قال الشيخ أبو الحسن القابسي: ما علمت
أحداً ذكر عن مالك عددًا حده تقوم به الجمعة إلا ابن حبيب فإنه قال
الثلاثون وما قاربهم عندي جماعة.
كذلك روى مطرف وابن الماجشون عن مالك. فأنت ترى هذه الرواية كيف اتفقت
على أنا لا نشترط فيها المصر كما اشترطه أبو حنيفة وإن كان قد قال يحيى
بن عمر الذي اجتمع عليه مالك وأصحابه: أن الجمعة لا تقام إلا بثلاثة:
المصر والجماعة. والإمام الذي تخاف مخالفته، قال: وأتى قوم عمرو بن
العاص فسألوه أن يأذن لهم في الجمعة فقال: هيهات لا يقيم الجمعة إلا من
أخذ بالديون وأقام الحدود وأعطى الحقوق. فمتى عدم شيء من هؤلاء لم تكن
جمعة. فإن كان أراد بالمصر مراد أبي حنيفة فليس الأمر كما قال من
اجتماع مالك وأصحابه على اعتباره. بل وأريناك أن مالكًا وأصحابه قائلون
بخلاف ذلك، وأنهم يعتبرون في القرار شرطًا ما، وذكرنا إشارتهم إلى
مراعاة ما يمكن الثواء معه. وقد قال عمر بق العزيز إذا كانت قرية عليها
أمير جمع بها. وقال مكحول إذا كانت قرية فيها جماعة صلوا الجمعة. وقال
أبو ثور الجمعة كسائر الصلوات إلا أن فيها خطبة. وإذا حضر الإِمام وخطب
أقيمت الجمعة. فأما أبو ثور هذا فالرد عليه ما قدمناه من اعتبار الشبه
بالموضع الذي أقيمت فيه في الأصل، وأنها ليست كسائر الصلوات كما قال.
وأما اعتبار عمر بن عبد العزيز الأمير، واعتبار مكحول الجماعة فإن مجرد
كل واحد من هذين الوصفين لا تقع به المشابهة بموضع إقامتها في الأصل،
فلهذا لم نعتبره. ومهما اتضح بُعْدُ المشابهة فإنا لا نقيم الجمعة. وقد
سئل محمَّد بن سحنون عن القرى التي أحدثت فيها المنابر فأنكر ذلك، وقال
ومن يجمّع فلا يعيد للاختلاف في ذلك.
ولو كان ذلك واجبًا على أهل هذه القرى لأقامها سحنون إذ وُلي. كما
أقامها لأهل قلشانة وسوسة وصفاقس فما أجاز ذلك فيها إلا زحفًا (1).
وأنكر ابن سحنون إقامة ابن أبي طالب لها بأولج وفرفورة. وأشار ابن
سحنون إلى أتى الأصل الظهر فلا ينتقل عن الأصل إلا عند تحقق الشبه
بموضع إقامتها الأصلي.
وقد ذكر عن سحنون أنه لم ير الجمعة على أهل حصن المنستير ولكن لم يكن
__________
(1) هكذا ومعناها غير واضح.
(1/949)
في أيامه غير حصن هرثمة (1) وهو المعروف
الآن عندنا بالقصر الكبير. وقد اضطرب العلماء في الشبه. إذا حصل من
ناحية القرار ولم يحصل من ناحية الصور والأشكال، فقال مالك في سماع ابن
وهب. وقد سئل عن الحصون التي على السواحل: إنما هي على أهل القرى فإن
كانوا أهل قرية جمّعوا. وأما غير أهك القرية فلا أدري. وقال ابن وهب في
قوم على الساحل مقيمين الرباط وليسوا في حصن ولا قرية وهم فيها جماعة
إن كانوا بموضع إقامة فلهم أن يجمعوا. وقال زيد بن بشير إذا كان الحصين
على أكثر من فرسخ وفيه خمسون رجلًا فأكثر جمّعوا.
وقال مالك في أهل الخصوص وهم جماعة واتصال الخصوص كاتصال البيوت: أنهم
يجفعون الجمعة، وإن لم يكن لهم وال. ولم يقل إذا كان لهم مسجد. وسنتكلم
على أحكام المسجد. وقال مالك في العتيبة ليس على أهل العمود جمعة وكأنه
رآهم ليسوا بمكان قرار. وقال بعض أشياخي: واختلف في أهل الخصوص والقرى
التي ليست شبيهة بالمدن.
واختلف قول الشافعي في أهل الخيام إذا كانوا مستوطنين لا ينتجعون الخصب
على قولين. أحدهما: تجب عليهم الجمعة لأنها موضع إقامة واستيطان.
والثاني لا تجب عليهم لأنها ليست بأبنية.
فأنت ترى هذا الاضطراب وحصول الشبه من ناحية القرار وفقده من ناحية
الأبنية المشتبهة بالموضع الأصلي. وقد قدمنا تردد (2) بعض المتأخرين
القول في فقدان الشبه من ناحية نية الإقامة المؤبدة. وقد قال مالك في
قرية أو ثغر يرابط فيه قوم ستة أشهر، فإن كان فيها بيوت متصلة وسوق
فليجمع أهلها، وإلا فلا.
وأشار ها هنا إلى ترك اعتبار الاستيطان المؤبد وهو يضاهي ما نحن فيه من
فقدان الشبه من جانب وحصوله من جانب. وإن كان هذا أحق بالشبه من ذلك،
لحصوله الآن من كل الجهات. وما يحدث من الرحلة فقد لا يؤئر في حصول
الشبه الآن. فإذا وضح مذهبنا في صفة المكان الذي تقام فيه الجمعة أن
الاعتبار
__________
(1) قصر هرشمة -و-.
(2) وقد قدمنا ترديد - قل.
(1/950)
بالشبه بالموضع الأصلي في إقامة الجمعة،
فاعلم أن أبا ثور قد أفرط (1) لما قال إنها كسائر الصلوات على حسب ما
قدمنا حكايته عنه. كما أن أبا حنيفة أفرط إذ لم يقمها إلا في الأمصار
كما حكيناه عنه. فأما أبو ثور فإنا قدمنا الإشارة إلى الرد عليه وعلى
من قرب (2) طريقته بما ذكرناه من أن الأصل صلاة الظهر، وأن الجمعة صلاة
شرعت وخصت بشرائط وأوصاف بخلاف غيرها من الصلوات فوجب ألا تقام إلا حيث
يتحقق وجود تلك الشروط والأوصاف.
وأيضًا فقد قال تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا
الْبَيْعَ} (3). وهذه إشارة إلى إقامتها بموضع يمكن فيه التبايع وهذا
لا يكون إلا في المواضع التي أشار مذهبنا إليها. وأما أبو حنيفة فإنا
نستدل عليه بقوله تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا
الْبَيْعَ}. وهذا خطاب يتناول القرى التي أشرنا إليها كما يتناول
الأمصار التي حُمل الخطاب عليها. وأيضًا فقد قال ابن عباس: إن أول جمعة
جُمّعت بعد جمعة بالمدينة لجمعة جمعت بجؤاثى من البحرين من قرى عبد
القيس. فإذا ثبت الجمع بجؤاثى ولم ينقل أن النبي - صلى الله عليه وسلم
- *أنكره والأظهر ظهر أنه يتصل به دل ذلك على صحة ما قلناه* (4). وأما
أبو حنيفة فإنه يستدل بقوله - صلى الله عليه وسلم -: لا جمعة ولا تشرين
إلا في مصر جامع (5). وقد أجيب عن هذا بأنه موقوف على علي ابن أبي طالب
رضي الله عنه. وأيضًا فإنه مرسل فإن الأعمش رواه عن سعيد ولم يصله.
وأيضًا فإن كل قرية هي قرار، لأهلها مصر، كما أن كل مصر قرية *كلا وقد
سمى الله مصر قرية* (6) لقوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي
كُنَّا فِيهَا} (7).
وتسمى مكة أم القرى. وليس على العرف الآن: على ترك تسمية القرية مصرًا
__________
(1) فرق -و- ولعل الصواب فرط.
(2) قويت -و-.
(3) سورة الجمعة، الآية: 9.
(4) ما بين النجمين هو -و-.
(5) رواه عبد الرزاق في مصنفه موقوفًا على علي كرم الله وجهه ولم يثبت
رفعه. نصب الراية ج 2 ص 195.
(6) ما بين النجمين = ساقط من -و-.
(7) سورة يوسف، الآية: 82.
(1/951)
يوجب كون ذلك هو (1) عرف العرب أو لسانهم.
ويستدل أبو حنيفة أيضًا بأن الصحابة فتحوا البلدان والقرى ولم
يشتغلوابنصب المنابر في القرى ولا أمروا بإقامة الجمعات فيها، ولو كانت
واجبة لما أعرضوا عنها وهي من أظهر شعار (2) الإِسلام. ولأن السلطان
شرط في إقامتها. ومقام السلطان في الأمصار على غالب العادات ولأن أمر
الجمعة مبني على العموم. ولهذا لا يحل لأحد من أهلها أن يتخلف عنها،
ولا أن تقام الجماعات حتى (3) تصلى الجمعة. وهذا يشعر بأنها من شعار
(2) الإِسلام العامة. فلهذا لا تقام بكل مكان كسائر الصلوات. وإذا كان
هذا هكذا وجب أن تخص بمكان جامع للعامة ليتحقق معنى. الشعار للعموم
بذلك الاختصاص. وهذا لا يحصل إلا في الأمصار الجامعة. والذي قدمناه من
الجمع بجؤاثى يرد هذا الذي قاله. وأما ما أشرنا إليه من الاختلاف فيما
كان فيه جماعة استقروا وفقد الشبه من ناحية الأبنية. فإن ما قدمناه من
الإشارة يطلع منها على سبب الاختلاف. وأيضًا فإن قبائل العرب كانت حول
المدينة ولم ينقل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرهم بإقامة
الجمعة. وهذا فيه أيضًا رد لمذهب أبي ثور ويرده أيضًا أن النبي - صلى
الله عليه وسلم - وقف بعرفة، وكان يوم جمعة، ولم يجمّع. وتعلقه بأن عمر
كتب إلى أبي هريرة رضي الله عنهما أن جمّعوا حيث كنتم.
محمله على المواضع التي تقام فيها الجمعة بدليل ما ذكرناه من الأدلة
المتقدمة.
والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: قد قدمنا مخالفة أبي حنيفة في
إقامة الجمعة في القرى وقصره إقامتها على الأمصار. وذكرنا سبب الخلاف
بيننا وبينه في ذلك. ولما علم القاضي أبو محمَّد مخالفته في ذلك نبه
بهاتين اللفظتين على خلافه لنا. وإن كان قوله وأنها تقام في كل قرار
يمكن الثواء فيه يغني عن هذا التنبيه على أن البلد مساو للقرية. ولكنه
ذكره تصريحًا وإن كان قدمه تلويحًا لينبه به على اختلاف الناس في هذه
المسألة وهذا لحذقه بالتأليف واطلاعه على المقالات.
__________
(1) يوجب كون البلد ذلك هذا هو عرف العرب -و-.
(2) شرائع - قل.
(3) حيث -و-.
(1/952)
قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: وشروط
أدائها ستة: الإِسلام وما يعتبر في (1) سائر الصلوات من الطهارة والستر
وإمام، وجماعة (2).
قال الفقيه الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل سؤالان. منهما أن
يقال:
1 - لِمَ فرَّق بين هذه الشروط والشروط الستة المتقدمة؟.
2 - وما أوصاف الإِمام الذي تصح إمامته في الجمعة؟.
فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: إنما فصل بين الشروط لأن وجوب الفعل
غير أدائه. وهذه عبارة يستعملها الفقهاء للتفرقة بين معاني الشروط. فقد
يكون الشيء لا تتوجه (3) العبادة على المكلف إلا بحصوله فيسمونه شرطًا
في الوجوب. وقد تجب العبادة ولكن يشترط في صحة فعلها ووقوعها موقع (4)
الأجزاء حصول معنى يسمون ذلك المعنى شرطًا في الأداء. وقد كنا قدمنا في
كتاب الطهارة شيئًا من هذا المعنى لما ذكرنا اختلاف المذهب فيمن لم يجد
(5) ماء ولا ترابًا في جميع وقت الصلاة هل عليه قضاء الصلاة بعد خروجها
أم لا؟ وقلنا من رأى أن الطهارة شرط في وجوب الصلاة، فإنه لا يوجب
القضاء، لأن الصلاة لم تجب بفقدان شرط الوجوب. ومن يراها شرطًا في
الأداء فقد يوجب القضاء، لكون الوجوب قد حصل والفعل لم يمتثل. وهكذا
الأمر ها هنا لمّا كان البلوغ والعقل والذكررية والحرية والإقامة شرائط
في وجوب صلاة الجمعة ميّزها القاضي أبو محمَّد عن الشرائط الأخرى التي
هي شرط في الأداء في حق من وجبت عليه الجمعة. ولا خفاء أن العقل إنما
اشترط (6) ليفهم الخطاب.
__________
(1) به -و- قل.
(2) جماعة = ساقطة -و- قل.
(3) توجيه- قل.
(4) وقوعها بصفة الأجزاء -و-.
(5) لا يجد -و-.
(6) يشترط.
(1/953)
والوجوب إنما يتصور بعد فهم الخطاب. فوجب
عنه من شرائط الوجوب. كما لا خفاء أيضًا في أن أهل المدينة التي بها
الجامع إذا خوطبوا بالجمعة وقيل لهم إنما يقع موقع الصحة إذا أوقعتموها
في الجامع. وأن إيقاعها في الجامع من شروط الأداء، لأن الوجوب قد تحقق.
وإنما أمر المكلف أن يوقع الفعل على صفة دون صفة، والصفة الموقع عليها
الفعل مما يكتسبه، فيجب عليه تحصيله.
وكثير من شرائط الوجوب لا يجب تحصيلها. وقد تكلم أهل أصول الفقه على
أحكام الشروط وما يجب أن يحصل منها، وما لا يجب بما ليس هذا موضع بسط
قولهم فيه. وقد عذ القاضي أبو محمَّد ها هنا الإِسلام في شروط الأداء.
وهذا إنما يتجه إذا قال إن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، وهو مذهب
حذاق الأئمة. وإن قال إنّهم غير مخاطبين بفروع الشريعة لم يحسن علّه
للإسلام من شرائط الأداء. وقد أكثر المؤلفون في شرائط الجمعة. واختلفوا
في عدد الشروط اختلافًا لا فائدة في نقله *لأن المطلع على التفصيل فروع
هذا الباب يعلم يعلم حقائق شروطه* (1) وإنما نبهناك من كلامه في هذه
الشروط على ما يمكن أن يخفى على من لم يطالع علم الأصول.
والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: قد ثبت أن صلاة الجمعة من شرطها
الجماعة. والجماعة لا بدّ لها (2) من جامع وهو الإِمام، فهل من شرط
الموضع الذي تقام فيه الجمعة أن يكون فيه إمام سلطنة أم لا؟ عندنا وعند
الشافعي أنه ليس بشرط. وعند الحسن وأبي حنيفة والأوزاعي هو شرط. وقد
قدمنا قول يحيى بن عمر الذي اجتمع عليه قول (3) مالك وأصحابه أن الجمعة
لا تقام إلا بثلاثة: العصر والجماعة والإمام الذي تُخاف مخالفته. فقوله
الذي تخاف مخالفته كالإشارة إلى مذهب أبي حنيفة لا سيما وقد قدمنا ما
حكاه عن عمرو بن العاصي. وقال ابن مسلمة: من صلى بقوم صلاة في مسجد أو
غيره أجزأتهم، إلا أن تكون الجمعة فإنه لا يصليها إلا بسلطان أو مأمور
أو رجل
__________
(1) ما بين الجمين = ساقط -و-.
(2) منها -و-.
(3) قول = ساقطة -و-.
(1/954)
مجتمع عليه، حتى يختص بوصف لا ينبغي أن
يصلي الجمعة إلا أحد هؤلاء.
وهذه إشارة منه إلى أنه وإن لم يشترط السلطنة فيشترط كون الرجل مجتمعًا
(1) عليه حتى يختص بوصف، بخلاف غيره من الأيمة.
وإذا قلنا بمنع اشتراط إمام السلطنة فقد قال مالك إذا منع الناس
الإمامُ من إقامتها وقدروا على إقامتها فعلوا. وفزق أشهب بين أن يمنعهم
أو يكون ممن لا يمنع فصلوها بغير أمره. وفي قول أشهب إشكال أقي
الطريقتين سلك؟ وأشار بعض أشياخي إلى أن المذهب لا يختلف في أن الأمير
إذا حدث عليه وقد شرع في صلاة الجمعة ما نقض طهارته فذهب ولم يستخلف أن
القوم يستخلفون، (2) لأن هذه ضرورة. فدليلنا على إسقاط اشتراط إمامة
السلطنة مقيمًا لها أو اَذنًا فيها: قول الله تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى
ذِكْرِ اللَّهِ} (3). ولم يشترط إمام سلطنة.
وورود الشرع باشتراط أمور لم تتضمنها الآية، لا يجعل الآية مجملة لا
يحتج بها بل يكون ذلك كالتخصيص. وأيضًا فإن عليًّا رضي الله عنه أقام
صلاة العيد بالمدينة وعثمان محصور ولم ينكر عليه أحد. والاختلاف في
اشتراط إمامة السلطنة في صلاة العيد كالاختلاف في اشتراطه في صلاة
الجمعة. وقياسًا أيضًا على سائر الصلوات فإنه لا يشترط فيها السلطان
ولا إذنه. وقد استدل أصحابنا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: سيليكم
أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها *فصلوا الصلاة في بيوتكم في وقتها
واجعلوا صلاتكم معهم نافلة (4). والأظهر أن المراد بهذا صلاة الجمعة
لأن ما سواها لا تحضره الأئمة في الغالب* (5). وقد أجيبوا عن هذا بأنه
أمر بإقامتها في البيوت. والجمعة لا تقام في البيوت ولم يُرد - صلى
الله عليه وسلم - أنهم يؤخرونها حتى يخرج الوقت المختار ولا عذر لهم ني
ذلك فيفسقوا فتكره الصلاة وراءهم فتصلّى الظهر في البيوت ثم تصلى
الجمعة معهم. ولم يُرد - صلى الله عليه وسلم - أن الجمعة تكون
__________
(1) مجمعًا -و-.
(2) أن للقوم أن يستخلفوا - قل.
(3) سورة الجمعة، الآية: 9.
(4) أخرجه أحمد وأبو داود: بلوغ الأماني ج 2 ص 288 ومختصر المندري ج 1
ص 248 - 249
(5) ما بين النجمين ساقط -و-.
(1/955)
تطوعًا عند الله تعالى بل تكون هي الواجبة.
وقيل أيضًا في صلاة علي رضي الله عنه أنها يمكن أن تكون عن إذن عثمان
رضي الله عنه بل هو الظاهر. ويحتمل أن يكون صار عثمان كالمعزول بزوال
قدرته فأقام الصلاة علي بإذن الناس ورضاهم حتى صار بذلك كالإمام لهم.
وقيل أيضًا: لا يصح القياس على سائر الصلوات، لأن سائر الصلوات لا
يشترط فيها الإِمام فلا يمكن تعرّف صفة الإِمام المشترط من صلاة لا
إمام فيها يشترط، بل يجب التعرّف من الطريق الذي اشترط الإِمام لأجله.
فإن أصل الإِمام إنما اشترط لتحقيق الشهرة بالحماعة، فصح أن يشترط صفة
السلطنة *لأن الجمع الكبير لا يصح إلا بسلطان. ولهذا لم يكتف باشتراط
الحرية. لأن اشتراط صفة السلطنة* (1) اشتراط صفة تناسب المعنى المراد
من الموصوف.
وأما أبو حنيفة فإنه يحتج على إقامة السلطان أو إذن السلطان بأن
الصحابة فتحوا البلدان ولم يصنعوا (2) المنابر إلا بمواضع فيها
السلطان. وأيضًا فإن الجمعة من الأمور العامة، وما يتعلق بعموم الناس
كان السلطان فيه شرطاً. وتكون الولاية إليه دون غيره، كالحد الذي يرجع
صلاحه إلى عموم الناس وأخذ الزكاة التي هي حق (3) لعامة الفقراء، وكذلك
سائر أمور العامة. وهذا لأن العامة إذا اجتمعت وكثرت لم تصلح إلا بسائس
يسوسها وليس إلا السلطان الذي له القهر بالسيف. والحجة لا تقهر العامة.
وأيضاً فإنه قد استمر الأمر على إقامة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
والخلفاء بعده والأئمة في سائر الأمصار على مرور الأعصار.
وأجيب عن هذا بأن هذا اتفاق، لأن الجمعة واجبة على الجميع. فحضور من
ذكر فيها لوجوبها عليه لا لكونه شرطًا في إقامتها. ألا ترى أن الحج
إقامته للأئمة، ولم يزل (4) ذلك على اشتراطهم فيه. فأما الصفة الثانية
بأن تشترط عدالة الإِمام فقد قدمنا في اشتراط العدالة في أئمة الصلوات
على الجملة فيما تقدم من
__________
(1) ما بين النجمين ساقط -و-.
(2) يمنعوا في جميع النسخ. ولعله يضعوا.
(3) حق = ساقطة -و-.
(4) هكذا في جميع النسخ. ولعل الصواب ولم يدل ذلك.
(1/956)
كتابنا هذا ما فيه كفاية. قال ابن حبيب:
وتصلَّى الجمعة خلف الإِمام الجائر الفاسق بلغ فسقه وجوره ما بلغ.
وكأنه رأى أن الإمامة وإن كان قد اشترط في صلاة الجمعة ما لم تشترط في
غيرها فكانت في الجمعة آكد متى لم تصل وراء الإِمام الجائر أدى إلى
الخروج عليه أو إثارة فتنة. فلهذا أباحه في الجمعة دون غيرها وإن كان
القياس أن يكون اعتبار العدالة في الجمعة آكد لاشتراط الإِمام فيها
*واشتراط صفات فيه* (1) لا تشترط في غير الجمعة من الصلوات. وقال
القاضي أبو محمَّد القياس يقتضي ألا تصح إمامة الفاسق ولم يخص جمعة من
غيرها.
ومن صفات الإِمام أن يكون ذكرًا لأن المرأة لا تؤم في غير الجمعة، ففي
الجمعة أولى أن لا تؤم. وليس اجتزاؤها بصلاة الجمعة إذا صلتها مأمومة *
بالمصحح لإمامتها فيها* (2) لأنها ليست من أهل الإمامة. وأيضاً فإن هذه
الصلاة ليست واجبة عليها.
ومن صفات الإِمام أن يكون حرًا فلا يؤم العبد في صلاة الجمعة. فإن أم
بهم أعاد وأعادوا وإن خرج الوقت. وقال أشهب بصحة إمامة العبد فيها،
واعتل بأنها تجزيه مأمومًا وتصير فرضه بشهودها. والشافعي يجيز إمامة
العبد في الجمعة إذا كان زائدًا على أربعين. وأبو حنيفة أيضًا يجيز
إمامته.
فيحتج من منع إمامته بأنه سقط عنه فرضها لنقصه فلا يمكن أن يؤم فيها،
مع إشعار الشرع بنقصه، كما لا تؤم المرأة. وليس كون العبد يؤم فيما
سواها من الصلوات والمرأة لا تؤم أصلًا بما يمنع قياسه عليها
لاشتراكهما في النقص على الجملة الذي هو سبب سقوط فرض، الجمعة. وأما من
يجيز إمامته فيحتج بقوله - صلى الله عليه وسلم -: اسمعوا وأطيعوا وإن
أمر عليكم عبد حبشي أجدع ما أقام فيكم الصلاة (3). وقد ذكرنا حجة (4)
أشهب وإشارته أنها ساقطة لحق السيد، فإذا
__________
(1) هو -و-.
(2) هو -و-.
(3) رواه البخاري وأحمد وابن ماجة عن أنس بن مالك ورواه مسلم من حديث
أم الحصين. فتح القدير ج 1ص 513
(4) قول -و-.
(1/957)
أسقط السيد حقه وجت. وقد ذكرنا ما حكاه ابن
القصار من اختلاف أصحابنا في كونها مفروضة على العبد في الأصل، وإنما
يسقطها حق السيد. وذلك الخلاف مما ينبني عليه الخلاف في إمامته.
ومن صفته أن يكون مقيمًا ليس بمسافر. فإن قلنا بما قاله ابن الماجشون
في ثُمانية (1). أبي زيد أنها لا تجزي المسافر إذا كان مأمومًا. وإن
كان فرضه ركعتين لأنه صلاها على نية الجمعة فالمنع من إمامته فيها
أولى، لأن المرأة تجزيها مأمومة ولا يصح أن تكون إمامًا فيها.
وإن قلنا بقول مالك والمعروف من المذهب أنها تجزي المسافر إذا صلاها
مأمومًا قياسًا على المرأة التي تجزيها، وإن كانت غير واجبة عليها
وفرضها في الأصل أربع. فهل تصح إمامة المسافر فيها؟ اختلف في ذلك فقال
مالك في العتبية: إذا أحدث الإِمام فاستخلف المسافر لم تجزهم ويعيدون
الخطبة والصلاة ما لم يذهب الوقت. فإن ذهب الوقت أعادوا ظهرًا أربعًا.
وقال ابن القاسم لا تجزيهم وإن استخلف بعد ركعة. وقال أشهب وسحنون
تجزيهم إذا أم بهم ابتداء أو مستخلفًا. وقال مطرف وابن الماجشون تجزيهم
إذا أم بهم مستخلفًا ولا تجزيهم إذا أم بهم مبتدئًا. فكانه في القول
الأول لما رآها غير واجبة عليه لم تصح إمامته فيها كالمرأة وأمِر هو
بالإعادة (2) أبدًا لأنه جهر فيها.
وكأنه عند أشهب لما حضرها صار من أهلها. وقد قدمنا حجته في ذلك. وكأنه
عند مطرف وابن الماجشون إذا عقد إلإحرام مع الإِمام لزمه حكم الجمعة
وصار تمامها فرضًا عليه، فصحت إمامته فيها (3). وإذا لم يحرم معه فإنها
لا تنعقد عليه فلا تصح إمامته فيها. وقال مالك في الإِمام المسافر: إذا
مر بقرية يجمّع أهلها فجمع بهم أن الصلاة صحيحة. وعلل أبو الوليد
الباجي هذا بأن واليها مستوطن فالجمعة واجبة عليه. فإذا وجبت عليه وجبت
على المستنيب له وهو الإِمام.
وأشار إلى أن الفرق بين صلاة الجمعة وقصر الإِمام الصلاة أنه لا يصح أن
يصلي
__________
(1) رواية - قل.
(2) وأمره بالأعادة فيها - قل.
(3) فيها = ساقطة -و-.
(1/958)
من فرضه أربعًا خلف من يصلي الجمعة. ويصح
أن يصلي المُتِمّ وراء المقصر.
فكان أبا الوليد لما رأى اختلاف الفرض من ناحية العدد لا يمنع الاقتداء
لم ينقل الإِمام عن حكم القصر (1) لصحة الاقتداء به وهو قاصر. ولما كان
لا يصح الاقتداء به وفي إيجاب الجمعة عليه نظر وليس في نص الرواية ما
يدل على وجوب ذلك وإنما نص المدونة قال مالك: في الأمير المؤمر على بلد
من البلدان يخرج في عمله مسافرًا أنه إن مرّ بقرية من قراه (2) تجمع في
مثلها الجمعة *جمع بهم الجمعة وكذلك إن من بمدينة من المدائن في عمله
جمع بهم الجمعة* (3). ثم قال: وإنما كان للإمام أن يجمع في القرى التي
تجمع الجمعةْ في مثلها إذا كان في عمله وإن كان مسافرًا، لأنه إمامهم.
فيحتمل أن يكون قوله: جمع بهم الجمعة إن اختار صلاتها. ويكون إذا اختار
ذلك لأولى بالإمامة. وقد قال أبو الوليد: المستحب أن يصلي بهم الإِمام
دون الوالي فإن صلّى الوالي جازت الصلاة. وقال غيره معتلًا لما في
المدونة أن الإِمام إذا وافق الجمعة لم ينبغ له أن يصليها خلف عامله.
وقد جمّع عمر رضي الله عنه الجمعة بأهل مكة وهو مسافر. فأنت ترى
المدونة ليس فيها نص صريح بالإيجاب. بل قوله في المدونة: وإنما كان
للأمام أن يجمّع، ظاهره ما قلناه من نفي الإيجاب.
لأن قول القائل لزيد أن يفعل كذا، ليس بنص في الإيجاب. وإنما لفظ
الإيجاب أن يقول: عليه أن يفعل كذا. فلو أراد مالك الإيجاب لقال: وإنما
كان على الإِمام أن يجمّع. وهكذا أورد مالك المسألة في موطئه بلفظ ليس
بصريح في الإيجاب أيضًا. وإنما يتضح الإيجاب لو كان المكان قد صار
بحلول الإِمام فيه وطنًا له، ولكنه لو صار كذلك لأتم الصلاة. ولما أحس
أبو الوليد الباجي بالمناقضة بالقصر أشار إلى الفرق الذي ذكرناه عنه.
وبالجملة فإن في إيجاب الجمعة على هذا الإِمام نظر عندي.
وأما لو كانت هذه القرية مما لا يجمع فيها فجمّع الإِمام بهم لما حلّ
فيها
__________
(1) القصر = ساقطة -و-.
(2) قرى - قل.
(3) ما بين النجمين = ساقط -و-.
(1/959)
فإن المذهب اختلف في ذلك. ففي المدونة لا
تصح صلاة الإِمام ولا من خلفه، وأشار الأبهري إلى أن ذلك لأجل جهره
تعمدًا فيما يسر فيه. وإن القول باجزاء الإِمام صلاته، إنما ذلك لأنه
فعل ذلك على جهة التأويل. ويمكن عندي * (1) أن يكون الإجزاء لأنه إنما
غير بجهره سنة، وترك السنن عمدًا لا يفسد الصلاة في إحدى الطريقتين.
وإن كان التارك غير متأول فإذا قلنا بأحد قولي مالك أن الصلاة تجزي
الإِمام فقد قال مالك إن أتم أهل القرية صلاتهم أجزأتهم. وهكذا قال ابن
القاسم ليصلوا على إثرها ركعتين، وهكذا قال ابن نافع تجزي الإِمام ومن
معه من المسافرين. وأما أهل القرية فيتمون ركعتين وتجزيهم. ومن صفات
الإِمام أن يكون بالغًا وقدمنا في باب الإمامة الدليل على اشتراط
البلوغ.
