شرح التلقين

باب صلاة الاستسقاء
قال القاضي أبو محمَّد رضي الله عنه: وصلاة الاستسقاء سنة. تفعل عند تأخر (1) المطر والحاجة إليه. ومن سننها (2) المصلى والخطبة ويخرج الإِمام والناس معه متخشعين متواضعين غير مظهري زينة. وتقدّم على الخطبة ولا يؤذن لها ولا يقام. وهي ركعتان كسائر الصلوات ويكبّر فيها التكبير المعهود ويجهر (3) بالقراعة بسبح ونحوه فإذا فرغ صعد المنبر متوكئًا على قوس أو عصا فيجلس فإذا أخذ الناس مجالسهم قام فخطب وأكثر من الاستغفار ثم يجلس ثم يقوم فيخطب الثانية. فإذا فرغ استقبل القبلة وحوّل رداءه فجعل ما على يمينه على شماله وما على شماله على يمينه. ولا ينكسه ثم يدعو الله تعالى بما تيسر له وهو قائم والناس جلوس. وإن احتيج إلى تكرار الخروج لصلاة الاستسقاء لِتأخّر المطر، جاز. وفعل في كل مرة مثل ما ذكرناه. وليس من سننها (4) تقديم صوم أو صدقة على فعلها. ولا يمنع من تطوّع به.

قال الفقيه الأمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل ثلاثة أسئلة: منها أن يقال:
1 - ما الدليل على أن الاستسقاء مشروع؟.
2 - وما الذي يفعل فيه؟.
3 - ومن يخرج إليها؟.
__________
(1) تأخير -غ-.
(2) من سنتها -غ-.
(3) ويجهر فيها -غ-.
(4) سنتها -غ-.

(1/1101)


فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: قد كان الاستسقاء في شرع من كان قبلنا. قال الله تعالى: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ} (1). الآية. وأما شرعنا بالاستسقاء أيضًا (2). قال أنس جاء رجل والشعبي - صلى الله عليه وسلم - قائم يخطب يوم الجحعة فقال: يا رسول الله قحط المطر وهلكت المواشي وانقطعت السبل فادع الله يغيثنا. قال فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يديه فقال: اللهم اسقنا اللهم اللهم اسقنا. قال أنس لا والله ما نرى في السماء من سحاب ولا قزعة ولا شيئًا. وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار. قال فطلعت من ورائه سحابة. مثل الترس. فلما توسطت السماء انتشرف ثم أمطرت. قال: والله ما رأينا الشمس ستًا. ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم يخطب فاستقبله قائمًا. فقال يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل فادع الله يمسكها.
قال: فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يديه ثم قال: اللهم حوالينا ولا علينا اللهم على الآكام والجبال والأجام والضراب والأودية ومنابت الشجر. قال فانقطعت وخرجنا نمشي في الشمس (3). وروى عباد بن تميم خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستسقي فتوجه إلى القبلة قائمًا يدعو وقلب رداءه ثم صلى ركعتين جهر فيهما بالقراءة وانصرف. وقد خرّج هذين الحديثين الموطأ والصحيحان. وإذا ثبت أن الاستسقاء مشروع فإنه مشروع عند الحاجة إليه. والحاجة إليه تكون عند المَحْل والجدب. فيستسقي بحياة الزرع وغيره. وأما (4) عند الحاجة لشرب الحيوان الإنساني أو البهائم كما يحتاج إلى ذلك من كان في صحراء أو سفينة أو أهل بلد آخر أو زرعهم ولكنهم عطاش. وفي العتبية أن برقة إذا كثر مطرهم زرعوا واديهم بما يشربون فأتاهم مطر فزرعوا عليه زرعًا كثيرًا ولم يقبل واديهم بما يشربون أيستسقون؟ قال نعم. قيل له قد قيل إنما الاستسقاء إذا لم يكن مطر
__________
(1) سورة البقرة، الآية: 60.
(2) هكذا. ولعله فالاستسقاء بالفاء.
(3) النص منقول عن صحيح البخاري ص 34/ 35 ج 2 والنص الموجود في قل فيه كثير من
النقص والتحريف.
(4) هكذا ولعل الصواب وكذا.

