن أصبح. وإذا مضى بعض
النهار لم يحتسب به. وسيأتي ذكره علَى أنه لم ينقل أنه نوى إقامة هذا
المقدار ونحن إنما نجعل الأربعة مؤثرة من حق من عزم على إقامتها. ومن حد من
أصحابنا بالعشرين صلاة. فهذا الحديث حجة عليه، إلا أن يتأول أنه لم ينو
إقامة هذا المقدار حين دخوله. فإن تأول ذلك منع نفسه بأن يتعلق بهذا الحديث
وطولب في تحديد العشرين صلاة بدليل آخر ولا يجد سوى ما قدمناه من الدلالة
على اعتبار أربعة أيام. فلما كان المسافر لا بد له من إقامة تتخلل سفره سقط
اعتداد قليل الإقامة وافتقر إلى حد فاصل بين القليل منها والكثير، فكان
التحديد بالثلاث أولى لما قدمناه من الأدلة.
وأما أبو حنيفة فانه رأى أن تحديد القليل بما دون الخمسة عشر إذ الأغلب أنه
لا يقيم الخمسة عشر يومًا وهو عازم على السفر. ويحتج أبو حنيفة أيضًا بقول
ابن عباس وابن عمر: إذا قدمت بلدًا وفي نفسك أن تقيم خمسة عشر يومًا فأكمل
الصلاة. والظاهر أنهما لا يقولان ذلك إلا عن توقيف. وأجيب عن هذا بأن عثمان
رضي الله عنه قال: من أجمع على إقامة أربعة
__________
(1) رواه مسلم بسنده إلى العلاء بن الحضرمي قال: قال رسول الله - صلى الله
عليه وسلم -: يقيم المهاجر بعد قضاء نسكه ثلاثًا. إكمال الأكمال ج 3 ص 448.
(2) سورة الأعراف، الآية: 64.
(3) سورة هود، الآية: 65.
(4) مرتبط بقوله وأما دخوله.
(1/917)
أيام أتم، وعثمان من الأئمة الراشدين. وقد
خالف ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما فيما قالاه. وقد خرج البخاري عن ابن
عباس أنه قال: أقام النبي - صلى الله عليه وسلم - تسعة عشر يقصر. فنحن إذا
سافرنا تسعة عشر نقصر، وإن زدنا أَتْمَمْنا (1).
وخرج عن أنس أنه قال: قال خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من
المدينة إلى مكة فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجع. قيل له أقمتم بمكة
شيئًا؟ فقال: أقمنا عشرًا (2). وهذا الذي خرجه البخاري لم يذكر في هاتين
المرتين (3) أنه نوى الإقامة فلا حجة فيه. وكذلك ححديث عمران بن الحصين أنه
أقام بمكة عام الفتح ثمانية عشر يومًا يقصر (4) فليس فيه أيضًا أنه نوى
الإقامة. وقال تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ
عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} (5). فعلق القصر
بالضرب في الأرض. فإذا لم يوجد بقي على الأصل المستقر الذي هو الإتمام.
وهذا قد يتعلق به من راعى حط رحله. أو دخول المدينة. ولما كان المسافر حكمه
(6) القصر، فقد يتعلق باستصحاب هذه الحال من قال بأعلى هذه التحديدات،
ويقول لا ينقله عن الحال الذي هو عليها من القصر إلا بدليل، وما زاد على
أعلى المبالغ فقد قام دليل الاتفاق على الإتمام فيه. وعلى كثرة هذا
الاختلاف الذي حكيناه فقد قال ابن القاسم إن نوى المسافر إقامة أربعة أيام
ثم قصر أعاد أبدًا. وابن القاسم ربما يراعي من الخلاف ما هو أشد من هذا.
وها هنا لم يعرج على هذا الاختلاف مع كثرته. ورأى أن ما زاد على أربعة أيام
لم يتضح سقوط اعتباره على غموض الدليل الذي لأجله حددنا بأربعة أيام.
وإذا ثبت من مذهبنا مراعاة أربعة أيام، فإذا دخل المسافر وقد مضى بعض
النهار فهل يحتسب بأربعة أيام كوامل سوى يوم دخوله أم لا؟ أما القائلون من
__________
(1) أخرجه البخاري ولفظه: أقام النبي - صلى الله عليه وسلم - تسعة عشر يقصر
فنحن إذا مافرنا تسعة عشر قصرنا وإن زدنا أتممنا. البخاري ج 3 ص 53.
(2) رواه البخاري ج 3 ص 53.
(3) المدتين -و-.
(4) رواه أحمد وأبو داود والترمذي والطبراني وأبو شيبة وفي إسناده علي بن
زيد بن جدعان
ضعيف وحسنه الترمذي لشواهد. بلوغ الأماني ج 5 ص 112.
(5) سورة النساه، الآية: 101.
(6) في -و- حكمه حكم القصر.
(1/918)
أصحابنا بمراعاة عشرين صلاة فلا معنى عندهم
لهذا السؤال. وأما القائلون بمراعاة الأيام فانهم اختلفوا في ذلك. فقال ابن
القاسم لا يعتد بالنهار الذي دخل فيه إلا أن يدخل من أوله. وقال ابن نافع
في كتاب ابن سحنون ينظر إلى مثل ذلك الوقت من النهار الرابع. وهذا أصل
مختلف فيه في العُدد والأيمان وسنذكر ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى.
ومذهب الشافعي مراعاة أربعة أيام كوامل غير معتد فيها بيوم الدخول ويوم
الخروج. وإذا كان مراعاة أربعة أيام أصلًا ثابتًا على ما أشار إليه ابن
القاسم فيما حكيناه عنه من أن الصلاة المقصورة لا تجزي إذا نوى المسافر
مقام أربعة أيام، فالأولى على هذا طريقة ابن نافع.
والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: ما يوجب الإتمام حلول المسافر بوطنه
فقد قال مالك إذا من مسافر بقرية فيها أهله أو ولده فإنه يتم. ولو أقام
عندهم صلاة واحدة. وإن لم يكن بها سوى عبيده وجواريه وبقره ولا أهل له بها
ولا ولد فإنه يقصرُ. ولو هلك أهله دون ولده فإنما يعتبر أن يكون له مسكن.
قال ابن حبيب إن كان له بها أم ولد أو سرية يسكن إليها أتم. ولو مر ببلد
ليس بمسكن له فإنه لا يكون مسكنًا بعقد النكاح فيها وإنما يكون مسكنًا *إذا
بني بأهله ولزمه السكنى. وإذا ثبت أن الحلول بالوطن يرفع حكم السفر* (1)
فإنه يمنع حكم اتصاله أيضًا. فلو نوى المسافر أن يدخل في أثناء سفره قرية
له فيها أهل فإنه يعتبر ما بينها وبين موضع خروجه هل هو مقدار ما تقصر فيه
الصلاة أم لا؟ ويصير ما بعدها من بقية مسافته كأنه حكم سفر آخر يراعى أيضًا
مبلغه. *ولو ابتدأ سفره بنية دخول هذه القرية وهي على مسافة لا تقصر فيها
الصلاة، فلما حاذاها بدا له في دخولها، فإنه إنما يكون مسافرأ حينئذ،
فيعتبر مبلغ بقية مسافته، فإن كان أربعة برد قصر إذا ظعن من مكانه ذلك، ولو
كانت مسافة قريبة قصر وإن لم يظعن من مكانه كان في بقية سفره أربعة برد أو
أقل، لأن سفره سَفَر قصر، وإنما يخاطب بالإتمام إذا دخل القرية. فإذا لم
يدخلها بقي على ما كان عليه من القصر* (2) ولو مر بالقرية مارًّا ولم
ينزلها لكان ذلك قاطعًا لاتصال سفره، فيعتبر بقية سفره هل فيه أربعة بُرد
أم لا؟ وكذلك المسافر إذا نوى مقام أربعة أيام
__________
(1) ما بين النجمين هو في -و-.