وأشرنا إلى ما قيل من الاختلاف في صلاة الصبي بالبالغين في غير صلاة
الجمعة وصلاة الجمعة آكد مما كنا تكلمنا فيه. لأن الإِمام شرط في
صحتها، وما أشرنا إلى ذكر الاختلاف فيه ليس الإِمام شرطًا في صحته.
قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: وجماعة ولا حد لهذه الجماعة إلا أن
يكون (2) عددًا تتقرى به قرية.
قال الفقيه الأمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل أربعة أسئلة. منها
أن يقال:
1 - لِمَ اعتبرت الجماعة في صلاة الجمعة؟.
2 - وما مقدار الجماعة؟.
3 - وما صفتها؟.
4 - وهل تعتبر في جملة (3) الصلاة؟.
فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: قد قدمنا أن صلاة (4) الجمعة
__________
(1) ما بين النجمين هو -و-.
قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: لم أتبين موضع النجمة الأخرى
(2) في نسخة الغاني: إلا أن يكونوا عددًا تتقرى بهم.
(3) في صفة - قل.
(4) صلاة = ساقطة -و-.
(1/960)
أقيمت على صفات قُصد بتلك الصفات التي خصت
بها الجمعة المباهاة وإظهار (1) معالم الشرع، وإذا كان الأمر كذلك ظهرت
فائدة تخصيص الشرع لهذه الصلاة باشتراط الجماعة، إذ الواحد الفذ لا
تحصل به المباهاة والإظهار (2). فلو صح أن يقيمها الواحد الفذ بنفسه
لبطل المعنى المقصود بها.
وهذا واضح في معنى اشتراط الشرع الجماعة فيها. ولهذا المعنى (3) خصت
بالجهر دون صلوات النهار. لأن الجهر آكد في الإظهار والإشاعة والإسرار
ضرب من الإخفاء، والإخفاء ينافي الموضوع الذي قصد بها.
والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: اختلف الناس في عدد الجماعة التي
تنعقد بهم الجمعة، هل هو محدود أم لا؟ والمشهور عندنا أنه ليس بمحدود
وإنما المعتبر ما أشار إليه القاضي أبو محمَّد من كونهم عددًا تتقرى
بهم قرية. وقيل إن الجماعة محدودة، واختلف الحادّون فيها. فذكر ابن
حبيب عن مالك أن الثلاثين بيتًا وما قاربهم جماعة. قال ابن حبيب وهو
مثل قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: إذا اجتمع ثلاثون بيتًا (4).
والبيت مسكن الرجل الواحد. وفي مختصر ابن شعبان إذا كانت قرية فيها
خمسون رجلًا ومسجد يجمّعون فيه الصلوات (5) فلا بأس أن يجمّعوا صلاة
الخسوف. وهذا يتخرج منه مراعاة هذا العدد في الجمعة، لأن الجمعة أحق
باشتراط الجماعة، وباعتبار هذا العدد قال عمر بن عبد العزيز، وقال زيد
بن بشر في حصن بينه وبين موضع الجمعة أكثر من فرسخ إن كان فيه خمسون
رجلًا فأكثر فليكلموا الوالي ليأمر من يخطب بهم ويجمّع. قال الشيخ أبو
الحسن بن القابسي: ما علمت أحدًا ذكر عن مالك عددًا حدّه تقوم به
الجمعة إلا ابن حبيب، فإنه قال الثلاثون وما قاربهم عندي جماعة.
كذلك روى مطرف وابن الماجشون عن مالك. وقال أبو حنيفة تنعقد الجمعة
__________
(1) إحضار -و-.
(2) وإظهار معالم الشرع - قل.
(3) المعنى = ساقطة -و-.
(4) تقدم التعليق على هذا الحديث وأنه لم يصح شيء في ذلك عن رسول الله
- صلى الله عليه وسلم -.
(5) يجتمعوا فيه للصلوات.
(1/961)
بأربعة. وقال الشافعي بأربعين والإمام من
جملتهم. وقال الليث والأوزاعي وأبو ثور وأبو يوسف (1) بثلاثة. وقال
ربيعة بإثني عشر. وقال عكرمة بتسعة. وقال الحسن بن صالح بمائتين، وروي
ذلك عن أبي هريرة. فخرج من مجموع ذلك أن المسألة اختلف فيها على عشرة
أقوال. نفي التحديد. وآثنان، وثلاثة، وأربعة، وتسعة، وآثنا عشر، وما
قارب الثلاثين، وأربعون، وخمسون، ومائتان. فأما نحن فإذا نفينا التحديد
واعتبرنا ما أشرنا إليه من كون الجماعة على صفة ما، فإنا إنما عولنا في
ذلك على الظاهر. وقد قال تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ
وَذَرُوا الْبَيْعَ} (2). وهذه إشارة إلى قوم لهم سوق للبيع والشراء،
وهذا لا يحصر بعدد كما لم تحصره الآية. وقد يجب مع وجود عدد تارة إذا
حصلت فيهم الصفة التي أشار إليها الظاهر، وتسقط مع وجود أكثر منه إذا
لم يكن على الصفة التي اقتضاها الظاهر. وأما من اعتبر الثلاثين ونحوها
فإنه يعتمد على ما رواه القاسم بن محمَّد أن النبي - صلى الله عليه
وسلم - قال: إذا اجتمع الثلاثون بيتاً فليقدموا رجلًا منهم في الجمعة
(3). وأما من اعتبر أثني عشر رجلًا فيعتمد على ما روي أنه انفض الناس
عن النبي - صلى الله عليه وسلم -وهو قائم يخطب حتى لم يبق معه إلا اثنا
عشر رجلًا. وظاهر هذا جواز الاقتصار على هذا العدد لأنه لم يذكر أن من
انفض عنه رجع إليه. وأيضاً فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى
مصعب بن عُمير قبل الهجرة وكان مصعب بالمدينة فأمره أن يصلي الجمعة بعد
الزوال ركعتين وأن يخطب قبلها (4). فجمّع مصعب في بيت سعد بن خيثمه
باثني عشر رجلًا. وقد روي أنهم كانوا أربعين رجلًا. ولكن من ذكرنا حجته
في رواية من روي اثني عشر رجلًا ولكن لا تصح له حجته إلا أن تصح هذه
الرواية دون ما سواها، ويكون النبي - صلى الله عليه وسلم - علم ذلك
فأقره. وأما من قال أربعين فيعتمد على قول جابر بن عبد الله مضت السنة
على أنها سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأما من قال اثنان، قاس
على
__________
(1) أبو يوسف = ساقطة من -و-.
(2) سورة الجمعة، الآية: 9.
(3) تقدم قريبًا. التعليق عليه.
(4) روى الدارقطني قريبًا منه من طريق المغيرة. انظر إرواء الغليل ج 2
ص 68.
(1/962)
غيرها من الصلوات. وهذا قياس غير صحيح، لأن
الجماعة شرط في الجمعة وليست شرطًا في غيرها من الصلوات. وأما من اعتبر
الأربعة فإنه رأى أن الجماعة من شرط صحة الإِمام. وأكثرها لا نهاية له
ووسطها أعداد كثيرة ليس بعضها أحق من بعض، فإذا بطل أكثر بعدم النهاية
والأوسط لتقابل الأعداد، لم يبق إلا الأقل. وأقل الجمع ثلاثة عند
هؤلاء. وأما من قال ثلاثة فيمكن أن يكون سلك هذه الطريقة ولكنه رأى أن
أقل الجمع اثنان. أو يكون سلك طريقة الأولين في أن أقل الجمع ثلاثة
ولكنه احتسب بالإمام في عدد الجمع. وأما من قال مائتان فإنه يرى أن
الأصل وجوب الظهر وإنما نزل وجوب الجمعة بعد وجوب الظهر واتفق على أنه
لا يجب إلا بصفة وعدد فلا ينتقل عن الأصل الذي هو الظهر إلا باتفاق أو
دليل ولا يثبت دليل عنده على ما دون المائتين ولا يثبت دليل بالزيادة
عليهما فوجب الاقتصار عليها. هذا جملة توجيه جميع الأقوال المذكررة.
والقول العاشر الذي هو اعتبار التسع لا أعرف له الآن وجهًا.
والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: أما صفة الجماعة فاختلف الناس فيها
فقال أشهب: إن هرب الرجال الأحرار عن الإِمام فلم يبق معه إلا عبيد
ونساء لا رجل معهم فليصل بهم الجمعة ركعتين. قال سحنون: لا تقام الجمعة
بالعبيد ولا بالنساء لأنها ليست عليهم. وألحق سحنون المسافرين بالنساء
والعبيد في أن الجمعة لا تنعقد بهم. وألزم أشهب إلحاق المسافرين بهم
لأن (1) الجمعة تنعقد بهم. ومذهب الشافعي أنها لا تنعقد بالعبيد ولا
بالمسافرين.
ومذهب أبي حنيفة انعقادها بهم. والظاهر أن مذهب أبي حنيفة أنها لا
تنعقد بالنساء والصبيان. وفرّق أصحابه بينهم وبين العبيد والمسافرين:
أن العبد والمسافر يصح أن يؤمّا في سائر الصلوات بخلاف المرأة. واحتجوا
لانعقادها بالمسافرين والعبيد، بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقام
بمكة ثمانية عشر يومًا وكان يقصر بهم الصلاة وكان إمامًا (2). ولا شك
أنه صلى إمامًا في الجمعة مرات وإذا صلح
__________
(1) في أن - قل.
(2) اثني عشر - قل. وقد اختلفت الروايات في مدة إقامته - صلى الله عليه
وسلم - بمكة فروى البخاري عن ابن عباس أنه أقام تسعة عشر يومًا يقصر.
فتح الباري ج 3 ص 215. وروى أبو داود =
(1/963)
المسافر إمامًا صلح مأمومًا ها هنا، بل
صلاحه مأمومًا أولى. فإذا تأدت الصلاة مع كون العبد متبوعًا ففي حال
كونه تابعًا أولى. وهكذا قال أبو حنيفة لو اجتمع أربعون مسافرون أو
عبيد وعقدوا جمعة فإنها تنعقد بهم. وقال الشافعي لا تنعقد بهم. وقد
أشار بعض المتأخرين إلى احتمال في قول أشهب ورأى أنه يمكن أن يكون إنما
تكلم على هروبهم عنه بعد أن أحرم وثبت حكم الجمعة بالإحرام.
وغيره من الأشياخ حمل الرواية على ظاهرها (1) ورأى أنها تنعقد بهم عنده
على كل حال.
والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: اختلف الناس في الجماعة هل هي شرط
في انعقاد الجمعة أو في أدائها؟ فقال ابن القاسم وسحنون: إذا هرب الناس
عن الإِمام في صلاة الجمعة لم تصح جمعته (2). قال سحنون ولو تفرقوا عنه
في التشهد. ورأى سحنون أن يجعلها نافلة. وهذه طريقة من رأى أن الجماعة
شرط في جميع هذه الصلاة. وهذا مذهب زفر. وقال أشهب وأبو حنيفة إن هربوا
عنه بعد أن عقد ركعة أتم صلاته جمعة. لكن أبا حنيفة رأى أن الجمعة
تنعقد ها هنا بحصول ركعة وسجدة. وقال صاحباه أبو يوسف ومحمد إذا هربوا
عنه بعد الإحرام أتمها جمعة. وسبب هذا الاختلاف ما أشرنا إليه أولًا من
اعتبار الجماعة في الانعقاد أو في الأداء. فإن قلنا أن الجماعة شرط في
الأداء لم تصح الجمعة للإمام إلا أن تكملها الجماعة معه، لأن كل جزء من
الصلاة يفتقر في تأديته إلى ما يفتقر إليه الآخر. ألا ترى أن الطهارة
وستر العورة واستقبال القبلة لما افتقر إليها في تادية الصلاة استوت
جميع أجزاء الصلاة في افتقارها إلى ذلك. وكذلك اعتبار الجامع في هذه
الصلاة لما كان شرطًا في صحة التأدية افتقر إليه في جميع أجزاء- هذه
الصلاة. وقد كنا تكلمنا على رجوع الراعف إلى الجامع يوم الجمعة، وذكرنا
ما قيل فيه. وسنتكلم على
__________
= سبعة عشر. وله أيضًا ثماني عشرة ليلة. وروى ابن اسحق عن الزهري أنه
أقام خمسة عشر يومًا. الفتح ج 3 ص 219. وج 9 ص 53 وسيراة ابن هشام ج 4
ص 64. والسير الحلبية ج 3 ص 120/ 121.
(1) إطلاقها -و-.
(2) له جمعة - قل.
(1/964)
اعتبار (1) الوقت في جميع هذه الصلاة. وإن
قلنا إن الجماعة شرط في الانعقاد صح ما قال أبو يوسف وصاحبه. وإن قلنا
أنها تنعقد بتكبيرة الإحرام وتدرك الجمعة بها. وصح ما قاله أشهب وأبو
حنيفة إن قلنا أنها لا تنعقد إلا بإدراك ركعة. وسنتكلم على ما تدرك به
الجمعة لكنّ أبا حنيفة رأى أن الركوع مع السجدة هو معظم الركعة. وإذا
حصل معظم الشيء فكان جميعه حصل. وأصلنا نحن المشهور عندنا أن الإدراك
إنما يكون بتحصيل الركوع والسجدتين جميعًا، وإن كان أشهب قد حمل قوله -
صلى الله عليه وسلم -: من أدرك ركعة (2) على أن المراد به الركوع دون
السجود على ما كنا حكيناه عنه في الكلام في الأوقات. والذي حكاه عنه
ابن سحنون ها هنا أنه قال: قال أشهب إذا تفرقوا عنه بعد ما صلّى بهم
ركعة من الجمعة وبقي وحده فإنه يصلي ثانية وتكون (3) له جمعة. لقوله-
صلى الله عليه وسلم -: من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدركها (4). ويمكن
عندي أن يكون أشهب يجعل الإِمام مدركًا للجمعة بالركوع خاصة لما قدمناه
من مذهبه في تأويل الحديث الذي وقع في مثل هذا. وقد رأيت بعض من صنف
مسائل الخلاف ذكر أن مالكًا يقول إذا انفضوا بعد ما صلّى ركعة بسجدتين
أنها جمعة. وأورد هذا عن مالك بعد إيراده مذهب أبي حنيفة الذي حكيناه.
ولم أقف لمالك على هذا. ولعل هذا الحاكي وقف على مذهب أشهب فظن أنه
مذهب مالك لكون أشهب من أصحابه. وعلم أن المشهور من أصلنا أن الادراك
إنما يكون بالركعة والسجدتين فأضاف هذا المذهب إلى مالك. أو يكون وقف
عليه حيث لم نطلع عليه نحن. وإنما طرقنا إلى حكايته هذا الوهم لما لم
يكن من أصحابنا. وقد يُحتج لأبي حنيفة وأشهب بقوله - صلى الله عليه
وسلم -: من أدرك ركعة من الجمعة فليضف إليها أخرى (5). وينفصل الآخرون
عن هذا بأن يحملوا الحديث على المسبوق، ولكنهم إن حملوه على المسبوق
لزمهم أن يفرقوا بينه وبين الإِمام إذا هرب الناس عنه. وقد أكثر الناس
من الكلام
__________
(1) اعتبار القول في الوقت - قل.
(2) من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة. رواه الأربعة. فيض القدير
ج 6 ص 44.
(3) وتصح - قل.
(4) مسلم. إكمال الإكمال ج 2 ص292
(5) حديث حسن الإسناد. رواه ابن ماجة والحاكم. فيض القدير ج 6 ص 45.
(1/965)
على هذا القياس لما اعتمد من اعتبر ركعة
عليه وحرر (1) قياسه واستدلاله بأن قال: الجماعة شرط في الجمعة، وهي
إنما تكون بالإمام والقوم. واحتياج القوم إلى الإِمام في تصحيح صلاتهم
كحاجة الإِمام إليهم في ذلك. وحاجة الإِمام أشد لأن صلاة القوم تفسد
بإفساد صلاته، ولا تفسد صلاة الإِمام بإفساد القوم صلاتهم في غير صلاة
الجمعة. وإذا تساوى الاحتياج إلى التصحيح، أو كان (2) المأموم إليه
أحوج، ووجدنا مدرك ركعة من الجمعة يقضي ركعة أخرى وحده.
وإن كان مبتدىء الجمعة منفردًا لم تصح جمعته. كذا الإِمام يجب أن يبني
على ركعته ركعة أخرى. وإن كان لو ابتدأ الجمعة وحده لم تصح صلاته. إلى
هذا المعنى أشار أصحابنا وأصحاب أبي حنيفة. قال بعض هؤلاء المسندلين
بأن الجماعة شرط في الانعقاد ويكتفى بالمشاركة في تكبيرة الإحرام فكان
يجب ألا يصح الشروع إلا بشرط المشاركة فيه ليصح الانعقاد. لكن لما كان
شرع للمأموم إلاَّ يكبر مقارنًا لتكبيرة الإِمام صار الإِمام إذا كبر
والقوم مستعدون للتكبير كان استعدادهم للتكبير كالتكبير حتى يقدر أنهم
شاركوا فيه، وتكون المشاركة في القيام مشاركة في الشروع. وقد كثر
المتكلمون على التفرقة بين بناء المأموم إذا أدركها وبين بناء الإِمام
على ركعة إذا هربوا عنه. قال ابن عبدوس في المأموم: إنما يبني على جمعة
قد أقامها المأموم بشروطها. وهكذا قال الشيخ أبو الحسن ابن القابسي أن
الذي فاتته ركعة إنما أدرك ركعة من صلاة أكملت على حسب ما ابتدأت
بالجماعة. وهذا الذي (3) صلى ركعة ثم هرب الناس عنه يكمل الصلاة (4)
على غير ما ابتدأت عليه لأنها ابتدأت بالجماعة وتكمل بغير الجماعة.
وهذا المعنى سلك غيرهما *وهكذا قال أصحاب الشافعي: أن المأموم أدرك
ركعة من جمعة تمت بشرائطها. قال بعض البغداديين* (5) من أصحابنا: إن
تفرقة هؤلاء بقولهم: إن المأموم يبني على جمعة حاصلة لإمامه
__________
(1) وجوز - قل.
(2) وكان -و-.
(3) الذي = سا قطة -و-.
(4) ركعة -و- قل.
(5) ما بين النجمن = ساقط -و-.
(1/966)
بغيره كما بني للركوع على قرأى الإِمام،
ولو لم يقرأ الإِمام، لم يصح للمأموم ركوع. والإمام في الجمعة لم يبن
علي جمعة حصلت لأجل، تفرقة (1) لا تصح.
لأن الجمعة متعلقة بكل واحد من الإِمام، والمأموم، فإذا اشتركا في
الركعة فقد حصل شرط الجمعة. وليس تقدم صلاة الإِمام على الكمال بمؤثر
ها هنا لأن المأموم لم يحصل له معه إلا ركعة. ألا ترى أنه يقرأ فيها
ولا يعتد بقراءة الإِمام. فهذه طريقة من الفرق، قد سلكها جماعة من
أصحاب مالك والشافعي.
وقد خرج فيها بعض أصحابنا بهذا الذي أريناك.
وأشار بعض أصحاب أبي حنيفة إلى طريقة أخرى في التفرقة وهي أن المشاركة
قد تقع للمأموم بحكم قصده للشروع في صلاة الإِمام وهي في حق الإِمام
إنما تقع حكمًا بشروع القوم في صلاته. فما ثبت من المشاركة حكمًا ينبغي
أن يحصل بأبلغ ما تثبت (2) به المشاركة التي تثبت بحكم القصد. لأن ما
ثبت قصدًا إنما ثبت بنفسه. وإذا ثبت هذا هكذا صح أن يقال على هذه
الطريقة إن المأموم يبني على ركعة ولا يبني (3) عليها الإِمام،
لاختلافهما في طريق المشاركة كما بيناه. وهذه التفرقة أوردها هذا الرجل
اعتذارًا عن أبي حنيفه في قوله: إن المأموم يدرك الجمعة بإدراك
التكبير*على ما سنبينه من مذهبه* (4).
والإمام لا يبني إذا هرب الناس عنه على التكبير *بل على ركعة. وأوضح
هذا الرجل هذه الطريقة على أصلهم بأن يصلي الفرض إذا قام إلى النفل بعد
فراغه من الفرض وقبل أن يعقد أنه شرع في النفل قصدًا إليه بتحريم له
فسد فرضه بنفس الشروع وإن حصل في النفل حكمًا بالقيام إليه من غير
تكبير لم يفسد الفرض* (2) حتى يعقد ركعة بسجدتيها. ولما رأينا هذا
الرجل أورد هذا الفرق معتذرًا عن أبي حنيفة في تفرقته بين الإِمام
والمأموم في المسألتين اللتين ذكرهما عنه ونقلناه نحن إلى التفرقة بين
الإِمام والمأموم في المسالتين اللتين قصدنا إلى
__________
(1) خبر أن تفرقة.
(2) يحصل -و- قل.
(3) لا يبني -و-.
(4) ما بين النجمين ممحو -و.
(1/967)
الكلام عليهما لتصور الفرق في الجميع
تصورًا واحدًا. وقد أشار بعض أشياخي إلى أن سبب الخلاف أن أشهب رأى أن
هروبهم عنه وإبطالهم المشاركة له لا تبطل عليهم ماقد صلى بهم ويبقى
بركعته حكم الجماعة. كما أن مذهب أشهب أيضًا أن الإِمام إذا أبطل صلاته
متعمداً أن صلاة المأمومين لا تفسد إذا لم يقتدوا به بعد القطع. وإذا
ثبت لركعته حكم الجماعة صح أن يبني عليها إذا هربوا عنه.
فكانه رأى أن سبب الخلاف استقرار حكم الجماعة موقوفًا فيهما حتى تكمل
الصلاة. وهذا لعمري الذي أشار إليه تلويح وإن لم يصرح به لا يبعد
الاختلاف فيه على حسب ما كنا قدمنا في كتاب الطهارة من تخريج الاختلاف
في الوجه إذا غسل في الطهارة الصغرى، هل يقال ارتفع الحدث عنه أو
ارتفاعه عنه موقوف على كمال الطهارة، وهذا المعنى الذي أشار إليه شيخنا
قدْ لوَّح به ابن عبدوس لأنه قال في كلامه على هذه المسألة: الجمعة لا
تقوم إلا بالجماعة، فلما هربت الجماعة فأبطلت ما قد مضى من صلاتها مع
الإِمام صار الإِمام إنما أقام الجمعة وحده. وكذلك لو هرب الإِمام
وبقيت الجماعة لبطلت ولم يجزهم أن يبنوا على ما مضى. وعليهم أن
يستأنفوا الصلاة من أولها. وهذا الذي قال ابن عبدوس من هروب الإِمام
أنه كهروبهم في إبطال الصلاة، لكونه أيضًا مقتضى قول أشهب أنه إذا هرب
بعد ركعة لا يبطل عليهم كما لا يبطلون عليه إذا هربوا عنه بعد ركعة.
وقد حكينا من مذهبه أن قطع الإِمام متعمدًا لا يفسد على من خلفه. فإذا
كان هذا مذهبه تخرج على قوله أن هروبهم تعمدًا لا يبطل عليهم (1) على
حسب ما ذكرناه. وقد قال بعض أصحابنا البغداديين إذا أحدث الإِمام بعد
ركعة فأتموا وحدانًا فلا تجزيهم لقدرتهم على الجمع والإمام لا يقدر على
ذلك إذا هربوا، كما لو صلوا في صلاة الخوف الجمعة لصقى بكل طائفة ركعة
وبنوا وأتموا، لأنهم لا يقدرون إلا على ذلك. فأشار هذا إلى تفرقة بين
هروب الإِمام عن الناس أو هروب الناس عنه. ورأى أنه مني قدر على الجمع
بالاستخلاف لم تجز الجمعة إلا جمعًا. كما إذا لم يقدر على الجمع بأن
أقام الإِمام صلاة الجمعة في
__________
(1) هكذا في النسختين ولعل الصواب عليه.
(1/968)
الحضر حيث تجب الجمعة وهو على خوف فإنه
يسامح بإسقاط الجمع لعدم القدرة عليه لأجل ما شرع في صلاة الخوف.
قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: ومسجد.
قال الفقيه الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل أربعة أسئلة. منها
أن يقال:
1 - ما الدليل على اشتراط المسجد؟.
2 - وما صفة المسجد الذي تقام فيه؟.
3 - وما حكم من صلى خارج المسجد؟ (1).
4 - وهل تقام في مساجد؟.
فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: قال بعض المتأخرين من أصحابنا لا
خلاف في اشتراط الجامع إلا ما لا يعتد به مما نقله القزويني عن أبي بكر
الصالحين وتأوله على رواية ابن القاسم عن مالك في قوله في المدونة: إن
الجمعة تقام في القرية المتصلة البنيان التي فيها (2) الأسواق، وترك
ذكر الأسواق مرة أخرى. قال الصالحين: لو كان من صفة القرية أن يكون
فيها الجامع لذكره.
وهذا عندي غير صحيح، لأنه إنما قصد من ذكر القرية إلى ما يختص من صفتها
دون ما هو شرط منفرد عنها. ألا ترى أنه لم يذكر الإِمام وغيره من
الشروط.
على أن في المختصر الكبير: وفيها سوق ومسجد. فشرط المسجد. وهذا القول
قد انعقد الإجماع على خلافه. ولا يعلم من بقي من العلماء من يقول به.
والأصل فيه فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وعمل الأئمة بعده. وهذا
الذي قاله هذا المتأخر وحكاه من تأويل من تأول الرواية وتعقبه عليه. قد
قال مالك في أهل الخصوص وهم جماعة، واتصال تلك الخصوص كاتصال البيوت
أنهم يجمعون وإن لم يكن لهم وال. قال الشيخ أبو الحسن اللخمي لم يقل:
إذا كان لهم مسجد.
وهذه إشارة منه إلى ما تأوله الصالحين على مسألة المدونة. ولهذا
المتعقب أن يعتذر عن هذه الرواية أيضًا بما اعتذر به عن رواية المدونة.
والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: قال بعض المتأخرين من أصحابنا:
__________
(1) الجامع -و-.
(2) بها - قل.
(1/969)
من شرط ما تصلى فيه الجمعة البنيان المخصوص
على صفة المساجد. والبراح الذي لا بنيان فيه أو فيه ما لا يقع عليه اسم
مسجد لا تصح الجمعة فيه. لأن الشروط ها هنا متعلقة بالأسماء. ألا ترى
أن الإِمام حكم له بحكم الجماعة في سائر الصلوات ولا يكتفي في الجمعة
بما حكم له من ذلك حتى يوجد الإسم الإِمام إذا أقام الصلاة بمسجده
وصلّى ولم يأته أحد *فإن لصلاته حكم* (1) الجماعة. والجمعة لم يُكتف
فيها بمجرد هذا الحكم، وكون الجماعة مقدرة بل لا بد من كون الجماعة
موجودة. فيمكن أن يقال إن الجماعة لو وجدت حسًا وهما اثنان أو ثلاثة لم
يكتف بهم في إقامة الجمعة. وإن كانت الجماعة قد حصلت حسًا ووجودًا. إلا
أن الجماعة في هذه الصلاة تقدر بمقدار ولا ينتهي الحكم في القوة (2)
إلا أن يقدر بعدد أو مقدار. فلهذا لا يكتفي الإِمام في الجمعة بحكم
الجماعة عن وجودهم. وسائر الصلوات لا تقدر فيها الجماعة.
فإذا حصل حكم الجماعة على الجملة أكتفي بهم. اللهم إلا أن يقول كان يجب
أن يكون للإمام في الجمعة حكم العدد المشترط (3) في الجمعة. وهذا يفتقر
إلى دليل. والغرض إظهار طريقة ثانية يمكن أن يعلل بها فينبغي أن يعتمد
في هذا الذي قاله من اشتراط البنيان المخصوص على أن الأصل فرض الظهر
فلا يزال عنه إلا بدليل. وقد علم أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
والأئمة بعده إنما أقاموا الجمعة في أبنية مخصوصة فيجب أن لا يتعدى
مسلكهم في ذلك. قال هذا المتأخر وللجامع صفة تزيد على كونه مسجدًا، فكل
جامع مسجد وليس كل مسجد جامعًا. وإنما وصف بالجامع لاجتماع الناس فيه
لصلاة الجمعة فلا تقام في غيره حتى يحكم له بذلك على التأبيد دون أن
ينتقل ذلك إليه في يوم بعينه. ولو أصاب الناس ما يمنعهم من الجامع
يومًا ما، لم تصح لهم جمعة في غيره من المساجد ذلك اليوم إلا أن يحكم
له الإِمام بحكم الجامع، وينقل أحكام الجامع الأول إليه فيبطل
__________
(1) هو -و-
(2) في انفراده -و-.
(3) المشروط.
(1/970)
حكم الجمعة في المسجد الأول وينتقل إلى
الثاني. وكذلك في المدونة في الراعف يوم الجمعة، وهو جالس في التشهد،
إذا غسل الدم رجع إلى الجامع وإن قضى الإِمام صلاته. لأن الجمعة لا
تكون إلا في الجامع، ولو كانت المساجد تنوب عنه لقال يتمها في أقرب
المساجد إليه. وقد حكى عن أبي حنيفة أنه أجاز أن تقام الجمعة خارج
العصر إذا كان الموضعقريبًا منه نحو موضع صلاة العيد، وقاسها على صلاة
العيد لما كانت الصلاتان شرع لهما الجماعة.
وانفصل عن ذلك بأن صلاة العيد غير منقولة، وصلاة الجمعة منقولة من فرض
إلى فرض، فاختلف فيها العصر وخارج العصر كصلاة السفر. وهذا الذي حكي عن
أبي حنيفة من إجازة إقامتها خارج العصر *ظاهره إسقاط اشتراط الجامع إذا
كان يحيى إقامتها خارج العصر* (1) في غير جامع ولست أحقق صفة مذهبه في
هذا الذي حكي عنه.
والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: قد قدمنا اشتراط (2) الجامع في
صلاة الجمعة وأن الجمعة يشترط فيها مكان مخصوص، بخلاف غيرها من
الصلوات. وقد كره الأحنف بن قيس والشعبي وأحمد وإسحاق وابن مُحيْريز
الصلاة في المقصورة. وقال إسحاق تجزئ إن فعلت. وذكر عن ابن عمر أنه كان
إذا حضرت الصلاة خرج إلى المسجد فأنت ترى كراهة هؤلاء الصلاة (3) في
المقصورة مع كونها من جملة المسجد. وقد قدمنا في اشتراط الجامع قولًا
مقنعًا.