(1/1102)


وأنتم قد مطرتم وزرعتم عليه زرعًا كثيرًا. فقال ما قالوا شيئًا ولا بأس بذلك (1). وإذا جاء من الماء ما هو دون الكفاية لكان لهم الاستسقاء. والسؤال في الزيادة. قال مالك وكل قوم احتاجوا إلى زيادة ما عندهم فلا بأس أن يستسقوا. وقد ألحق بعض أهل العلم بهذا استسقاء المخصبين للمجدبين. لأنه سبحانه قال: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (2). وقال عليه السلام في حديث الرقية: من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل (3). وقال دعوة المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة (4). وقد روى بعض أشياخي أن هذا مما يندب إليه. وأن الاستسقاء للتوسعة مباح ولحياة الزرع أو عطش الحيوان سنة. وفي استسقاء المخصبين للمجدبين عندي نظر. والظواهر التي ذكروها لا تتضمن إقامة صلاة الاستسقاء ليسقى قوم آخرون غير المصلين. وإنما تحمل الظواهر على الدعاء لهم والرغبة إلى الله سبحانه في رفع اللأواء عن سائر المسلمين. ولا شك أن دعاء المخصبين للمجدبين مندوب إليه. وأما إقامة سنّة صلاة الاستسقاء في مثل هذا فلم يقم عليه دليل. وليس كل ما أمر الشرع بالدعاء فيه والابتهال سن فيه الصلاة. ألا ترى أن المطر إذا أضر، دعا الناس بالاستصحاء وسألوا الله تعالى فيه ولم يقيموا له صلاة كما أقاموها للاستسقاء. ولم يستعمل في هذا القياس.
وإن كان المطر إذا أفرط أضرّ كما يضرّ القحط وأفسد الزرع والربيع. وقد تقدم في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استسقى ولم ينقل أنه صلى لذلك. فإذا ثبت ما قلناه في الاستسقاء وسنته فإنه يفعل لري نهر تأخر كما يفعل بنزول الغيث. قال ابن حبيب ولا بأس أن يستسقي أيامًا متوالية ولا بأس أن يستسقى في إبطاء النيل.
قال أصبغ قد فعل ذلك عندنا بمصر خمسة وعشرين يومًا متوالية يستسقون على سنة الاستسقاء. وحضر ذلك ابن القاسم وابن وهب ورجال صالحون فلم ينكروه. وقد يحتج لجواز التكرير بقوله - صلى الله عليه وسلم -: يستجاب لأحدكم ما لم يعجّل.
__________
(1) البيان والتحصيل. كتاب الصلاة الثالث ج 1 ص 433.
(2) سورة المائدة، الآية: 2
(3) إكمال الإكمال ج 6 ص 15.
(4) مسلم. كتاب الذكر. إكمال الإكمال ج 7 ص 147.

(1/1103)


الحديث (1). وخرّج فيه مسلم قيل يا رسول الله: ما الاستعجال؟ قال: يقول قد دعوت وقد دعوت فلم يستجب لي فيتحسر عند ذلك (2).

والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: ينبغي للإمام أن يأمر الناس قبل الاستسقاء بالتوبة والخروج من المظالم إلى أهلها مخافة أن تكون معاصيهم سبب منع الغيث. قال الله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} (3). وأيضًا فقد تمنع المظالم من إجابة الدعاء. وقد خرّج مسلم قوله - صلى الله عليه وسلم - في الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمدّ يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام. فأنّى يستجاب لذلك (4) ويأمرهم بالتقرب بالصدقات لعلهم إن أطعموا فقراءهم أطعمهم والجميع فقراء الله.
واختلف في الصوم فقال مالك في المختصر ليس على الناس صيام قبل الاستسقاء فمن تطوع بخير فهو خير له. وحكى عنه ابن شعبان في مختصره ما سمعت أنه يُصام قبل الاستسقاء وأنكر فعل ذلك. وقد قال بالمذكور في مختصر عبد الله *واستحب ابن حبيب أن يقدموا صوم ثلاثة أيام آخرها اليوم الذي يستسقون فيه، (5). ويمكن أن يكون رأى ذلك رجاء أن يكون التجوع لله سبحانه سببًا للخصب الذي به يشبعون. وقال ابن الماجشون يؤمرون بما يرقهم (6) ويدخل عليهم سبب خشوع وأن يصوموا اليوم واليومين والثلاثة. وهذا قول مالك والمغيرة. ومن حضرناه استسقى من وُلاتنا. قال ابن حبيب وليأمرهم الإِمام أن يصبحوا صيامًا. وقد فعله عمر. وأمرهم بالصدقة. وصيام ثلاثة أيام كان أحب إليّ (7). وقد فعله موسى بن نصير بإفريقية وخرج بالناس، فجعل
__________
(1) رواه مسلم. إكمال الاكمال ج 7 ص 147.
(2) رواه مسلم. إكمال الأكمال ج 7 ص 148.
(3) سورة الشورى، الآية: 30.
(4) إلى هنا تم النقص الذي نبه عليه في نسخه -و- والحديث أخرجه مسلم. إكمال الإكمال ج 3 ص 151.
(5) ما بين النجمين = ساقط -و-.
(6) يذلهم - قل.
(7) وقد فعله عمر. ولو أمرهم بالصلاة وصيام ثلاثة أيام كان أحب إلى - قل.

