شرح
التلقين كتاب الجنانز*
(1)
قال الفاضي أبو محمَّد رحمه الله: غسل الميت المسلم واجب وصفته كصفة غسل
الجنابة. ويجتهد في تنظيفه وإزالة الأذى عنه على الميسور.
ويستحب الوتر على قدر (2) ما يحتاج إليه، بماء وسدر. وفي الآخرة كافور.
وتنزع ثيابه وتستر عورته. وإن احتيج إلى مباشرتها فبخرقة إلا أن يضطر إلى
إخراج شيء بيده فيجوز. ويعصر بطنه (عصرًا خفيفًا) (3) ليخرج ما هنالك من
أذى ويرفق به في كل ذلك (4) ولا يزال عنه شيء من خلقته من ظفر أو شعر من
عانة أو غيرها.
قال الفقيه الأمام رحمه الله تعالى: يتعلق بهذا الفصل ستة أسئلة: منها أن
يقال:
1 - لِمَ قال غسل الميت المسلم واجب؟.
2 - ولمَ أمر أن يجتهد في تنظيفه؟.
3 - ولمَ استحب الوتر على صفة ما ذكره؟.
4 - وما الحكم في تجريده؟.
5 - ولمَ لم تقلم أظفاره؟.
6 - وهل ينجس بالموت؟.
__________
(1) **** من هنا كان الاعتماد على نسخة المكتبة الوطنية المشار إليها بـ
-و- لأننا لم نظفر بنسخة أخرى.
(2) قدر = ساقطة -و-.
(3) ما بين القوسين أثبته الغاني وساقط من نسخة -و-غ-.
(4) ويرفق به في ذلك -و-
(1/1113)
فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: اختلف
الناس في غسل الميت. فقال ابن أبي زيد هو ستة. وقال القاضي هو واجب. فدليل
وجوب الغسل قوله - صلى الله عليه وسلم - (1). وهذا أمر مجرده يقتضي الوجوب
عند جمهور الفقهاء. وقال أيضًا (في المحرم) (2) اغسلوه. وهذا أمر أيضًا
بالغسل. لكن قوله: إن رأيتن في غسل ابنته قد نرى فيه إن هذا الشرط راجع إلى
الغسل وأنه معلق بأن يريد ذلك. وهذا له تعلق بأصول الفقه.
والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: لما كان الغرض بهذا الغسل التنظيف
والتأهب للقاء الملكين لتستشعر النفوس أمر المعاد ولقاء الملائكة وذلك مما
يجب أن يتأهب له بالتطهر وجبت المبالغة فيه.
ومن صفات الغسل أن يوضأ. وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ابدأن
بميامينها ومواضع الوضوء منها (3). قال أشهب: وفي ترك الوضوء أيضًا سعة.
وقال أيضًا إن وضىء فحسن. ووافقنا الشافعي على أن الوضوء مستحب. وخالف أبو
حنيفة فلم يره مستحبًا. وما ذكرنا من قوله - صلى الله عليه وسلم -. ومواضع
الوضوء منها يردّ ما قال. ويؤمر أن يخص بالانقاء الفم والأنف والإبطان
وغيرها. قال ابن حبيب ويوضأ كما يوضأ الحي، ويدخل الماء في فمه ثلاثًا.
واختلف في محل وضوئه وفي تكريره. فأما محله فقيل في الغسلة الأولى لأنها
الفرض فينبغي أن يكون الوضوء من جملتها. وقيل في الثانية لأن الأولى فيها
تنظيف فينبغي أن يكون الوضوء بعد حصول النظافة.
فأما تكريره فاختلف فيه على القول بأن محله الغسلة الأولى. فقال أشهب
يكرّره. وأنكره سحنون. قال بعض المتأخرين ينبغي على القول بالتكرير أن يكون
الوضوء الأول غسلة واحدة حتى لا يرفع التكرار في العدد المنهي عنه.
وإذا لم نقل بالتكرار كان الغُسل ثلاثًا.
__________
(1) هو- ولعله من غسل ابنته اغسلنها ثلاثًا أو خمسًا. البخاري ج 2 ص 93.
(2) كلام ممحو - ولعله المحرم.
(3) البخاري ج 2 ص 93.
(1/1114)
وقال أشهب إذا عصر بطنه فليأمر من يصب عليه
الماء ولا يقطع ما دام ذلك. ويغسل ما أقبل منه وما أدبر، والخرقة على يده
ثم يغسل تلك الخرقة ويغسل يده ويأخذ خرقة أخرى على يده للغسل فيدخلها في
فمه لتنظيف أسنانه ويُنَقي أنفه. وقال الشافعي تستحب المضمضة والاستنشاق في
حق الميت، وهو أن يمسح ظاهر أسنانه وباطن شفتيه بخرقة، ويدخل أصابعه في فمه
وأنفه فيزيل ما هنالك. وقال أشهب لا بأس أن ينقي أنفه ويغسل فاه ويمضمض
وتركه غير ضيق. وقال ابن جبير والثوري والنخعي وأبو حنيفة: لا تستحب
المضمضة والاستنشاق في حق الميت. لأن المضمضة إدارة الماء ثم مجّه.
والاستنشاق جذب الماء ثم نثره وذلك لا يصح من الميت. وأجيبوا عن هذا بأن ما
ذكروه هيئة للمضمضة والاستنشاق وتعذّر الهيئة لا يوجب سقوط الفعل. وما
ذكرناه من قوله - صلى الله عليه وسلم - مواضع الوضوء منها يؤكد ما قلناه.
ومن صفات الغسل ما ذكره القاضي أبو محمَّد من عصر بطنه. وقد ذكرنا قول أشهب
أنه يصب الماء حينئذ ولا يقطعه. وقالت الشافعية يمر يده على بطنه إمرارًا
بليغًا في كل غسلة إلا الغسلة الأخيرة. وقال بعض الناس يمر يده على بطنه
إمرارًا خفيفًا. وقال الثوري يمسح مسحًا رفيقًا بعد الغسلة الأولى. وقال
أحمد يفعل ذلك بعد الغسلة الثانية. وروي عن الضحاك بن مزاحم أنه وصّى أن لا
يُعْصر بطنُه (1). والذي ذهب إليه أولى. لأنه إذا فعل ذلك خرج ما في بطنه
من النجاسة فيؤمن خروج شيء بعد الفراغ من غسله فإن جمهور الفقهاء على أن
غسله لا يعاد وإنما يغسل ذلك الموضع. لأن الغسل قد صح فلا يبطل بما يحدث
كغسل الحي من الجنابة. ومن الشافعية من قال يغسل ذلك الموضع ويوضا كالجنب
إذا أحدث بعد الغسل. وهكذا قال أشهب أن الوضوء يعاد، ومنهم من قال يعيد
الغسل وهو قول ابن حنبل. واحتجوا بأن المقصود في حق الميت أن يختم أمره
بأكمل طهارة.
وإذا غسل الفرج وهو ممن لا يحق له مسه، لفّ على يده خرقة كثيفة إلا أن يكون
بالموضع أذى لا يزيله إلا مباشرة اليد. فاختلف في جواز المباشرة.
__________
(1) هكذا ولعل الصواب أن يعصر بالإثبات بدليل التعليل الوارد بعده.
(1/1115)
فأجازها مالك في المدونة للضرورة المقتضية
ومنعها ابن حبيب لأن الحي إذا لم يستطع على (1) إزالتها فإنه لا يجوز له أن
يوكل غيره على مس فرجه لإزالة النجاسة. بل يصلي على حاله. وإذا منع الحي من
هذا ولم يسامح في مس عورته، فكذلك الميت بل الحي أحق بالمسامحة لأجل ما
تكلفه من الصلاة.
وفي كتاب ابن سحنون يوضع على أحد شقيه للغسل ويُقْلب كذلك. قال أشهب في
المجموعة وإن وضع على شقه الأيمن أو الأيسر، فلا بأس وإن أسندته إلى صدرك
أو أمسك لك ولم تُسنده فلا بأس. قال أشهب وواسع أن يسرّح رأسه أو لا يسرّح.
وقالت الشافعية إذا كانت لحيته ملبدة فيستحب أن تسرح بمشط منفرج الأسنان.
وقال أبو حنيفة يكره ذلك, لأنه يؤدي إلى نتف الشعر. وأجيب عن هذا بأنه إذا
كان المشط واسع الأسنان (2). وأما الضفر فلا أعرّفه. وقال ابن حبيب لا بأس
بضفره. قالت أم عطية ضفرنا شعر بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث
ضفائر ناصيتها وقرنيها وألقينه من خلفها (3). وقال الشافعي بضفر شعر المرأة
ثلاثة قرون ويلقى خلفها. وقال أبو حنيفة لا يضفر بل يلقى بين يديها. وقال
الأوزاعي نحوه. فأما أبو حنيفة فاتقى من تسريحه للضفر أن ينتف. وقد تقدم
مراعاته لذلك. قال بعضهم لما كانت المرأة تجعله ثلاثة قرون في حياتها،
فكذلك بعد الموت.
وقال ابن القاسم في المجدور ومن غمرته الجراح ومن إذا مس تسلخ فليصب عليه
الماء صبًّا ويرفق به. قاله مالك. وقال مالك ومن وجد تحت الهدم قد تسلّخ
رأسه وعظامه. والمجدور والمتسلخ فليغسلوا ما لم يتفاحش ذلك منهم.
وإذا لم يوجد من الميت إلا مثل الرأس أو الرجل فلا يغسل. ولا يغسل إلا ما
يُصلّى عليه. قاله مالك.
وأما الذي يغسل به، فقال في المدونة يغسل بماء وسدر ويجعل في الآخرة
__________
(1) هكذا. وعلى- زائدة.
(2) هو بمقدار سطر.
(3) البخاري ومسلم. نيل الأوطار ج 4 ص 35/ 37.
(1/1116)
كافور إن تيسر. وقال ابن حبيب يغسل في
الأولى بالماء وحده. وفي الثانية بغسول بلده إن لم يوجد (1) فإن لم يوجد
فبالماء وحده وإن لم يحتج إلى غسل رأسه بغسول لنقائه ترك ثم الثالثة بماء
وكافور وجده. قال أشهب فإن اشتدت مؤنة الكافور ترك. قال وبالسدر يغسل رأسه
ولحيته أحب إليّ. فإن لم يمكن فغسول أو غيره مما ينقى وواسع بالماء وحده
سخنًا وباردًا. وكذلك لمالك في المختصر قال: ولا بأس بالحرَض والنطرون إن
لم يتيسر السدر. وقالت الشافعية يغسل المرة الأولى بماء وسدر ويجعل في كل
ماء قُراح كافورٌ. فإن لم يفعل وجعل في المرة الأخيرة أجزأه. وقال أبو
حنيفة لا أعرف الكافور ولا السدر. ودليلنا عليه قوله - صلى الله عليه وسلم
- لأم عطية اغسلنها ثلاثًا أو خمسًا أو أكثر بماء وسدر واجعلن في الأخيرة
كافورًا (2). وإن كان غسل الميت الغرض به ما قلناه من التأهب للقاء الملكين
لم يراع الماء القراح. وهو ظاهر الحديث. مع أن طهارة الحي بالماء المضاف
اختلف الناس فيه، فكيف بطهارة الميت.
وفي كتاب ابن شعبان لا يغسل الميت بماء زمزم ولا تغسل به نجاسة.
وإنما يكره غسل الميت بماء الورد والقَرنفل من ناحية السرف. وإلا فهو جائز
إذ لا يغسل ليطهر وهو إكرام للقاء الملكين. وقال ابن أبي زيد ما ذكره في
ماء زمزم لا وجه له عند مالك وأصحابه. وإن كان يعني بقوله في ماء الورد
والقرنفل أنه لا يغسل بغيره. من الماء القراح، فليس هذا قول أهل المدينة.
وقال بعض أشياخي إنما نهى ابن شعبان عن غسل الميت بماء زمزم لأنه الميت
نجسًا. وذلك الماء لا تزال به النجاسة. وأهل مكة يتقون الاستنجاء به.
وذكر أن بعض الناس استنجى به فحدث به الباسور. وأما إذا قيل بطهارة الميت
فإن الغسل به أولى من الغسل بغيره لما يرجى من بركته. وغسل ابن عمر سعيد بن
زيد بن عمرو بن نفيل فالأولى صب عليه الماء قراحًا. والثانية غسل رأسه
ولحيته وجسده بالماء والسدر. بدأ برأسه ولحيته ثم بشقه الأيمن ثم
__________
(1) هكذا ولعل الصواب إن وجد.
(2) البخاري ج 2 ص 94.
(1/1117)
بالأيسر. ثم الثالثة بالماء وشيء من
الكافور. قال مثله النخعي إلا أنه قال يبدأ فيوضأ. قال مالك ويوضأ الصبي
إذا غسل. وقال مالك أيضًا يبدأ الغاسل بالميامن. وقد ذكرنا عن أشهب أنه قال
واسع غسله بالماء وحده سخنًا أو باردًا.
وقالت الشافعية يُكره تسخين الماء إذا لم يكن الزمان باردًا. وقال أبو
حنيفة يستحب تسخينه لأنه أمكن في إزالة الوسخ. وأجيب عن هذا بأن الماء
المسخّن يرخيه. والمراد ما يقويه ويصلبه. فلهذا جعل في الماء الكافور
والماء البارد يقويّه ويصلبه. فلهذا كان البارد هو أولى. هكذا أجاب بعض
أصحاب الشافعي.
وفي كتاب ابن شعبان، ولا يؤخر غسل الميت بعد خروج نَفَسه. قال بعض هذا
مخافة أن يتغير أو ينفجر. ولا حجة في تأخير غسل النبي - صلى الله عليه وسلم
- لأن ذلك مأمونًا (1) عليه.
قال ابن حبيب: ولا ينبغي أن يغسل إلا أن يحمل بإثر ذلك. فإن تأخر حمله بعد
الغسل إلى غد فلا يعاد غسله. وما خرج منه غسُل وما أصاب الكفن منه. قال
أصبغ وغيره. وروى مثله علي عن مالك في المجموعة فيما يخرج منه بعد الغسل.
قال ابن القاسم إذا غسل بالعشى وكفّن من الغد أجزاه ذلك الغسل.
والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: المستحب ما ذكره القاضي أبو محمَّد من
كون الغسل وترًا. وأشار إلى تعليقه من العدد بقدر الحاجة. قال ابن حبيب
السنّة أن يكون الغسل وترًا. قال النخعي غسله وتر وتجميره وتر وكفنه وتر.
وقد تقدم ذكرنا لغسل ابن عمر رضي الله عنه سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل
ثلاثًا. قال ابن سيرين يغسل ثلاثًا، فإن خرج منه شيء غسل خمسًا. فان خرج
منع شيء غسل سبعًا لا يُزاد. وقال ابن حنبل لا يُزاد على سبع. وقال ابن
المسيب والحسن والنخعي يغسل ثلاثًا أو خمسًا أو سبعًا. وقالت الشافعية (2)
وحكوا عن مالك أنه يعتبر الإنقاء ولا يعتبر العدد ولعلهم تعلقوا
__________
(1) هكذا ولعل الصواب مأمون.
(2) هو بمقدار سطر في -و-.
(1/1118)
بقول مالك في المدونة ليس لغسل الميت حدّ
معلوم يغسلون وينقون، ولم يلتفتوا إلى ما حكاه عنه ابن وهب في آخر الباب من
استحبابه ثلاثًا أو خمسًا. وقال أبو حنيفة إن زاد على الخمس لم يستحب الوتر
تعلقًا منه بقوله - صلى الله عليه وسلم - فيما زاد على الخمس أو أكثر إن
رأيتن (1). ولم يقدر الأكثر بكونه وترًا. ومحمله عندنا على أن أكثر يكون
وترًا على أسلوب ما تقدم ذكر عدد من الغسلات (2). ويؤكد ما قلناه أنه - صلى
الله عليه وسلم - نقل من الثلاث إلى الخمس. فلو كان لا يعتبر الوتر لذكر
الرابعة قبل الخامسة. وأيضًا فإنها طهارة متكررة. وما تكرر من الطهارات شرع
فيه الوتر كالوضوء وغسل الإناء من ولوغ الكلب. وقوله أكثر من ذلك يقتضي
الردّ على من قال: لا يزاد على السبع. لأنه لمّا قال اغسلنها ثلاثًا أو
خمسًا أو أكثر من ذلك إن رأيتنّ، ولم يقل ما لم يجاوز السبع، بل أطلق
الأكثر. وإطلاقه يقتضي ألا يكون أكثر محدودًا.
قال ابن حبيب: ولا بأس عند الوباء، وما اشتد على الناس من غسل الموتى
لكثرتهم أن يجتزأ فيهم بغسلة واحدة بغير وضوء، ويصبّ الماء عليه صبًّا. ولو
نزل الأمر الفظيع الذي يكثر فيه الموتى جدًا. وموت الغرباء. فلا بأس أن
يقبروا بغير غسل إذا لم يوجد من يغسلهم. ويجعل منهم النفر في قبر واحد.
وقاله أصبغ وغيره من أصحاب مالك. وروي عن الشعبي قال رمسوهم رمسًا. وهذا
الذي قاله ابن حبيب صحيح إذا لم يوجد من يغسل. لأن الواجب المتفق عليه يسقط
بالعجز عنه فكيف بهذا المختلف فيه الذي قدمنا قول الشيخ أبي محمَّد بن أبي
زيد رضي الله عنه.
والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: المشروع عندنا وعند أبي حنيفة تجريد
الميت للغسل ولا يغسل في قميص قياسًا على الحيّ. وقال الشافعي بل المستحب
أن يغسل في قميص لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - غسل في قميص. وقال سعد
ابن أبي وقاص إذا أنا متّ فاصنعوا بي ما صنع برسول الله - صلى الله عليه
وسلم -. ويفارق الحي لأن الحي يتولى غسله بنفسه. وها هنا يتولى غسله غيره،
فغسله في القميص أستر
__________
(1) تقدم تخريجه من البخاري.
(2) هكذا. ولعله ذكره من عدد الغسلات.
(1/1119)
له. وقال بعضهم إنما غسل النبي - صلى الله
عليه وسلم - على حسب ما نقل في الآثار (1). فلما خصت غسله بهذا تكريمًا له
وتشريفًا صح أن يغسل في القميص وغسالة غيره نجسة على بعض المذاهب، فلا بدّ
من التجريد فيها بخلافه - صلى الله عليه وسلم -. وفي كتاب ابن سحنون ينبغي
إذا جرّد للغسل ألاّ يطّلع عليه إلا الغاسل ومن يليه وتستر عورته بمئزر.
ويستحب أن يجعل على صدره ووجهه خرقة أخرى. ويوضع على أحد شقيه للغسل ويقلّب
كذلك.
وقد اختلف المذهب عندنا في غسل الرجل الرجل والمرأة المرأة فقيل في غسل
الرجل الرجل يجرّد ما سوى العورة وهو قول مالك في المدونة. وحمله بعض
أشياخي على أن المراد بالعورة السوءتان. وقال ابن حبيب يستر من السرّة إلى
الركبة وهذا بناء على أن الفخذ عورة. وقد قدمنا قول ابن سحنون أنه يستحب أن
يجعل على صدره خرقة. قال بعضهم هذا يحسن فيمن نحل جسمه لقبح منظره حينئذ.
وإذا سترت العورة فليجمع ثوبًا ويجعله هناك ولا يبسطه لأنه يصف.
وأما غسل المرأة المرأة فالظاهر من المذهب أنها تستر منها ما يستر من
الرَجل، من السرة إلى الركبة. وعلى قول ابن سحنون تستر جميع جسدها. قال ابن
شعبان اختلف في غسل الجنب الميتَ. وإجازته أحبّ إلينا. وليكثر الغاسل من
ذكر الله تعالى. قال مالك: لا أحبّ للجنب أن يغسل الميت وذلك جائز للحائض.
وأجاز محمَّد بن عبد الحكم للجنب أن يغسله. وقال ابن شعبان من اغتسل عند
الموت لم يكتف بذلك الغسل إن مات.
والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: أما تقليم أظفار الميت وحلق عانته ونتف
إبطه وقص شاربه فإن ذلك لا يستحب وهل يكره أم لا؟ عندنا وعند أبي حنيفة
والشافعي في القديم أنه يكره. وقال الشافعي في الجديد لا يكره.
ودليلنا على كراهته أنه جزء من الميت يكره إزالته كالختان. والختان في حال
الحياة آكد مما ذكرناه. فإذا نهي عن فعله بعد الوفاة مع تأكد الأمر به.
فالنهي
__________
(1) هكذا ولعل في الكلام نقصًا سقط من الناسخ. وتقديره. من طهارة غسالته.
(1/1120)
عما انحطت رتبته عن رتبة الختان أولى.
وأما الشافعي فإنه يحتج على الجواز بقوله - صلى الله عليه وسلم -: اصنعوا
بميتكم ما تصنعون بعروسكم. وتأول أصحابنا هذا على أن المراد به ما يفعل
بالعروس من الزينة والطيب لا ما يفعله العروس من الاستحداد وتقليم الأظفار,
لأنا ما ذكرناه هو أخص بالعروس مما سواه. وإذا ثبت ما ذكرناه فقد قال أشهب
أحب إليّ ألا تحلق له عانة ولا يقلم له ظفر ولينقّ ما بها من وسخ. وكذلك
قال ابن حبيب عن ابن سيرين لا يؤخذ من شعره ولا تقلّم أظفاره إلا أن يكون
عند نزول الموت به. فإذا مات فلا. وقال سحنون إن كان ذلك لما يتأذى به
المريض فلا بأس به وإن كان ليهيّأ للموت فلا يفعل.
والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: اختلف المذهب في الميت هل هو نجس أم
لا؟ واختلف فيه قول الشافعي أيضًا. وقد قال في كتاب الرضاع من المدونة أن
ابن المرأة إذا ماتت نجس وهذا يقتضي نجاسة الميت. واستدل ابن القصار على
طهارته بقول الله سبحانه: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} (1).
وتكريمه يقتضي ألا يكون نجسًا لأن النجس مهان. وقال النبي - صلى الله عليه
وسلم -: المؤمن لا ينجس (2). وعموم هذا يقتضي طهارته وإن كان ميتًا. وذكر
البخاري عن ابن عباس أنه: قال لا ينجس المسلم حيًا ولا ميتًا (3). وقال سعد
بن أبي وقاص: لو كان نجسًا ما مسسته. وقيل لعائشة رضي الله عنها أيغتسل
غاسل الميّت؟ أوَ أنجاس موتاكم (4) وقبّل النبي - صلى الله عليه وسلم -
عثمان بن مظعون (5). ولو كان نجسًا لما قبّله.
واستدل من قال بنجاسته بقول الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ
الْمَيْتَةُ} (6). ولأن
__________
(1) سورة الإسراء، الآية: 70.
(2) رواه البخاري. فتح الباري ج 1ص 406/ 407.
(3) رواه البخاري ووقفه على ابن عباس. ووصله سعيد بن منصور. وأخرجه
الدارقطني من رواية عبد الرحمن بن يحيى المخزومي وابن أبي شيبة. الفتح ج 1ص
369.
(4) أي قالت: أي أوَ أنجاس موتاكم.
(5) رواه البزار وإسناده حسن عن معاذ بن ربيعة. مجمع الزوائد ج 3 ص 20.
(6) سورة المائدة، الآية: 3.
(1/1121)
عدم الحياة يقتضي النجاسة. فأما الآية
ففيها ثلاثة أجوبة. أحدها أنه لا يسلّم وقوع اسم الميتة على الإنسان. وإنما
هي تسمية واقعة على ما مات من الحيوان البهيمي حتف أنفه. والثاني أنا لو
سلمنا وقوع التسمية عليه لم يسلم كون التحريم يقتضي النجاسة لأن المراد
بقوله حرمت عليكم الميتة أي أكلها. وأما النجاسة فلا تفهم من هذا اللفظ.
والثالث أنا لو سلّمنا انطلاق التسمية على الإنسان. وكان التحريم يفيد
النجاسة لخصصنا هذا الظاهر بما قدمناه من الأدلة. وأما استدلالهم بعدم
الحياة فإن مجرّد عدم الحياة لا يقتضي النجاسة.
ألا ترى أن الشاة المذكاة طاهرة مع عدم الحياة، والخشاش طاهر وإن مات حتف
أنفه. وإنما يكون الموت يقتضي النجاسة إذا كان على صفة وشرط. فإذا كانت
العلة ذات أوصاف فلا يثبت الحكم عند انفراد أحد أوصافها. والإنسان وإن منع
أكله حال حياته فإن ذلك لحرمته لا لنجاسته. وكونه حيًّا يقتضي كونه طاهرًا.
وإذا مات يقتضي هذه الحرمة وأنزل منزلة الحي. ألا ترى ورود الخبر بأن كسر
عظمه ميتًا ككسره حيًّا (1)، وهذا تنبيه على بقاء حرمته بعد الموت. وقد مال
بعض أصحابنا البغداديين إلى أنه لو قطع من الميت عضو لكان ذلك العضو طاهرًا
لمكان الجملة التي هذا العضو جزء منها. ظاهره بخلاف لو قطع من الحي عضو فإن
ذلك العضو نجس لأن الحي ذو نفس سائلة. وحياته سبب طهارته فإذا فارق هذا
العضو الحياة فارق حكم الطهارة. والعضو المقطوع من الميت لم يتبّدل حاله
ولا فقد ما هو سبب للطهارة فيكون نجسًا.
ورأيت بعض المتأخرين من أصحابنا ساوى بين الكافر الميّت والمسلم الميت في
الطهارة لاستوائهما في كثير من الأحكام المناسبة لهذا المعنى. وأنت إن
تأملت ما استدللنا به على طهارة الميت تجد بعضًا يختص بالمسلم كقوله - صلى
الله عليه وسلم -: المؤمن من لا ينجس (2). وما حكيناه عن ابن عباس من قوله:
لا ينجس المسلم حيًا ولا ميتًا. فقيد كلامه بالمسلم. وهذا يشير إلى كون
الكافر بخلاف ذلك. فإذا وضح هذا الاختلاف في نجاسة الميت فقد قال أشهب إذا
فرغت من
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق عن عائشة ح 6256/ 6257.
(2) رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة وأخرجه أحمد والأربعة.
(1/1122)
غسله ونشفته في ثوب. وقد أمرت قبل ذلك
بإجمار ثيابه فقد اختلف في نجاسة هذا الثوب. فقال سحنون لا ينجس. وقال
محمَّد ابن عبد الحكم ينجس. وهذا الاختلاف مبني على ما قدمناه من الاختلاف
في نجاسته. وقال ابن شعبان لا يصلي بهذا الثوب حتى يغسل ولا بالماء الذي
يصيبه من مائه. وقال مالك في المختصر يغتسل من غسل ميتًا أحب إليّ. وقال
ابن حبيب لا غسل عليه. ولا وضوء. قاله جماعة من الصحابة والتابعين. وذكر
حديث أسماء (1). وقاله مالك وقال: فإن اغتسل من غير إيجاب فحسن. وقيل إنما
يستحب له أن يغتسل لئلا يتوقى ما يصيبه منه فلا يكاد يبالغ في أمره. فإذا
وطن نفسه على الغسل بالغ فيه. وقال أشهب أحب إليّ أن يغتسل غاسل الميت
توقيًا لما عسى أن يصيبه من أذى الميت، فإن لم يفعل ورأى أنه لم يصبه شيء
فذلك. قال ومن أصابه شيء من الماء الذي غسّل به الميت فغسل ذلك واجب من
الأول فإن لم يفعل وصلّى ولم يعلم أن ذلك الماء أصابه شيء من أذى الميت فلا
شيء عليه. قال مالك ولا وضوء على من أفضى بيده إلى جسد الميت أو حنّطه أو
حمله. وإن أصاب يده شيء مما يخرج منه غسل ما أصابه فقط.
ومما ينبني على الاختلاف في طهارة الميت الصلاة عليه في المسجد.
فاختلف المذهب عندنا. فقال مالك في المدونة بالكراهة. وبه قال أبو حنيفة.
وقال ابن حبيب لو صلّى على الجنازة في المسجد ما كان ضيقًا لما روي من
الصلاة على سهيل فيه (2). وفي مختصر ابن شعبان يكره أن توضع الجنازة في
المسجد وينتظر بالصلاة عليها لحاق الناس. وقال ابن شعبان قال أبو حنيفة لا
يصلّى عليها في المسجد. وإنما كره مالك وأبو حنيفة إدخال الميت المسجد لأنه
ميتة توضع في المسجد. وهذا التعليل الذي علل به ابن شعبان هو باقتضاء المنع
أولى منه باقتضاء الكراهة. وذهب الشافعي إلى أنه لا تكره الصلاة على
الجنازة في المسجد وحجته أنه لما مات سعد بن أبي وقاص قالت عائشة
__________
(1) قال الحاكم في تاريخه لي في من غسل ميتًا فليغتسل. حديث ثابت.
(2) رواه مسلم والبيهقي وأحمد وابن أبي شيبة بلوغ الأماني ج 7 ص 248.
(1/1123)
رضي الله عنها: ادخلوه في المسجد لأصلي
عليه فأنكروا ذلك. فقالت: ما أسرع ما نسي الناس ما صلى رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - على ابني بيضاء سهيل وأخيه إلا في المسجد (1). وهكذا رأي
غير عائشة رضي الله عنها من أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد خرج
مسلم أن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - أرسلن أن يمروا عليهن بجنازة
سعد في المسجد فيصلين عليه ففعلوا ووقفوا على حجرهن فصلين عليه فأنكر ذلك
بعض الناس فقالت عائشة رضي الله عنها: ما أسرع ما نسي الناس ما صلى رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - على سهيل بن بيضاء إلا في جوف المسجد. واعتذر
ابن سحنون عن هذا فقال صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر قد تركه وفعل
غيره، حين خرج في النجاشي إلى المصلى، فهذا أخف مع أن حديث سهل منقطع. قال
غيره، وقد قيل كثر الناس في جنازته فضاق بهم الموضع ثم لم يفعله بعد ذلك
واستدام الصلاة في المصلى حتى أنكر الناس على عائشة رضي الله عنها ما أمرت
به في جنازة سعد. ومع ذلك فهو ذريعة إلى صرف المسجد إلى غير ما جعل له من
الصلاة. وقد ينفجر فيه الميت أو يخرج منه شيء فترك ذلك أولى من غير وجه،
كما تركه النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال إسماعيل في مبسوطه لا بأس
بالصلاة على الجنازة في المسجد إذا احتيج إلى ذلك. وإنكار الناس قصة سعد
يدل على أن الفعل الدائم الصلاة في موضع الجنائز بقرب المسجد. ولعل الصلاة
على سهيل كانت قبل أن يتخذ ذلك الموضع، ولعلهم إنما صلوا على عمر رضي الله
عنه في المسجد لأنه أوسع عليهم لكثرة من صلى عليه. وهذا كله واسع إذا احتيج
إليه. وأما ما حدثنا به عاصم بن علي عن ابن أبي ذئب عن صالح مولى التؤمة عن
أبي هريرة قال. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: من صلّى على الجنازة في
المسجد فلا شيء له (2). فهذا إسناد ضعيف ولا بأس بذلك إذا احتيج إليه.
قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: ويغسّل كل واحد من الزوجين صاحبه ولا
يغسّل من لا رجعة له عليها. وفي الرجعة روايتان. ويغسل الرجل أمته التي
__________
(1) رواه مسلم والبيهقي وأحمد وابن أبي شيبة. بلوغ الأماني ج 7 ص 248.
(2) أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجة عن أبي هريرة. بلوغ الاماني ج 7 ص 248.
(1/1124)
يحل له وطؤها ومدبرّته، وأم ولده. وكل من
كان يستبيحه (1) إلى حين موته.
ويغسل ذوو المحارم بعضهم بعضًا من الرجال والنساء *الرجل للرجل والمرأة.
وكذلك المرأة للمرأة والرجل* (2). إذا لم يكن من يلي ذلك من الأجانب يغسل
الرجل المرأة منهن في ثيابها ولا يغسل الرجل الأجنبية ولا المرأة الأجنبي.
فإن كانوا في سفر ولم يجدوا من يغسل يُمم الرجل وجهه ويداه إلى مرفقيه
والمرأة إلى كفيها. ويستحب الاغتسال من غسل الميت ومن مات له نسيب كافر خلى
بينه وبين أهل دينه فإن لم يجد من يكفيه (3) لفه في شيء وواراه ولا يغسله
ولا يصلي عليه.
قال الفقيه الإِمام: يتعلق بهذا الفصل خمسة أسئلة: منها أن يقال:
1 - لِمَ قال يغسل كل واحد من الزوجين صاحبه؟.
2 - ولمَ اختلف في الرجعية؟.
3 - ولمَ أجاز غسل أمته ومن ذُكر معها؟.
4 - ولمَ أجاز غسل ذوي المحارم بعضهم بعضًا على صفة ما ذكر؟.
5 - ولمَ لَمْ يغسل المسلم نسيبه الكافر؟.
فَالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: أما غسل المرأة زوجها فجائز من غير
خلاف إلا رواية عن ابن حنبل. ودليل الجماعة ما روي أن أبا بكر الصديق رضي
الله عنه وصّى أن تغسله أسماء بنت عميس. وقالت عائشة رضي الله عنها: لو
استقبلنا من أمرنا ما استدبرنا ما غسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
غير نسائه. فأما غسل الزوج زوجته فيجوز عندنا وعند الشافعي. وروي ذلك عن
علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وقال الثوري والأوزاعي وأبو حنيفة لا يجوز
أن يغسل الرجل زوجته.
فدليلنا ما روت عائشة رضي الله عنها قالت: دخل عليّ رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - وأنا أشتكي فقال: وا رأساه! فقلت بل أنا وا رأساه! فقال - صلى
الله عليه وسلم -: ما عليك لو متّ
__________
(1) يستبيحها -غ-.