وأما ظهر الجامع فهل يكون له حكم الجامع أم لا؟ فأما ما سوى الجمعة فقد
تقدم الكلام عليه وذكرنا أن مالكًا أجازه ثم كرهه. وأما في صلاة
الجمعة،
فالمشهور من المذهب المنع من ذلك. قال مالك في المدونة لا يجوز ذلك لأن
الجمعة لا تكون إلا في المسجد. وقال أصبغ: لا بأس بذلك. واحتج بصلاة
الناس بمكة على باب زمزم وغيرها مثل قعيقعان وأبي قبيس بحضرة أهل
الموسم وأهل الآفاق. وقال ابن الماجشون لا بأس أن يصلي المؤذن على ظهر
المسجد؛ لأنه موضع أذانه إذا قعد الإِمام على المنبر. وفي ثمانية أبي
زيد عن
__________
(1) ما بين النجمين ساقط من -و-.
(2) أنا نشترط - قل.
(3) للصلاة - قل.
(1/971)
مالك ومطرف وابن الماجشون وأصبغ أن الصلاة
جائزة ولا إعادة عليه. وهكذا مذهب أشهب أنه لا يعيد. وقال ابن القاسم
في المدونة بل يعيد وإن ذهب الوقت. وقد حمل حمديس المنع على حالة
الاختيار، فقال، معنى المسألة إذا كان في داخل المسجد سعة كمن صلى في
خارجه الجمعة من غير ضرورة فعليه الإعادة احتياطًا. وأصل هذا الاختلاف
على ظهر المسجد حكمه حكم باطنه أم حكمه حكم ما خرج عنه وجاوره من
الديار وغيرها؟ وقد جعلوا الحالف أنه لا يدخل بيتاً أنه يحنث بقيامه
على ظهرها. وأحلوا ظهر البيت محل داخلها. وهذا لأن الحنث يكون بالأقل
فلا يعترض على الصلاة بهذا، لأن مبنى الصلاة على الاحتياط فهي تشبه (1)
البرّ. فلو حلف ليدخلنّ بيتًا لم يبرّ بقيامه على ظهرها، ولم يجعل
ظهرها في البرّ كباطنها (2). ولقد كتب إلى سلطان يسألني عن الصلاة
بمقصورة في قصره الحائط مشترك بينها وبين الجامع: وأحب أن يصلي على
أعلى الحائط المشترك مرتفعًا عن الناس محجوبًا عنهم. فأجبته بأن سر
اشتراط الجامع والجماعة في الجمعة بخلاف غيرها من الصلوات أنها صلاة
قصد بها المباهاة والاشادة والاعلان. ولهذا جهر بالقراءة فيها، وإن
كانت صلاة نهار وجعل فيها الخطبة. فكل معنى تكمل المباهاة فيه ويزيد في
بهاء الإِسلام كان أولى أن يسلك، والاخفاء والاستتار نقيض هذا الغرض
الذي أشار إليه الشرع.
وقد قدمنا كراهة من كره الصلاة في المقصورة وإن كانت في المسجد فكيف
بهذه التي هي كالخارجة عنه؟ وقد اختلف المذهب في صلاة الجمعة على ظهر
الجامع على حسب ما قدمناه. فمن منع هناك منع ها هنا بلا شك. ومن أجاز
هناك ففي هذه المسألة على أصله إشكال لأن عرض الحائط الحامل لسقفه هل
يقدر أنه معدود من جملة السطح أو لا يعد من جملته؟ وللعلماء المتقدمين
كلام على (3) المصلي على حائط الجِجْرِ (4) هل يكون كلالمصلي في "خله
أو
__________
(1) تسبب -و-.
(2) كبطنها -و-.
(3) في- قل-.
(4) أي حجر إسماعيل الذي قصرت النفقة بقريش عن إدخاله في البيت.
(1/972)
كالمصلي خارجًا منه، فإن قدر كالمصلي في
داخل الحجر فقد يقدر المصلي على سعة الحائط كالمصلي على ظهر الجامع.
وإن قدر كالمصلي خارجًا من الحجر فقد يقدر هذا كالمصلي خارج الجامع.
فإذا كان طائفة من أهل المذهب لا شك أنهم يمنعون وطائفة يتردد القول
فيهم هذا التردد فالهروب من هذا أولى. فلما كتبت إليه بهذا امتنع من
إحداثه. وبعثه الإيثار على الاعتزال عن الناس على أن حاول أن يخرج من
قصره هذه المقصورة (1) إلى الهواء الذي يحيط به حيطان الجامع ليكون
مصليًا في داخله فيرتفع ما رأيته من الإشكال فيما كتبت به إليه. فسألني
عن هذا أيضًا فأشكل عليّ أمره لمعان عرضت فيه، فهربت (2) له من إباحته
على أنه أولى بالأجزاء من الصلاة في عرض الحائط. لكون المصلي فيه
مصليًا في داخل الجامع وباطنه. وسنذكر ما قاله سحنون في الصلاة في
حُجَر أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو الآن يصلي في المقصورة
التي بداخل الجامع غير مرتفعة عن الناس.
وأما صلاة الجمعة في الأفنية المباحة التي يتصرف فيها بغير إذن فإنها
جائزة إذا اتصلت الصفوف ودعت الضرورة إليها لأنه لا (3) مندوحة عن
الصلاة فيها إلا بترك صلاة الجمعة. قال مالك: ولا بأس بالصلاة يوم
الجمعة لضيق المسجد في حوانيت عمرو بن العاص ورآها كالأفنية. فأنت تراه
كيف اعتبر الضيق والضرورة. وأما الصلاة فيها من غير ضرورة فقال ابن أبي
زمنين من قول ابن القاسم أن من صلى في أفنية المسجد يوم الجمعة أو قضى
ركعة كانت عليه من رعاف غسله وهو يجد موضعًا في المسجد يصلي فيه أن ذلك
يجزيه.
وخالفه سحنون وقال يعيد أبدًا لأن الصلاة في غير المسجد لا تجوز إلا
لضيق المسجد. وقال في مختصر ابن شعبان من صلى في أفنية الحوانيت وبينه
وبين المسجد عرض الطريق ولم تتصل الصفوف من غير ضيق المسجد أجزته
صلاته.
قال ابن شعبان رأى أبو هريرة أناسًا يصلون في حوانيت الرحبة فقال: لا
جمعة لمن لم يصل في المسجد. وقاله قيس بن عبادة. وهذا الذي حكاه ابن
شعبان عن أبي هريرة أن الصلاة لا تصح في الأفنية. وقد اشتد سحنون في
النكير
__________
(1) أن يخرج من قصره هذا إلى المقصورة.
(2) هكذا في جميع النسخ ولعل الصواب فقربت له إباحته.
(3) لا = ساقطة من جميع النسخ.
(1/973)
لذلك. فكان يقول إذا من على الذين يجلسون
للصلاة في الطريق فرع رجلك على عنقه وجرّه، ويامرهم بالدخول، ويقول إن
صليتم ها هنا فصلاتكم باطلة.
فكان سحنونًا رأى أن أصلنا في اشتراط الجامع يقتضي إبطال الصلاة في
إيقاعها في غير الجامع اختيارًا. وكان مالكاً على مقتضى ظاهر ابن شعبان
وابن القاسم رأى أن هذه الأفنية حكمها حكم الجامع لما كان الجامع
المشروط موجودًا وقد صلّى فيه من صلى، فإن الآخرين المصلين في الأفنية
يقدرون كالمصلين في الجامع. وقال مالك في المجموعة لا أحب أن يصلى في
الطريق والأفنية الجمعة إلا مثل المرأة والضعفاء ومن لا يقدر على دخول
المسجد، والرجل يصيبه ذلك المرة بعد المرة. وأما من يقعد في منزله
يتنعم ويتلذذ. فإذا خاف الفوات جاء فصلّى حيث أدركه فلا أحب أن يلتزم
(1) مثل هذا أحد.
وأما الصلاة في الديار والحوانيت فإن مذهب مالك أن الصلاة فيها تجزي
مؤتمًا إلا في الجمعة فلا تكون إلا في المسجد أو مواضع غير مملوكة
متصلة به (2). وأبو حنيفة يجيزها في الجمعة وغيرها. والشافعي لا يجيزها
في الجمعة ولا في غيرها إلا أن تتصل الصفوف ويشاهدها. وقد قدمنا ذكر
مذهبه في ذلك لما تكلمنا على حكم الإمامة في الصلوات الخمس وحكم
الجماعة. ومما يردّ مذهبه صلاة أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -
حجرهن بصلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنه-يخلى صلّى في بيته
وصلى الناس بصلاته في المسجد (3) فلم ينكر ذلك عليهم. ولا يعارض هذا
بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد"
(4). لأن الإِمام إذا كان في المسجد فالمقتدي به كأنه في المسجد. وقول
عائشة رضي الله عنها لنسوة صلين (5) في حجرتها لا تصلين بصلاة الإِمام
فإنكنّ دونه في حجاب. أشار بعض أصحابنا إلى حمله على حجاب يمنع
الاقتداء. وأما الحجة فإنما فرقنا بينها وبين غيرها من
__________
(1) يلزم -و-.
(2) أو موضع غير مملوك متصل به -قل-.
(3) البخاري. فتح الباري ج 2 ص 355 وأحمد: بلوغ الأماني ج 3 ص 282
(4) رواه الدارقطني عن جابر ضعيف. وقال ابن الجوزي: هو موضوع. فيض
القديرج 6 ص 431.
(5) للنسوة اللائي صلين -قل-.
(1/974)
الصلوات في هذا لما قدمناه من ورود الشرع
باشتراط مكان مخصوص فيها.
قال بعض أصحابنا البغداديين: الإِمام لا يصلي الجمعة في هذا (1) المكان
وكل ما لا يصلي فيه الإِمام لا يصلي فيه المأموم. وكل موضع صح أن يصلي
فيه الإِمام صح أن يأتم به فيه المأموم. وإطلاق هذا طردًا وعكسًا يفتقر
إلى تأمل.
أما ما تصح صلاة الإِمام فيه فلا شك في صحة صلاة المأموم فيه. وأما عكس
هذا فإنه إذا قلنا بصحة صلاة المأموم في الفناء اختيارًا فإن إطلاق ما
قدمناه إباحة صلاة الإِمام في الفناء والناس بالجامع إذا تُصور ذلك.
وهذا فيه نظر.
ويفتقر هذا الإطلاق إلى تأمل. وأما صلاة النساء في حجر أزواج النبي -
صلى الله عليه وسلم - فقد اعتذر الناس عن ذلك. فقال ابن القاسم إنما
جازت صلاة الجمعة فيها لأنها لم تكن تُمنع من الناس. قال ابن مُزين:
قلت لعيسى لِمَ كان الناس يصلون في حجر أزواج النبي - صلى الله عليه
وسلم -. من ضيق المسجد؟ *فقال كانوا يدخلونها بغير إذن.
وقال سحنون لما سأله ابنه عن صلاة الناس يوم الجمعة في هذه الحجر أنها
كانت في المسجد* (2) وإنما كانت تلك الحجر من جريد قد قطعت بمسوح
الشعر. وأخبرني من أدرك بعضها على ذلك فهي كالأخبية في المسجد.
وأبوابها شارعة فيه وليست بمنزلة ما خرج من المسجد. وقد كنا قدمنا فيما
سئلنا عنه من بناء مقصورة في هواء المسجد ما قدمناه. وقد يتعلق متعلق
بصحة الصلاة فيه بظاهر كلام سحنون هذا وهو مما يفتقر إلى تأمل. وفي
المبسوط قال ابن مسلمة إنما قال مالك في هذه الدور التي لا تُدخل إلا
بإذن لا يصلى فيها بصلاة الإِمام إذا كان الذي فيها غير متصل بصفوف
المسجد، فأولئك لا ينبغي لهم ذلك لأنهم ليسوا في المسجد ولا متصلين به.
وأما لو امتلأ المسجد ورحابه وأفنيته حتى تتصل الصفوف من المسجد إلى
تلك الدور فلا بأس بذلك.
وتصير الدور والشوارع حينئذ بمنزلة حجر أزواج النبي - صلى الله عليه
وسلم -. فأنت تراه كيف أشار إلى أن العذر في الحجر اتصالها بالصفوف.
وأشار سحنون إلى التعليل بكونها من المسجد. وابن القاسم وعيسى إلى
كونها تدخل بغير إذن. فإذا ثبت
__________
(1) إلا في هذا المكان - قل.
(2) ما بين النجمين = ساقط من -و-.
(1/975)
المنع من صلاة الجمعة في الدور والحوانيت
التي لا تدخل إلا بإذن. فإن إذن أهلها لا يبيح صلاة الجمعة فيها. *وإن
إذن أهلها* (1) قاله في المدونة. لأنا لو أبحناه بالإذن لأبحنا الصلاة
فيها لأهلها لأنه ماذون لهم فيها. وإذا قلنا بالمنع على الإطلاق في هذه
المواضع التي لا تدخل إلا بإذن أو بالمنع بشرط أن لا تتصل الصفوف على
ما أشار إليه ابن مسلمة. فإن خالف المصلي وركب النهي فهل تصح صلاته أم
لا؟ ذكر ابن مزين عن ابن القاسم أنه يعيد الصلاة أبدًا. وعن ابن نافع
أنه قال أكره تعمد ذلك وأرجو أن تجزيه صلاته.
والجراب عن السؤال الرابع: أن يقال: لا تقام الجمعة عندنا في البلد
الواحد إلا في جامع واحد. وبه قال الشافعي. وأجاز محمَّد بن الحسن أن
تقام فيه جمعتان. وروي ثلاث جمع. وأما أبو يوسف فنقل عنه بعض من صنف
الخلاف أنه إن كان للبلد جانبان بأن يكون في وسطه نهر جاز أن تقام فيه
جمعتان. وإن كان جانبأواحدًا لم تُقم فيه إلا جمعة واحدة. ونقل عنه بعض
أصحابنا أنه إذا كان العصر عظيمًا كبغداد جاز، وإن كان القياس لا يجوز.
وأشار ابن القصار إلى أن هذا يُشبه أن يكون مذهب مالك. وذهب عطاء وداود
إلى جواز إقامتها في كل مسجد. ودليلنا أنها صلاة غيّرت من فرض إلى فرض
وخصت بشروط فيجب اقتفاء أثر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها. ولم
يقمها - صلى الله عليه وسلم - ولا الخلفاء بعده إلا في مسجد واحد. ولو
كانت إقامتها في مسجدين جائزة لفعله ولو مرة واحدة ليشعر بجوازه. وقد
قال تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} (2).
وهذه إشارة إلى صلاة واحدة لا إلى صلوات. قال بعض أصحابنا البغداديين
ولأنه إذا بني جامع لم يجز بناء غيره لأنه يؤدي إلى الافتراق والتباين
وزوال الغرض في الاجتماع. وأيضاً فإن الجمعة إنما خصت بهذه التسمية
*لأجل الاجتماع فلو جاز الاجتماع لها في مواضع لبطل فائدة هذا التخصيص
بهذه التسمية* (3) وأما تعلق داود بأن عمر رضي الله عنه كتب إلى أبي
هريرة في البحرين أن
__________
(1) هكذا- ويظهر أنه مقحم-.
(2) سورة الجمعة، الآية: 9.
(3) ما بين النجمين = ساقط -و-.
(1/976)
اجمعوا (1) حيث كنتم فإن المراد به في أي
بلد كنتم. وأما تعلق ابن الحسن بأن عليًا صلّى العيد واستخلف أبا مسعود
البدري فصلّى بضَعَفَة الناس في المسجد فإنا سنتكلم على إقامته في
الموضعين. فمن الناس من أجازه بخلاف الجمعة.
فإذا ثبت منع إقامة الجمعة في جامعين على الجملة فهل يجوز ذلك عند
الحاجة؟ قد قدمنا قول ابن القصار: إذا كانت المدينة ذات جامعين كبغداد
فيشبه أن يجيء على المذهب أن يجمعوا في الجامعين. وقال أبو محمَّد في
غير كتابه هذا لا يجمع في مصر وإن كثر أهله إلا في موضع واحد.
وقال وكان شيخنا رحمه الله يقول هذا: إذا كان المصر على جانب واحد.
ويجب على مذهبنا إذا كان له جانبان كبغداد وواسط ولم يكن بينهما جسر
فإنه يجمع في الجانبين. فإن كان بينهما جسر (2) وقال محمَّد بن عبد
الحكم لا بأس أن تقام الجمعة في موضعين كبغداد ومصر. وقال أحمد بن حنبل
يجوز أن تقام جمعتان وثلاث وأكثر إذا دعت الحاجة إلى ذلك كبغداد
والبصرة وغيرهما. وإذا وجبت إقامة الجمعة في جامع واحد وكان بالبلد
جامعان فإنها تقام عندنا في الأقدم منهما. وإن أقيمت في الأحدث وحده
أجزته. وإن أقيمت في الجامعين مع القدرة على الاكتفاء بواحد. ففي
العتبية لمالك في الأمير يستخلف من يصلي بالعصبة الجمعة ويجمع هو
بطائفة في طرف العصر الجمعة. قال: الجمعة لأهل العصبة. وفي مختصر ابن
شعبان: لا أرى الصلاة إلا لأهل العصبة وإن كانوا يصلون مع خليفة
الإِمام لا معه. فالصلاة مع خليفته جائزة. قال ابن شعبان يريد أن
الصلاة لأهل المسجد العتيق. قال عبد الله بن عمر: لا جمعة إلا في
المسجد الأكبر. وكان مالك (3) يتجوز المسجد المحدث إلى القديم. قال ابن
الجلاب: لا تصلّى الجمعة في مقصورة في مصر واحد في مسجدين *والصلاة
صلاة أهل المسجد العتيق. واعتبر بعض الناس السبق. فقال تجزي من أقامها
أولًا. ويعيد من أقامها بعد. وقد اختلف المذهب
__________
(1) اجتمعوا -قل-.
(2) هو -ولعله لم يجمّعوا إلا في جامع واحد-.
(3) مجاهد -قل-.
(1/977)
في جمع من كان قرب مدائن الجمع. فقال ابن
حبيب من كان من أهل القرى الحاضرة أو القرى التي يجمع فيها على أقل من
بريد، فلا يجمع حتى يكونوا على* (1) بريد فأكثر. وبذلك كتب عمر بن عبد
العزيز وقال يحيى بن عمر: لا تجمعوا حتى تكونوا على ستة أميال. وقال
زيد بن بشير (2) يجمعون وإن كانوا على أكثر من فرسخ. قال بعض المتأخرين
هذا هو الصحيح لأن كل موضع لا يلزم أهله النزول إلى الجمعة لبعدهم
وكملت فيهم شروط الجمعة فإنه تلزمهم إقامتها في موضعهم كأهل مصر. وأشار
هذا المتأخر إلى أنه يجب أن يكون بين الجامع وبين جامع *أقدم منه مسافة
لا يجب المضي منها إلى الجامع الأقدم* (3) وقد قال ابن القصار فيمن كان
خارج المسجد تجب عليهم الجمعة.
إذا كان لهم مسجد وسوق يقدمون من يصلي بهم، وإن كانوا من العصر على
فرسخ. وهذا فيه جواز إقامتها بموضع يخاطب المنفرد به أن يأتي الجمعة في
العصر. وسننقل نص كلامه في باب مقدار ما تجب منه الجمعة.
قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: وخطبة.
قال الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل ثلاثة أسئلة. منها أن
يقال:
1 - هل الخطبة فرض أم لا؟.
2 - وما مقدارها؟.
3 - وما الصفات التي يؤمر الخطيب أن يكون عليها؟.
فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: اختلف الناس في خطبة الجمعة هل هي
فرض أم لا؟ فعند مالك والشافعي أنها فرض وشرط في صحة الصلاة فلا تجزي
الصلاة إلا بها. وقال الحسن وداود هي مستحبة. وإلى هذه الطريقة ذهب ابن
الماجشون من أصحابنا فقال: الخطبة سنّة. ومن صلّى بغير خطبة أجزأه ولم
يعد. وفي الثمانية لمالك أن الجمعة تجزيه. وقال ابن الجهم هي سنّة
واجبة.
__________
(1) هو في -و- وخرم في الورقات بمقدار أربع أسطر. وقد حاولنا إقامة
النص.
(2) محمَّد بن بشير -و-.
(3) أقرب منها إلى الجامع الأقدم.
(1/978)
ودليلنا على وجوبها أن الله سبحانه أمر
بفعل الجمعة وبين - صلى الله عليه وسلم - هذا الأمر بفعله فكان يخطب
ولم يترك الخطبة في حال من الأحوال. فدلّ على وجوبها.
وأيضًا ققد قال تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (1). وأول
الذكر في الجمعة الخطبة. فيجب حمل هذا الظاهر عليه ولا يعدل به إلى
الذكر المفعول في الصلاة. إلا بدليل. وأيضًا فإن الله حرم البيع حين
النداء. فلو كانت الخطبة غير واجبة لم يحرم البيع إلا عند الدخول في
الصلاة. وأيضًا فإن الله سبحانه قال: {وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} (2).
معناه تخطب. وظاهر هذا التوبيخ على تركه وهو يخطب. والتوبيخ لا يكون
إلا على ترك واجب. وأيضاً فإنها أقيمت مقام ركعتين. ألا ترى قول عمر
رضي الله عنه: قصرت الصلاة لأجل الخطبة. وإذا كانت أقيمت مقام ركعتين
وجب أن تكون فرضًا. ولهذا قال أصحابنا في الإِمام يخطب قبل الزوال
ويصلي بعده أنه يعيد الخطبة والصلاة، لما رأوها مقام الركعتين. فراعوا
الوقت فيها كما يراعى في الركعتين. وهذا يرد قياس من أنكر الوجوب
قياسًا على غيرها من الخطب. لأن هذه الخطبة جعلت عوضاً عن واجب. وغيرها
من الخطب لم تجعل عوضاً عن واجب. ولهذا قال سحنون إذا خطب الإِمام
جنباً أعادوا الصلاة أبدًا. وسنتكلم على اشتراط الطهارة إن شاء الله
تعالى.
والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: اختلف الناس في المقدار الواجب من
الخطبة. فذكر القاضي أبو محمَّد في غير كتابه هذا أن في مقدار ما يجب
من الخطبة روايتين. إحداهما: أنها لا تجزي إلا بما له بال، ويقع عليه
اسم خطبة.
والثانية أنه إن سبّح وهلل، أو سبّح فقط فليعد، ما لم يصل. فإن صلى
أجزأه. وفي الثمانية عن مطرف إذا تكلم بما قل أو كثر فجمعته جمعة. وقال
أبو حنيفة تجزي في الخطبة التحميدة والتسبيحة. وقال صاحباه والمعتبر
قدر ما يتعارف أنها (3) خطبة. ويمتاز عن سائر أنواع الكلام. وقال ابن
القاسم إن سبّح أو هلل
__________
(1) سورة الجمعة، الآية: 9.
(2) سورة الجمعة، الآية: 11.
(3) أنها = سا قطة -و-.
(1/979)
لم يجزه إلا أن يأتي بكلام يكون عند العرب
خطبة. وقال ابن عبد الحكم تجزيه لأنه لفظ فيه تعظيم وتكبير لله تعالى
وقال الشافعي أقل ما يجزي أن يحمد الله تعالى ويصلي على نبيه - صلى
الله عليه وسلم - ويوصي بتقوى الله عَزَّ وَجَلَّ ويقرأ آية من القرآن.
وفي الثانية يحمد الله تعالى ويصلي على نبيه - صلى الله عليه وسلم -
ويوصي بتقوى الله عَزَّ وَجَلَّ ويدعو للمؤمنين والمؤمنات.
فأما أبو حنيفة فإنه يتعلق بقوله تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ
اللَّهِ} (1). فإطلاق هذا يقتضي جواز الاقتصار على القول سبحان الله
والحمد لله. والشافعي يرى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل نحوًا
(2) مما قال فجعله بيانًا للأجزاء. ويقول أبو حنيفة بل هو بيان للكمال.
ونقول نحن الخطبة يُشار بها في اللغة إلى كلام واقع على نظام مخصوص،
فيجب ألا يكتفى إلا بما تقع عليه هذه التسمية. ولو كان كل كلام يسمى
خطبة لكان كل أحد خطيبًا (3). ولا تعلق في أمره - صلى الله عليه وسلم -
بتقصير الخطبة، فإن ذلك محمول على النهي عن التطويل والتكثير لا على
تقصير يمنع من تسمية الكلام خطبة. وكذلك ما ذكر أن عثمان خطب فارتج
عليه فقال: الحمد لله.
فمحمول على خطبة البيعة. ثم لم يقتصر على هذا القدر حتى أضاف إليه ما
قال من الكلام. ولو جاز الاقتصار على التسبيح لجاز الاقتصار على القول
الله أكبر.
ولا معنى لقولهم إن الخطبة مأخوذة من المخاطبة لأنا قدمنا أن هذه
التسمية مقصورة على نظم ولا معنى لقولهم إن الخطبة الثانية من جنس
الأولى فلا معنى لتكريرها لأن الركعات والسجدات مكررات، وإن كان قد
تماثل ما تكرر منها.
ولا معنى لقولهم لما لم يقيد بعدد دل على أن القصد إيراد ما فيه تعظيم
لأن الجماعة معتبرة في هذه الصلاة. وترك تقييدها بعدد لم يسقط وجوب
اعتبارها.
وقد اختلف المذهب في الخطبة الثانية فذهب ابن القاسم في كتاب ابن حبيب
إلى أنه إذا لم يخطب من الثانية ما له بال لم يجزهم. وحكى ابن حبيب عن
بعض أصحابه أنه إن نسي الثانية أو أحصر عنها فالأولى تكفيهم. وقال ابن
حبيب لا يلقق فيما تعاصم فيه من الخطبة. وأما ما يقرأ فيها من القرآن
فلا بأس
__________
(1) سورة الجمعة، الآية: 9.
(2) نحو -و-.
(3) لفظة واحدة ممحوة.
(1/980)
أن يلقن فيه. وعندي أنه إنما فرق (1) بين
الأمرين لأن القرآن متعين لا يصح إبداله والخطبة يصح إبدالها. *فقد
يورد إذا تعالى إبدال اللفظ* (2). وقال ابن حبيب: ويترك في تلجلجه
وإحصاره في الخطبة وليخرج هو إلى ما تيسر عليه من الثناء على الله
سبحانه وعلى نبيه - صلى الله عليه وسلم -. فأنت تراه (3) كيف أشار إلى
القدرة على الخروج والإبدال. على أن القرآن أيضًا (4) وإن لم يكن له أن
يبدله من تلقاء نفسه ففي قدرته أن يقرأ سورة أخرى. وهذا مما يتأمل.
وهذا الكلام في مقدار ما يجزي من الخطبة.
وأما المستحب فيها فقال ابن حبيب ليققر الخطبتين، والثانية أقصرهما.
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يشير باصبعه إذا دعا أو وعظ. وكان
لا يدع أن يقرأ في خطبته: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} إلى قوله: {فَوْزًا عَظِيمًا}
(5). وينبغي أن يقرأ في الخطبة بسورة تامة من قصار المفصل. وكان عمر بن
عبد العزيز يقرأ تارة: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} وتارة
{وَالْعَصْرِ}. وقال أشهب في المجموعة نحوه. قال فإن لم يفعل أساء ولا
شيء عليه. وفي المختصر يبدأ في الخطبة بالحمد دئه ويختم بأن يقول:
أستغفر الله لي ولكم.
وإن قال: اذكروا الله يذكركم فحسن.
والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: يُؤمر الخطيب في الجمعة أن يكون
متطهرًا. وهل هذا الأمر على الاستحباب أو على الوجوب؟ المذهب على
قولين: فذهب القاضي أبو محمَّد إلى أن الخطبة فرض والطهارة مستحبة.
وقال ابن الجلاب: الاختيار أن يخطب على طهارة. فإن خطب على غير طهارة
أساء، والخطبة صحيحة. وقال مالك في المختصر: من خطب غير متوضئ ثم ذكر
أجزأه وبئس ما طبع. قال ابن المواز يعيد الخطبة. وقال سحنون إذا خطب
جنبًا
__________
(1) وإنما فرق بين الأمرين -و-.
(2) مع المحو في قل أثبتنا ما هو واضح في -و- وإن كان التركيب قلقًا.
(3) ترى -قل-.
(4) على أن القول أفضل -و-.
(5) سورة الأحزاب، الآية: 71.
(1/981)
أعادوا الصلاة أبدًا. قال أبو محمَّد يريد
وهو ذاكر. قال سحنون وإن ذكر في الخطبة أنه جنب نزل وانتظروه إن قرب،
وبنى. قال: وقال بعض أصحابنا: فإن لم يفعل وتمادى في خطبته واستخلف
للصلاة أجزأهم. وقال المغيرة: إن ذكر في الخطبة أنه غير متوضئ،
فليأمرهم أن يمكثوا حتى يتوضأ، إن (1) كان اغتسل برواحه وإلا اغتسل ثم
ابتدأ الخطبة، وكذلك من ينتقض وضؤوه. وإن ذكر صلاة نسيها صلاّها وبنى
على خطبته. فأما ما حكيناه من الاستحباب للطهارة فقد نص عليه من حكيناه
عنه. وأما ما حكيناه من أنها فرض فكذا قال بعض أشياخي، اختلف في
الطهارة للخطبة على القول بأن الخطبة فرض هل هي فرض أو تجزي بغير
طهارة؟ وهذا الذي نقلناه عن سحنون أشار بعض المتأخرين إلى أنه بناء على
أن الطهارة فرض وليس عندي بنص جليّ. لأنه لم يذكر هل صلّى بهم أم لا؟
وإن كان لا شك في أن المفهوم منه أنه خطب جنباً وصقى متطهرًا. إذ لو
كان معناه أنه صلّى جنباً لكان تعليق الأمر بالإعادة بذكر صلاته جنباً
أولى من تعادى بذكر خطبته جنباً. لكن قوله أنه يبني إذا ذكر في خطبته
أنه جنب فيه إشارة إلى الاعتداد بما فعله وهو جنب. وكذلك ما حكاه عن
بعض أصحابنا أنه إن تمادى على الخطبة تجزيه إلا أن يتعسف متعسف فيتاول
مذهبه من البناء على أنه يورد بعد الطهارة من الخطبة ما يجزي بمجرده
على حسب ما تقدمت الإشارة إليه في القدر الكافي. فلا يتعلق بما ذكره من
البناء. لكن ما حكاه عن بعض أصحابنا نص (2) في إجزاء الخطبة بغير
طهارة. وهو مطابق لما قاله أبو محمَّد وابن الجلاب من كون الطهارة
مستحبة وهو مذهب أبي حنيفة وإبن حنبل واحد قولي الشافعي وله قول آخر أن
الطهارة من الحدث والنجس شرط في الخطبة.