(1/1104)


الصبيان على حدة والنساء على حدة. والإبل والبقر على حدة، وأهل الذمة على حدة، (1) وصلّى وخطب ولم يدع في خطبته لأمير المؤمنين. فقيل له، فقال ليس هذا يوم ذلك، ودعا، ودعا الناس إلى نصف النهار. واستحسن ذلك بعض علماء المدينة. وقال (2) أراد استجلاب رقة القلوب بما فعل.
وقال ابن حبيب ومن سنتها أن يخرج الناس مُشاة في بذلتهم ولا يلبسون ثياب الجمعة، بسكينة ووقار متواضعين (3) متخشعين متورعين (4)، وجلين إلى مصلاهم. فإذا ارتفعت الشمس خرج الإِمام ماشيًا متواضعًا في بذلته متوكئًا على عصا أو غير متوكىء حتى يأتي المصلّى.
وقال مالك في المختصر صلاة الاستسقاء سنة. فإذا خرج الإِمام إليها خرج من منزله ماشيًا متواضعًا، غير مظهر لعجز (5) ولا زينة، راجيًا لما عند الله لا يكبّر في ممشاه. وقال ابن عباس خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الاستسقاء متذللًا متواضعًا حتى أتى. فلم يخطب خطبتكم هذه ولكن لم يزل في البكاء والتضرع وصلّى ركعتين كما يصلي في العيد (6). قال الترمذي وهذا حديث صحيح ذكره في مسنده. ومقتضى الحال يقتضي أن يكون خروج الناس على صفة التذلل والخشوع لأن العبد الجاني إذا رأى مخائل العقوبة المهلكة من سيده (7) لم يأت راغبًا في رفع العقوبة والصفح إلا وأمارات الذل بادية عليه، والخوف آخذ بناصيته.
وإذا أتى الإِمام المصلّى. قال مالك في المختصر يتقدم بالناس بلا أذان ولا إقامة فيكبّر تكبيرة واحدة ثم يقرأ بأم القرآن وسورة جهرًا ثم يركع ويسجد ثم
__________
(1) وأهل الذمة = ساقط - قل.
(2) وقد - قل.
(3) متواضعين = ساقطة -و-.
(4) لم يتضح لي الخروج في حالة تورع.
(5) هكذا.
(6) العارضة ج 3 ص 31. ونصب الراية ج 2 ص 238.
(7) من مولاه - قل.

(1/1105)