(2) هو وتقطيع في -و- اعتمدنا قل وفي الكلام غموض.
(1/919)
في بلد ليس به أهل فإنه يجري في الإتمام
وقطع الاتصال مجرى ما ذكرناه في النازل بقريته. ولو كان الأهل مع الإنسان
في حال سفره، لم يرفع ذلك حكم السفر. قال مالك يقصر النواتية وإن كان معهم
الأهل والولد. وقالت الشافعية وعطاء وأيوب: ليس له القصر، ورأوه كالمقيم في
بيته (1).
وإذا خرج المسافر لقصر ثم انثنى راجعًا إلى بيته في حاجته قبل أن يسير ما
تقصر فيه الصلاة، فقد اختلف في إتمامه في رجوعه. فقال مالك يتم في رجوعه.
وفي الموازية أنه يقصر في رجوعه. فوجه الإتمام أن سيره راجعًا خلاف سيره
متوجهًا فلا يضاف أحدهما إلى الآخر. وإذا لم يضف الرجوع إلى السير وجب أن
يتم في الرجوع. ألا ترى أن من خرج لسفر مبلغه بريدان ونيته أن يعود من فوره
فإنه لا يقصر لأجل أن حركات السير لا تضم إلى حركات الرجوع.
ووجه القول بالقصر أن الرجوع ليس بإسقاط لحكم السفر، لأنه إنما رجع لحاجة
لا رجوعًا عن السفر. وإذا ثبت حكم السفر ولم يحدث ما يكون رجوعًا عنه بقي
على أصل السفر فيكون حكمه القصر.
ولو كان رجوعه عن السفر بغير اختياره فقد قال مالك فيمن سافر في البحر
أميالًا ثم ردته الريح أنه يتم الصلاة. فهذا حكم صلاة هذا الراجع عن سفره
حال رجوعه.
وأما حكم صلاته إذا دخل المكان الذي رجع إليه فإنه لا يخلو أن يكون له بها
أهل أو لا أهل له بها. فإن كان له بها أهل فإنه يتم لأن موضع القرار
والسكنى يرفع حكم السفر. وإن كان لا أهل له بها وكان قبل خروجه منها يقصر
فيها، فإنه يقصر الآن في هذا الحلول الثاني بها، لأنه لم يحدث بعد قصره
الأول حادث يوجب رجوعه إلى الإتمام.
فإن كان يتم بها قبل خروجه عنها فهذا أصل مختلف فيه في المذهب.
ففي الموازية فيمن نوى المقام بقرية أربعة أيام فاتم ثم خرج إلى بقية سفره
وفيه أربعة برد فلما صار ميلين رجع في حاجة فإنه يقصر في رجوعه وفي دخوله
حتى
__________
(1) فيمن كان مقيمًا في سفينة في أهله وماله يستحب له الإتمام ويجوز له
القصر. وقال أحمد والحسن وعطاء. صح - تعليق بهامش -و-.
(1/920)
ينوي مقامًا يوجب الإتمام أو يكون له بها
أهل. وهذا الذي أخذ به من اختلاف قول مالك في هذا، وبه أخذ ابن القاسم
وأصبغ. وقد قال بعض المتأخرين إنما أشار ابن المواز لاختلاف قول مالك في
مسألة من خرج من مكة ليعتمر ثم يعود إليها على ما سنذكره ها هنا. وقال بعض
المتأخرين الفاصل في السفر شيئان (1) أحدهما مروره على موضع استيطانه.
والثاني عزيمة مقام أربعة أيام في غير موضع الاستيطان فإنه فاصل بين الماضي
والمستقبل من السفر. قال ابن المواز وهذا الذي أخذ به من اختلاف قول مالك
في هذا وبه أخذ ابن القاسم وأصبغ وهذا يقتضي أن حكمه حكم من نوى سفر قصر
على أن يقيم في أثنائه أربعة أيام في اختلاف قول مالك. ففهم هذا المتأول من
كلام ابن المواز أن مراده الإشارة إلى كون السفر فاصلًا بين الإقامتين.
وكلاهما أصل مختلف فيه. وقد كنا قدمنا نحن أن ناوي مقام أربعة أيام كالحال
بموطنه (2) في كون ذلك قاطعًا لاتصال السفر. وأشاو هذا المتأخر ها هنا إلى
تخريج ذلك على الاختلاف الذي ذكرناه عنه. فأما من قال: إن الراجع يقصر في
الحلول الثاني بالقرية التي كان يتم بها قبل ذلك، فإنه قدّر أنه لقا خرج
بنية ألا يعود إلى المكان صار رافضًا لحكم المقام. وإذا ارتفض حكم المقام
قصر في عودته. ومن قال أنه يتم فإنه قدّر أن الرجوع أبطل حكم السفر، وإذا
أبطل السفر عاد إلى ما كان عليه في الأصل فيتم في رجوعه وحلوله استصحابًا
لما كان عليه بالإتمام.
وأما الراجع إلى البلد بحكم الريح ففي المدونة روى ابن زياد عن مالك في
الذي يركب البحر فيسير يومًا أو كثر من ذلك فقصز الصلاة فلقيته الريح فردته
إلى المكان الذي خرج منه وحبسته فيه أيامًا فإنه يتم الصلاة ما حبسته الريح
في المكان الذي خرج منه. وذهب سحنون إلى أنه لا يتم بالموضع. وإن كان يصلي
فيه إتمامًا قبل ذلك، إلا أن يكون وطنه، أو ينوي الآن فيه مقام أربعة أيام،
فإنه يتئم. واحتج بقول مالك فيمن خرج من مكة ليعتمر ثم يعود.
قال بل مسألة المردود بالريح أحق بالقصر لأنه لما ركب البحر فقد رفض سكنى
الموضع الذي ركب منه. والذي خرج من مكة كان في نيته الرجوع إليها. فلهذا
__________
(1) على ضربين - قل.
(2) بوطنه - قل.
(1/921)
اختلف قول مالك فيها وأجرى مجراه بعض
المتأخرين مسألة المردود بالريح على اختلاف قول مالك. وقد ذكرنا عن سحنون
أن مسألة المردود بالريح آكد في القصر من المسألة التي خرّج عليها هذا
المتأخر الاختلاف. وأشار بعض أشياخي إلى أن المردود بالريح لما كان على شك
من أول سفره في رد الريح كان حكمه الإتمام لما لم يصح منه الرفض بالشك (1).
والرفض إذا لم يصح بقي على الأصل. وهو الإتمام وصار كمن تقدم أصحابه لا
يسير إلا بسيرهم. ولما رآه سحنون راجعًا بغير اختياره بل هو مكره على
الرجوع أبقاه على حكم القصر، ولم يجعل لرجوعه تاثيرأ لما كان مكرهًا عليه.
. المكره لا حكم لفعله.
