شرح
التلقين باب صلاة الكسوف
قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: صلاة كسوف الشمس سنة مؤكدة.
وصفتها أن يدخل المسجد بغير أذان ولا إقامة فيكبّر للإحرام. ثم يقرأ سرًّا
بأم القرآن وسورة (1). ويستحب له إطالتها ما لم يضر بمن خلفه إن كان
إمامًا. ثم يركع ويطيل ركوعه كنحو (2) قراءته ثم يرفع (3) قائلًا سمع الله
لمن حمده. ثم يقرأ بأم القرآن وسورة طويلة دون ما تقدم في الطول ثم يركع
بقدر (4) قراءته ثم يرفع قائلًا سمع الله لمن حمده ثم يسجد سجدتين كسائر
الصلوات ثم يأتي في الثانية بمثل ما أتى به في الأولى ثم يتشهد ويسلم
فيذكّر ويعظ ويخوّف من غير خطبة مرتبة. ولا اجتماع لخسوف القمر ويصلي له
الناس أفذاذًا كسائر النوافل.
قال الفقيه الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل ثلاثة أسئلة: منها أن
يقال:
1 - ما الدليل على أن صفة صلاة الكسوف ما ذكر؟.
2 - ومن المخاطب بالصلاة لها؟.
3 - ولِمَ لمْ يجمّع في خسوف القمر؟.
فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: اختلف الناس في صلاة الكسوف.
فذهب مالك رضي الله عنه إلى أنها ركوعان في كل ركعة. وبه قال الشافعي.
__________
(1) الواو = ساقطة -و-
(2) كنحو من - الغاني.
(3) يرفع رأسه - الغاني.
(4) بعد -غ-.
(1/1090)
وقال الثوري والنخعي وأبو حنيفة يصلي
ركعتين كصلاة الصبح. وروي عن ابن عباس وحذيفة أنهم صلّوا في صلاة الكسوف ست
ركعات وأربع سجدات.
وروي ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد روي عن علي بن أبي طالب (1)
رضي الله عنه قال: انكسفت الشمس فقام علي وركع خمس ركعات وسجد سجدتين ثم
فعل في الركعة الثانية مثل ذلك وسلّم. ثم قال ما صلاّها أحد بعد رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - غيري (2). وروي عن العلاء بن زياد أنه قال في صلاة
الكسوف يقوم فيكبر و (3) يركع. فإذا قال سمع الله لمن حمده نظر فإن كان *لم
ينجل قرأ ثم ركع. فإذا قال سمع الله لمن حمده نظر فإن كان* (4) قد تجلى سجد
ثم شفع إليها ركعة أخرى. وإن كان لم تنجل لم يسجد أبدًا حتى تنجلي. وكان
إسحاق بن راهويه يقول بعد أن ذكر صلاة الكسوف أربع ركعات في كعتين وست
ركعات في ركعتين، وثماني ركعات في ركعتين. كل ذلك مؤتلف يصدق بعضه بعضًا،
إلا أنه إنما كان يزيد في الركوع إذا لم ير الشمس قد تجلت. فإذا تجلت (5)
الشمس سجد. فمن ها هنا صارت زيادته الركعات فلا يجاوز (6) بذلك أربع ركعات
في كل ركعة , لأنه لم يأتنا ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثر من
ذلك. ومن الناس من قال إن الأخبار في صلاة الكسوف ثابتة. فإن صلّى المصلي
في كل ركعة ركوعين أو صلّى في كل ركعة (7) أو صلى في كل ركعة أربع ركعات
(7) جاز ذلك كله. لأن الأخبار ثابتة في ذلك. ويدل على أن
__________
(1) هكذا في جميع النسخ - ابن أبي طالب. وهو خطأ.
(2) عن علي قال كسفت الشمس في عهد علي. صلّى علي بالناس فقرأ {يس} ونحوها
ثم ركع نحوًا من قدر سورة يدعو ويكبر ثم ركع قدر قراءته أيضًا ثم قال سمع
الله لمن حمده ثم قام أيضًا حتى صلى أربع ركعات ثم قال سمع الله لمن حمده
ثم سجد ثم قام إلى الركعة الثانية ففعل كفعله في الركعة الأولى ثم جلس يدعو
ويرغب حتى انجلت الشمس ثم حدثهم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذلك
فعل -رواه أحمد- مجمع الزوائد ج 2 ص 207. ووثق رواته.