يصلي ركعة أخرى كذلك ويتشهد ويسلّم. ويستقبل الناس للخطبة يبدأ فيجلس فإذا اطمأن الناس قام متوكئًا على عصا أو قوس. وذكر ابن حبيب أن الشمس إذا ارتفعت خرج الإِمام إلى المصلى فصلّي ركعتين يقرأ فيهما بأم القرآن وقصار المفصّل جهرًا، ثم يقوم فيجلس في مقام خطبته مستقبلًا للناس جلسة خفيفة ثم يقوم متوكئًا على عصا فيخطب خطبتين يجلس بينهما فيأمر بطاعة الله سبحانه ويحذّر عن المعصية (1) من بأسه ونقمته، ويحض على الصدقة، والاجتهاد في الدعاء أن يرفع عنهم المحل. حتى إذا لم يبق من الخطبة الأخيرة غير الدعاء والاستغفار استقبل القبلة ثم حوّل رداءه قائمًا ما على الأيمن على الأيسر، وما على الأيسر على الأيمن. ويحوّل الناس أرديتهم جلوسًا ثم يرفع يديه ظهورهما إلى السماء تلقاء وجهه ويدعو (2) ويفعل الناس مثله جلوسًا ويبتهلون بالدعاء.
وأكثر ذلك الاستغفار حتى يطول ذلك ويرتفع النهار. ثم إن شاء الإِمام انصرف على ذلك وإن شاء تحوّل إليهم فيكلمهم بكلمات ويركبهم في الدعاء والصدقة والتقرّب إلى الله سبحانه. وهذا الذي استحب أصبغ.
وذهب أبو حنيفة إلى أن الاستسقاء دعاء بلا صلاة. واحتج بحديث أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا على المنبر ولم يصل (3). وأن عمر بن الخطاب استسقى (4) عام الرمادة ولم يصل. وأجيب عن هذا بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مشتغلًا بالجمعة ودعا حينئذ على المنبر مستسقيًا من الله سبحانه ولم يقصد إقامة سنّة صلاة الاستسقاء ولم تمكن إقامتها حينئذ. وكذلك عمر رضي الله عنه لم يقصد إلى إقامة الاستسقاء بكماله وفعل جميع ما شرع فيه.
وذهب الشافعي إلى مثل (5) ما ذهبنا إليه من أن الصلاة مشروعة في الاستسقاء. لكنه يراها في التكبير كصلاة العيد. ويحتج بما قدمناه من الحديث
__________
(1) معصيته -و-.
(2) ويدعو = ساقطة -و-.
(3) اعتمادًا على حديث البخاري - انظر 992.
(4) دعا عام الرمادة بالعباس ولم يصل -قل-.
(5) إلى أن -و-.

(1/1106)


الذي رواه الترمذي. فقد ذكر فيه أنه صلى ركعتين كما يصلي في العيد. وبما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانوا يصلون صلاة الاستسقاء يكبّرون فيها سبعًا وخمسًا (1).
ويحتج مالك بما روى أبو هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى الاستسقاء فصلّى ركعتين (2). وظاهر هذا أن الركعتين كالمعهود من النوافل التي لا يكون التكبير فيها.
واختلف المذهب في الخطبة والصلاة أيهما يقدم. فقال في المدونة بتقديم (3) الصلاة على الخطبة. وقال أشهب في مدونته اختلف الناس في ذلك واختلف فيه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. واختلف فيه قول مالك فكان قوله الأول أن الخطبة قبلُ، كالجمعة ثم رجع إلى أنها بعدُ كالعيدين. وبأنها بعد قال الشافعي *وحكى عن ابن الزبير أنه خطب وصلى، وفي الناس البراء ابن عازب وزيد ابن أرقم. وحكي عن عمر بن عبد العزيز مثل ذلك. وإليه ذهب الليث بن سعد.
وروي ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وما قدمناه (4) من حديث الترمذي وقوله صلى ركعتين كما يصلى في العيدين. وهذا قد يقتضي ظاهره (5) تأخير الخطبة عن الصلاة كما يفعل في العيد. وروى أبو هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى المصلى يستسقي فصلّى ركعتين وخطب (6). والذي خرّج أصحاب الصحيح أنه - صلى الله عليه وسلم - قدّم الاستسقاء ثم صلى. وكان من اختار تَقْدمة الصلاة يرى أن ذلك أنجح وأقرب إلى استجابة الدعاء وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد حاجة توضأ وصلّى ثم
__________
(1) رواه الشافعي. إرواء الغليل ح 660 ج 3 ص 125. حديث ضعيف. رواه الحاكم والدارقطني والبيهقي. وضعّف الزيعلي هذا الحديث. انظرَ نصب الراية ج 2 ص 240.
(2) تمامه: بلا أذان ولا إقامة ثم خطبنا ودعا الله عَزَّ وَجَلَّ وحوّل وجهه نحو القبلة رافعًا يديه ثم قلب رداءه فجعل الأيمن على الأيسر والأيسر على الأيمن. رواه أحمد وابن ماجة والبيهقي. نيل الأوطار ج 4 ص 28 وبلوغ الأماني ج 6 ص 233.
(3) بتقدمة - قل.
(4) قدمنا -و-.
(5) ظاهره = ساقطة -و-.
(6) تقدم تخريجه أعلاه.

