شرح
التلقين باب في صلاة الخوف
قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله قولنا: صلاة الخوف عبارة عن صفة أداء
الصلاة في حال الخوف. وهي الصلاة تحضر والمسلمون متصدون (1) لحرب العدو
فيَقْسم الإِمام العسكر فريقين. فريق يصلي معه والآخر بإزاء العدو فيصليها
بأذان وإقامة ويصلي بالطائفة التي معه نصف الصلاة (2) فإن كانوا في حضر
وكانت ظهرًا أو عصرًا أو عشاء صلى بهم ركعتيين، فإذا فرغ من تشهده قام إلى
الثالثة. وفي رواية يشير إليهم فيتمون لأنفسهم ما بقي عليهم من الصلاة. وإن
كان في سفر فإذا رفع رأسه من سجود الركعة الأولى وقام إلى الثانية أخذوا في
إتمام صلاتهم فإذا فرغوا مضوا فكانوا مكان (3) الفِرقة الأخرى ثم جاءت تلك
فيصلي بهم باقي (4) تلك الصلاة من ركعة أو ركعتين ثم يسلم بهم، (5) ثم
يتمون بقية صلاتهم وفي المغرب يصلي بالأولى ركعتين ثم يشير إليهم بعد فراغه
من تشهده في إحدى الروايتين. وفي الأخرى يقوم إلى الثالثة ويصليها على (6)
ما كان يصليها قبل ذلك من جهر أو إسرار، وهذا مع التمكن (7). فأما إن اشتد
خوفهم ولم يمكّنهم العدو أو كانوا في حال المسايفة صلوا بحسب الإمكان.
__________
(1) يتصدون -غ-.
(2) نصف الصلاة = ساقطة -و-.
(3) كانوا مقام في نسخة الغاني. وفي -و- هو، والأقرب وقاموا مكان.
(4) ما بقي في نسخة الغاني.
(5) ساقطة من الغاني و -غ-.
(6) على حسب في نسخة الغاني.
(7) التمكين -غ-.
(1/1040)
قال الفقيه الإِمام - رضي الله عنه -:
يتعلق بهذا الفصل ثمانية أسئلة: منها أن يقال:
1 - ما معنى قول القاضي أبي محمَّد إنها عبارة عن صفة أداء الصلاة؟.
2 - وما الدليل على أن حكمها باق إلى الآن؟.
3 - وهل تصلّى في الحضر؟.
4 - وهل يتفق الإِمام والمأموم في الفرض؟.
5 - وما الدليل على اختيار الصفة التي ذكر؟.
6 - وما الحكم إن خولفت تلك الصفة؟.
7 - وما الحكم إن ارتفع الخوف في أثنائها؟.
8 - وما حكم صلاة الخوف بالمسايفة؟.
فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: أما تنبيه القاضي أبي محمَّد على معنى
هذه العبارة *فإنما ذلك لأن الغالب على إطلاقات عرف الشرع أن الصلاة إنما
تضاف لسبب يوجبها لا لسبب يغير أداءها. ألا ترى* (1) أن المراد بقول
المسلمين: صلاة الصبح أي الصلاة الواجبة بالصبح. وكذلك في الظهر إلى بقية
الصلوات الخمس: فلما كانت هذه الإضافة تقع غالبًا نسبة إلى أسباب الوجوب
وقد تقع نسبة إلى غير سبب الوجوب كما يقال صلاة المزدلفة وصلاة عرفة وصلاة
المسافر. وهذه أوصاف إضافات تشعر بتغير وقع في أداء الصلاة لا في إثبات
وجوب لم يكن، نبه القاضي أبو محمَّد على هذه الصلاة من أي النوعين هي لئلا
يظن ظان أن هذه الإضافة إلى الخوف المراد بها صلاة وجبت لأجل الخوف وليس
الأمر كذلك. لأن الخوف لم يوجب صلاة لم تكن وإنما هو سبب في تغيرها.
والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: صلاة الخوف باق حكمها إلى الآن عند
فقهاء الأمصار خلافًا للمزنى وأبي يوسف في مصيرهما إلى انقطاع حكمها.
وإن اختلفت طريقتهما. فرأى المزني أنها منسوخة. ورأى أبو يوسف أنها كانت من
خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) هو -و-.
(1/1041)
فأما المزني فاحتج بأنه عليه الصلاة
والسلام أخّر يوم الخندق أربع صلوات ولم يصل صلاة الخوف. وأجيب عن هذا
بأنها لم تكن نزلت يوم الخندق أو بأنه لم يتمكن من إقامتها على حسب ما
سنذكره في صلاة المسايف.
وأما أبو يوسف فاحتج بقوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ
لَهُمُ الصَّلَاةَ} (1). فشرط في إقامتها كونه عليه الصلاة والسلام موجودًا
يقيم الصلاة.
وهو الآن - صلى الله عليه وسلم - ليس بموجود يقيم الصلاة. فلم يصح أن تصلّى
لفقدان الشرط. فأجيب عن هذا بأنه لم يقصد بالآية تخصيصه لهذا الحكم - صلى
الله عليه وسلم - وإنما القصد بها تعليمه وتعليم أمته صفة هذه الصلاة. وقد
قال تعالى: {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ}. وخاطب أمته بفعل صلاة،
فلا يكون هذا تصريحًا بقصر (2) ذلك عليه الصلاة والسلام. وقد أنكرت الصحابة
رضوان الله عليهم حجة من احتج من مانعي الزكاة لقوله تعالى: {خُذْ مِنْ
أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} (3). وإن هذا خطاب بالأخذ يخص النبي - صلى الله
عليه وسلم - فليس لغيره أن يأخذها. ورأت الصحابة أن هذا لا يكون تخصيصًا.