(3) ثم - قل.
(4) ما بين النجمين = ساقط -و-.
(5) انجلت -و-.
(6) لا يجاوزه -و-.
(7) هكذا في جميع النسخ ولعل الصواب ثلاثة ركوعات.
(1/1091)
النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة
الكسوف مرات. وهذا الذي اختار ابن المنذر. ودليلنا ما روي أنه - صلى الله
عليه وسلم - صلى والناس معه. فقام قيامًا طويلًا نحوًا من سورة البقرة ثم
ركع ركوعًا طويلًا ثم قام قيامًا طويلًا وهو دون القيام الأول. ثم ركع
ركوعًا طويلًا وهو دون الركوع الأول ثم سجد ثم قام قيامًا طويلأوهو دون
القيام الأول. ثم ركع ركوعًا طويلًا وهو دون الركوع الأول. ثم سجد وانصرف
(1). وأجاب أصحابنا عما يتعلق به أبو حنيفة من الأحاديث التي ظاهرها أنه
صلّى ركعتين على أن المراد بها ركعتين يكرر فيهما الركوع. وهكذا أيضًا ما
رواه قبيصة من أن الشمس خسفت على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فصلّي
ركعتين وأطال فيهما فلما تجلّت الشمس وانصرف قال: إنما هذه آية يخوّف الله
بها عباده فإذا رأيتموها فصلوا كأحدث صلاة صليتموها من المكتوبة (2). وقد
يحتمل أيضًا أن يكون المراد بها أنها كأحدث صلاة في الركوع والسجود على
الجملة لا في نفي تكريرها. ونبّه على هذا لأن الصلوات في الشريعة منها ما
لا ركوع فيه ولا سجود كصلاة الجنازة. ومنها ما فيه زيادة تكبير كصلاة
العيدين. فنبّه على أن هذه الصلاة لم تخالف الصلاة المكتوبة كما خالفتها
صلاة الجنازة وصلاة العيدين. وقد أجاب أصحاب أبي حنيفة عما تعلقنا به من
الأحاديث المتضمنة لتكرير الركوع بما نفس استماعه (3) يغنيك عن نقضه
ودفاعه. وذلك أنهم قالوا لما أطال - صلى الله عليه وسلم - الركوع رفع بعض
الناس رؤوسهم ليشاهدوا ما هو عليه مخافة أن يكون حبسه عن الرفع عائق أو
يكون رفع ولم يشعروا به *فلما رأوه باقيًا على ما كان عليه عادوا للركوع
فظن من رآهم أن الركوع قصد إلى تكريره* (4). وهذا سوء ظن بالرواة.
وإضافة الوهم والغلط إليهم من غير سبب اقتضى ذلك. ولو فتح هذا الباب
__________
(1) البخاري ج 2 ص 46. ومسلم ج 2 ص 626.
(2) عن أبي قلابة عن قبيصة الهلالي قال كسفت الشمس على عهد النبي - صلى
الله عليه وسلم - فصلّى بهم ركعتين أطال فيهما القيام. قال: وانجلت فقال
النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما الآية تخويفًا يخوف الله بها عباده.
فإذا رأيتم ذلك فصلوا كأحدث صلاة صليتموها لا المكتوبة. السنن الكبرى ج 3 ص
334.
(3) بما في متابعته يغنيك - قل.
(4) ما بين النجمين = محو -و-.
(1/1092)
لبطل كثير مما نقلوه من الشرائع. وكيف يظن
عاقل هذا أبدًا ويقول ثم قام قيامًا طويلًا وهو دون القيام الأول. فإذا كان
القيام الأول بقدر سورة البقرة والثاني دونه، فكيف يكون قيام قُدّر بدون
سورة البقرة أنه قيام اختياري. هذا لا خفاء في فساده.
وأما ما ذكره القاضي أبو محمَّد من أن القراءة فيها سر (1) فهو المشهور من
مذهبنا وبه قال الشافعي. ورَوَى الترمذي عن مالك أنه يجهر فيها بالقراءة.