(1/1107)


سأل (1). وقال - صلى الله عليه وسلم - في الدعاء عند الاستخارة: إذا أهم أحدكم الأمر فليركع ركعتين ثم يقول: أللهم إني أستخيرك. الحديث (2).
وإذا ثبت أن الخطبة مشروعة على الجملة فإن المشروع خطبتان يجلس بينهما. قال مالك إذا فرغ من خطبته الأولى جلس ثم قام فخطب. وهذا هو المشروع من مذهب العلماء القائلين بأن الخطبة مشروعة. وقال عبد الرحمن بن مهدي يخطب خطبة خفيفة يعظهم ويحثهم على الخير. وما قدمناه من قوله في كتاب الترمذي أنه صلى ركعتين كما يصلي في العيد *قد يشير* (3) ظاهر إطلاقه إلى أنه يخطب خطبتين كما يخطب في العيد على حسب ما قلناه (4) مع أن القياس على خطبة الجمعة والعيد يقتضي ما ذهبنا إليه أيضًا. ويخطب مستقبل الناس مستدبر القبلة ثم يحوّل وجهه ليستسقي مستقبل القبلة مستدبر الناس. والخطبة مقدمة على الاستسقاء يعظهم فيها ويذكرهم ويعلّمهم أن ذلك بذنوبهم ويكثر من الاستغفار إذا أخذ في الدعاء للاستسقاء. وتحويل الرداء عندنا في الاستسقاء مشروع. قال مالك إذا فرغ من خطبته استقبل القبلة فحوّل رداءه ما على ظهره منه يلي السماء. وما كان للسماء يجعله على ظهره ثم يستسقي الله ويدعو. وقال أبو حنيفة لا يحول رداءه ولا ينكسه. ودليلنا أنه - صلى الله عليه وسلم - استسقى وَدَعا واستقبل
__________
(1) رواه المؤلف بالمعنى. وروى الحاكم عن عبد الله ابن أبي أوفى. قال خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا فقعد فقال: من كانت له حاجة إلى الله أو إلى أحد من بني آدم فليتوضأ وليحسن وضوعه ثم ليصل ركعتين ثم يثني على الله ويصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - وليقل: لا إله إلا الله الحليم الكريم. سبحان الله رب العرش العظيم الحمد لله رب العالمين. أسألك عزائم مغفرتك والعصمة من كل ذنب والسلامة من كل إثم. وفي سنده فائد بن عبد الرحمن قال الحاكم مستقيم الحديث. وعلق عليه الذهبي في التلخيص.
انظر المسندرك ج 1 ص 320. وأخرجه الإِمام الترمذي في الدعاء بلفظ قريب من هذا.
وأكد ضعفه ابن العربي. انظر العارضة ج 2 ص 262. وانظر مجمع الزوائد ج 1 ص 278.
(2) رواه البخاري في التهجد والدعوات والترمذي وابن ماجة وأحمد. فتح الباري ج 3 ص 294.
(3) ما بين النجمين ممحو - و.
(4) ما قدمنا - قل.

(1/1108)