(2) الرجل الرجل -والمرأة المرأة والرجل -و-.
(3) يكفنه -و-.
(1/1125)
لغسلتك وكفنتك وصليت عليك (1). فلولا أنه
جائز لما أخبر أنه يفعله. وأيضًا فقياسًا على غسل الزوجة زوجها. وأما أبو
حنيفة فإنه يحتج بأنها فرقة تبيح له نكاح أختها فحرم النظر إليها كالمطلقة
قبل الدخول. وقد اختلفت طريقة أصحابنا وأصحاب الشافعي في الانفصال عن هذا.
فانفصل أصحاب الشافعي بأن المطلقة قبل الدخول لا يجوز لها غسله فكذلك لا
يجوز له. وفي مسألتنا يجوز لها غسله فجاز له. وأصحابنا لا يرون هذا
الانفصال لأن أشهب قال: تغسله زوجته وإن لم يبن بها. قال سحنون وكذلك
يغسلها هو. والتعويل في الانفصال على أصلنا أن أحكام الزوجية باقية بعد
الموت بدليل التوارث.
والتوارث في مقتضى حكم الزوجية. فإذا أشعر التوارث ببقاء حكم الزوجية أجزنا
غسل أحدهما صاحبه. فأما الجمع بين الأختين فإنما يمنع فيما طريقه التلذذ.
فمن نكح امرأة حرم عليه التلذذ بأختها. والغسل لا تلذذ فيه وإنما بابه باب
العبادات. والنظر فيه إلى المغسول يثمر الاعتبار لا اللذة. فلهذا أجزنا
الغسل لمّا كان ليس موضوعه وموضوع حكم الجمع بين الأختين موضوعًا واحدًا.
وقد كان يجوز له غسلها حال الحياة فانسحب حكمه على ما بعد الموت على ما
ذكرناه. ولهذا قلنا إن لها أن تغسله ولو تزوجت غيره إذا وضعت قبل غسله. قال
ابن حبيب ورآه كجواز غسله لها. وإن تزوج أختها.
وقد كان قال أحب إليّ ألا يغسلها إذا تزوج أختها. وليس بحرام. وقاله أشهب
وكرهه ابن القاسم أيضًا في أحد قوليه.
ولو كان الزوج مسلمًا والزوجة نصرانية فليس له غسلها , ولا تغسله هي إلا
بحضرة المسلمين إذ لا يوثق بها إذا خلت به.
ولو كان الزوجان عبدين لجاز أن يغسل أحدهما صاحبه.
وإذا ظهر بعد الموت ما يمنع من صحة النكاح فإن كان فاسدًا لا يقرَّان عليه
كنكاح المَحْرم والشغار، فلا يغسل أحدهما صاحبه. وكذلك نكاح المريض
والمريضة. ولا يتوارثان فيه لأنه قد قيل عندنا يفسخ النكاح وإن صحّا.
__________
(1) رواه ابن ماجة حديث 1465.
(1/1126)
وإن كان النكاح الفاسد مما يفوت بالدخول
بأن يكون فساده في صداقة غسلها بعد البناء لا قبله. وأما ما صح من النكاح
ولكن ثبت فيه خيار كوجود عيب بأحدهما يوجب الردّ وما في معنى ذلك فإن ذلك
لا يمنع من الغسل. قاله سحنون. وأشار بعض الأشياخ إلى تخريج هذا على
الاختلاف في القيام بالعيب بعد الموت. فمن مكّن من أصحابنا من القيام به
بعد الموت وكان حكم الغسل موقوفًا على خيار من له الخيار. فإن اختار ردّ
العصمة بالعيب لم يجز له الغسل. وإن اختار الاستمساك بها لما يكون له في
ذلك من فائدة ميراث أو غيره جاز الغسل. وفي هذا التخريج عندي نظر. لأن
الخيار إذا وقع بردّ العصمة بعد الموت فهل يكون رافعًا لها من حين العقد؟
هذا أصل مختلف فيه. فيتخرج على هذه الطريقة الاختلاف في هذا الأصل. إلا أن
يحتاط للغسل فيرفع منه الخلاف فلا يباح. والظاهر من منصوص أصحاب هذه
الطريقة أنهم يرون الاختيار إذا وقع بالردّ، فكأن العصمة لم تكن في منع
الميراث، وما في معناه من حقوق الزوجية.
والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: إذا وقع الطلاق البائن ثم حدث الموت
بعده، فإن غسل أحدهما صاحبه لا يباح، كالأجانب.
ولو كان الطلاق رجعيًا ثم حدث الموتُ ففي المدونة المنع من الغسل.
وفي المبسوط إجازة الغسل. وفي كتاب أبي الفرج روى ابن نافع عن مالك في
المطلقة واحدة يموت زوجها قبل الرجعة أنها تغسله، وبالمنع قال الشافعي في
الطلاق، ولم يبح للزوج غسلها فيه. فمن أجاز اعتل بالتوارث وهو يشعر ببقاء
حكم الزوجية كما كنا قدمنا. وأشار أبو إسحاق إلى هذا وأن التوارث أباح من
(1) الرؤية في حال الحياة. وقد أجبنا عن هذا بأن المطلقة في المرض ترث، وإن
كان الطلاق بائنًا. ثم الغسل لا يجوز. فلا اعتبار بالتوارث. وإنما الاعتبار
بإباحة الوطء. وانسحاب إباحته. والمطلقة الرجعية محرّمة الوطء وسنتكلم على
الخلاف في تحريم الطلاق للوطء في موضعه إن شاء الله تعالى.
__________
(1) هكذا. ولعل الصواب حذف من.
(1/1127)
فإذا وضح ما قلنا في حكم الزوجين فإنا إذا
أجزنا غسل أحدهما صاحبه فإنه يستر عورة المغسول. وأجاز ابن حبيب أن يغسل
أحد الزوجين صاحبه والمغسول منهما عريان من غير ضرورة. وفي كتاب ابن سحنون
قال أشهب ويغسل أحد الزوجين صاحبه مجرّدًا. قال سحنون يعني ستر عورته. وهو
قول أصحابنا. وإذا أجزنا للمرأة غسل زوجها فقال ابن الماجشون لها أن تجففه
وتكفنه ولا تحنطه إذ هي حادّ، إلا أن تضع حملها قبل ذلك إن كانت حاملًا، أو
يكون بموضع ليس فيه من يحنطه فلتفعل ولا تمس بالطيب إلا الميت.
والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: أما غسل السيد أمته ومن في معناها كأم
الولد والمدبرة فإنه جائز. وقال أبو حنيفة لا يجوز، ويعتل بما قدمناه من
جواز وطء الأخت. والتفرقة بين حكم جمع الأختين ها هنا وبين جواز الغسل، قد
تقدم الكلام عليه. ولا يغسل مكاتبته ولا المعتق بعضها ولا المعتقة إلى أجل.
ومن له فيها شرك ولا كل من لا يحل له وطؤها. وأما غسل الأمة سيدها فإنه
يجوز عندنا وكذلك أم ولده ومدبّرته. قال الشافعي: أم الولد على أحد الوجهين
عنده. وقال في الوجه الآخر لا يجوز. وبه قال أبو حنيفة. ويعتل لهذا القول
بأنها تعتق بموته، فصارت أجنبية منه. وقد قدمنا نحن الانفصال عن مثل هذا.
وإذا وضح ما قلناه في غسل مَن الوطءُ بينهما مباح، فهل يقضي بذلك لمن طلبه
منهما؟ قال سحنون يقضى للزوج بغسل زوجته ولا يقضى لها على أوليائه.
وللامة غسل زوجها العبد وإن ولدت منه وللعبد غسل زوجته حرّة ويأذن له السيد
في غسلها فيقضي له بذلك. وإنما فرق سحنون بين القضاء للزوج بغسل زوجته وبين
القضاء لها لمعنى نبه عليه في لفظ روايته. وذلك لأن الرجل له أولياء
يغسلونه. فلو قضينا لزوجته لأسقطنا حق الأولياء في ذلك. وأما المرأة فلا
يغسلها أولياؤها. وإذا كان غسلها موكولًا إلى النساء لم يكن في القضاء
للزوج بغسلها إسقاط حق أحد. فلهذا قُضي له. وهذا معنى قول سحنون لا يقضى
لها على أوليائه. وهذا تنبيه منه على أن الزوج لو لم يكن له ولي لوجب
(1/1128)
القضاء لها بغسله. كما يقضى له بغسلها
لاستوائه ها هنا, لأنه ليس هناك حق أحد يسقط. ولهذا قال أيضًا بأنه يقضى
للزوج إذا كان عبدًا. وأذن له سيده وكانت زوجته حرة لأن القضاء ها هنا على
النساء لا على الأولياء. فلو كانت زوجته أمة لم يقض له لأن القضاء بذلك ها
هنا على الولي الذي هو السيد. ومال بعض أشياخنا إلى كون الزوج أحق من السيد
استثقالًا لاطلاع سيدها عليها لمّا ماتت وهي في عصمة زوج. وكذلك أيضًا ما
ذكرنا من أن سحنون لم يقض للأمة بغسل زوجها العبد، فإنما ذلك لحق سيده. ولو
كان مالك العبد امرأة قدّم أولياؤه كابنه وأخيه على زوجته. فإن لم يكن له
أولياء قضي ها هنا لزوجته إذ ليس في القضاء ها هنا إسقاط حق لأحد. وهذه
طريقة سحنون. وذكر ابن المواز عن ابن القاسم أن كل واحد من الزوجين أولى
بغسل صاحبه. قال أبو محمَّد هو أولى من قول سحنون. وقال بعض أشياخنا لكونها
أستر لزوجها. وقد تنكشف عورته للولي إذا غسله فكان الأولى تقدمة الزوجة على
الأولياء.
والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: إذا مات الميت ولم يوجد رجل يغسله ولكن
وجدت امرأة، أو ماتت امرأة ولم توجد امرأة تغسلها ولكن وجد رجل، فلا يخلو
الموجود: إما أن يكون لا رحم بينه وبين الميت أو بينهما رحم. فإن كان لا
رحم بينهما، فعندنا أن حكم الميت أن يُيمم. فإن كان رجلًا يُمم إلى
المرفقين. وإن كانت امرأة يُممت إلى كوعيها. وبالتيمم على الجملة، قال ابن
المسيب وأبو حنيفة وابن حنبل. وقال قتادة والزهري والنخعي يُجعل عليها ثوب
ويصبّ الماء من تحت الثوب ويمرّ الغاسل يده عليها بخرقة. وقال الحسن وإسحاق
يصب عليها الماء من فوق الثوب. وقال الأوزاعي لا تُيمم ولا تُغسل. وروي ذلك
عند ابن عمر. وللشافعية وجهان: أحدهما ما قاله ابن المسيب. والثاني ما قاله
قتادة. واختار بعضهم مذهب الأوزاعي واحتج له بأن التيمم مباشرة من ليس
بمحرم له. والغسل يتعذر لأنه يحتاج فيه إلى النظر إلى المواضع التي لا يصل
إليها الماء.
ولو وجد من جنس من يغسل من هو كافر، فهل يمكن من الغسل أم لا؟ فقيل يعلّم
الكافر الغسل ليغسل الرجل. وتعلّم الكافرة الغسل لتغسل المرأة.
(1/1129)
قاله مالك. وقال أشهب لا يلي ذلك كافر ولا
كافرة، وإن وُصف لهما. ولا يؤتمن على ذلك كافر. وقال سحنون يدَعوا (1)
الكافر يغسل وكذلك الكافرة، ثم يحتاطون بالتيمم فيهما.
وإن كان بين الميت والغاسل رحم فاختلف في ذلك. ففي المدونة في المرأة
يغسلها من فِوق الثوب. وفي الرجل يغسلنه ويسترنه. واختلف قول ابن القاسم
فقال يغسلنه من فوق الثوب. وقال يسترن عورته. وظاهر هذا تجريده للغسل.
وهكذا قال عيسى بن دينار ينزع ثوبه وتستر عورته. وفي المختصر إذا مات وليس
معه إلا أمه أو ابنته أو أخته فلا بأس أن يغسلنه ما لم يطلعن علي عورته.
فإن كانت امرأة معها أبوها أو أخوها أو ابنها ولا نساء معها فلا بأس أن
يغسلها في درعها. ولا يطلع على عورتها. وقال أشهب في كتاب ابن سحنون أحب
إليّ في أمه وأخته أن ييممها وكذلك المرأة في ابنها. قال سحنون لا أعلم من
يقوله غيره من أصحابنا. وقول مالك: أحب إليّ ولو فعل ذلك لرجوت أن يكون
واسعًا. وذكر في المجموعة أن المرأة يغسلها ذو المحارم منها من فوق الثوب
وأن مالكًا أنكر ذلك في رواية ابن غانم. واحتج بقول النبي - صلى الله عليه
وسلم - للسائل عن الاستئذان على أمّه: أتحب أن تراها عريانة (2). قال أشهب
فإن غسلها من فوق الثوب فواسع. قاله مالك ولكن أكرهه للتعرض أن يضع يده على
ما لا يصح مسه من جسدها وعورتها. ولكن ييممها إلى المرفقين. وكذلك المرأة
تكون في ذوي محرم منها فتيممه أحب إليّ، وإن غسلته رجوت سعته. وكذلك ذكر
ابن حبيب أن ذا المحرم إذا لم يجد الماء يممها إلى المرافق وإنما يُمم إلى
الكوعين الأجنبي وجد الماء أو لم يجد. وأن ذا المحرم إذا غسلها صبّ الماء
من تحت الثوب ولا يلصقه بجسدها فيصف إذا ابتلت عورتها ولكن يجافيه ما
قَدَر. وسبب هذا الخلاف الموازنة بين الاطلاع على ما الأصلُ منع الاطلاع
عليه، وبين ترك ما تُعبدنا به من غسل الميت. فلما اتضح عندنا شدة المنع من
الاطلاع على الأجنبية كان الحكم التيمم. ولما كان ذو المحرم يؤمن تلذذه
__________
(1) هكذا وصوابه يدَعُون.
(2) رواه مالك في الموطأ عن عطاء بن يسار كتاب الاستئذان ج 1ص 597.
(1/1130)
بالنظر كان أخفض رتبة للأمن عليه. فجعلنا
له الغسل على صفة ما ذكرنا من الغسل للمرأة من فوق الثوب. وللرجل على
القولين عندنا هل من فوق ثوب أو مجردًا مستور العورة؟ وقد قال مالك لا أرى
أن يغسل الرجل أم امرأته ولكن ييممها، ففرق ها هنا بين التحريم تحريم نسب
أو تحريم صهر. لأن النفوس قد يوجد في بعضها منازعة إلى التلذذ بالصهر، ولا
يوجد ذلك فيها في النسب المحرم. وكان قد قال أشهب في المبسوط رأيًا أنه لا
يكاد ينفك مع الغسل من الاطلاع على ما لا يجوز الاطلاع عليه. فقالا بالتيمم
ورأيا (1) أن مباشرة ما لا يباشر بالتيمم (2) من تركه الغسل (2).
ولأجل هذا الذي نبهنا عليه أجزنا غسل من لا يستلذها. يقول مالك لا بأس أن
تغسل المرأة الصبي ابن ست سنين وابن سبع. ويغسل الرجل الصبية الصغيرة إذا
احتاج إلى ذلك. قال ابن حبيب تغسل المرأة الصبي ابن سبع ونحوه إلا الصغيرة
(3) جدًا. قاله مالك وأصحابه. وقال أشهب إذا كان يشتهى مثلها فلا يغسلها
الرجل. وذلك (4) يتقي منها مثل ما يتقى من الصبي. قال ابن مزين قال ابن
القاسم لا يغسلوها (5) وإن صغرت جدًا. وروي عن مالك إجازة غسل المرأة لابن
تسع سنين. وقال الشافعي يجوز للمرأة غسل الصغير. ولم يُحدّ السنن, وقاله
أصحابه. والذي يجيء على هذا المذهب أن لا يكون مميّزًا. وقال الحسن إذا كان
فطيمًا أو فوقه شيئًا. وقال الأوزاعي أربع سنين أو خمس. وقال إسحاق ثلاث
إلى خمس. وقال أبو حنيفة ما لم يتكلم. وحكم الصبية عند الشافعي، حكم الصبي.
قال أصحابه فيما حكيناه من الأقوال أنه كمذهبهم إلا قول مالك (6). وإن كان
أبو حنيفة أراد بالكلام الزمن المعتاد فهو أيضًا موافق لما ذهب إليه. وإن
أراد به على الإطلاق فليس بصحيح, لأن الكلام قد يتأخر.
__________
(1) عود الضمير مثنى يدل على أن معطوفًا على أشهب سقط من الناسخ.
(2) كلمة ممحوة عسر علينا قراءتها ولعلها أحسن.
(3) هكذا في الأصل. ولعل الصواب لا يغسل الرجل الصبية إلا الصغيرة جدًا.
(4) هكذا في الأصل ولعل الصواب ومع ذلك.
(5) هكذا. والكلام على الحكاية لا على الأمر. فلا وجه لحذف النون.
(6) هكذا في الأصل.
(1/1131)
وأنت ترى إجازة العلماء غسل المرأة الصبي
والرجل الصبية وإن لم يكن بينهما رحم. وما ذاك إلا للأمن من الشهوة. وقد
نبه بعض أصحابنا كما ذكرناه، وهو يؤكد عندك ما اعتللنا به. وأنه مقصد
المختلفين في ذلك.
ولو اقتصر على التيمم حيث ذكرنا الاقتصار عليه ثم وجدنا الغاسل فذكر سحنون
في نساء يممن رجلًا إلى المرفقين وصفين عليه صفًا واحدًا أفذاذًا ثم جاء
رجل قبل أن يدفن قال لا يغسل ولا يصلى عليه ثانية. وقد أجزنا ما فعل النساء
في وقت يجوز لهن ذلك. ولو غُسل ودُفن بلا صلاة لم أرَ بذلك بأسًا
والأول أحبّ إليّ.
والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: أما المشرك إذا لم يكن له قريب مشرك
يتولى أمره وله قريب من المسلمين فلا خفاء بأنه لا يصلي عليه لقول الله
تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ
عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ
فَاسِقُونَ} (1). وأما غسله إياه فمنعه مالك، وأجازه الشافعي. فأما مالك
فإنه قاسه على الصلاة. فإذا كان لا يصلي عليه فلا يغسله. وأما الشافعي فإنه
يرى أن المقصود من الصلاة الدعاء بالمغفرة والرحمة. وذلك لا يحصل للكافرين.
فلا فائدة في طلب ما يعلم أنه لا يحصل. وأما الغسل فالمقصود منه التنظيف،
وذلك يحصل. فلهذا فُعِل.
ويحتج بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر عليًّا بأن يغسل أباه أبا طالب
وأمره بدفنه. وكان مات كافرًا (2). وقال مالك في ذمّي مات وليس معه أحد من
أهل دينه أنه يوارى فإن له ذمة. وقال في المسلم يموت أبوه الكافر لا يغسله
ولا يتبعه ولا يدفنه إلا أن يخشى أن يضيع فيواريه. قال أشهب ولا يستقبل به
متعمدًا قبلة أحد.
وقال ربيعة في المدونة في كافر بين مسلمين يوارونه ولا يستقبلون به القبلة
ولا قبلتهم. قال ابن القاسم وأشهب إن مات المسلم فلا يوكل إلى ابنه الكافر
في شيء من أمره من غسل ولا غيره. قال أشهب: فأما مسيره معه ودعاؤه له فلا
يمنع منه. قال مالك ولا يعزّى المسلم بأبيه الكافر لقوله تعالى: {مَا
لَكُمْ
__________
(1) سورة التوبة، الآية: 84.
(2) لم أجده.
(1/1132)
مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى
يُهَاجِرُوا} (1). فمنعهم الميراث وقد أسلموا حتى يهاجروا. وقال ابن حبيب
لا يحمل المسلم نعش الكافر ولا يحمل الكافر نعش المسلم. ولا بأس أن يقوم
على قبره وأن يحفره وأن يطرح عليه التراب. ولو مات لمسلم كافر يلزمه أمره
مثل الأبوين والأخ وشبه ذلك فلا بأس أن يحضره ويلي أمره ويكفنه حتى يخرجه
ويبرأ به إلى أهل ذمته. فإن كفي دفنه وأمن الضيعة عليه فلا يتبعه فإن خشي
ذلك فليتقدمهم إلى قبره. وإن لم يخش ضيعته وأحب أن يحضر دفنه فليتقدم أمام
جنازته معتزلًا منه، وممن يحمله. وقد روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
أذِن في ذلك أن يتقدم أمام جنازته (2). قال مالك إذا خشي عليها الضيعة
تقدمها ولا يدخلها قبرها إلا ألا يجد من يكفيه ذلك. وفي كتاب ابن سحنون
يعزى الذمي في وليه إن كان له جوار. يقال له أخلف الله لك المصيبة وجزاه
أفضل ما جوزي أحد من أهل دينه.
قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: والكفن والحنوط من رأس المال ويستحب في
الكفن الوتر والبياض. ويجوز فيه اللبيس. ويجوز في الحنوط المسك والكافور
وكل الطيب. ويُعتمد به مفاصله ومواضع السجود (3) منه.
قال الفقيه الإِمام رحمه الله: يتعلق بهذا الفصل ستة أسئلة: منها أن يقال:
1 - ما حكم الكفن؟.
2 - وما قدره؟.
3 - وما المختار منه؟.
4 - ومن يلزمه التكفين؟.
5 - وما حكم الحنوط؟.
6 - وهل يحنّط المحرم؟.
__________
(1) سورة الأنفال، الآية: 72.
(2) لم أجده.
(3) سجوده -غ- الغاني.
(1/1133)
فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: التكفين
عندنا واجب. وقد اشتهر في الشرع العمل به، ومضى المسلمون عليه. ولأن ستر
العورة واجب في حق الحي. وحرمة الميت كحرمة الحي. فإذا لم يمكنه سترها
سترناها نحن. وإذا ثبت وجوبه فإنه يقدم على حق الوارث وعلى حق الغريم
أيضًا. قال مالك في المختصر وغيره: والكفن والحنوط من رأس المال. قال
والرّهن أولى من الكفن والكفن أولى من الدين. قال طاوس في مؤنة الميت إن
كان له مال كثير، فمن رأس ماله. وإن كان قليلًا فمن ثلثه. قال .. (1).
الدليل على أن الكفن من رأس المال أن مصعب بن عمير قتل يوم أحد ولم يترك
إلا نمرة فكفن فيها (2).
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الذي وقص به بعيره: كفنوه في ثوبيه
اللذين مات فيهما (3) ولم يسأل عن قلته (4). وقياسًا على المفلس الحيّ فإنه
تقدم كسوته على ديونه.
وقال المخالف ما زاد على ستر العورة ليس بواجب. فكان من الثلث. ينتقض
بالحي. وأما تقدمة حق المرتهن فلأن الميت، وإن تعلق له حق بأن يكفن من
ماله، فإن ما رهنه من ثيابه قد تعلق به حق المرتهن قبل تعلق حق الميت
بالتكفين. ورضي الراهن بإسقاط حقه فيما رهنه حتى يفتكه. فلهذا قدّم
المرتهن. وأما تقدمة الكفن على الغريم فلأن الحي إذا فُلّس لم يكن للغرماء
نزع ثيابه عنه التي لا بدّ له منها. فإذا كان من حقه بقاء لباسه في حال
الحياة، وإن أفلس فكذلك في حال الموت.
فإذا ثبت وجوب التكفين فهل يتكرر وجوبه إذا تكررت الحاجة إليه بأن ينبش
فيسرق كفنه؟ فاختلف في ذلك. فقال مالك في المبسوط يتجدد له كفن.
وقال ابن القاسم في العتبية على ورثته أن يكفنوه من بقية تركته. فإن كان
عليه
__________
(1) هو بمقدار سطر.
(2) أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي والبيهقي من حديث
خباب بن الأرت. الهداية ج 4 ص 314.
(3) رواه البخاري. فتح الباري ج 3 ص 379 - 381. ورواه مسلم. إكمال الإكمال
ج 3 ص 319 - 320.
(4) هكذا ولعل الصواب تركته.
(1/1134)
دين محيط فالكفن الثاني أولى. قال أصبغ: لا
يلزم ورثته أن يكفنوه ثانية في بقية ماله إلا أن يشاؤوا ويحتسب فيه محتسب.
قال سحنون إذا كان بحِدْثان دفنه ولم يقسم ماله فليكفن ثانية من رأس ماله.
وإن كان قسم ماله فليس ذلك على ورثته، وإن كان أوصى بثلثه لم يجدّد كفنه من
ثلثه ولا غيره. قال سحنون أيضًا ليس على الورثة أن يكفنوه.
قال الشيخ أبو الحسن: لا بد من ستر عورته. وإذا خيف نبشه كانت حراسته من
رأس المال. قال أبو العلاء البصري لو نبش فأكله السبع وبقي كفنه لكان
للورثة. وإذا كان لهم ها هنا كان عليهم أن يعيدوا الكفن إذا سرق. فوجه
القول بإعادة التكفين أن الكفن من حقوق الميت متعلق بماله وإنما حق الورثة
فيما فضل عن ذلك .. (1). كان حق الميت في التكفين مقدمًا على حق الوارث ولم
يتعين حقه في كفن بعينه بل من حقه الستر من ماله وجب إعادة التكفين.
لأن حقه لم يكن معلقًا بذلك الكفن المسروق خاصة، حتى تكون مصيبته منه.
ووجه القول بسقوط إعادة التكفين أن حقه يقوم على الوارث بقدر الكفن. فإذا
كُفن فقد وصل إليه حقه وصار ما فضل عن ذلك يخلص للوارث، فلا يلزم أن يكفنه
من حق قد خلص إليه. وقد كان الميت قبض حقه منه فجائحته بعد القبض منه. ووجه
القول الثالث أن قسمة المال تمييز حق الوارث من حق الميت. فإذا يتميز
الحقان لم يلزم الوارث أن يكفن الميت من حق قد يتميز. ولو كان قد أوصى
بالثلث لم يلزم أيضًا إعادة كفنه. وإن كان الثلث على ملك الميت لم يخرج
لأنه بالقسمة قد خلص للموصى لهم وتميّز فلا يلزم التكفين منه بعد خلوصه
لأهله. وإذا كفن الميّت ثانية ثم وجد الكفن الأول فهو ميراث. قال محمَّد بن
عبد الحكم إلا أن يكون على الميت دين فيكون للغرماء.
والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: أما عدد ما يكفن فيه فقد قال عيسى في
شرح ابن مزين يجبر الغرماء والورثة على ثلاثة أثواب من مال الميت.
وإن قالوا تكون غليظة لم يكن ذلك لهم إذا كانت لا تشبهه. وهذا الذي قاله
__________
(1) كلمة ممحوة في الأصل. ولعلها وإذا.
(1/1135)
عيسى في جبر الغرماء على ثلاثة أثواب لا
يقتضيه النظر إلا أن تجري بذلك عادة يعلم أن الغرماء دخلوا عليها. فلعله
رأى أن العادة اطردت بذلك ففرضه له.
ولم يفرض له ما يترك حال الحياة في الفلس.
وفي المدونة أحبُّ إليّ أن يكفن الميت في ثلاثة أثواب إلا أن لا يوجد ذلك.
ويستحب أن يكون الكفن وترًا ثلاثًا أو خمسًا أو سبعًا. قال بعض أشياخنا لا
أرى أن يجاوز السبع لأنه في معنى السرف. قال مالك ليس في كفن الميت حدّ.
والوتر أحب إلينا ولا بأس أن يكفن الميت في غير ثوب. وهكذا عنه في المختصر
والمجموعة. وروى أيضًا عنه ثوبان أحبّ إلينا من ثوب. يعني أن الواحد وإن
كان وترًا فإنه يصف. والاثنان إذا كان شفعًا فهما أستر. وقال في المختصر
كفّن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ثلاثة أثواب. وكفّن النبي - صلى الله
عليه وسلم - الشهداء يوم أُحد اثنين في ثوب. وكفّن ابن عمر ابنه في خمسة
أثواب. وكفّن أبو بكر الصديق رضي الله عنه في ثوب فيه مشْق. وذكر أشهب أن
أبا بكر رضي الله عنه كفّن في ثوبين. وروى ابن القاسم عن مالك أنه كفّن في
ثلاثة. وقال أشهب لا يكفن رجلان في ثوب إلا من ضرورة وقال لا بأس بالكفن في
ثوب الرجل للمرأة.
ولا أحبّ أن يقصر في (1) ثوبين للرجل لمن وجد. لأن الثوب الواحد يصف ما
تحته قال ابن القاسم الوتر أحبّ إلى مالك في الكفن وإن لم يوجد للمرأة إلا
ثوبان لفّت فيهما. وكذلك من لم يبلغ من صبي أو صبية فالوتر أحب إلى مالك
فيه. قال أشهب وسحنون هذا فيمن راهق. وأما الصغير فالخرقة تكفيه. وإذا أوصى
أن يكفّن في سرف أو أوصى بمثل ذلك في حنوطه وإقباره فلا يجوز في رأس المال
إلا ما يجوز مثله لو لم يوص. قاله أشهب وابن القاسم. قال مالك لا يجوز من
ذلك إلا ما يكفّن فيه مثله. قال سحنون في الموصي أن يكفّن في سرف يجعل قدر
القصد في رأس ماله، والزائد في الثلث. قال ابن شعبان وقد قيل الزائد على
قدر .. (2). رأس المال وهو ممنوع من إخراجها منه. فهل يخرج الثلث أم لا إذا
كانت الوصية مما تجوز؛ وهذا فيه من التنازع ما يذكر في
__________
(1) هكذا. ولعل الصواب عن.
(2) هو بمقدار سطر.
(1/1136)
موضعه إن شاء الله تعالى. قال سحنون فيمن
أوصى أن يكفّن في ثوب واحد فزاد بعض الورثة ثوبًا آخر فذلك له ويجعل إذا
كان في التركة محمل ذلك. قال ابن شعبان إذا أوصى بشيء يسير في كفنه وحنوطه
لم يكن لبعض الورثة الزيادة بغير ممالاة من جميعهم. قال سحنون في غريب لا
يعرف له أهل مات عن دينار أو دينارين لا بأس في مثل هذا اليسير أن يجعل كله
في كفنه وحنوطه وقبره.
والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: خرّج مسلم أن النبي - صلى الله عليه
وسلم - أمران يحسّن كفن الميّت (1). قال ابن حنبل القصد في الكفن أحبّ إليّ
من المغالاة فيه. ورُوي ذلك عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. قال أشهب في
(2) الخلَق والجديد سواء. وليس على أحد غسله إذا لم يخف نجاسة، وواسع في
البرود.
والبياض أحب إلينا. قال ابن حبيب أحب إلى مالك في التكفين خمسة أثواب تعد
فيها العمامة والمئزر والقميص ويلف في ثوبين. وذلك في المرأة ألزم لأنها
تحتاج إلى مئزر وتشد بعصايب تشد من حقويها إلى ركبتيها ودرع وخمار وثوبين
تدرج فيهما. قال ابن حبيب وثوبان أحب إلينا من ثوب يعني لأنهما أستر.
وثلاثة أحب إلينا من أربعة يعني لكونها وترًا. قال ابن شعبان والمرأة في
عدة أثواب الكفن أكثر من الرجال. وأقله لها خمسة وأكثره سبعة. ولا ينقص
الرجل الذي يجد من ثلاثة. ويكفن في مثل هيئته في حياته إن تشاح الورثة.
وهذا الذي أشار ابن شعبان من اعتبار حال هيئته عند تشاح الورثة ظاهره خلاف
ما كنا قدمناه في السؤال الذي قدمنا قبل هذا عن عيسى من إجباره الورثة على
ثلاثة أبواب. قال ابن حبيب: ويستحب للرجل أن يوصى أن يكفن في أثوابه التي
شهد فيها الجماعات والصلوات. وثوبي إحرامه إن حج رجاء بركة ذلك فقد أعطى
النبي - صلى الله عليه وسلم - في ابنته حقوه (3). وقال أشعرنها إياه.
وأعطى ثوبه الذي يلي جلده إلى ولد عبد الله بن أبي بن سلول يكفّن فيه
__________
(1) رواه مسلم. إكمال الأكمال ج 3 ص 82.
(2) هكذا في النسخة ولعل الصواب حذفها.
(3) أخرجه البخاري ومسلم. وتقدم تخريجه.
(1/1137)
أباه (1). وأوصى سعد بن أبي وقاص أن يكفّن
في جبة صوف شهد فيها بدرًا.
والعلماء يحبون البياض في الكفن والحَبَر مستحب لمن قوي عليه. ورُوي نحوه
للنبي - صلى الله عليه وسلم - ورُوي أنه - صلى الله عليه وسلم - كفن في
ثلاثة أثواب فقيل إنها بيض. وقيل إن أحدها حبرة. والمستحب في لون الكفن
البياض. وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: البسوا البياض وكفنوا فيه موتاكم
فإنها من خير ثيابكم (2). واختلف المذهب في المعصفر فكرهه في المدونة لأنه
تغيير لون بما ليس بطيب. قال عنه ابن وهب: كره التكفين في الخزّ والمعصفر
إلا أن لا يوجد غيره. قال عنه ابن القاسم في الرجل والمرأة قال عنه علي لا
بأس بالمعصفر والمزعفر للرجال والنساء. وقد كُفن أبو بكر رضي الله عنه في
ثوب مصبوغ أمرهم بغسله. فإما أن يكون أراد بغسله تطهيره أو ذهاب لونه.