وسبب الاختلاف أن الأذان ذكر يتقدم الصلاة كما أن تكبيرة الإحرام ذكر
في الصلاة. والأذان ذكر لا يشترط فيه الطهارة فتقاس الخطبة عليه
وتكبيرة الإحرام ذكر في الصلاة ومن شرطها الطهارة فتقاس الخطبة أيضًا
عليها. لا سيما أن الخطبة بدل من الركعتين فيتأكد إيجاب الطهارة لها
لكون الطهارة شرطًا فيما هي
__________
(1) كان كان اغتسل برواحه. هكذا في -و- وفي ورقات. ولعل الصواب ما
أثبتناه.
(2) يناقض -و-.
(1/982)
بدل منه وقد اشتمل ما قدمناه من الروايات
على مراعاة الاتصال من عمل الخطبة، ولهذا قال سحنون يبني إن قرب فاشترط
في البناء القرب لما كان القريب (1) في معنى المتصل. وقال أشهب إذا خطب
في وقت الظهر وصلّى في وقت العصر في الغيم فأحب إلى أن يعيدوا إلا أن
يكون ما بين الخطبة والصلاة قريبًا فتجزيهم. فأشار إلى كون الخطبة
متصلة بالصلاة أو في حكم المتصل.
وهذا يشير إلى أنها تحل محل الركعتين. فلما كانت الركعتان من حقهما
الاتصال بالركعتين الأخريين كانت الخطبة كذلك.
ومن الصفات التي يؤمر الخطيب أن يكون عليها أن يخطب قائمًا. قال ابن
حبيب من السنّة أن يخطب قائمًا ويجلس شيئًا في أولها ووسطها. وكان
معاوية لما أسنّ جلس في الخطبة الأولى كلها واستأذن الناس في ذلك، وقام
في الثانية. ولا ينبغي ذلك. وليقم فيها كما فعل النبي - صلى الله عليه
وسلم - والخلفاء الراشدون.
وقال ابن القصار الذي يقوى عندي أن القيام والجلسة واجبان وجوب سنّه
فقط.
وقالت الشافعية القيام مع القدرة في الخطبة واجب. وقال أبو حنيفة وأحمد
ليس بواجب. وسبب الاختلاف في ذلك كسبب الاختلاف في الطهارة. فمن رأى
الخطبة ذكرًا كتكبيرة الإحرام أوجب القيام في الخطبة مع القدرة، كما
تجب في تكبيرة الإحرام. ومن رآها ذكرًا لا يشترط فيها استقبال القبلة
لم يوجب فيها القيام كالأذان.
وأما الجلسة بين الخطبتين فقد ذكرنا قول ابن القصار: الذي يقوى عندي أن
القيام والجلسة واجبان وجوب سنّة فقط. وذكرنا قول ابن حبيب من السنة أن
يخطب قائمًا ويجلس شيئًا في أولها ووسطها. فأشار إلى كون الجلوس الأول
والثاني من السنّة. وقال أبو حنيفة وأحمد في الجلوس بين الخطبتين أنه
مستحب. وقال الشافعي هو واجب، ويعتمد في إيجابه على أن النبي - صلى
الله عليه وسلم - جلس بين الخطبتين وخطب قائمًا. وقد قال تعالى:
{وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} (2). وأفعاله على سبيل القرب تقتضي الوجوب على
قول من قال بذلك من أهل الأصول.
__________
(1) القرب - قل.
(2) سورة الجمعة، الآية: 10.
(1/983)
وإذا ثبت أن القيام مشروع. فقال مالك
فليتوكأ على عصا. وقال ابن حبيب وكذلك فعل النبي - صلى الله عليه وسلم
- وكذلك ينبغي أن يتوكأ على عصا أو قوس غير عود المنبر الذي خطب عليه
أو إلى جانبه. وفي العتبية قال مالك ولا يرقى المنبر عندنا (1). يقوم
على يسار المنبر، ومنهم من يقوم عن يمينه. وكان عبد الله بن عبد الرحمن
ابن القاسم بن محمَّد وغيره يقومون عن يمينه وكل واسع. وما أدركت من
يعيب إمساك العصا في الخطبة. ويقال فيها شغل عن مس اللحية والعبث
باليد. واختلف قول مالك في التوكؤ على القوس فروى عنه ابن وهب أنه مثل
العصا وروى عنه أنه لا يتوكأ عليه إلا في السفر.
ومن صفات الخطيب أن يخطب بحضرة الجماعة. قال ابن القصار: وليس لمالك نص
في الإِمام يخطب وحده دون من تنعقد بهم الجمعة. وأصل مذهبه عندي يدل
على أنها لا تصح إلا بحضور (2) الجماعة. وقال القاضي أبو محمَّد: هذا
البخاري على المذهب ولم أجد فيه نصًا لمتقدمي المذهب. وقال بعض
المتأخرين عندي أنه نص على هذا في المدونة بقوله: ولا يجمع بالجمعة إلا
الجماعة والإمام بالخطبة. وهذا ليس بنص كما أشار إليه لإمكان أن فيكون
إنما أراد التعرض لعدد الشروط على الجملة. لا سيما وهذا الكلام إنما
أورده في المدونة عقيب مسألة الإِمام يخطب فيهرب عنه الناس فلا يبقى
معه إلا الواحد والإثنان وهو (3) في خطبته أو بعد ما فرغ منها. فقال:
إن لم يرجعوا إليه فيصلي بهم الجمعة صلى أربعاً. فأنت تراه كيف قال
فيمن فرّوا عنه وهو في الخطبة أنهم يرجعون إليه فيصلي بهم الجمعة. وقد
يكون فرارهم ولم يذهب من
__________
(1) نص العتبية. وسئل مالك عن قيام الخطيب على المنبر في الجمعة. لا
يطلع على المنبر أعلى يمينه أم على شماله؟ قال إن جل من عندنا ليقومون
على يسار المنبر. ولقد كان عبد الله بن عبد الرحمان ابن القاسم بن
محمَّد وغيره ليقومون على يمينه. وأرى ذلك واسعًا. فقيل له فالعصا؟ قال
ما أدركت أحداً ممن أدركته ولا ممن كان عندنا إلا وهو لا يعيبها. وإن
قائلًا ليقول إن فيها لشغلًا عن مس اللحية والعبث. البيان والتحصيل ج 1
ص 40/ 341.
(2) حصول -قل-.
(3) وهو = ساقطة -و-.
(1/984)
الخطبة إلا ما لا يقع (1) به الأجزاء. وإذا
فروا والحال كذلك وعادوا للصلاة خاصة صار ذلك إشارة إلى جواز الخطبة
بغير حضرة الجماعة، إذا حمل لفظ المدونة على الإطلاق والتعميم. وهذا ضد
ما زعم أنه نص فيها لكنه نقل عن المدونة إلا بالجماعة والإمام يخطب.
فنقله قد يسعده على ما قال. ونقلنا أقرب في إمكان ما تأولناه وإلى
اشتراط الجماعة ذهب الشافعي. وذهب أبو حنيفة إلى نفي اشتراطها.
فدليلنا أنه - صلى الله عليه وسلم - خطب بحضرة الجماعة فوجب الاقتداء
به. وأيضًا فإن الغرض بالخطبة الإعلام. والإعلام إنما يراد للناس لا
للإمام. فإذا خطب وحده صار في معنى من لم يخطب أو في معنى من تحضره (2)
الجماعة ولا يسمعه أحد. وإنما جاز الأذان بغير حضرة الجماعة لأنه ليس
بشرط في صحة الصلاة.
وأما أبو حنيفة فإنه يحتج بقوله: " {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ
وَذَرُوا الْبَيْعَ} ". وظاهر هذا وجود الذكر قبل السعي. وأجيب عن هذا
بأن القصد السعي لسماع الذكر، فلو سبق الذكر سعيهم لكانوا ساعين إلى
السكوت. وهذا ضد لمراده. ويحتج بأنه كما صح أن ينفرد بالإحرام ثم
يحرمون بعد ذلك (3) يصح انفراده بالخطبة. وأجيب عن هذا بأنه لا يُحرم
إلا بحضرتهم وإن تأخر إحرامهم *عن إحرامه فكذلك الخطبة لا يوقعها
بحضرتهم* (4).
ومن صفات الخطيب أن يكون هو المصلي. وقد قال مالك فيمن قدم رجلًا فخطب
وصقى هو بالناس الجمعة لم تجزهم الصلاة. ويلزم على طرد هذا إذا خطب
الإِمام ثم قدم من يصلي بالناس اختيارًا الآ تجزي الجمعة، وإنما يباح
له الاستخلاف إذا دعت الضرورة إليه مثل أن يحدث أو يرعف فإن له أن
يستخلف من يصلي بالناس ويبني المستخلف على فعله إن عرض هذا في أثناء
الخطبة أو في أثناء الصلاة بني الثاني على فعل الأول. وكذلك إن عرض بين
الخطبة والصلاة فإن الثاني يصلي معتدًا بخطبة الأول. والحكم ها هنا
__________
(1) إلا ما يقع -و-.
(2) في معنى من خطب بحضرة الجماعة - قل-
(3) بعده كذلك -قل-.
(4) ما بين النجمين هو في -و- والنص مأخوذ من قل إلا أنه لا يستقيم
النص في نهايته إلا بزيادة -إلا- لا يوقعها إلا بخضرتهم.
(1/985)
الاستخلاف إذا كان الماء بعيدًا. واختلف
المذهب إذا كان الماء قريبًا. فروي عن مالك أنه يستخلف. وقال ابن كنانة
وابن أبي حازم ينتظر. وينبغي أن يكون المستخلف ممن شهد الخطبة. قال ابن
القاسم في المدونة (1) في الإِمام يحدث يستخلف من يتم بالقوم بقية ما
كان عليه من خطبة أو صلاة، فإن لم يستخلف قدّم القوم لأنفسهم ويقدمون
من شهد الخطبة أحب إليّ. فإن قدموا من لم يشهدها (2) فصلّى بهم أجزت
عنهم صلاتهم. ولا يعجبني أن يتعمدوا ذلك ولا يتقدم بهم. ولأشهب في
المجموعة في إمام خطب ثم أحدث فقدم جنُبًا فقدم المقدم غيره ممن لم
يشهد الخطبة فليعد الخطبة أحبّ إلى. فإن لم يعدها أجزأهم. وروى أشهب عن
مالك في العتبية: لا بأس أن يستخلف ممن لم يحضر معه الخطبة لحدث أصابه
أو مرض. وقال أبو حنيفة والثوري وأبو ثور: لا يجوز استخلاف من لم يسمع
(3) الخطبة. وقال الشافعي لا يجوز استخلاف من لم يسمع الخطبة إلا أن
يحدث الإِمام. وقد شرع في الصلاة فيجوز استخلاف من أحرم معه. وإن لم
يكن سمع الخطبة. ورأى أنه بالإحرام أثبت له حكم الجمعة وإن كان لم يحرم
ولم يسمع الخطبة لم يثبت له حكم الجمعة. فإذا سمعها ثبت له حكم الجمعة.
ومن صفات الخطيب أن يكون ممن له الولاية على الصلاة. قال مالك في
المدونة: وإن خطب بهم ثم قدم وال سواه لم يصل بهم بالخطبة الأولى
وليبتدىء هذا القادم الخطبة. قال ابن المواز إن قدم الثاني وقد صلّى
الأول بالقوم ركعة فإنه يتم بهم الركعة الثانية ويسلم ويعيد الخطبة
والصلاة. لأن خطبة الأول باطلة. وفي العتبية لابن القاسم: إذا تمادى
الأول فصلّى بهم عالمًا فليعيدوا، وإن ذهب الوقت. وإن صلى بإذن القادم
أجزتهم إذا أعادوا الخطبة.
ولا ينفع إذنه بعد الصلاة وليعيدوا ولا يصلي بهم القادم على خطبة الأول
__________
(1) في المدونة = ساقطة -و-.
(2) فإن لم يقدموا من شهد الخطبة -قل-.
(3) يحضر -قل-.
(1/986)
وليبتدئها. ولو قدمه القادم لأمر (1)
بإعادتها. وقال سحنون إن صلى بهم القادم بخطبة الأول أعادوا أبدًا.
وكذلك إن أذن للأول فصلّى بهم ولم يعد الخطبة.
وفي كتاب ابن حبيب لا بأس أن يصلي الجمعة بالناس غير الذي خطب مثل أن
يقدمه لرُعاف أو مرض، أو يقدم وال بعزل الذي خطب. وقد قدم أبو عبيدة
على خالد بن الوليد بعزله فالفاه يخطب فلما فرغ تقدم أبو عبيدة للصلاة.
وهكذا (2) رأيت لأشهب نحو ما حكاه ابن حبيب أنه إن ابتدأ الخطبة فحسن
وإن صلى بتلك الخطبة أجزته، كما لو أحدث بعد الخطبة فقدم غيره. وهذه
المسألة يخرج على هذا الاختلاف فيها بين ابن حبيب وبين ما قدمنا ذكره
من أصحابنا على اختلاف أهل الأصول في النسخ إذا ورد متى يتحقق حكمه؟ هل
ببلوغه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو ببلوغه المكلفين؟ وكذلك
ما اختلف فيه أصحابنا من إمضاء تصرف الوكيل وقد عزل ولم يعلم بعزله
(3). وما جرى في صلاة أهل قباء لما تحولوا في أثناء الصلاة إلى الكعبة
جار على هذا الأصل. وقد أولع كل من شدا (4) طرفًا من الأصول بتخريج هذه
المسائل على هذا. مع أنه لم يختلف في أنه لو قدم الثاني بعد أن فرغ
الأول من الصلاة أن الصلاة ماضية لا تعاد. وطرد هذا الأصل يقتصي جريان
الخلاف، ولو فرغ من الصلاة إذا كان الوقت باقيًا إلا أن يجعل الفراع
يحل محل تقضي الوقت. فإن هذا مما قد ينظر فيه ولا يكاد يستقل فرقًا
محققًا.
وفي كتاب ابن سحنون. إذا ذكر الإِمام يوم الجمعة وقد أحرم صلاة نسيها
فليكلمهم ويقضي ما عليه ثم يعيد الخطبة والصلاة. وإن لم يعد الخطبة
والصلاة وصلّى أعاد ظهرًا أربعًا. وإن ذكر بعد ركعة استخلف. وإن ذكر
بعد السلام أجزتهم. وقد اختلف فيه عن مالك، فأنت تراه كيف جعل الخطبة
تحل محل الصلاة فلا تجزي إذا أوقعها، وعليه صلاة منسية. فلهذا قال يعيد
الخطبة
__________
(1) أمر -و-.
(2) وكذلك -قل-.
(3) وهو لا يعلم بعزله -قل-.
(4) ولو أولع كل من نظر طرفًا -و-.
(1/987)
والصلاة إلا أن يكون رأى فعل الصلاة
المنسية قاطعًا لحكم الاتصال بين الخطبة والصلاة. فلهذا أعاد الخطبة.
فيكون ذلك مسلكًا آخر. وإن كان أمر بإعادتها لأنها حلّت محل الصلاة
باشتراط ألا تكون عليه صلاة، فتكون المسألة من هذا الأسلوب الذي نحن
فيه، وهو اشتراط كون الخطيب (1) ممن له ولاية، ويكون الجهل ليس بعذر في
المسالتين جميعًا. فلهذا لم تصح الخطبة فيهما.
قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: وليس. من شرطها أن يقيمها السلطان
ولا أن يكون العدد أربعين (2).
قال الفقيه الإِمام رضي الله عنه: قد تقدم الكلام على هذين الفصلين
وذكرنا اشتراط الوالي في الجمعة وما قاله المخالف ومن أشار إلى موافقته
* من أصحابنا وأوردنا الأدلة للمذهبين وذكرنا من اشترط الأربعين
وذكرنا* (3) ومن *اشترط عددًا سوى ذلك* (3) ووجهنا كل قول بما فيه
كفاية. والمراد بقول القاضي أبي محمَّد ها هنا لافراده بالذكر تنبيه
على ما فيه من الخلاف وهذا من حذقه بالتأليف.
قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: ويجب على من كان خارج المصر المجيء
إليها من ثلاثة أميال أو ما يقاربها، (4) ووقتها وقت الظهر.
قال الفقيه الأمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل سؤالان: منها أن
يقال:
1 - لم اعتبر في الوجوب ثلاثة أميال؟.
2 - وما وقت الجمعة *هل ينتظر الإِمام إذا أخرها*؟ (5).
فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: أما من كان بداخل المصر فإنه
__________
(1) الإِمام -قل-
(2) وليس من ذلك -غ - و - قل-.
(3) هو -و-.
(4) أو ما قاربها -غ-.
(5) ما بين النجمين ساقط من -و- وقد فصل الجواب عن هذا السؤال في خاتمة
بحثه في الإجابة عن السؤال الثاني.
(1/988)
تجب عليه الجمعة وإن لم يسمع النداء. وقد
قال بعض أصحابنا أجمع العلماء على وجوب السعي على من كان من أهل العصر
وإن لم يسمع النداء، ولا أمكن أن يسمعه. وأما من كان خارج العصر فتجب
عليه الجمعة إذا سمع النداء أو أمكن أن يسمعه. وأشار الأبهري إلى أن
ثلاثة أميال هي مقدار ما يسمع فيه الأذان. ولهذا قال أبو محمَّد ها هنا
ثلاثة أميال وما قاربها.
قال ابن القصار ومن (1) كان خارج المصر فعلى ثلاثة أضرب: ضرب تجب عليهم
الجمعة بأنفسهم لا بغيرهم، وهم أهل القرى التي فيها السوق والمسجد
يقدمون من يصلي بهم وإن كانوا من العصر على فرسخ.
وضرب آخر لا تجب عليهم لا بأنفسهم ولا بغيرهم، وهم من كان على أكثر من
ثلاثة أميال ولا سوق لهم ولا مسجد.
وضرب آخر تجب عليهم بغيرهم وهم من كان خارج المصر ويسمع النداء. وقال
أصحابنا إذا كان بينهم وبين العصر ثلاثة أميال وإن لم يسمعوا النداء.
واختلف المذهب هل المعتبر في الثلاثة أميال من المنازل أو من آخر
المصر؟ وقال محمَّد بن عبد الحكم إنما ينظر إلى ثلاثة أميال من العصر،
وحيث يقصر الصلاة المسافر في خروجه ولا ينظر إلى المسجد. وقد يكون بين
المسجد وآخر البلد أكثر من ثلاثة أميال. ومن أصعحابنا من اعتبر المنار
وإليه ذهب القاضي أبو محمَّد وبه قالت الشافعية. وحكي عن عبد الله بن
عمر وأنس بن. الك وأبي هريرة رضي الله عنهم أنهم قالوأ: تجب الجمعة على
من إذا حضرها أمكنه أن يبيت عند أهله. وقال عطاء: تجب على من كان على
عشرة أميال. وقال الزهري: ستة أميال. وقال محمَّد بن المنكدر: أربعة
(2) أميال. وحكي ذلك عن ربيعة أيضًا وحكي عنه أيضًا أنه قال: تجب
الجمعة على من إذا نودي للصلاة وخرج من بيته ماشيًا أدرك الصلاة ...
وقال مالك والليث:
__________
(1) وما -و-.
(2) ستة -و-.
(1/989)
ثلاثة أميال. وقد قدمنا ذكر ذلك عن مذهبنا.
وقال أبو حنيفة: لا تجب على من كان خارج المصر. ودليلنا على اعتبار
استماع النداء *قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا
نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ
اللَّهِ} (1). وظاهر هذا ما قلناه من استماع النداء*. (2) وقول النبي -
صلى الله عليه وسلم -: (3) الجمعة على من سمع النداء (4). ولكن هذه
الظواهر إنما تطابق مذهب من قال من أصحابنا باعتبار سماع النداء أو
إمكان سماعه. وأما من قال تجب على من كان على فرسخ وإن لم يسمع فلا
يمكنه التعلق بهذه الظواهر إلا أن يقول إنه وإن لم يسمع فإن السماع
ممكن من هذا المقدار. وأما أبو حنيفة *فإن تعلق بقوله لا جمعة إلا في
مصر وعلى أهل مصر فقد تقدم كلامنا معه على اعتبار العصر مع أن هؤلاء
إنما يجب عليهم فعلها في العصر. ولا تعلق له* (5) أيضًا في إذن عثمان
رضي الله عنه لأهل العوالي في الانصراف لما اجتمع العيد والجمعة. لما
سنتكلم عليه في تأويل هذا الخبر. وقد ذكرنا فيما نقلناه من هذه المذاهب
عن ربيعة أنه قال تجب الجمعة على من إذا نودي للصلاة وخرج من بيته
ماشيًا أدرك الصلاة. وكنا قدمنا ما ذكره بعض أصحابنا من الإجماع على
وجوب الجمعة على من كان بالمصر، وإن لم يسمع النداء. فإن كان أراد
ربيعة بهذا من كان خارج العصر فهذا فيه نظر. والواجب على مثل هذا أن
يسعى قبل النداء بمقدار ما يدرك فيه الفرض. وقد رأيت لأصحابنا اضطرابًا
فيمن كان منزله من الجامع على بُعد، هل يتعين عليه الفرض بالزوال أو
بتقدير الوصول؟ ذكروا هذا في وقت جواز السفر يوم الجمعة على ما سنورده
في موضعه. ولعل هذا الاضطراب في جواز السعي لا في إيجاب السعي قبل
الزوال لمن كان بعيد الدار. وقد ذكر القاضي أبو محمَّد أن وجوب السعي
__________
(1) سورة الجمعة، الآية: 9.
(2) ما بين النجمين = ساقط -و-.
(3) وقال عليه السلام -قل-.
(4) رواه أبو داود وصحح ابن القيم أنه موقوف وفي إسناده مقال. حديث
1015 ج 2 ص 7. وانظر حديث 593 في إرواء الغليل.
(5) ما بين النجين = ساقط -و-.
(1/990)
إذا جلس الإِمام على المنبر. قال بعض
المتأخرين إن قلنا إن حضور الخطبة واجب فيجب رواحه بمقدار ما يعلم أنه
يصل ليحضر الخطبة. وإن قلنا إن حضورها غير واجب فيجب عليه الرواح
بمقدار ما يدرك الصلاة. وهذا الذي أشار إليه هذا من إيجاب حضور الخطبة
لعله أشار إلى ما قدمنا الكلام عليه من صحة خطبة الإِمام وحده دون
الجماعة. وقد اشتمل هذا الفصل على تقسيم ابن القصار من كان خارج العصر
على ثلاثة أضرب. وأشار في أحد الأقسام إلى جواز إقامة الجمعة لمن كان
على فرسخ، وهو خلاف (1) المعروف من المذهب. وقد قدمنا قول ابن حبيب لا
تُقام إلا على مسافة بريد. وقول يحيى بن عمر على ستة أميال. وقول زيد
بن بشير على كثر من فرسخ. وقول ابن القصار هذا مخالف لهؤلاء. وقد نبهنا
على ذلك في موضعه.
والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: أما صلاة الجمعة فأول وقتها زوال
الشمس. وقال ابن حنبل يجوز فعلها قبل الزوال، واختلف أصحابه في وقتها.
فمنهم من قال أول وقتها صلاة العيد. ومنهم من قال يجوز فعلها في الساعة
السادسة. وحكى بعض من صنّف الخلاف عن مالك أنه قال يجوز فعل الخطبة قبل
الزوال ولا يجوز فعل الصلاة حينئذ. وما أرى هذا الناقل إلا وَهِم عن
مالك. وقد قال مالك في كتاب ابن حبيب فيمن خطب قبل الزوال لا تجزئهم
ويعيدون الجمعة بخطبة ما لم تغرب الشمس، كما لو صلوا بغير خطبة، وبه
قال ابن القاسم وأشهب. وقال ابن الماجشون يعيدون إلى وقت العصر فإن
صلوا العصر أعادوها ظهرًا. وبه قال ابن عبد الحكم وأصبغ. وقال سحنون
يعيدون الجمعة في الوقت ويعيدون أفذاذًا أبدًا ظهرًا. فأنت ترى إطباق
مالك وهؤلاء من أصحابه على (2) منع الإجزاء والاعتداد بالخطبة قبل
الزوال. وهذا يؤكد لك الظن بما قررناه من وَهَم هذا الناقل عن مالك.
ودليلنا على ابن حنبل قول أنس: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي
الجمعة إذا زالت
__________
(1) خلاف = ساقطة -و-.
(2) في -و-.
(1/991)
الشمس (1). وهذا (2) يوجب الاقتصار على ما
اقتصر عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - في أول وقتها وأيضاً فإن
الجمعة والظهر آخر وقتهما واحد فكان أول وقتهما واحدًا كصلاة السفر
والحضر. لأن الجمعة، إما أن تكون ظهرًا قصرت، أو بدلًا من الظهر.
وكلا الأمرين يقتضي ألا تقدم قبل الزوال كالظهر. ولا تعلق لابن حنبل
بقول وكيع الأسلمي: شهدت مع أبي بكر فكانت خطبته قبل نصف النهار (3)
لجواز أن يكون ظن أن النهار لم ينتصف. وإن كانت الشمس زالت. وهذا مما
لا يكاد أن يحقق (4) إلا بعد اعتبار الوقت. وقد أشار بعض أصحابنا إلى
أنه لا يثبت هذا الخبر عن أبي بكر رضي الله عنه بأنه صلى قبل الزوال.
فإن بعض رواته مجهول لا يعرف. ولا تعلق له أيضًا بقول أنس: كنا نقيل
بعد الجمعة (5). فإن محمله على أنهم كانوا يجعلون النوم بعدها بدلًا من
قائلة الضحى. وكذلك روي أيضًا من قوله كنا نرجع وليس للجدران ظل (6) لا
تعلق فيه لأن الصيف يكون ذلك حال الظل نصف النهار في ذلك المكان. وقال
مالك معناه ظل ممدود وقد زاغت الشمس.
وأما آخر وقتها فقد اختلف المذهب في آخر وقتها ما لم يدخل وقت العصر.
فمن أخرها حتى دخل وقت العصر صلى الظهر أربعًا. قال القاضي أبو محمَّد
في إشرافه: قال الشيخ أبو بكر الأبهري إن صلى ركعة بسجدتيها قبل دخول
وقت العصر فإنه يتمها جمعة. وإن صلى دون ذلك بنَى وأتمها ظهرًا. قال
ابن عبدوس مذهب ابن القاسم في الإِمام إذا أخر الصلاة أنهم ينتظرونه
إلى أن
__________
(1) رواه الطبراني في الأوسط عن جابر ص 184.
(2) وهو -و-.
(3) روى عبد الله بن زيدان السُلمي قال: شهدت الجمعة مع أبي بكر فكانت
خطبته وصلاته قبل نصف النهار. رواه الدارقطني وأحمد وابن أبي شيبة.
إرواء الغليل.
(4) يلحق -و-.
(5) أخرجه البخاري وأحمد. بلوغ الأماني ج 6 ص38
(6) روى البيهقي إلى سلمة ابن الأكوع عن أبيه وكان أبوه من أصحاب
الشجرة. قال كنا نصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجمعة ثم
ننصرف وليس للحيطان ظل نستظل به - البيهقي ج 3 ص191.
(1/992)
يخافوا دخول وقت العصر. وهكذا قال أبو
حنيفة والشافعي إن آخر وقت الجمعة الموسع آخر وقت الظهر. وقيل تصلّى
الجمعة ما لم تصفر الشمس. قال ابن المواز: قال أصبغ عن ابن القاسم وإذا
لم تصل الجمعة حتى اصفرت الشمس أنها تُصلى تلك الساعة جمعة. قال أصبغ
لا يعجبني أن تصلّى جمعة إذا دنا الغروب. وقيل تصلّى الجمعة ما لم يبق
بعد الجمعة إلى الغروب إلا مقدار أربع ركعات للعصر. قال سحنون: ربما
تبين لي أن وقت الجمعة ما لم يبق من النهار إلا مقدار أربع ركعات
للعصر. فذكر له قول من قال: وقتها ما لم تصفر الشمس فأنكره ولم يقل به.
وقال ابن القاسم: تصقى ما لم يبق إلا قدر ركعة للعصر (1). وقد قدمنا ما
حكاه ابن حبيب عن مطرّف فيمن صلى الجمعة بغير خطبة أنهم يعيدون الصلاة
بالخطبة ما بينهم وبين غروب الشمس، وإن لم يصلوا العصر إلا بعد الغروب.
وقول ابن الماجشون يعيدون ما بينهم وبين وقت العصر. ورأيت بعض أصحابنا
حكي عن المذهب قولاً آخر وهو اعتبار خمس ركعات سوى الخطبة على الوسط
مما تجزي الصلاة به. وقيل بل على إعادته في صلاته. قال ابن القصار: كان
قولي وقول الشيخ أبي بكر قد اتفق على أنه ينبغي أن يراعى مقدار ثلاث
ركعات قبل الغروب ركعتان للجمعة وركعة يدرك بها العصر. قال بعض
الأشياخ: يريد بعد قدر الخطبة. وأشار ابن القصار إلى تأويل ما حكيناه
عن مالك من أن الجمعة تصلّى وإن لم يفرغ منها إلا بعد الغروب، بأن صلاة
الناس تختلف بالطول والقصر. فيعتبر كل واحد صلاة نفسه. وصلاة الجمعة
لما كانت لا تصح إلا بالجماعة اعتبر الغالب من صلاة الناس، فإذا غلب
على ظنه أنه بقي من النهار قدر ثلاث ركعات دخل في الجمعة. فإن اتفق له
التطويل على حسب عادته فليصلها وإن لم تنقض صلاته إلا بعد الغروب. لأن
التقدير صح في أولها. قال ويحتمل أن يكون حكم هذه الصلاة وحكم المنفرد
واحدًا. ويكون المنفرد إذا قدر أنه بقي عليه من النهار ثلاث ركعات
فأخطأ في تقديره فإن خطاه لا يضره إذا غربت الشمس وهو على اجتهاده
فحكمه التمادي على ما دخل عليه، كمسافر سافر وعليه الظهر والعصر فأخطأ
في اجتهاده فصلّى
__________
(1) للعصر = ساقطة -و-.
(1/993)
الظهر فغربت الشمس قبل أن يفرغ منها فهو
على ما دخل عليه من صلاة السفر.