وأن من بعده يؤمر بمثل ما أمر به. ويرد قوليهما جميعًا، أن عليًا، رضي الله
عنه صلى ليلة الهدير (4) صلاة الخوف. وصلّى أبو موسى بأصحابه.
وكان سعيد بن العاصي على جيش حرب طبرستان، فقال: أيكم صلّى مع رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف؟ فقال حذيفة أنا. فقدمه فصلّى بهم صلاة
الخوف، ولم يظهر (5) أحدٌ من الصحابة خلافًا في ذلك. فصار هذا كالإجماع على
رأي بعض أهل الأصول. وأيضًا فإن من المصلحة الاجتماع على إمام واحد، وإظهار
فضيلته بالاجتماع عليه. فإذا صلى طائفتان بإمامين، فصلى كل طائفة الصلاة
التامة على مذهب أبي يوسف بطلت هذه الحكمة والمصلحة، التي في الاتفاق على
إمام واحد. فإذا وضح ما قلناه في أن حكم صلاة الخوف باق إلى الآن،
__________
(1) سورة النساء، الآية: 102.
(2) لقصر -و-.
(3) سورة التوبة، الآية: 103.
(4) هكذا في -و- وغير واضحة في قل.
(5) يذكر - قل.
(1/1042)
فأداؤها على الصفة المذكررة عند ابن المواز
توسعة ورخصة. على أن الأحب إليه أن تصلّى كما فعل النبي - صلى الله عليه
وسلم -. قال: ولو صلوا بإمام واحد وبعضهم بإمام، وبعضهم أفذاذًا كانت
صلاتهم جائزة. قال بعض أشياخي: ومقتضى هذا جواز صلاة طائفتين بإمامين لأنه
لو كان علة اجتماع الكل على إمام واحد أن لا يخالف على الأئمة ما جاز أن
يصلي بعضهم أفذاذًا. لأن ذلك غير جائز لمن جمعه مع الإِمام المسجد. وهذا
الذي قاله شيخنا مخالف لما ذكرناه من تعليل بعض الناس (1) بثبوت صلاة الخوف
إلى الآن لأن الاجتماع على إمام واحد هو المصلحة إلا أن يريد المعلل بذلك
تعليل جواز إقامتها على الصفة المذكورة، أو تعليل استحباب ذلك فيكون غير
مخالف لما قاله شيخنا لأنه إنما تكلم على ما يجوز لا على ما يستحب. على أن
(2) في إلزامه لابن المواز ما ألزمه نظر. لأن افتراق الأئمة وإظهار
جماعتين، وإمامة (3) إمامين ربما كان أثقل من تأخر بعض الناس عن الصلاة عن
الإِمام وعدوله عن ذلك إلى أن يصلي وحده. وقد تقع صلاة الخوف على صفة يكون
المصلي فذًا، بمكان لا يكون حاله فيه كحال من ضمّه المسجد مع الإِمام فقد
(4) لا يلزم ابن المواز ما ألزمه شيخنا. وتقييد ابن المواز قوله بما ذكره،
وإضرابه عن الصلاة بإمامين قد يشير إلى ما قلناه من أنه قد لا يرى الصلاة
بإمامين كصلاة البعض بإمام، والبعض أفذاذًا.
والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: أما صلاة الخوف في الحضر فإن مالكًا
رضي الله عنه أجازها كما يجيزها في السفر. ومنع صلاتها في الحضر عبد الملك
بن الماجشون وقال إنما تأولها (5) أهل العلم في السفر لقوله تعالى:
{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} (6). ورآها مقصورة على السفر لهذه
الآية، وأنه - صلى الله عليه وسلم - صلاها على هذه الصفة في السفر فصارت
رخصة لا يقاس عليها. وقد
__________
(1) الناس = ساقطة -و-.
(2) لأن في إلزامه لابن المواز- و-.
(3) وإقامة -و-.
(4) هذا -و-.
(5) إنما تأولها = ساقطة -قل-.
(6) سورة النساء، الآية: 101.
(1/1043)
كنا قدمنا اختلاف المفسرين وأهل العلم في
هذه الآية وذكرنا ما قيل في هذين الشرطين وهي قوله: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ
فِي الْأَرْضِ}. وقوله: {إِنْ خِفْتُمْ}.
ووسعنا الكلام هنالك على هذه الآية بما يغني عن إعادتها ها هنا.
والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: أما المأموم فإنه والإمام في صلاة
الخوف سيّان في عدد ركعات الصلاة. وقال الحسن وطاوس (1) ومجاهد يصلي
الإِمام ركعتين وتصلي كل طائفة ركعة. وروي ذلك عن ابن عباس ودليلنا الأخبار
الواردة في صلاة الخوف وسنورد نصوصها بعد هذا وقد تضمنت صلاة كل طائفة
ركعتين. وأيضًا فإن الإِمام والمأموم لا يختلفان في شروط الصلاة فكذلك في
عدد الركعات. وأما المخالف فإنه يحتج بقوله تعالى: {فَإِذَا سَجَدُوا
فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ} (2). وظاهر هذا اقتصار المأموم على ركعة
واحدة في صلاة الخوف لأنه أمر تعالى الطائفة الأولى أن تذهب للمدافعة عند
سجودها ولم يوجب عليها أكثر من ذلك. فاقتضى الظاهر اقتصارها على ركعة واحدة
في صلاة الخوف. وهذا غير مسلّم لأن قوله تعالى: {فَإِذَا سَجَدُوا
فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ}. فتأوله من يقول إن الطائفة الأولى تكمل
صلاتها قبل الإنصراف على أن المراد به إذا صلوا الركعة الأخرى التي بقيت
عليهم. وعبّر عنها بالسجود. لأنه قد يعبر عن الركعة بالسجود. ويعضد هذا
التأويل قوله: {فَإِذَا سَجَدُوا}.