وهذا الذي قاله شيخنا يُلاحظ ما كنا قدمنا؟ عن ابن المواز من قوله: في
مسافر يقطع البر ثم البحر أنه إن كان لا يبرح إلا بالريح لم تضم مسافة
البرّ إلى مسافة البحر في إكمال مبلغ السفر، ورأى أن الريح لما كانت
مشكوكًا في أمرها لم يتحقق السفر مع الشك فيه. ويلاحظ أيضًا قولنا في الجيش
ببلد الحرب أنه يقصر ولو عزم على مقام أربعة أيام لأنه لا يملك المقام
هناك، وليس على ثقة منه. فجعلوا عدم الثقة ها هنا يرفع الحكم.
ومما يجري على هذا الإسلوب مسألة المدونة فيمن أقام بمكة بضعة عشر يومًا
فأوطنها ثم خرج يعتمر من الجحفة ويعود إلى مكة فيقيم بها اليوم واليومين.
فقال مالك يتم في هذا المقام الثاني بمكة ثم قال: يقصر. فهذا لما كان حكمه
الإتمام بمكة في الحلول الأول، وفصل بينه وبين الحلول الثاني سفر قصر اختلف
قوله في تلفيقا لحلولين بعضهما إلى بعض. فمرة لقهما ولم يقدر السفر فاصلأ
لما وقع بنية العودة، ولم يتضمن رفض الحلول الأول فأتم. ومرة رآه فاصلًا
فَقصر. ولم ير ذلك كعودته إلى الوطن لأن الوطن يتم فيه على كل حال، ومكة ها
هنا إنما أتم فيها بإقامة ما، ونية لذلك. والوطن لا يفتقر لذلك.
وكأنه مرة ألحق الحلول الثاني بالأول ومرة ألحقه بما يليه وهو سفر القصر.
ولو اعتمر هذا من موضع لا يَقصر الصلاة لأتم من غير خلاف؛ لأنه لم يحدث ما
يقتضي القصر فيستند هذا الحلول الثاني إليه. وإنما تصور هذا الخلاف في هذه
__________
(1) للشك - قل.
(1/922)
المسألة لخروجه بنية أن يعود. وأما لو خرج
بنية أن لا يعود ثم بدا له (1) فعاد لجرى حكمه في العودة وفي الحلول الثاني
على ما كنا قدمناه فيمن خرج في سفره ثم عاد لحاجة من قريب. وكذلك أيضًا
إنما تُصور الخلاف في هذه المسألة في رجوعه بنية إقامة اليومين. وأما لو
رجع بنية مقام أربعة أيام بين كل سيرين لا تقصر في أحدهما الصلاة إذا
انفرد، فإنه اختلف في تلفيق السير بعضه إلى بعض. فقيل يتم الصلاة في جميع
سيره كما يتمها في مقامه الأربعة أيام.
لأن هذه الأربعة أيام فاصلة بين ما قبلها من السير وما بعدها، وكل سير
بانفراده لا يبلغ مبلغ القصر. وقيل بل يقصر الصلاة في سيره خاصة لأنه لما
قصر في مبدإ خروجه جميع السير كله، لم تكن الأربعة أيام فاصلة بين سير
وسير. وهذه المسألة كنحو التي فرغنا منها. لأن هذا مقام فصل بين سيرين كما
أن مسألة المعتمر من مكة سفر فصل بين مُقامين.
وإنما يتصور أيضًا الخلاف في مسألتنا هذه إن كان نوى أن يفصل بين السيرين
بمقام أربعة أيام. وأما لو نوى. أن يفصل بينهما بمقام أقل من ذلك لم يختلف
في القصر. لأن حكم هذا القدر من المقام أن يقصر فيه. فإذا كان حكمه في نفسه
القصر فأحرى ألا يكون مانعًا من قصر غيره، ويقدر مقامه وسيره وكأنه سير كله
يقصر في جميع ذلك. وكذلك أيضًا إنما يتصور عندي الخلاف إذا فصل بين السيرين
بمقام أربعة أيام وكان ناويًا لذلك في مبد! سفره. وأما لو نوى سفرًا لا
يقصر في مثله الصلاة على أن يقيم عند فراغه منه أربعة أيام ثم يعود فحدثت
له نية السفر بعد مُقام أربعة أيام فإنه لا يلفق السير الثاني إلى الأول من
غير خلاف. واشتراط النية ها هنا في تصور الخلاف كاشتراط النية أيضًا في
الخروج إلى العمرة بنية أن يعود. وقد قدمنا أن الخلاف إنما يتصور مع هذه
النية. وكذلك أيضًا اشتراطنا ها هنا في تصور الخلاف أن يكون المقام أربعة
أيام كاشتراطنا هناك في تصوره أن يكون سفر المعتمر سفر قصر حتى يكون قد فصل
في السير (2) بين الأول والثاني ما له حكنم غير الأول والثاني. ومما يجري
على
__________
(1) له = ساقطة -و-.
(2) السؤالين -و-.
(1/923)
هذا الأسلوب أيضًا من قدم مكة ينوي المقام
بها وهو يريد الحج وليس بينه وبين والخروج إلى مني إلا أقل من أربعة أيام.
فقد اختلف فيه فقال مالك في مختصر ابن شعبان يتم الصلاة بمكة في هذا الحلول
الأول. وقال محمَّد ابن مسلمة بل. يقْصُر فيه لأنه إنما قدم مختارًا يريد
المقام بعد الرجعة. فهذا أيضًا لمّا حل هذا الحلول لم يكن له حكم الإقامة
ولكنه عازم على مقام ثان بعد الخروج عن هذا الحلول الأول. واختلف في ضم
الحلول الأول إلى الثاني فمن ضمه إليه أتم الصلاة فيه. ومن لم يضمه إليه،
وعدّ الخروج عنه فاصلًا بينه وبين الثاني قصر الصلاة. لأن الحلول الأول لم
يجب فيه الإتمام من قبل نفسه لقصوره على الأربعة أيام ولا يكتسب الإتمام من
الحلول الثاني للفاصل الذي بينهما. وهذا الفاصل وإن لم يكن سفر أربعة بُرد
فإنه ها هنا يُعد فاصلًا بخلاف الخروج للاعتمار من أميال يسيرة بنية العودة
إلى مكة، فإنه لا يكون فاصلًا بغير خلاف. لأنه حكمه كحكم المقام. وها هنا
لما كان الحلول الأول حكمه القصر ووقع الإشك الذي تلفيقه إلى حلول حكمه (1)
الإتمام، فصل بينهما الخروج المذكور حسن فيه الخلاف.
ومما يلحق بهذا الفصل ما كنا قدمناه من أن المكي يقصرُ بمنى وعرفة وإن لم
تكن تلك مسافة قصر. وعللنا ذلك بعلتين: إحداهما أن عمل الحاج لا ينقضي إلا
في أكثر من يوم وليلة مع التنقل اللازم فجرى ذلك مجرى السير الدائم مبلغ
الأربعة برد. والثانية أن الخارج من مكة إلى عرفة يلزمه الرجوع إلى مكة
بالشرع. وهو مقدار سفر القصر فصار كسير لا رجوع فيه. ولا يلزم على هذا
التعليل العَرفي (2) إذا وقف وتوجه إلى مني فإنه لا يقصر لأن مسافته ليست
مسافة قصر والرجوع لا يلزمه. وإذا كان قد روي عن ابن القاسم في العَرَفي
(2) والمَنَوي (3) يُفيضان، يقصر العَرفي ويُتم المَنَوي إلى منى. ووجهه أن
المنوي بعد الإفاضة يرجع إلى وطثه والعَرفي يرجع إلى مكة إلى غير وطنه
لإتمام حجه فيقصر. فإذا فرع من مني إلى عرفة لم يقصرُ لانقضاء حجه. وقد قال
مالك
__________
(1) حكم - قل.