وأما الكفن في الحرير فكرهه في المدونة في الأكفان. وظاهره أنه كرهه للرجال
والنساء. وكأنه رأى، أنه وإن كان جائزًا للنساء حال الحياة، فإنه إنما جاز
لموضع الزينة. وذلك المعنى معدوم حال الموت ويصير من ناحية السرف لأن مصيره
إلى المهنة والصديد. وفي سماع ابن وهب قيل لمالك فالرجل الميت يكفن في
الثوب فيه الحرير قال ما يعجبني فإن فعل فأرجو أن يكون في سعة. فكأنه
أشارها هنا إلى خفة الكراهة للرجال حال الموت لمّا كانت العبادة ساقطة
بالموت. وفرّق ابن حبيب بين الرجال والنساء. فأجازه للنساء خاصة.
ولا بأس أن تكفّن المرأة في الحرير والخزّ والمعصفر المفدم، (3) وما جاز
لها لبسه. وللرجل لبسه في الحياة، فالكفن له أولها فيه مباح ما لم يُرد
بذلك السمعة والنفخ (4) لأنه ليس في محل ذلك. قال ابن القاسم في العتبية
تكفّن المرأة في الورس والزعفران. وكره مالك المعصفر إن وجد غيره. وأما
العلم
__________
(1) أخرجه البخاري ومسلم. فتح الباري ج 9 ص 403. وأخرجه أحمد والترمذي
والنسائي والحاكم. فتح القدير ج 2 ص 155.
(2) رواه ابن ماجة وأحمد.
(3) الثوب المصبوغ بالأحمر صبغًا مُشبعًا.
(4) الكبر: لسان العرب ج 3 ص 64.
(1/1138)
الحرير ففي المجموعة لا يكره العلم الحرير
في الكفن. قال أصبغ في العتبية لا يكفن في الحرير رجل ولا إمرأة إلا أن لا
يوجد غيره ولا يلبس الرجل ما سداه حرير، وإن كان قلنسوة. ويحنث بلباسها
الحالف ألا يلبس حريرًا. وقال ابن حبيب لا بأس في كفن الرجل بالعلم الحرير.
وأما الخزّ فقال مالك في المدونة يكره في أكفان الرجال والنساء الخزّ
والمعصفر. وقد سمعت عنه أنه يَكره الحرير محضًا في الأكفان. قال ابن القاسم
وكذلك الخزّ لأن سداه الحرير. فقال مالك لا يكفّن فيه إلا أن يضطر إليه.
وعنه في المجموعة أنه كره التكفين فيه إلا أن يوجد غيره. قال عنه ابن
القاسم في الرجل والمرأة. قال بعض أشياخنا الخزّ الذي يعمل الآن بالأندلس
داخل في جملة الحرير لأن سداه وطعمته حرير وليس كالذي يعمل بالمشرق. وقال
عبد الوهاب يجوز لباس الخز وقد لبسه السلف وكرهه مالك لأجل السرف.
وأما تعميم الميت فقال في المدونة: والرجل أحب إليّ أن يُعمم. قال فقلت له
كيف يعمم أكما يعمم الحي؟ قال: لا أدري. إلا أنه من شأن الميت عندنا أن
يعمم. وحكى عنه ابن شعبان في مختصره: ويعمم الميت من الرجال، والنساء
يخمرن. وهكذا قال ابن حبيب استحب مالك أن يعمم الميت وتخمر الميتة. قال
مطرف ... (1) ويكون منها قدر ذراع يغطي بها وجهه. وكذلك يترك من خمار
الميتة لذلك. وقيل لابن القاسم في العتبية أيجعل في الكفن عمامة أو قميص
ويؤزر الميت؟ قال أحب إليّ في كفن الميت ثلاثة أثواب لا يُجعل فيها قميص
ولا عمامة ولا مئزر. ولكن يدرج فيهن إدراجًا. وكذلك كفن النبي - صلى الله
عليه وسلم -. وأما تقميص الميت فقد استحب مالك في هذا الذي نقلناه عنه أن
لا يقمص.
وفي الواضحة أنه يقمص. وقد قدمنا قول ابن حبيب أحب إلى مالك في الكفن خمسة
أثواب تُعد فيها العمامة والمئزر والقميص. وباستحباب تقميصه قال أبو حنيفة.
وحكى ابن القصار عن مالك والشافعي أنه مكروه. ورأيت بعض أصحاب الشافعي
يعبّر عن مذهبهم بأنه لا يستحب القميص ولا العمامة للميت.
وهذه العبارة إنما تتضمن نفي الاستحباب لا الكراهة. فدليل الكراهة قول
عائشة
__________
(1) ممحو بمقدار ثماني كلمات.
(1/1139)
رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه
وسلم -: كفّن في ثلاثة أثواب سحولية ليس فيها قميص ولا عمامة (1). ولأن
أفضل أحوال الحي حالة الإحرام لا يلبس المخيط فينبغي أن يشته الميت به في
اللباس. ولأن القميص إنما يُراد للزينة والحرمة والميت ليس من أهل ذلك فليس
في تقميصه فائدة. واحتج من يستحب بما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
كفن في قميصه (2). وانفصل عنه الآخرون بأن رواية عائشة رضي الله عنها أولى
لأنها أعلم بهذا. وأيضًا فيمكن أن يكون قد فتق القميص حتى صار كالرداء.
قال بعض أشياخنا لا يقتصر في الكفن على قميص دون المدرج.
والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: إذا كان الميت لا مال له ولا لهُ من
تلزمه نفقته فكفنه في بيت المال. وإن تعذر الوصول إلى بيت المال فكفنه على
جميع المسلمين. وإن كان الميت مليًّا فكفنه من ماله إذ لا يلزم أحد أن ينفق
عليه إذا كان ذا مال، إلا أن يكون الميت زوجة فإن المذهب اختلف فيها. فإن
كان تلزم الزوج نفقتها في ملئها فقال مالك يقضي على الزوج بتكفينها وإن
كانت ملية. ورُوي عنه أيضًا أنها إن كانت مليّة. فذلك في مالها، وأن يلزم
الزوج إذا كانت فقيرة. وقيل ليس على زوجها تكفينها وإن كانت فقيرة قاله
سحنون.
وروي عنه أيضًا أنه استحسن أن يكفنها الزوج إن كانت فقيرة. واختلف أصحاب
الشافعي في ذلك فقال بعضهم كفن المرأة في مالها وبه قال أبو حنيفة وأحمد بن
حنبل. وقال بعضهم بل في مال الزوج فيحتج من أسقط الكفن عن الزوج بأن النفقة
في مقابلة التمكين من الاستمتاع وذلك يزول بالموت.
وأما العبد فإنه يلزم سيده أن يكفنه، وإن كان قد سقط الملك بالموت. لأن ذلك
من الحقوق التابعة للملك وقد كان الملك، فوجب الإنفاق. فهذا الحكم ينسحب
على العبد حال الموت حتى تنقضي المؤن اللازمة في الميت. وبهذا المعنى يقدح
فيما قدمنا بتعليل من علل سقوط الكفن عن الزوج بسقوط التمكين من الاستمتاع.
__________
(1) البخاري ج 2 ص 95/ 96 ومسلم ح رقم 941 ج 2 ص 649.
(2) أخرجه أبو داود وابن ماجة وفي إسناده يزيد بن أبي زياد. أخرجه مسلم في
المتابعات.
وقال غير واحد من الأئمة إنه لا يحتج بحديثه. نصب الراية ج 1 ص 261.ومختصر
المنذري ح 3024.
(1/1140)
لأن النفقة تجب للعبد بحق الملك ثم الملك
يزول بالموت. ومع هذا لم تزل عن السيد المطالبة بالكفن.
وأما من يلزم الإنفاق من الأقارب كالولد والأب فاختلف المذهب في تكفينهم هل
يتْبع وجوب الانفاق عليهم أو لا؟ فقيل ذلك تابع للانفاق. وإلى هذا ذهب ابن
الماجشون. وإليه نحا ابن القاسم. وقيل لا يتبع ذلك الانفاق. وقال أصبغ لا
يلزمه ذلك إلا في عبيده. وصوّب ابن حبيب القول الأول. واعتل بأنه كما لا
ينقطع حقه بموته من ماله في كفن نفسه، فكذلك في حق من تلزمه نفقته إذا
ماتوا. وقال سحنون لا يلزم التكفين إلا في عبيده وإن كانوا كُفارًا. هذا في
القياس. وأما في الاستحسان فيلزمه في الولد الصغار وللبنات الأبكار، وأما
الزوجة والأبوان فلا.
وجميع ما قدمناه في الكفن بحكم الإنفاق في محل الدفن حتى يوارى كحكمه.
والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: ذكر ابن حبيب في الواضحة ونحوه لأشهب
في المجموعة أن الميت عند فراغ غسده ينشّف بدنه في ثوب وعورته مستورة. وقد
أجمرت ثيابه قبل ذلك وترًا. فإن أجمرت شفعًا فلا حرج (1) ثم يبسط الثوب
الأعلى. فقال أشهب اللفافة التي هي أوسع أكفانه ثم الأوسع فالأوسع من
باقيها. قال ابن حبيب فيُذرّ على الأول من الحنوط ثم على الذي يليه. هكذا
إلى أن يلي جسده فيُذّر عليه أيضًا. قال أشهب وإن جعل الحنوط في لحيته
ورأسه والكافور فواسع. قال ابن حبيب ثم يجعل الكافور على مساجده من وجهه
وكفيه وركبتيه وقدميه ويجعل منه في عينيه وفي فمه وأذنيه ومرفقيه وإبطيه
ورفغيه. وعلى القطن الذي يجعل بين فخذيه لئلا يسيل منه شيء ويشد بخرقة إلى
حجزة مئزره. وهذا الذي قاله ابن حبيب من جعل الكافور على مساجده لعله خصها
بذلك إكرامًا لها لما كانت هي الأعضاء المتقرب بها إلى الله سبحانه. فمواضع
الحنوط خمسة على ظاهر جسد الميت، وفيما بين أكفانه لا فوق كفنه وعلى مساجده
السبع الجبهة والأنف والركبتين وأطراف أصابع الرجلين ذكره في شرح ابن مزين.
وفي منافذ الوجه التسعة العينين والأذنين والفم والمنخرين وفي المغابن وفي
الأرفاغ وهو كل موضع
__________
(1) كلمة ممحوة والأقرب للصواب ما أثبتناه.
(1/1141)
يجتمع فيه نحو الإبطين ومراجع الركبتين وهي
المغابن. وهو قول عطاء. فإن لم يحمل جميع هذه المواضع الخمس، فالبداية عند
ابن القاسم بالمساجد السبع ذكره عنه ابن مزين. فان كثر فعلى جسده وبين
الأكفان. ولم يزد على ذلك.
قال سحنون ويسدّ دبره بقطنة فيها ذريرة ويبالغ فيه برفق. قال ابن حبيب وتسد
مسام رأسه بقطن عليه كافور نحو أذنيه ومنخريه، ثم يعطف بالثوب الذي يلي
جسده بضم الأيمن إلى الأيسر ثم الأيمن عليه. كما يلتحف في حياته. وقاله
أشهب في المجموعة. قال وإن عطف الأيمن أو لا فلا بأس ويفعل هكذا في كل ثوب.
ويجعل عليه الحنوط إلا الثوب الأخير فلا يجعل على ظاهر كفنه حنوط ثم يشد
الثوب عند رأسه وعند رجليه. فإذا ألحدته في القبر حللته. قال أشهب إن تركت
عقده فلا بأس ما لم تنبتر أكفانه. وفي كتاب ابن شعبان ويخاط الكفن على
الميت ولا يترك بغير خياطة. قال أشهب في المجموعة: وتكفن المرأة نحو ذلك
وليُغط رأسها كما يُغطّى بالدفن. قال مالك ولا بأس أن يحنّط بالمسك
والعنبر، وما يتطيب الحي. ولْيَل تحنيط المحرم وغيره محرم (1). وليغط رأسه
كما يغطى بالدفن. قال ابن شعبان في مختصره: أجمع الناس أنه لا بأس أن يعني
بالمسك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يم حنط به. وأوصى به علي ابن أبي
طالب في حنوطه (2) ولم يكرهه أحد غير الحسن وعطاء ومجاهد. وأجازه للمحرم من
أجاز تحنيطه.
والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: مذهبنا ومذهب أبي حنيفة والأوزاعي أن
الموت يقطع حكم الإحرام فيخمر رأس الميت ويطيب وبه قال ابن عمر وعائشة رضي
الله عنهما. وقال الشافعي لا ينقطع حكم الإحرام بالموت فلا يلبس المخيط ولا
تشد عليه أكفانه ولا يخمّر رأسه ولا يطيب. روي ذلك عن عثمان وعلي وابن عباس
رضي الله عنهم. فدليلنا قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: خمّروا وجوه
__________
(1) هكذا ولعل الصواب غير محرم.
(2) عن أبي وائل قال كان عند علي رضي الله عنه مسك فأوصى أن يحنّط به. وقال
هو فضل حنوط رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. أخرجه الحاكم وابن أبي شيبة
والبيهقي. قال النووي حسن.
نصب الراية ج 1ص 259.
(1/1142)
موتاكم ولا تشبهوا باليهود (1). وهذا على
عمومه. ولأن الميت انقطع التكليف عنه وتكليفه لا يصح فلا معنى لبقاء حكم
الإحرام لانقطاع التكليف. وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إذا مات
الميت انقطع عمله إلا من ثلاث (2). ذكرها ولم يذكر فيها الإحرام. وهذا
تنبيه على صحة ما قال من انقطاع حكم العمل. مع أن ظاهر الحديث يوجب انقطاع
حكم الإحرام بعموم ما ذكر فيه من الانقطاع سوى ما استثناه. ألا ترى أن
المحرم إذا مات لا يطاف به ولا يفعل بجسده مناسك الحج. وإنما ذلك لاستحالة
تكليفه وانقطاع العبادة عنه. فإذا لم يفعل به مناسك الحج دل ذلك على سقوط
حكم الإحرام. وقد نبهت عائشة رضي الله عنها على ذلك فقالت: إنما هو جسد
فاصنعوا بالمحرم كما تصنعون بموتاكم. فأما المخالف فإنه يستدل بما روي أن
محرمًا خرّ من بعير فوقص فمات. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه اللذين مات فيهما ولا تمسوه طيبًا ولا
تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيًا (3). وأجيب عن هذا بأن النبي -
صلى الله عليه وسلم - ذكر في هذا معنى أشار به إلى أنه هو العلة في أن لا
يطيب ولا يخمر رأسه. وهذا المعنى هو من الغيوب التي لا نعلمها نحن فيما سوى
هذا المحرم فنقيس سائر المحرمين عليه. وإن كان النبي - صلى الله عليه وسلم
- أوحى إليه بأن هذا المحرم يبعث ملبيًا. فمن أين نعلم نحن أن غيره من
المحرمين يبعث كذلك.
ولا يمكن جزم القول بأن مراده - صلى الله عليه وسلم - أنه يبعث ملبيًا لأجل
إحرامه. فيكون كل محرم يبعث ملبيًا لمشاركته هذا في الإحرام. لأنه يمكن أن
يكون خص هذا المحرم بذلك إكرامًا له وتشريفًا. وإذا احتمل ذلك، لم يكن جعل
الإحرام علمًا على البعثة ملبيًا في حق كل محرم. وقد اعتمدت الشافعية على
أن الإحرام لما كان من العبادات التي يدخل الإنسان فيها بفعله وبفعل غيره
لم تبطل بالموت كالإيمان. ألا ترى أن الإيمان يحكم به للولد بإيمان أبيه.
فلا ينقطع حكم
__________
(1) رواه الطبراني في الكبير بسنده لابن عباس ورجال ثقاة. مجمع الزوائد ج 3
ص 25.
(2) رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي. إكمال الإكمال ج 4 ص 154
ومختصر المنذري ج 4 ص 216.
(3) رواه البخاري في باب الصيد ح 20/ 21. وفي الجنائز 19/ 20. ورواه مسلم
في باب الحج ح 93/ 94. كما رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة
والدارمي وأحمد.
(1/1143)
الإيمان عن الصبي بموته. فكذلك الإحرام لما
كان يدخل الصبي فيه بإحرام وليه لم ينقطع بالموت. ولا يُقاس الإحرام على
غيره من العبادات. وهذا الذي قالوه يرده ما قدمنا الإشارة إليه من أن حكم
الإحرام لو بقي بعد الموت ولم ينقطع لأجل كونه عبادة يدخل فيها بفعل غيره،
لوجب أن يطاف بالميت ويسعى كما يطاف بالصبي ويسعى. فلما أجمع على أن الميت
لا يفعل به ذلك دلّ على انقطاع حكم الإحرام، وأشعر بفساد ما قالوه. وأما
الأحكام المتعلقة بالصبي بعد الموت فإنما هي عبادات تعبدنا نحن بها أن نفعل
به ما كنا نفعل بأبيه.
قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: الصلاة على الميت واجبة وهي من فروض
الكفايات لا تجزي إلا بطهارة كسائر الصلوات.
قال الفقيه الإِمام رحمه الله: يتعلق بهذا الفصل سؤالان: وهما أن يقال:
1 - ما الدليل على أنها واجبة من فروض الكفايات؟.
2 - ولمَ نبّه على افتقارها إلى الطهارة؟.
فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: أما مالك فقد قال الشيخ أبو الحسن بن
القابسي رحمه الله لم أجد له فيها نصًا. وحكى ابن الجلاب أن مالكًا قال:
انها واحمة وأما ................. (1). وقد قال الشيخ أبو الحسن ابن
القابسي قوله فيمن تيمم لمكتوبة فصلاها أنه يتنفل بذلك التيمم ويصلي به على
الجنازة يقتضي أن صلاة الجنازة غير واجبة. لأن مالكًا والجماعة لم يروا
الجمع بين فريضتين بتيمم واحد. وقال غيره من المتأخرين قوله في المدونة في
باب سجود القرآن: ألا ترى أن الجنازة يُصلى عليها بعد العصر ما لم تصفر
الشمس، يقتضي أنها ليست بواجبة لإلحاقه إياها بسجود القرآن. وأنكر بعض
الأشياخ هذا الاستنباط. وتال إن القائلين بوجوب صلاة الجنازة لا يرونها
فرضًا على الأعيان وإنما يرونها فرضًا على الكفاية فليست بواجبة في حق كل
أحد.
فلما صارت ساقطة في حق كل أحد إذا قام بها من يكفي ألحقت بالنوافل في جواز
صلاتها بتيمم الفريضة وجوازها في الوقت المشار إليه. وهذا يمنع من
__________
(1) هو بمقدار سطر ونصف.
(1/1144)
استنباط ما يستنبطه الآخرون. لا سيما وقد
قيل في المذهب بجواز الجمع بين صلاتين بتيمم واحد. وهذا الكلام على ما يضاف
إلى مالك نصًا واستنباطًا.
وأما أصحابه فإنهم اختلفوا فقال أشهب واجب على الناس الصلاة على موتاهم.
وحكى ابن المواز عن ابن عبد الحكم أنه قال: هي فرض وتلا قول الله تعالى:
{وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} (1). وقال سحنون يعني
فرضًا يحملها بعضهم عن بعض، فمن حضرها قام به فإن لم يحضروا جميعًا كانوا
تاركين للفرض. وقال أصبغ الصلاة على الموتى سنة واجبة. ونقل بعض المتأخرين
في تصنيفه عن أصبغ أنه قال: إنها سنة ولم ينقل عنه واجبة. وقد استدل ابن
عبد الحكم على الوجوب بما حكيناه عنه من إشارته إلى الاعتماد على قوله
تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} الآية. وتعقب
عليه الاستدلال أبو الحسن اللخمي فقال هذا: النهي عن الشيء أمر بضده إن كان
له أضداد. فضد المنع من الصلاة على المنافقين إباحة الصلاة على المؤمنين
والندبُ والوجوب، فليس لنا أن تحمل الآية على الوجوب دون الإباحة والندب،
إلا أنه لم تختلف الأمة أن الناس مأخوذون بالصلاة على موتاهم وأنهم لا
يسعهم ترك ذلك. وهذا الذي قاله رحمه الله هفوة لا يقع فيها حاذق بعلم
الأصول. وإن كان رحمه الله ليس بخائض في علم الأصول. ولكن تعلق بحفظه منها
ألفاظ ربما صرفها في غير مواضعها. ولقد كنت خاطبته على مواضع منها رأيته
انحرف فيها عن أغراض أهلها فربما أظهر قبولًا لذلك، وربما استثقله.
ولقد جمع في هذا الكلام بين حقائق مختلفة ساقها مساق الحقيقة الواحدة. فقال
النهي عن الشيء أمر بضده إذا كان ضدًا واحدًا وليس كذلك إذا كان ذا أضداد.
وقد صدق فيما قال لأنه إذا كان ضد واحد، وكان الخطاب أمرًا، كان ذلك نهيًا
تعين الأمر في الضد الواحد وإن كان ذا أضداد كان الأمر بواحد منها لا
بعينه. ولكنه مثل الضد الواحد بالفطر والصوم. فلما كان الفطر والصوم ضدين
كان الأمر بأحدهما نهيًا عن الآخر والنهي عن أحدهما هو الأمر بالآخر. ومثل
ذي الأضداد يكون النهي عن الشيء ضده الإباحة، لذلك الشيء أو الندب إليه أو
__________
(1) سورة التوبة، الآية: 84.
(1/1145)
الوجوب له. فأنت تراه كيف مثل الأضداد مرة
بالأفعال المأمور بها، ومرة بنفس الأوامر والنواهي. وليس هو سياقة الحاذق
بالأصول ولكن مقصده مفهوم.
وتحقيق العبارة عنه أن تقول أن الأمر بالشيء نهي عن ضده إذا كان ذا ضد واحد
وعن سائر أضداده إذا كان ذا أضداد. والنهي عن الشيء أمر بضده إذا كان ذا ضد
واحد. وبأحد أضداده إذا كان ذا أضداد. فالنهي عن الصلاة على الكفار أمر
بأحد التروك المضادة للصلاة عليهم لأن الصلاة عليهم ترك لأمور كثيرة تكون
كلها أضدادًا للصلاة عليهم. واحد هذه الأضداد الصلاة على المؤمنين لأنا
إنما نجعل النهي عن الشيء أمرًا بأحد أضداده لا بعينه. فلا يمكن مع هذا
تعيين الأمر بالصلاة على المؤمنين لأجل هذا النهي. فأنت ترى كون الأمر
بالشيء نهيا عن ضده لا مدخل له في الاستدلال على هذه المسألة، ولكن إنما
سلك فيها إجراءها على باب دليل الخطاب، وهكذا افتتح الشيخ أبو محمَّد في
نوادره باب وجوب الصلاة على الجنازة. فقال اختلف في الصلاة على الجنازة.
فقيل فريضة يحملها من قام بها لقول الله تعالى،: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى
أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا}.
فدل ذلك أنه مأمور بالصلاة على غيرهم. وقاله غير واحد من أصحابنا
البغداديين. وهذا الذي قاله الشيخ أبو محمَّد. وأشار إلى أنه قول جماعة من
البغداديين طريقة يحسن أن تسلك. ولكن أيضًا تفتقر إلى تحرير. والذي أشار
إليه أبو الحسن اللخمي ولكن لم يسقه مساقه ولم تبلغه نهايته. وبيانه أن
الله سبحانه إذا قال: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا
وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ
وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} (1). فهذا الخطاب يدل على أن المؤمنين بخلاف
الكافرين لأنه إذا قال: لا تصلّ على الكافرين لكفرهم دل على أن المؤمنين
بخلافهم لا ينهى عن الصلاة عليهم ولكن إذا لم ينه عن الصلاة عليهم فما يكون
حكم الصلاة عليهم؟ يمكن أن تكون الصلاة عليهم مباحة أو مندوبة أو واجبة.
لأن هذه الثلاثة أحكام كل واحد منها مخالف للنهي ويحصل بإثباته دليل الخطاب
فلا يتعين في الدليل الأمر كما أشار إليه الشيخ أبو محمَّد والبغداديون
أيضًا. وهذا الذي أشار إليه أبو الحسن أن ينبه عليه ولكنه ساقه
__________
(1) سورة التربة، الآية: 84.
(1/1146)
مساقًا متنافرًا كما نبهنا عليه، ولكن
للشيخ أبي محمَّد أن يقول الإباحة، وإن كانت أحد أضداد النهي. ويصح حمل
دليل الخطاب عليها فإن الإجماع قد منع من ذلك إذ لم يقل أحدٌ أن الصلاة على
المؤمنين مباحة. فإذا امتنع تقدير هذا القسم بالاتفاق انحصر دليل الخطاب في
الندب والوجوب وكلاهما مأمور به فاسْتَتَبَّ المراد. وهذا نهاية ما يقال في
هذه الآية. وتحرير كلام من تكلم عليها من المتأخرين مع أنا لا نُخْلي كلام
الشيخ أبي محمَّد من تعقب عليه. وذلك لأن الإباحة إذا ارتفعت بالاتفاق لم
تحسن الإشارة إلى أنها ارتفعت بحكم دليل على حسب ما اقتضاه كلامه. وأيضًا
فإن مراده أن دليل الخطاب يقتضي وجوبها.
وقد قدمنا أن الدليل متردد بين الوجوب والندب، إلا أن يقول بأن النهي لا
دليل له إلا الأمر خاصة ولا يكون دليله الإباحة، كما أراد الشيخ أبو الحسن
ونبه عليه. وقد ثبت أن النهي ها هنا على التحريم فليكن دليله أمرًا على
الوجوب.
وهذا يفتقر إلى نظر آخر في أحكام دليل الخطاب وحقيقته عند مثبته وأحكام
الإباحة والنواهي وغير ذلك مما لا يمكن بسطه. ولكن قد أوردنا ما يتعلق
بكلام هذين الرجلين وكررنا عليهما ما قالاه. وقد يستدل على الوجوب بما وقع
في ذلك من أوامر وأفعال على القول بإفادة ظواهر هذه الأشياء للوجوب. وقد
استدل بعض أصحابنا على نفي الوجوب بأن صلاة الجنازة ركن من أركان الصلاة
فليس ما انفرد، واجبًا قياسًا على سجود التلاوة (1).
والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال أيضًا: نبّه على افتقار صلاة الجنازة
إلى طهارة لما في ذلك من الخلاف. فقد ذهب الشافعي والطبري إلى أنها لا
تفتقر إلى طهارة لما رأياها لا ركوع فيها ولا سجود. فكأنهما استشعرا من عدم
الركوع والسجود كونها خارجة عن الصلاة، وإذا خرجت عن الصلاة لم تفتقر إلى
طهارة. لأن الشرع إنما جاء باشتراط الطهارة في الصلوات، والمقصود من صلاة
الجنازة الدعاء. ولأجله شرعت، والدعاء لا يفتقر إلى طهارة. ودليل أئمة
الأمصار على افتقارها إلى طهارة أن الشرع أمر بالطهارة للصلاة. قال الله
تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا} (2). وقال - صلى
الله عليه وسلم -: لا
__________
(1) هكذا والكلام غير واضح.
(2) سورة المائدة، الآية: 6.
(1/1147)
صلاة إلا بطهور (1). وصلاة الجنازة لا شك
في تسميتها صلاة وذلك في الشرع أكثر من أن يحتاج إلى الاستشهاد. قال الله
تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} (2). ووقع في
الآثار من إطلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - اسم الصلاة عليها ما لا
يخفى. وكذلك يقول الصحابة صلّى على فلان وصَلِّ على فلان. وإذا ثبت تسميتها
صلاة دخلت فيما قدمناه من العمومات والظواهر. وأيضًا فإنها تفتقر إلى تكبير
وتسليم واستقبال قبلة. فلو كان لها حكم الدعاء المحض لم تفتقر إلى
تكبيروتسليم، واستقبال قبلة.
قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: يكبّر فيها أربع تكبيرات يدعو بين
التكبيرات من غير قراءة بأم (3) القرآن ولا غيرها , وليس فيها إلا الاجتهاد
في الدعاء (4).
قال الفقيه الإِمام رحمه الله: يتعلق بهذا الفصل ستة أسئلة. منها أن يقال:
1 - ما الدليل على أن التكبير أربع؟.
2 - وهل يُتابَع الإِمام إذا زاد عليه؟.
3 - وهل يقرأ بأم القرآن أم لا؟.
4 - وهل الدعاء محدود أم لا؟.
5 - وهل ينتظر من فاته تكبير الإِمام أم لا؟.
6 - وكيف صفة نقل الميت إلى الصلاة؟.
فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: اختلف الناس في عدد التكبيرات لصلاة
الجنازة. فالمشهور من مذاهب العلماء أربع تكبيرات. وبه قال من الصحابة عمر
بن الخطاب، وابنه، وزيد بن ثابت، وجابر، وأبو هريرة والبراء وغيرهم رضي
الله عنهم. وقال ابن عباس وأنس بن مالك رضي الله عنهما يكبّر
__________
(1) تقدم تخريجه.
(2) سورة التوبة، الآية: 84.
(3) أم -و-.
(4) بالدعاء - الغاني.
(1/1148)
ثلاثًا وهو قول جابر بن زيد وابن سيرين.
قال ابن سيرين: إنما كان التكبير ثلاثًا فزادوا واحدة. وقال ابن مسعود كبّر
النبي - صلى الله عليه وسلم - تسعًا وسبعًا وخمسًا وأربعًا فكبّروا ما كبّر
الإِمام (1).
وقال الحسن ما كبّر الإِمام ولا يزاد على سبع. وقال زيد بن أرقم وحذيفة بن
اليمان يكبّر خمسًا. وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كبّر على
أبي قتادة سبعًا وكان بدريًا وكبّر على سهل بن حنيف ستًا وكان بدريًا ورُوي
عنه أنه يكبر على أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - خمسًا وعلى سائر
الناس أربعًا. وقال أحمد لا ينقص من أربع ولا يزاد على سبع. وقال بكر بن
عبد الله لا يزاد على سبع ولا ينقص من ثلاث ودليلنا الحديث الثابت في صلاته
- صلى الله عليه وسلم - على النجاشي قال: فخرج والناس معه إلى المصلى فصف
بهم وكبّر عليه أربع تكبيرات (2). وروي عنه - صلى الله عليه وسلم -: أنه
كبّر على عثمان بن مظعون أربع تكبيرات (3).
وروى جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الملائكة صلّت على آدم
فكبّرت أربعًا وقالت هذه سنتكم يا بني آدم (4)؟. والتعلق بما رواه مسلم عن
زيد بن أرقم أنه كبّر على جنازة خمسًا (5). فقيل له! فقال: كان - صلى الله
عليه وسلم - يكبّرها لكثرة رواتها وأنها متأخرة. وقد قال عبد العزيز ابن
أبي سلمة كل تكبيرة من صلاة الجنازة كركعة من الصلاة وأكبر الفرائض أربع
ركعات فاختار على الجنازة أربع تكبيرات. وقال ابن حبيب وغيره قد كبّر النبي
- صلى الله عليه وسلم - على النجاشي أربعًا. وكذلك على قبر
__________
(1) روى ابن عبد البر في الاستذكار عن أبي خيثم عن أبيه قال كان النبي -
صلى الله عليه وسلم - يكبّر على الجنائز أربعًا وخمسًا وستًا وسعًا. وعن
عبد الله بن الحارث قال: صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على حمزة
فكبّر عليه تسعًا ثم جيء بالأخرى فكبّر عليها سبعًا. ثم جيء بالأخرى فكبّر
عليها خمسًا حتى فرغ منهن. غير أنهن كنّ وترًا. ابن أبي شيبة ج 2 ص 497.
(2) أخرجه البخاري ومسلم. الهداية ج 4 ص 328. وأخرجه أحمد. الفتح الرباني ج
6 ص 229.
(3) أخرجه الحاكم بسنده إلى ابن عباس. وكذلك الدارقطني. وفي سنده ابن
السائب متروك. نصب الراية ج 2 ص 267.
(4).
(5) أخرجه مسلم والبيهقي والأربعة. بلوغ الأماني ج 7 ص 230. وعارضة الأحوذي
ج 4 ص 239.
(1/1149)
السوداء (1) ثم استقر فعله على أربع ومضى
به عمل الصحابة رضي الله عنهم.
والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: أما الإِمام فإنه إذا نقص من الأربع
تكبيرات لم تصح صلاته. فإذا انفصل عن الصلاة على ثلاث تكبيرات، وبَعُد ذلك
أعاد الصلاة. وكان ما ذكرناه من الخلاف في كون التكبير ثلاثًا شاذ لا
يراعى. قال ابن حبيب: إذا ترك بعض التكبير جهلًا أو نسيانًا، فإن كان بقرب
ما رفعت أنزلت فأتم ببقية التكبير مع الناس ثم سلم. وإن تطاول ذلك لم تدفن
(2) ابتدأ عليها الصلاة. وإذا دفنت تركت ولم تكشف. ولا تعاد الصلاة عليها.
ولمالك في العتبية نحوه.
وأما إن زاد الإِمام في التكبير فكبّر خمسًا فإنه وإن أخطأ، فالصلاة جائزة
ولكن لا يتابعه المأموم في الزيادة لأنها ليست بصواب. وقال أحمد وإسحاق
يتابعه إلى سبع. فإذا ثبت أنه لا يتابعه لما قلناه فهل يقطع المأموم أو
ينتظره حتى يسقم فيسلم بسلامه؟ اختلف قول مالك في ذلك فقال يقطع المأموم
بعد الرابعة واختاره ابن القاسم. وقال أيضًا: يسكت فإذا كبّر الخامسة سلّم
بسلامه واختاره أشهب ومطرف وابن الماجشون. وبالقول الأول قال أبو حنيفة.
وبالثاني قال الشافعي.