فظاهره سجود ينفردون به. وهذا هو السجود الذي يكمّلون به أفذاذًا ما صلوه
مع الإِمام. ويتأوله من يقول أنهم ينصرفون قبل الإكمال ثم بعد ذلك يكملون،
على أن المراد به فليكونوا من ورائكم وهم في حكم الصلاة. ويحتج هؤلاء
المتأولون لهذين التأويلين بما ورد في الآثار من صفة صلاة الخوف.
وأما ما وقع في بعض الآثار فقد كنا قدمنا في صلاة المسافرين من أن صلاة
الحضر أربع والسفر ركعتان والخوف ركعة. فالمراد (3) ركعة تفعل مع الإِمام
على أنها جملة ما يصلّى. فإن قال المخالف بأن صلاة السفر لقا رُدّت
__________
(1) طاوس = ساقط -و-.
(2) سورة النساء، الآية: 102.
(3) فالمراد به - قل.
(1/1044)
إلى النصف من صلاة الحضر لمشقة السفر،
فكذلك صلاة الخوف تردّ إلى نصف صلاة المسافر لمشقة الخوف. فيكون المسافر
يتشطر صلاته للخوف كما شطرت صلاة الحضر لمشقة السفر. قيل له قد أثبت الشرع
لمشقة الخوف تخفيفأوهو تغيير الهيئة فلم تَعْرُ مشقة الخوف من إثبات تخفيف
كما أثبت مشقة السفر تخفيفًا بسببها. وإذا كان هذا هكذا وجعل الشرع التخفيف
لمشقة السفر في العدد، والتخفيف لمشقة الخوف في الهيئة، فليس لنا أن نقترح
عليه في تعيين التخفيف، وهذا يرد ما قالوه.
والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: اختلف الناس في المختار في صلاة الخوف.
فذهب مالك رضي الله عنه إلى أن الإِمام يصلي بطائفة شطر الصلاة ركعتين إن
كانت حضرًا أو ركعة إن كانت سفرًا ويتم المأمومون لأنفسهم بقية صلاتهم
ويكون الإِمام منتظرًا للطائفة الثانية. فإذا أتم من خلفه وانصرف للقتال
أتت الطائفة الأخرى وصلّى بهم شطر الصلاة وهو الذي بقى عليه: ركعتين إن
كانت حضرًا أو ركعة إن كانت سفرًا. واختلف قوله هل ينتظر الطائفة الثانية
إذا فرغ من صلاته حتى تقضي ما فاتها فيسلم بهم أو يسلم هو منفردًا ثم يقضون
بعد سلامه؟ وذهب أشهب إلى أن الطائفة الأولى إذا صلّى بهم الإِمام شطر
صلاته فإنها لا تكمل بقية صلاتها. بل تنصرف للقتال ثم تأتي الطائفة الأخرى
فيصلي بها ما بقي عليه من الصلاة ثم تكمل صلاتها وتنصرف ثم تأتي الطائفة
الأولى فتقضي. هكذا قال في مدونته، وإن كان قد نقل عنه خلاف هذا وأنه روى
حديث ابن عمر، وفيه أن طائفة صلّت ركعة ثم تأخرت إلى جهة العدو من غير أن
تسلم ثم أتت الأخرى فصلّي بهم الركعة الثانية وسلم. ثم قامت كل طائفة
فأتمت. وإن أشهب أخذ بهذا الحديث. قال ابن حبيب: فإذا اشتغلت الطائفتان
بالقضاء صار الإِمام وحده فيه لهما (1) فحمل ابن حبيب على أشهب أنه ذهب إلى
أن الطائفتين يقضيان معًا. والذي نقلناه عنه أولى، وهو الذي في مدونته. وقد
نقل بعض أصحابنا البغداديين عن أشهب أنه يقول بقول أبي حنيفة. ومذهب أبي
حنيفة أن الطائفة الأولى إذا صلّت ركعة مع الإِمام
__________
(1) هكذا وهو غير واضح.
(1/1045)
انصرفوا إلى جهة العدو وهم في الصلاة. وأتت
الطائفة الأخرى فصلّي بهم ركعة وسلم ثم تنصرف *هذه الطائفة إلى العدو* (1)
وتعود الطائفة الأولى *إلى موضع الإِمام فتصلي ركعة وتسلم* (1) ثم تنصرف
إلى العدو. ثم تأتي الطائفة الثانية إلى موضع الإِمام وتصلي ركعة وتسلم
*ورأيت في بعض كتب* (1) أصحابه أن الطائفة الأولى لا تقرأ فيما تكمل به
صلاتها. والطائفة الثانية تقرأ فيه. فجعل أبو حنيفة قضاء الطائفتين مرتبًا
على حسب السبق تكمل (2) الطائفة الأولى صلاتها أولًا (3). ثم تكمل الثانية
بعدها (4) وهذا لم ينقل عن أشهب وإنما نقل عنه ما حكيناه عن مدونته من أن
الطائفة الثانية تكمل صلاتها وتنصرف ثم تأتي الطائفة الأولى فتقضي ما بقي
عليها. وما حكيناه مما أضافه ابن حبيب إليه. وكلاهما خلاف ما حكيناه عن أبي
حنيفة من (5) رتبة الإكمال. وإنما الموافقة بينه وبين أبي حنيفة في أن
الطائفة الأولى لا تكمل قبل فراغ الإِمام.