وذكر ابن شعبان في مختصره أن الواقدي ذكر أن مالكًا وابن أبي ذئب قال يجهر
بالقراءة في صلاة الكسوف (2). فذكر ابن شعبان أيضًا عن علي بن أبي طالب رضي
الله عنه أنه جهر بالقراءة فيها وأن عبد العزيز بن الماجشون قال سمعت أبان
بن عثمان يجهر فيها فقرأ: سأل سائل (3). وبالجهر قال أحمد وإسحاق وأبو يوسف
ومحمد. وفعله عبد (4) بن يزيد. وبحضرته البَرَاء بن عازب وزيد بن أرقم وهو
اختيار ابن المنذر. فوجه القول بالإسرار قول ابن عباس خسفت الشمس فصلّى
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكنت إلى جنبه فما سمعت له حرفًا (5).
وأيضًا فقد رُوي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: حزرت قراءة رسول الله -
صلى الله عليه وسلم -
فرأيت قراءته في الركعة الأولى بسورة البقرة، وفي الثانية بسورة آل عمران.
وأيضًا فإنها صلاة نهار (6)، وصلاة النهار عجماء كما ورد الشرع به. ووجه
القول القول بالإجهار وهو اختيار بعض أشياخي ما خرجه البخاري ومسلم (7) من
أنه - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) تسر - قل.
(2) الخسوف -و-.
(3) سورة المعارج، الآية: 1.
(4) عبد الله - قل.
(5) قال صليت خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخسوف فلم أسمع فيها
منه حرفًا. رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني في الأوسط. وفي سنده ابن لهيعة.
مجمع الزوائد ج 2 ص 207. وفي حديث بسرة بن جندب. قال فقام بنا كأطول ما قام
بنا في صلاة قط لا نسمع له صوتًا.
مجمع الزوائد ج 2 ص 206 هو من رواية محمَّد بن إسحاق بإسناده إلى عائشة.
نصب الراية ج 1 ص 233.
(6) والأصل أن صلاة النهار - قل.
(7) قل.
(1/1093)
جهر فيها بالقراءة (1). والرواية عن عائشة
رضي الله عنها اختلفت. فروي عنها ما قدمنا استدلال بعض العلماء به على أنه
يقتضي الإسرار وإن كان فيه احتمال لأن تكون بعيدة منه. فلهذا حزرت قراءته.
وروي عنها أيضًا أنه - صلى الله عليه وسلم - جهر فيها بالقراءة. وأيضًا فإن
السنن المقامة بالنهار كالعيدين والاستسقاء يجهر فيها بالقراءة. فكذلك هذه
السنّة الأخرى.
وأما ما ذكره القاضي أبو محمَّد من أن القيام يطال ما لم يلحق منه ضرر بمن
كان خلف الإِمام، فإن ظاهره نفي التحديد. ولكن قال مالك في المختصر يدخل
الإِمام المسجد بغير أذان ولا إقامة. ثم يكبّر تكبيرة واحدة ثم يقرأ سرًّا
بأم القرآن بعدها قراءة طويلة بنحو سورة البقرة. ثم يركع طويلًا نحو قراءته
ثم يركع فيقول سمع الله لمن حمده ثم يقرأ بأم القرآن ثم يقرأ قراءة طويلة
بنحو سورة آل عمران ثم يركع نحو قراءته ثم يرفع فيقول سمع الله لمن حمده ثم
يسجد سجدتين تامتين لا تطويل فيهما. ثم يقوم فيقرأ ويفعل كفعله في الأولى
(2). إلا أن القراءة دوك ما قبلها، يقرأ للأولى بنحو النساء. وبعد رفع رأسه
بنحو المائدة مع أم القرآن قبل كل سورة. ووصف الشافعي صلاة الكسوف فقال إذا
أراد أن يصلي صلاة الكسوف كبّر ودعا دعاء الافتتاح. وتعوذ وقرأ فاتحة
الكتاب وسورة البقرة إن كان يحسنها ويقرأ غيرها إن لم يحسنها (3). ثم يركع
فيسبّح الله تعالى بقدر مائة آية من سورة البقرة ثم يرفع فيقرأ (4) بفاتحة
الكتاب وبقدر مائتي آية من سورة البقرة ثم يركع بقدر ما يلي الركوع. وفي
بعض النسخ بقدر ثلثي (5) ركوعه الأول ثم يسجد سجدتين يطيل السجود فيهما ثم
يقوم إلى الركعة الثانية فيقرأ فيها بأم القرآن وبقدر مائة وخمسين آية من
سورة البقرة. ثم يركع فيسبّح (6)
__________
(1) البخاري ج 1 ص 49 ومسلم ج 2 ص 620. حديث 5 - 901.