وكأن هذا الذي أشار إليه ابن القصار من اختلاف العادة في الطول والقصر
خلاف ما كنا قدمناه في باب الكلام في الأوقات من اعتبار قدر المفروض من
الركعة خاصة على ما كنا بسطنا القول فيه هناك. وذكرنا تخريج الخلاف في
اعتبار أتم القرآن على الخلاف في وجوب قراءتها وما ذكرناه هناك يغني عن
مراعاة الطول والقصر. وسبب هذا الاضطراب في وقت الجمعة أن صلاة الجمعة
فرض عين وجعلت ظهرًا مقصورة أو بدلًا من الظهر على ما مرّ الكلام عليه.
ولم ينقل أنه - صلى الله عليه وسلم - صلاها في وقت الضرورة بل لم
يوقعها إلا في وقت الاختيار. فمن اقتفى أثر فعله فيها رأى أن بدخول وقت
العصر خرج وقتها لأن إثبات وقتها بعد العصر يفتقر إلى دليل ولا دليل
عنده يدل على إثبات ذلك فلم يجز فعلها فيه، كما لم يجز فعلها في الليل
لما لم يرد الشرع به. ولم يسلك طريق الاقتفاء على ما هو عليه بل استعمل
القياس. قال قد ثبت أن الجمعة ظهر مقصورة أو بدل من الظهر وقد قام
الدليل على أن للظهر وقت ضرورة فكذلك الصلاة التي هي هي (1) أو بدلًا
منها يجب أن يكون وقتها كوقتها قبل التغيير أو كوقت ما هو بدل منها ثم
يختلف هؤلاء في وقت الضرورة هل يعتبر فيه أن يبقى أربع ركعات للعصر أو
ركعة واحدة؛ فإن اعتبرنا مقدار أربع ركعات أثبتنا عليه ما حكيناه عن
سحنون في اعتبار (2) ذلك في وقت الجمعة. وإن اعتبرنا مقدار ركعة للعصر
أثبتنا عليه ما قال ابن القاسم ها هنا من اعتبار ركعة. وقد كنا قدمنا
في باب الأوقات ذكر الاختلاف في هذا الأصل واستدلال أهل المذهبين فيه.
وما حكاه بعض الأصحاب من اعتبار خمس ركعات، عندي أن وجهه أنه لما كان
هذا المقدار هو المعتبر في أوقات الضرورة في غير يوم الجمعة اعتبره في
يوم الجمعة وجعل اعتبار الركعتين ها هنا ينوب مناب اعتباره مقدار
الخطبة *لكنه كان ينبغي أن يعتبر هذه الخمس من غير اعتبار لمقدار* (3)
الخطبة. والناقل عنه
__________
(1) التي هي أو بدلًا -و-.
(2) لاعتبار -و-.
(3) ما بين النجمين = ساقط -و-.
(1/994)
قد أشار لاعتبارها. فإذا وضح ما قلناه في
آخر وقت صلاة الجمعة. فما الحكم إذا خرج وقتها وهو فيها؟ قد كنا قدمنا
قول مالك يصليها وإن كان لا يفرغ منها إلا بعد المغيب. وقول الأبهري إن
عقد ركعة بسجدتيها قبل خروج وقتها أتمها جمعة. وإن لم يعقد ذلك بني
وأتمها ظهرًا. وقد كنا قدمنا الكلام علي بناء أربع ركعات على تحريمه
ركعتين. وهل يعتبر العدد في النية (1) وذكرنا في مواضع من هذا الكتاب
الكلام على هذه الجمل بما يغني عن إعادتها. وقد قال أبو حنيفة ها هنا
إذا دخل وقت العصر وقد بقي عليه فرض من فروضها كالسجدة والركعة والجلسة
بطلت. وقال الشافعي: يبني عليها ظهرًا. وقد استدل بعض أصحابنا على أبي
حنيفة بأن الصلاة إذا افتتحت على شرائطها لم تنتقض بطريان ما يضادها
كالمتيمم يطرأ عليه الماء *وقد تقدم كلامنا على اختلاف في بعض فروع هذا
الأصل. وذكرنا حجتنا على أن المتيمم لا ينتقض تيممه بطريان الماء* (2)
وهو في الصلاة. فإذا ثبت لنا (3) ذلك ناقضنا به أبا حنيفة.
واستدل على الشافعي بأن صلاة الظهر والجمعة مختلفان فلا تبنى إحداهما
على تحريم الأخرى كما لا تبنى العصر على تحريم الظهر. فإن ناقضونا
بالمسافر يبني أربعًا على تحريمه ركعتين فإنه لا يجزيه عندنا. *وهذا
الذي قاله من أنه لا يجزيه عندنا* (4) قد قدمنا نحن ذكر الاختلاف فيه.
وما في المذهب من الاضطراب في اعتبار العدد في النية. وقد انفصل بعض
أصحاب الشافعي عن القياس بأن الظهر والعصر صلاتا وقتين، فلاختلاف
وقتيهما لم تبن إحداهما على الأخرى. بخلاف الظهر والجمعة فإن وقتهما
واحد فيصح فيهما البناء. واحتج لإبطال الصلاة لأن الوقت شرط في ابتداء
الجمعة بغير خلاف فيجب أن يكون شرطًا في استدامتها قياسًا على سائر
شروط الصلاة كالطهارة وغيرها. ولا تقاس الجمعة في هذا على غيرها من
الصلوات، فإن غيرها من
__________
(1) في البناء -قل-.
(2) ما بين النجمين = ساقط -و-.
(3) لنا = ساقطة -و-.
(4) ما بين النجمين = ساقط -و-.
(1/995)
الصلوات يجوز ابتداؤها بعد خروج الوقت فلما
جاز ابتداؤها بعد خروج الوقت، جاز استدامتها لأن الاستدامة كالابتداء.
ولما كانت الجمعة لا يجوز ابتداؤها بعد خروج الوقت لم تجز استدامتها
لما قدمناه من وجوب كون الاستدامة كالابتداء. وفي المدونة إذا كان
الإِمام يؤخر صلاة الجمعة ويأتي من ذلك بما يستنكر فإن القوم يجمعون
لأنفسهم إن قدروا على ذلك، فإن لم يقدروا صلّوا لأنفسهم أربعاً. ولم
يذكر الوقت الذي يستنكر متى هو. ويجب أن يبني على ذلك ما ذكرناه من
الخلاف في آخر وقت الجمعة. وأشار ابن حبيب إلى أن المخالفة إذا اشتدت
حتى لا تمكنهم الصلاة، فإنهم يصيرون كالخائف من العدو لا يقدر أن يركع،
فإن العلماء أجازوا له الصلاة إيماءًا. فكذلك هؤلاء يُومون (1)
برؤوسهم. وإذا أبطأت الجماعة على الإِمام فقال ابن عبدوس مذهب ابن
القاسم أنه ينتظرهم إلى وقت العصر، كالمتيمم يرجو الماء فإنه لا يكون
إلا لمن لا يجد الماء. كما أن الظهر لا تكون إلا لمن لا يجد الجماعة.
قال ابن عبدوس: إذا انتظروا الإِمام فلم يأت فصلوا لأنفسهم لم تقم
الجمعة بهم لإمكان أن تكون صلاتهم معه نافلة فصاروا كإمام صلى في بيته
ثم أتى الجماعة فإنه لا يؤمهم. ولو أن الإِمام كان معه ممن لم يصل
الظهر من تقوم به جمعة فإنه يصليها بهم وإن كان وقت العصر قد دخل.
ويقال لمن صلى إن شئتم فصلوا معه، ويجعل الله فرضكم أفي الصلاتين شاء.
وحكى ابن سحنون عن بعض أصحابنا (2) في الإِمام إذا تأخر صلوا الظهر
أفذاذًا إذا خافوا فوات الوقت، والوقت فيه ما لم تصفّر الشمس. وأنكره
سحنون. وقال: بل حتى لا يبقى إلا ما يصلون فيه بعض العصر بعد الغروب.
وأشار الشيخ أبو محمَّد إلى أن التأخير إذا رجوا إقامتها وأما إن
أيقنوا أنه لا يأتى فلا تؤخر الظهر. وأشار بعض أشياخ صقلية إلى أن
الإِمام إن لم يعتد التأخر انتظر إلى آخر وقت الظهر. وإن كان التأخر من
عادته لم ينتظر وصليت الظهر في الوقت المستحب وهو ربع القامة إلا أن
يكونوا اعتادوا التأخر إلى آخر الاختيار فينتظر. قال وهذا بخلاف من هرب
__________
(1) من الأيماء.
(2) عن بعض أصحابنا = ساقطة -و-.
(1/996)
الناس عنه فطمع برجوعهم فإنه ينتظرهم حتى
يبقى للغروب مقدار الخطبة والجمعة وركعة للعصر. وإذا اعتبرنا مقدار
الخطبة ها هنا كان في فسحة إن لم يأتوا أدرك إن لم يصلوا الظهر أربعًا
والعصر كذلك قبل غروب الشمس. لأن الخطبة ربما كان فيها مقدار ركعتين أو
أكثر. وقد اختلف المذهب فيمن صلّى الجمعة ناسيًا لنجاسة أو صلاة (1)
فقيل هي كغيرها من الصلوات (2). وقال أشهب وسحنون وقت الجمعة الفراغ
منها.
قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: ولها أذانان عند الزوال وعند جلوس
الإِمام على المنبر يؤذن بهما جميعًا على المنار لا (3) بين يدي
الإِمام.
قال الفقيه الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل سؤالان: منهما أن
يقال:
1 - لم قال للجمعة أذانان؟.
2 - وما معنى قوله لا بين يدي الإِمام؟.
فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: قال مالك: لا يؤذن للجمعة حتى تزول
الشمس. قال ابن شهاب عن السائب بن يزيد: أن أول من زاد الأذان الذي
يؤذن لها (4) قبل خروج الإِمام عثمان رضي الله عنه. ولم يكن يؤذن بعهد
النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى يخرج ويجلس على المنبر، فيؤذن مؤذن
واحد على المنار. قال ابن حبيب: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا-
دخل إلمسجد رقى المنبر فجلس ثم أذن المؤذنون وكانوا ثلاثة يؤذنون على
المنار واحدًا بعد واحذ. فإذا فرغ الثالث قام النبي - صلى الله عليه
وسلم - يخطب. وكذلك في عهد أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. ثم أمر عثمان
رضي الله عنه لما كثر الناس أن يؤذن بالزوراء عند الزوال. وهو موضع
السوق ليرتفع منه الناس. فإذا خرج وجلس على المنبر أذن المؤذنون على
المنار. ثم إن هشام بن عبد الملك في إمارته نقل الأذان الذي كان في
الزوراء إلى المسجد
__________
(1) هو -و-.
(2) فقيل هي كغيرها -و-.
(3) ويؤذن لهما على المنار لا جمعًا -غ- ويؤذن لها على المنارة لا
جمعاً - الغاني.
(4) به - قل.
(1/997)
فجعله مؤذنًا عند الزوال على المنار، فإذا
خرج هشام جلس على المنبر وأذن المؤذنون كلهم بين يديه فإذا فرغوا خطب.
قال ابن حبيب والذي مضى من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - أحق أن
يتبع.
والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: إنما نبّه بقوله جميعًا لا بين يدي
الإِمام على أن المشروع عنده خلاف ما فعله هشام بما حكيناه عنه. وفي
المجموعة قال مالك: وهشام الذي أحدث الأذان بين يديه. وإنما الأذان على
المنار واحداً بعد واحد إذا جلس الإِمام على المنبر. فإذا فرغوا قام
يخطب وهو الذي يحرم به البيع. ولا أحب أيضًا ما أحدثوا من الأذان على
الشرفات حِذاء الإِمام ولا من الإقامة. كذلك، وليقفوا (1) بالأرض،
وبعضهم على المنار (2) لإسماع الناس (3). وقال في مختصر ابن شعبان إذا
صلى غير الإِمام الجمعة فلا يؤذنون بين يديه على أن الأذان بين يدي
الإِمام ليس من الأمر الأول فلأجل ما ذكرناه ها هنا من قول مالك نبه
القاضي أبو محمَّد على ذلك بقوله جميعًا لا بين يدي الإِمام (4).
قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: والخطبة فيها قبل الصلاة يجلس أولها
وبعد الفراغ من الأولى. ويخطب متوكئًا عدى قوس أو عصا. ولا يسلم.
والأفضل أن يكون متطهراً.
قال الفقيه الأمام رحمه الله: قد تقدم الكلام على ما اشتمل عليه هذا
الفصل لما تكلمنا على الجلوس في الخطبة. وكذلك تكلمنا على كون الإِمام
يخطب متوكئًا (5). وقد أعرب ما أورده القاضي ها هنا عن حذقه بالتأليف
واطلاعه لأنا كنا قدمنا ما وقع في المذهب من الاختلاف في الاتكاء على
القوس، ولما اطلع القاضي أبو محمَّد على ما فيه من الخلاف خصه بالذكر
لينبه
__________
(1) وليقيموا - قل.
(2) المنابر -و-.
(3) هكذا في جميع النسخ.
(4) بين يديه
(5) متكئًا -و-.
(1/998)
على ما قيل فيه، وكذلك تقدم كلامنا على حكم
الطهارة في الخطبة وما وقع فيها من الاضطراب لكن اشتمل هذا الفصل على
أن الإِمام لا يسقم، وهذا مما لم يتقدم كلامنا عليه. وقد ثبت أن السلام
مشروع. فالأصل أن الإِمام إذا دخل على قوم سلم عليهم. وقد اختلف الناس
في سلامه إذا صعد المنبر، فنهاه مالك عن السلام إذا صعد المنبر، وأنكر
في العتبية سلام الإِمام على الناس إذا رقى المنبر وإذا قام ليخطب.
وهكذا قال أبو حنيفة: أن الإِمام لا يسلم على الناس وقد صعد
المنبر.*وقال الشافعي: إذا صعد المنبر* (1) واستقبل الناس بوجهه سلم
عليهم. وروي ذلك عن ابن الزبير. وقد قال ابن حبيب: إذا جلس للخطبة
فليسلم على الناس وليسمع من يليه ويرد عليه من سمعه. وهذا إذا كان لما
دخل كان ممن يرقى المنبر أو يخطب إلى جانبه. ولو كان مع الفاس يركع أو
لا يركع فلا يسلم إذا جلس للخطبة.
وقد احتج الشافعي (2) على أنه يسلم بما روي من أنه - صلى الله عليه
وسلم - كان إذا دنا من منبره يوم الجمعة سلم على من عند منبره ثم يصعد.
فإذا استقبل الناس سلم عليهم ثم جلس (3). قالوا: ولأنه (4) استدبر
الناس عند طلوعه فأمر بالسلام إذا استقبل الناس.
قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: وينصت له.
قال الفقيه الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل ستة أسئلة: منها أن
يقال:
1 - هل الانصات واجب والإمام يخطب؟.
2 - وهل يجب وإن لغا الإِمام؟.
3 - وهل يمنع الكلام وإن كان بالذكر؟.
__________
(1) ما بين النجمين = ساقط -و-.
(2) أصحاب الشافعي - قل.
(3) رواه ابن عساكر وابن علي. منتخب كنز العمال ج 3 ص 295
(4) ولأنه - هكذا في جميع النسخ ولعل الصواب حذف الواو.
(1/999)
4 - ومتى مبدأ الإنصاف ومنتهاه؟.
5 - وهل ينكر على المتكلم والإمام يخطب؟.
6 - وما يحل محل الكلام في المنع؟.
فالجواب عن السؤال الأول: أن بقال: الانصات عندنا للخطبة واجب، والكلام
حينئذ محرم. وبه قال عثمان وابن عمر وابن مسعود رضي الله عنهم وأبو
حنيفة والأوزاعي وابن حنبل، وبه قال الشافعي في القديم. ورأى الامساك
عن الكلام مستحبًا وليس بواجب، وهو قول عروة بن الزبير والنخعي والشعبي
والثوري.
فدليلنا في وجوب الإنصاف قوله - صلى الله عليه وسلم -: إذا قلت لصاحبك
أنصت والأمام يخطب فقد لغوت (1). قيل معناه فعلت اللغو الذي هو الإثم.
قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} (2).
فإذا نهى عن مثل هذا الكلام الذي هو تغيير منكر فنهيه عما سواه من
الكلام المباح جنسه أولى. ولا يصح أن يقال يحتمل أن يكون المراد لغوت
إذا أمرت بالإنصات من لايحب عليه لأن الإنصاف مأمور به، ولو كان الكلام
مباحًا والتشاغل به عن لايحب عليه لأن الإنصاف مأمور به، ولو كان
الكلام مباحًا والتشاغل به عن الإِمام سائغًالأولم يكن للخطبة معنى. إذ
لا فائدة في خطاب من لا يفهم ما يقال له.
وقد استدل من قال: أن الإنصاف مستحب وليس بواجب، بما روي أنه - صلى
الله عليه وسلم - كان يخطب، فقام رجل، فقال: يا رسول الله، متى الساعة؟
فأعرض عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأومأ الناس إليه بالسكوت فلم
يقبل وأعاد الكلام فلما كان في الثالثة قال له النبي - صلى الله عليه
وسلم -: ويحك ما أعددت لها؟ قال: حب الله ورسوله. فقال: أنت مع من
أحببت. فلو كان الكلام محرمًا لأنكره النبي - صلى الله عليه وسلم -،
وكذلك أيضًا لم ينكر - صلى الله عليه وسلم - على سائله أن يستسقي (3).
ولا يُسلم هؤلاء أن معنى لغوت أي أثمت أي
لأنه قد لا يكون اللغو إثمًا. قال الله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ الله
بِاللَّغْوِ في
__________
(1) رواه الشيخان والأربعة والبيهقي وأحمد. حديث 619 إرواء الغليل ج 2
ص 80.
(2) سورة المؤمنون، الآية: 3.
(3) رواه البخاري: فتح الباري ج 3 ص 64.
(1/1000)
أَيْمَانَكُمْ} (1). وقد أشار بعض أصحابنا
إلى أنه إنما ترك الإنكار على المستسقى لأنها حالة (2) ضرورة دعته إلى
طلب الاستسقاء فعذر في الكلام لأجل الضرورة.
وأما حديث السائل عن الساعة فإن كان في خطبة الجمعة فلهم فيها تعلق وإن
كان في غيرها من الخطب التي لم (3) يشرع فيها الإنصاف فلا تعلق به.
والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: اختلف المذهب في الإِمام إذا لغا،
فقال مالك في المجموعة إذا شتم الإِمام الناس ولغا، فعلى الناس الإنصاف
ولا يتكلمون. قال أشهب ولا يقطع ذلك خطبته. وقال ابن حبيب إذا خرج
الإِمام من خطبته إلى اللغو وإلى ما لا يعني من لعن أحد فليس على الناس
الإنصاف إليه والاقبال عليه. ولهم التحول عنه والحديث وقد فعله ابن
المسيب. وقال مالك في العتبية في إمام يأخذ في قراءة الكتب: ليس من أمر
الجمعة فليس على الناس الإنصاف. فوجه إباحة الكلام أن الإنصاف إنما شرع
لتسمع الخطبة التي إيرادها مشروع، وشرعت لمنفعة الحاضرين. فإذا خرج
منها إلى معنى آخر ليس معناه كمعناها لم يجب الإنصاف. ووجه النهي عن
ذلك حماية الذريعة لئلا يعود إلى الخطبة والمتكلمون لم يقطعوا كلامهم.
والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: مذهب مالك وأبي حنيفة أن العاطس لا
يشمّت، والإمام يخطب. وقال بعض أصحاب الشافعي رد السلام وتشميت العاطس
مبنيان على القولين، فإن قلنا إن الكلام محزم لم يجب الرد ولا التشميت.
وإن قلنا ليس بمحرم فيجوز الرد. قال ابن المسيب وقتادة لا يشمت العاطس.
وحكي عن قتادة أنه قال يرد السلام ويُسمعه. وقد قدمنا نحن مذهبنا في
تحرير الكلام واستدللنا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: إذا قلت لصاحبك
أنصت والإمام يخطب فقد لغوت (4). فإذا نُهي عن النطق بتغيير المنكر كان
النهي عن تشميت العاطس ورد السلام أولى. قال بعض أصحابنا لأن الاستماع
واجب والرد
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 225.
(2) حال - قل.
(3) لم = ساقطة -و-.
(4) متفق عليه، تقدم تخريجه قريبًا.
(1/1001)
والتشميت مسنونان، فلا يترك واجب لمسنون.
وقال مالك إن عطس حمد الله في نفسه. قال ابن حبيب إن عطس فليحمد الله
ولا يجهر كثيرًا. وقال مالك إذا ذكر الإِمام الجنة والنار فليستجيروا
وليسالوا في أنفسهم. وكذلك في الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -
والسلام عليه. قال أشهب: والإنصات أحبّ إليّ. فإن فعلوا فسرًا في
أنفسهم. قال ابن حبيب ولا بأس أن يدعو الإِمام (1) في خطبته المرة بعد
المرة، ويؤمن الناس ويجهروا بذلك جهرًا ليس بالعالي ولا يكثروا منه.
وقال مالك إذا مرّ (2) في خطبته بالصلاة على النبي - صلى الله عليه
وسلم - فليفعل ذلك الرجل في نفسه، وكذلك تأمينهم على دعائه. وقال أيضًا
إذا قرأ الإِمام إن الله وملائكته يصلون على النبي، فليصلوا عليه في
أنفسهم. قال بعض المتأخرين ما كان من الكلام ليس بعبادة منع وإن قلّ.
وإن كان فيه عبادة منع كثيره؛ لأنه مشغلة عن الخطبة وهي لا تفوته، (3)
وأما يسيره فإن كان يختص بالمتكلم كحمد الله تعالى عند العاطس والتعوذ
من النار عند ذكرها فخفيف؛ لأنه لا يشغل عن الإصغاء. وقال أشهب:
الانصات أحب إلينا وإن فعلوا فسرًا، وإن كان لا يختص به مثل التشميت
للعاطس فممنوع. وذكر قول مالك في الصلاة على النبي - صلى الله عليه
وسلم - في النفس عند قراءة الآية، وقول ابن حبيب في التأمين جهرًا. وقد
قدمناه (4) ثم قال: الإِمام مستودع تأمينهم وهو بالآية مستودع للصلاة
على النبي - صلى الله عليه وسلم -. فهذا الاختلاف في إباحته وإنما
الخلاف في صفة النطق به من سر أو جهر. قال في مختصر ابن شعبان وإذا قرأ
الإِمام يوم الجمعة: {إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى
النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ
وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (5). فلا بأس أن يصلي الناس عليه ويؤمنوا ولا
يرفعوا بذلك أصواتهم. وقاله الليث ولم يذكر رفع الصوت. ويؤمن الناس على
دعاء الإِمام يوم الجمعة في أنفسهم. قال ابن شعبان: وقال أبو حنيفة
وأصحابه السكوت أفضل من الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا
__________
(1) أو يدعو للإمام -و-.
(2) إذا أمر -و-.
(3) وهي مما يعرف -قل- وكلاهما غير واضح المعنى.
(4) وقد قدمنا - قل.
(5) سورة الأحزاب، الآية: 56.
(1/1002)
صلّى الإِمام عليه على المنبر. وقال ابن
الزبير الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الجمعة ليس من
السنّة. قال ابن شعبان معناه لا يقال مع الإِمام كما يقول على المنبر.
وإذا وضح مذهب الشافعي أن الإِمام إذا قرأ إن الله وملائكته يصلون على
النبي الآية جاز لمستمع الخطبة أن يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم
-، ويرفع بها صوته. قال بعض أصحابه كما يستحب له أن يسأل الرحمة عند
آية الرحمة ويستعيذ من العذاب عند آية العذاب، فينبغي أن تكون الصلاة
مثل ذلك في حكم كلام السامعين ونطقهم بما فيه عبادة.
فهل يجوز للإمام أيضًا أن يتكلم بما ليس من الخطبة حينئذ لأنه لا بأس
أن يتكلم بما كان من أمر أو نهي ولا بأس أن يجاوبه من كلمه الإِمام؟
قال مالك في العتبية لا بأس أن يأمر في خطبته بالأمر الخفيف أو ينهى
عنه. وقال في مختصر ابن شعبان لا بأس بكلام الإِمام يوم الجمعة على
المنبر بغير الخطبة إذا كان كلامًا من الحق يعظ إنسانًا به ويأمر به
وينهي عنه ويجهر به ليسمع وينصت له، وبلغني أن عمر بن الخطاب رضي الله
عنه تكلم بكلام كثير *يوم الجمعة.
قال ابن شعبان وقاله الأوزاعي. وقد روى عن عطاء أن النبي - صلى الله
عليه وسلم - كان يخطب يوم الجمعة فرأى ابن مسعود فقال يا ابن مسعود
تعال. ورأى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلًا في الشمس وهو يخطب
فأمره أن يتحول إلى الظل. وقد أشار ها هنا ابن شعبان إلى استدلال مالك
بأنه بلغه أن عمر رضي الله عنه تكلم بكلام كثير على المنبر* (1).
والحديث المشهور من قول عمر رضي الله عنه لمن تأخر أيّ ساعة هذه؟
فأجابه ما زدت على أن توضأت يؤكد استدلال مالك بما بلغه عنه.
والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: أما مبتدأ تحريم الكلام فعندنا
وعند الشافعي أنه إذا بدأ في الخطبة. وقال أبو حنيفة: بل بخروج الإِمام
يحرم الكلام. ولنا ما روي عن ثعلبة بن أبي مالك أنه قال: جلوس الإِمام
على المنبر يقطع السجدة يعني التنفل. وكلامه يقطع الكلام ولقد كان
الناس في زمن عمر يوم الجمعة يصلون حتى يخرج عمر فإذا خرج عمر وجلس على
المنبر وأذن
__________
(1) ما بين النجمين = ساقط من -و-.
(1/1003)
المؤذن جلسوا يتحدثون حتى إذا سكت المؤذن
وقام عمر سكتوا، فلم يتكلم أحد حتى يفرغ من الخطبتين كلتيهما، ويقيم
المؤذن. ثم يتحدثون. وأما أبو حنيفة فيحتج بقوله في الحديث من اغتسل
يوم الجمعة ثم ذكر الحديث إلى قوله ثم إذا خرج الإِمام أنصت (1) فعلق،
الإنصاف بالخروج. وقد أجيب عن هذا بأن الرواية اختلفت. ففي بعضها وأنصت
إذا خطب فيحمل قوله إذا خرج على أن المراد به خرج وخطب. وحكى بعض
المصنفين عن الشعبي والنخعي ما ظاهره أن الإنصاف إنما يجب إذا قرأ
الإِمام القرآن خاصة، وقد كنا نحن نقلنا عنهما استحباب الإنصاف على
الجملة فإن كانا لا يحرّمانه إلا عند القراءة كان المبدأ عندهما خلاف
ما حكيناه عنهما وعن أبي حنيفة.
وأما منتهاه ففراغ الإِمام من الخطبتين *وبه قال الشافعي وكره أبو
حنيفة والحكم الكلام بعد الفراغ من الخطبتين* (2). وبه قال ابن عباس.
واختلفت الرواية عن ابن عمر. ودليلنا قول أنس كان النبي - صلى الله
عليه وسلم - يوم الجمعة، ينزل من المنبر فيقوم الرجل فيكلمه في الحاجة
ثم ينتهي إلى مصلاه فيصلي (3). واحتج أصحاب أبي حنيفة بأن الصلاة لما
كرهت حينئذ كره الكلام. وانفصلا عن ذلك بأن الصلاة إنما نهي عنها حينئذ
لكونها مانعة من الاشتغال بالفرض. والكلام لا يشغل عن الفرض. ولما كان
الكلام والصلاة حال الخطبة يشغلان عنها استويا في النهي. ولما افترقا
في الاشتغال بعد الفرك افترقا في النهي. وقد قال الحسن البصري لا بأس
بالكلام بين الخطبتين. وإنما لم نعد مذهبه مذهبًا ثالثًا في المنتهى
لأن هذه الإباحة لا تدوم. وكلامنا في منتهى التحريم والانتقال إلى
إباحة تدوم ما لم يعرض عارض يمنعها. والردّ عليه أن الخطبتين أقيمتا
مقام الركعتين، فلما لم يجز الكلام في الفصل بين الركعتين *لم يجز
الفصل بين الخطبتين* (4). وإذا وضح ما قلناه في تحريم الكلام، مبدئه
ومنتهاه فحكم من
__________
(1) البخاري فتح الباري ج 3 ص 43. وسنن البيهقي ج 3 ص 242 - 243
(2) ما بين النجمين = ساقط -و-.
(3) رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وأحمد وفي إسناده مقال
وقال الترمذي ورمى البخاري رواية جرير ابن حازم بالوهم.
(4) ما بين النجمين = ساقط -و-. ولعل الصواب لم يجز في الفصل بين.
(1/1004)
لم يسمع الخطبة عندنا كحكم من سمعها فيما
قلناه. وفي الواضحة ونحوه في المختصر يجب على الناس الإنصاف للإمام
والتحول إليه إذا أخذ في الخطبة على من سمعه ومن لم يسمعه. وقال عروة
بن الزبير وابن حنبل يجوز الكلام لمن لم يسمع الخطبة. وهو أحد قولي
الشافعي هكذا في كتب بعض أصحابنا عنه. وفي كتب بعض أصحابه أن الكلام
يمنع في حق من سمع ومن لم يسمع إلا من كان بعيدًا، هو بالخيار بين أن
يسكت أو يقرأ القرآن، وإن سبّح فلا بأس. وقد روي عن عمر رضي الله عنه
أنه قال من كان قريبًا يسمع الخطبة وينصت، ومن كان بعيدًا ينصت فإن
للمنصت الذي لا يسمع الخطبة مثل الذي يسمع. وروي عن عثمان رضي الله عنه
نحو ذلك. وهذا يؤكد ما ذهبنا إليه من كون من لا يسمع كمن يسمع. وأما
أصحاب الشافعي فإنهم رأوا أن كونه لا يسمع يبيح التشاغل بالقرآن والذكر
لأن القرآن والذكر أولى به من السكوت.
والجواب عن السؤال الخاص: أن يقال: قال في المختصر لا يقول لمن لغا
أنصت. وقال مالك أيضًا في المبسوط إذا تكلم رجلان فلا بأس أن يشير لهما
بيده ينهاهما أو يغمزهما أو يسبّح بهمالأولا يرفع صوته بالتسبيح. وقال
أيضًا في الاستغفار والتهليل والاستجارة من النار والصلاة على النبي -
صلى الله عليه وسلم - إذا مرّ الإِمام بذكر ذلك لا بأس به ما لم يرفع
صوته أو يشتغل بذلك عن الاستماع.