وأما الشافعي فإنه اختلف قوله: فأخذ مرة في الطائفة الأولى بمذهب مالك في
أنها تكمل صلاتها قبل فراغ الإِمام. وأخذ مرة أخرى بأنها لا تكمل إلا بعد
الفراغ كطريقة أبي حنيفة وأشهب في ذلك على الجملة. وأخذ مرة أخرى بأنه يصلي
في السفر بكل طائفة ركعتين.
وسبب هذا الاختلاف اختلاف الأحاديث. فقد رويت في ذلك أحاديث كثيرة مشتملة
على صفات مختلفة. وقد ذكر ابن القصار أنه ذكر أن النبي - صلى الله عليه
وسلم - صلاها (6) في عشرة مواضع. قال والذي استقر عند الفقهاء: بطن النخيل،
وعُسفان وذات الرقاع. وقد أشار غير ابن القصّار أيضًا إلى كثرة الأحاديث
__________
(1) ما بين النجمين هو -و-.
(2) بكمال -و-.
(3) أولى -و-.
(4) بعده -و-.
(5) في -و-.
(6) صلى -و-.
(1/1046)
الواردة فيها. وقد ثبت عنه - صلى الله عليه
وسلم - أن الطائفة الأولى أتمت ثم انصرفت للقتال ثم أتت الطائفة الأخرى
فصلّي بها. واختلفت الرواة هل سلم بهم أو سلّم وحده؟ وعلى هذا الأثر عوّل
مالك رضي الله عنه. واختلف قوله في سلام الإِمام بالطائفة الثانية لاختلاف
الرواة في ذلك. وقال ابن عمر صلّى بنا النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة
الخوف بإحدى الطائفتين ركعة. والطائفة الأخرى مواجهة العدو ثم انصرفوا
وقاموا مقام أصحابهم. وجاء أولئك فصلّى بهم ركعة ثم سلّم النبي - صلى الله
عليه وسلم - ثم قضى هؤلاء ركعة، وهؤلاء ركعة (1). وبهذا الأثر أخذ أبو
حنيفة وأشهب.
قال أصحاب أبي حنيفة: ما وصفناه من صلاة الخوف رواه ابن مسعود وابن عمر.
وأما القول الثالث الذي حكيناه عن الشافعي فقد روي أنه - صلى الله عليه
وسلم - صلّى بكل طائفة ركعتين. قال بعض أصحابنا إن ثبت الحديث حمل ذلك على
أنه فعل ذلك في الحضر لأنه لم ينقل أنه سلّم من كل ركعتين. وقال بعض أصحاب
الشافعي أنه - صلى الله عليه وسلم - صلّى بذات الرقاع بكل طائفة ركعتين.
والمراد به ركعة مع الإِمام وركعة في حكم صلاة الإِمام. فهؤلاء حملوه على
السفر وتأولوه عليه.
وما حكيناه من أصحابنا تأول الرواية مطلقة على صلاة الحضر. وقد رجح أصحابنا
ما تعلقوا به من قوله تعالى: {فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ
وَرَائِكُمْ} (2).
وظاهر هذا أنهم إنما يكونون من وراء الإِمام ومن معه إذا سجدوا سجودًا
ينفردون به. ولا يتصور ذلك إلا بما قلناه من أنهم يكملون الصلاة قبل
الانصراف. ولو كان المراد انصرافهم قبل الإكمال. كما قال أبو حنيفة، لقال
فإذا سجدت بهم وإذا سجدوا معك فليكونوا من ورائكم. والعدول عن هذا إلى ما
يقتضي ظاهره سجودًا ينفردون به يرجح ما تعلق به مالك من الآثار. وكذلك قوله
تعالى: {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا
مَعَكَ}. يقتضي ظاهره ردّ قول من قال إن الطائفة الثانية تحرم مع الإِمام
وهي في القتال لأنه وصف هذه الطائفة بأنها لم تُصل قبل أن تأتي. وقد جعله
بعض الناس أيضًا ظاهرًا في أن
__________
(1) أخرجه النسائي. بلفظ قريب من هذا. شرح السيوطي والسندي ج 3 ص 172.
(2) سورة النساء، الآية: 102.
(1/1047)
الطائفة الثانية تصلي *جميع صلاتها* (1)
قبل الانصراف لقوله: فليصلوا معك. وهذا يقتضي أنهم يصلون جميع صلاتهم معه.