فوجه القول بالقطع أن الإِمام إذا خرج من الرابعة إلى الخامسة فقد خرج من
الصواب إلى الخطإ. فإذا لم تجب متابعته على الخطإ أشعر ذلك بخروجه عن حكم
الإمامة لأن المأموم إنما يُراد ليتابع، وإذا خرج عن حكم الإمامة لم يلزم
المأموم انتظار من ليس بإمام له. ووجه القول بأنه ينتظره أنه بقي من هذه
الصلاة ركن من أركانها وهو التسليم. والإمام مصيب فيه، وعلى المأموم اتباعه
إذا لم يخطئ. فإذا أخطأ لم تلهمه متابعته في الخطإ. ولزمه أن ينتظره
ليتابعه فيما هو مصيب فيه وهو السلام.
__________
(1) أخرجه مسلم إكمال الإكمال ج 2 ص. ف. وبلفظ امرأة ابن أبي شيبة وأحمد
وابن ماجة وأبو نعيم في الحلية. الهداية ج 4 ص 351.
(2) لم تدفن هكذا ولعل الصواب ولم تدفن.
(1/1150)
ولو أن المأموم فاته بعض التكبير فهل يتبع
الإِمام في هذه الخامسة معتدًا بها قضاء ما فاته؟ اختلف المذهب في ذلك.
فقال أصبغ إذا فاته تكبيرتان، والإمام يكئر خمسًا فليكبّر معه الثالثة
ويحتسب بالخامسة، فإذا سلّم الإِمام كبّر واحدة. وقال أشهب لا يكبّر معه
الخامسة وإن كبّرها معه فلا يعتدّ بها وليقض كل ما فاته. وعندي أن سبب هذا
الخلاف أن المأموم إنما ينهى عن اتباعه في الخامسة لئلا يكون مخطئًا كخطإ
الإِمام.
فإذا كان المأموم قد بقيت عليه تكبيرة حتى تكون خامسته رابعة، فإن إيقاع
هذه التكبيرة الإِمام فيها مخطئ، والمأموم مصيب ولكن القصد فيها مختلف.
الإِمام يقصد بها خامسة وهي خطأ. والمأموم يقصد بها رابعة وهي صواب.
واختلاف المقصود مع التساوي في سورة الاتباع، هل يمنع من الاتباع أم لا؟
كنا قدمنا في كتاب الصلاة بسط الخلاف في هذا الأصل، وسبب الخلاف فيه.
وتكلمنا على الشاك هلى صلى ثلاثًا أم أربعًا. وأتى بركعة ليكمل على اليقين،
هل يأتم به فيها من دخل معه في الصلاة أم لا؛ وهذا من ذلك. إلا أن الخامسة
يعد الإِمام فيها مخطئًا ولا يعد في ركعة الإكمال مخطئًا. فمن هذه الجهة قد
يقع الافتراق.
وإذا وضح ما قلناه في عدد التكبير، وفي حكم الزيادة عليه والنقص منه، فهل
يرفع المصلي يديه في تكبير الجنازة أم لا؟ اختلف المذهب في ذلك.
فرُوي عن مالك استحباب الرفع في كل تكبيرة. وبه قال الشافعي ورُوي عنه
الاقتصار على الرفع في التكبيرة الأولى. وبه قال أبو حنيفة. وحكى ابن شعبان
في مختصره عن ابن القاسم أنه قال: "حضرت مالكًا غير مرة لا يرفع يديه على
الجنازة في أول تكبيرة ولا غيرها. ولا ترفع اليدان في التكبير على الجنازة.
وقال بالمذكور في مختصر عبد الله. قال ابن شعبان وممن قال برفع الأيدي في
كل تكبيرة، عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وكان عبد الله ابنه يفعله. وقاله
القاسم بن محمَّد وعمر بن عبد العزيز وعروة وعطاء وموسى بن نعيم والزهري،
ويحيى بن سعيد وربيعة والشافعي، وأحمد بن حنبل، وحدثنا محمَّد بن أحمد.
وذكر السند عن عبد الله بن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا
صلى على الجنازة يكبّر
(1/1151)
أربعًا ويرفع في أول تكبيرة ولا يرفعهما
حتى يخرج من صلاته (1). وذكر أيضًا حديثًا أسنده عن ابن عمر أنه رأى النبي
- صلى الله عليه وسلم - إذا كبّر على الجنازة رفع يديه في كل تكبيرة، وكبّر
أربعًا (2). وحكى ابن حبيب عن ابن القاسم أنه لم يكن يرفع للأولى. قال أبو
محمَّد والمعروف عن ابن القاسم أنه يرفع يديه في الأولى بخلاف ما ذكر عنه
ابن حبيب.
وإذا ثبت ما قلناه في عدد التكبير والرفع فيه. فما حكم التسليم؟ قال مالك
في الأمام يسلم واحدة ويسمع نفسه ومن يليه ويسلّم من خلفه في أنفسهم فإن
أسمعوا من يليهم فلا بأس. ومحمل قوله في أنفسهم على أنهم ناطقون بذلك. وروي
عنه أيضًا أن الإِمام يُسِرّ. وروي عن مالك أنه يردّ على الإِمام من سمع
سلامه. وقال ابن حبيب عنه ليس عليهم ردّ السلام على الإِمام. وقال أشهب في
مدونته يسلّم الإِمام تسليمتين عن يمينه وعن شماله. ويسلّم القوم كذلك.
وقال بعض أشياخنا الأولى أن يكون السلام ها هنا كما يكون في غير هذه الصلاة
فيردّ المأموم على الإِمام، وعلى من على شماله. لأن ردّ التحية فرض يردّ
عليهما بعد التسليمة التي يخرج بها من الصلاة.
فوجه القول بجهر سلامه وهو ظاهر مذهب ابن عمر قياسًا على غيرها من الصلوات.
ووجه القول بإحفائه أن صلاة الجنازة ركن جرّد من الصلاة المعهودة فلم يجهر
فيه بالسلام كسجود التلاوة. وعلى هذه الطريقة يعرف المأمومون انقضاء الصلاة
بانصراف الإِمام. ووجه القول بردّ المأموم على الإِمام القياس على الصلاة
المعهودة. ووجه القول بنفي الرد أن الإِمام لا يثبت بعد انقضاء الصلاة
ليردّ عليه بخلاف الصلاة المعهودة. وأشار بعض المتأخرين إلى أنه يمكن أن
يجري هذا الخلاف على الاختلاف في إجهار الإِمام وإسراره. فإن قلنا بإجهاره
اقتضى ذلك ردّ السلام عليه. وإن قلنا بإسراره لم يردّ عليه. وبما قيل من أن
الإِمام يسلّم قال جماعة من الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم. وقال
الشافعي يسلم تسليمتين واحدة عن يمينه وأخرى عن يساره قياسًا على الصلوات
__________
(1) رواه الترمذي والبيهقي عن أبي هريرة. الهداية ج 4 ص 337. وفي إسناده
مقال.
(2) رواه الطبراني في الأوسط. وفي إسناده مقال. الهداية ج 2 ص 333.
(1/1152)
المعهودة. وقد قدمنا نحن في كتاب الصلاة أن
المشهور عندنا في سائر الصلوات اقتصار الإِمام على تسليمة واحدة.
والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: اختلف الناس في القراءة على الجنازة.
فعندنا أنه لا قراءة فيها وبه قال أبو حنيفة. وروي عن عمر رضي الله عنه وعن
ابنه وعن علي وجابر وكثير من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.
وقال الشافعي: قراءة أم القرآن واجبة في صلاة الجنازة. ولكنه لم يوجب
القراءة سوى مرة واحدة. وحكى أبو الوليد الباجي أن أشهب يقول بما قاله
الشافعي من قراءة أم القرآن مرة واحدة في صلاة الجنازة. وقال الحسن بن علي
يقرأ فيها فاتحة الكتاب ثلاث مرات. وبه قال ابن سيرين. وقال الحسن البصري
يقرأ بها في كل تكبيرة. وروي أن المسور بن مخرمة صلى على جنازة فقرأ في
التكبيرة الأولى بفاتحة الكتاب وسورة قصيرة، ورفع بها صوته. فأما نحن
فنستدل بقول ابن مسعود لم يوقت لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
قولأولا قراءة. وأيضًا فإنها ركن من أركان الصلاة المعهودة فلم تجب فيها
قراءة كسجود التلاوة. وأما الشافعي فإنه يستدل بالظواهر الواردة بإيجاب
فاتحة الكتاب في الصلاة كقوله: لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب. وصلاة الجنازة
داخلة في هذا العموم. وقد أجيب عن هذا بأنه لا نسلّم لهم إطلاق اسم الصلاة
من غير إضافة إلا على الصلاة المعهودة الركوع والسجود. وأما هذه فإنما يطلق
اسم الصلاة بالإضافة فيقال صلاة الجنازة.
والحديث إنما اشتمل على ذكر صلاة مطلقة. وفي هذا الجواب عندي نظر. وقد قال
تعالى: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} (1). فأطلق
اسم الصلاة، وكذلك وقع مثل هذا في الأخبار. والإضافة ها هنا ليست إضافة
تحقيق للتسمية المطلقة، وإنما هي إضافة تخصيص وتعريف، كما يقال صلاة الجمعة
وصلاة الظهر وصلاة النافلة. ولم تُخرج هذه الإضافة هذه الصلوات عن استحقاق
إطلاق التسمية. وقد اعتمدت الشافعية على ما روي عن ابن عباس (2) أنه جهر
__________
(1) سورة التوبة، الآية: 84.
(2) أتي بجنازة جابر بن عتيك أو سهل بن عتيك. فتقدم رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - فكبّر فقرأ بأم القرآن فجهر بها. مجمع الزوائد ج 3 ص 32. حديث
ضعيف. كما أخرجه البيهقي بالسنن ج 4 ص 39.
(1/1153)
بفاتحة الكتاب. قال وإنما فعلت هذا لتعلموا
أنها سنّة. وقد أجاب أصحابنا عن هذا بأجوبة أحدها أن الضمير في قوله أنها
عائد على صلاة الجنازة لا على القراءة. فكأنه قال: إن ماجهرت لتستدلوا
بجهري على أن الصلاة سنّة إذ لو كانت فرضًا لم أجهر بالقراءة من غير ورود
أمر بذلك. والثاني أنه لم يرد سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكنه أراد
سنّة أدى الاجتهاد إليها. وهذا قد لا يسلمه بعض أهل الأصول القائلين بأن
الصاحب إذا أطلق ذكر السنّة فإنما يريد سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وأجيب عن هذا الأمر بغير هذين الجوابين. ولكن أضربنا عنه لما فيه من
الاستكراه والتعسف. وقد يعتمد أصحاب الشافعي على أنها صلاة تشتمل على
افتتاح وتسليم ووجوب قبلة فاشبهت الصلاة المعهودة في افتقارها إلى قراءة.
وهذا الاستدلال قد يقابل بما قدمناه من استدلالنا على أنها ركن من أركان
الصلاة المعهودة فلا تفتقر إلى قراءة كسجود التلاوة. وقد أنكر بعض أصحاب
الشافعي قول من قال يقرأ في كل تكبيرة لأنه لم ينقل عن أحد من الصحابة.
قال: والإجماع على خلافه. وأما من قال يقرأ فيها ثلاث مرات فلا أعرف له
وجهًا أنه يسلك مسلكنا نحن في وجوب القراءة في جل الصلاة في المعروف من
مذهبنا. ألا ترى أنا لا نفسد صلاة الظهر بترك القراءة في ركعة ونفسدها بترك
القراءة في ركعتين أو ثلاث. وإذا كانت الأربع تكبيرات أقيمت مقام أربع
ركعات روعيت القراءة في جل هذه الصلاة وجلها ثلاث تكبيرات.
وقد اختلف أصحاب الشافعي في دعاء الافتتاح والتعوذ. هل يؤتى به بعد
التكبيرة الأولى قبل الفاتحة أم لا؟ وقال الثوري وإسحاق يستحب أن يقال بعد
التكبيرة الأولى سبحانك اللهم وبحمدك تبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك.
فوجه إثبات الذكر بعد الفاتحة قياسًا على غيرها من الصلوات على أصلهم،
وقياسًا على التأمين. ووجه نفيه أنها صلاة مبنية على الحذف بدليل حذف
الركوع والسجود فوجب أن يحذف منها الذكر المشار إليه وليس كالتامين لأن
التأمين لا إطالة فيه.
والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: أما الدعاء فليس بمحدود لأنه لم يرد
الشرع بتحديد فيه. والقصد من هذه الصلاة الدعاء للميت. ومعاني الأدعية
(1/1154)
وصيغها لم يضبطها الشرع في هذا. وكأن الغرض
في الشرع الدعاء له بما يعود بصلاح المعاد إذ لا حاجة له في الدعاء بسواه
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أخلصوا بالدعاء (1).
قال ابن حبيب: أحب إليّ أن يخص الميت بالدعاء. قال روي في الدعاء للميت
روايات يقرب بعضها من بعض. وكل ما دعي به من ذلك حسن مجزىء.
فقيل لابن القاسم هل وقت مالك ثناء على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى
المؤمنين فقال: ما علمت أنه قال إلا الدعاء للميت فقط. واعتقد بعض الناس أن
المذهب على قولين في التحميد والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -
أحدهما: سقوطه على مقتضى ظاهر قول ابن القاسم هذا. والثاني: إثباته لأن
مالكًا يستحسن ما ذكره أبو هريرة. وفيه الثناء على الله والحمد، والصلاة
على نبيه - صلى الله عليه وسلم -. فوجه إسقاطه أن الأحاديث لم ترد إلا
بالدعاء خاصة. وقد خرّج مسلم حديث عوف بن مالك وليس فيه إلا الدعاء خاصة
(2). ووجه إثباته أن الشرع ورد بأنه يبدأ كل ذي بال بالتحميد وفي الترمذي
أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أمر من يريد الدعاء أن يبتدىء بالحمد لله
عَزَّ وَجَلَّ والثناء عليه ثم يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم
يدعو (3). وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه الدعاء موقوف بين السماء والأرض
لا يصعد منه شيء حتى يصلّى على النبي - صلى الله عليه وسلم - (4). فإذا
قلنا بالبداية بالتحميد والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - فأشار
بعض المتأخرين إلى أنه لا يقتصر فيه على التكبيرة الأولى. فقال بعضهم واسع
أن يقتصر عليه بعد التكبيرة الأولى أو يعاد بعد كل تكبيرة. وقد قال ابن
حبيب يُثني على الله عَزَّ وَجَلَّ ويُصلي على نبيه - صلى الله عليه وسلم -
في التكبيرة الأولى ثم يدعو للميت ثم يدعو له في الثانية. وإذا كبرت
الثالثة: قلت اللهم اغفر لحينا وميتنا.
وذكر ما بعده ثم قال: الله أكبر الرابعة ثم أسلم تسليمة تلقاء وجهي
أتيَامَن بها قليلًا أسمع بها نفسي ومن يليني (5). وكان ابن مسعود يذكر
الدعاء للميت في
__________
(1) البيهقي ج 4 ص 40.
(2) إكمال الإكمال ج 3 ص 93.
(3) أبو داود والترمذي والنسائي. نصب الراية ج 2 ص 272.
(4) عارضة الأحوذي ج 2 ص 271/ 272.
(5) ملاحظة الضمائر في قول ابن حبيب غير متحدة.
(1/1155)
كل تكبيرة. وكان ابن عمر يدعو لنفسه
ولوالديه بعد الرابعة.
وظاهر هذا الذي نقلناه عن ابن حبيب أيضًا في الدعاء للطفل يكبّر في الأولى
فيقول ما ذكرناه من الحمد لله والصلاة على نبيه - صلى الله عليه وسلم - فقط
ثم يكبّر الثانية ويقول: اللهم إنه عبدك وابن عبدك، أنت خلقته، وأنت قبضته
إليك وأنت أعلم بما كان عاملًا به وصائرًا إليه. اللهم جاف الأرض عن جنبيه.
وافسح له في قبره وافتح أبواب السماء لروحه وأبدل له دارًا خيرًا من داره
وأعذه من عذاب القبر ومن عذاب النار وصيّره إلى رحمتك وجنتك وألحقه بصالح
سلف المؤمنين في كفاله إبراهيم واجعله لنا ولوالديه سلفًا وذخرًا وفرطًا
وأجرًا. وأضيف إلى هذا وثقّل به موازينهم، وأعظم به أجورهم. ولا تحرمنا
وإياهم أجره ولا تفتنا بعده.
وظاهر هذا أيضًا أن التحميد لا يعاد بعد التكبيرة الأولى فقد اشتمل على
التعوذ للطفل من عذاب النار. وهكذا قال مالك في المجموعة أنه يسأل له الجنة
ويستعاذ له من النار. وقال بعض أشياخنا إذا كان لا يعذب إلا من كلّف فلا
معنى للاستعاذة له من النار. وعلى طرد هذا الذي قاله شيخنا لا معنى أيضًا
في أن يسأل له الجنة. لأن الشيخ أبا محمَّد بن أبي زيد قال: لم يختلف
العلماء في أن أطفال المؤمنين في الجنة.
وأما أطفال الكفّار فاختلف فيه (1). فرُوي الله أعلم بما كانوا به عاملين
وروي أنهم خدَم لأهل الجنة. وروي أنهم مع آبائهم. ولا يقطع هذا إلا
بالأخبار المستفيضة. وهكذا حكى القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب في غير كتابه
هذا أنه أجمع أن أولاد المؤمنين في الجنة. فعلى هذا الذي أشار إليه الشيخ
أبو محمَّد وغيره من العلماء أن الاتفاق على كونهم في الجنّة يستغني مع ذلك
عن السؤال لهم فيها. لكن القاضي أبا بكر بن الطيب لم يثبت عنده الإجماع،
فوقف في أولاد المؤمنين. وحكى أن من أهل الحق من ذهب إلى ردّ أمرهم إلى
الله سبحانه على حسب ما ذهب إليه. ولكن ذكر حصول الإجماع على عادتهم. فعلى
مذهب هؤلاء يحسن السؤال لهم في الجنة. وهذا فيمن سوى أولاد النبيين وأما
أولاد النبيين، فلا شك فيهم ولا توقف في أمرهم بل الإجماع على كونهم في
الجنة.
__________
(1) هكذا ولا يصح على ضرب من التقدير كحكمهم أو مصيرهم.
(1/1156)
واختلف المذهب هل يدعى بعد التكبيرة
الرابعة. فكثير من أصحابنا على أنه لا يدعى بعد الرابعة. قال الشيخ أبو
محمَّد قال سحنون يدعو بعد الرابعة كما يدعو بين كل تكبيرتين ثم يسلم. وفي
غير موضع لأصحابنا إذا كبّر الرابعة سلّم.
وكذلك في كتاب ابن حبيب وغيره. قال ابن حبيب: وروي أن عمر كان يدعو بعد
الرابعة لنفسه ولوالديه.
فوجه القول بأنه لا يدعو بعد الرابعة أن التكبيرات الأربع أنزلت منزلة
الركعات الأربع، وأنزل الدعاء في الصلاة منزلة القراءة. وجعل فرضًا فيها
كما جعلت القراءة في الصلاة فرضًا. فكما لا يقرأ بعد الركعة الرابعة في
الصلاة فكذلك لا يُدعى بعد التكبيرة الرابعة في الصلاة على الجنازة. ووجه
القول بأنه يدعو أن التكبيرة وإن أنزلت منزلة الركعة فإنه لا يصح أن يليها
التسليم الذي هو التحليل من الصلاة كما لا يصح أن يلي التسليم الذي هو
التحليل من الصلاة المعهودة الركوع. فإذا لم يصح أن يلي التسليم التكبير
وكان لا بد من فصل بينهما اقتضى ذلك ثبوت الدعاء بعد الرابعة.
ولما قدمنا أن قصد الشرع الدعاء للميت بما يصلح معاده وكانت أنواع الدعاء
بذلك شتّى والعبارة عن ذلك كثيرة، كان الواجب ترك المصلي واجتهاده في
الدعاء. لكن نقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك دعاء رواه أصحابه
يحسن نقله ليُقتفى أثره - صلى الله عليه وسلم -. فروى عرف بن مالك عن النبي
- صلى الله عليه وسلم - أنه قال: اغفر له وارحمه واعف عنه وعافه وأكرم نزله
(1). الخبر كما وقع الحديث. وقال أبو هريرة رضي الله عنه إذا وُضعت كبّرتُ.
وحمدت الله تعالى وصليت على نبيه - صلى الله عليه وسلم - ثم أقول: اللهم
عبدك وابن أمتك كان يشهد أن لا إله إلا أنت وأن محمدًا عبدك ورسولك وأنت
أعلم به. اللهم إن كان محسنًا فزد في إحسانه وإن كان مسيئًا فتجاوز عن
سيئاته اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده (2). قال مالك: هذا أحسن ما
سمعت، ودعاء ابن مسعود: فقال: اللهم عبدك وابن عبدك وابن أمتك. أنت
__________
(1) مسلم. إكمال الإكمال ج 3 ص 93.
(2) حديث أبي هريرة أخرجه مالك في الموطأ والبيهقي ج 4 ص 42/ 41. وأحمد
بلوغ الأماني ج4 ص 234.
(1/1157)
خلقته وأنت هديته للإسلام وأنت قبضت روحه.
الحديث. قال بعض المتأخرين أستحسن بعد التكبيرة الأولى أن يحمد الله تعالى.
ويصلي على نبيه - صلى الله عليه وسلم - بعد التكبيرة الثانية كما فعل في
الأولى ثم يدعو بدعاء أبي هريرة بعد التكبيرة الثالثة يذكر من التحميد
والصلاة مثل ما تقدم ويدعو بدعاء ابن مسعود.
ثم إذا كبر الرابعة قال مثل ما تقدم من التحميد والصلاة. ويقول اللهم اغفر
لحينا وميتنا وحاضرنا وغائبنا وصغيرنا وكبيرنا وذَكَرنا وأنثانا إنك تعلم
تقلبنا ومثوانا ولوالدينا ولمن سبقنا بالإيمان. اللهم من أحييته منا فاحيه
على الإيمان ومن توفيته منا فتوفه على الإِسلام واسعدنا بلقائك وطيبنا
للموت. واجعل فيه راحتنا. وقد جمع الشيخ أبو محمَّد دعاءًا جمع فيه ألفاظ
هذه الأحاديث وأدخل بعض ألفاظها في بعض وزاد ألفاظًا يسيرة فيها من غيرها،
وافتتح التحميد (1) والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - بالألفاظ
المعهودة فيه وذكر أن ما اختاره من التحميد استحسان ابن حبيب وغيره. وقال
لا يقال في المرأة أبدل لها زوجًا خيرًا من زوجها. إذ قد تكون زوجًا لزوجها
في الجنّة مقصورة عليه. وقد ذكرنا ما قيل في دعاء الطفل فإذا قيل ذلك فيه
دعا بعد الرابعة أيضًا على أحد القولين. وذكر بعض المتأخرين ما ذكرنا أيضًا
في الدعاء للطفل. وقال بعد الرابعة بما قلناة في الدعاء للرجل. وإذا قلنا
بأنه لا يدعو بعد الرابعة. فذكر ابن حبيب في تعليله لما يقال على الجنازة،
أنه إذا كبّر الثالثة وقال اللهم اغفر لحيّنا وميتنا الدعاء ... إلى آخره
كما ذكرناه: أنه لا يجهر الإِمام ولا من خلفه بشيء من الدعاء. وأن يسمع ذلك
من إلى جنبه فلا بأس. قال ابن حبيب قال ابن القاسم إذا وإلى الإِمام بين
التكبير ولم يَدعُ فليعد الصلاة. قال ابن حبيب إلا أن يكون بينهما دعاء وإن
قل فلا تعاد.
والجواب عن السؤال الخامس: أن يقال: أما من فاته بعض تكبير الجنازة فعن
مالك فيه روايتان. إحداهما أنه ينتظر الإِمام حتى يكبّر ويكبّر معه. وبه
قال أبو حنيفة ومحمد صاحبه. والثانية أنه يكبّر الآن. وبه قال الشافعي وأبو
__________
(1) لعله بالتحميد.
(1/1158)
يوسف. وعن ابن حنبل الروايتان أيضًا.
واختار الشيخ أبو الحسن القابسي رحمه الله أن يكبّر إذا أدرك بعد التكبيرة
تحميد الله عزّ وجل والصلاة على نبيّه - صلى الله عليه وسلم - والدعاء بما
تيسر قبل أن يكبّر الإِمام. وإن لم يمكنه ذلك، ولو خفف فيه، لم يكبر وانتظر
الإِمام. واعتل بأنه إذا لم يمكنه ذلك فإنه لم يجعل له سوى التكبير من غير
دعاء مقصود وهو إذا آخره أتى به بعد فراغ الإِمام من غير دعاء.
فإذا استوت كان التأخير أولى ليقع القضاء بعد فراغ الإِمام. وتعقب الشيخ
أبو الحسن اللخمي هذا بأن قال لا يجري هذا على أصل المدونة لأنه يقول إن
فاته بعض التكبير يقضيه بعد سلام الإِمام متواليًا من غير دعاء. فإذا كان
ذلك، كان التكبير وإدراك شيء من الدعاء الآن أولى. قال: وأما على القول
بأنه يصلي على الغائب فإنه يصح أن يمهل حتى يكبّر الإِمام فيكبّر بتكبيره.
فإذا سلم الإِمام قضى ما فاته ويدعو فيما بين ذلك وإن غابت الجنازة. وتعقبُ
الشيخ أبي الحسن ابن القابسي في هذا متعقبٌ من وجهين: أحدهما أنه أشار إلى
أن الإتيان بالدعاء ليس يقتضي المبادرة إلى التكبير قياسًا على قولهم إن
التكبير بعد الفراغ تباعًا.
وهذا لا يلزم لأن المتابعة إنما أمروا بها ها هنا لئلا يدْعى للجنازة بعد
رفعها كما يدعى لها وهي موضوعة، فتكون كصلاة على غائب كما أشار إليه. أو
صلاة على جنازة مرَّتين، فاما الآتي والإمام قد سبقه ببعض التكبير فإن
الشيخ أبا الحسن إنما اختار إيقاع التكبير إذا أدرك بعده التحميد والصلاة
وكثيرًا من الدعاء. لأنه حينئذ أتى بالمقصود من صلاة الجنازة كلها. وكأنه
كالمقالى للإمام المتأخر بالمتابعة للأمر اليسير. فكأنه خرج عن الأصل بحصول
المقصود في صلاة الجنازة إذا كان لا يدرك من الدعاء إلا ما ليس له بال فليس
بمقصود في صلاة الجنازة صار أن أمره حينئذ بإيقاع التكبير، فكأنه أمره
بمخالفة الأصل لغير مقصود يحصل ولا ضرورة دعت إلى ذلك، والأصل أن لا يقضي
إلا بعد فراغ الإِمام. وأما التعقب الثاني فإنه أشار إلى تخريج دعاء من
فاته بعض التكبير على القول بالصلاة على الغائب وهذا لا يلزم أولئك أن
يقولوا به لأنهم إنما أجازوا صلاة تفتتح على غائب وهذه صلاة افتتحها
الإِمام على حاضر فحق المأموم أن يحذوَ حَذوَ إمامه ويقص أثره. ولما كان
الدعاء كالقراءة لا يقضى لم يؤمر
(1/1159)
المأموم بإيقاعه، ولا يصح أن يأمره
باستئناف دعاء كأنه يوقعه إيقاع المنفرد، فيصير كالصلاة على غائب قد صُلي
عليه مع مخالفة الإِمام والخروج عن حقيقة فعله. وسبب الاختلاف في هذه
المسألة، هل التكبيرة الأولى تتنزل منزلة تكبيرة الافتتاح أو إنما تتنزل
منزلة الركعة؟ فإن قلنا إنها تتنزل منزلة تكبيرة الافتتاح لأنها صلاة لها
افتتاح وتسليم فوجب أن يكون افتتاحها تحريمًا كالصلاة المعهودة أمرْنا
المأموم أن يكبّر ولا ينتظر كما يكبّر للإحرام في سائر أثناء صلاة الإِمام.
وإن قلنا أنها تحل محل الركعة لأن هذه الأربع تكبيرات أقيمت مقام أربع
ركعات لم يكبّر، بل ينتظر. لأن من فاتته ركعة لا يقضيها حتى يفرغ الإِمام.
وقد قال ابن مزَيْن منتصرًا للقول بأنه ينتظر أنا إذا أمرناه بالتكبير لم
نخل (1) أنا نأمره به قضاء عما فات. وهذا لا يمكن إذ لا يقضي ما فات إلا
بعد الفراغ، أو نأمره به اتباعًا دمًا يستقبل، وهذا فيه سبق للإمام وسبقه
لا يصح.
وصلاة الجنازة ليس التكبير فيها بإحرام فيؤمر هذا به. فأنت تراه كيف نبّه
على ما قلناه. وروى أشهب في العتبية يكبّر الآن واحدة ثم يقف عما سبق به
كما يحرم بالمكتوبة وقد سبق بتكبير سوى تكبيرة الإحرام فلا يكبّر غيرها.
فإذا سلم الإِمام قضى ما عليه من التكبير تباعًا. فأنت تراه أيضًا كيف أشار
إلى إنزالها منزلة تكبيرة الإحرام خلاف ما أشار إليه ابن مزين. وإنما قلنا
أنه ينتظر ولا يكبّر فقد قال مالك في المجموعة يدعو ولا يكبّر حتى يكبّر
الإِمام فيكبّر معه. وقال في مختصر ابن عبد الحكم: من فاته بعض التكبير
فوجد الإِمام قائمًا يدعو فليدخل معه بغير تكبير أحبّ إليّ ثم يكبّر
تكبيرة. فإذا سلّم قضى ما فاته. وقد قيل يدخل بتكبير. والأول أحب إلينا.
وحمل بعض أشياخنا هذه الرواية على أنه يدخل بالنية من غير تكبير. وفي
هذانظر. لأن الدخول في الصلوات بعقد القلب دون فعل يصاحبه لا أصل له، إلا
أن يرى الدعاء ها هنا حالًا محلّ التكبير في صحة الدخول به. وهذا يُطلب
تدليل عليه. وإذا قلنا أنه لا يكبّر بل ينتظر لم يحتج إلى تفصيل. وإن قلنا
أنه يكبّر ولا ينتظر فقد أشار الشيخ أبو الحسن ابن القابسي رحمه الله إلى
أنه إذا أتى بعد الرابعة فإنه لا يكبّر إذا لم يدرك
__________
(1) هكذا في الأصل. ولعل الصواب لم نقل.
(1/1160)
من الصلاة شيئًا. وإنما يكبّر في إحدى
الروايتين إذا أتى قبل الرابعة. واحتج بأن مالكًا لما سئل عمّن فاته
التكبير كله. هل يكبّر؟ قال: لا أعلمه. وبأن التكبيرة الرابعة إذا وقعت فإن
الصلاة كملت. فلا معنى لتكبيره بعد الكمال. فإذا وضح ما قلناه في التكبير
والانتظار. فإنه إذا فرغ قضى ما بقي عليه من التكبير تباعًا.
قال مالك: ولا يدعو. قال ابن حبيب وإن دعا فبدعاء خفيف إلا أن يتأخر رفعها
فيسهل في دعائه إذا قضى التكبير اجتزاء بالتكبيرة التي أحرم بها. وذهب أبو
حنيفة إلى أنه إنما يقضي إذا لم ترفع فإن رفعت بطلت صلاته. وقال الحسن
وأيوب السختياني لا يقضي ما فاته من التكبير. وروي ذلك عن ابن عمر. قال
الأوزاعي يجزئه ما أتى به مع الإِمام. ودليلنا قول النبي - صلى الله عليه
وسلم -: ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا (1). وقياسًا على غيرها من
الصلوات. وإن احتج الحسن بأنها تكبيرات متواليات، فإن فأتت لم تقض كتكبيرات
العيد، قيل له التكبير في الجنازة فرض وقد أقيم مقام الركعة. وفي العيد
هيئة وسنّة. فلهذا لم يقض.
والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: أما حمل النعش فاختلف الناس. فقال مالك
في المدونة ليس في ذلك شيء مؤقت، احمل إن شئت بعض الجوانب ودع بعضها. وإن
شئت فاحمل وإن شئت فدَع. وقال ابن حبيب يستحب أن يحمل الرجل الجنازة من
جوانب السرير الأربع. ثم إن شاء حمل أو ترك. ويبدأ بمقدّم السرير الأيسر
وهو يمين الميت فيضعه على منكبه الأيمن ثم يختم بمقدّمة الأيمن وهو يسار
الميت. روي ذلك عن غير واحد من الصحابة والتابعين. وكان مالك يوسع ذلك أن
يبدأ بما شاء ويحمل كيف شاء أو لا يحمل. ويحمل بعض جوانبه ويدع بعضًا
والفضل فيما ذكرت لك. قال مالك في المختصر لا بأس يحمل سريره من داخله
وخارجه ويبدأ بأي جوانبه شاء.
وقال أشهب في مدونته يبدأ بالمقدم الأيمن من الجانب الأيمن ثم المؤخر يريد
الأيمن. ثم المقدم الأيمن (2) ثم المؤخر الأيسر. وقالت الشافعية في التقدمة
بما حكينا عن أصحابنا ثم يبدأ اليسار مقدمة السرير فيجعله على عاتقه الأيمن
ثم
__________
(1) تقدم تخريجه.
(2) هكذا ولعل الصواب الأيسر.
(1/1161)
يأخذ يسار مؤخره فيجعله على عاتقه الأيمن
ثم يأخذ بيمين مقدمة السرير فيجعله على عاتقه الأيسر ثم يأخذ يسار مؤخره
فيجعله على عاتقه الأيسر. وهذا يوافق ظاهر ما حكيناه عن أشهب. وقال سعيد بن
جبير والثوري وأحمد وإسحاق وأيوب السختياني يبدأ بيسار مقدمه ثم بيسار
مؤخره ثم بيمين مؤخره ثم بيمين مقدّمه.