وأما ابن عمر فإنه رأى رجلين يتحدثان والإمام يخطب فحصبهما أن اصمتا.
قال عيسى ابن دينار ليس العمل على التحصيب ولا بأس أن يشير إليه. قال
بعض المتأخرين لعل ابن عمر حصبهما لينظرا إليه فيشير إليهما بالصمت"
وأمن أن يؤدي أحداً. فإن كان ابن دينار خاف الأذى من التحصيب فإنما
أنكر إطلاق اللفظ بذلك، وإن كان أنكره لكثرة العمل والاشتغال فهو مخالف
للرواية عن ابن عمر. وبالجملة فمقتضى مذهب مالك: *أن لا يشير إليهما.
وهو الصواب.
لأن الإشارة كالنطق - وهذا الذي جعله هذا من مقتضى مذهب مالك:* (1).
وقد قدمنا عن مالك في المبسوط خلافه. وفي مختصر ابن شعبان من رأى رجلًا
يكلم غيره فلا يحصبه فإذا انقضت الصلاة وعظه. قال ابن شعبان نهى
__________
(1) ما بين النجمين = ساقط -و-.
(1/1005)
النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الحذف في
المسجد. وقال بعض أصحاب الشافعي ليس للشافعي نص في الإشارة والذي يجيء
على مذهبه أنه لا بأس بذلك ويكره الحصب بالحصباء. وكان ابن عمر يحصب من
يتكلم بالحصاة. وربما أشار إليه. وقال طاوس: تكره الإشارة إليه، ودليل
جواز الإشارة أن الصحابة أشارت (1) إلى الرجل الذي سأل النبي - صلى
الله عليه وسلم - عن الساعة. وأما الحصب بالحصباء فإنما يكره (2) لما
فيه من الأذى.
والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: يجوز الاحتباء عندنا والإمام يخطب.
قال ابن حبيب ويلتفت يمينًا وشمالًا. ويمد رجليه. وقيد في مختصر ابن
شعبان الالتفات فقال: لا بأس بالالتفات اليسير والإمام يخطب. وكره بعض
أصحاب الحديث الاحتباء ورووا فيه حديثًا قد طعن في إسناده.
وأما شرب الماء حينئذ فقال في مختصر ابن شعبان إذا جلس الإِمام على
المنبر فلا يشرب ماء وإن لم يكن خطب. ولا ينبغي لمن فيه أن يفعل. وكذلك
بعد الخطبة لا يشرب ماء. وقال مالك أيضًا في العتبية لا يشرب الماء
والإمام يخطب. ولا يقوم حينئذ أحد بالماء. وقال الأوزاعي إن شرب بطلت
جمعته وأجازت الشافعية الشرب للعطش والتبرد. ودليلنا أن ما يشغل عن
استماع الخطبة يمنع منع كالكلام.
وأما الأوزعي فإنه أفرط حتى قال بعض الناس فيه: أنه خالف الإجماع.
وأما البيع فإنه يمنع إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة لقوله:
{فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} (3). وإنما تعلق
منع البيع بالنداء في حق من كان إذا سعى عند النداء أدرك الخطبة
والصلاة. وأما من كان بعيدًا الدار ممن يعلم أنه إذا أخر السعي إلى
النداء فاتته الجمعة فإن السعي يجب عليه قبل ذلك بمقدار ما يعلم أنه لا
يفوته ما توجه عليه السعي إليه؛ لأنه إن باع حينئذ شغله البيع عن السعي
وإذا اشتغل عن السعي فاتته الجمعة. وقد كنا أشرنا إلى ميقات الوجوب
__________
(1) أشاروا -و-.
(2) كره -و-.
(3) سورة الجمعة، الآية: 9.
(1/1006)
في حق بعيد الدار وذكرنا اضطراب أصحابنا في
ميقات منع السفر في حق بعيد الدار. وسنعيد الكلام عليه بعد هذا. وإذا
ثبت أن النداء يمنع البيع على الجملة فهو النداء الثاني الموقع والإمام
على المنبر. قال مالك في العتبية النداء الذي يحرم به التبايع يوم
الجمعة النداء والإمام على المنبر. وأنكر منع الناس البيع قبل ذلك. وقد
جعل ابن عبد الحكم النداء الثاني واجبًا لما يتعلق به من الأحكام من
وجوب السعي ومنع البيع. وقد ذكرنا أن بعيد الدار قد يحرم عليه البيع
قبل هذا النداء. وقد يصادف النداء الأول وقت تحريم البيع في حق من كان
بُعْد داره يوجب عليه السعي وقت الآذان الأول. وإذا ثبت ما قلناه من
تحريم البيع، فالبيع قبل الوقت الذي حددناه سائغ. قال في مختصر ابن
شعبان: ولا بأس بكينونة (1) الرجل في سوقه إلى أذان الجمعة. قال ابن
شعبان يريد كما فعل عثمان رضي الله عنه. وهو الأمر الذي كان عليه الصدر
الأول لا يجتنبون البيع يوم الجمعة بل يستحبون ذلك ويرغبون فيه خلافًا
لليهود فيما يصنعون في سبتهم. وقد أذن الله سبحانه في ذلك إلى النداء
لها (2) ثم أذن به بعد الفراغ منها كما قال جل ذكره. وأما ترك العمل
يوم الجمعة فقد كرهه مالك وكان بعض الصحابة يكرهه. وقال ابن حبيب عن
أصبغ من ترك من النساء العمل يوم الجمعة استراحة فلا بأس. ومن تركه
منهن استنانًا فلا خير فيه.
وإذا ثبت منع البيع يوم الجمعة فهل يفسخ إذا وقع أم لا؟ عن مالك في ذلك
روايتان: قال في المدونة يفسخ. وقال في المجموعة البيع ماض وليستغفر
الله. وفي الثمانية عن ابن الماجشون إن كان قوم اعتادوا البيع ذلك
الوقت فسخت تلك البياعات كلها (3) وإن لم تكن عادة زجروا عن ذلك ولم
يفسخ.
فإن قلنا بأن البيع يفسخ فما حكمه إذا فات بتغير الأسواق وغير ذلك مما
يفيت البيع؟ فيه قولان: أحدهما أنه يمضي بالثمن وهو قول المغيرة
وسحنون.
قال ابن عبدوس لأن فساده في عقده لا في ثمنه كالنكاح يفسد لعقده.
والقول
__________
(1) بكينونته -و-.
(2) لها = ساقطة -و-.
(3) فسخت البياعات -و-.
(1/1007)
الآخر، أنه يكون فيه (1) القيمة. فإن قلنا
بهذا القول فمتى تكون القيمة؟ فيه قولان: أحدهما أنها تكون حين القبض،
وهو قول ابن القاسم والثاني أنها تكون بعد الصلاة وحين يحل البيع. وهو
قول أشهب.
وإن قلنا بأن البيع لا يفسخ فهل يستباح الربح أم لا؟ قال مالك أرى
الربح على المشتري حرامًا. قال ابن القاسم فإن باعها المبتاع بربح فلا
يأكل الربح وأحبُ إقي أن يتصدق به.
وعمدة من فسخ البيع أنه بيع منهي عنه، والنهي يدل على فساد المنهي عنه
عند طائفة من أهل الأصول. وأما من لا يفسخه فقد لا يسلم دلالة النهي
على الفساد على الإطلاق. وقد احتج ابن سحنون لهذا المذهب بأن من فرّط
في صلاة الظهر والعصر حتى لم يبق من النهار إلا مقدار خمس ركعات فباع
حينئذ فإن بيعه لا يفسخ. وهذا الذي احتج به ابن سحنون وقدّره متفقًا
عليه قد خالف فيه إسماعيل القاضي. ورأى أن البيع يفسخ كالبيع وقت
الجمعة. وإليه ذهب الشيخ أبو عمران. كان هذا البيع مما تدعو الضرورة
إليه لإقامة الجمعة كمن انتقض وضوؤه وقت الجمعة ولم يجد ماء إلا بالثمن
فهل يباح له أن يشتريه لأن البيع حينئذ إنما نهي عنه لكونه فيه شغل عن
الصلاة، وهذا البيع بالعكس من ذلك إذ بفعله تحصل الصلاة وبتركه تفوت،
أو يمنع من ذلك طردًا لحكم سائر البياعات؟ قال الشيخ أبو محمَّد بن أبي
يجوز شراؤه والبيع لا يفسخ فيه. وإذا تبين ما قلناه في البياعات فهل
يقاس عليها غيرها من العقود أو لا؟ إذا قلنا بطريقة من ذهب إلى الفسخ،
اختلف في النكاح. فقال أصبغ يفسخ. وقال الأبهري وهو مذهب أبي العباس
الطيالسي وعبيد الله ابن المنتاب وهو الصواب.
قال ابن الجلاب يفسخ النكاح والإجارة. وقال ابن القاسم لا يفسخ النكاح
دخل أو لم يدخل، ولا ما عقد من هبة أو صدقة بخلاف البيع. وخزج القاضي
أبو محمَّد *فسخ الهبة والصدقة على قول من فسخ النكاح. وقال محمَّد*
(2)
بن عبد الحكم في الإقالة والشركة والتولية والأخذ بالشفعة يفسخ لأنه
بيع. ومما
__________
(1) فيه = ساقطة -و-.
(2) ما بين النجمين = ساقط -و-.
(1/1008)
يشكل عندي تخريج العتق على ما أشار إليه
القاضي أبو محمَّد من الاختلاف في الهبة والصدقة. فإنه قيل بإمضائهما
فلا شك في إمضاء العتق وإن قيل بردهما ففي العتق نظر لأجل ما يتعلق به
من الحرية (1). وكأن من يرى أن العلة الاشتغال عن الجمعة يجري كل ما
يشغل من ذلك مجرى واحداً كالنكاح والإجارة والهبة والصدقة. ومن يرى أن
البيع يتكرر ويشتد الحرص عليه ففسخه حسم لمادته، والنكاح وما في معناه
لا يتكرر فلا يكون في إمضائه إغراء الناس به. يفرق بين البيع والنكاح
(2) وما ذكر معه في الفسخ. وإلى هذا الفرق (3) أشار ابن بكير.
ومما يحل محل الكلام تحريك ما له صوت كالحصباء والثوب الجديد.
وقد خرّج مسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - *من حرك الحصباء فقد
لغا (4). ومما يحل محل الكلام* (5) في المنع (6) الصلاة حينئذ. وها نحن
نتكلم عليها.
قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: ولا يركع من دخل والإمام يخطب.
قال الفقيه الأمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل سؤالان منهما أن
يقال:
1 - لِمَ منعت الصلاة والإمام يخطب؟.
2 - وهل يقطع الصلاة من تنفل والإمام يخطب؟.
فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: أما الشروع في تحية المسجد فإنه
يمنع عندنا إذا خرج الإِمام. وكذلك يمنع حينئذ الشروع في الصلاة من حضر
المسجد. وبه قال الثوري وأبو حنيفة والليث. وقال الحسن والشافعي وأحمد
وإسحاق من دخل والإمام يخطب صلى ركعتين. وقال أبو مخلد (7) فيمن دخل
__________
(1) من الحرمة -و-.
(2) فلا يكون في إمضائه عن اللباس به يفرق بين البيع والنكاح - قل.
(3) الفرق = ساقطة -و-.
(4) أخرج مسلم بسنده إلى أبي هريرة = ومن مس الحصى فقد لغى. إكمال
الإكمال ج 3 ص 16.
(5) ما بين النجمين = ساقط -و-.
(6) منع -و-.
(7) أبو مخدد = ساقطة من -و- وفي نسخة من -قل- أبو مجدز.
(1/1009)
والامام يخطب إن شاء ركع وإن شاء جلس. قال
الأوزاعي إن كان قد ركع في بيته لم يصل وإن لم يكن صَلَّى في بيته (1)
ركع ركعتين. وقد استدل على الجواز بما خرّج في الصحيحين: أن رجلًا أتى
والشعبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب فجلس ولم يركع فقال له النبي -
صلى الله عليه وسلم -: قم فاركع ركعتين وتجوّز فيهما. ثم قال إذا جاء
أحدكم المسجد والامام يخطب فليركع ركعتين وليتجوّز فيهما (2). وقد أجاب
بعض أصحابنا عن هذا بأجوبة أحدها أن الرجل كان فقيرًا فأراد أن ينبه
بقيامه على حاله ليُتصدق عليه. أو يحمل على أنه أمره بذلك بعد الفراغ
من الخطبة، أو كان ذلك والشعبي - صلى الله عليه وسلم - لم يبتدىء
الخطبة وسكت له حتى ركع. أو دخل وهو في الخطبة فقطعها حتى ركع، وقد ذكر
بعض الناس أنه روي أنه - صلى الله عليه وسلم - أمسك عن الخطبة.
وهذه الرواية إن ثبتت تعين هذا التأويل دون ما سواه. وأما الاعتذار
بأنه أراد أن ينبّه على حاله ليتصدق عليه فلا يعتمد عليه لأنه قد قال
عقيب قوله = قم فاركع ركعتين وتجؤز فيهما = إذا جاء أحدكم المسجد
والإمام يخطب الحديث. ولا شك في أن هذا اللفظ قد تعدى هذا الرجل وأريد
به من سواه. وهو خطأ ب لجميع الحاضرين على القول بالعموم. وجميع
الحاضرين ليسوا بمساكين تجوز لهم الصدقة. وقد أدى هذا اللفظ (3) العام
ابن القصار إلى أن طلب تأويلًا آخر لهذا العموم فقال يحمل على أنه كان
في غير خطبة الجمعة. وهذا تعسف منه.
وقد ذكر في بعض طرق الحديث جاء سليك الغطفاني في يوم الجمعة ورسول الله
- صلى الله عليه وسلم - يخطب فجلس فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم
-: يا سليك قم فاركع ركعتين وتجوز فيهما (4). ثم قال إذا جاء أحدكم يوم
الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين ويتجوز فيهما. وإذا أطلق لفظ الخطبة
منسوبًا إلى يوم الجمعة إلى يوم فالسابق إلى فهم كل سامع حمله على
الخطبة المعهودة فهيا. وقد قابل بعض أصحابنا هذا الحديث الذي اعتمد
عليه هذا المخالف بما رواه ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
قال: إذا
__________
(1) في بيته = ساقطة -و-.
(2) رواه مسلم والبيهقي. سنن البيهقي ج 3 ص 194.
(3) اللفظ = ساقط -و-.
(4) رواه مسلم وأبو داود وأحمد. الهداية ج 3 ص 282
(1/1010)
دخل أحدكم المسجد والإمام على المنبر فلا
صلاة له ولا كلام حتى يفرغ (1).
وأيضاً فإن رجلًا دخل المسجد والشعبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب فقال
له: أجلس فقد آنيت وآذيت (2). فأمره بالجلوس فدل على أنه المشروع.
وهاذان الحديثان قوبل بهما حديثا المخالف: وما ذكرناه من قوله - صلى
الله عليه وسلم -: إذا جاء أحدكم المسجد والإمام يخطب، وحديث *الأمر
بتحية المسجد عمومًا. وعضد أصحابنا ما تعلقوا به (3) بأنه - صلى الله
عليه وسلم -: قال إذا قلت لصاحبك أنصت والإمام يخطب فقد لغوت. فإذا كان
تغيير المنكر حينئذ ممنوعًا لكونه شاغلًا كانت الصلاة حينئذ أولى لأنها
أشد شغلًا. وقد أشار بعض أصحابنا إلى أنه إنما كان مبدأ منع الصلاة
خروج الإِمام ولم يكن ذلك مبدأ منع الكلام. كما قال أبو حنيفة لأن
الصلاة قد لا تنقضي إلا وقد شرع الإِمام في الخطبة فيكون حينئذ منشغلًا
بالصلاة عن الخطبة.
واعتضدوا أيضًا بأن الاستماع فرض والتحية نفل، فلا يترك فرض لنفل.
وبهذا ردّوا قول المخالف أن التحية تخصه فقدمت على الاستماع الذي هو له
ولغيره لأنه (4) إذا كان الاستماع فرضًا لم يوازن بالنفل مع أنه مخصوص
بفرض الاستماع. وهذا التعليل يقتضي أن من ذكر صلاة الصبح حينئذ فإنه
يصليها.
وإلى هذا أشار بعض أصحابنا البغداديين وقال: لأنه (5) يترك أمرًا لما
هو أوجب منه وقد ذكرنا أن مذهبنا تعليق منع الصلاة بخروج الإِمام،
وذكرنا ما ذكر من الفرق بين ذلك وبين الكلام. وقد قال مالك في المختصر
التنافل يوم الجمعة جائز للناس حتى يجلس الإِمام على المنبر، فإذا جلس
فلا صلاة، ولا بأس بالكلام. فإذا تكلم فلا كلام. وينبغي أن يستقبل
وينحرف إليه وينصت وذلك على من سمعه ومن لم يسمعه. وكذلك ذكر ابن حبيب
وقال: ممن في المسجد أو خارجاً عنه. قاله مالك ورواه عن عثمان رضي الله
عنه.
__________
(1) رواه الطبراني عن ابن عمر. جامع السيوطي حديث 2223.
(2) رواه النسائي: اجلس فقد آذيت. ج 3 ص 103. شرح السيوطي. ورواه ابن
ماجة كاملًا ج 1ص 345. حديث 115.
(3) ما بين النجمين هو - و.
(4) أنه -و-.
(5) لأنه = ساقطة -و-.
(1/1011)
والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: إذا
شرع في النافلة من نهيناه عنها يوم الجمعة فهل يقطع أم لا؟ اختلفت
الرواية عن مالك رحمه الله. فقال في مختصر ابنِ شعبان: من دخل في
النافلة بعد جلوس الإِمام قطعها. وقال سحنون في العتبية من دخل،
والإمام جالس، والمؤذنون يؤذنون فأحرم بالصلاة جهلًا أو سهوًا فلم يفرغ
حتى قام الإِمام يخطب أنه يمضي في صلاته ولا يقطع. وإنما يكره ذلك
ابتداء. فإذا فعل ذلك أحد في صلاته مضى ولم يقطع. قال ورواه ابن وهب عن
مالك. فكأن قائل هذا المذهب راعى الخلاف *في أصل المسألة.
ومن أمر بقطع الصلاة لم يرل الخلاف* (1) في ذلك. وهذا الحكم لو ابتدأ
النافلة حينئذ، فأما استدامتها حينئذ في حق من افتتحها وقت الجواز
فلمالك في العتيبة، إذا خرج الإِمام وقد أحرم رجل بنافلة فليتمها
ركعتين ومن لم يحرم حتى جلس الإِمام فلا يحرم. وإذا وضح أنه لا يقطعها
من افتتحها حال الجواز فهل يستوفي أفعالها أم لا؟ اضطرب المذهب في ذلك.
قال مالك في المجموعة إذا دخل الإِمام وقد بقي على رجل آيات في آخر
الركعة فواسع أن يتمها ويركع.
وعنه في العتبية، وإن كانت في تشهد النافلة فليسلم ولا يتربص ليدعو
لقيام الإِمام. قال ابن حبيب لا بأس أن يطيل في دعائه ما أحب. وقال في
مختصر ابن شعبان، إذا جلس الإِمام على المنبر بعد أن دخل داخل في
النافلة فليتم ركعتين ويقرأ في كل ركعة بأم القرآن وحدها. ومن خرج عليه
الإِمام يوم الجمعة وهو قائم في آخر ركعة من نافلة فواسع أن يتم ذلك أو
يركع، فإن كان تشهد فليسلم ولا يمكث حتى يفرغ من دعائه. فأنت ترى كيف
نقل ابن شعبان ما كنا نقلناه من التوسعة في قراءة الآيات *والنهي عن
إكمال الدعاء والاقتصار على أم القرآن وحدها. فكان النهي عن قراءة
السورة مع أم القرآن ينافي ما ذكره من التوسعة في قراءة* (2) الآيات.
ومما ينهى عنه يوم الجمعة (3) التخطي. وإنما أوردناه في هذا الفصل ولم
__________
(1) ما بين النجمين = ساقط -و-.
(2) ما بين النجمين = ساقط -و-.
(3) يوم الجمعة = ساقط -و-.
(1/1012)
نلحقه بما يحل محل الكلام في الفصل الذي
قبل هذا، لأجل اختصاص النهي فيه بجلوس الإِمام كالصلاة. فالتخطي لغير
فرجة بين يديه منهي عنه على الإطلاق لما فيه من الأضرار. وأما التخطي
لفرجة فيباح قبل جلوس الإِمام وينهى عنه بعد جلوسه. قال مالك: إنما
ينهى عن ذلك إذا خرج الإِمام وجلس على المنبر، فأما قبل ذلك فلا بأس
إذا كان بين يديه فرج. قال بعض أصحابنا إذا جلس الإِمام فقد أبطل
الداخل حقه في التخطي إلى الفرج، لأجل تأخره عن وقت وجوب السعي. وذكر
مالك في موطئه عن أبي هريرة: لأن يصلي أحدكم بظهر الحرة خير له من أن
يقعد حتى إذا قام الإِمام يخطب جاء يتخطى رقاب الناس (1). قال بعضهم
معناه أن الماثم عنده في تخطي رقاب الناس أكثر من الماثم في التخلف عن
الجمعة. وقالت الشافعية يكره لمن دخل المسجد وقد ازدحم الناس أن يتخطى
رقاب الناس وليصل حيث انتهى به المجلس إلا أن يجد موضعًا يصلي فيه فلا
يكره له التخطي. وكذلك إذا كانت فرجة ولا يحتاج في الوصول إليها إلا أن
يتخطى الواحد والاثنين فيجوز ذلك. فإن كانوا أكثر كره له، وكان قتادة
يقول يتخطاهم إلى مجلسه.
والأوزاعي يقول يتخاطاهم إلى السعة. وقال أبو بصرة يجوز أن يتخطاهم
بإذنهم. وقد قدمنا قوله - صلى الله عليه وسلم -: إجلس نقد آنيت وآذيت
(2). وهذا الحديث قد تضمن الإشارة إلى معنى الأذى بالتخطي ونحن قد
منعنا الأذى على الجملة.
وقالت الشافعية لا معنى لتفرقتكم (3) بين خروج الإِمام وقبل خروجه في
إباحة التخطي إلى الفُرج (4)؛ لأن المنع إذا رجع للأذى لم يعتبر فيه
خروج الإِمام.
وقد قدمنا ما أشار إليه من أصحابنا من الانفصال. فإنه قد أبطل حقه في
التخطي لتأخره عن وقت وجوب السعي.
قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: ثم يقام لها عند الفراغ من الخطبة
__________
(1) رواه مالك في الموطإ عن أبي هريرة. الموطأ ص 89.
(2) تقدم تخريجه قريبا.
(3) تفرقتهم -و-.
(4) للفرج - قل.
(1/1013)
الثانية وعدد (1) ركعاتها ركعتان يجهر (2)
في كلتيهما ويقرأ في الأولى بالجمعة وفي الثانية بالأعلى أو
بالمنافقين.
قال الفقيه الأمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل سؤالان. منها أن
يقال:
1 - لِمَ جهر فيهما بالقراءة؟.
2 - ولمَ استحب أن يقرأ فيهما بما قال؟.
فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: الأصل في صلاة النهار الإسرار لكن
الجمعة، لما كانت صلاة القصد بها المباهاة وإظهار معالم الإِسلام
والإشاعة بها، شرع الجهر فيها. لأن السر أخفى والقصد بها الإشهار.
والإجهار أبلغ في الإشاعة. فلهذا خالفت الأصل وشرع فيها الخطبة لما في
الخطبة من الإشهار أيضًا، وغير ذلك من المعاني التي شرعت الخطبة
لأجلها. وجعلت الخطبة فيها بدل الركعتين. ولما رأى القاضي أبو محمَّد
مخالفة هذه الصلاة لما استقر الأمر عليه في صلوات النهار من العدد
والإجهار، نبّه على ذلك بما ذكرناه ها هنا.
والجواب عن السؤال الثاني: أن بقال: اختلف الناس في المستحب من القراءة
في صلاة الجمعة، فعندنا وعند الشافعي أن الركعة الأولى يقرأ فيها بسورة
الجمعة. وقال أبو حنيفة لا تتعين فيها سورة من السور المقروءة مع أم
القرآن. وأما الركعة الثانية فعندنا أنها لا تتعين فيها بسورة بعينها.
وبه قال أبو حنيفة. ولكن قال مالك في المدونة: أحب إليّ أن يقرأ فيها
بسورة الجمعة وهل أتاك حديث الغاشية. وفي المجموعة قيل لمالك أقراءة
سورة الجمعة في صلاة الجمعة سنّة؟ قال: ما أدري ما سنّة! ولكن منْ
أدركنا، كان يقرأ بها في الأولى وفي الثانية {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ
الْأَعْلَى}. وفي رواية أشهب بـ {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ}.
وذلك أحب إلى وهم يقرؤون اليوم بالتي تلي سورة الجمعة.
وفي مختصر ابن شعبان رأيت الأئمة عندنا يقرؤون بسبّح مع سورة الجمعة في
__________
(1) وعددها -غ- قل.
(2) بجهره - الغاني.
(1/1014)
صلاة الجمعة. وقال أبو مصعب عنه يقرأ بها.
فهذه روايات أشير بها إلى استحباب سورة معينة في الثانية. والذي حكاه
بعض أصحابنا أنها لا تختص بإحدى السورتين المشار إليهما بسبّح وهل أتاك
حديث الغاشية. ولا تختص أيضًا بغيرهما من السور. وقال الشافعي تختص
بسورة المنافقين، وقد اختلفت الآثار في ذلك. قال ابن حبيب روي أن النبي
- صلى الله عليه وسلم - قرأ فيها بالجمعة وهل أتاك حديث الغاشية (1)
وروى سمرة بن جندب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ فيها
بسبّح اسم ربك الأعلى وهل أتاك حديث الغاشية (2). واحتجت الشافعية بما
روي أن أبا هريرة صلى الجمعة بالمدينة فقرأ بسورة الجمعة والمنافقين.
فقال عبد الله بن أبي رافع لأبي هريرة قرأت سورتين كان علي يقرأ بهما
في الكوفة فقال أبو هريرة إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان
يقرأ بهما. قالوا ويرجح هذا الخبر بعمل هذين الصحابيين
قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: وتدرك بقدر ركعة من فعلها أو وقتها.
قال الفقيه الأمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل سؤالان: منهما أن
يقال:
1 - لم لا تدرك الجمعة إلا بركعة من فعلها؟.
2 - وما حكم من غفل عن بعض أركانها؟.
فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: اختلف الناس بماذا يكون إدراك
الجمعة. فقال عطاء وطاوس ومجاهد ومكحول: لا تدرك الجمعة إلا بإدراك
الخطبتين ومن لم يدركهما لم يدرك الجمعة. وقد روي عن عمر رضي الله عنه
أنه لا يكون مدركًا إلا بإدراك الخطبة. ومذهبنا أنه يدرك الجمعة بإدراك
ركعة وبه قال الزهري (3) والثوري والأزاعي ومحمد بن الحسن والشافعي
وأحمد وإسحاق. وروي عن ابن مسعود وبأن عمر وأنس رضي الله عنهم. وقال
النخعي وأبو حنيفة وأبو يوسف إن أدرك التشهد فقد أدركها. قال أبو حنيفة
وكذلك إن
__________
(1) أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة. مختصر ابن داود حديث
1080 - 81.
(2) رواه مسلم والبيهقي ج 3 ص200
(3) الزهري = سا قطة -قل-.
(1/1015)
لم يدركه إلا في سجود السهو بعد السلام.
ودليلنا قوله - صلى الله عليه وسلم -: من أدرك ركعة من الجمعة فقد أدرك
الجمعة (1). ومن أدركهم جلوسا صلى ظهرًا أربعًا. قال بعض أصحابنا
والصحابة على القولين الذين ذكرنا عنهما. ومذهب أبي حنيفة إحداث قول
خارج عنهما. وأيضًا فإنه وافق على أن هروب الناس عن الإِمام قبل عقد
ركعة يمنع من انعقاد الجمعة، فكذلك المأموم إذا لم يدرك ركعة. لأن
الجماعة شرط في حق الإِمام والمأموم. وقد كنا قدمنا ما أشار إليه
أصحابه من الفرق بين الإِمام والمأموم في هذا. ولا تعلق لأبي حنيفة في
قوله - صلى الله عليه وسلم -: ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا (2).
لأن من أدرك ما بعد الركوع غير مدرك في الحقيقة؛ لأنه لا يعتد بما أدرك
بل يقضيه. وإذا كان غير مدرك فقد فاتته الجمعة كلها.
والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: قد كنا قدمنا الكلام في حكم الناعس
والمزاحم عن الركوع والسجود *وذكرنا ما اتفق عليه من ذلك وما اختلف
فيه* (3) وذكرنا تفرقة بعض أصحابنا بين المزاحم والناعس وما قيل في
الفرق بينهما *وقد قيل في الفرق بينهما* (4) إنما كان المزاحم لا يتبع
بخلاف غيره لأن المزاحم ذاكر فللذكر تأثير في لزوم الفريضة. ولذلك اتفق
أصحابنا على أن المربوط يقضي بخلاف المغمى عليه. وإذا كان المزاحم في
حكم الملزوم بالاتباع لذكره لم يعذر في الترك حتى يمكن من تلافي ما فات
(5). وقد كنا قدمنا أيضًا اختلاف المذهب في السلام هل يكون ركنًا
مانعًا من تلافي ما فات أم لا؟ فمن أدرك الأولى من الجمعة وزوحم عن
سجود الثانية حتى سلم الإِمام، لم يأت بالسجود عن ابن القاسم بعد
السلام وأتى به عند أشهب. لأنه في التشاغل (6) به بعد السلام لا يخالف
الإِمام في ركن يجب أن يتبعه فيه بخلاف
__________
(1) تقدم تخريجه عن منتخب - كنز العمال ج 3 ص 289
(2) تقدم تخريجه قريبًا - وفي قل فأتموا.
(3) هو -و-.
(4) هو -و-.
(5) ما فات = ساقطة -و-.
(6) بالتشاغل - قل.
(1/1016)
الخائف أن يعقد ركعة ثانية عليه. ولو كان
لم يدرك إلا الثانية من الجمعة وزوحم عن سجودها حتى سلم الإِمام، فقال
ابن القاسم لا تجزئه الجمعة.