وكونه ظاهرًا فيما أشرنا إليه في ردّ مقالة من قال: تحرم الطائفة الثانية
وهي في القتال مع الإِمام، أظهر وأوضح. وقد رُجحّت طريقة أبي حنيفة وأشهب
بأنه إذا كان لا بد من الخروج عن أصل معهود في الصلاة، إما المشي والسعي في
الصلاة، وإما إكمال الصلاة وأداؤها قبل أداء الإِمام لها، كان تسهيل المشي
وإلغاء حكمه أولى من إلغاء مخالفة الإِمام وأداء الصلاة قبل أدائه. لأن
المشي في الصلاة له نظير في الشرع كمشي الراعف عند من رآه ومشي من عليه
الحدث. وأداء الصلاة قبل الإِمام لا نظير له في الشرع. فكان ما له نظير
أولى مما لا نظير له. وأجاب أصحابنا عن وهذا بأنه إذا كان لا بد من مفارقة
الإِمام وترك اتباعه *فيما يفعل إما بالانصراف* (2) كما قال أبو حنيفة
وأشهب *وإما بالإكمال كما* (2) قال مالك كان الإكمال أولى لأنه ليس فيه
مفارقة إمام يلزم اتباعه فيما يفعل *وإذا لم يلزم اتباعه فيما يفعل* (3)
فلا معنى لمنع المخالفة عليه *بالأداء قبله* (2) لأنه قد سقط حكم إمامته عن
الطائفة الأولى حتى لو أحدث لم تفسد عليهم الصلاة *وإذا كنا نقول بأنهم*
(4) خرجوا عن إمامته حتى لو أفسد صلاته ما أفسدها عليهم كان الإكمال أولى
بأقرب موضع. وصلاة الخوف إنما وضعت للتحرز من العدو والاحتياط منه،
ومقابلتهم العدو وهم في غير الصلاة أوثق وأحصن من تقسيم خاطرهم بين أمرين
حفظًا للصلاة والتحفظ من العدو. وقد قال سحنون إذا صلّى ركعة من صلاة الخوف
في السفر ثم أحدث قبل قيامه إلى الثانية فليُقدم من يقوم بهم ثم يثبت
المستخلف. ويتم من خلفه ثم تأتي الطائفة الأخرى فيصلي بهم ركعة ويسلم. ولو
أحدث بعد قيامه إلى الثانية فلا يستخلف لأن من خلفه خرجوا من إمامته حتى لو
تعمد حينئذ الحدث أو الكلام لم تفسد عليهم.
__________
(1) ساقط -و-.
(2) هو في -و-.
(3) ساقط -و-.
(4) هو -و-.
(1/1048)
فأنت ترى سحنونًا لم يأمره بالاستخلاف ولا
جعل إفساده إفسادًا عليهم، وإذا كان الأمر كما قال وخرجوا من إمامته فلا
معنى لمنعهم الأداء قبل أدائه. وتد ذكرنا أنه اختلف قول مالك في انتظار
الإِمام الطائفة الثانية ليسلم بهم. وما ذكرناه من هذا الترجيح يشعر بأن
الأولى سلام الإِمام قبل إكمال الطائفة الثانية.
لأنه لا داعي يدعو إلى قضائهم وهم في حكمه ومخالفتهم له في فعله. فكان
الأولى لهم أن يقضوا بعد سلامه، والأصل أن لا ينتظر الإِمام من خلفه. ولم
يختلف في أن الإِمام لو صلى فذا بعض صلاته أنه لا ينتظر المسبوق حتى يقضي
فيسلم به. وإذا كان هذا الأصل في صلاة الأمن , فصلاة الخوف كذلك إذا لم
يوجد ما يدعو إلى مخالفته الأصل فيها. وأما ما ذكره القاضي أبو محمَّد من
الاختلاف في انتظار الإِمام الطائفة الثانية وهو جالس في جلوسه المشروع.
أو ينتظرها إذا قام من جلوسه، فإن ابن حبيب ذكر أن مالكًا قال في صلاة
المغرب يصلي بالطائفة الأولى ركعتين ويثبت جالسًا. ثم رجع فقال يقوم حتى
تتم هي وتأتي تلك. وإن شاء سكت أو دعا. قال وهذه لا يقرأ فيها في قيامه
لأنه لا يقرأ فيها بغير أم القرآن فخالفت غيرها. قال بعض أشياخي في الإِمام
إذا قلنا أنه لا ينتظر الطائفة الثانية إلا قائمًا وإن كان في جلوس مشروع
اختلف فيه:
فقيل يقرأ الحمد وقيل لا يقرأها حتى يأتي الآخرون. ولأشهب في مدونته ولبعض
أصحابنا في المبسوط أيضًا أنه يستفتح القراءة بالطائفة الثانية بالحمد.
قال وهو أصوب لأنه ذكر نى الحديث أن الطائفة أتت فصلّي بها ركعة (1).
وظاهره أنه قرأ بهم ولو كان قرأ قبل مجيئهم لقال أتت الطائفة الثانية فركع
بهم.
وقال بعض أصحاب الشافعي إذا قام الإِمام إلى الثانية نوت الطائفة الأولى
مفارقته وصلّوا ركعة أخرى لأنفسهم وانصرفوا. وتأتي الثانية فيصلي بهم ركعة.
فإذا رفع رأسه من السجدة الأخيرة قاموا فأتموا لأنفسهم في أصح القولين
فيصلون ركعة لأنفسهم فإذا تشهدوا سلّم بهم.
وإذا كان الحكم أن يقسم الإِمام صلاة الخوف شطرين بين الطائفتين فما
__________
(1) أتمت صلاتها - قل.