(2) نسبة إلى عرفة.
(3) نسبة إلى مني.
(1/924)
فيمن قدم للحج فأتم بمكة الصلاة ثم خرج إلى
مني قال يقصر بمنى. قيل ففي طريقه قبل أن يصل إلى مني قال: لا أدري. وما
ذكرناه من التعليل يقتضي القصر في الطريق. وقد توقف مالك فيها. واختلف قول
مالك في المكيين والمَنَويين إذا انصرفوا من مني إلى مكة فادركتهم الصلاة
في المحصّب أو تأخروا بمنى لزحام ونحوه فقال يتمون. ثم رجع فقال يقصرون.
واختلف فيه قول ابن القاسم أيضًا. قال بعض المتأخرين إنما اختلف القول في
هذه المسألة للاختلاف في التحصيب، هل هو مشروع أم لا، فإن قيل إنه مشروع
فالحكم الإتمام. وإن قيل أنه غير مشروع فالحكم القصر. وهذا التعليل الذي
أشار إليه هذا المتأخر مقصور على صلاة المحصّب. وهو قد ذكر الخلاف في المكي
المتأخر بمنى. وكذلك ذكر ابن المواز الاختلاف في المكي المتأخر بمنى
تَحْضره الصلاة، أو في طريقه. وذكر الطريق مجملأويلزم على هذا أن يقصر
المَنَوي في رجوعه إلى مني من مكة لأنه بقي عليه عمل من أعمال الحج. وإنما
ألحقنا هذا الفصل ها هنا لكون رجوع المكي بين حالين مختلفين فإن مكة وطنه
يوجب الإتمام ومنى كان فيها على القصر.
والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: الشك يعرض للمسافر في حقيقة سفره على
ضروب: منها أن يبرز (1) للسفر وتماديه عليه معلق بسفر غيره. وقَد قدمنا
جواب هذا لقسم. وفي الموازية في مسافر لم يبلغ مسافة القصر حتى رد رفيقه
إلى الموضع الذي خرج منه، وهو لا يمضي على سفره حتى يرجع إليه رسوله، أنه
يقصر. ورأى أنه لما بقي بنفسه فهو على حكم السفر. وإن شك هل يقيم رسوله
أربعة أيام أم لا؟ فقد قدمنا حكم رجوعه بنفسه لحاجة.
والقسم الثاني أن يشك في مبلغ السفر فإنه لا يقصر استصحابًا لحكم الإتمام.
وقد قال مالك فيمن خرج لبيع سلعة وأمامه أسواق بين كل سوقين منها خمسة عشر
ميلًا، وكذلك بينه وبين أولها، ففي أي سوق وجد البيع باع، أنه لا يقصر حتى
يخرج مجمعًا على بلوغ غاية الإقصار. وكذلك في الموازية إذا خرج ينوي السوق
الأقصى على أنه إن وجد البيع دونه باع، أو خرج لطلب آبق على
__________
(1) ينوي السفر = قبل.
(1/925)
مسيرة أيام على أنه إن وُجد دون ذلك رجع.
وقد قدمنا أيضًا الإشارة إلى هذا.
والقسم الثالث أن يعرض له شك في قدر الإقامة الرافعة لحكم السفر، فمن ذلك
إمام الجيش ينوي الإقامة ببلد الحرب فإنه يقصر عندنا وعند أبي حنيفة ولا
يرفع حكم القصر عزيمة مُقام أربعة أيام. قال أصحابنا لأنه لا يملك ذلك ملك
الثقة حتى يجاوز الدروب ويصير بمحلة أمن. وعند الشافعي أنه إن أقام على
تنجز الحرب فله القصر إلى ثمانية عشر يوماَ فإن زاد على ذلك فقولان: أحدهما
منع القصر. والثاني جوازه إلى أن ينقضي الحرب. وإن نوى المقام أربعة أيام
ففيه أيضًا قولان. قال في القديم: يقصر. وقال في الجديد: يُتم.
وقد روى جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقام في غزوة تبوك عشرين
يومًا يقصر (1) الصلاة.
وقال ابن عباس: "أقام - صلى الله عليه وسلم - لحرب هوازن ثمانية عشر يومًا
يقصر الصلاة فمن أقام أكثر من ذلك فليتم الصلامه (2). وهذا الذي قاله ابن
عباس من هذا الخبر عليه عوّلت الشافعية في التحديد بثمانية عشر يومًا.
ويتأولون حديث جابر على أنه حسب يوم الورود ويوم الخروج. فبهذين اليومين
كملت عشرين. ومن هذا النوع أيضًا مسافر البحر يحبسه الريح فقال ابن حبيب
يقصر أبدًا ما أقام. وقد كنا قدمنا الكلام على هذا وذكرنا ما وقع في
المدونة وغيرها. وينبغي عندي للمحبوسين بالريح يتحققون المُقام الطويل
بعادة جرت عندهم في الرياح في بعض الأماكن أن يتموا ومن هذا النوع أيضًا أن
يشك في قدر المقام لشكه في مقدار الشغل الحابس له فقد قال ابن حبيب: من
حبسه في السفر علة دابته، أو ينتظر متاعاَ يُتم عمله، أو حاجة لا يدري متى
نهاية ذلك فليقصر حتى يوقن أنه يقيم لذلك أربعة أيام. وبهذا قال أبو حنيفة
وإن خالف في مدة الإقامة. وقال بعض الشافعية: ومن دخل بلدًا لينجز حاجة
ونوى أنه متى تنجزت حاجته خرت، أو كان مريضًا ينوي أنه متى زال مرضه خرج،
فله أن يقصر إلى سبعة
__________
(1) رواه أحمد وأبو داود والبيهقي وصححه ابن حزم والنووي. بلوغ الأماني، ج
5 ص 158.
(2) رواه الطبراني في الأوسط وفيه عمرو بن عثمان الكلامي وهو متروك مجمع
الزوائد، ج 2 ص 158.
(1/926)
عشر يومًا أو ثمانية عشر يوماَ في أحد
القولين في قول أكثر أصحابه (1). ومنهم من قال فيه قولًا آخر أنه يقصر
أبدًا. وهذا حكم الشك ولمالك في المجموعة إذا خرج أهل الجشر إلى جشرهم
فليتموا الصلاة كالرعاة يتبعون الكلأ لماشيتهم.
وهذا الذي قاله محمله على أن شأنهم يسيرون أميالًا يسيرة ثم ينزلون فلا
يقيمون إقامة توجب إتمام الصلاة ثم يرحلون فإنهم يقصرون. وإن أقاموا إقامة
توجب إتمام الصلاة فإنه يختلف في تلفيق السير بعضه إلى بعض على ما تقدم
قوله ها هنا إلى جشرهم. فالخيل المجشورة التي يترك ركوبها وتخرج للرعي.