(2) في الأول - قل.
(3) أو بقدرها من غيرها إن لم يحسنها - قل.
(4) ويقرأ - قل.
(5) بقدر ركوعه التي تلي ركوعه -و-.
(6) فيسبح الله بقدر - قل.
(1/1094)
بقدر سبعين (1) آية من سورة البقرة، وفي
القيام الثاني بسورة آل عمران. وفي القيام الأول من الثانية سورة النساء.
وفي القيام الَثاني من الثانية سورة المائدة.
ويكون ركوعه نحوًا من قيامه، وسجوده نحوًا من ركوعه إلى أن تنجلي الشمس
(2). واختلفت الأحاديث في ذلك فلم يرد في أكثرها حدّ في القيام.
وروى ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قام في الأولى بنحو سورة
البقرة ثم دون ذلك (3).
وإذا كان قد ورد الأمر بالصلاة حتى تنجلي الشمس. ومعلوم أن مكث الكسوف
يختلف فيقرب الإنجلاء مرة، ويبعد أخرى. فينبغي أن تكون الصلاة تطال وتقصر
لحسب طوله وقصره. لكن المصلي إذا لحقه ضرر من الإطالة سقط عنه ما يضره ورجع
إلى الدعاء.
واختلف في إطالة السجود فقال ابن القاسم في المدونة يطال. وقال مالك في
المختصر لا يطال. وقد خرج البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت
ما سجدت سجودًا قط كان أطول منه (4). وهذا فيه حجة لما ذهب إليه ابن
القاسم. واختلف المذهب أيضًا في افتتاح القيام الثاني من (5) كل ركعة بأم
القرآن فقال مالك يستفتح كل ركعة بأم القرآن. وقال ابن مسلمة ليس ذلك عليه.
فوجه قول مالك أن الركوع قد حال بين القراءتين فاقتضى الافتتاح بقراءة أم
القرآن كما لو حال بين القراءتين ركوع وسجود. ووجه قول *ابن مسلمة
__________
(1) خمسين -و-.
(2) في مختصر المزني ثم يكبر ويقرأ في القيام الأول بعد أم القرآن بسورة
البقرة إن كان يحفظها أو قدرها من القرآن إن كان لا يحفظها. ثم يركع ويطيل
ويجعل ركوعه قدر مائة آية من سورة البقرة. ثم يرفع فيقول سمع الله لمن حمده
ربنا ولك الحمد. ثم يقرأ بأم القرآن وقدر مائة آية من البقرة. ثم يركع بقدر
ما يلي ركوعه الأول. ثم يرفع فيسجد سجدتين. ثم يقوم في الركعة الثانية
فيقرأ بأم القرآن وقدر مائة وخمسين آية من البقرة.
ثم يركع بقدر سبعين آية من البقرة. ثم يرفع فيقرأ بأم القرآن وقدر مائة آية
من البقرة. ثم يركع بقدر خمسين آية من البقرة ثم يرفع ثم يسجد وإن جاوز هذا
أو قصّر عنه فإذا قرأ بأم القرآن أجزأه. مختصر المزني ج 1 ص 157 - 158.
(3) تقدم تخريجه.
(4) الحديث أخرجه النسائي ج 3 ص 136 - شرح السيوطي.
(5) في - قل.
(1/1095)
أن له ركوعين في كل ركعة مقدار ركعة واحدة.
وإلركعة الواحدة لا تكون فيها قراءة* (1) أم القرآن. وبهذا التقدير كان من
فاته الركوع الأول أو الركعة الأولى فأدرك الثاني ورعف في الثالث وأدرك
الرابع لا يقضي شيئًا. لأنه بمثابة من لم يفته إلا قيام الركعة.
والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: ذكر ابن حبيب أن صلاة الكسوف سنة على
الرجال والنساء ومن عقل الصلاة من الصبيان والمسافرين والعبيد.