(1/1049)
حكم ما لا يشطر كصلاة المغرب؟ عندنا (1)
أنه يصلي بالطائفة الأولي ركعتين وبالثانية ركعة. وخيّرته الشافعية بين هذا
الذي قلناه وبين عكسه يصلي بالأولى ركعة وبالثانية ركعتين. وقال الحسن يصلي
بكل طائفة ثلاث ركعات. والردّ عليه أن الآية ظاهرها يقتضي (2) أن تصلي
الطائفتان معه صلاة واحدة. والحسن جعلهما يصليان معه صلاتين. وأيضًا فإن
الذي قال بهذا يؤدي إلى تفضيل طائفة على طائفة بأن تصلي إحداهما خلفه وهو
يصلي فرضًا، والأخرى تصلي خلفه وهو يصلي نفلًا، ولا سبيل إلى التفضيل إذا
لم يدْع إليه داع كما دعا إليه في التفضيل في عدد الركعات إذ الثلاث لا
تتشطر، وجعلناه *نحن يفضل الأولى حتى تكون الطائفة الثانية* (3) لا تجلس في
غير موضع جلوس، وتجري صلاة الخوف بين الإِمام والمأموم على سنتها في
الأفعال المعهودة إلا ما استثناه الشرع من مخالفة الهيئة المختصة بصلاة
الخوف.
والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: إذا جهل الإِمام فصلّى صلاة المغرب بكل
طائفة ركعة فاختلف فيه. فحكى ابن حبيب أن صلاة الأولى فاسدة وصلاة الثانية
والثالثة صحيحة. وقال سحنون: صلاة الإِمام وصلاة من خلفه فاسدة, لأن ترك
سنتها. وكذلك إن صلّى بالأولى ركعة، وبالثانية ركعتين لوقوفه في غير موضع
قيام. وكذلك قال سحنون فيمن صلّى صلاة الخوف في الحضر بكل طائفة ركعة، أن
صلاة الإِمام، وجميع من خلفه فاسدة. وذكر ابنه عن بعض أصحابنا أن صلاة
الإِمام، وصلاة الثانية والرابعة تامة *وصلاة الأولى والثالثة فاسدة. وعندي
أن هؤلاء إنما أفسدوا صلاة الطائفة الأولى والثالثة لانفرادهم بفعل ما
يلزمهم اتباع الإِمام فيه لأن الطائفة الأولى حقها أن تصلي معه ركعتين،
فإذا صلت خلف الإِمام ركعة واحدة ثم خرجت عن إمامته في الثانية التي من
حقها أن تتبعه فيها، فقد أفسدت صلاتها. وكذلك الطائفة الثالثة حقها أن
تتبعه في الرابعة، فإذا لم تفعل فقد أفسدت صلاتها. وأما الطائفة
__________
(1) عندنا = ساقطة -و-.
(2) يقتضي = ساقطة -و-.
(3) ما بين النجمين = ساقط -و-.
(1/1050)
الثانية والرابعة فهم في حكم* (1) المسبوق
ومن فاتته بعض الصلاة. لأن من صلى الركعة الثانية كأنه من الطائفة التي
تصلي شطر الصلاة الأولى *وفاتهم* (1) ....... (2) بعض ما شأنهم أن يصلوه مع
الإِمام فلا يفسد ذلك صلاتهم. وكذلك الطائفة الرابعة أيضًا حكمهم حكم من
فاته بعض ما شأنه أن يصليه مع الإِمام فلا تفسد صلاتهم. وكذلك وجه ما حكاه
ابن حبيب في صلاة المغرب من فساد صلاة الطائفة الأولى، إنما ذلك لما قلناه
من أنها خرجت من إمامة من يلزمها اتباعه في الركعة الثانية. وأما الطائفة
الثانية فهم في حكم المسبوق، فصلاتهم صحيحة على هذا الأصل. والطائفة
الثالثة كأنها لم تخالف ما أمرت به الطائفة الثانية إذا قسم الإِمام الصلاة
بينهم على ما قلناه وأقاموها على سنتها. وأما سحنون فإنه اعتل بقوله في
إفساد صلاة الجميع لمخالفتهم سنة صلاة الخوف. وإذا وضُح ما قلناه من أن
الطائفة الثانية تكون في حكم المسبوق فإنها إذا كانت كذلك فقد اجتمع عليه
ابن اء وقضاء. وحكم ذلك إذا اجتمع (3) قد قدمناه فيما سلف من هذا الكتاب.
ولابن القاسم في العتبية في مدرك الركعة الثانية من المغرب من الطائفة
الأولى أنه إذا وقف الإِمام في الثالثة أتمّ القوم، ولا ينبغي لهذا أن يقضي
الركعة إلا بعد سلام *الإِمام لأن الطائفة الأولى إنما* (4) تبنى ولا تقضى.
قال عنه ابن سحنون: ويقف هذا مع الإِمام حتى تأتي الطائفة الثانية فيصلي
معهم *ركعة ثم تقضي الأولى بعد سلام الإِمام.
وقال سحنون في أحد قوليه: يصلي ركعتين قبل سلام الإِمام. ومن وقف على ما
قدمناه من أحكام القضاء والبناء علم سبب هذا الاختلاف* (4).
والجواب عن السؤال السابع: أن يقال: قد تقرر بما قدمناه أن صلاة الخوف شرعت
على تلك الهيئة للتحرز من العدو. فكل ما كان أحرز، رُجّح على غيره ما لم
يمنع منه دليل. ولقد قال الشافعي في آخر قوليه، وداود: يجب حمل السلاح في
صلاة الخوف لما كان ذلك أحوط. ولقوله تعالى: {فَلْتَقُمْ
__________
(1) ما بين النجمين هو -و-.