وهذا حكم الشك في إقامة أربعة أيام في بلد أثناء سفره. وأما لو كان البلد
الذي دخله هو نهاية سفره ومقصوده حين ابتدأ السفر لأتم الصلاة. لأن غاية
سفره قد تم وانقضى. والرجوع إحداث سفر ثان فيكون الحكم للإتمام لانقضاء
السفر. قال مالك في المبسوط إلا أن يعلم أن حاجته تنقضي في اليومين أو
الثلاثة فإنه يقصر. فإن شك أتم. فكانه رآه مع المقام اليسير على حكم السفر.
وإذا شك فظاهر انقضاء السفر يوجب الإتمام فلا يزول عن هذا الظاهر بالشك.
والقسم الرابع أن يتحقق إقامة توجب قضاء الصلاة ويشك في محلها. فقد قال
مالك فيمن خرج إلى ضيعتين له بينه وبين الأولى منهما ثلاثون ميلًا وبين
الأولى والثانية مثل ذلك ونوى إقامة عثرة أيام لا يدري كم يقيم بكل ضيعة
أنه يقصر. وكأنه رأى أن السفر، لما كان جملته ستين ميلًا، ووقوع الفصل فيه
مشكوك فيه، (2) لم يرتفع حكم السفر بفاصل مشكوك فيه. ولو أن هذا نوى مقام
القصر في الثانية دون الأولى فإنه لا يختلف في قصره، وإن نواه في الأولى
دون الثانية، فإنه يختلف في قصره في السيرين جميعًا على ما كنا قدمنا من
ذكر الاختلاف في تلفيق السير بعضه إلى بعض إذا تخلله فاصل الإقامة، ولو وقع
في هذه الرواية في تأويل الشيخ أبي محمَّد عليها لفظ فيه إشكال. وحقيقة
القول فيه ما قلناه.
قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: ولا يقصر حتى يفارق بلده ويُخلّفه وراء
__________
(1) أصحابنا - قل.
(2) أي وقوع الفصل في السفر.
(1/927)
ظهره وفي عوده حتى ينتهي إلى الموضع الذي
بدأ منه.
قال الفقيه الأمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل سؤالان. منها أن يقال:
1 - ما حكم من سافر بعد دخول الوقت؟.
2 - وما حقيقة المكان الذي يصير به الحاضر مسافرًا أو المسافر حاضرًا؟.
فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: قال. ابن حبيب من أراد سفرًا فأدركه
الوقت في أهله فهو في سعة إن شاء صلاها في أهله صلاة مقيم وإن شاء خرج
فقصرها في سفره. ومن أصحاب الشافعي من قال إذا سافر بعد دخول الوقت وقد بقي
من وقت الصلاة قدر (1) الصلاة لم يكن له القصر. وقال المزني في أحد قوليه
يجوز له القصر إلى أن يبقى من الوقت قدر تكبيرة. وقال ابن حنبل والمزني في
أحد قوليه: لا يجوز له القصر إذا سافر بعد دخول الوقت.
وكأنهما رأيا أن الوجوب معلق بأول الوقت، فيتعلق القصر (2) بحالة الوجوب
كما لو سافر بعد خروج الوقت. ولنا عليهما أن الصلاة لم تستقر في ذمته تامة
فكان له القصر كما لو سافر قبل دخول الوقت. وإنما أتم من سافر بعد خروج
الوقت لكون الصلاة استقرت في ذمته تامة (3).
والجواب عن السؤال الثاني: أن بقال: أما الموضع الذي يصير بالبلوغ إليه
الخارج مسافرًا فقد قال (4) مالك في المدونة إنما يقصر إذا برز عن بيوت
القرية. وفي الموازية يقصر إذا خلف قريته وراء ظهره لا يكون شيء منها عن
يمينه ولا عن يساره ولا أمامه، وكذلك البحر. ولمالك في المجموعة في مسافر
البحر إذا جاوز البيوت ودفع (5) فليقصر. وروى مطرف وابن الماجشون عن مالك
أنه إن خرج من المدن التي يجمع فيها فمبتدأ القصر إذا جاوز بيوت
__________
(1) قبل -و-.
(2) فتعلق الحدد -و-.
(3) تامة: ساقطة -و-.
(4) فقال -و-.
(5) ورفع - ورقات.
(1/928)
العصر بثلاثة أميال. وأما إن خرج من قرى لا
يجمع فيها فمبتدأه إذا جاوز بساتينها وبيوتها المتصلة بها عن يمينه وشماله،
ولا اعتبار لمزارعها. وقالت الشافعية يقصر إذا فارق بنيان البلد. قال قتادة
إذا جاوز الجسر أو الخندق.
وحُكي عن الحرث بن ربيعة أنه أراد سفرأ فصلّى بهم ركعتين في منزله وفيهم
الأسود بن يزيد وغير واحد من أصحاب عبد الله. وقال عطاء إذا خرج الرجل
حاجًا فلم يخرج من بيوت القرية فحضرت الصلاة، فإن شاء قصر وإن شاء أوفى.
وقال مجاهد إن (1) خرج نهارًا لم يقصر إلى الليل، وإن خرج ليلًا لم يقصر
إلى النهار. فأما نحن والشافعية، ومن نحا نحونا فإنا نحتج بأن المعتبر
مفارقة موضع الاستيطان. ولا يتحقق مفارقة الاستيطان إلا بما قلناه من
مجاوزة البيوت. وكان مجاوزة البيوت علم (2) عليه. وقد قال ابن حبيب وإذا
جاوز بيوت قريته وانقطع منها انقطاعًا بتنا قصر، كانت مما يجمع أهلها أو لا
يجمعون. فأشار إلى ما قلناه من الانقطاع من موضع الاستيطان. فأما الرواية
التي راعى فيها ثلاثة أمي الذي بلد الجمع فإنما ذلك لأن هذا المقدار يلزم
منه إتيان الجمعة وذلك يشعر بأن حكم ذلك حكم الوطن. وأما مجاهد فلست أعرف
لقوله وجهاً إلا أن يكون قذر أن الليل وقت القرار والسكون. والنهار وقت
الحركة والتصرف. فإذا خرج المسافر على حالة منها فلا يحصل مسافرًا إلا حتى
يحصل على الحالة الأخرى فليلفها (3) مخالفة لعادته في الحضر. والرد عليه
قول أنس: صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - الظهر بالمدينة أربعًا
والعصر بذي الحليفة ركعتين (4). فقد أتم (5) وقصر في نهار واحد وقد قال ابن
حبيب كان - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج من المدينة إلى مكة قصر بالعقيق
وإذا خرج من مكة إلى المدينة (6) قصر بذي طِوى. والعقيق من المدينة وذو
طِوى من مكة على نحو من ثلاثة أميال.
__________
(1) من -و-.
(2) وكان مجاوزة البيوت علمًا -و-.
(3) هكذا في جمبع النسخ ولعل الأقرب فيلفيها.
(4) متفق عليه وأخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وغيرهم. بلوغ الأماني ج 5 ص
103.
(5) أتم: سا تطة -و-.
(6) إلى المدينة: ساقطة -و-.