وروي ذلك عن ابن عمر وابن مسعود. وهذا يوافق ظاهر ما حكيناه عن ابن حبيب.
وقال الأوزاعي يبدأ بأيهما شاء. فكأن من ذكرناه من العلماء استحب البداية
بما ذكر لأن يمين الميت أفضل من بقية أجزائه. فلهذا قدمت. وعلى هذا يليه
الرجل اليمين على الشمال. ثم اختلفوا ها هنا فيما بعد ذلك. وهو الجانب
الأيسر هل يبدأ بمقدمه أو بمؤخره. فمن اختار البداية بمؤخره، فكأنه أقرب
إلى ما هو حائل (1) له. ومن اختار البداية بمقدمه فلأنها في محاذاة ما ثبت
له البداية به وهو اليد اليمنى. فالأول راعى عن الأقرب والأسهل. والثاني
راعى المقابل.
فإن قيل لِمَ استحب للإنسان أن يحمل الجنازة من الأربع جوانب على ما ذكره
ابن حبيب. قيل اعتل بعض الأشياخ لذلك بأنه لإحراز الأجر يحمل الجوانب
الأربع كما (2) بالصلاة والمواراة. وقد قال أشهب أحبّ إليّ أن يحفن الرجل
ثلاث حفنات بيده في قبر الميت عند دفنه. وإنما ذهب إلى هذا ليحصل له أجر
المواراة. وقد قال ابن مسعود في المدونة احملوا الجنازة من جوانبها الأربع
فإنها السنّة. وإنما تكلم على ما كانت عليه الصحابة رضي الله عنهم من حمل
موتاهم بأنفسهم تواضعًا وابتغاءًا للأجر. فقد حمل سعد بن أبي وقاص جنازة
عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما. وحمل عمر بن الخطاب رضي الله عنه أسيد
بن الحصين رحمهما الله. وحمل ابن عمر جنازة أبي هريرة رحمهما الله ورضي
عنهما. فأشار هذا الذي حكينا كلامه من الأشياخ إلى أن ابن مسعود أشار إلى
حمل الإنسان من سائر الجوانب لأجل ما قلناه. وقد قدمنا إجازة مالك حمل
السرير من داخله وخارجه والبداية بأي الجوانب وأنه لا يحد في ذلك حدًا.
وقالت الشافعية الأفضل في حمل الجنازة أن يجمع بين التربيع والحمل
__________
(1) هكذا ولعل الصواب حائز.
(2) هكذا ولعل الصواب كما يحرز.
(1/1162)
بين العمودين. فإن اقتصر على أحدهما فالحمل
بين العمودين أفضل من التربيع. وقال ابن حنبل التربيع أفضل. وقال الحسن
والنخعي والثوري. وأبو حنيفة يكره العمل بين العمودين. وذكر ابن حبيب أن
.... (1) قال أحسن من يحمل الجنازة الذي يمشي بين عمودي النعش. والذي يقول
استغفروا له غفر الله لكم. والذي يقول ارفقوا على نسائكم والذي يمسك النعش
من خلفه. وقال مطرت وابن الماجشون أما الذي يمشي بين يدي عمودي السرير فلا
بأس به للغريب والخاص. ويكره للعامة. واحتجا يحمل سعد جنازة ابن عوف رضي
الله عنهما بين العمودين، وعثمان وزيد بن ثابت لأمهما وعمر لأسيد وابن عمر
لأبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين. وأما الذي خلف النعش، فإن كان من أهل
الميت واحد الأربعة الراتبين (2) تحت النعش فذلك له وإلا فلا.
والدليل على أن العمل بين العمودين لا يكره أن النبي - صلى الله عليه وسلم
- حمل في جنازة سعد بن معاذ بين العمودين وحمل عثمان رضي الله عنه سرير أمه
بين العمودين.
وكذلك فعل أبو هريرة بسرير سعد. وسعد بن أبي وقاص بسرير عبد الرحمن بن عوف.
وهذا يقتضي الجواز. ورأت الشافعية حجة في الفضل.
واحتج المخالفون بقول ابن مسعود إن أَتبع أحدكم الجنازة فليأخذ بجوانب
السرير الأربع وليطوع بعد أو ليذر فإنه من السنّة. وأجيب عن هذا بان المراد
به. .. (3) الإخبار بجوازه لا كراهة ما سواه. ورآه ابن حنبل حجة في فضل
التربيع. كما ذكرناه عنه.
وما ذكرناه عن مطرت وابن حبيبَ من التفرقة بين العامة والخاصة إن أراد به
العمل. فهو خلاف ظاهر ما حكيناه عن مالك.
فإذا وضح ما ذكرنا في صفة العمل. فقد اختلف قول مالك فيمن ليس على وضوء
يحمل الجنازة. فقال ابن القاسم كره له أن يحمل الجنازة لينصرف
__________
(1) كلمة غير واضحة.
(2) هكذا.
(3) كلمة غير واضحة ولعلها سارت.
(1/1163)
إذا بلغت. ولم ير به في رواية أشهب بأسًا.
قال أشهب:
وحمل جنازة الصبي على الأيدي أحب إليّ من الدابة والنعش. فإن حمل على
الدابة لم أرَ به بأسًا.
وكره مالك التحسر على الجنازة. وقال أيضًا ليس العمل على نزع الأردية في
الجنازة. قال ابن حبيب: وقد استخف ذلك للغريب الخاص. وقد يفعل في العالم
والفاضل الخاص من أصحابه. وقد رُؤي عبد الله بن عون في جنازة محمَّد بن
سيرين في قميص. وتحسر مصعب وهو أمين في جنازة الأحنف.
وأما صفة المماشاة في الجنازة فإنه قد كره الصحابة أن يتبع الميت بمجمرة.
قال ابن حبيب إنما كره ذلك لئلا يكون تفاؤلًا بالنار.
وقال ويكره الإنذار بالجنازة إذا كان من يقوم بالحمل والدفن. ونهى عنه ابن
مسعود. فأما خواص أهل الرجل ومن يحزنهم أمره فليؤذنهم. وإنما يكره إنذار
العامة. وفي العتبية كره مالك أن يؤذن بالجنازة على أبواب الجنازة أو يصاح
خلفه أو يستغفر له. واستحب أن يؤذن بها في الحلق من غير رفع صوت.
وقيل له في أهل البادية يبعثون إلى أهل المحال حولهم ينذرونهم بجنازتهم.
قال إنه ليفعل ذلك في البادية والحاضرة ما لم يكن بعيدًا. وأما ما يقرب من
إنذار الجيران ومن لعله أن يعزيه فلا بأس به.
وسمع ابن جبير قائلًا يقول استغفروا له. فقال لا غفر الله لك.
ولا يمشي بالجنازة الهوينا. ولكن مشية الرجل الشاب في حاجته. قال
النخعي كانوا يقولون انشطوا بها ولا تدبوا بها دبيب اليهود.
قال مالك ... (1) الناس الازدحام على حمل جنازة الصالح. ولقد انكسرت تحت
سالم بن عبد الله نعشان وتحت عائشة ثلاثة وذلك حسن ما لم يكن فيه أذى.
ويكره أن يسار راكبًا تقدم عنها أو تأخر عنها. قال النخعي كانوا يكرهونه.
قال ابن حبيب لا بأس أن يرجع راكبًا بعد الدفن. وقال ابن عباس إن سايرها
راكبًا تقدمها أو تأخر عنها. قال النخعي كانوا يكرهونه. قال ابن حبيب
__________
(1) هو بمقدار كلمتين ولعله ولو أن شأن.
(1/1164)
لا بأس أن يرجع راكبًا بعد الدفن. وقال ابن
عباس الراكب مع الجنازة كالجالس في أهله. قال الشعبي هذا يدل على أنه لا
ثواب له. وقال عبد الله بن رباح الأنصاري للماشي خلف الجنازة قيراطان
وللراكب قيراط. وقد احتج الناس على هؤلاء بأنه روي عن النبي - صلى الله
عليه وسلم - أنه قال: الراكب خلف الجنازة والماشي حيث شاء (1). ففرق بينهما
في السير ولم يفرق بينهما في الثواب. وهذا الحديث إن احتججنا به فقد سلمنا
للثوري ما حكيناه عنه إلا أن يخرج عن هذا الحديث بدليل آخر. وأما المتقدم
أمام الجنازة والتأخر عنها. فاختلف الناس فيه. فعندنا أن المشي أمامها
للرجال أفضل إذا لم يكونوا ركبانًا، وبه قال الشافعي وجماعة من الصحابة
رضوان الله عليهم. وقال سعيد بن جبير وأبو حنيفة والأوزاعي وإسحاق المشي
خلف الجنازة أفضل. وقال الثوري الراكب خلفها والماشي حيث شاء. وقال أنس بن
مالك أنتم متّبعون فكونوا بين يديها وخلفها وعن يمينها وعن شمالها. وروي
ذلك عن ابن جبير. وهو قول معاوية بن قرة.
فدليلنا على أن المتقدم أفضل أنه مذهب جماعة من الصحابة. وذكر مالك في
موطئه عن ابن شهاب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر رضي الله
عنهما كانوا يمشون أمام الجنازة (2).
وهذا الحديث وإن أرسله مالك فقد أسنده سفيان. ورواه ابن شهاب عن سالم عن
أبيه. وذكر أبو داود هذا الحديث في سننه فزاد فيه ويقولون هو أفضل. وهذه
الزيادة تمنع حمل ذلك على الإباحة مع أن قوله كانوا يشعر بالمداومة ولا
يداومون إلا على الأفضل. والاعتماد على هذا أولى من قول بعض المتأخرين من
أصحابنا: إن الإجماع على أن المشي أمامها ليس بمباح يمنع من حمل الخبر على
الإباحة. لأنا قدمنا من قول أنس والثوري وابن جبير وابن قرة يقتضي الإباحة
ظاهره. فلهذا أثرنا الاعتماد على ما زاده أبو داود. وعلى ما تشعر به
المداومة. واحتج المخالف بقول أبي سعيد الخدري سالت عليّا فقلت
__________
(1) رواه البيهقي عن المغيرة بن شعبة الراكب يمشي خلف الجنازة والماشي يمشي
خلفها وأمامها وعن يسارها وميامنها. رواه البيهقي بالسنن ج 3 ص 25.
(2) الموطأ ص 156. قال ابن عبد البر هو مرسل وأخرجه أبو داود موصولًا عن
ابن عمر.
وكذا الترمذي والنسائي وابن ماجة.
(1/1165)
أخبرني عن المشي مع الجنازة يا أبا الحسن.
فقال فضل الماشي خلفها على الماشي أمامها كفضل المكتوبة على التطوع (1).
فقلت أتقول هذا برأيك أم سمعته من النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال بل
سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأجيب بأن الحديث غير ثابت أو
محمول على أن تقدمها إلى موضع الدفن أو بقدر ما لا يكون مصاحبًا لها أيضًا.
وكذلك أيضًا أجيب عن تعلقهم بقوله - صلى الله عليه وسلم - الجنازة متبوعة
ليست متابعة (2) بأنه لم يثبت. وقد قال فيه أبو داود أنه لا يصح. فإن قالوا
المشي خلفها أشد اعتبارًا لبصره والمشي أمامها تنبيه لمن يقرون عليه. مع
أنهم شفعاء والشفيع يتقدم.
وفيه أيضًا مسارعة إلى الخير. وأما الراكب فإنه يتأخر عندنا خلفها. وقالت
الشافعية وترك الركوب أولى. فإن ركب كان أمام الجنازة.
واحتجوا بأن عمر ربي على بغل أمام الجنازة.
قال ابن شعبان: المشاة أمامها والركبان من خلفها والنساء من وراء ذلك.
ولا بأس أن يشهدنها ما لم يكثرن التردد. ولا توضع على الرقاب حتى يتكامل من
يشيّعها. وقال أيضًا في مختصره لا بأس بشهود النساء الجنائز ما لم يكثرن
ركبانًا أو مشاة وقد كنّ يخرجن في حوائجهن يريد على عهد النبي - صلى الله
عليه وسلم - وبعده. وكانت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنه تخرج تقود فرس
الزبير وهي حامل حتى عوتب في ذلك. وقد قال بالمذكور في مختصر عبد الله ونحو
هذا في العتبية ولم يشترط الإكثار. إلا أنه قال ما أرى بأسًا في الأمر
المستنكر. وقيل يكره خروجهن ولو على الخاص من قرابتهن. وينبغي للإمام منعهن
من ذلك. وقيل يجوز خروجهن على مثل الزوج والأخ وشبههما. وبكراهة خروجهن.
قال ابن عمر وابن مسعود وعائشة. وقد قالت أم عطية نهينا أن نتبع الجنائز
ولم يعزم
__________
(1) روى البيهقي بسنده إلى عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه أن أبا بكر وعمر
كانا يمشيان أمام الجنازة وكان علي رضي الله عنه يمشي خلفها. فقيل لعلي رضي
الله عنه أنهما يمشيان أمامها فقال إنهما يعلمان أن المشي خلفها أفضل من
المشي أمامها. كفضل صلاة الرجل في جماعة على صلاته فذا. ولكنها سهلان
يسهلان للناس. السنن ج 3 ص 25.
(2) رواه البيهقي الجنازة متبوعة ولا تتبع ليس معها من يتقدمها. رواه
البيهقي ووهن سنده.
السنن ج 3 ص 25.
(1/1166)
علينا (1). وهذا الذي قلناه في الشواب
منهن. وأما المتجالات فلا معنى لمنعهن.
ولا بأس أن يجلس الماشي قبل أن توضع الجنازة ولا ينزل الراكب حتى توضمع.
وقال مالك لا يكون. ........ (2) الجنازة في أعقاب النساء لأن حامليها
خلفهم رجال. وقال مالك لا ينصرف في الصلاة عليها إلا لحاجة أو لعلية. قال
ابن القاسم ذلك واسع لحاجة أو لغير حاجة وليست بفريضة. قال الشيخ أبو
محمَّد فريضة تتعين عليه. قال ابن حبيب لا بأس أن يمشي مع الجنازة ما أحب
وينصرف إن شاء قبل أن يصلي عليها. وقاله جابر بن عبد الله.
والمشهور من مذاهب العلماء أن من مرت به الجنازة لم يؤمر بالقيام إليها.
وروي عن ابن مسعود البدري وأبي سعيد الخدري وقيس بن سعد وسهل بن حنيف وسالم
بن عبد الله وجوب القيام إليها. قال ابن حنبل إن قام لم أعبه وإن قعد فلا
بأس. وتعلق المخالفون بأنه - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا رأيتم الجنازة
فقدموا ومن تبعها فلا يقعد حتى توضع (3). وأجيبوا عن هذا بأنه منسوخ وسنذكر
ناسخه إذا تكلمنا على الجلوس عند الإقبار إن شاء الله.
قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: والصلاة على الجنازة جائزة (4) في كل
الأوقات وبعد العصر ما لم تصفر الشمس. ولا تصلّى عند طلوع الشمس ولا غروبها
إلا أن يخشى (5) تغيّرها.
قال الفقيه الإِمام: يتعلق بهذا الفصل سؤالان: وهما أن يقال:
1 - لِمَ كره الصلاة في الوقت الذي ذكر؟.
2 - وإذا حضرت المكتوبة والجنازة ما الذي يقدّم منهما؟.
__________
(1) رواه البخاري ومسلم. فتح الباري ج 3 ص 387.
(2) كلمة غير واضحة.
(3) رواه البخاري ومسلم. فتح الباري ج 3 ص 423. والبيهقي بالسنن ج 2 ص 26.
(4) وهي جائزة -غ- والغاني.
(5) يخاف -غ- الغاني.
(1/1167)
فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: تجوز
الصلاة على الجنازة ليلًا ونهارًا إلا في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها.
فإن فيها اختلافًا: هل يستثنى من ذلك الجواز أم لا؟ فأطلق أبو مصعب الجواز
ولم يستثن. وقال تجوز الصلاة على الجنازة في الساعات كلها: وبه قال
الشافعي. وقد روي أن أبا هريرة رضي الله عنه صلى على جنازة والشمس على
أطراف الجدران. وقد صلّى على عقيل بن أبي طالب رضي الله عنه عند الاصفرار.
وهذا المذهب يظهر مع القول بوجوب صلاة الجنازة. والظاهر من المذهب استثناء
أوقات. ولكن اختلف المستثنون. فاستثنى مالك في المدونة ما بعد العصر إذا
اصفرت الشمس إلى أن تغرب وما بعد الصبح إلى أن تطلع. واستثنى ابن الجلاب
حين الغروب والطلوع فأجازها في كل وقت إلا عند طلوع الشمس وغروبها. وفي
المختصر لا يصلي عليها عندما تهم الشمس أن تطلع وعندما تهم أن تغرب ويصفر
أثرها بالأرض إلا أن يخاف عليها التغيير. واستثني أبو حنيفة والثوري والحسن
الطلوع وعند الاستواء وعند اصفرار الشمس. وسبب الاختلاف ما بسطناه في كتاب
الصلاة لما تكلمنا هنالك على إيقاع الصلوات في هذه الأوقات. ومما يختص بهذا
الموضع حجة لأبي حنيفة. حديث عقبة بن عامر. قال ثلاث ساعات نهى رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - أن يصلى فيهن وأن يقبر فيهن ميت. وذكر حين الطلوع حتى
ترتفع وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل وحين تضيف الشمس للغروب (1). خرجه
مسلم. قال بعضهم فإذا نهانا أن تفسير في هذه الأوقات فالصلاة أولى بالنهي
مع عموم الحديث فإنه نهى أن يصلي فيهن وأطلق. قال أشهب: لا أكراه الصلاة
عليها نصف النهار كما لا أكره التنفل حينئذ ولم يثبت النهي عن الصلاة
حينئذ. وثبت النهي عند الطلوع وعند الغروب.
وأما استثناؤه مخافة التغيّر لأن ذلك ضرورة تقضي الدفن من غير صلاة.
والصلاة حينئذ أولى. قال مالك في المختصر: وفي سماع ابن وهب لا يُصلي عليها
عند الغروب فإن صلّى عليها من غير مخافة التغير عند الطلوع أو عند الغروب
فقال أشهب: لا إعادة عليهم. قال ابن القاسم: إذا دفنت فلا يعيدوا.
__________
(1) مسلم. إكمال الإكمال ج 3 ص 437.
(1/1168)
وقد أرخص مالك أن يصلي عليها في هذه
الأوقات إن خيف عليها.
والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: إذا حضرت الصلاة المكتوبة وصلاة
الجنازة فأما صلاة المغرب فقال مالك: تقدمة صلاة المغرب أصوب فإن قدموها
على المغرب فلا بأس. وأما إن كانت الصلاة الظهر أو العشاء فليبدؤوا بما
شاؤوا لكون وقت هاتين الصلاتين واسعًا. فإذا لم يخرج وقت الاختيار فيهما
فلا معنى للنهي عن تقدمة الجنازة. وأما إذا حضرت الجنازة، والصلاة الصبح أو
العصر فليبدؤوا بها قبل الصبح والعصر, لأن التنفل بعدهما مكروه، وهذا كله
مع تساوي الأحوال. فأما إن خيف ذوات وقت الصلاة المكتوبة فإنها تُقدم.
وكذلك تقدم الجنازة إذا خيف فسادها في الموضع الذي خيّرنا بين تقدمتها
وتقدمة المكتوبة، وجعلنا تقدمة كل واحدة على صاحبتها جائزة لأن الضرورة ها
هنا تقتضي تقدمة الجنازة. ولا مانع يمنع من تقدمتها.
قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: ولا تترك الصلاة على مسلم إلا أن أهل
الفضل يجتنبون (1) الصلاة على المبتدعة والبغاة. ويجتنب الإِمام خاصة (2)
الصلاة على من قتله في حد.
قال الفقيه الإِمام رحمه الله: يتعلق بهذا الفصل ثلاثة أسئلة: منها أن
يقال:
1 - ما الدليل على صحة ما قال أن المسلم لا تترك الصلاة عليه؟.
2 - ولمَ تجتنب على المبتدعة والبغاة؟.
3 - ولمَ لا يصلي الإِمام على من قتله في حد؟.
فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: أما الدليل على الصلاة على كل مسلم فقد
ذكر ابن شعبان في مختصره بسنده عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
قال: صلوا خلف من قال لا إله إلا الله وصلوا على من قال لا إله إلا الله
(3). وذكر
__________
(1) يتجنبون -غ-.
(2) خاصة = ساقطة -و-.
(3) رواه الدارقطني وأبو نعيم في أخبار أصبهان سنده واه جدًا وروي بطرق
أخرى كلها ضعيفة. إرواء الغليل ج 2 ص305.
(1/1169)
أيضًا بسنده عن الحسن بن أبي الحسن أن
النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من مات وهو يشهد أن لا إله إلا الله فصل
عليه واستغفر له وحسابه على الله. وقد قيل لعطاء امرأة زنت فحملت ثم
استسقطت فماتت. ورجل شرب خمرًا فغرق فمات. أيصلي عليهما؟ قال نعم قلت لِمَ
ولمْ يستحدثا توبة؟ قال: أذ إليهما حقهما بشهادة أن لا إله إلا الله
وحسابهما على الله. وفي المجموعة عن مالك يصلّى على كل مسلم، ولا يخرجه من
حق الإِسلام حدث أحدثه ولا جُرْم أجرمه. قال ابن حبيب ويصلّى على كل موحّد
وإن أسرف على نفسه بالكبائر. وروى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على
امرأة ماتت من النفاس من الزنا (1) وفعله ابن عمر. وقال ابن حبيب وإنما
يشفع للمسيء. قال ابن سيرين ما حزم الله سبحانه على أحد من أهل القبلة إلا
ثمانية عشر رجلًا من المنافقين. قال ابن حبيب وإنما ذلك ليعلم أن الصلاة
عليهم لا تترك لجرمهم. وذكر ابن شعبان في مختصره أنه لا يصلي على من يذكر
بالفسق والشرّ. وإنما يرغب في الصلاة على من يذكر بخير.
وروى بعض المدنيين عنه أنه قال من ترك الجمعة لم أرغب في الصلاة عليه إذا
مات. وقد قال بالمذكور في مختصر عبد الله، لا تترك الصلاة على أحد من
المصلين للقِبلة. وبه قال الثوري وأبو حنيفة والشافعي. وهذا الذي قاله ابن
شعبان عن مالك من النهي عن الصلاة على من يذكر بالفسوق والشر، ظاهر إطلاقه
خلاف ما حكيناه من مذاهب الأئمة من الصلاة على كل مسلم. وإن كان المراد
بهذه الرواية نهي الإنسان عن الرغبة في الصلاة على مثل هؤلاء إذا قام بفرض
الصلاة عليهم غيره، فذلك غير خارج عن أصل المذهب. وقد روى ابن وهب عن مالك
في الميت يكون معروفًا بالفسق والشر قال لا تُصل عليه واتركه لغيرك. قال
وإنما يرغب في الصلاة على الرجل الذي يذكر عنه الخير. فعلى هذا يجب أن يحمل
ما حكيناه عن ابن شعبان. ألا ترى قوله وإنما يرغب في الصلاة على من يذكر
فيه خير. وهذه إشارة إلى مطابقة رواية ابن وهب. وأما إن
__________
(1) رواه الطبراني في الكبير. قال ابن أبي شيبة في محمَّد بن زياد صاحب
نافع ولم أجد من ترجمه. مجمع الزوائد ج 3 ص 41.
(1/1170)
كان المراد بهذه الرواية نهي الكل عن
الصلاة على هؤلاء فهذا خلاف مذاهب الأئمة فلا تحمل هذه الرواية عليه، وإن
كان ابن شعبان قد روى في مختصره عن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى
الله عليه وسلم - قال: من مات وعنده جارية مغنيّة فلا تصلوا عليه (1).
وظاهر هذا الحديث إطلاق الرواية التي حسماها ابن شعبان عن مالك في أنه لا
يصلي على من يذكر بالفسق والشرّ. ولكن الحديث يحتمل من التأويل ما تأولنا
عليه الرواية.
والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: أما المبتدعة كالمعتزلة والخوارج.
فالخلاف بين أهل الأصول في تكفيرهم مشهور. واختلف فيه قول القاضي ابن الطيب
وقد قدمنا في كتاب الصلاة الخلاف في تكفيرهم فلا معنى لإعادته. فإذا قلنا
بتكفيرهم فلا شك في منع الصلاة عليهم. وإذا قلنا بفسقهم لا بكفرهم جرى
الأمر في الصلاة عليهم على ما قدمناه من الصلاة على أهل الشرِّ. بل هؤلاء
أشد للاختلاف في كفرهم، والاتفاق على إيمان أولىك. وإذا فسقوا بمذهبهم ولم
يكفروا حسن ما قاله القاضي من اجتناب أهل الفضل الصلاة عليهم وحسن أن لا
يرغب المصلي في الصلاة عليهم إذا أمكنه ترك الصلاة عليهم لغيره. وقال مالك
في المدونة في القدرية والإباضية لا يصلي على موتاهم ولا تُعاد مرضاهم.
وذكر سحنون أن ترك الصلاة على جهة الأدب لهم، وإذا خيف أن يضيّعوا غُسّلوا
وصُلى عليهم. وهذه الطريقة سلكها القاضي ها هنا. وأما إن تُرك قول مالك في
المدونة على ظاهرة أفاده تكفيرهم. وغير بعيد إجراؤه على ظاهره.
فقد قال مالك في مختصر ابن شعبان فيمن يقول: القرآن مخلوق هو كافر. وقال في
رجل خطب إليه رجل من القدرية: لا يزوجّه. قال الله تعالى: {وَلَعَبْدٌ
مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} (2). وهذا يطابق إطلاق
قوله في المدونة.
ولكنه قال أيضًا فيمن قال بخلق القرآن يضرب ويسجن حتى يموت. القاسم في
طائفتين من الخوارج الحروريْة والقدرية يقع بينهم قتل فعلى من قرب منهم أن
__________
(1) رواه الحاكم في التاريخ والديلمي وفي إسناده سليمان الخواص قال الأسدي
ضعيف جدًا. الجامع الكبير للسيوطي ج 6 حديث 23138
(2) سورة البقرة، الآية: 221.
(1/1171)
يواريهم ويغسلهم ويصلي عليهم وذلك استحسان،
وليس بواجب. وكأن هذه الطريقة طريقة من تردّد بين المذهبين، فلم يحزم
الصلاة ولم يُوجبها ولكنه استحسنها. وقد يعتضد من منع الصلاة عليهم بناء
على تكفيرهم بظواهر السمع.
فروى ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: القدرية مجوس هذه
الأمة. فإن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدوا جنائزهم (1). وذكر لابن
عمر الذين يكذّبون بالقدر فقال ابن عمر: أنا منهم بريء فلا تعودوا مرضاهم
ولا تصلّوا على موتاهم. وأما الصلاة على البغاة فاختلف الناس فيها. فعندنا
وعند الشافعية أن أهل العدل إذا قتلوا أهل البغي فان أهل البغي يغسلون
ويصلّى عليهم. وقال أبو حنيفة لا يغسلون ولا يصلّي عليهم. ولنا ما قدمناه
من قوله - صلى الله عليه وسلم -: صلّوا خلف من قال لا إله إلا الله وعلى من
قال لا إله إلا الله (2). وأما أبو حنيفة فيقيسهم على الكفار لعلة أنهم
باينوا أهل الحق حربًا ودارًا ولا يسلّم له ما قال. وليست العلّة البينونة
بالدار والحرب. وإنما العلة الكفر. ويستدل أيضًا بقوله تعالى في المحاربين:
{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} إلى قوله تعالى: {ذَلِكَ لَهُمْ
خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (3). ومن
أخبر الباري تعالى بخزيه فلا يكّرم بالصلاة عليهم. وغيرهم من أصحاب الكبائر
لم يخبر بخزيهم فلا تمنع الصلاة عليهم. ولا يسلّم لهم هذا الاستدلال لأن
المقصد بالآية الزجر والردع. والصلاة على الميت سؤال في الرحمة والغفران
له، وبالإِسلام تُمكن الرحمة والمغفرة. وهذا مسلم، وهو أولى السؤال (4) في
المغفرة والرحمة أحوج من غيره. ويستدل أيضًا بترك علي رضي الله عنه الصلاة
على أهل صفيق. وهذا لا يسلم له لمخالفة من رأى رأية
__________
(1) رواه أبو داود والحاكم عن ابن عمر. قال المناوي نقلًا عن ابن المنذر هو
حديث منقطع ولذلك لما أدخله الحاكم قال إن صح لأبي حازم سماع من ابن عمر.
وقال في مهذب منقطع ابن أبي حازم وابن عمر. وقال ابن الجوزي لا يصح. فيض
القديرج 4 ص 534.
(2) رواه الدارقطني وأبو نعيم سنده واه جدًا. إرواء الغليل ج 2 ص305.
(3) سورة المائدة، الآية: 33.
(4) هكذا. ولعله وبالسؤال.
(1/1172)
في الحرب في ذلك. وقد ترك الصلاة على من
قتل معه. وسنتكلم على حكم من قتل من أهل العدل. وكذلك عندنا ميتّان اقتتلا
ظلمًا فإنه يصلّى على جميعهم. قال ابن القاسم في قوم ثاروا على خارجي فقُتل
أصحاب الخارجي والقائمون عليهم وليس فيهم من أراد نصرة في دين وإنما طلبوا
الدنيا، أو فئتين من المسلمين يقع بينهم قتال فإنهم يغسلون ويُصلى عليهم،
الظالم منهم والمظلوم، ويدفنون. وليفعل ذلك بهم الإِمام، ولا يكره عليه
أحد. ومن قتل نفسه غسل وصلّي عليه خلافًا للأوزاعي لقوله: لا يغسل ولا
يصلّى عليه. ركره عمر بن عبد العزيز الصلاة عليه. ولنا قوله - صلى الله
عليه وسلم -: صلوا خلف من قال لا إله إلا الله وعلى من قال لا إله إلا الله
(1). وبهذا الحديث أيضًا نردّ على الزهري في قوله أن المرجوم لا يغسل ولا
يُصلي عليه. وبأن النبي - صلى الله عليه وسلم - على الغامدية. فقال له عمر
رضي الله عنه تصلي عليها فقال: نعم لقد ثابت توبة لو قُسمت على سبعين من
أهل المدينة لوسعتهم (2). ولا معنى لقول قتادة أن ولد الزنا لا يغسل ولا
يُصلى عليه. لأن ما قدمناه من عمومات الظواهر حجة عليه، ولأنه كسائر
المسلمين ولا ذنب له بزنا أمّه. وهذا حكم الصلاة على سائر المسلمين وعلى
أهل الكبائر منهم وأهل البدع فيهم. أما من يشك في مذهبه - فذكر ابن حبيب في
غريب طرأ إلى بلد ولا يعرف مذهبه أنه لا يُصلى عليه إذا كان بالموضع مسلمون
ونصارى لا يغسل ولا يوارى (3) ولا يُستقبل به قبلتنا ولا قبلة غيرنا إلا أن
يوجد بمدينة النبي - صلى الله عليه وسلم -. ... (4) بهيئة المسلمين فليدفن
مع المسلمين لأنه لا يكون بها غير مسلم. فرأى ابن حبيب أن الشك في الاعتقاد
لا يمنع الصلاة على من يكون ظاهرًا يغلب على الظن منه الإِسلام. فالختان لا
دلالة فيه لاشتراكه. ومدينة النبي - صلى الله عليه وسلم - لمّا كانت لا
يسكنها إلا المسلمون، صار ذلك ظاهرًا يدل على إسلام من وجد بها فيدفن مع
المسلمين كما قال ويصلّى عليه. وقد رأى ابن وهب
__________
(1) تقدم تخريجه قريبًا.
(2) رواه مسلم. إكمال الاكمال ج 4 ص 458. والعارضة ج 6 ص 212
(3) ثلاث كلمات غير واضحة. وما أثبتناه يستقيم به المعنى.
(4) كلمة ممحوة.
(1/1173)
الختان علمَا على الإِسلام. فقال فيمن وجد
ميتاً أنه يجسن على ذكره من فوق الثوب فإن كان مختونًا غسل وصُلي عليه.
وظاهر هذا خلاف ما ذهب إليه ابن حبيب من ترك الاستدلال بالختان لاشتراكه.
فإن قيل إن ابن حبيب إنما لم يستدل في بلد فيه نصارى يختتنون. وابن وهب
استدل ..... (1) بفلاة لا أحد بها، قيل إذا علم أصل المشاركة بين أهل
المذهبين فلا معنى لوجود المشارك وتجويزه وجوده. وقد حكى ابن سحنون فيمن
لفظه البحر أنه ينظر إلى العلامات. فإن لم تكن نظر إلى غالب السفّار فإن
كان مسلمون صلي عليه ونوي بالدعاء مسلماً فعوّل على العلامة ولم يذكر هل هي
ختان أو غيره. فإن فقدها نظر إلى غالب السفار لإفادة الغالب من الظن ما
تفيده العلامة. والتعويل ها هنا على الغالب كتأويل سحنون عن ابن القاسم في
قوله فيمن وجد بفلاة لا يدري مذهبه أنه لا يوارى ولا يصلى عليه. قال سحنون
هذا بفلوات المشركين. وأما بفلوات المسلمين فإنه يُغسل ويُصلى عليه. فأنت
ترى كيف أشار سحنون إلى اعتبار الغالب كما أشار إليه ابن وهب وإن كان ابن
وهب لم يُراع السلكين فيما حكيناه عنه بل أطلق جوابه. ومراعاة الغالب ها
هنا كمراعاة الغالب فيمن وجد ميتاً من المسلمين. وقد اختلط بغيره من
اليهود، فإن أصحابنا اختلفوا في ذلك.