(2) هو -و-.
(3) هكذا ولعل الصواب اجتمعا.
(4) ما بين النجمين = ساقط -و-.
(1/1051)
طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا
أَسْلِحَتَهُمْ} (1). فإذا علم أن القصد بهذه الهيئة لهذه الصلاة ما
ذكرناه، لم تستعمل هذه الهيئة في صلاة الآمن (2). وقد خرّج مسلم أن العدو
لما كان في القبلة صف النبي - صلى الله عليه وسلم - الناس خلفه صفين فكبّر
وكبروا معه ثم ركع وركعوا معه ثم سجد وسجد الصف الذي يليه خاصة، ثم قام
وقام الصف الذي سجد معه. وانحدر الصف المؤخر فسجدوا ثم قاموا. وتقدم المؤخر
وتأخر الصف المتقدم ثم ركع النبي - صلى الله عليه وسلم - وركعوا معه ثم سجد
الصف الذي يليه الذي كان مؤخرًا. وقام الصف المؤخر في نحو العدو. فلما قضى
النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة والصف الذي يليه انحدر الصف المؤخر
فسجدوا ثم سلّم النبي - صلى الله عليه وسلم - بهم جميعًا (3). قال بعض
أشياخي اختلف إذا كان العدو في القبلة. هل يصلي بهم جميعًا أو بالطائفتين؟
وهذا الذي ذكر من كتاب حديث مسلم صفة حسنة عند شيخنا هذا ولأشهب في
المجموعة إذا كان العدو في القبلة وأمكنه أن يصلي بالناس جميعًا فلا يفعل
(4) لأنه يتعرض أن يفتنه العدو ويشغله وليصل بطائفتين سنة صلاة الخوف. وقال
في مدونته فإن صلى بهم طائفة واحدة أجزأهم.
وقالت الشافعية إذا كانوا في السفر وكان العدو في غير جهة القبلة ولم
يأمنوهم وكان في المسلمين كثرة، فرّقهم الإِمام فرقتين وذكروا صفة صلاة
الخوف.
وقالوا إذا رفع رأسه من السجدة الأخيرة قاموا فأتموا لأنفسهم في أصح
القولين فيصلون ركعة لأنفسهم، والإمام ينتظرهم جالسًا. فإذا تشهدوا سلّم
بهم. فأنت ترى ما ذكره في كتاب مسلم من صلاته - صلى الله عليه وسلم - على
هذه الهيئة المذكورة طائفة واحدة لما كان العدو في جهة القبلة ولم تدع
ضرورة إلى قسمتهم على طائفتين.
وقال ابن عبد الحكم إذا كانوا طالبين وعدوهم منهزم مغلوب إلا أن طلبهم أثخن
في قتلهم فصلاتهم بالأرض صلاة أمن أولى من الصلاة على الدواب. وقاله
الأوزاعي. أما الطالب فينزل وأما المطلوب فيصلي على دابته إلا أن يخاف
__________
(1) سورة النساء، الآية: 102.
(2) فإذا علم أن القصد بهذه الصلاة ما ذكرنا لم نستعمل هذه الآية في صلاة
الآمن - قل.
(3) الحديث المذكور مروي بالمعنى. انظر باب صلاة الخوف من كتاب صلاة
المسافرين ح 307 - 308.
(4) فلا يفعل = ساقطة -و-.
(1/1052)
الطالب أن يكِرّ عليه. ابن حبيب وهو في سعة
وإن كان طالبًا ألا ينزل ويصلي إيماء لأنه مع عدوه بعد، ولم يصر إلى حقيقة
أمن وقاله مالك. وقال ابن المواز وابن حبيب إذا خاف المسلمون أن يخرج عليهم
العدو ولم يروه فصلوها فهي تامة. ابن حبيب وتكون طائفة بإزاء (1) الموضع
الذي خافوا مجيئهم منه. قال أشهب وكذلك لو رأوا شيئًا ظنوه العدو فصلوها ثم
ظهر أنه ليس بعدو، فلا شيء عليهم. ابن المواز أحب إليّ أن يعيدوا وإذا صلّى
بالطائفة الأولى ركعة فذهب الخوف *فليتم بمن معه وتصلي الأخرى بإمام آخر
ولا يدخلون معه قاله ابن القاسم ثم رجع فقال لا بأس أن يدخلوا معه* (2)،
وقال ابن مسلمة إذا صلى بطائفة ركعة فأتم بعضهم وانصرف *وبقي بعضهم* (2) لم
يتم حتى ذهب الخوف *أجزت صلاة من أتم وانصرف* (2). وأما من لم يصلّ الركعة
الثانية فلا يفارق الإِمام. ولا ينتظر الإِمام أحدًا. ويقرأ الإِمام ويتبعه
من لم ينصرف فأمر ابن مسلمة ها هنا باتباع الإِمام في هذه الركعة من أحرم
على أن يصليها فذًا.
وحكم من وجبت عليه أن يصلي فذًا ألا يقضي في جماعة. ولكن هذا ليس بقضاء،
ولكنه بني على أن يحرم على (3) أن يفعله فذًا لعلة ما. فإذا ذهبت العلة بقي
على حكم الإِمام. ولو صلّى الإِمام بالناس طائفة واحدة , لأنه كان في أمن,
فلما صلى ركعة حدث الخوف فينبغي أن يفارقه بعضهم ليكونوا وجاه العدو. فإذا
صلى بمن معه عادت الطائفة التي فارقته فتصلي لأنفسها ركعة، بقية صلاة
الإِمام.