وقال في المدونة أنه يخاطب بها المقيم والمسافر والعبد. وقال أشهب من لم
يقدر أن يصليها مع الإِمام من النساء والضعفاء فلهم أن يصلوها أفذاذًا أو
بإمام، ومع الناس أحب إلى لمن قدر. ولمالك في العتبية إذا صلاها أهل
البادية فلا بأس أن يؤمهم أحد منهم (2)، وفي المختصر ويصليها أهل البدو
والحضر ومن في السفر يصلي بهم رجل منهم. ويصليها الرجل وحده. ومن فاتته مع
الإِمام فليس عليه أن يصليها. فإن فعل ما دامت الشمس منكسفة فلا بأس. وقال
في مختصر ابن شعبان إذا كانت قرية فيها خمسون رجلًا ومسجد يجمّعون فيه
الصلوات فلا بأس أن يجمعوا صلاة الخسوف. وتصلي المرأة صلاة الخسوف (3) في
بيتها. ومن أعجله السير في السفر فليس عليه صلاة الكسوف (4). فهذا الذي
حكاه ابن شعبان من اعتبار خمسين رجلًا يقتضي أنها كصلاة الجمعة فيمن تجب
عليه. هكذا قال بعض أشياخي والذي حكاه ابن شعبان من صلاة المرأة في بيتها
واشتراطه عجلة المسافر في سقوط صلاة الكسوف (4) قد يشير إلى خلاف هذا
التأويل. وقد قال أبو محمَّد عبد الحق في قوله في الكتاب تصلي المرأة في
بيتها صلاة الكسوف. ولم يقل ذلك في العيدين إلا أن تشاء أن ذلك لعموم قوله:
فافزعوا إلى الصلاة (5). ولأنها صلاة رهبة فأمر بها كل مكلف. وصلاة العيد
صلاة شكر ومباهاة فطريقهما مختلفة. فاختلف الحكم فيهما بين الرجال
__________
(1) ما بين النجمين هو -و- هكذا في قل.
(2) أحدهم - قل.
(3) وتصليها المرأة في بيتها - قل.
(4) هكذا في جميع النسخ.
(5) أخرجه البخاري ومسلم - اللؤلؤ والمرجان ج 1 ص 176 حديث 521.
(1/1096)
والنساء. وذهب الثوري ومحمد إلى أنه لا
يجوز فعل صلاة الكسوف منفردًا قياسًا على الجمعة.
وصلاة الكسوف إذا لم تصل في حينه فلا تصلّى بعو انجلائه.
وإذا صلوها ففرغوا والشمس على حالها فليس عليهم أن يصلوا ثانية.
ولكن الدعاء والنافلة إن أحب. قاله في مختصر ابن شعبان.
ولو تجلت الشمس قبل فراغهم من الصلاة. فقال ابن حارث اتفقوا أن الشمس إذا
تجلّت بعد أن صلى الإِمام ركعتين وسجدتين أنه لا يقطع الصلاة.
واختلفوا كيف يصلي ما بقي. فقال أصبغ في المستخرجة يصلي على سنتها حتى يفرغ
منها ولا ينصرف إلا على شفع. وروي عن سحنون أنه يصلي ركعة وسجدتين ثم ينصرف
ولا يصلي باقي الصلاة على سنة صلاة الخسوف.
واختلفوا في الوقت الذي تصلّى فيه. فقال في المدونة تصلي ما لم تزل الشمس
ورآها كالعيدين في اعتبار هذا الوقت. وروى عنه ابن وهب أنها تُصلى في كل
وقت صلاة وإن زالت الشمس. وفي كتاب ابن حبيب، ووقتها من حين تخسف الشمس إلى
أن تحرم الصلاة بعد العصر. قاله مطرف وابن الماجشون وابن عبد الحكم وأصبغ.
ولم يروا قول ابن القاسم إلى الزوال. ولا تصلّى في طلوع الشمس قبل أن تبرز
وتحل الصلاة. ولكن يدعون ويذكرون الله، فإن تمادت صلوها. فوجه التوقيت بما
قبل الزوال القياس على العيدين. ووجه رواية ابن وهب تجوله: فإذا رأيتم ذلك
فافزعوا إلى الصلاة (1). فعم الأوقات التي هي وقت الصلاة. ووجه قول مطرف
أنها صلاة معلقة بسبب، فوجب أن تُصلى عند وجود (2) سببها ما لم يمنع من ذلك
مانع. ويخصص عموم الحديث مخصص. وورُود النهي عن الصلاة في الوقت الذي أشار
إليه مانع من صلاة الكسوف. ومخصص لعموم حديثها.