وقال أشهب بل تجزئه ويسجد ثم يقضي الركعة لقوله - صلى الله عليه وسلم
-: من أدرك الركعة فقد أدرك السجدة (1). فإن قلنا لا تجزئه (2). فعند
عبد الملك يكمل عليها صلاة الظهر أربع ركعات وعند أصبغ يكملها ركعتين
ثم يعيد أربعًا. وعند ابن المواز يسلم ويستأنف الأربع. ولو فاتته ركعة
فقضاها بعد صلاة ما أدرك ثم شك في سجدة لا يدري من أي ركعة هي؟ فقال
ابن القاسم يأتي بسجدة ثم ركعة ويسجد للسهو ثم يعيدها ظهرًا. وقال عبد
الملك يأتي بالسجدة خاصة ويتشهد ثم يسجد بعد السلام ويعيدها ظهرًا.
واعتل محمَّد لهذا بأنه إن كانت السجدة من الأخيرة. صحت الجمعة ولم
يحتج إلى الركعة. فلهذا لم يؤمر أن يأتي بها. وأشار بعض أشياخي أنا إذا
قلنا إن الركعة التي لا يعتد بها لا تمنع من إصلاح ما قبلها سجد هذا
لإصلاح التي صلى مع الإِمام إذا لم يحل بينه وبينها حائل يُعتد به في
صلاة الجمعة، ثم يأتي بركعة وتصح جمعته. وقد علمتَ فيما قدمناه من باب
الناعس صفة (3) تلافي ما فات، لكن وقع بين الأشياخ تنازع فيمن نعس عن
ركوع الأولى من الجمعة وخاف إن اشتغل بتلافي ما فات أن يعقد عليه
الإِمام الثانية. هل يضرب عن الاشتغال بما فات ويعقد مع الإِمام ما هو
فيه كما يفعل في سائر الصلوات أو تختص صلاة الجمعة بأنه لا يعقد مع
الإِمام ما هو فيه إلا بعد القطع بسلام؟ فذهب الأبياني إلى أنه يقطع
بسلام. وأنكره غيره من الأشياخ. وإذا لم يستطع المأمور السجود وزُوحم
عليه فاصل مالك أنه يؤخر حتى يمكنه ذلك. لكنه مع هذا يكون حكمه أن يومئ
إذا خشي ذوات الركوع مع الأمام *فإنه يومئ ليدرك معه الركوع* (4). وأصل
أشهب أنه يومئ وليس عليه كثر مما في وسعه. ورأى أن الإيماء أولى من
التأخير. وعند الشافعية أنه
__________
(1) رواه مالك في الموطإ.
(2) فإن قلت لا تجزئه - قل.
(3) صفة = ساقطة -و-.
(4) ما بين النجمين = ساقط - قل.
(1/1017)
يسجد على من بين يديه إن أمكنه ذلك فإن لم
يمكنه صبر حتى يزول الزحام.
وقال عطاء والزهري بالانتظار حتى يزول الزحام على حسب ما حكيناه عن
مالك. وقال الحسن البصري هو بالخيار إن شاء سجد على ظهر إنسان وإن شاء
وقف حتى يزول الزحام. واحتجت الشافعية بقول عمر رضي الله عنه: إذا اشتد
الزحام فليسجد أحدكم على ظهر أخيه. ولكنه أكثر ما فيه أنه يسجد على
موضع عال، (1) فهو يشبه من كان في موضع منهبط فسجد على مرتفع. وأما
مالك فإنه يحتج بقوله - صلى الله عليه وسلم -: ومكن من جبهتك على الأرض
(2). وأما الحسن فإنه يحتج بأنه إذا تابع الإِمام أحل بكمال السجود
وحصلت له المتابعة. وإذا آخره أتى بكمال السجود وأخل بالمتابعة. فلما
تردد الأمر بين هذين خير بينهما. وقد نوقض بالمريض فإنه لا يخير بين
الإيماء الآن والتأخير لحال الصحة ليأتي بالكمال. وللنظر في هذه
المناقضة مجال. وإذا ثبت من أصلنا منع السجود على ظهر آخر فإنه متى منع
السجود فسجد على ظهر إنسان أعاد عند مالك، وإن ذهب الوقت. وعند أشهب
إنما يعيد في الوقت. وعند محمَّد بن عبد الحكم فيمن أدرك الأولى وزوحم
عن سجود الثانية فسجد على ظهر أخيه فإنه يعيد السجود وإن سلم الإِمام
إذا لم يسلم هو. وإذا قلنا بطريقة أشهب أن الفرض الإيماء فإن الساجد
على الظهر يتنزل على هذه الطريقة منزلة من كان فرضه الإيماء فرفعت له
وسادة فسجد عليها. وقد تقدم الكلام على ذلك. وقول القاضي أبي محمَّد في
هذا الفصل أنه مُدرك للجمعة (3) بإدراك ركعة من وقتها وقد قدمنا الكلام
عليه فيما مضى فلا معنى لإعادته.
قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله تفالى: ويكره السفر قبل الزوال من
يومها ويحرم بعده.
قال الفقيه الإِمام رضي الله عنه: لهذا الفصل سؤالان: منهما أن يقال:
__________
(1) ولأنه ما فيه أكثر - قل.
(2) روى الأمام أحمد: وإذا سجدت فأمكن جبهتك من الأرض حتى تجد حجم
الأرض.
عن ابن عباس منتخب كنز العمال ج 3 ص 188.
(3) أنه يكون مدركًا للأجر -و-.
(1/1018)
أ- لِمَ كره السفر قبل الزوال؟.
2 - ولِمَ حرم بعده؟.
فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: اختلف الناس في السفر يوم الجمعة
قبل الزوال، فعندنا فيه قولان: الجواز والكراهة. وروى ابن وهب عن مالك:
أحبّ إلى ألا يسافر حتى يشهد الجمعة فإن لم يفعل فهو في سعة.
وروى عنه ابن زياد: لا بأس بذلك ما لم تزغ الشمس فإذا زاغت فلا يخرج.
وروى عنه ابن القاسم في العتبية: لا يعجبني أن يسافر يوم الجمعة إلا من
عُذر. وقال مالك في المختصر: لا أحب أن يخرج حتى يصليها *فأما إن زاغت
فواجب أن لا يخرج حتى يصليها* (1). وقال في مختصر ابن شعبان: من كان له
عذر في السفر يوم الجمعة ضُحى فلا بأس. والعذر غير شيء واحد. قال ابن
شعبان: وأبصر عمر رضي الله عنه رجلًا عليه أهبة السفر فقال لولا الجمعة
لخرجت. قال عمر رضي الله عنه: إن الجمعة لا تحبس (2) مسافرًا. وأما
الشافعي فاختلف قوله في السفر يوم الجمعة قبل الزوال، فقال في الحديث
لا يجوز إذا لم يخف فوات الرفقة، وهو قول ابن عمر وعائشة. وبه قال ابن
حنبل إلا أنه استثنى سفر الجهاد. وقال الشافعي في القديم بجواز ذلك قبل
الزوال على الإطلاق، وهو مذهب عمر والزبير وأبي عبيدة بن الجراح والحسن
وابن سيرين وأبي حنيفة. وقد ذكرنا أنه أحد قولي مالك. وقد اعتل أصحاب
الشافعي للمنع بأنه قد يجب السعي قبل الزوال في حق بعض الناس إذا كان
منزله بعيدًا فلم يجز السفر حينئذ، كما لو زالت الشمس. وقد يتعلق ابن
حنبل بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث زيد بن حارثة وجعفر ابن أبي
طالب وعبد الله بن رواحة في جيش مؤتة (3) فتخلف عبد الله بن رواحة فرآه
النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له ما خلفك؟ فقال: الجمعة. فقال
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لروحة: أو غدوة في سبيل الله خير من
الدنيا وما فيها (4). وقد
__________
(1) ما بين النجمين = ساقط -و-.
(2) تمنع -و-.
(3) في سرية - قل.
(4) متفق عليه.
(1/1019)
أجيب عن هذا بأنه يحتمل أن يكون بعثه قبل
يوم الجمعة فتأخر للجمعة. وقد اضطرب المذهب عندنا فيمن كان بعيد الدار
حتى يفتقر إلى أن يسعى (1) قبل الزوال بالساعتين والثلاث. فلأصحابنا
فيه جوابان: أحدهما أن الفرض لا يتعين إلا بالزوال فيجوز لهذا السفر
قبل ذلك. والآخر أن الفرض يتعلق بتقدير الوصول عند الزوال فعلى هذا
يمنع هذا من السفر عند وقت تعين السعي. وقد قدمنا أن أصحاب الشافعي
احتجوا في منع السفر على الإطلاق بأنه قد يجب السعي قبل الزو الذي حق
بعض الأشخاص وهو البعيد الدار. وهذا الاضطراب الذي حكيناه عن أصحابنا
لا يتصور في إيجاب السعي عليه لأن شروط الجمعة قد كملت فيه. وإنما تصور
عندي فيما صوروه لأجل ما قد يقع فيه من الإشكال.
وذلك أن السفر إنما منع بعد الزوال لأنه وقت وجوب الصلاة في حق كل واحد
وإن كان قبل الزوال بالساعتين والثلاث فليس بوقت لوجوب الصلاة في حق
آخر. لكن هذا تعين عليه السعي إلى الصلاة وذلك عبادة ثانية غير الصلاة،
فهل يُعلق حكم السفر على حكم ما ينفرد هذا به من الوجوب، أو يعلق
بالوجوب العام لسائر الأشخاص؟ والأظهر أن هذه الساعات التي قبل الزوال
تكون في حقَ هذا كما بعد الزو الذي حق جميع الناس، لأن أحكام الصلاة
يعتبر فيها صفات كل إنسان في نفسه وأحواله المختصة به لا الصفات التي
تعم الجميع، إلا فيما ورد الشرع في مراعاة صفة الجميع فيه. وقد كنا
قدمنا الإشارة إلى هذه المسألة فإذا أبحنا السفر قبل الزوال فسافر،
فسمع النداء وبينه وبين موضع الجمعة من المسافة ما يلزم السعي منه إلى
الجمعة على حسب ما قدمناه في اعتبار الثلاثة الأميال، فالظاهر من
المذهب أنه يجب عليه الرجوع لأنه قد نودي للصلاة وهو
من أهل الجمعة وبموضع يلزم منه إتيان الجمعة.
والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: أما السفر إذا سمع النداء فلا شك
في منعه لقوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ
الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (2). وهذا يعين وجوب
السعي للذكر لا لغيره. وأما السفر بعد الزوال قبل
__________
(1) المشي -قل-.
(2) سورة الجمعة، الآية: 9.
(1/1020)
النداء فالمعروف من مذهبنا ما قال القاضي
أبو محمَّد أنه محزم. وقد ذكرنا قول مالك في المختصر إذا زاغت الشمس
فواجب ألا يخرج حتى يصليها. وقال بعض أشياخي اختلف فيه: فقيل بالكراهة
وقيل بالمنع. وأشار بما وقع من الكراهية على الإطلاق كما حكيناه من
قوله: أحب إلى أن لا يسافر يوم الجمعة حتى يشهد الجمعة فإن لم يفعل فهو
في سعة. وهذا محمول على أن الشمس لم تزل. وقد رواه الراوي بذلك عنه
مقيدًا بما قبل الزوال. وقال الشافعي بالمنع إذا لم يخف ذوات الرفقة.
وقال أبو حنيفة بالجواز. وقال ابن حنبل بجواز سفر الجهاد. ومال بعض
أشياخي إلى نفي الوجوب تعلقًا منه بما حكيناه عنه من التمسك بإطلاق
الرواية. ورأى أنها لم تجب بعد الزوال. وقد احتج بعض أصحاب أبي حنيفة
بأنها صلاة يجوز السفر بعدها، فجاز قبلها كسائر الصلوات. وأجيب عنه بأن
سائر الصلوات لا يسقطها السفر والجمعة يسقطها السفر. وقد وجبت بالزوال
فلا يجوز التشاغل بما يسقطها. وقد يقال عندي في هذا الانفصال أن السفر
لا يسقطها أصلًا بل يجب عدد أكثر منها. وإنما ينتقل من فرض إلى فرض كما
ينتقل المسافر من فرض إلى فرض فلا ينبغي الاعتماد إلا على النظر في
وجوبها بالزوال أم لا؟.
قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: ومن سننها (1) المتأكدة (2) الغسل
متصلًا بالرواح.
قال الفقيه الأمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل ثلاثة أسئلة: منها
أن يقال:
1 - ما الدليل على أن الغسل سنّة؟.
2 - ومن يخاطب به؟.
3 - ومتى وقته؟.
فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: اختلف الناس في غسل الجمعة.
__________
(1) من سنتها -غ-.
(2) المؤكدة - الغاني.
(1/1021)
فالدهماء من العلماء على أنه سنّة وليس
بواجب. وذهب الحسن وداود وأهل الظاهر إلى وجوبه. وذكر بعض أصحابنا أن
أبي بن كعب ذهب إلى نحو هذا المذهب. وحكى بعضهم (1) عن أبي أنه قال: لو
لم أجد يوم الجمعة إلا صاعًا بدينار لاشتريته واغتسلت به. فإن كان بعض
أصحابنا أضاف إليه الوجوب من هذا القول ففيه نظر لأنه قد يقوله إشعارًا
بتأكد هذه السنّة. وأشار بعض أشياخي إلى أن المذهب اختلف في وجوبه لقول
أبي جعفر الأبهري اختلف أصحاب مالك فقال بعضهم: هو سنة مؤكدة لا يجوز
تركها إلا لعذر. وقال بعضهم هو مستحب. فاستدل أصحابنا على نفي الوجوب
بقوله عليه الصلاة والسلام: من توضأ يوم الجمعة فيها ونعمت. ومن اغتسل
فالغسل أفضل (2). أخرجه النسائي وأبو داود. وهذا يشعر بنفي الوجوب
لقوله في المقتصر على الوضوء: من توضأ فيها ونعمت. ولقوله في المغتسل:
والغسل أفضل. فوصف الغسل بأنه أفضل ولم يصفه بالوجوب.
قال ثعلب يقال: إن فعلت كذا فيها ونعمت. والعامة تقول ونعمه وتقف
بالهاء. وقال بن درَستوَيُه ينبغَي أن يكون ذلك هو الصواب عند ثعلب وأن
تكون الهاء خطأ لأن الكوفيين يزعمون أن نِعْم وبئس إسمان. والأسماء
تدخل فيها هذه الهاء بدلاً من تاء التأنيث. والبصريون يقولون هما فعلان
ماضيان (3). والأفعال تليها تاء التأنيث ولا تلحقها الهاء. قال الأصمعي
في التأنيث ها هنا المراد به فبالسنّة أخذوا. وأراد بقوله ونعمت أي
الخلة والفعلة. ثم حذف اختصارًا. وقد قيل إن هذه اللفظة يقال فيها
ونعمت بكسر العين وإسكان الميم أي نعّمك الله.
واستدل أصحابنا أيضًا بحديث عثمان لما دخل يوم الجمعة وعمر رضي الله
عنه يخطب فقال له عمر ما قال. فقال: ما زدت على أن توضأت. فلم يأمره
بالغسل، ولا أحد من الصحابة أمره بذلك. ولو كان واجبًا لأمروه به. فصار
هذا كالإجماع. واستدل أصحابنا أيضًا بما خرج في الصحيح من قوله عليه
الصلاة
__________
(1) غيره -و-.
(2) رواه أحمد وأبو داود: الهداية 3 ص290
(3) ماضيان = ساقطة -و-.
(1/1022)
والسلام: من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى
الجمعة فاستمع وأنصت غفر له ما بينه وبين الجمعة وزيادة ثلاثة أيام ومن
مس الحصباء فقد لغا (1). فمدح ها هنا المقتصر على الوضوء ووعده بما
وعده به، فلو كان الغسل واجبًا لما صح هذا الوعد المتضمن للثناء على
المقتصر على الوضوء، إذ تارك الواجب لا يثنى عليه. وقد لاح ما في هذا
الحديث: أن الاقتصار في الغفران على هذا المقدار من العدد لأجل ما تقرر
في الشريعة أن الحسنة بعشر أمثالها. فكانت الطاعة يوم الجمعة تضاعف إلى
عشر، والجمعة سبعة أيام. وتبقى من العشر ثلاث فزادها من جمعة أخرى.
واستدل أصحابنا بحديث عائشة المذكور فيه: إن الناس كانوا عمال أنفسهم.
وذكرت فوح الروائح منهم فقال عليه الصلاة والسلام: لو أنكم تطهرتم
ليومكم هذا (2). حديثها المشهور في ذلك. وفي بعض الطرق: ولو اغتسلتم.
وهذا اللفظ لا يستعمل في الوجوب. وقد قال بعض أشياخي: الغسل لمن له
رائحة واجب. واعتمد على النهي لأكل الثوم عن دخول المسجد.
وحضور الجمعة واجب فيزالة الرائحة واجبة. واعتذر عن حديث عائشة بأن تلك
الروائح ألفوها. فلهذا لم توجب الغسل، ولم تكن كغيرها من الروائح.
واستدل أيضًا على نفي الوجوب بأن الطهارة إنما تتغلظ بالحدث لا
بالصلاة. ألا ترى أن البول يوجب الطهارة الصغرى والمني والحيض يوجبان
الطهارة الكبرى فإنما تغلظت الطهارة واختلفت باختلاف الأحداث ولا مدخل
في ذلك للصلوات بدليل أن النفل والفرض مستويان في الطهارة، وأن الصلاة
الواحدةِ والصلوات الكثيرة يفعل جميعها بطهارة واحدة. وإذا كان هذا
هكذا فلا معنى لتغليظ الطهارة وإيجابها للصلاة لا لحدث. لكن الطهارة
تستحب فيها تعظيمًا لها. كما تكون الطهارة عند الإحرام وغير ذلك مما
استحبت الشريعة الطهارة فيه. وأما القائلون بالوجوب فإنهم يستدلون على
الوجوب بقوله - صلى الله عليه وسلم - في الصحيح: الغسل يوم الجمعة واجب
على كل محتلم (3). الحديث المشهور. وبقوله في الصحيح
__________
(1) رواه مسلم عن أبي هريرة. إكمال الإكمال ج 3 ص 16.
(2) رواه مسلم وأبو داود والبيهقي من رواية يحيى بن سعيد. الهداية ج 3
ص 289.
(3) عن أي سعيد الخدري: غسل يوم الجمعة واجب على كل مسلم. الهداية ج 3
ص 93.
(1/1023)
أيضًا: حق على كل مسلم أن يغسل في كل سبعة
أيام رأسه وجسده (1). وهذا نص في الوجوب. ويؤكد هذا أبا هريرة رضي الله
عنه روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: من اغتسل يوم الجمعة
غسل الجنابة ثم راح في الساعة الأولى (2) الحديث وقد أجاب أصحابنا
وغيرهم عن هذا بأنه محمول على وجوب السنن. وإشعار بتأكيد التحضيض.
ويحمل حديث أبي هريرة عليه أو على أنه أراد التشبيه بغسل الجنابة في
إيعاب الجسد. وقال بعض المتأخرين يحتمل أن يريد المغتسل للجنابة. وقد
قيل أن معنى قوله عليه الصلاة والسلام: من غسل واغتسل:
أوجب على غير. الغسل بالجماع واغتسل هو منه. وقال مالك في هذا ليس كل
ما جاء في الحديث يكون كذلك. وهذا الجواب غير كاف. كما أن جواب أصحابنا
غير مقبول إلا بأن تعارض الأحاديث بعضها ببعض فيستعمل فيها البناء
والتأويل، ويسلك طرق الترجيح في البناء والتأويل، والسند إلى غير ذلك
مما يعرفه أهل الأصول فحينئذ يصفو لهم ما قالوه إن أدى العمل المشار
إليه إلى ما قالوه. وقد يستدل الموجبون أيضًا بأن الصلاة فرضت لها
الطهارة فلما كانت الجمعة أقوى (3) في الفرض وآكد من غيرها صح أن تختص
بزيادة فرض في الطهارة، وقد قدمنا نحن من جهة الاعتبار ما يقابل
اعتبارهم هذا أو يربي عليه.
فإذا وضح ما قلناه في هذا. فالذي قدمناه عن شيخنا من إشارته إلى أن
المذهب على القولين في الوجوب وتعلقه بما حكاه الأبهري، فيه نظر لأنا
قدمنا في كتابنا هذا في غير موضع واحد (4) منه الكلام على ترك السنن
وتعلق الإثم بتركها والتجريح والتأديب. وذكرنا ما قاله أهل الأصول في
ذلك وما قاله أصحابنا.
واعتذرنا بالروايات المخالفة (5) لأصولهم. فمن أحب حقيقة القول
فليطالعه حيث أثبتناه ويعلم منه أن مثل هذا الذي حكاه الأبهري قد يجري
على طريقة
__________
(1) روى مسلم عن جابر: على كل رجل مسلم في كل سبعة أيام غسل يوم وهو
يوم الجمعة.
(2) رواه مالك والشيخان والأربعة: الهداية ج 3 ص 298
(3) لقوم - قل.
(4) واحد = ساقطة -و-.
(5) المختلفة -و-.
(1/1024)
بعض أصحابنا (1) في ترك السنن. والعبارات
في تركها مختلفة وقد قدمنا ما يجمع أسبابها. وقد قال ابن حبيب الغسل
للجمعة ستة مرغب فيها لا يؤثم تاركه. وهذا الذي قاله هو الأصل المشهور
في ترك السنن. وما سواه طريقة قوم آخرين قد ذكرناها. وقد وقع في
الأحاديث الواردة في الغسل ما يحتاج إلى تفسير. وهو ما خرّجه النسائي
عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: من غسّل واغتسل وبكّر وابتكر ودنا من
الإِمام ولم يلغ كان له بكل خطوة عملُ سنة صيامها وقيامها (2). فقوله
غسّل الأكثرون يحملونه على أنه (3) جامع أهله حتى أوجب عليها الغسل.
فصار بذلك مغسّلًا لها ويكون التحضيض على ذلك ليؤمن عليه أن يرى في
طريقه ما يحرّك (4) عليه شهوته. قال ابن حبيب معنى قوله غسّل أي ألمّ
بأهله فألزمها (5) الغسل وهو أفضل، ممن لزمه الغسل للجمعة فقط. وذهب
آخرون إلى أن المراد به الوضوء للصلاة لأنه إذا غسل أعضاء الوضوء فكرّر
غسلها ثلاث مرات ثم اغتسل بعد ذلك غسل الجمعة صار هذا التكرار يعبر عنه
بهذا الفعل فيقال فيه غسّل. وأما قوله بكر فقيل المراد به إتيان الصلاة
لأول وقتها وكل من أسرع إلى شيء فقد بكر إليه، ومنه الحديث: لا تزال
أمتي على سنتي ما بكروا بصلاة المغرب (6). وأما قوله وابتكر قيل المراد
به إدراك الخطبة من أولها يقال ابتكر الرجل إذا أكل باكورة الفاكهة
ويقال ابتكر إذا نكح بكرًا. ويؤكد هذا التأويل ما عطف عليه من الأفعال
المقاربة وقد وقع فيما قدمناه من الأحاديث.
والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: جمهور العلماء على أن الغسل لا
يخاطب به من لا يحضر الجمعة وذهب أبو ثور إلى أنه يخاطب به من لم يحضر
ومن حضر لقوله عليه الصلاة والسلام: الغسل يوم الجمعة واجب على كل
__________
(1) بعض أصحابنا = ساقطة -و-.
(2) رواه الأربحة واللفظ للنسائي. سنن النسائي ج 3 ص 96.
(3) على أن المراد جامع أهله - قل.
(4) يجري - قل.
(5) فألمها -و-.
(6) لا تزال أمتي بخير وعلى الفطرة يا لم يؤخروا المغرب حتى تشتبك
النجوم. رواه الحاكم وابن ماجة وابن خزيمة. نيل الأوطار ج 1ص 403.
(1/1025)
محتلم (1). فعمّ من حضر ومن لم يحضر. ودليل
الجماعة ما رواه أصحاب الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه
قال: إذا أراد أحدكم أن يأتي الجمعة فليغتسل (2).
فعلق الغسل بإتيان الجمعة. *وهذا يخصص حديثهم العام* (3) وأيضًا فإنه
إذا كان أصل الغسل والسبب في أن يشرع ما ذكرناه من التأذي بالروائح عند
الاجتماع، كان من لم يحضر الجمعة خارجًا عن هذا المعنى وسقط عنه الخطاب
بالغسل. وأما من حضر الجمعة وقد خوطب بالحضور خطابًا تعين عليه فلا شك
في كونه مأمورًا بالغسل. وأما إن لم يكن ممن تعين عليه الخطاب فقد قال
في المدونة إذًا شهد النساء والصبيان والعبيد فليغتسلوا. وقال في
المسافر إذا شهدها فليصلها ولم يقل فليغتسل. وقد أدى هذا بعض الناس إلى
أن رأى أن المسافر لا يخاطب بالغسل وأنه في ذلك بخلاف المرأة والعبد
لأجل أمره في المدونة العبد والمرأة بالغسل وإضرابه عن أمر المسافر
بذلك. ورأى الشيخ أبو محمَّد بن أبي زيد أن إضرابه عن ذكر الغسل في
المسافر لا يشير إلى سقوط الغسل عنه. وجمعه في مختصره في الأمر بالغسل
مع العبد والمرأة.
ولمالك في المختصر أن المسافر إنما يغتسل إذا أتاها للفضل. فإن شهدها
للصلاة أو لغير ذلك فلا غسل عليه. وفي الواضحة من شهدها من مسافر أو
عبد أو امرأة رغبة فيها فليغتسل. وإن شهدها المسافر لغير الفضل لكن
للصلاة أو لغير ذلك فلا غسل عليه. وأما المرأة والعيد فلا يأتونها في
الحواضر إلا للفضل. وذهب ابن حبيب إلى أن المرأة لا تخاطب بالغسل لأنها
لا- تخالط الرجال. والدليل لنا عليه قوله عليه الصلاة والسلام: إذا
أراد أحدكم أن يأتي الجمعة فليغتسل ولم يفرق. وقد قال بعض المتأخرين
قوله في الحديث: الغسل واجب على كل محتلم: يقتضي تعلق هذا الحكم
بالاحتلام دون الانبات، وسن الخمس عشرة سنّة. وفي هذا نظر لأنه إذا بلغ
السنن المقطوع بأنه لا يبلغه إلا من
__________
(1) روى مالك: غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم. وأخرجه البخاري؟ مسلم
وأبو داود وابن ماجة والنسائي. الهداية ج 3 ص 128.
(2) رواه النسائي ولفظه عن ابن عمر أن الرسول - صلى الله عليه وسلم -
قال: إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل.
سنن النسائي ج 3 ص93.
(3) هو في -و-.
(1/1026)
احتلم لزمته التكاليف *فلا معنى* (1) لقصر
الغسل على الاحتلام خاصة إلا أن يكون أراد أن الإنبات وسن الخمس عشرة
إنما يفيد ظنًا بالاحتلام، فتعلق عليه حكم دون حكم.
والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: أما غسل الجمعة فلا يوقع قبل الفجر
خلافًا للأوزاعي في قوله إذا أوقعه قبل الفجر وراح عقبه أجزأه. وهذا
غير صحيح لأن الشرع إنما ورد بغسل الجمعة. وما قبل الفجر ليس من يوم
الجمعة فلا يصح إيقاع الغسل فيه كما لا يصح إيقاعه يوم الخميس. وأما
إيقاعه بعد الفجر فاختلف (2) المذهب فيه. فقال ابن القاسم في كتاب
محمَّد: من اغتسل للجمعة في الفجر لم يُجزه. وقال مالك أيضًا لا يعجبني
أن يغتسل للجمعة صلاة الصبح ويقيم بعد صلاة الصبح في المسجد للجمعة،
وكره الرواح تلك الساعة. وقال ابن وهب من اغتسل بعد الفجر للجمعة أجزأه
أن يروح بذلك وأفضل له أن يكون غسله واصلًا برواحه. فأشار ابن وهب ها
هنا إلى أنه ليس من شرط الغسل أن يتصل بالرواح خلافًا للمشهور من
المذهب، وإن كان ابن وهب قد صرّح بأن الفضل باتصاله بالرواح، وقد استدل
عليه بقوله عليه الصلاة والسلام: إذا أراد أحدكم أن يأتي الجمعة
فليغتسل (3). فعلّق الغسل بإرادة إتيان الجمعة. وهذا يمنع من إيقاعه
غير متصل بالرواح إليها. وقد أشار بعض المتأخرين إلى سبب هذا الاختلاف
ورآه مبنيًا على النظر في تعليل غسل الجمعة. فإن علل بأن القصد به
النظافة وتطييب الرائحة لم يشترط اتصاله بالرواح إذا كان معنى النظافة
حاصلًا فيه، وإن لم يصله بالرواح. ويكون ما ذهب إليه ابن وهب والشافعي
في ترك اشتراط اتصال الرواح هو المطرد على هذا التعليل، لان قلنا أنه
غير معلل كان البخاري على هذا اشتراط اتصاله بالرواح على حسب ما اقتضته
ظواهر الأحاديث. وعلى هذا البناء بني افتقار غسل الجمعة إلى نية،
وجوازه بالماء المطيب كماء القرنفل والورد. وإن عللناه
__________
(1) ما بين النجمين = ساقط -و-.
(2) فاضطرب - قل.
(3) تقدم تخريجه قريبًا.
(1/1027)
بالنظافة وتطييب الرائحة أجزناه بالماء
المطيب ولم نشترط النية فيه. وإن قلنا أنه شَرْع غير معلل اشترطنا
النية ولم نجزه بالماء المطيب كما لا نجيز الماء المطيب في طهارة
الحدث، وكما نشترط النية فيها. وقد قال بعض المتأخرين من أصحابنا لما
لزم تنظيف الجسد الذي أمنت فيه الرائحة صار هذا الحكم تعدى محل موجبه
فلحق بالسنن التي يلزم فيها النية. ولا يمتنع أن يكون الفعل ثبت لمعنى
ثم يتجاوز ذلك الموضوع فيجب مع فقده ويلحق بالعبادات والسنن كما قلناه
في الرَّمَل، فإنه كان لأظهار الجَلدِ ثم ثبت مع عدم المشركين الذين
يظهر عليهم الجَلَد. وقد تقدم كلامنا في كتاب الطهارة على حكم نيّة
الغسل للجمعة وذكرنا ما يتعلق بأحكام النية هناك من اشتراك أو غيره،
وقد قال مالك: من اغتسل للعيد ينوي به الجمعة فلا يجزئه. وإذا قلنا
بالمشهور من اشتراط اتصال الغسل بالرواح فإنه إن كان بين الغسل وبين
موضع الجمعة مسافة يذهب فيها أثر الغسل ومعناه الذي وُضع له كان عليه
إعادة الغسل. وقد قال مالك فيمن أتى الجمعة من ثمانية أميال *رب دابة
سريعة السير وأخرى* (1) المشي خير من ركوبها. فيعادة الغسل في مثل هذا
أحب إلى وما هو بالبيّن *ونرجو فيه سعة* (6). وإذا راعينا الاتصال
أيضًا فانه إن قطع اتصاله بأن نام أو تغدى أعاده. وإن انتقضت طهارته
توضأ وأجزأه غسله. قال ابن القاسم يعيد الغسل للنوم من أراد النوم،
وأما من يغلب عليه كنوم المحتبي فلا. وقال مالك أيضًا: إذا اغتسل ثم من
بالسوق فاشترى بعض حاجته فلا بأس به إن كان خفيفًا. ولو نسي الغسل حتى
أتى المسجد فقال مالك إن علم أنه يغتسل ويدرك الجمعة فليخرج لذلك،
والأصلى ولا شيء عليه. قال ابن حبيب: ويستحب الطيب والزينة وحسن الهيئة
يوم الجمعة. ويستحب له أن يعد لها ثوبين. ورُوي ذلك في اللباس والطيب
عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ويستحب له أن يتفقد فيها قبل رواحه
(2) فطرة جسده من قص شاربه وأظفاره ونتف الإبط والسواك وإن احتاج إلى
الاستحداد فعل. وقد قدمنا فيما حكيناه عن مالك في تقدمة الغسل أنه كره
الرواح صلاة
__________
(1) ما بين النجمين ممحو -و-.