والجواب عن السؤال الثامن: أن يقال: إذا اشتد الخوف صلّوا بحسب
الطاقة. فإن كان إنما يخاف عند السجود خاصة، أومأ إليه، وإن خاف إذا ركع
أومأ للركوع، وإن خاف أن يستقبل القبلة استدبرها. قال ابن حبيب إذا كانوا
في القتال فليؤخروا إلى آخر الوقت. ثم يصلون حينئذ على خيولهم ويومئون وهم
في قتالهم مقبلين ومدبرين وإن احتاجوا إلى الكلام في ذلك لم يقطع ذلك
صلاتهم.
__________
(1) بإزاء = ساقط -و-.
(2) ما بين النجمين هو في -و-.
(3) ولكنه بني أحرم على أن يفعله -و-.
(1/1053)
ابن المواز: إذا قاتلوا في البحر صلوا صلاة
الخوف فإن لم يقدروا إلا وهم في القتال صلوا في القتال إذا خافوا فواتها.
وإن لم يقاتلوهم حتى دخلوا في الصلاة فأتاهم العدو فرماه المسلمون بالنبل
لم يقطع ذلك صلاتهم وكذلك لو انهزموا لم يقطعها ذلك.
ابن حبيب: ولا بأس أن يصلوا صلاة الخوف في البحر في سفينة أو سفن (1).
أشهب: لو بلغ بهم الخوف ما يؤدي إلى أن يصلوها (2) بطائفتين على الدواب
لجاز. ولكن نظن إن قدروا على أن تكون الطائفة كافية للأخرى. كذلك أنهم
يقدرون أن يصلوا بالأرض. وإذا خاف الراكب من العدو صلى على دابته قائمة إلى
القبلة، فان خاف إن وقف بها، فحينئذ يصلي إيماء إلى حيث توجهت. ومراد أشهب
أنه يومئ أيضًا، وإن صلى عليها مستقبل القبلة. وإذا خاف الإنسان أن يقف صلى
جالسًا وسجد بالأرض. ويصلي المسايف والمقاتل بقدر طاقته ولا يضره العمل
فيها كما لا يضره قتل العقرب. والخائف من اللصوص والسباع يؤخر إلى آخر
الوقت ثم يصلي، فإن أمن في الوقت أعاد ولا يعيد بني خوف العدو.
وقال المغيرة فيهما، وقالت الشافعية: إذا اشتد الخوف صلّوا رجالًا وركبانًا
مستقبلي القبلة، وغير مستقبليها ويومئون بالركوع والسجود، ويضربون الضربة
والضربتين والطعنة والطعنتين إذا احتاجوا فإن والَوْا بين ثلاث ضربات أو
ثلاث طعنات بطلت صلاتهم إلا أنهم يمضون فيها كي لا يخلو الوقت من الصلاة
ويعيدون. وقال بعضهم لا تبطل صلاتهم، وإن كثر العمل. وقال أبو حنيفة: لا
يصلوا في هذه الحالة ويؤخروا الصلاة. ويحتج بأنه - صلى الله عليه وسلم -
أخر الصلاة يوم الخندق ولم يصل. وأجيب عن هذا بأن أبا سعيد الخدري قال كان
ذلك قبل
__________
(1) أو سفينتين - قل.
(2) أن يصلي - قل.
(1/1054)
نزول صلاة الخوف: {فَإِنْ خِفْتُمْ
فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} (1). ومنع أبو حنيفة أيضًا صلاتهم ركبانًا
جماعة لأجل أنه يصير بينهم حائل وهو الطريق. والطريق عنده يمنع من فعل
الجماعة. وكذلك أيضًا منعت الشافعية ترك القيام في صلاة الخوف وهذا لا معنى
له إذا منع منه الخوف. وقالت الشافعية إذا صلّى ركعة راكبًا لشدة الخوف. ثم
أمن لم يتمها راكبًا. فإن ترك (2) ولم ينحرف عن القبلة بني عليها. وإن صلى
ركعة على الأرض وهو آمن ثم لحقه شدة الخوف فركب استأنف على ظاهر مذهبهم.
وقال أبو ثور يبني في حال النزول والركوب. وأجابوه عن ذلك بأن النزول عمل
قليل يعفى عنه والركوب عمل كثير فلم يُعْفَ عنه. وقال مكحول إن صلى ركعة
بهم ثم دهمهم العدو وقد بقيت على كل طائفه ركعة فليصلوا إيماء حسبما (3)
كانت وجوههم. وقال سحنون يصلون سعيًا وركضًا كيفما قدروا. وقالت الشافعية
إذا رأوا إبلًا فظنوا بها عدوًا وأخبرهم مُخبر بالعدو فصلوا صلاة شدة الخوف
ثم بان أنه لم يكن عدو لزمتهم الإعادة في أحد القولين وهو قول أبي حنيفة.
ولا يلزمهم في القول الآخر أن يعيدوا وقد قدمنا نحن ما قاله أصحابنا في
جميع هذه المسائل التي حكيناها هنا عن المخالفين.
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 239
(2) نزل - قل.
(3) حيثما - قل.
(1/1055)
|