القبلة وحول رداءه (1). واحتج أبو حنيفة بأنه دعاء فلا يستخب فيه تحويل الرداء كسائر الأدعية. وهذا القياس لو سلمناه ولم نطالب فيه بشروط القياس لم يلزم العمل بموجبه. وترك الاقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لأجله. وقد ذكر أصحاب المعاني أنه - صلى الله عليه وسلم - إنما فعل ذلك تفاؤلًا فحوّل رداءه ليتفاءل بانقلاب الجدب خصبًا. وإذا ثبت أن التحويل مشروع فصفته عندنا ما قال (2) مالك: يحول رداءه ما على الأيمن على الأيسر وما على الأيسر على الأيمن، ولا يقلبه فيجعل الأعلى للأسفل والأسفل للأعلى. وقد ذكرنا قوله في المختصر يجعل ما على ظهره منه يلي السماء *وما كان يلي السماء* (3) يجعله على ظهره. وقال ابن الماجشون يحوّل رداءه من ورائه يأخذ ما على عاتقه الأيسر ويمر به من ورائه فيضعه على منكبه الأيمن، ويجعل ما على عاتقه الأيمن على الأيسر. ويبدأ بيمينه في العمل. وقالت الشافعية التحويل أن يجعل ما على عاتقه الأيمن على الأيسر وما على الأيسر على الأيمن. والتنكيس أن يجعل أعلاه أسفله، وأسفله أعلاه. وقال في القديم يحول رداءه ولا ينكسه. وقال في الجديد يحوله وينكسه إن أمكنه.
وروى الشافعي بإسناده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان عليه خميصة سوداء فأراد أن يجعل أسفلها أعلاها، فلما ثقلت عليه جعل ما على عاتقه الأيسر على عاتقه الأيمن، وما على عاتقه الأيمن على عاتقه الأيسر (4). قال الشافعي فأحب أن يفعل ما فعل (5) النبي - صلى الله عليه وسلم - وما أراد أن يفعله ولم يمكنه. قالوا: ووجه قوله في القديم وبه قال مالك وأحمد ما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - استقبل القبلة وحوّل رداؤه (6). وإذا ثبت أن التحويل مشروع على الجملة فهل يخاطب به من خلف الإِمام أم لا؟ أما النساء فلا يحوّلن لئلا ينكشفن. وأما الرجال فقال مالك في المدونة يحوّل الناس
__________
(1) تقدم تخريجه قريبًا. فيما رواه أحمد وابن ماجة والبيهقي. نيل الأوطار ج 4 ص 28.
(2) ما قاله - قل.
(3) ما بين النجمين = ساقط -و-.
(4) الشافعي في الأم ج 1ص 222.
(5) مافعله - قل.
(6) مالك في الموطأ. كتاب الاستسقاء ح 1. والبخاري فتح الباري ج 3 ص 151.

(1/1109)


أرديتهم وهم قعود. وقال الليث لا يحول المأموم. وقيل (1) قال عروة بن الزبير وسعيد بن المسيب وأبو يوسف يستحب ذلك للإمام دون المأمومين. فوجه تحويل المأمومين الاقتداء بالإمام. وقد حوّل النبي - صلى الله عليه وسلم -. وما شرع له فالظاهر أنه شرع لغيره إلا ما خصه الدليل. ووجه نفي (2) تحويل المأمومين أن الأحاديث إنما ردت بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حوّل وحده. واختلف في الوقت الذي يحوّل فيه الرداء.
فقال في المدونة إذا فرغ من الخطبة واستقبل الاستسقاء. وقال في المجموعة بين الخطبتين. وقال ابن الماجشون بعد صدر من الخطبة. وقد ذكرنا قول مالك أنه إذا فرغ من الخطبة استقبل القبلة فحوّل رداءه ثم يستسقي الله ويدعو.
قال القاضي أبو محمَّد في غير كتابه هذا: اختلف أصحابنا متى يحوّل الإِمام وجهه إلى القبلة فيدعو. فقال مالك إذا فرغ من خطبتيه جميعًا. وقال أصبغ إذا أشرف على الفراغ من خطبته الثانية استقبل القبلة للدعاء، فإذا فرغ أقبل على الناس بوجهه فأتم الخطبة ثم نزل. فوجه قول مالك أن من المكروه قطع الخطبة لغيرها والتشاغل بما سواها. ووجه قول أصبغ أن المسنون في الاستسقاء خطبتان لا زيادة عليهما. فإذا أتى بالدعاء بعد الفراغ منهما كان ذلك زيادة مستأنفة. فكان الأولى أن يؤتى بها في أثناء الخطبة. واختلف هل يخطب ويستسقي على المنبر؟ فمنع ذلك في المدونة لأنه يوم تظهر فيه الاستكانة والخضوع. والخطبة على الأرض أقرب إلى ذلك، وأجاز ذلك في المجموعة. فإذا فرغ من الاستسقاء فقال مالك في المختصر ينزل وينصرف. وقال ابن حبيب إذا حوّل رداءه يرفع يديه ظهورهما إلى السماء ويفعل الناس مثله وهم جلوس ويبتهلون بالدعاء، وأكثر ذلك الاستغفار حتى يطول ذلك ويرتفع النهار. ثم إن شاء الإِمام انصرف على ذلك، وإن شاء تحوّل إليهم فكلمهم بكلمات ورغبهم في الصدقات (3) والتقرب إلى الله العلي ثم ينصرف.
وأما وقت صلاة الاستسقاء فقال مالك صلاة الاستسقاء ضحوة لا غير
__________
(1) ساقطة - قل.
(2) نفي = ساقطة -و-.
(3) الصدقة - قل.