قال أبو محمَّد عبد الحق وإذا اجتمع خسوف واستسقاء وعيد وجمعة في
__________
(1) تقدم تخريجه.
(2) وجوب -و-.
(1/1097)
يوم واحد، فيبدأ بالخسوف لئلا تنجلي الشمس
ثم بالعيد ثم بالجمعة. ويترك الاستسقاء ليوم آخر, لأن العيد يوم تجمّل
ومباهاة. والاستسقاء ليس يوم تجمّل. وإنما هو رهبة وسكون فيؤخره. فلو فعل
ذلك ما كان ضيقًا (1) في ذلك اليوم. هكذا صور هذا السؤال الشيخ أبو محمَّد
عبد الحق ولم أزل أعجب من إغفاله فيه إذ لا يكون كسوف يوم عيد ولا يتفق
ذلك. وإنما يكون كسوف الشمس في آخر الشهر وعند انسلاخه. فأما أصحاب علم
الهيئة الذين لا يؤمنون بالشرائع فإنهم يحملون كون الكسوف في حين انسلاخ
المشهور اجتماع الشمس والقمر. لأن علة كسوف الشمس عندهم ستر القمر لها عند
اجتماعه معها. ولا يكون ذلك إلا في السرار. والعيد لا يكون إلا في أول يوم
بعد الاستهلال أو في عشر بعده. فلا يجتمع العيد والكسوف. وأما نحن فنُجوّز
أن يكسف الله سبحانه بالشمس في أي يوم شاء من أيام الشهر. ومن أنكر اقتدار
الباري سبحانه على ذلك خرج عن الملة. ولكن العادة جرت بأن الكسوف لا يكون
إلا عند السرار عادة مطردة لم نشاهد خلافها ولا نقل عن عصر من الأعصار خلاف
هذا. وإن الكسوف (2) بهذا، فلا معنى لتصوير خوارق العادة. ولقد وقع الشافعي
على عظيم شأنه في هذا التصوير. ورأيته قد صور اجتماع العيد والكسوف وتكلم
على ذلك. وذكرنا ما تقدم منه. وهذا لا معنى له إلا أن يراد به معرفة فقه
المسئلة لو خرقت العادة. فوقعت المسئلة.
وأما الموضع الذي يصلي فيه فقال مالك في المختصر إذا خسفت الشمس خرج
الإِمام إلى المسجد وخرج معه الناس فيدخل المسجد بغير أذان ولا إقامة ثم
يكبر تكبيرة واحدة ويقرأ. وفي كتاب ابن حبيب للإمام أن يصلي في المسجد تحت
سقفه أو في صحنه وإن شاء خارجًا في البَراز وقاله أصبغ. وهذا الذي حكاه ابن
حبيب عن أصبغ حكى عنه ابن مزين خلافه فقال قال أصبغ: وتصلّى صلاة كسوف
الشمس في المسجد ولا يبرز لها كما يبرز للعيدين والاستسقاء.
__________
(1) ما كان طائعًا -قل-.
(2) نبه الناسخ على أن النسخة بها نقص. وقد أتممنا النقص من -قل- إلى قوله
ويأمرهم بالتقرب.
(1/1098)
فوجه الاقتصار على المسجد أن النبي - صلى
الله عليه وسلم - صلى فيه. وأيضًا فربما كان في خروجهم إلى البَراز ذهاب
الكسوف أو ذهاب كله (1). ووجه إباحة صلاتها في البَراز قياسًا على غيرها من
السنن التي يجمع لها. قال فالشأن إقامتها خارجًا في البَراز. وقد قدمنا قول
مالك في المختصرًا ن الإِمام إذا فرغ من صلاة الكسوف يستقبل الناس فيذكرهم
ويخوّفهم، ويأمرهم إذا رأوا ذلك أن يدعوا الله ويكبّروا وينصرفوا.
وظاهر مذهبنا أنه لا خطبة بعد الكسوف. وبه قال الشافعي. وقال الشافعي بل
يخطب ويحتج بحديث عائشة وفيه فلما تجلت الشمس انصرف فخطب الناس وحمد الله
وأثنى عليه. وقال يا أيها الناس إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله.
الحديث (2). ويحتج أصحابنا بأنه لو كان خطب لنقل كما نقلت خطبة العيد
وغيرها.
والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: أما كسوف القمر فقال مالك في المدونة
تصلى ركعتين كالنافلة ويدعون ولا يجمعون. وقال عنه علي يفزع الناس في خسوف
القمر إلى الجامع فيصلون أفذاذًا ويكبّرون ويدعون. قال أشهب يفزع إلى
الصلاة كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - والنافلة ركعتان. ومن أصل
كتاب عبد العزيز بن أبي سلمة ذكر صلاة خسوف الشمس وأن النبي - صلى الله
عليه وسلم - جمّعهم فيها ولم يبلغنا أنه جمعهم لخسوف القمر. قال فنحن إذا
كنا فرادى في خسوف القمر صلّينا هذه الصلاة لقول النبي - صلى الله عليه
وسلم -: فافزعوا إلى الصلاة (3). وذهب الشافعي إلى أن الصلاة تسن في خسوف
القمر كما تسن في كسوف الشمس.
ودليلنا ما ذكر ابن حبيب عن ابن عباس أنه قال: خسف القمر بعهد النبي عليه
السلام فلم يجمعنا إلى الصلاة معه كما فعل في خسوف الشمس فرأيته صلى ركعتين
فأطالهما وما رأيته صلى نافلة بطولها ثم انصرف. ولأنها آية ليليّة
__________
(1) هكذا = ذهاب الكسوف أو ذهاب كله. ولعلها جله.
(2) أخرجه البخاري ج 2 ص 44. وص 49 بلفظ خطب. ومسلم ج 2 ص 10 حديث 8901.
(3) تقدم تخريجه.
(1/1099)
قد تدرك الناس نيامًا فيشق اغتفارها (1)
والخروج لها فلم تسنّ كما سُنّ كسوف الشمس. واحتجت الشافعية بما روى الحسن
البصري قال: خسف القمر وابن عباس بالبصرة على عهد النبي - صلى الله عليه
وسلم - فصلّي بنا ركعتين في كل ركعة ركعتين. فلما فرغ ذلك وخطبنا وقال إنما
صليت لأني رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي. وأما الموضع الذي تصلّى
فيه فطاهر المذهب أن الناس يصلونها في بيوتهم ولا يكلّفون الخروج ليلًا
لمشقة ذلك عليهم. وقد قدمنا ما رواه على أن الناس يفزعون إلى الجامع فيصلون
أفذاذًا.
وأما الجمع لها فقال مالك في المدونة والمجموعة لا يجمّعون. وأجاز أشهب
الجمع. وأما الصلاة في غير كسوف النيّرين كالزلازل والظلمة والريح الشديدة
وما في معنى ذلك مما يخاف أن يكون عقوبة من الله سبحانه. فقال أشهب في
المجموعة الصلاة حسنة في الريح والظلمة فرادى أو جماعة إذا لم يجمعهم
الإِمام ويحملهم عليه. ولكن يجتمع النفر يؤمهم أحدهم ويدعون ويؤمر في مثل
هذه الإفزاع بالصلاة. وروي نحو ذلك عن النبي عليه السلام. وكره في المدونة
السجود عند الزلازل وسجود الشكر. وروي عنه إجازة السجود عند النعمة والشكر.
قال بعض أشياخي يتخرج على هذا جواز السجود عند الخوف من زلازل وغيرها يسجد
هذا شكرًا وهذا خوفًا. وأما الصلاة حينئذ فتجوز قولًا واحدًا.
وقالت الشافعية لا تُسنّ الصلاة لغير الشكر والآيات بل يكبّرون ويدعون فان
صلوا منفردين لكي لا يكونوا غافلين لم يكن به بأس.
وذهبت طائفة إلى أنه يصلي عند الزلازل وغيرها من الآيات كما تصلّى عند كسوف
الشمس والقمر. وروي ذلك عن أحمد وإسحاق وأبي ثور.
وقال أبو حنيفة الصلاة في ذلك حسنة وكذلك في الريح والظلمة الشديدة.
فالدليل على أن الصلاة لا تسن حينئذ أنه لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه
وسلم - أنه صلّى لشيء من ذلك ولم يَخلُ عصره - صلى الله عليه وسلم - من أن
يكون فيه شيء من ذلك.
__________
(1) هكذا. ولعل الصواب حضورها.
(1/1100)
|