(1/929)
وهذا وإن كان فيه ردّ على مجاهد فقد يتعلق
به من حد من أصحابنا بثلاثة أميال من بلاد الجمع للجمعة. وأما من قصر في
منزله، فإنه يحتج بأن المسافر إذا نوى الإقامة لزمه الإتمام فكذلك المقيم
إذا نوى السفر جاز له القصر. وهذا على أنه قياس لم يجمع فيه بين الفرع
والأصل بعلة، (1) قد يفرق بينهما بأن نية الإقامة وجد معها الفعل الملائم
لها وهو اللبث والاستقرار، ونية السفر وهو بالمدينة لم يوجد معها ما
يلائمها، لأن الذي يلائمها ويطابقها السير الذي يجاوز البنيان، لأن البنيان
حكمه حكم الاستيطان والقرار كما بيناه (2).
وإذا ثبت ما قلناه فالموضع التي ينقطع بالانتهاء إليه حكم السفر، قد قال
القاضي أبو محمَّد رحمه الله ها هنا أنه الموضع الذي بدا منه بالقصر فأحال
النهاية على البداية. وقد ذكرنا مذهبنا في البداية. وهكذا روى مطرت وابن
الماجشون أنه يقصر إلى الموضع الذي أمر بالقصر منه عند خروجه. وقد قال في
المدونة إذا رجع من سفر، قصر الصلاة حتى يدخل بيوت القرية أو قربها ...
وهكذا في الموطإ أنه يقصر حتى يدخل أول بيوت العصر أو يقارب ذلك. قال بعض
المتأخرين قد جعل الإتمام ها هنا ثبت بما لم يثبت به التقصير في الخروج
لأنه جعل القصر في الخروج بالخروج عن البيوت وأبطل حكمه في الرجوع بقرب
البيوت قبل الدخول إليها. وإنما هذا لأن حكم الإتمام مغلّب.
ألا ترى أن المسافر إذا نوى الإقامة أتم وانتقل عن السفر بمجرد النية، وإذا
نوى المقيم السفر (3) لم ينتقل عن حكم الإقامة بالنية. وفي المجموعة يقصر
حتى يدخل منزله.
قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: ولا يقصر العاصي بالسفر.
قال الفقيه الأمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل سؤالان منها أن يقال:
1 - كم أقسام السفر؟.
__________
(1) لعله -وقد-.
(2) بينه -و-.
(3) وإذا نوى الدخول إليها -و-.
(1/930)
2 - ولِمَ لَمْ يقصر العاصي؟.
والجواب عن السؤال الأول: أن يقال: السفر على خمسة أقسام: واجب كالسفر لحجة
الفريضة أو جهاد يتعين وما في معنى ذلك، ومندوب إليه كالسفر لصلة الرحم أو
زيادة في الدين وما في معنى ذلك، ومباح وهو السفر للتجارة التي لا يقصد بها
تحصيل الكفاية المندوب إلى تحصيلها، ومكروه كالسفر للصيد لهوًا ولعبًا،
وحرام كالسفر لقطع الطريق أو قتل الأنفس وما في معنى ذلك.
فأما السفر الواجب فإن الصلاة تقصر فيه من غير خلاف. وأما السفر المندوب
إليه، فإن الصلاة تقصر فيه (1) أيضًا. وقال ابن مسعود: لا تقصر الصلاة إلا
في السفر الواجب. وبه قال داود. واحتج لابن مسعود بأن الواجب لا يترك إلا
بواجب، فلما كانت الركعتان واجبتين لم يتركا إلا لسفر واجب. ودليلنا في. له
تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ
أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} (2) فعتم الضرب الواجب والمستحب. وقد قال
يعلى لعمر: ما بالنا نقصر وقد أمِنّا قال عجبت مما عجبت منه فسألت رسول لله
- صلى الله عليه وسلم - فقال: صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته (3).
وهذه المراجعة والمباحثة عن الآية ظاهرها أنهما كانا يعتقدان أن القصر في
السفر وإن يكن واجبًا (4) لأنهما لم يتعرضا لذكر وجوب السفر. وقد قال بعضهم
ينتقض ما قال ابن مسعود بمن لا يجب عليه الجهاد إذا خرج إليه *وهذا الذي
قاله يشير إلى أن ابن مسعود يسلمه. فإن كان كما تأول هذا المحتج عليه فلا
معنى لانطلاق الحكاية عنه بأنه لا يرى القصر إلا في السفر الواجب إلا أن
يكون معناه الواجب جنسه على سبيل الكناية* وأما السفر المباح فإنه يقصر فيه
أيضًا خلافًا لعطاء في قوله لا يقصر
__________
(1) فيه: ساقطة -و-.
(2) صورة النساء، الآية: 101.
(3) رواه ابن أبي شيبة وعبد بن حُميد وأحمد ومسلم وأبو داود والترمذي
والنسائي وابن
ماجة وغيرهم. الدر المنثور ج 2 ص 109.
(4) وإن يكن واجبًا - و- وان لم يكن واجبًا - قل. ولعل الصواب إن كان السفر
واجبًا.
(1/931)
إلا في سفر طاعة. وقد قدمنا مذهب ابن مسعود
وداود في هذا. واحتج عطاء بأنه لم يقصر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا
في سبيل الخير فلا يقصر إلا مثله (1). وهذا الذي قاله عطاء انفصل عنه بأنه
يقتضي قصر القصر على المواضع التي سافر إليها النبي - صلى الله عليه وسلم
-. وأيضًا فإن العودة من هذه الأسفار مباحة والقصر فيها جائز. وفي هذا
الانفصال نظر لأن الفعل لا يخص الأماكن وما فعله النبي - صلى الله عليه
وسلم - في مكان لا يجب قصره على مكانه. لأن الظاهر أن المكان إنما كان بحكم
الحاجة الطبيعية إليه. وهذا على مقتضى الأمور الاتفاقية، حتى ينضم إلى
الفعل ما يشعر بتعيين المكان وكون السفر طاعة مما (2) يقصد إليه، ويبعث
عليه، فيصح قصر الحكم على المقصود ولا يلزم أن يقاس عليه ما ليس بمقصود.
وكذلك العودة من هذه الأسفار قد تكون طاعة لكون الباعث على العودة أمور
دينية. والأولى عندي أن يحتج عليه بعموم الآية وما وقع فيها من المراجعة
على حسب ما قدمناه. وأما السفر المكروه وسفر المعصية فقد اختلف في جواز
القصر فيهما وما (3) نحن نتكلم عليه.
والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: أما من خرج للسفر المكروه فقال في
المدونة: من خرج للصيد للمعيشة على مسيرة أربعة برد قصر. قال ابن القاسم إن
خرج متلذذًا فلم أره يستحب له القصر. وقال: أنا لا آمره بالخروج فكيف آمره
بقصر الصلاة. قال ابن شعبان: إن قصر الصائد تلذذًا لم يُعد للاختلاف فيه
لأن الصيد مباح. وقد أجاز ابن عبد الحكم الصيد للهو.
وأما سفر المعصية، فالمشهور من مذهب مالك منع القصر فيه. وبه قال الشافعي
حتى منعه الشافعي من رخص السفر كلها كأكل الميتة عند الضرورة وصلاة النافلة
على الراحلة والمسح على الخفين ثلاثة أيام. وروي عن مالك جواز القصر، وبه
قال أبو حنيفة. وأما مذهبنا في أكل الميتة فإن ابن حبيب قال: إنما يقصر في
سفر جائز، فأما من خرج باغيًا أو عاديًا أو طالبًا لإثم فلا يجوز له القصر
كما لا يجوز له الأكل من الميتة عثد الضرورة. قال ابن القصار:
__________
(1) إلا في سبيله -و-.
(2) فيما -و-.