(1/1110)


ذلك من النهار. ولمالك في العتبية ولا بأس بالاستسقاء بعد المغرب والصبح.
وقد فعل عندنا وما هو بالأمر القديم.
وأما التنفل عند صلاة الاستسقاء فقال مالك لا بأس بالتنفل قبلها وبعدها.
وكره ابن وهب التنفل قبلها وبعدها. وإذا فأتت صلاة الاستسقاء فقال مالك إن شاء صلاها وإن شاء ترك.

والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: يخرج للاستسقاء الرجال ومن يعقل الصلاة (1) من الصبيان ومن المتجالات من النساء. ومنع في المدونة من خروج من لا يعقل من الصبيان والحُيّض من النساء. وذكر عن الشيخ أبي محمَّد رحمه الله أنه حمل ذلك على أنها لا تخرج في حال جريان دمها لأنها ممنوعة من الصلاة. ألا تراه قال ولا صبي لا يعقل الصلاة. قال أبو محمَّد عبد الحق رحمه الله لم يرد أبو محمَّد إباحة خروجها إذا زال دمها بل منْعها حينئذ أشد لقدرتها على الاغتسال. وإنما قصد أن دمها وإن كان جاريًا فإنه يمنع من الخروج لمنعه من الصلاة لئلا يظن ظان أن إباحة القراءة لها (2) حينئذ تبيح الخروج. فإذا منعت الحائض كان النساء على ثلاث مراتب. حائض تمنع ومتجالة لا يكره خروجها وشابة طاهرة (3) يكره خروجها. فإن خرجت لم تمنع. قال بعض أشياخي اختلف في خروج من لا يعقل من الصبيان، والشواب من النساء، وأهل الذمة، والبهائم. وخُرّج على منع الحائض، ومن لا يعقل الصلاة، منع خروج البهائم. وذكر أن موسى بن نصير أجاز ذلك. وحكي ما قدمنا ذكره حين استسقى بأهل القيروان فأمر بالولدان على حدة والنساء على حدة والبقر والغنم على حدة.
وأباح في المدنة خروج أهل الذمة. ومنع ذلك (4) أشهب في مدونته. وإذا أجزنا خروجهم فقال ابن حبيب يخرجون وقت خروج الناس يعتزلون ناحية ولا
__________
(1) الصلاة = ساقطة -و-
(2) لها = ساقطة -و-.
(3) طاهرة = ساقطة -و-.
(4) ذلك = ساقطة -و-.

(1/1111)


يخرجون قبل الناس ولا بعدهم لأنه يخشى إن استسقوا قبل أو بعد أن يوافقدا وقت نزول الغيث فيكون في ذلك فتنة للناس.
وقال القاضي أبو محمَّد في غير كتابه هذا: لا بأس أن يخرجوا بعد. وقال مكحول لا بأس بإخراج أهل الذمة للاستسقاء مع المسلمين. وقال الأوزاعي كتب يزيد بن عبد الملك إلى عماله أن يخرجوا أهل الذمة إلى الاستسقاء فلم يَعِبْ عليه أحد من أهل زمانه. وقال بعض الناس في إنكار إخراجهم: من أعظم العار أن يتوسل إليه أولياؤه بأعدائه. وهم وإن كانوا قد ضمن الله أرزاقهم، فإنا لا نمنعهم من الخروج. لذلك على القول المشهور عندنا. وبه قال الشافعي.
ولكنهم يخرجون منعزلين عن الناس لأن اللعنة تنزل عليهم. ولو أرادوا في الاستسقاء التطوف بصلبهم *فقد قال ابن حبيب لا يمنع اليهود والنصارى من الاستسقاء والتطوف بصلبهم وشركهم* (1) إذا برزوا بذلك وتنحوا به عن الجماعة. ويمنعون من إظهار ذلك في أسواق المسلمين وجماعاتهم في الاستسقاء وغيره. كما يمنعون من إظهار الزنا (2) وشرب الخمر.
__________
(1) ما بين النجمين = ساقط -و-.
(2) الربا - قل.

(1/1112)