فقال سحنون يغسل جميعهم ويصلّى عليهم وينوي بالدعاء المسلم. وبهذا قالت
الشافعية. وقال أشهب لا يُصلى عليهم حتى يعرف المسلم بعينه بخلاف أن يكون
الغالبَ المسلمون. وهكذا قال ابن القاسم: إذا كان الغالب المسلمين فإنه
يُصلي عليهم وينوي بالصلاة المسلمون، وبمراعاة الغالب أيضًا، قال أبو
حنيفة، وقال سحنون إذا مات رجلان تحت هدم، أحدهما يهودي والآخر مسلم.
__________
(1) هو مقدار كلمة.
**** هذه الصفحة إلى نهاية النسخة تسربت الرطوبة إلى بقية الأوراق. وكلما
تقدمنا كان انتثار المحو كثر. فاجتهدنا قدر المستطاع إلى صفحة 322 في
استكمال النص حسب أقرب فرض للكلمات الممحوة اعتمادًا على السياق وعلى ما
بقي من حرف أو حرفين في الكلمة. ولكن في السبع صفحات الأخيرة اشتد تخريب
الرطوبة وسرى حبر الكتابة فاختلطت الكلمات مما تعذر معه المضي في التحقيق.
ولذلك اكتفينا بتثبيت نص القاضي عبد الوهاب في التلقين وبه يتم كتاب
الصلاة.
(1/1174)
ولأحدهما مال لم يعرف المسلم ولا ذو المال.
قال يغسّلان ويكفّنان في ذلك المال. ويصلّى عليهما والنية للمسلم ويبقى
المال موقوفًا. فأفادت هذه الروايات اضطرابًا في التعويل على الأغلب كما
أفادت اضطرابًا في الختان. لكن الاضطراب فيه يمكن أن يصرف إلى اختلاف في
حال. وهل وجد وجودًا يفيد ظنًا أم لا؟ وأما الاختلاف في الغالب فكأنه تقابل
فيه أصلان: أحدهما للمسلم حقًا في الصلاة عليه فلا يسقط مع القدرة عليها.
فإن قلنا بهذا صلي عليهما ونوي المسلم. والثاني أن مراعاة الأغلب وتعليق
الأحكام عليه له أصول في الشريعة. وقد ثبت الإجماع على أنهم لو كانوا كلهم
كفرة لم يصلّ عليهم. فإن كان جلّهم كذلك أجري الجلّ مجرى الكل. والخلاف في
مراعاة الغالب ها هنا أوقع منه في مراعاة غالب سكان البلد والفلاة والسُفار
على ما أشرنا إليه في الروايات. لأن ها هنا: من يُقطع بتحريم الصلاة عليه
اختلط بمن تجب الصلاة عليه، فقد يلحق بباب اختلاط الحلال بالحرام على ما
عرف في أصول الفقه.
وإن كان قد قال بعض الناس أن القصد للمسلمين يرفع الحظر. وتخرج المسألة عن
باب اختلاط الحلال بالحرام. وليس في تلك المسائل قطع بتحريم الصلاة.
لكن فيها تردد بين تحليل وتحريم فيجب أن يرجع إلى الأصل الثابت، قبل حالة
الشك. وإنما نبهنا على هذا لئلا يختلط أصل بأصل. وقد أفادت الروايات أيضًا
اختلافًا في مواراة المشكوك فيه ولا معنى للمنع من ذلك إذا احتيج إليه ولم
يقصد به قصدَ العبادة المسلوكة في المسلم. فأما قول سحنون في المال المشكوك
فيه بانهما يكفّنان فيه وتبقى بقية المال موقوفة. فإن في إطلاق الجواب
نظراً. فإن المال إذا علم أنه لم يخرج عن أيديهما وشك في عين المستحق منهما
فنحن نعلم أن أحدهما لا يستحق التكفين منه قطعًا، ونشك في عينه. فكيف أبيح
التكفين فيه لهما، إلا أن ينزله منزلة مال يتداعاه رجلان فحكمه القسمة
بينهما. فينبغي لمن سلك هذا المسلك أن يشترط تساوي الكفنين، ولا يكفن
أحدهما على ما يليق به فيقع التفاضل في القسمة، ويجري ورثتهما في الباقي
على حكم التداعي فيه. هكذا مقتضى هذه الطريقة إن كان قصدها.
(1/1175)
والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: مذهبنا
أن الإِمام لا يصلي على من قتله في حدّ أو قصاص. وسواء قتلهم الإِمام أو
كانوا لصوصًا كابروا قومًا فقتلوهم لأنهم لو رفعوا إلى الإِمام لقتلهم.
وأما من ضربه الإِمام في حدّ فمات من ذلك الضرب فإن الإِمام يصلي عليه لأنه
لم يكن حدّه الموت. وقد يتخرج من الروايات التي حكيناها أن الصلاة على أهل
الشرِّ تجتنب ترك الصلاة على هذا. وقال ابن نافع لا بأس بصلاة الإِمام على
من قتله في حد. وقال ابن حنبل لا يصلي الإِمام ..... (1) على الغالّ من
الغنيمة. وظاهر مذهب الشافعي جواز الصلاة عليهم. وقال محمَّد بن عبد الحكم
يصلي الإِمام على المرجوم إن شاء. واحتج من ذهب إلى جواز صلاة الأئمة على
هؤلاء بأنه - صلى الله عليه وسلم - صلى على الغامدية بعد أن رجمها في الزنا
(2). واحتج ابن عبد الحكم لما حكيناه عنه. بأن النبي - صلى الله عليه وسلم
- صلّى على ماعز والغامدية. وألزمه بعض أشياخنا أن يقول بصلاة الإِمام على
من قتله بقوَد أو غيره. وقد لا يلزمه ذلك إذا كان إنما اقتفى فعل النبي -
صلى الله عليه وسلم - في الصلاة على المرجوم ولم يقس عليه.
وأما مالك فإن مذهبه يعلل بأن الحدود إنما تقام زجرًا وردعًا للعصاة.
وإقامتها للأئمة. فترك الأئمة الصلاة عليهم أشد تحقيقًا لمباينتهم وإنكارًا
لفعلهم. فلهذا خصّ الإِمام بالنهي دون غيره. فقد اعترف رجل من أسلم بالزنا
والإحصان فرُجم ولم يصل عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - (3).
قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: ومن لم تعلم حياته من الأجنة بصراخ أو ما
يقوم مقامه من طول المكث (4) لم يغسّل ولم يصلّ عليه. ولا أعتبار بحركته
إذا لم يقارنها طول إقامة.
قال الفقيه الإِمام رحمه الله: يتعلق بهذا الفصل سؤالان: أحدهما أن يقال:
__________
(1) هو مقدار ثلاث كلمات ولعله على من قتله في حد - ولا.
(2) رواه مسلم إكمال الإكمال ج 4 ص 458. والترمذي. العارضة ج 6 ص212
(3) لم أجده.
(4) مكث -غ- مكثه - الغاني.
(1/1176)
1 - لِمَ قال: لا يصلي على السقط حتى يستهل
صارخًا؟.
2 - ولمَ لم يجعل الحركة دليلًا على الحياة؟.
الجواب عن السؤال الأول أن يقال:
اختلف الناس بماذا يكون المولود من المسلمين يستحق الصلاة؟ فقال مالك بأن
يستهل صارخًا. وروي عن الشافعي إذا سقط بعد أربعة أشهر من زمن العمل صلّى
عليه. ومن الناس من قال يُصلي عليه (1). وقال ابن جبير لا يصلى على من لم
يبلغ. فأما مالك فيستدل بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: إذا استهل
السِقط صلي عليه (2). وروي أيضًا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
يصلى على المولود ويدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة (3). ولأنه إذا ظهر دليل
حياته وقطع بأنه حي لحق بالبالغين.
وأجري حكم البالغين عليه في الصلاة كما يجري حكم البالغين عليه في كثير من
الأحكام. فأما المخالف فإنه يستدل بما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
لم يصلّ على ابنه إبراهيم (4). قيل قد روى عبد بن أبي أوفى أنه قد صلى عليه
(5) فيمكن أن تحمل روايتهم على أنه لم يصل عليه بنفسه وأمر غيره أن يصلي
عليه. ولا معنى لقوله: أن من لا يبلغ لا ذنب له فاستغني عن الصلاة عليه.
فإن هذا يبطل بالصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -. وأيضًا فإنها
عبادة فيؤمر بها فيمن أذنب ومن لم يذنب. وأما ذهاب الشافعي إلى اشتراط مضي
أربعة أشهر في زمن العمل فيمكن أن يكون تعلقًا منه بظاهر الخبر الوارد بأن
الروح ينفخ فيه في هذا المقدار فيلحق حينئذ بالأحياء. وإذا ثبتت الصلاة
عليه، فإن مالكًا سئل عن الصلاة على المنفوس في المنزل فقال: ما علمت ذلك.
قال مطرف كرهه مالك وقد صلى ابن عمر رضي الله عنهما على صبي في جوف داره ثم
أرسله إلى المقبرة ولم يتبعه. قال ابن حبيب أرى ذلك
__________
(1) ولعله أنه يصلي عليه وإن لم يبلغ أربعة أشهر وهو قول أبي موسى. انظر
الشرح الكبير على متن المقنع ج 2 ص 337.
(2) المصنف لابن أبي شيبة الباب 115 ج 3 ص 15 - 11.
(3) رواه ابن أبي شيبة. وعلق عليه. قال يونس وأهل زياد يرفععونه إلى النبي
- صلى الله عليه وسلم - وأنا لا أحفظه. ج 3 ص 10ح 11589.
(4) أخرجه أبو داود بسنده إلى عائشة رضي الله عنها وكذلك أحمد والبزار وأبو
يعلي. نصب الراية ج 2 ص 280 والهداية ج 370
(5) لم أجده.
(1/1177)
من عذر لأنه كبُر وضعف بصره. ولا يغسل
السقط إذا لم يصل عليه ولا يحنّط ولا بأس أن يغسل عنه الدم لا كغسل الميت.
والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: أما الصراخ فلا شك في دلالته على
الحياة، لاطراد العادة التي لا يصرُخ إلا الحي. وهذا مقطوع به. وقد اضطرب
المذهب في الحركة والرضاع والعطاس. فقيل لا يكون ذلك دليلًا على الحياة
يقتضي حكم الحي. فإن (1) أقام يتنفس ويفتح عينيه ويتحرك حتى يسمع له صوت.
وإن كان خفيفًا. واستدل إسماعيل القاضي على نفي دلالة الحركة التي ليست
ببينة بأنه قد كان يتحرك في البطن. واستدل القاضي على ذلك بأن المقتول
يتحرك. وأما العطاس فإن من جعله دلالة على الحياة أجراه مجرى الاستهلال،
وزعم أن العادة أطردت بأن ذلك لا يكون إلا من الحي. ومن أنكر ذلك قال: يمكن
أن يكون ريحًا. وأما الرضاع فلا معنى لإنكار دلالته على الحياة لأنا نعلم
علمًا يقينًا أنه محال في العادة أن يرضع الميت، وليس الرضاع من الأفعال
التي تكون مترددة بين الطبيعة والاختيار كما قال ابن الماجشون: إن العطاس
يكون من الريح والبول من استرخاء المواسك، لأن الرضاع لا يكون إلا مع القصد
إليه. والتشكك في دلالته على الحياة تطرق إلى هدم قواعد علوم ضرورية.
والصواب ما قاله ابن وهب وغيره أنه كالاستهلال، وما أظن من خالفه من
أصحابنا يهجم على إنكار دلالة ذلك على الحياة. لكنه قد يزعم أن هذا الحكم
معلق في الشرع بالاستهلال دون ما ضاهاه من الدلالة على الحياة.
وقد يتعلق بما قدمناه من قوله - صلى الله عليه وسلم - إذا استهل السقط صُلي
عليه (2). دليل هذا الخطاب أنه إذا لم يستهل لم يصل عليه. وهذا يخرج
المسألة من النظر الأول إلى نظر آخر. وأما إن كان المعتمد على ما يقوم مقام
الصراخ في الدلالة على الحياة كما أشار إليه عبد الوهاب ها هنا. فلا شك في
كون الرضاع دلالة على الحياة.
وأما إذا لم ينفصل الجنين من البطن لم يعتبر حكمه في الصلاة. قاله مالك في
أم ولد المسلم النصرانية تموت حاملًا منه. فإن أهل دينها يلونها إذ لا
__________
(1) هكذا ولعل الصواب: إلاَّ إن أقام لعدم وجود جواب الشرط في كلامه.
(2) تقدم تخريجه قريبًا.
(1/1178)
حرمة لجنينها حتى يُولد. وإذا وُضح أن
الجنين لا حكم له قبل الولادة وإنما له الحكم بعد الولادة إذا استهل فهل
ذلك ........... (1) وقد تقدم الكلام على القطع لهم بالجنة. وأما أولاد
الكافرين الذين لهم ذمة. فلا شك أن ....... (2) من صلى عليه. وقيل إن لم
يكن معه أبواه ولم يبلغ إلى أن يتدين فإن المسلم إذا اشتراه كان له حكم
المسلمين في الصلاة عليه والموارثة والقود والمعاقلة. وقيل إذا ملكه المسلم
وليس معه أبواه إن مات بحدثان ذلك لم يصل عليه وإن كان قد طال زمان ملكه
وقد تشرعّ بشريعة الإِسلام وتزيى بزي أهله فله حكم الإِسلام في الصلاة
والموارثة. والقود والمعاقلة. وقيل أما من ولد من أهل الكتاب في ملك مسلم
فهو على حكم الإِسلام بخلاف المولود في ملك كافر. وقيل بعكس هذا. وسبب هذا
الاضطراب أن من لا يعقل لا يتصور فيه إعتقاد الإيمان والكفر (3) كما لا
يتصور ذلك فيه استحال إجراء الإيمان أو الكفر من ناحية الاعتقاد. وإذا
استحال ذلك لم يبق إلا تصور الإيمان الحكمي فأي هذين الحكمين يضاف إليه؟
هذا موضع الإشكال فمن استصحب حال التناسل أجراه على حكم الكفر. .... (4)
بالاتفاق على أولاد أهل الذمة وإن كان للآخر أن يمنعهم من هذا القياس
بالمنازعة في التعليل فيرى أن ذلك إنما ثبت لأبناء أهل الذمة بحكم الذمة لا
بحكم التناسل والسبي أو المولود عند من لم يعقد له ولا لأبويه ذمة يمنع من
إجراء أحكام الإِسلام عليه. وقد أشار ابن عبدوس إلى هذه الطريقة فقال رواية
ابن القاسم أولى لأن لهم حكم الكفر وهو الأكثر والغالب، لأنه قد ولد في دار
الكفر مع أبويه فلا ينتقل عنه إلا بالإِسلام من أبيه أو يجيب إلى الإِسلام
وقد عقله. فإن قيل فأنت لا تبيعهم من أهل الذمة ولا تفاديهم بالمال: قلت لا
أفعل لأني أجبرهم على الإِسلام إذا لم يكن معهم أحد أبويهم.
وقد قال سحنون يفادون بالمسلم ولا يفادون بالمال. وقد قال مالك يجبر على
__________
(1) نصف سطر غير واضح. فهل ذلك في كل ولد استهل أم لا: أما أولاد المسلمين
فلا خلاف في الصلاة عليهم.
(2) سطران غامضان بسبب المحو الناتج عن الرطوبة في أعلى الصفحة.
(3) هكذا ولعل الصواب فلمَّا لم.
(4) كلام ممحو والأقرب أنه: وقد يعتمد هذا.
(1/1179)
الإِسلام صغار الكتابيين وكفار المجوس.
فأنت ترى ابن عبدوس كيف أشار إلى ما قلناه من استصحاب حكم التناسل غير أنه
في أثناء كلامه أشار إلى استصحاب حكم الدار، فإن حكم الدار هو عمدة تعليله،
فإنها طريقة من قدمنا قوله من أصحاينا في تفرقة المولود في ملك المسلم أو
الكافر. إلا أن يكون أولئك إنما يعتبرون ملك الكافر حيث كان، وإن كان دار
الإِسلام فإن هذا يكون بمعنى آخر، وإنما كان استصحاب حكم التناسل والدار
يقتضي جواز بيعهم من أهل الذمة، اعتذر عنه ابن عبدوس بأن منعه بمعنى آخر.
وهو جبرهم على الإِسلام، وبيعهم يمنع من جبرهم إذا عقلوا. ومن استصحب حال
الفطرة الأولى التي أشار الشرع إلى أن أصل الخلق ومبدأه بني عليها. قال
الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ
ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} (1) الآية. وقال النبي
- صلى الله عليه وسلم -: كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو
ينصرانه (2). فأشار إلى أن الأبوين ينقلانه. ولكن طرد هذا التعليل يقتضي أن
لا يعتبر وجود أبويه في حال لا يعقل فيها. لاستحالة النقل حينئذ إلا أن
يتأول أصحاب هذه الطريقة قوله يهودّانه على معنى أنهما يحكمان بمصيره
يهوديًا لا على أنهما يعلمانه اليهودية فتصح طريقتهم حينئذ. ولكن في حمل
الحديث على هذا نظر يطول.
وإذا تقرر حكم دين من لم يبلغ، فما حكم انتقال من لم يبلغ عن دينه؟ هذا
عندنا فيه قولان. هل يعتبر انتقاله فاختلف في ولد المسلم يرتد قبل البلوغ
فيموت. هل يصلى عليه أم لا؟ وكذلك ولد الكافر يُسلم قبل البلوغ اختلف هل
يعتد بإسلامه أم لا، وهذا فيمن يعقل ما انتقل إليه. وقد اعتمد من رأى
الانتقال مؤثرًا بأن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعبد الله بن عباس رحمه
الله كانا معدودين في المسلمين قبل بلوغهما.
ولو أسلم ولد الكافر قبل البلوغ ثم ارتدّ قبل أن يبلغ جبر على الرجوع عن
ارتداده، ولم يقتل، ولو بلغ على ذلك. لأن إسلامه لم يكن بالمجمع عليه.
وقال المغيرة يقتل قبل بلوغه إذا تمادى على ردته. وقال ابن عبدوس: لم يختلف
أصحابنا في قتل أولاد المسلمين إذا ارتدوا وتمادوا على الردة بعد البلوغ.
__________
(1) سورة الأعراف، الآية: 172.
(2) رواه البخاري. فتح الباري ج 3 ص 496/ 494.
(1/1180)
قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: ولا
يغسّل الشهيد في المعترك ولا يصلّى عليه. ويدفن في ثيابه. وكذلك إن حمل
جريحًا فمات (1) في الغَمرة. ويصلّى على كل الشهداء سواه.
قال الفقيه الأمام رحمه الله: يتعلق بهذا الفصل أربعة أسئلة: منها أن يقال:
1 - ما المانع من الصلاة على الميت الشهيد؟.
2 - وما الدليل على أن الشهيد لا يغسل ولا يصلّى عليه؟.
3 - ولمَ قيد قوله بالمعترك؟.
4 - وما معنى تنبيهه على دفنه في ثيابه؟.
فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: المانع من الصلاة على الميت نوعان:
نقيصة وفضيلة (2). فأما النقيصة فالكفر وقد تكلمنا عليه. ... (3).
وعدم الاستهلال وقد تكلمنا عليه. ووجود بعض البدن. فإن هذا يلحق بباب
النقائص وإن لم يكن نقصًا على الحقيقة. فأما الصلاة على بعض البدن فاختلف
الناس فيه فالمشهور عندنا أنه لا يصلى على نصف البدن فدون. وإنما يصلى على
أكثره. وبه قال أبو حنيفة وقال ابن حبيب يصلّى على عضد يوجد من الميت وينوى
به. وبه قال ابن أبي سلمة والشافعي. فوجه القول الأول أنه لا يُصلى إلا على
أكثر البدن قياسًا على السنّ والظفر ويد السارق. وأجاب أصحاب الشافعي عن
القياس على السنن والظفر بأن الصلاة على ذلك لهم فيها وجهان: وأما يد
السارق فإنها منفصلة من حي والحي لا يصلى عليه. وقد دفن عروة رجله بعد أن
غسلها وكفّنها ولم يصل عليها لأنها من حي. ومن أجل الصلاة على عضو يشترط في
النية إن كان صاحب العضو ميتاً. وقد قال بعض أهل النظر أن سببب الاختلاف في
الصلاة على أقل البدن جواز إعادة الصلاة على الميت. فكانه يرى أنه إذا كان
الموجود أقل البدن أمكن أن يكون كثره قد صلى عليه من وجده.
__________
(1) ثم مات -غ- الغاني.
(2) كلمة ممحوة. وقد تكون فضيلة.
(3) هو مقدار عن كلمات.
(1/1181)
وإذا أمكن ذلك لم يصل على الأقل لأنه يوقع
الصلاة في ممنوع وهو الصلاة على الميت مرتين. ومن أجاز الصلاة على الميت
مرتين فلا معنى لمنعه من الصلاة على أقل البدن. وهذا التخريج عندي للنظر
فيه مجال. لأن هذا الممكن المتوقع إيقاعه في ممنوع يوقع في ممنوع آخر وهو
ترك الصلاة على الميت أصلًا لجواز أن يكون لم يصل على الأكثر البدن. إلا أن
يكون هؤلاء رأوا أن الصلاة على الغائب لا تجوز فترتفع معارضة ارتقاب الوقوع
في هذا الممنوع الثاني.
ولكن لان قالوا هذا فإنه كالخروج عن التخريج الأول. ووجه القول بأنه يغسل
العضو ويصلي عليه ما رواه عيسى ابن دينار في كتاب ابن مزين بأن أبا عبيدة
بن الجراح رضي الله عنه صلى على رؤوس بالشام. وألقى الطائر يدًا بمكة فعرفت
بالخاتم أنها يد عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد فصقى عليها أهل مكة بمحضر من
الصحابة. وأيضًا فإن الصلاة على الغائب إذا ثبتت بصلاة النبي - صلى الله
عليه وسلم - على النجاشي على ما سنتكلم عليه وهو غائب كله. كان من غاب
أكثره ووجد أقله أحّقَ بالصلاة. فإذا وضح ما قلناه في الصلاة على بعض
البدن، وذهبنا إلى المشهور عندنا في منع الصلاة إلا على الأكثر، فهل يشترط
أن يكون الأكثر على بنيته أو لا يشترط ذلك؟ أما إذا كان علي بنيته فلا شك
فيه. وإن كان هذا الأكثر متقطعًا فاختلف قول مالك في غسله والصلاة.
فالإثبات لمَا قدمناه من الأدلة وهو يعمّ المقطع، والصحيح. ووجه النفي أن
غسله لا يمكن لأن فيه زيادة في التمثيل به. وإذا امتنع الغسل امتنعت
الصلاة. لاذا راعينا الأكثر فما هذا الأكثر؟ قال أشهب في المجموعة في
مدونته: إذا وجد البدن بلا رأس ولا أطراف صلى عليه ولا يصلى على الرأس
والأطراف قط (1). ولو وجب هذا لوجب أن يُصلى على أصابعه وأسنانه وأنفه.
وإني مع ذلك لا أدري لعل صاحبه حي. ولو علمت بموته لم أصل على ذلك. ولو وجد
أحد شقيه طولًا مع رأسه أو نصفه عرضًا مع رأسه لم يُصل عليه. وهكذا قال إذا
وجد نصف البدن ومعه الرأس لم يغسل ولم يُكفن ولم يُصل عليه حتى يوجد كثر
بدنه. فظاهر كلام أشهب، هذا أنه لم يعتبر جميع بنية الإنسان، وإنما اعتبر
الأكثر في بنية بدنه دون رأسه. ولا يكاد يتحرر
__________
(1) قد تكون فقط.
(1/1182)
لهذا وجه في النظر. وعلى هذا الأسلوب يجري
الأمر في مسألة الصلاة على الغائب الذي تحققنا أنه لم يصل عليه فإن المشهور
عندنا لا يصلى عليه. وإذا لم يصل على عضو لغيبة أكثر البدن فاحرى ألا يصلّى
على البدن الذي غاب كله.
وأجاز ابن حبيب الصلاة على الغائب ورأى أن غيبته لا تؤثر في إسقاط الصلاة
المشروعة. وبه قال الشافعي فحجة المذهب المشهور عندنا أن الصلاة إنما شرعت
على ميت مسلم، وهذا يقتضي وجود الصورة الموصوفة بهذا. والعضو الواحد
والغائب لا يتحقق فيه هذا المعنى. فلهذا لم يصل عليه. وقياسًا على من كان
بالبلد فإنّ الشرع على إحضاره عند الصلاة. وقوإنفصل عن هذا بأن من في البلد
لا مشقة في إحضاره بخلاف الغائب. وحجة ابن حبيب والشافعي صلاته - صلى الله
عليه وسلم - على النجاشي. وقوإنفصل عن هذا أيضًا بانفصالات منها: أن ذلك من
خواص النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهذا ضعيف مع القول بتعدي أفعاله.
ومنها أنه يمكن أن يكون رفع للنبي - صلى الله عليه وسلم - حتى رآه فصار
كحاضر صلى عليه. ومنها إنما صلّى عليه حين موته وقبل أن يصلي عليه أحد من
قومه بوحي أوحي إليه. وهذا مفقدد فيمن سواه. ولهذا لم يصل لما تطاول زمن
موته. وقد قال بعض المتأخرين يمكن أن يكون ابن حبيب إنما رأى الصلاة على
الغائب .... (1) وعلى هذا الأسلوب أيضًا يجري الأمر في الصلاة على القبر.
إذا دفن الميت بغير صلاة اختلف المذهب في ذلك على قولين: هل يصلى عليه أم
لا؟ واختلف قول مالك فيه. فإذا قلنا بالنهي عن الصلاة على القبر. فهل يخرج
ليصلى عليه. .... (2) أما إذا لم يقع شيء من الدفن فإنه يصلى عليه كما لو
كان باقيًا على نعشه. وأما أذا شرع في دفنه فاختلف فيه على ثلاثة أقوال.
فقيل يمنع إذا هالوا التراب ولا يمنع ...... (2) وإهالة التراب من هيئة
الدفن. وقيل لا يمنع وإن أهالوا التراب ما لم يسووا التراب عليه. وإذا سوي
عليه التراب فأتت الصلاة عليه. وأما إذا كان قد صلي عليه فإن من صلّى
__________
(1) كلام ممحو.
(2) أعلى الورقة تسربت إليه الرطوبة فكانت الكلمات متداخلة غير واضحة وأمكن
بصعوبة قراءتها على ما أثبتناه. وليس ذلك يقينيًا.
(1/1183)
عليه لا تعاد الصلاة عليه. هذا هو المشهور
عن العلماء وأئمة الأمصار. وحكى أصحاب الشافعي أن لهم فيه وجهين: الجواز
والمنع.
وأما من صلى عليه فالمعروف من مذهبنا أنه لا تعاد الصلاة عليه. قوما تقدم
من صلاة من صلى عليه يمنع من إيقاع صلاة أخرى. وقال الشافعي بل تجوز إعادة
الصلاة عليه ممن لم يصل عليه. وحكى ابن القصار ذلك عن مالك. وعند الشافعي
اضطراب في تحرير هذا المذهب. هل يجوز ذلك أيضًا أو يجوز لمن لم يصل من أهل
الصلاة حين موته. أو يجوز إذا تُيقن أنه بقي في القبر منه شيء. أو إنما
يجوز إلى شهر. وأصحاب أبي حنيفة مختلفون أيضًا فيمن دفن بغير صلاة. فمنهم
من يعتبر جواز الصلاة على القبر ثلاثة أيام. ومنهم من يعتبر أن لا يشك في
تغير الميت. فإن شك في تغيره لم يصل على القبر.
وسبب هذا الاضطراب ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه صلي ... ولم
يوقضوه. فذكر أنه لما أصبح صلى على قبرها وصفّ بهم فاقتضى ظاهر هذا جواز
الصلاة على القبر على الجملة. وإن كان القوم لم يصلوا عليها فهي مسألة
اختلاف عندنا.
وإن كانوا قد صلوا عليها فهي مسألة الشافعي والمعروف من مذهبنا فيها ...
وكان من أنكر الصلاة على القبر ينفصل عن هذا بأن الصلاة للنبي - صلى الله
عليه وسلم - ... بموتها ليصلي عليها. فلما لم يعلم بذلك وصلي عليها دونه
صارت الصلاة كأنها ... وقد نقل الشافعي حديثًا يتضمن أمره - صلى الله عليه
وسلم - بأن يختص بالصلاة على الموتى دونهم لكون صلاته رحمة. وقد قيل أنه -
صلى الله عليه وسلم - علل صلاته على القبر يكون القبور مملوءة ظلمة على
أهلها وأن الله تعالى ينورها بصلاته. وهذا التعليل إحالة على غيب فلا يطرد
في غيره. وهو يشبه تعليله في النهي عن تطييب المحرم الذي مات وتعليله في
شهداء أحد. وهذا الجواب شديد (1) يمنع من الاحتجاج بالحديث. وقد اعتمد على
أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يُصل على قبره. فلو جازت الصلاة على القبر
لما تركه السلف مع شدة عنايتهم بالخير. وأجيب عن هذا بأنه - صلى الله عليه
وسلم - نهى عن اتخاذ قبره مسجداً. فامتنعوا من الصلاة على قبره لذلك. وقد
أشار سحنون إلى قريب من هذا التعليل فيمن دفن بغير صلاة. فقال لا يُصلى
__________
(1) هكذا.
(1/1184)
عليه لئلا يكون ذريعة إلى الصلاة على
القبور. وقد قيل إن الناس صلوا عليه متفرقين قوماً بعد قوم. وتوفى - صلى
الله عليه وسلم - يوم الاثنين ودفن يوم الأربعاء. وهذا التأخير لا يجوز في
غيره من الموتى.
وإنما فعل به ذلك - صلى الله عليه وسلم - لما كان الخطاب متوجهًا عليهم
بالصلاة عليه على الخصوص لم يجعل أصلًا في صلاتنا. وقد أنكر بعض أصحابنا
قولهم لم تجمع الصلاة. ورأى أنها قد جمعت عليه. وقد اعتل من منع الصلاة على
القبر إذا صلّي على من فيه بأن الصلاة الأولى فرض والإعادة نفل. ولا يتنفل
بصلاة الجنائز بدليل أن من صلى عليها لا يعيد الصلاة عليها. وأجيب عن هذا
بأن صلاة الفذّ لا يعيدها من فعلها ولم يمنع ذلك من أن يجيء المسجد الواحد
بعد الواحد. واعتل من يمنع الصلاة على القبر بأنها صلاة مفعولة لحق الميت
وحقه ينقضي بالصلاة الأولى. فإذا سقط الحق الذي شرعت العبادة من أجله لم
يصح فعل ما شرع لأجل أمر قد سقط. ولهذا لا يعاد سجود التلاوة لكونها مفعولة
لأجل التلاوة. ولا يُخاطب بالطهارة من لا صلاة عليه. وأجيب عن هذا بأنه
إنما سقط المكتفى به خاصة. ألا ترى أن المحدث إذا تطهير للصلاة فإنه لا
صلاة عليه لأن فَعَل الحق المكتفى به. وإن كان تجديد الطهارة غير ممنوع بل
مشروع (1).
وقد خرج بعض أصحاب الشافعي منع الصلاة على قبر النبي - صلى الله عليه وسلم
- على اختلافهم في شرط جواز الصلاة على الأربعة الأوجه التي ذكرناها وقالوا
إن شترطنا أنه لا يصلي على القبر إلا أن يبقى من الميت شيء في القبر. فإنا
لا نجيز الصلاة على قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - لإمكان أن يكون رفع
من قبره. ففي بعض الأخبار أن الأنبياء يرفعون منأ قبورهم أو ما هذا معناه
... قالوا وإن قلنا إنه يصلى على قبر كل من كان من أهل الصلاة بعد الموت
فإن في الصلاة على قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - اضطرابًا عندي ...
وقيل بل إن طرد الاشتراط في هذا المذهب ... أو يمنع للنهي عن اتخاذ قبره
مسجدًا ... كالشهادة. وها نحن نتكلم عليها.
والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: اختلف الناس في الشهيد الذي قتله العدو
في المعترك هل يغسل ويصلّى عليه أم لا؟ فذهب مالك والشافعي إلى أنه لا
ويغسّل ولا يصلى عليه. وذهب سعيد بن المسيب والحسن البصري إلى أنه يغسّل
__________
(1) هكذا. والصواب مشروعًا.
(1/1185)
ويصلى عليه. وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا
يغسّل لكن يصلّى عليه. فدليلنا عدى نفي الغسل والصلاة حديث شهداء أحد فإنهم
لم يغسلهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا صلّى عليهم ولم تحتفل الرواة
... ويذكره الصحابة رضوان الله عليهم إلا تنبيهًا على مخالفة الشهيد لغيره
من الموتى. ولا يمكن أن يغسل وسبعون شهيدًا ويخفى غسلهم والصلاة عليهم وما
تعلق به المخالف من رواية من روى أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى عليهم فإن
الأئمة ضعفوه لا سيما وقد ذكر فيه أنه كان يؤتى بعشرة فيصلي عليهم ومعهم
حمزة رضي الله عنهم. فكانت صلاته على حمزة سبعين صلاة. وهذا حساب يوهن
الخبر لأن الشهداء سبعون. وإنما يحصل لحمزة سبعون صلاة إذا صلى عليه مع كل
عشرة لو كان الشهداء سبعمائة. وقد قيل لمالك أبَلَغك أن النبي - صلى الله
عليه وسلم - كبر على حمزة رضي الله عنه سبعين تكبيرة. فقال لم يبلغني ذلك
ولا أنه صلى على أحد من الشهداء. فإن تعسفوا وحملوا روايتنا على أنه لم يصل
عليهم أفرادًا حملنا روايتهم على أنه صلى عليهم بمعنى دعا لهم. وتأويلنا
لخبرهم أقرب من تاويلهم لخبرنا. فإن رجحوا خبرهم بأنه مثبت، وخبرنا ناف
فيمكن أن يكون راويه لم يعلم الصلاة. أجبنا بأنه محال أن تخفى الصلاة على
قتلى أحد مع اشتهار قصتهم وكثرة عددهم. على أنا أيضًا نُوجه خبرنا بسلامته
عن الطعن في راويه. فإن تعلقوا بما رواه شدّاد بن الهاد أن رجلًا من
الأعراب جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال ما هذا يا محمَّد؟ فقال
قسمت لك. فقال ما على هذا تبعتك ولكن أتبعك على أن أرمَى بسهم ها هنا.