(3) هكذا في النسختين ولعل الصواب وها نحن.
(1/932)
أجاز أصحابنا كل الميتة عند الضرورة. فأما
المانعون للترخص برخص السفر، فأنهم يعتمدون على أن المفهوم من الشرع كون
القصر تخفيفًا عن المسافر، وإعانة له على سفره. وإذا كان هذا مفهومًا عن
الشرع حتى صار ملتحقًا بالنصوص، فإن المسافر لطلب معصية عاص بسفره، وسفره
محظور. والمعونة على المحظور محظورة. ألا ترى أن القتل ظلمًا لا يحل العون
عليه. وكذلك إباق العبد لما كان محظورًا لم تحل المعونة عليه، والإذن فيها
والأمر بها يناقض النهي والحظر. والشيء لا يصح أن يتناوله والأمر مقصود
والنهي مقصودًا (1) وإن صح عند بعضهم تعلق الأمر به قصدًا. وإن تعلق به
عموم نهي غير مختص به. كما قيل في الصلاة في الدار المغصوبة. ويعضد هؤلاء
هذه الطريقة بأن السكران يلزمه قضاء ما فاته حال سكره من الصلوات. وإن كان
زوال عقله على صورة زوال العقل بالإكماء. لكن لما كان عاصيًا بشرب غلظ عليه
(2) حتى ألحق بالصاحي. وإنّ خوف العدو عذر في إقامة صلاة الخوف. وقطاع
الطريق الإِمام (3) العدل لا يبيح لهم صلاة الخوف. قال أبو المعالي لو طرأت
المعصية على السفر فقد نص الشافعي على أن مبتدأ السفر إذا لم يكن معصية لم
تنحسم الرخص بطروّ العصيان. وفي المسألة قول آخر. فلا يستقيم عندنا أن (4)
القطع بالتسوية بين الطارئ والَمَقارن. ومن تافى هذا الاسلوب وفهم تناقض
تحريم الشيء وإباحة الإعانة (5) عليه استبان أن الطارئ (6) في ذلك
كالمقارن، فإن سئلنا عن الرامي نفسه من سطح حتى تنخلع رجله ويصلي قاعدًا
فهل تلزمه إعادة الصلاة؟ قلنا المسألة وأمثالها مختلف فيها، والمختار عندنا
أن القضاء لا يجب لأنه صلّى قاعدًا بعوإنقضاء المعصية. وهذا وإن اقتضى
ظاهره وطرده نفي
__________
(1) هكذا في قل - وفي -و- لا يصح أن يتاوله الأمر مقصودًا.
(2) لما كان يشرب ما أسكره غلا عليه -و-.
(3) فالإمام -و-.
(4) هكذا في -و- وفي قل إلا. ولعل الصواب إذن.
(5) الإعانة المقصود عليه - قل.
(6) استباق الطارئ -و-.
(1/933)
القضاء عن السكران فإن الفرق *أن السكر
مطلوب للمجان وهو مما .. (1).
طرق التخفيف فيه ومعصية المخلوع ليست مما تنسحب الطبيعة عليها بل النفوس
ورعة في الغالب عنها* (2) فإن نظرنا إلى حقيقة الترخص ومعناه المقصود في
الشرع ومن خالفنا نظر إلى صورة السفر وجعله مقتضيًا للترخص وأعرض عن معناه
وحقيقته. ويعترض هؤلاء أيضًا بقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ
غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ} (3). فشرط في جواز أكل الميتة ألا يكون
متجانفًا. وإذا ثبت هذا في الترخص بأكل الميتة قيس عليه بقية رخص السفر.
وقد أشار بعض أصحابنا إلى أنا وإن منعنا القصر فإنا نجيز أكل الميتة ونمنع
أبا حنيفة من قياسه جواز القصر على جواز أكل الميتة بأن الله سبحانه فرض
على الإنسان إحياء نفسه وفرض على العاصي النزوع عن معصيته فيؤمر المسافر ها
هنا بالفرضين جميعًا التربة والأكل. فإن أبى فعل أحدهما والقيام به فلا
يمنعه من القيام بما عليه من الفرض الآخر. فإن لم يتب هذا المسافر وامتنع
من القيام بفرض التربة فلا يمنع من القيام بفرض إحياء النفس كتارك الزنا
شاربًا للخمر فإنه مذموم على ما فعل ممدوح على ما ترك لأجل فعله كما فعل.
وهذا الذي مثل به هؤلاء من الشرب والزنا، فيه نظر. لأنه لم يصِر أحد إلى
تعلق أحدهما بالآخر ولا كونه شرطًا فيه (4). والمانعون من أكل الميتة يرون
التربة من شرط إباحة الأكل. وإذا لم يفعلها مع قدرته على الفعل لم تحصل
الإباحة لفقدان شرطها ويكون ما ركب من المعصية مسقطًا لحُرمة نفسه. كما
يكون زنا المحصن مسقطًا لحرمة نفسمعتى يكون حكمه القتل بالرجم. قال ابن
القصار اْجاز أصحابنا أكل الميتة وهو عندي محتمل لأن عليه إحياء نفسه
فامتناعه من ذلك يوجب دخوله في معصية أعظم من معصية (5) سفره. ونحن نأمره
بالتوبة والأكل فإن لم يتب لم نأمره بمعصية أخرى يصنعها في سفره وهي قتل
نفسه.
__________
(1) هو في -و- وعدم وضوح في قل.
(2) ما بين النجمين هو في -و-.
(3) سورة المائدة، الآية: 3.
(4) ولكنه شرط فيه -و-.
(5) معصية = ساقطة -و-.
(1/934)
فأما قوله تعالى: {غير باغ ولا عاد} (1)
فقيل غير باغ على الإِمام وقيل غير باغ في أكله فوق حاجته، ولم يحملها أحد
من السلف على الجميع فليس لهم حملها على أحدهما إلا ولغيرهم خلافه. ويستدل
أيضًا من منع القصر بأن الطاعة لها تأثير في القصر في مسافة لا يقصر فيها
في غيرها من الأسفار كما قدمناه في قصر الخارج إلى مني وعرفة فيقتضي هذا
كون المعصية مؤثرة حتى تمنع القصر في سفر يجوز فيه القصر لو تجرد عن
المعصية. وأما المبيحون للترخص برخص السفر وإن كان معصية فيحتجون بقوله
تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ
أَيَّامٍ أُخَرَ} (2). فأطلق السفر ولم يقيده بكونه طاعة. وتقييده بعد
إطلاقه في القرآن كالزيادة على النص. والزيادة على النص نسخ عند طائفة من
أهل الأصول. والنسخ لا يكون في مثل هذا بالقياس، والاستدلال. وقد قال
تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ
عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا
اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} (3). فأشار في هذا إلى إباحة أكل الميتة عند
الضرورة ولم يقيد بأن لا يكون المضطر عاصيًا بسفره.
ويتأول هؤلاء قوله تعالى في الميتة *في الآي الآخر* (4): {فمن اضطر غير باغ
ولا عاد}. أن المراد به ألا يطلب الميتة قصدًا إليها ولا ياكلها بحسب
اقتضاء الشهوة بل بحسب اقتضاء الضرورة.