(2) قبل رواحه = ساقطة -و-.
(1/1028)
الصبح. وحكى عنه أشهب أنه قال والتهجير
للجمعة وليس هو الغدو. ولكن بقدر (1). ولم تكن الصحابة يغدون هكذا
وأكره أن يفعل. وأخاف على فاعله أن يدخله شيء ويصير يُعرف بذلك ولا بأس
أن يروح قبل الزوال ويهجّر بالرواح.
قيل فمن يحب بقلبه (2) أن يرى في طريق المسجد قال هذا مما يقع في النفس
ولا يملك.
قال مالك في المختصر والمشي إلى الجمعة أفضل إلا أن يتعبه ذلك من ماء
وطين أو بعد مكان. وقال مالك أيضًا معنى الحديث في الرواح. من راح في
الساعة الأولى فكأنما قرّب بدنة ثم ذكر إلى الخامسة فكأنما قرّب بيضة
(3).
قال الذي يقع في نفسي إنما أراد ساعة واحدة. ففيها هذا التقسيم لأنه لم
يكن يراح في أول ساعات النهار. وذهب ابن حبيب إلى اختيار التبكير
بالرواح، ورأى الرواح عند صلاة الصبح مختارًا خلاف ما حكيناه من كراهة
مالك. وعنده وعثد الشافعي أن التقسيم المذكور في الحديث تقسيم الساعات
المعلومات.
وأفضل الأوقات من ذلك أول ساعات النهار. وقد استدل لمالك بأن الحديث لم
يذكر فيه فضيلة من راح في الساعة السادسة ليست (4) بوقت قعود الإِمام
على المنبر، ولا بوقت استماع الذكر منه. والحديث يقتضي ارتفاع فضيلة
الرواح وحضور الملائكة للذكر عند إنقضاء الساعة الخامسة واتصال السادسة
لها، وذلك ليس بوقت لحضور الملائكة للذكر. لكون الساعة السادسة فاصلة
بين الخامسة وبين حضور الملائكة للذكر. وإذا كان ذلك كذلك وجب حمل
الحديث على تجزئة الساعة السادسة (5). والساعة السادسة تصلح أن تجزّأ
على خمسة أجزاء أو أقل، أو أكثر. ويؤكد هذا أنه قال من راح في الساعة
الأولى والرواح لا يكون نصف النهار أو ما قرب منه.
__________
(1) هكذا في -و- وفي -قل ولكن يغدو- وكلاهما غير واضح.
(2) بقلبه = ساقطة - قل.
(3) أخرجه البخاري ومسلم في كتاب الجمعة.
(4) هكذا في جميع النسخ. ولعل الصواب وليست.
(5) الخامسة -قل-.
(1/1029)
قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: ولا
يُجمع إلا في موضع واحد ولا يصلي الظهر من فاتته في جماعة إلا أن يظهر
عذره.
قال الشيخ الفقيه الأمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل سوى ما قدمناه
من الكلام على الجمع في غير موضع واحد ثلاثة أسئلة: منها أن يقال:
1 - لِمَ لم يجمع من فاتته الجمعة؟.
2 - وما المقدار (1) المبيح للتخلف عنها؟.
3 - وما حكم من (2) تخلف عنها؟.
فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: لا يخلو تاركو الجمعة من أن يكونوا
تركوها لعذر أو لغير عذر. فإن كانوا تخلفوا لعذر كالمرضى والمسجونين
والمسافرين جاز لهم أن يجمعوا. وروي عن ابن القاسم أنه لا يجوز للمرضى
والمسجونين الجمع في الجماعة. والمعروف عنه غير هذا. وفي الواضحة أن من
تخلف لعذر مثل أن يخاف أن تؤخذ عليه البيعة فإنهم يجمعون.
وذكر أن فيه اختلافًا لمنع ابن القاسم الجمع. وروى ابن وهب وأشهب عن
مالك إجازته في (3) المستخرجة. قال ابن القاسم كنت مع ابن وهب في بيت
بالاسكندرية فلم نحضر الجمعة *لأمر خفناه، ومعنا قوم. فقال ابن وهب
نجمع وقلت أنا: لا نجمع. فلح ابن وهب فجمع بالقوم. وخرجت أنا عنهم فلما
قدمنا على مالك سألناه عن ذلك فقال لا تجمعوا. ولا يجمع الصلاة من
فاتته الجمعة* (4) إلا المرضى والمسافرون والمسجونون، وأما غيرهم فلا.
وقال ابن القاسم فيمن خلفهم المطر يجمعون الظهر، إن كان أمرًا غالباً
يعذرون به كالمرضى. وإن كان مطرًا ليس بمانع* (5) فجمعوا فليعيدوا.
وعنه في المجموعة لا يعيدون. قال بعض أصحابنا الخائف يمكنه ألا يدركه
ما خاف منه
__________
(1) القدر - قل.
(2) وما حكم صلاة من تخلف عنها -و-.
(3) وفي المستخرجة - قل.
(4) ما بين النجمين = ساقط -و-.
(5) فجمّعوا = ساقطة -و-.
(1/1030)
والمطر الذي لم يمكن السعي معه لو تحمل
ضرره لأمكنته صلاة الجمعة *فلهذا رأى ابن القاسم أنه لا يجمع فيهما
بخلاف من لا تمكنه الجمعة كالمحبوس والمريض والمسافر. وهذا الذي اعتل
به هذا قد يُسلم له لولا إضافته المسافر للمريض والمحبوس. واستحب
الشافعية للمعذورين أن يجمعوا وكرهه أبو حنيفة. وأما إن كان تخلف
المتخلفون عن الجمعة لغير عذر وفاتهم إدراكها مع الإِمام فاختلف المذهب
فيه أيضًا* (1) فقال مالك في المدونة لا، يجمعوا وليصلوا الظهر
أفذاذًا. وقال أشهب أرى أن يجمعوا لفضل الجماعة على الفذ. وقال ابن
سحنون عن ابن نافع يجمعون إن شاؤوا. وقال في مختصر ابن شعبان من فاتتهم
الجمعة فلا بأس أن يجمعوا ظهرًا في غير المسجد. قال ابن شعبان وأكثر
جواباته المذكورة في مختصر عبد الله، ورواه بشر بن عمر الزهداني (2)
عنه. وكرهه الحسن وأبو قلابة والثوري وأبو حنيفة. فأما المجيزون للجمع
أو المستحبون له على الجملة، فيتعلقون بالأحاديث الواردة في فضل
الجماعة. وأما الناهون عنه على الجملة فيحتجون بأنه لم يخْلُ على عهد
النبي - صلى الله عليه وسلم - من المتأخر للعذر. ولم ينقل أنهم صلوا
جماعة. وهذا قد لا يسلم وجوده. وقال بعضهم لا نسلم وجود هذا في زمنه
عليه الصلاة والسلام لأنهم كانوا يصلون في دورهم لقرب المسجد وحرصهم
على صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -. ومن فرّق بين المعذور وغير
المعذور فإنه يحمي الذريعة بمنع من لا عذر له لئلا يؤدي إباحة ذلك لهم
إلى التهاون بحضور الجمعة. وإذا الأئمة (3) ومن ظهر عذره وأمن ذلك منه.
ولو جمع المتخلفون لغير عذر قال أصبغ أساؤوا ولا يعيدون. وقال أيضًا في
قرية يجمّع أهلها وحولها منازل على الميلين والثلاث أنهم لا يصلون
الظهر جماعة إذا فأتت الجمعة فإن فعلوا أساؤوا ولم يعيدوا. وقيل لسحنون
في من فاتتهم *الصلاة بعرفة أيصلون جماعة؟ قال* (4) ما علمت ولو فعلوا
لأجزأهم. وقال في كتاب
__________
(1) ما بين النجمين ممحو بـ -و-.
(2) الزهواني - قل.
(3) هكذا في جميع النسخ والكلام فيه نقص وغير واضح.
(4) ما بين النجمين = ساقط -و-.
(1/1031)
ابنه وكذلك يجمعون بالمزدلفة إذا فاتهم
الإِمام.
والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: العاجز عن حضور الجمعة كالمريض،
ومن في معناه كمقعد لا يجد مركوبًا أو أعمى لا يهتدي الطريق ولا يجد
قائدًا، لا شك في سقوط الجمعة عنهم. لأن التكليف إنما يتوجه على القادر
وهؤلاء غير قادرين. قال مالك ليس على المريض والشيخ الفاني جمعة.
قال ابن حبيب ولا على الأعمى إلا أن يكون له قائد. وقاله مالك في مختصر
ابن شعبان في الأعمى إذا لم يكن له قائد. وأما العذر الذي يمكن معه
الحضور ولكن عن مشقة وركوب ضرورة، فهذا مما تكثر فروعه ويتسع تنويعه.
وفي بعض فروعه اضطراب راجع إلى الموازنة بين تأكد وجوب الجمعة وبين
مقدار العذر والضرورة. فمن ذلك الاختلاف في المطر الشديد، هل يكون
عذرًا يحيى التأخر عن الجمعة؟ (1) وقد قيل لمالك هل يتخلف عنها في
اليوم المطر؟ قال ما سمعت قبل في الحديث إلا صلوا في الرحال. قال ذلك
في السفر. وأما التخلف في حق العروس فقال لا يتخلف العروس عن الجمعة
ولا عن الصلوات الخمس في جماعة. وفي مختصر ابن شعبان لا يتخلف الداخل
على زوجته ليلة الجمعة عن الجمعة ولا عن جميع الصلوات ولم يتخلف عنها
محمَّد أمير المؤمنين وقد دخل ليلة الجمعة. قال ابن شعبان وهو المهدي.
قال سحنون قال بعض الناس لا يخرج عنها. وذلك حق لها بالسنّة. قال بعض
أشياخي اختلف في تخلف العروس، ولا تصح إباحة التخلف له إلا أن يقال
صلاة الجمعة من فروض الكفايات. واختلف في المجذومين. فقال ابن حبيب على
الجذمى الجمعة، من يمشي منهم. وليس للسلطان منعهم من دخول المسجد في
الجمعة خاصة. وليس لهم مخالطة الناس فيه في غيرها من الصلوات. وقاله
مطرف.
وفي كتاب ابن سحنون في أهل البلاد ويكونون من العصر على الميل أو أقل
أو أكثر، قال لا جمعة عليهم ولا أرى أن يصلوا الجمعة مع الناس في مصرهم
ولهم أن يجمعوا ظهرًا، إقامة بغير أذان في موضعهم. فكان ابن حبيب، لما
رأى صلاة الجمعة فرضًا على الأعيان قدم حقهم في هذه الصلاة المتعينة
عليهم
__________
(1) الجمعة = ساقطة -و-.
(1/1032)
على حق الناس في التأذي (1) بهم. ولما كان
غير الجمعة من الصلوات لا يتعين عليهم حضوار المساجد للجماعات قدم حق
الناس عليهم، فلم يجعل من حقهم المخالطة في غير الجمعة من الصلوات.
وكأن القول الآخر قدم حق الناس في التأذي بهم (2) على حقهم في صلاة
الجمعة. ورأى أن سقوط الفرض إلى بدل وهو الظهر أولى من حمل الناس على
التأذي الذي لا بدل منه. لا سيما والحقوق إذا اجتمعت قدم أكثر على
الأقل، والجمهور على الشذوذ. وأيضًا فإن حق الخلق مبني على المشاحة وحق
الله تعالى مبني على المسامحة. فهذا القول أولى عندي من هذا الذي ذكرته
إلا أن يقال إن المتأذي (3) بهم آحاد لقلتهم (4) فيسقط على ما ذكرناه
من الترجيح بالكثرة، ويبقى النظر من الوجوه الأخرى التي أشرنا إليها
*هذا على أنهم لا يجدون موضعًا يتميزون فيه مما تجزئ فيه صلاة الجمعة.
وأما لو وجدوه لوجبت عليهم الجمعة ومنعت الخلطة لأنا يمكننا حينئذ
إقامة الحقين جميعًا. حق الله تعالى. وحق الناس. ولا شك أن الجامع إذا
ضاق بأهله وأتوا للصلاة متميزين عن الناس في الأقبية بموضع لا يلحق
الناس ضررهم أن الجمعة* (5) واجبة عليهم إذا صلوا بمكان لا يلحق ضررهم
الناس. وكان المكان مما تجزي فيه الجمعة. وفي مختصر ابن شعبان قال مالك
من أكل ثومًا لا يدخل المسجد ولا رحابه يشهد فيها الجمعة.
فأنت ترى كيف أشار إلى اجتناب الإضرار (6) بالثاس خاصة أو اجتناب هتك
حرمة المسجد بالروائح المنتنة، دون أن يشير لسقوط الجمعة. وهذا هو
المعنى الذي قلناه على أنه إنما يبقى النظر فيما قاله في أكل الثوم إذا
مُنع من دخول المسجد ورحابه، هل تكون صلاته بالفناء مع اتساع الجامع
لدخوله تجزيه عند من رأى أن الصلاة بالأفنية اختيارًا مع سعة الجامع لا
تجزي في الجمعة، لكون
__________
(1) في تأذيتهم -و-.
(2) تأذيهم -و-.
(3) التأذي - قل.
(4) لعذرهم - قل.
(5) ما بين الجمين ممحو -و-.
(6) الاضطرار -و-.
(1/1033)
هذا ممنوعًا من الدخول إلى الجامع شرعًا؟
فأشبه من صلّى بالفناء وقد ضاق المسجد عنه. أو يكون عند هؤلاء في صلاته
فساد لسعة الجامع إياه وإن كان قد طرده الشرع عنه. وهذا مما ينظر فيه.
وأما الخائف من القتل إن حضر الجمعة فإن التأخر مباح له. وأما الخوف من
طلب الغريم بدين فقال مالك لا أحب التخلف عنها لدين عليه يخاف فيه (1)
من غريمه. قال سحنون إذا خاف من غرمائه الحبس فلا عذر له في التخلف،
وإن كان عديمًا. وقد تعقب بعض أشياخي قوله وإن كان عديمًا. وكأنه رأى
أن الملي قادر على التخلص من الحبس بقضاء الدين ولا يدفع بالتخلف
ضررًا.
فإذا كان عديمًا فالحبس لا يلزمه. ولو خاف غرماءه. فأطلق حال الخوف
وحال العُدم. وقال أيضًا في مختصر ابن شعبان من خاف أن يؤخذ (2)
بالبيعة فهو في سعة من التخلف عن الجمعة. وأما المتخلف لتمريض مريض أو
تجهيز ميت.
فأجاز مالك التخلف لجنازة أخ من إخوانه لينظر في أمره. قال مالك وكذلك
إن كان له مريض يخشى عليه الموت. قال ابن حبيب قال بعض التابعين ولو
بلغه وهو في الجامع أن أباه أصابه وجع يخشى عليه الموت منه (3). فله أن
يخرج إليه والإمام يخطب. وقد استصرخ ابن عمر على سعد ابن زيد وقد تأهب
للجمعة فتركها وخرج إليه إلى العقيق. وقال مالك في الرجل يكون مع أخيه
فيمرض ويشتد مرضه لا يدع الجمعة إلا أن يكون في الموت. وروي عنه أيضًا
أنه قال في رجل بلغه موت بعض أهله أيخرج لجنازته وهو قريب من المدينة
ويدع الجمعة؟ قال لا. وأرى أن يؤثر الجمعة. وقال سحنون يحضر الجمعة إذا
لم يخف تغير الميت. وفي مختصر ابن شعبان عن ابن شعبان قال بلغنا أن من
مضى من أسلافنا كانوا يرخصون إلى أولياء الميت إذا مات يوم الجمعة في
الصيف فاشفقوا من تغيره أن يحضروا (4) ثم يدفنوه وإن تركوا الجمعة. وعن
__________
(1) فيه = ساقطة -و-.
(2) يطلب - قل.
(3) منه = ساقطة -و-.
(4) يعني تشييعه.
(1/1034)
عطاء بن أبي رباح ولو بلغه أن أباه مريض
والإمام يخطب لرخصت له أن يذهب إليه. وأجاز السلفَ من أهل المدينة
ويحيى بن سعيد والليث التخلف للمريض. وعن يحيى بن أبي كثير والأوزاعي
من العذر الجنازة تكون بحضرة القوم يتقون عليها إن أخروها أن تتغير.
وقاله الليث. وقال لا أرى بأسًا أن يقيم (1) حتى يموت ويترك الجمعة.
وعن يحيى بن سعيد حضور الجمعة واجب على كل مسلم إلا أن تكون جنازة لا
بد له من حضورها. وإن تركت ضاعت.
فذلك على أهلها ولا بد له منها. وقال الشافعي مثله وعن الوليد ابن أبي
الوليد قال: قلت لمحمد بن كعب القرظي. أبلغك أن النبي - صلى الله عليه
وسلم - قال: من ترك الجمعة ثلاث مرات إلا أن يكون مريضًا أو في جهاز
ميت طبع الله على قلبه (2). فقال هذا حديث معروف عن النبي - صلى الله
عليه وسلم -. وهذا الحديث الذي ذكره ابن شعبان قد أشار فيه إلى أن
الاشتغال بجهاز الميت عذر في ترك الجمعة.
وجملة الأمر فإن الأعذار المبيحة للتخلف عن الجمعة قد تتعلق بالنفس
كالخوف من القتل وما في معناه أو بالأهل. وقد ذكرنا حكم فرضهم
والاشتغال بدفنهم. أو بالدين. وقد ذكرنا حكم من خاف أن يدعى إلى بيعة
لا تجوز، أو بالمال، فلو خاف أن يأخذ السلطان ماله أو يسرق اللص بيته
لَعُذِر في التخلف.
ويستعمل في جميع ذلك عند فقد الآثار والظواهر، المُوازنة بين تأكد وجوب
الجمعة ومقدار ما ينال من الضرر لحضورها على حسب ما كنا قدمناه. فمن
أحاط بهذا علماً رد إليه أكثر الخلاف في فروع هذا الباب.
ومما ينخرط في هذا السلك كون صلاة العيد عذرًا في التخلف عن الجمعة.
وقد اختلف المذهب فيه على الجملة. قال ابن حبيب: قد جاء أن النبي - صلى
الله عليه وسلم - أرْخص في التخلف عن الجمعة لمن شهد صلاة الفطر
والأضحى صبيحة ذلك اليوم من أهل القرى الخارجة عن المدينة لما في
رجوعهم من المشقة على ما بهم من شغل العيد وقد فعله عثمان بإذنه لأهل
العوالي ألا
__________
(1) أي يحضر حالة احتضاره.
(2) الذي رواه أحمد بإسناد حسن من ترك الجمعة ثلاث مرات من غير ضرورة
طبع على قلبه. مجمع الزوائد ج 2 ص 192.
(1/1035)
يرجعوا إليها (1). وروى مطرف وابن الماجشون
نحوه عن مالك. وانفرد ابن القاسم بروايته عنه أنه لم يأخذ بإذن عثمان
لأهل العوالي. وهذا الذي حكاه ابن حبيب من الاختلاف إنما هو. فيمن كان
خارجًا عيق المدينة. ولكن ابن شعبان نقله في مختصره غير مقيد بمكان.
فقال ولا تترك صلاة الجمعة يوم العيد. وروى ابن الماجشون ومطرف عن عبد
الملك أن الجمعة تسقط عنهم. وروى هذا ابن وهب أيضًا عن مالك. قال ابن
شعبان وفيه حديث مرفوع وقال به جماعة من أهل العلم. وروي عن عبد الله
بن الزبير أنه صلّى العيد يوم الجمعة ثم صلى الجمعة فبلغ ذلك ابن عباس
فقال أصاب. قال أبو حنيفة لا تسقط إحداهما الأخرى: الأولى سنة والثانية
فرض. وحدثني أبو شيبة وذكر السند ثم قال اجتمع عيدان في يوم فصلَّى
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم (2) قال: إنكم قد أصبتم- خيرًا
وذكرًا وإنا مجمعون. فمن أراد منكم أن يجمع فليجمع. ومن أراد أن يجلس
فليجلس (3). ومما يلحق بهذا الفصل أن الحاج لا جمعة عليه. وقد وقف
النبي - صلى الله عليه وسلم - بعرفة يوم الجمعة فلم يجمّع. والحاج
أيضًا في الغالب مسافر. ومن كان منويًا أو عرفيًا فلا جمعة عليه ولو لم
يكن حاجًا. لأنه ليس بقرار يجب في مثله الجمعة والأسواق فيها في ليلة
الحج خاصة. وقد اختلف فيمن قدم مكة وأقام بها أربعة أيام قبل يوم
التروية ثم حبسه كَرِيُّهُ يوم التروية بمكة. قال مالك عليه الجمعة؛
لأنه مقيم. وقال محمَّد بن عبد الحكم إن أدرك الظهر بمنى وإلا صلاها في
الطريق. وذلك أفضل من أن يصلي الجمعة بمكة. فكأن ابن عبد الحكم رأى أن
المشروع يومئذ صلاة الظهر بمنى. فصار ذلك كالعذر المسقط لفرض الجمعة.
ولأجل عدّ ابن عبد الحكم لهذا عذرًا ألحقناه بهذا الفصل.
والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: أما من أبيح له التخلف حتى يعلم
__________
(1) هو -و-.
(2) ثم = ساقطة -و-.
(3) مجمع الزوائدج 2 ص 195. ولفظه في آخره. ومن أحب أن يرجع إلى أهله
فليرجع.
رواه الطبراني في الكبير. من رواية إسماعيل بن إبراهيم التركي عن زياد
بن راشد ابن محمَّد السماك. قال الحافظ الهيثمي ولم أجد من ترجمهما.
(1/1036)
أنه لا يمكنه إقامة الجمعة ففي أي وقت
يصلي؟ قال مالك إذا تخلف المريض عن الجمعة فواسع أن يصلي الظهر في وقت
الجمعة وأن يؤخر إلى وقت الظهر، وكذلك المرأة. فإذا صلى المعذور في أول
الوقت فقال الشافعي يسقط عنه الفرض فإن سعى إلى الجمعة وصلاها كانت له
نافلة. وقال في القديم يحتسب الله سبحانه له بايتهما شاء. وقال أبو
حنيفة إن سعى إلى الجمعة بطلت صلاته. وقال صاحباه تبطل بالإحرام
بالجمعة. قال بعض المتأخرين من أصحابنا إن علم المسافر أنه يدرك الجمعة
بوطنه، إذا ورد عليه فليؤخر الصلاة حتى يصلي الجمعة. فإن عجل فصلى
الظهر لم تجزه، لأن فرضه الجمعة.
ولمالك رضي الله عنه وابن القاسم وابن الماجشون وأصبغ في المسافر إذا
صلّى الظهر يوم الجمعة ثم دخل وطنه فإنه إن كان مضى إلى الجمعة أدرك
ركعة فعليه أن يصليها. وقال مالك في المريض مثل ذلك. وقال سحنون إن صلى
الظهر على ثلاثة أميال من وطنه فعليه أن يصلي الجمعة مع الناس. وإن كان
على ستة أميال من وطنه فليس عليه ذلك. فإذا أوجبنا على المسافر الحضور
على صفة ما قررناه فحضر وصلى الجمعة فإن صلاته الأولى انتقضت. فلو
انتقضت طهارته في صلاة الجمعة لأعاد الظهر. ولو أحدث الإِمام فقدمه
فصفى بهم أجزأهم.
وقال أشهب إن صلى المسافر الظهر في جماعة فينبغي ألا يأتي الجمعة كما
لا ينبغي في غير الجمعة إذا دخل الحضر أن يعيد ما صلى جماعة في جماعة
أخرى. فإن فعل وصلّى الجمعة فالأولى فرضه. وإن كان إنما صلى فذًا كان
له أن يعيدها جمعة أو ظهرًا في جماعة ثم الله تعالى أعلم بصلاته. وإذا
أحرم هذا المسافر بالجمعة بعد رفع الإِمام رأسه من الثانية صلى على
إحرامه ركعتين نافلة ولم يُعد. وهذا الذي حكيناه عن أشهب من أنه إذا
صلى ظهرًا فذًا ثم صلى الجمعة فإن الأمر إلى الله سبحانه في صلاتيه هو
الذي حكيناه من قول الشافعي في القديم. فكأن أشهب أجراه مجرى من صلّى
إحدى الصلوات الخمس فذًا ثم أعاد في جماعة أخرى فإن الأمر في صلاته إلى
الله سبحانه على حب ما كنا قدمنا ذكر المذاهب فيه في موضعه. فإن كان قد
صلى الظهر جماعة كانت الأولى فرضه، إذ لا معنى للإعادة، لأن فضل
الجماعة قد حصل في الصلاة
(1/1037)
الأولى. وكلامه هذا يشير عندي إلى سقوط
إيجاب صلاة الجمعة عنه على الإطلاق إذا كان فرضه الظهر خلاف ما حكيناه
عن الجماعة من إيجاب الجمعة عليه بإدراك ركعة أو على التفصيل الذي ذكره
سحنون. وأما صاحبا أبي حنيفة فإنهما رأيا أن صلاة الظهر إنما تنتقض
بفعل الجمعة. والسعي خارج عن فعل الجمعة، وإنما هو كالشرط مثل الطهارة
وما في معناها ولا يكون مجرده (1) مبطلًا لما تقدم من الصلاة. وأما أبو
حنيفة، فلأنه لما رأى السعي واجبًا في هذه الصلاة الأولى دون غيرها من
الصلوات صار ذلك من خصائصها. وإذا صار من خصائصها صار كفعل من أفعالها
فتبطل به الصلاة الأولى كما تبطل بفعل الجمعة. وإذا وضح هذا الذي قلناه
في صلاة المعذور قبل صلاة الإِمام. فلو صلّى غير المعذور الظهر قبل
صلاة الإِمام فقد اختلف الناس في ذلك. فأكثر أصحابنا على أن من صلى
الظهر قبل الإِمام يوم الجمعة فإنه يعيد صلاته وإن فاتته الجمعة. سواء
فعل ذلك غفلة أو مجمعًا على ترك الجمعة إذا أوقع صلاته في وقت لو مضى
لأدرك ركعة من الجمعة. وقال ابن نافع إذا صلى قبل الإِمام وهو لا يريد
الرواح فلا يعيد. وكيف يعيدها أربعًا وكذلك صلّى؟ وقال ابن وهب فيمن
صلى في بيته الظهر والإمام يخطب فليمض وليصل معه. فإن جاء وقد فرغ
الإِمام أجزأته التي صلّى في بيته. واختلف قول الشافعي. فقال في
الجديد: ما حكيناه عن أكثر أصحابنا أن صلاته لا تصح. وبه قال أحمد
وإسحاق وزفر. وقال في القديم تصح صلاته ويجب عليه حضور الجمعة فإذا
صلّى (2) احتسب الله له بايتهما شاء. فإن فاتته الجمعة أجزأته الظهر
التي صلاها. قال أبو حنيفة تصح صلاته. فإن سعى إلى الجمعة بطلت، وإن لم
يسْع إلى الجمعة أجزأته. وقال صاحباه تصح وتبطل بالإحرام للجمعة. وسبب
هذا الاختلاف هل الفرض حينئذ الظهر ويلزم إسقاطها بالجمعة أو الفرض
الجمعة.
فإن فأتت انتقل الفرض إلى الظهر، فإن قلنا: الفرض الظهر. ويلزم إسقاطه
بالجمعة صحت الصلاة ها هنا. وإن قلنا الفرض الجمعة لم تصح الصلاة
__________
(1) تحديده -قل-.
(2) فإذا صلى الجمعة -قل-.
(1/1038)
ها هنا (1). قمن يقول الفرض الظهر. على صفة
ما ذكرنا يحتج بالقياس (2) على سائر الأيام، وبدليل أن الجمعة إذا فأتت
انتقل إلى الظهر. فلو لم يكن الوقت للظهر لما انتقل إليه. ومن يقول
الفرض الجمعة يحتج بالإجماع على أن المكلف غير غير نجين فعل الظهر
والجمعة إذا تكاملت فيه شروط الجمعة. بل هو منهي عن فعل الظهر. ومن
المحال أن يكون ما نُهي عنه واجبًا، فكيف يقال ما قاله أصحاب أبي حنيفة
أن الزوال سبب لوجوبين الظهر والجمعة، إلا أنه مأمور بأن يختار فعل
الجمعة وأن يرفع بها وجوب الظهر، فإن لم يفعل حتى فأتت الجمعة عاد إلى
أصل وجوب الظهر. فإن صلى الظهر حينئذ لم يكن النهي عنها عائدًا لنفس
الصلاة بل لاشتغاله بها عن الجمعة. وإذا لم يكن النهي عائدًا إليها بل
لكونها مشغلة عن صلاة الجمعة لم يمنع الاعتداد بها. وهذا الذي قاله
مبني على ما لا حقيقة له، لأنه إذا اجتمعت الأمة على أنه غير مخيّر بين
الظهر والجمعة وكان فعل الظهر حينئذ منهيًا عنه استحال أن يقال إن
الوقت جاء بوجوب فعل. لكن هذا الفعل منهى عنه ولا يجوز فعله. وهذا
تناقض في الحقيقة. وفي هذا الذي أوردنا في أحكام الجمعة كفاية.
__________
(1) ها هنا = ساقطة -و-.
(2) يحتج بالقياس = ساقطة -و-.
(1/1039)