وأشار إلى عنقه فأموت فأدخل الجنة. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - إن
تصدق الله يصدقك. فلبثوا قليلًا ثم نهضوا إلى العدو فحمل ذلك الأعرابي. وقد
أصابه سهم حيث أشار بيده. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - أهو هو؟ قالوا
نعم يا رسول الله. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: صدق الله فصدقه.
فكفّنه النبي- صلى الله عليه وسلم - وصلى عليه. وجوابنا عن هذا أن نقول
يحتمل أن يكون معنى قوله صلى عليه - صلى الله عليه وسلم - دعا له. ويحتمل
أن يكون مات بعد أن تقضي (1) الحرب على صفة لا تمنع من الصلاة عليه على ما
سنبينه إن شاء الله تعالى. ومما يستدل به أيضًا قوله تعالى: {وَلَا
تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ
أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} (2).
__________
(1) هكذا ولعل الصواب تقضت.
(2) سورة آل عمران، الآية: 169.
(1/1186)
فأثبت الله تعالى لهم حكم الحياة. والحي لا
يغسل ولا يصلى عليه. وبهذا استدل أصحابنا وأصحاب الشافعي. وفيه نظر لأن
طرده يقتضي أن الشهيد لا يورث كما أن الحي لا يورث. ولما أجمع على توريث
الشهيد دل ذلك على أن المراد بالآية حياة الآخرة، لا حياة الدنيا. والقصد
بها تعظيم الشهادة المثمرة دوام الحياة عند الله سبحانه. ومما يستدل به
أيضًا على أبي حنيفة دون الحسن وابن المسيب موافقته لنا على سقوط الغسل.
وسقوط الغسل يشعر بسقوط الصلاة. ألا ترى أن الحائض ما لم تغتسل لم تصل. ومن
لم يجد ماءًا ولا تُرابًا لم يُصل على أحد الأقوال عندنا. وهذا الاستدلال
إنما يصفو بعد البيان عن علة ترك الغسل. واعلم أن للناس فيه ثلاث طرق ذهب
بعض الحذاق إلى أنه غير معلل. وذهب بعضهم إلى أنه معلل. واختلف هؤلاء في
العلة. فقال. بعضهم الدماء أثر الشهادة. وإزالة أثر العبادة لا يحسن. قالوا
وقد نبه النبي - صلى الله عليه وسلم - على هذا المعنى بانهم يحشرون
بدمائهم. وفي هذا إشارة خفيّة إلى أنه يتنرل ذلك عند الله يوم القيامة
منزلة الشهادة على القاتل ظلمًا. ألا ترى أن في الحياة نستدل بتحريك الثوب.
وآثار الضرب بين يدي الحكام على أن المفعول به ذلك مظلوم فكان الدم يوم
المحشر مشعر لأهل الجهاد يكون الشهيد قتل مظلومًا. وقد طعن في هذا التعليل
بأنه يقتضي أن يُغسّل من مات في المعترك بالخنق أو بما في معناه من الأسباب
التي لا يبقى لها أثر أبدًا أو طعن فيه أيضًا بأنه كان ينبغي أن ينقل إلى
التيمم كالميت الذي لا يوجد له ماء، فإنه ييمم. وقد ينفصل أصحاب هذا
التعليل. عن هذه المطاعن، بأنه لما كان الغالب في الحروب القتل بسفك الدماء
لا بغيره من أنواع القتل حكم في الشهيد بهذا الحكم، وغير ملتفت إلى ما يحدث
نادرَا. وهذا كثير في أصول الشريعة. وقد طعن في هذا التعليل أيضًا، لأنه لم
يقصد بذكر دمائهم يوم القيامة إلا قطع وهم من ظن أن غسلهم متعين لما بهم من
أذى. ولم يرد به جعل ذلك علة تمنع من الصلاة.
وقال بعضهم أن العلة كون الشهادة في الشريعة تطهير. والمطهر يستغني عن
التطهير. وقد يطعن في هذا التعلل أن الصبي مطهر وهو مع ذلك يغسل.
وقد ينفصل عن هذا بأن الصغير وإن كان يطهر من الآثام، فإنه يجوز هنا في هذا
(1/1187)
الحكم كما أجرى على حكمه في أحكام كثيرة في
الشرع ... يرثه المسلم. وإن كان في سن من لا يتعقل الإِسلام، وما ذاك إلا
أنه جرى عليه حكم أبويه. وقد يطعن في هذا التعليل أيضًا بأن النبوءة من
أعظم المراتب. وقد غُسّل النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وقد تبين من هذا بأن الشهادة لما كانت مما يكتسب كانت سببًا في ترك
الطهارة: والصلاة إشعارًا بعظم مرتبتها عند الله تعالى. وأنها تغني عما
سواها يطلبها المسلمون. والشهادة مما لا يطلب ولا يكتسب (1). فجرى النبي -
صلى الله عليه وسلم - مجرى امتداد هذا الحكم ليتحقق هذا الحكم ويتأكد
بإجرائه فيه. وأما أصحاب أبي حنيفة فإنهم يفرقون بين الطهارة والصلاة بأنه
لا معنى لغسله بالماء سوى تطهيره. والشهادة تغني الميت عن هذا التطهير
بالماء. وأما الصلاة فإنها شفاعة وسؤال في الذمة. ورحمة الله تعالى لا
نهاية لها. فطلب المزيد منها مرغوب فيه. فالشهيد وإن كان مرحومًا فلا غناء
له عن السؤال له في زيادة الرحمة. وأما ابن المسيب والحسن القائلان بأن
الشهيد يغسل ويصلى عليه، يمكن أن يكونا رأيا حديث قتلى أحد مضطربًا لما
قدمناه من اختلاف الرواة فيه. فعدلا عن القول به. ويمكن أن يكونا رأياه
ثابتًا. ولكنه مختص بقتلى أحد إما لأن الأصل قصد هذه الأفعال عندهم تاولًا
بأنها معللة بعلة تفسد لا يعلم تعديها إلى من سوى قتلى أحد. لأنه أخبر أنهم
يحشرون بدمائهم. فلا يعدل لهما إلى القطع بأن غيرهم من الشهداء كذلك. وقد
تكلمنا على مثل العلة في غسل المحرم أوتطييبه. على أنه قد ذكر في بعض الطرق
أنه قال فإنه لا يكلم أحد في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة الحديث. فأشار
إلى تعدي الحكم. ويمكن أن يكونا سلكا طريقة رابعة بأن رأيا حديث ترك الصلاة
على قتلى أحد منسوخًا. لأن البخاري روى في كتابه أن النبي - صلى الله عليه
وسلم - قبل موته صلى على قتلى أحد صلاته على الموتى.
فاقتضى ذلك- (2) ترك الصلاة على الشهداء. فإذا وضح ذلك فقد اتضح ما قدمناه
من الاضطراب في التعليل اختلاف الناس في غسل الشهيد الذي لم. يبلغ الحلم.
فعنده أن حكمه حكم الشهيد الكبير في ترك الغسل والصلاة. وعند أبي حنيفة أنه
__________
(1) هكذا بالنفي ولعله والنبوة مما لا يطلب ولا يكتسب.
(2) هكذا ولعل الصواب عدم.
(1/1188)
لا أثر للشهادة فيه يوجب سقوط غسله والصلاة
عليه. وأجراه مجرى من لم يستشهد. كما قدمنا أن أصحابه رأوا أن سقوط الغسل
إنما كان لأنه طهارة.
وطهارة الشهادة تغني. فإذا كان الشهيد ليس من أهل التطهير بقي على حكم
الأصل. ونحن قدمنا الجواب عن هذا فيما قدمناه. وذكرنا بأن الشرع جاء بإلحاق
الصغار بالكبار في كثير من الأحكام. وقد ذكر في بعض الطرق زملوهم بدمائهم
فإنه لا يكلم أحد في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة بدم اللون (1) لون الدم
وريحه ريح المسك. أو كما قال يعم كل من يكلم في سبيل الله من الكبار
والصغار. وقد اختلف أصحابنا في الشهيد إذا قتل جنبًا هل يغسل أم لا. فقال
أشهب وابن الماجشون لا يغسل. وقال أحمد إنه يغسل. وذكر بعض أصحابنا أن
الشافعي اختلف قوله كذلك. ورأيت في كتب أصحابه أن الخلاف في ذلك بين
أصحابه. وأكثرهم على أنه لا يغسل. وقد احتج من قال بغسله بقول النبي - صلى
الله عليه وسلم -: ما شأن حنظلة فإني رأيت الملائكة تغسله. فقالت زوجته إنه
جامع فسمع هيعة فخرج إلى القتال. وقد ذكر خبر حنظلة على وجه آخر. وذلك أنه
علل المبادرة إلى غسل سعد بن معاذ بأن قال لئلا تسبقنا الملائكة إلى غسله
كما سبقتنا إلى غسل حنظلة. ومن أنكر غسل الشهيد إذا كان جنبًا يجيب عن هذا
بأن غسل الملائكة لا يسقط ما تعبدنا نحن به من الغسل. فلو كان غسله واجبًا
لأمرنا به ... كأن الشهادة تغني عن الغسل جملة. وكأنها تنافيه فلا يثبت
الغسل كما لا تغتسل الحائض إذا احتلمت وكما لا يطهر الشهيد للشهادة الطهارة
الصغرى.
والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: إنما قيد قوله بالمعترك لما وقع من
الاضطراب فيمن مات بعد تقضي الحرب. وتحصيل مذهبنا أنه إن تحقق الموت في
المعترك لم يغسل ولم يصل عليه. وإن كان قد عاش بعد تقضي الحرب مسألة لا إشك
الذيها غسل وصلي عليه. وإن كان فيها إشكال فظاهر المذهب على قولين. فقال
أشهب الشهيد الذي لا يغسل ولا يصلى عليه من مات في المعركة قطعًا. فأما من
حمل إلى أهله فمات فيهم أو حمل فمات في
__________
(1) النسائي ج 6 ص 28 وأحمدج 5 ص 431.
(1/1189)
أيدي الرجال أو بقي في المعركة حتى مات
فإنه يغسل ويصلى عليه. وقال مالك إن عاش يومًا أو أكثر فأكل وشرب أو عاش
حياة بينة غسل وصلي عليه. وقال ابن القصار وإذا عاشر يومًا أو أكثر يأكل،
غسل وصلي عليه. قال سحنون إذا كانت له حياة بينة حتى لا يقل قاتله إلا
بقسامة غسل وصلي عليه. فنخلص من هذا أن في أشكال الحياة اختلافًا. فاشهب
اعتبرها وأخرجه بها من حكم الشهداء. وسحنون لم يعتبرها. وما حكيناه عن مالك
وابن القصار يذهب إلى الانتظار به. لكن ابن القصار لم يجعل مجرد الأكل
والشرب علمًا على الحياة ها هنا كما جعله مالك ... ويمكن أن يكون مالك رأى
مجرد الأكل والشرب كافيًا في إثبات حكم الحياة ها هنا. ولم يره ابن القصار
حتى ... الزمن الذي ذكره. فلعل مالكًا وابن القصار اختلفا في صفة تحقق
الإشكال. وظاهر مذهب الشافعي كظاهر مذهب أشهب. قال أصحابه إذا مات بعد تقضي
الحرب فليس له حكم الشهادة وإن لم يأكل ولم يشرب وصى أو لم يوص. وقال أبو
حنيفة إن خرج من صفة القتلى إلى صفة أهل الدنيا بأن يأكل ويشرب أو أوصى لم
يثبت له حكم الشهادة كما ذهب إليه أشهب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم
يصل على قتلى أحد وهم سبعون. والظاهر أن سبعين قتيلًا لا يكون موتهم على
أسلوب واحد بل يتفاوت زمنه ويختلف حاله. وهذا يشعر بأنه لا يعتبر الموت
قطعًا كما ذكر. وهذا الاختلاف الذي ذكرناه هو فائدة تقييد القاضي أبي
محمَّد بالمعترك وله فائدة ثانية أيضًا وهو ما وقع في المذهب من الاضطراب
فيمن قتله العدو في غير معترك. فقال ابن القاسم إذا أغار أهل الحرب على
قرية للمسلمين فدفع المسلمون عن أنفسهم فهم كالشهداء. وقال في العتبية إن
قتلوهم في منازلهم من غير ملاقاة ولا معترك غسلوا وصلي عليهم. وقال ابن وهب
هم كالشهداء في المعترك. وقال أصبغ سواء ناصبوهم أو قتلوهم مقافصة أو
نيامًا كشهداء المعترك قتلوا بسلاح أو غيره. والصبي والمرأة كالذكر البالغ.
وقال ابن شعبان الشهيد من قتل بأرض الحرب خاصة من الرجال والنساء والصبيان.
فأنت ترى هذا الاضطراب إذا قتلوهم من غير ملاقاة. فلهذا الاضطراب قيد قوله
القاضي
__________
(1) الإصابة ج 1ص 361.
(1/1190)
أبو محمَّد بالمعترك. وظاهر قول ابن شعبان
أصل حكم الشهادة على القتيل بأرض الحرب. وقد كان قتلى أحد بأرض الإِسلام
وكانت الجاهلية هي الزاحفة إليهم. فإن كان أراد ابن شعبان أرض الحرب التي
بها سكنى الكفار. فحديث قتلى أحد ردّ عليه. وإن كان أراد موضع المحاربة
فليس في الحديث ردّ عليه.
لكنه يكون مذهبه أنه لا يراعي الشهادة في قتلى القرية. وقد قدمنا الاختلاف
فيهم إذا لم يدفعوا عن فنفسهم. وقد صلي على عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وكان القاتل كافرًا. فظاهر هذا حجة لمن قال من أصحابنا أن المقتول إذا لم
يدفع عن نفسه فليس له حكم الشهيد. وللآخرين أن يجيبوا على هذا بأن يقولوا
أنه رضي الله عنه وإن كان قد أنفدت مقاتله. فيمكن أن يكون أكل وشرب. وقد
قدمنا أن مالكًا رأى أن الأكل والشرب يرفع حكم الشهادة. وقد كنا قدمنا
اعتذارًا عن ابن المسيب في قوله إن الشهيد في المعترك يغسل ويصلى عليه.
وقلنا لعله رأى حديث قتلى أحد كالمنسوخ لما حكاه البخاري أنه - صلى الله
عليه وسلم - خرج إلى قتلى أحد قبل موته فصلى عليهم صلاته على الميت. فإن
كان هذا التأويل صحيحًا كانت الصلاة على عمر رضي الله عنه محققة عمل النسخ
الذي ظنّه ابن المسيب. وقد سئل ابن عمر رحمه الله عن غسل الشهيد فقال قد
غسل عمر وكفن وحنط وصلي عليه وكان شهيدًا. فلم يتأول ابن عمر الصلاة على
أبيه ولم يعتذر عنها بما اعتذرنا به نحن من أنه يمكن أن يكون لما قتل
بالمدينة لم يكن له حكم الشهيد وأنه أكل وشرب. بلَ أضرب عن هذين التأويلين.
وقال ما حكيناه عنه. وظاهر كلامه يشير إلى النسخ أو إلى تخصيص قتلى أحد
بذلك الحكم على حسب مقتضى مذهب ابن المسيب. وقد قدمنا قول ... أو من قتل في
غير المعترك كالشهيد. وإن كان امرأة أو صبيًا. وقال أشهب فيمن قتل من
النساء والولدان في المعترك ممن يقاتل ويدفع عن نفسه فهو كالشهيد. وأما من
قتل من الرجال والنساء والولدان ليس على وجه القت الذيغسلون ويصلى عليهم.
فقوله فيمن قتل على غير وجه القتال هو إحدى الطريقتين اللتين قدمنا تقييد
قوله في النساء والولدان بأنهم ممن يدافع عن نفسه. وقد قال سحنون كل من
قتله العدو من صغير أو كبير في معترك أو غير معترك فله حكم الشهداء. فلم
يقيد الصغير بكونه ممن يدافع عن نفسه. وكذلك المرأة لم يقيدها بذلك. وقد
كنا قدمنا
(1/1191)
مذهب أبي حنيفة وأنه لا يرى الشهادة تثبت
به. ولكن ميّز البالغ. وتكلمنا على سبب الاختلاف في ذلك هناك. وإذا وضح ما
قلناه في الحكم في الشك في حياة الشهيد ... وقال أشهب في القوم بأرض العدو
يجدون شهيدًا فلا يدرون من قتله يغسل ويصلى عليه. وقال سحنون إذا رموهم
بأحجار أو نار فوجدوا في المعترك من قد مات ... حتى يظهر خلاف إن كان وقع
بينهم لقاء أو حرب أو مراماة. فإن كان أشهب قصد الذي حكيناه عنه أنه يصلى
على من لم يدر قاتله.
وإن كان هناك لقاء أو مراماة فهو خلاف لما حكيناه عن سحنون. وقد كان أشهب
رأى أن الأصل ثبوت الصلاة على الشهيد. ونحن على شك في هذه القتلة هل هي مما
يسقط الصلاة أم لا؟ بل استصحب الأصل في وجوب الصلاة عليه. ورأى سحنون أن
الغالب أن الإنسان لا يقتله قومه ومن يقاتل معه. بل الغالب أنه إنما يقتله
العدو ... القتلة بحكم قاتلها غالبًا. وأجرى الظن مجرى اليقين في تحقق
الشهادة. هذا إن قصد أشهب أن ما ذكرناه كان اختلافًا محققًا وإن كان لم
يتكلم على قتيل واحد وجد من غير ملاقاة ولا مراماة. فليس بمخالف لقول
سحنون. وقد قال أصحاب الشافعي إذا انكشف الصفان عن رجل مقتول لم يغسل ولم
يصل عليه سواء كان به أثر أو لم يكن. وظاهر هذا كظاهر ما حكيناه عن سحنون.
وقال أبو حنيفة وابن حنبل إن لم يكن له أثر غسل وصلي عليه. وإن خرج منه دم
فإن كان من عينيه أو من أذنيه أو من رقبته لم يغسل. وان خرج من أنفه أو
دبره أو ذكره غسل وصلي عليه. فكأنهما رأيا مع وجود الأثر يتحقق كونه
مقتولًا ومع عدمه يمكن أن يكون مات حتف أنفه فلم تتحقق له الشهادة. لكن
الذي ذكر من تفصيل مخارج الدم لا يظهر لي الآن فيه وجه محقق ..
والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: إنما نبه على قوله في ثيابه لاختلاف
الناس في ذلك. فنحن وأبو حنيفة لا نرى أنه تبدل ثيابه. وقالت الشافعية إنه
بالخيار إن شاء دفنه في ثيابه وإن شاء دفنه في غيرها تعلقًا منهم بأن صفية
بنت عبد المطلب بعثت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بثوبين يكفن فيهما
حمزة رضي الله عنه. فكفنه في أحدهما وكفن في الآخر رجلًا آخر. ونحن ننفصل
عن هذا بأن
(1/1192)
هذه قضية في عين ولم تتضمن إزالة ما عليه.
وهو الوجه الذي منعناه. وأما الزيادة على ما عليه وتكفينه إذا لم يكن عليه
شيء فسنذكر حكمه. ونستدل لما قدمناه بحديث قتلى أحد. وقد أمر - صلى الله
عليه وسلم - بأن يدفنوا على هيئتهم. فأما الشهيد الذي يوجد عريانًا فإنه
يكفن. قاله أصبغ. وإن كان عليه ما لا يستر جميع جسده ستر بقية جسده.
والدليل على هذا أن مصعب بن عمير قتل يوم أحد ولم يترك سوى نمرة إن غطي بها
رأسه بدت رجلاه. وإن غطي رجلاه بدا رأسه. فقال - صلى الله عليه وسلم -:
"غطوا رأسه واجعلوا على رجليه من الإذخر" (1). وإذا لم يوجد إلا ما يستر به
بعض جسمه يخص به من سرته إلى ركبتيه لكون هذا الموضع عورة. والعورة أحق
بالستر. فإن كان في السترة فضل عن ذلك ميل بالفضل إلى ناحية صدره.
وأما إن أراد وليه أن يزيد على ما عليه. وقد حصل عليه ما يجزئ في الكفن.
ففيه قولان. فقال مالك لا يزاد عليه شيء. وقال أشهب وأصبغ لا يؤمر بذلك.
فكان مالكا رأى أن ظاهر حديث قتلى أحد يمنع من الزيادة لكونه أمران يدفنوا
على هيئتهم. فظاهر هذا يقتضي منع التغيير. كما قال في المحرم لا تخمروا
رأسه ولا تمسوه بطيب وكفنوه في ثوبيه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيًا (2).
فأشار إلى بقائه على حاله ومنع تغييره لما مات في قربة. وهذا على مذهب من
رأى أن القصد أن لا تغير هيئة الشهيد التي لقي الله عليها. والزيادة عليها
تغيير لها.
وأما نزع بعض ما على الشهيد فإنه تنزع عنه آلة الحرب كالدرع والرمح والسيف
ولا تنزع المنطقة إلا أن يكون لها خطب. وفي مختصر ابن شعبان قال: الشهيد
يدفن في الثوب الجديد الذي يلبسه الشباب والمنطقة. ويتخرج على هذا أن لا
تنزع عنه الفائحة (3) فإن السيف والرمح ما لم يكونا من جملة ما يلبس نزعا.
وأما الدرع ففي كتاب ابن شعبان كأنه لما رآه ملبوسًا ألحقه بجملة اللباس.
فكان من قال من أصحابنا ينزعه رأى أنه من آلة الحرب. وإنما يلبس لها فلحق
بالسيف والرمح. وقال ابن القاسم لا تنزع عنه الخاتم إلا أن يكون
__________
(1) متفق عليه.
(2) متفق عليه.
(3) هكذا.
(1/1193)
نفيس الفص. وأما القلنسوة والخفان والفرو
فلا ينزع عنه ذلك. وقال أشهب في مدونته تنزع عنه الخفان والقلنسوة و ...
وكان أشهب رأى أن ذلك خارج عن جنس الكفن فالحقه بآلة الحرب ورآه غيره من
أصحابنا من جنس اللباس المعتاد فلم ينزعه. وقالت الشافعية ينزع عنه ما لا
يلبسه عامة الناس. وقد يتعلق من منع نزع ما ذكرنا بأنه منعه بقوله - صلى
الله عليه وسلم -: "ادفنوهم بثيابهم". ولكن روى ابن عباس أنه - صلى الله
عليه وسلم - أمر بقتلى أحد أن ينزع عنهم الحديد والجلود، وأمران يدفنوهم
بثيابهم وأموالهم ودمائهم فكأنما أشار إلى اختصاص الثياب بالدفن وبنزع ما
سواها.
وما ذكره يقاس عليه ما كان في معناه. وأما قول القاضي ويصلى على كل الشهداء
... على أن اسم الشهيد ... على الإطلاق بل بتقييد. وهو أن يقتله العدو على
صفة ما ذكرناه. وقدمنا ... أن الحسن قال ... فكأن الحسن اعتقد أنها بحكم
الشهداء. فنبه ...
قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: والصلاة إلى الأئمة ثم إلى (1) العصبة.
ولا ولاية فيها للزوج، ولا لذي رحم من غير عصبة (2).
وأولاهم: الابن ثم ابنه. ثم الأب ثم الأخ الشقيق ثم الأخ للأب ثم أبناؤهم
(3) على هذا الترتيب ثم الجد ثم العمومة ثم بنوهم على ترتيب الإخوة.
قال الفقيه الإِمام رحمه الله: يتعلق بهذا أربعة أسئلة. منها أن يقال:
1 - لِمَ قدم الوالي؟
2 - (4) المقدم؟
3 - ولِمَ كان الزوج لا ولاية له؟
4 - ومَا دليل الترتيب الذي قال به؟
فالجواب عن السؤال الأول: أن يقال: ... الصلاة على الجنازة إمارة وتعصيب
وصلاح. فإن ... الابن ... أحد هذه الأشياء الثلاثة فلا شك في
__________
(1) إلى = سا قطة - الغاني.
(2) ولذي رحم غير عصبته وأولادهم.
(3) أبناؤها -غ-.
(4) كلام مطموس - ولعله ومن هو الوالي المقدم.
(1/1194)
تقدمه. فالأمير إذا انفرد بالحضور دون هذين
قدم والعاصب إذا انفرد قدم والصالح إذا انفرد قدم. فإن اجتمعوا فعندنا أن
الوالي أولى من الولي. وبه قال أبو حنيفة. وقال الشافعي في أحد قوليه الولي
أولى من الوالي قياسًا على تقدمة الولي على الوالي في عقد النكاح وفي
القيام بالدم. ودليلنا أن الحسن بن علي رضي الله عنهما لما مات، قدم الحسين
رضي الله عنه سعيد بن العاصي وهو أمير المدينة ودفع في قفاه وقال لولا
السنة في تسكين الفتنة ما قدمتك. فيه خروج عن الظاهر. وقد اعتل في هذا بأن
الميت قد كان رضي بإمامة هذا الوالي وقدمه أيام حياته. فكان ذلك مزية تقتضي
التقدمة بعد الوفاة. وقياسهم على عقد النكاح والقيام بالدم لا معنى له.
وهذه أصول متباينة. فطريق النكاح نفي المعرفة عن الأولياء بتزويج غير
الكفء. وصلاة الجنازة لا مدخل لها في هذا.
والجواب عن السؤال الثاني: أن يقال: أما الوالي الذي إليه الصلاة فإن
الأمير الأعلى لا خلاف في استحقاقه الصلاة. وأما من سواه ممن لا ولاية له،
فإن المذهب قد اختلف فيه فنفى بعض أصحاب مالك استحقاقه الصلاة وقصر
استحقاقها على الأمير الأعلى وجعلها مالك في المدونة لأمير العصر والقاضي
وصاحب الشرطة إذا كانت إليهم الصلاة. قال مالك في المجموعة فإن كان القاضي
لا يصلي بالناس فليس بأحق. قال سحنون ومن وكله أمير الجند على الصلاة وليس
للذي وكله صاحب الشرطة ... أجر ولا صلاة. فلا حكم لهذا في الصلاة وإنما
يكون صاحب المنبر والصلاة أحق من الأولياء. ذلك أن ... سلطان الحكم أو قضاء
أو شرطة. وإلا فهو كسائر الناس في ذلك. وقال ابن وهب الحاكم القاضي هو أحق
من الولي وليس كصاحب الشرطة في هذا.
وحكى ابن حبيب عن ابن القاسم أن ذلك إن كانت إليه ... يجوز قصر هذا
لاستحقاق على الوالي أو تعديه إلى من سواه على الاختلاف في الولي القريب ذا
قدم ... دون الأجنبي أحق من ولي بعيد لكونه حل محل الولي القريب. أو لا
يكون أحق فالسلطان الأعلى أحق بالتقدمة في الصلاة فأعطى حكمها إلى قاضيه
صار ذلك كولي قريب ينقل إلى أجنبي. وأما ما ذهب إليه مالك ... عن سحنون
فإنه ينبغي اعتبار أن تكون الصلاة إليه. ويكون بيده مع هذا أمر من أمور
(1/1195)
السلطنة. فكأنه ... هذين الموضعين يضاهي
الإِمام المتفق على استحقاقه الصلاة. وظاهر ما حكيناه عن ابن وهب يذهب به
إلى أن القاضي أحق لا يقتضي اشتراط انضمام الصلاة إلى أمور السلطنة. لكنه
لم يراع أيضًا أمور السلطنة بانفرادها لقوله ويعتبر هو كصاحب الشرطة. ويمكن
عندي أن يكون خص القاضي لما رآه مولى على الأمور الشرعية، لم يقم إلا للنظر
فيها والصلاة من مكانه أقيم لها. فكذلك ما حكيناه عن ابن القاسم أنه رأى أن
من أقيم للخطبة أقيم لها بالصلاة. لكونها تصلى جماعة. فأشبه الجمعة
والعيدين. وقال مالك صلى صهيب على عمر رضي الله عنه. وأظن ذلك لأنه قال
يصلي لكم صهيب ثلاثًا. فلم ينكر مالك إلى أن إقامته للصلاة تقتضي تقدمته.
والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: اختلف الناس في الزوج. فعندنا أنه لا
ولاية له في الصلاة. وذهب علىء وسعيد وعمر بن عبد العزيز إلى أنه أحق من
القريب. وذهب الحسن والأوزاعي إلى أنه مقدم على الابن ... وذهب أبو حنيفة
إلى ما ذهبنا إليه. لكنه اشترط أن لا يكون الولي ابنًا له. وإن كان ابنًا
له كان الزوج مقدمًا لكراهة أن يتقدم الابن بين يدي أبيه. وقال بعض أشياخنا
يندب لابن الميت أن يقدم جده الذي هو أبو الميت. لأنه لا ينبغي أن يتقدمه
في هذا كما لا يتقدمه في صلاة الفريضة إلا أن يكون الابن ممن له الصلاة
والفضل.
والجد ليس كذلك. وهذا كنحو ما رآه أبو حنيفة. لكن الجد له مدخل في هذه
الصلاة واستحقاق لها. فهو آكد من الزوج. ولكن أسلوب ... في المسألتين
يجريهما مجرى واحدًا.
والجواب عن السؤال الرابع: أن يقال: إنما قدمنا الابن وابن الابن علي الأب
لأنه أقوى تعصيبًا منه. وهذا معلوم في المواريث. ولم يرل الشافعي هذا فقدم
الأب لاعتقاده أن المراد في الصلاة الاجتهاد في الدعاء. والأب أرحم وأرأف
من الابن. فهو أقرب إلى الاجتهاد في الدعاء. وعلى هذا الأسلوب يجري الأمر
في تقدمة الأخ وولده على الجد. فقدمناهما على الجد لقوة تعصيبهما. وقدمت
الشافعية الجد للمعنى الذي ذكرناه عنهم. فهذا وجه ما أشار إليه القاضي أبو
محمَّد من ترتيب الأولياء وجميعهم أولى من مولى النعمة. لأن الولاء مشبّه
بالنسب. والمشبه بالشيء أخفض منه رتبة. وينبغي للولي إذا حضر
(1/1196)
رجل له فضل أن يقدمه. قاله ابن حبيب. قال
مالك وينبغي أن يفعل ذلك من سواه. وإذا كان الولي غير بالغ كان كالعدم ليس
إليه صلاة ولا استخلاف. قال مالك في العتبية في مولى لامرأة ماتت يتقدم
إليها ابن عم له. فقال ابن أخي المرأة أنا أحق ممن قدمت وأنت صبي لا أمر
لك. قال هو لابن أخي المرأة وذلك له. وقد كنا قدمنا الاختلاف في الولي
القريب إذا أراد أن يقدم ... على الولي البعيد، هل يمكن من ذلك. وفي
السليمانية في الأب العبد أنه لا حق له في التقدمة إلا أن يكون من شقيق
عبد. وكذلك في المساجد والأذان. وذهب بعض الأشياخ إلى أنه يكون أحق كما
يكون أحق بالإمامة في منزله لكونه مختصاً به. فكذلك اختصاصه بالولاية في
الجنازة يقتضي كونه أحق. وإذا ثبت ما قلناه في الولاية فهل للميت نقلها من
القاضي بالوصية لمن يصلي عليه أم لا؟ فقال مالك إذا أوصى إلى خير ولم يكن
لعداوة بينه وبين وليه فذلك نافذ. وإن كان لعداوة بينهما لم يجز. والولي
أحق. وعنه في العتبية الموصى إليه أحق.
وما زال الناس يختارون لجنائزهم أهل الفضل من الصحابة والتابعين. وكان
الناس يتبعون أبا هريرة وابن عمر رحمهما الله ورضي عنهما لذلك. وقال مالك
في الموصى إليه أحق من الأولياء. وقاله ابن حبيب. وذهب الشافعي إلى أن
الولي أحق من الوصي قياسًا على تقدمته في النكاح. ونحن لا نسلم هذا في
النكاح في المشهور عندنا. وإن سلمناه في القول الشاذ. فإنا قدمنا أن أصل
الولاية في النكاح نفي المعرفة. وفي الصلاة المعنى الباعث على الاجتهاد في
الدعاء. فهما أصلان مختلفان. واختلف المذهب إذا اجتمعت جنائز. واختلف
أولياؤهما فقال مالك في جنازة رجل وامرأة أحق بالصلاة من أوليائهما من له
الفضل والسن، كان وليًا للرجل أو للمرأة. وقال ابن الماجشون ولي الرجل أحق
وقد فعل ذلك يوم ماتت أم كلثوم بنت علي رضي الله عنهما ومات ابنها زيد ماتا
جميعًا. وحضر ابن عمر والحسين رضي الله عنهما فقدّم ابن عمر لأنه ولي ابنها
زيد.
قال القاضي رحمه الله: ولا تعاد الصلاة على ميت إذا سقط فرضها لا قبل الدفن
ولا بعده.
(1/1197)
قال الفقيه الإِمام رحمه الله: قد كنا
قدمنا الكلام على هذه المسألة في فصل تعلقت به. وقدمنا اختلاف المذهب في
الصلاة على من أقبل بغير صلاة.
وأشرنا إلى أن المذهب قد قيل فيه إن الفراغ من الدفن يمنع من إخراج الميت.