ولا يعدو واجد ما يسد رمقه ولا يبغي فيتجاوز ذلك. ويكون هذا عندهم كالصفة
للأكل في الضرورة لا صفة للمضطر. ألا ترى أنه قال تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ
غَفُورٌ رَحِيمٌ} كفور رحيم}. والمضطر لا يتحمل مع اضطراره ذنب (5) فيغفر
وإنما الغفران في مقابلة ارتكاب المحظور وذلك في الأكل الذي يرتكبه
ويكتسبه. لكن عُذر فيه لأن الضرورة دعته إليه.- وينفصل هؤلاء عما تمثل به
هؤلاء الأولون بأن الرخص علقت *بالسفر للسفر يكون سفرا* (6) لا بنفس الخطى
إذ لا يكون نفس الخطى سفرًا إلا إذا كانت على صفات ولا تأثير للمعصية في
كون السفر سفرًا
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 173.
(2) سورة البقرة، الآية: 184.
(3) سورة الأنعام، الآية: 119.
(4) ساقط من -و-.
(5) هكذا في النسختين والصواب ذنبًا.
(6) هكذا في -و- ولعل الصواب. علقت بالسفر والسفر لا يكون سفرًا بنفس
الخطى.
(1/935)
ولا تعد من الصفات المصيّرة للخطى سفرًا
لأن الخطى وإن كثرت لا تصير سفرًا إلا إذا وقعت على صفة ما وليست من هذه
الصفة كونها طاعة أو معصية. فإذا انفصلت الطاعة أو المعصية عن حقيقة السفر
وكانت الرخص معلقة بالسفر كان العاصي كالمطيع في جواز الترخص. وكذلك الصلاة
في الدار المغصوبة لم يكن الغصب بالصلاة وإن كان موجودًا مع الصلاة فلما لم
يكن الغصب بالصلاة أجزت الصلاة. وكذلك ضرورة الجوع لا تقع بسبب البغي
والعدوان بل بالحلول بالمكان القفر عن الطعام، ولا تأثير للبغي في جعل
المكان قفرًا ولا في إثارة الجوع. وهذا بخلاف زوال العقل بالسكر. لأن السكر
حدث من شربه، وشربه ما يسكره حرام. وكذلك ما قالوه في إقامة صلاة الخوف
*بأن الخوف* (1) إنما لحقه بسبب معصية في سفره لا بسفره؛ لأنه لم يخف
الإِمام لكونه مسافرًا وإنما خافه بنفس معصيته في ذلك السفر (2).
قال القاضي أبو محمَّد رحمة الله: وإذا فرغ من الصلاة مقصورة، ثم عزم على
الإقامة لم تلزمة إعادة وإن عزم على ذلك في الصلاة جعلها نافلة وابتدأها
(3) تامة.
قال الفقيه الإِمام رض الله عنه: يتعلق بهذا الفصل سؤالان: منهما أن يقال:
1 - ما حكم الرجوع عن نية الإقامة إلى السفر؟.
2 - وما حكم الرجوع عن نية السفر إلى الإقامة؟.
فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: أما المقيم بوطنه فقد ذكرنا أنه لا يبطل
حكم الإقامة بمجرد نية السفر. وقد ذكرنا اختلاف الناس في ذلك وسبب
اختلافهم. وأما إذا كانت الإقامة ليست في موضع الاستيطان كمسافر من بمدينة،
في أثناء سفره نوى أن يقيم بها مدة الإتمام، ثم انثنى رأيه عن الإقامة
__________
(1) ساقط من -و-.
(2) ما جاء من التمثيل بصلاة الخوف - غامض.
(3) وأعادها -و-.
(1/936)
وعزم على السفر بعد أن بلغ تلك المدة أو لم
يبلغها. فقد اختلف المذهب فيه. فرأى ابن حبيب أنه ينتقل إلى حكم القصر
برجوعه إلى نية السفر ويستأنف القصر حينئذ. ورأى سحنون أنه لا يقصر حتى
يظعن من موضعه.
فوجه قول ابن حبيب أنه كان على حكم السفر وإنما رجع عنه بنية المقام، فإذا
نوى المسافر السفر رجع بمجرد النية إلى حكم الأصل، وتكون النية عاملة
بمجردها في غير موضع الاستيطان، وإنما تفتقر إلى مقارنة العمل في موضع
الاستيطان.
ووجه ما قاله سحنون القياس على نية السفر في القرار والوطن. وعلى هذا يجري
الأمر فيمن نوى دخول وطنه في أثناء سفره ثم انثنى رأيه عن دخوله، فهل يكون
حكمه القصر في موضع تبدل نيته أو حين (1) يرحل عنه، فإنه جار على الاختلاف
الذي ذكرناه إذا كان في ذلك المنهل على حكم المقيم ثم تبدلت نيته.
والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: إذا نوى المسافر في أثناء صلاته
الإقامة، فإن كان لم يعقد ركعة فيستحب أن يجعلها نافلة، فإن لم يفعل وتمادى
على إحرامه وصلّى أربعأ أجزته صلاته قاله مالك. وقد ذكر ابن حبيب أنه
يتمادى على إحرامه فيصلي أربعاً. وكأنه رأى أن نية السفر والحضر لا تختلف
بدلالة صحة صلاة المقيم خلف المسافر. وإذا لم تختلف، وكان الاختلاف في
العدد لا يؤثر، بني على إحرامه. وإن كان قد عقد ركعة فقال مالك في المدونة
يشفعها بأخرى ويسلم وتكون نافلة. وذكر ابن حبيب أنه تجزيه صلاته إذا أضاف
إليها أخرى، وكأنه رأى أن بعقد ركعة صارت صلاة السفر حاصلة لا تؤثر في
حكمها النية. وقالت الشافعية: إذا نوى الإقامة في أثناء الصلاة انقطع سفره
ولزمه الإتمام ولزم من خلفه متابعته (2) وكانهم رأوا أنها صلاة واحدة لا
تختلف إلا من جهة العدد، فيصح إكمال الأربع بعد الافتتاح على اثنتين. ولو
كان ناوي الإقامة بعد ركعة عقدها وقد يضيق الوقت كمسافر نسي العصر حتى بقي
من
__________
(1) حتى -و-.
(2) ساقطة -و-.
(1/937)
النهار مقدار ركعة فصلى الركعة وغربت الشمس
فنوى الإقامة حينئذ. فإن صلاته تبطل على الطريقة التي قدمناها في تأثير
النية بعد ركعة. واختلف هل يصليها حضرية أو سفرية. وقد تقدمت الإشارة إلى
أصل هذا الاختلاف لما تكلمنا على الأوقات الضرورية. وذكرنا حكم من حاضت بعد
الغروب وهي في أثناء صلاة العصر. ولو كان المسافر نوى الإقامة بعد أن فرغ
من صلاته ففي المدونة ليست الإعادة عليه بواجبة وإن أعاد فحسن، وأحب إلى أن
يعيد. قال لي شيخي رحمه الله: استحباب الإعادة ها هنا مع أن الصلاة تصرمت
على الوجه المأمور به. لا أعلم له وجهاً، إلا أن يكون تحسسٌ إلى طريقة من
قال إن الوجوب إنما يتحقق بآخر الوقت. إلى هذا المعنى كنت أراه يشير رحمه
الله وهو مما يفتقر تحقيق القول فيه إلى الاطلاع على مذهب القائلين بأن
الوجوب يتعلق بآخر الوقت. وقد كنا قدمنا فيه قولاً مقنعًا في الأوقات (1).
__________
(1) في الكلام على الأوقات - قل.
(1/938)
|