واختلف هؤلاء هل فاتت الصلاة عليه أو لم تفت. فقال بعضهم فاتت فلا يصلى
عليه. وقال بعضهم لم تفت ويصلى على القبر. وقد كنا قدمنا أن صلاته - صلى
الله عليه وسلم - على القبر بها تعلق من أجاز الصلاة على القبر. وذكر بعض
أصحابنا إن كان هو الولي والإمام المتعين إمامته صار من صلى دونه عليها
كأنه لم يصل. وقالوا على هذا إذا صلى قوم على جنازة دون وليها لم يسقط فرض
الصلاة. وقال بعض أصحابنا بل يسقط. ولكن إنما صلى - صلى الله عليه وسلم -
لأنه أمرهم أن لا يدفنوها حتى يستأذنوه. فلما دفنوها دون إعلامه - صلى الله
عليه وسلم - صلى عليها. واضطراب أصحابنا في سقوط الفرض ها هنا بصلاة غير
الولي يشبه اضطرابهم في النكاح إذا عقده غير ولي هل يفسخ أم لا. يضاهي
القول بالفسخ القول بأن فرض الصلاة لم يسقط.
ويضاهي القول بإمضاء العقد القول بأن الفرض قد سقط. أما قول القاضي إن
الصلاة لا تعاد، فإنا أيضًا أشبعنا الكلام على ما فيه من اختلاف وأدلة. وقد
وقع في المدونة إذا لم يحضر الجنازة سوى النساء وأنهن يصلين ... (1) ...
قالوا وكذلك قبور المهاجرين والأنصار بالمدينة مسطحة. وأما البناء عليها
فروى جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن ترفع القبور أو يبنى
عليها أو يكتب فيها أن تجصص. ويروى تقص. وأمر بهدمها وتسويتها بالأرض.
وفعله عمر رضي الله عنه. قال ابن حبيب تقصص وتجصص بمعنى تبيض بالجير أو
بالتراب الأبيض والقصة الجير وهو الجنة. وينبغي أن يسوى تسنيمه وكره مالك
أن يرصص على القبر بالحجارة ويبنى عليها بطوب أو بحجارة، وكره هذه المساجد
المتخذة على القبور. فأما مقبرة دائرة بني فيها مسجد يصلى فيه فلا بأس به.
وكره ابن القاسم أن يجعل على القبر بلاطة ...
__________
(1) نقص. إذ سقط من النسخة شرح الإِمام المارزي لقول القاضي. وإذا اجتمعت
جنائز رجال ونساء صلى عليها صلاة واحدة.
كما سقط الشرح للسؤالين الأولين ببيان قول القاضي واللحد أفضل من الشق.
(1/1198)
فيها. ولم ير بالحجر والعود والخشبة بأسًا
يعرف الرجل به قبر وليه ما لم يكتب فيه. (وقول عمر رضي الله عنه: لا تجعلوا
على قبري حجرًا. مراده ما لم يكتب فيه) (1) وقول عمر رضي الله عنه: لا
تجعلوا على قبري حجرًا. مراده من فوقه بمعنى البناء. قال ابن حبيب لا بأس
أن يوضع على طرف القبر الحجر الواحد لئلا يخفى موضعه إذا عما أثره. وقال
أشهب في مدونته تسنيم القبور أحب إليه، فإن رفع فلا بأس. وقال بعض أشياخي
مراده إن زيد على التسنيم.
وقد قال خارجة بن زيد في البخاري رأيتني ونحن شبان في زمن عثمان وإن أشدنا
وثبة الذي يُنسب قبر عثمان بن مظعون. وهذا الذي نحا إليه أشهب. وقد قيل
لمحمد بن عبد الحكم في الرجل يوصي أن يبنى عليه. قال لا ولا كرامة.
قيل أراد بذلك بناء البيوت ولا بأس بالحائط اليسير الارتفاع ليكون حائزًا
بين القبور لئلا تختلط على الناس قبورهم. وأجاز أبو حنيفة البناء على
القبور.
وأشار ابن القصار إلى أن البناء المكروه عليها أو حولها إنما في المواضع
المباحة لئلا يضيق على الناس ما أبيح لهم التصرت فيه. وأما البناء في ملكه
أو ملك غيره بإذنه، فذلك جائز. وهذا الذي حكيناه عن ابن القصار ظاهره خلاف
المشهور من المذهب.
والجواب عن السؤال الثالث: أن يقال: عندنا أن الجلوس على القبر جائز. وكره
الشافعي الجلوس على القبر أو يطأه أو يتكئ عليه. وقال ابن حنبل يكره الدخول
إلى المقابر بالنعل ولا يكره بالخفاف والشمشكاة. وحجة الشافعي قوله - صلى
الله عليه وسلم -: لأن يجلس أحدكم على جمر فيحترق ثوبه وتصل النار إلى بدنه
أحب إليه من أن يجلس على قبر. وقال أبو هريرة رضي الله عنه: لأن أجلس على
جمرة فيحترق ردائي ثم قميصي ثم تفضي إلى بدني أحب إليّ من أن أجلس على قبر
امرئ مسلم (2). ونحن نتأول النهي عن ذلك على أن المراد به الجلوس للغائط
والبول. قال ابن حبيب كذلك فسره مالك وخارجة بن زيد. وقد روي ذلك ... للنبي
- صلى الله عليه وسلم -. وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يتوسدها ويجلس
عليها. قال فلا بأس بالمشي على القبر إذا عما. وأما وهو مسنم والطريق دونه
__________
(1) هكذا والظاهر أنه كلام مقحم لاَ معنى له.
(2) أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وأحمد.
(1/1199)
فلا أحب ذلك. لأن في هذا تكسير تسنيمه
وإباحته طريقًا. وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - النهي عن ذلك.
والجواب عن السؤال الرابع: إنما قال يستقبل بوجهه القبلة لأنها أشرف
المواضع وإليها كان يصلي أيام حياته ويتوجه. قال ابن حبيب يلحد على شقّه
الأيمن ... القبلة اليمنى على جسده ويعدل رأسه بالثرى لئلا يتصوب وتعدل
رجلاه ويرفق في ذلك ويحل عقد كفنه إن عقد وقد اختلف الناس في الجهة التي
يدخل منها قبره. فقال ابن حبيب إدخاله من ناحية القبلة أحب إلى. وقال أشهب
أحب إلى أن أدخل من القبلة أو ... من ناحية رأسه من الشق الأيسر منك وأنت
في القبر فواسع. ومذهب أبي حنيفة كمذهب ابن حبيب أن يؤخذ من قبل القبلة.
ومذهب الشافعي أن المختار أن يؤخذ من يمين القبر. فإن كان مراده أن النازل
في القبر إذا استقبل القبلة أخذ الميت من جهة يمينه ومن ناحية رجلي الميت.
وكان أشهب مراده إن أخذه من جهة القبلة أو من جهة يسار النازل في القبر ومن
ناحية رأس الميت وهي المقابلة للجهة التي قال الشافعي إن ذلك واسع بمعنى أن
غيره أفضل. فكانه موافق لمذهب الشافعي. وسبب الاختلاف في هذا اختلاف
الأحاديث. فقد روى ابن عباس قال إن النبي - صلى الله عليه وسلم - سلّ سلًا
من اليمين. وروى الطحاوي عن ابن عباس أنه قال - صلى الله عليه وسلم -: ادخل
القبر من قبل القبلة.
وروي إنما دخل أبو دجانة من قبل القبلة. وقال النخعي حدثني من رأى سلف أهل
المدينة يأخذون الميت من قبل (1) ... أخبروه أربعة دل ذلك على أنه مقدار
الوتر كما قاله الشافعي. والمطلوب ها هنا ما تمس الحاجة إليه. وهذا المعنى
لا يقف على شفع ولا وتر.
والجواب عن السؤال السادس: أن يقال: إذا مات ميت في البحر فإن طمعوا في
البر من يومهم وشبه ذلك حبسوه حتى يدفنوه في البر. فإن أيسوا من ذلك غسل
وكفن وحنط وصلي عليه وألقي في البحر مستقبل القبلة محرفُ اعلى شقه الأيمن.
قال ابن حبيب ولا تثقل رجلاه بشيء ليغرق كما يفعل من لا
__________
(1) أعلى الصفحة بياض بمقدار عشرة أسطر.
(1/1200)
يعرف. فإن ألقاه البحر على ضفته فحق على من
وجده أن يدفنه. قال سحنود يصلى عليه إلى القبلة وإن دار المركب داروا. وإن
غلبوا صلوا بقدر طاقتهم فيثقل بشيء إن قدروا على تثقيله. قاله عطاء وابن
حنبل. ورد هذا المذهب بأنه ربما ألقاه البحر إلى ساحل فيدفنه المسلمون وفي
تثقيله قطع لما يرجى له من الدفن ومما ينخرط في سلك هذا نقل الميت من بلد
إلى بلد. وظاهر مذهبنا جوازه. قال بعضهم لا بأس أن يحمل الميت إلى العصر إن
كان مكانًا قريبًا.
قال ابن حبيب لا بأس أن يحمل من البادية إلى الحاضرة ومن موضع إلى موضع آخر
يدفن فيه. وقد مات سعيد بن زيد وسعد بن أبي وقاص بالعقيق فحملا إلى
المدينة. وأصيب طلبة رضي الله عنه يوم الجمل فدفن. فرأى إنسان في المنام أن
انقلوه فنقل فدفن في مكان آخر. قال بعض أصحاب الشافعي ليس في هذا نص. والذي
يشبه عندي أنه يكره ذلك. وروي مثل هذا عن عائشة رضي الله عنها. واحتج
الشافعي بأن النبي ي أمر بتعجيل دفن الميت. وفي نقله تأخير لدفنه. وانفصل
عن نقل سعد وسعيد بأن ذلك ليس ببعيد. فأشبه نقل الميت في بلد كبير من طرف
إلى طرف آخر في المقبرة. فأما ابن عمر فإنما أوصى أن ينقل لأنه كان من
المهاجرين. ويكره للمهاجرين أن يدفنوا بمكة لأنه كره لهم المقام فيها. وهذا
الذي أشار إليه الشافعي في تأويل سعد وسعيد. وقد اشترط مالك في جواز النقل
أن يكون قريبًا. وأطلق ابن حبيب من غير اشتراط. فاشتراط مالك يقرب من تأويل
الشافعي. فقد روي في البخاري أن جابر بن عبد الله قتل أبوه يوم أحد فدفنه
جابر مع رجل آخر فلم تطب نفسه أن يتركه مع آخر في قبره فاستخرجه بعد ستة
أشهر. وهذا الحديث قد أدخل حجة جواز النقل. ولكنه يتضمن جواز النقل بعد
الإقبار. وإنما تكلمنا على النقل قبل الإقبار. وللميت حرمة تمنع من إخراجه
من قبره إلا لضرورة كما ذكرناه من نسي الصلاة عليه على الاختلاف المذكور
فيه وإلحاق دفن آخر معه بأبواب الضرورة المبيحة لإخراجه يفتقر إلى نظر آخر
وبسط طويل (1).
__________
(1) أخرجه النسائي. شرح السيوطي ج 4 ص 84.
(1/1201)
نجز كتاب الجنائز وبتمامه تم السفر الأول
من شرح التلقين للإمام المازري رضي الله عنه ونفع به يتلوه بحول الله وقوته
السفر الثاني كتاب الزكاة.
والحمد لله حمدًا يدوم بدوامه والصلاة الدائمة كذلك على سيدنا محمَّد خاتم
أنبيائه ومبلغ أنبائه وعلى آله وصحبه ذوي الشرف وأنصاره وسلم تسليمًا
كثيرًا.
(1/1202)
شرح التلقين
للإمام أبي عبد الله محمَّد بن علي بن عمر التميمي المازري
453 - 356
1061 - 1141
الجزء الثاني
المجلد الأول
تحقيق
سماحة الشيخ محمَّد المختار السّلامي
دار الغرب الإِسلامي
تونس
(م 2/1)
دار الغرب الإِسلامي
جميع الحقوق محفوظة
الطبعة الأولى- 2008 م
دار الغرب الإِسلامي
العنوان: ص. ب.: 200 تونس 1015
جميع الحقوق محفوظة. لا يسمح بإعادة إصدار الكتاب أو تخزينه في نطاق
استعادة المعلومات أو نقله بأى شكل كان أو بواسطة وسائل إلكترونية أو
كهروستاتية، أو أشرطة ممغنطة، أو وسائل ميكانيكية، أو الاستنساخ
الفوتوغرافي، أو التسجيل وغيره دون إذن خطي من الناشر.
(م 2/2)
شرح التلقين
للأمام أبي عبد محمَّد بن علي بن عمر التميمي المازري
الجزء الثاني
المجلد الأول
(م 2/3)
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
إلى الله العلي الأعلى أرفع آيات الحمد الخالص كما يحق لجلاله وعظيم
سلطانه، وأستمنحه التفضل بقبول شكري، على جليل نعمه وموصول مدده وحسن عونه،
وعلى ما فتح من أبواب التيسير والتوفيق، وهو الولي الحميد، العزيز المجيد.
وأصلي وأسلم على إمامنا وشفيعنا المختص بالمكانة العظمى، والمرتبة الأسمى،
والمقام الأسنى، سيدنا محمَّد، الصلاة التي ترضيك ربنا وترضيه فترضى بها
عنا، والسلام الطيب كطيب عرفه، والزكي الأنقى نقاء روحه وطهارة نفسه.
فإنه بعد أن أتممت بعون الله وفضله تحقيق الأجزاء الثلاثة (كتاب الصلاة) من
شرح الإِمام أبي عبد الله محمَّد المازري على كتاب التلقين للقاضي أبي
محمَّد عبد الوهاب بن علي بن نصر وطبعت سنة 1997، محضت عنايتي لإتمام هذا
الكتاب الفرد في المذهب المالكي، وتيسيره للدارسين. وقد حوت الأجزاء
الثلاثة السابقة كتاب الطهارة -كتاب الصلاة- كتاب الجنائز. وقال الناسخ في
نهاية المخطوط كما ذكرت ذلك في المقدمة: انتهى الجزء الأول ويليه الجزء
الثاني، وأوله كتاب الزكاة. وحسب الترتيب الذي عليه كتاب التلقين فإن
الأبواب التالية لكتاب الجنائز هي -كتاب الزكاة - كتاب الصيام - كتاب
الاعتكاف - كتاب المناسك - كتاب الجهاد - كتاب الإيمان والنذور - كتاب
الضحايا والعقيقة - كتاب النكاح وما يتصل به - وهذه الكتب الثمانية لم
أتمكن
(م 2/5)
من التحصيل عليها ولا معرفة أين توجد،
والظن أن المازري قد شرحها جميعها أو بعضًا منها، إذ هو يحيل ويشير لبعض ما
جاء فيها أثناء بحوثه في كتاب البيوع. ولذا فإني أكرر في هذه المقدمة
الرَّجاء من السادة العلماء والباحثين، ممن يضفر بواحد أو أكثر من هذه
الكتب أن يدلني على مكان وجوده. فإني له، مقدمًا، شاكر ودل الله الكريم
المتفضل أن يتولى جزاءه، فإنه سبحانه لا يضيع أجر من أحسن عملًا.
وبناء على ذلك فقد اعتنيت في هذه الأجزاء الثلاثة بتحقيق ما وجدته من قسم
المعاملات، الذي يتميز عمله فيه بطريقة تختلف عن منهجه في الأجزاء الثلاثة
السابقة. ذلك أنه فيما مضى كان مرتبطً ابن ص التلقين، يثير حول القضايا
المذكورة فيه أسئلة تكثر أو تقل يهدف منها إلى الكشف عن الآفاق الرحبة من
المعارف الفقهية، ويتوسع في متابعة ما تقتضيه الإجابة عنها فيذكر الخلاف في
المذهب والخلاف بين أئمة المذاهب السنية ويربط الأقوال بأدلتها، ويرجح حسب
ما يهدي إليه الدليل. ويجد فيه المتفقه في التشريع الإِسلامي متعة قلما يجد
نظيرها في غيره من الكتب، بعمق أنظاره، وسعة علمه، وذكاء فهمه، وإنصافه،
الإنصاف الذي يسير به الناظر في كتابه مع رجل سما عن التعصب للمذهب والتزم
ما يقتضيه الدليل ويهدي إليه العقل الراشد.
أما في هذه الأجزاء الثلاثة فيضيف إنى طريقته تلك ارتباطه بالمدونة
الارتباط الشديد. فكلما رأى أن القاضي لم يعرج على ما ذكر في المدونة فإنه
ينقطع عن متابعة نص التلقين، ويعقد فصلًا يذكر فيه ما جاء فيها، وقد يطول
هذا الفصل فيبلغ صفحات عديدة، وقد يصرح بأنه قصد إلى ذلك إم ابن اء على
اختياره أو استجابة لطلب المتلقين عنه.
وهو معني بضبط أفهام الفقهاء للمدونة، يذكرهم تارة بأسمائهم، وتارة بقوله:
وذكر بعض الشيوخ، وتارة إذا كان التخريج أو التوجيه ذكيًا يدل على نباهة
صاحبه فيقول: وقال بعض الحذاق.
(م 2/6)
ويظهر بهذا تفرد شرح التلقين بجمعه بين
طريقة البغدادين والمشارقة من أتباع مذهب مالك الذين عنوا بالاستدلال له
وبيان الضوابط المرعية، وإبراز طرق ترجيحه، وبين طريقة القيروانيين ومن
تبعهم الذين عنوا بالمدونة أتم عناية، فضبطوا نصوصها، وتعمقوا في فهمها.
ومن مظاهر هذا الجمع عنايته بكتاب محمَّد بن المواز فقد أكثر النقل عنه.
هذا الكتاب الذي يقول فيه القاضي عياض: ولابن المواز كتاب أي (الموازية) -
أجل كتاب ألفه قدماء المالكيين، وأصحه مسائل، وأبسطه كلامًا وأوعبه، وذكره
أبو الحسن القابسي ورجحه على سائر الأمهات، وقال: لأن صاحبه قصد إلى بناء
فروع أصحاب المذهب على أصولهم في تصنيفه، وغيره إنما قصد لجمع الروايات،
ونقل منصوص السماعات. (ترتيب المدارك ج 4 ص 169) كما أنه في هذه الأجزاء
الثلاثة روى عن الأسدية مما يدل على أنها لم تترك، وبقيت بين أيدي أهل
العلم خلافًا لما ذكره القاضي عياض: قال الشيرازي: الأسدية مر فوضة إلى
اليوم. (المدارك ج 2 ص299).
ولما كانت هذه الأجزاء الثلاثة تتناول المعاملات المالية، فإن الناظر فيها
يجد فيها إجابات عن كثير من القضايا الاقتصادية المعاصرة، بل قد يجد
المازري رحمه الله قد سبق عصره حتى في إطلاق بعض المصطلحات التي يظن أنها
لم تشغل الفكر الفقهي للمتقدمين. وذلك كالمرابحة للآمر بالشراء، والمواعدة
من الطرفين في الصرف، والبيع بأجرة يتقاضاها المالك مدة حياته (vente
viagere).
والمازري بمنهجه المعتمد على إعمال العقل فيما ورد عن الشارع من نصوص
لتوليد الأحكام، ورعاية مقاصده، يمكن الدارس لكتابه من ملكة فقهية تفتح له
مغالق كثيرة. وتمكنه من الحلول للقضايا المستعصية في النظر الأول.
النسخ المعتمدة:
ينقسم هذا القسم من الشرح إلى قسمين:
القسم الأول: من شروط أخذ طعام عن طعام السلم الصحيح إلى كتاب
(م 2/7)
بيوع لآجال، اعتمدت فيه ثلاث نسخ:
النسخة الأولى: نسخة المكتبة الوطنية التي حبسها المشير محمَّد الصادق بأي
سنة 1291 على كل متأهل للانتفاع بها جاعلًا مقرها الخزائن العلمية التي عمر
بها صدر جامع الزيتونة تحت عدد 3026 ثم انتقلت إلى المكتبة الوطنية وسجلت
تحت رقم اشتملت على 197 ورقة خطبها تونسي وتداول نسخها أكثر من واحد كما
يدل عليه اختلاف الخطوط تبدًا بكتاب السلم وتنتهي بكتاب العرية والجائحة.
يقول الناسخ في خاتمتها نجز كتاب العرية وفصل الجائحة يتلوه كتاب بيوع
الآجال وصلى الله على سيدنا محمَّد وعلى آله وسلم.
وتتوالى أبواب المعاملات فتشمل السلم والوكالة على السلم والرهن وصلح
الكفيل والمعاوضة على تحويل السلم وما يجري مجرى البيع احتياطًا والمزابنة
والربا إلى الورقة رقم 58. وبعد ذلك تأني أبواب القضاء وما يتصل به.
فاعتمدت هذه النسخة إلى ورقة 58. وأرجأت باب القضاء وما يتصل به إلى
الأجزاء القياستتلو بعون الله هذه الأجزاء الثلاثة. ورمزت لها بحرف " و"
إشارة إلى الوطنية.
النسخة الثانية: هي النسخة المصورة عن الجزء الثاني من مكتبة المدينة
المنورة المحبسة من العالم النظار الشيخ محمَّد العزيز الوزير رحمه الله
بتاريخ 1320 خطبها تونسي جميل تبدًا بكتاب الاستبراء، ثم بكتاب الشهادات
والقضاء وما يتصل به إلى ص 223 - ومن ص 224 إلى آخر الكتاب ص 388 تتابع
أبواب العاملات من السلم إلى بيوع الآجال. فاعتمدت في المقابلة على القسم
الأخير، ذلك أن أبواب القضاء في التلقين تتلو في الترتيب التأليفي أبواب
المعاملات المالية ولواحقها. ورمزت لها بحرف "م" والكتب الأولى سأحققها
بعون الله في الأجزاء الثلاثة الأخيرة.
ملاحظة: هاتان النسختان وإن تباعد مكان وجودهما، فإني أكاد أجزم
(م 2/8)
أنهما منقولتان عن أصل واحد أو إن إحداهما
منقولة عن الأخرى. ذلك أن التحريف الموجود في إحداهما موجود في الأخرى.
وإذا ترك الناسخ بياضًا في إحداهما تركه الثاني بياضًا أيضًا.
النسخة الثالثة: هي نسخة مصورة بمكتبة المدينة المنورة على صاحبها أفضل
الصلاة وأزكى السلام عن نسخة ابن يوسف بمراكش رقمها 490 محبسة على جامع
الحرة والدة الخليفة المنصور في فاتح المحرم سنة 1027. وهي مستنسخة من
النسخة التي اشتريت من تركة الطالب أبي زيد السراج رحمه الله.
بها 187 ورقة. الصفحة الأولى بقية كتاب الوكالة. ومن الصفحة الثانية يبدأ
كتاب الرهن في السلم وينتهي الرجوع إليها في الورقة 52 كتاب المزابنة.
والكتب التالية في القضاء والشهادات ورمزت إليها بحرف "ش" والنسخة بخط
مغربي رديء جدًا قراءته عسيرة، قوإنتشرف فيها التحريفات، وقد صور بعض
الكلمات تصويرًا يدل على أن الناسخ لا يفهم ما يكتبه.
القسم الثاني:
من كتاب بيوع الآجال إلى كتاب الوديعة أعتمدت في هذا القسم نسختين.
النسخة الأولى: نسحة المكتبة الوطنية رقمها 12209 أصلها من خزائن جامع
الزيتونة. لا يوجد اسم المحبس ولا تاريخ التحبيس. وذلك أن النسخة الأصلية
أضاعها مستعيرها، تبين ذلك من مراجعة محتويات المكتبة عام 1328، فتم
تعويضها بهذا المخطوط الذي نظر فيه شيخ الإِسلام وباش مفتي شيخ الجامع
وقررا قبوله بدل المفقدد. وعرض ذلك على الباي محمَّد الناصر فختمه بطابعه
لتنفيذ رأي الشيخين وذلك في سنة 1330/ 1912 وشمل كتاب بيوع الآجال. بيع
الدين بالدين. الممنوعات الراجعة إلى صفة العقد. بيع الثنيا.
أحكام القرض والمديان والاقتضاء والمقاصة. حكم المعادن. بيع الخيار. الرد
بالعيب. الوكالات. بيع الغائب والغرر. التجارة إلى أرض الحرب. الصلح.
(م 2/9)
الوديعة. استغرقت هذه الكتب والفصول 221 أو
رقة ومن الورقة 222 إلى نهاية الكتاب ورقة 256 كتاب القضاء والشهادات ولم
يتم نسخ جميع ما جاء فيه.
نسخت بخط تونسي جميل. وهي من أولها إلى أخرها بخط واحد.
تخللها كثير من الأخطاء، والنقصلبعض الجمل. وكذلك بعض الصفحات وما أمكنني
تداركه تداركته ونبهت عليه، وما لم أتمكن نبهت عليه. وقد رمزت لهذه النسخة
بحرف "م".
النسخة الثانية: هي النسخة المصورة عن مكتبة المدينة المنورة على صاحبها
أفضل الصلاة وأزكى السلام، المحبسة من العالم النظار الشيخ العزيز الوزير
رحمه الله أوقفها على مكتبة المدينة عام 1320. وعلى أول ورقة منها أنه
ملكها الشيخ محمَّد الطاهر بن سلامة بالشراء من تركة والده الذي اشتراها من
تركة القاضي المالكي الشيخ محمَّد البحري. أثبت ناسخها أبو بكر الورتاني في
خاتمتها أنه كتبها لخزانة الشيخ القاضي أبي عبد الله محمَّد البحري بن عبد
الستار المذكور. ولم يذكر تاريخ الانتهاء منها. وقد وثق الشيخ مخلوف أنه
توفي رحمه الله في شهر ربيع الأول عام 1254. (شجرة النور الزكية ص 385).
تشتمل هذه النسخة على جميع الأبواب والفصول التي ذكرتها في نسخة المكتبة
الوطنية. وتتحد النسختان في المواضع التي تركت بياضًا. كما أن معظم
التحريفات التي وقعت فيها لا تختلف إلا قليلًا جدًا عن نسخة المكتبة
الوطنية.
ومن ناحية أخرى فقد قابلت نص التلقين بما هو مثبت في النسخ المذكورة
وبالمطبوع منه:
التلقين طبع وزارة الأوقاف المغربية عام 1413/ 1993 وذكرت في التعليق إشارة
لها "المغربية".
التلقين بتحقيق محمَّد ثالث سعيد الغاني نشر المكتبة التجارية نزار مصطفى
الباز عام 1415/ 1995وذكرت في التعليق إشارة لها: "الغاني".
(م 2/10)
الطريقة التي اتبعناها في تحقيق هذا النص
النفيس الذي كتبه الإِمام أبي عبد الله المازري رحمه الله وأجزل مثوبته.
وجهنا اهتمامنا أولًا إلى تصحيح النص. وبذلنا في ذلك أقصى الجهد في فهمه
وما يقتضيه التعبير عن الحكم الفقهي فحاولنا إصلاح الأخطاء وإتمام النقص
إذا لم يتجاوز كلمتين ليستقيم تطابق اللفظ والمعنى، ولم يكن ذلك بالأمر
الهين. فالنسخ التي عرفنا بها سابقًا كلها نسخ حديثة وغير مقابلة.
وقد كثرت فيها التحريفات. وكنا نقف عند التأمل في بعض الفقرات وقتًا غير
قليل نفترض الافتراضات التي يمكن أن يكون عليها الكلام عند المؤلف ليصح
التعبير وينسجم، معرضين عما في التعبير من ضعف تارة، وذلك أن المازري رحمه
الله لم يعتن بكتابة نصه، وأرجح أنه كان يلقي دروسًا تدون عنه.
وفرق بين أن يوجه المؤلف عنايته للتحرير الكتابي، فيتخير الصيغ التي تكون
أبلغ وضوحًا، وأفضل نسجًا، وأتم حبكًا، ويسود ويبيض. وبين أن يكون مربيًا
لحاملي العلم عنه من الطلبة. يقتضيه تسلسل إبلاغ المفاهيم أن لا يتوقف
للاختيار والتجويد. ولذا لا يجد الناظر في كلامه في شرح التلقين من جمال
الأسلوب ما يجده مثلًا في شرحه لكتاب البرهان، وإن صرح أنه أملاه.
والمازري الرجل الذي يتميز بجودة قريحته وذكائه الحاد وذاكرته الوفية
المسعفة، وسعة اطلاعه، وعنايته الشديدة بالضبط، تصور هذه الأجزاء الثلاثة
تلكم الميزات تصويرًا معبرًا وشاهدًا ناطقًا بما رزقه الله من علم وحكمة.
وهو يمثل عصره فلا يضجر المستفيد من هذه الأجزاء الثلاثة من كثرة تمثيله
ومن عنايته بأحكام الرقيق، ذلك أن العبيد كانوا يمثلون وحدة من وحدات
المجتمع، ويختصون بأحكام لا غنى عن بيانها. ومع ذلك فإنه يمكن أن يستفاد
منها، فتطبق تلك الأحكام التي لا اختصاص لها بالإنسان، على ما يجري التعامل
به في الحالات المشابهة.
وتمثل هذه الأجزاء الثلاثة ميدانًا لاشتغال طلبة العلم في الجامعات
(م 2/11)
الإِسلامية. ذلك أني أعتقد أنه لا يوجد
كتاب كشرح التلقين يربي طالب الفقه على التفقه في الدين، وربط العقل
بالنقل، وعلى الالتزام بالحق وعدم التعصب للقائلين ولأصحاب المذاهب.
إنهم يجدون بين أيديهم النص وقد عملنا على إخراجه في سورة أقرب ما تكون
للصحة. وتم تخريج الأحاديث الواردة في الكتاب. وبقي مقابلته بما نقل عن
المازري في شروح خليل وحواشيها، ومقابلة نقوله عن المدونة بما ورد فيها.
والرجوع للتنبيهات للقاضي عياض. وقيل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله
والمؤمنون.
وإني في خاتمة هذه المقدمة أريد أنوه بِما ساعدني به العلامة النابه
الدكتور إبراهيم شبوح، فبفضل عنايته وعونه حصلت على سورة من الأجزاء
الأربعة لشرح التلقين من المكتبة الوطنية. وهي التي كان عليها معظم المعول
في إخراج الكتاب.
كما أقدم شكري وتقديري لكل من ساعدني على إخراجه وتيسير وصوله بين أيدي من
يرغب في الانتفاع به، فجازاهم الله عني خيرًا.
وختامًا أسأل الله العلي القدير، الرحيم الكريم، أن يتقبل عملي هذا وأن
يكتب لي ثواب المخلصين، وأن ينفع به، ورجائي من كل منتفع به أن يترحم على
الإمامين القاضي أبي محمَّد عبد الوهاب وأبي عبد الله محمَّد المازري، وأن
يذكرني، مع كل من أسهم في هذا العمل في دعائه،- هم القوم لا يشقى بهم
جليسهم.
والحمد لله الذي بحمده تتم الصالحات. اللهم صل وسلم على سيدنا محمَّد وعلى
آله وصحبه كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم وبارك على
سيدنا محمَّد وعلى آله وصحبه كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا
إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
وكتب بمدينة تونس ليلة الجمعة 28 ذو القعدة 1426 - 30 ديسمبر 2005.
محمَّد المختار السلامي
مفتي الجمهورية التونسية سابقًا
(م 2/12)
صور من مخطوط المكتبة الوطنية القسم الأول
رمزها -و-
(م 2/13)
صور من مخطوط مكتبة المدينة القسم الأول
رمزها -م-
(م 2/16)
صور من مخطوط مكتبة ابن يوسف مراكش القسم
الأول رمزها -ش-
(م 2/18)
صور من مخطوط المكتبة الوطنية القسم الثاني
رمزها -و-
(م 2/20)
صور من مخطوط المدينة المنورة القسم الثاني
رمزها -م-
(م 2/22)
شرح التلقين
للإمام أبي عبد الله محمَّد بن علي بن عمر التميمي المازري
453 - 356
1061 - 1141
الجزءالثاني
المجلد الأول
تحقيق
سماحة الشيخ محمَّد المختار السّلامي
مُفتي الجمهورية التونسيَّة
(2/1)
بسم الله الرحمن الرحيم
(2/3)
كتاب السلم
(2/5)
اعلم أنا جرينا في هذا الاملاء على الخروج
عن نظم كتاب التلقين لسؤال الأصحاب في ذلك. وقد ذكرنا ما يتضمن كتاب السلم
الأول من المدونة.
وتلطفنا بأن نورد كلام القاضي أبي محمَّد عبد الوهاب ونشرحه ثم نضيف إليه
ما يتعلق به. وربما أضفنا إلى هذا ما يتعلق بما تعلق به. وقد قدمنا في ذكره
المنع من بيع الطّعام بالطعام إلى أجل ما يتعلق به من الذرائع أو ما هو
ذريعة للذرائع.
وذكرنا هناك الأخذ عما في الذمة من الطعام طعامًا إذا كان السلم صحيحًا.
ولعلنا أن نلحق هناك (1) الأخذ عن الطعام طعامًا إذا كان السلم فاسدًا.
فأجزناه لما توخيناه من الجري على مسائل المدونة ما أمكن. فاعلم أن السلم
إذا كان صحيحًا وحلّ أجله وتراضى المتعاقدان أن يتعاوضا من الطعام الذي في
الذمة بطعام آخر، وذكرنا الشروط التي تبيح ذلك فمنها أن لا يقعا في هذه
المعاوضة في بيع الطعام قبل قبضه، وأن يكون المأخوذ عما في الذمة: يجوز أن
يسلم فيه (2) رأس المال. فإذا كان السلم في طعام عقد عقدًا فاسدًا فأراد أن
يأخذ عن ذلك الطعام طعامًا، فإن الأصل في هذا أني لا يعتبر فيه تقدير بيع
الطعام قبل قبضه كما اعتبر في السلم الصحيح؛ لأن من أسلم في حنطة سَلمًا
فاسدًا يجب فسخه ثم تراضيا بأن يأخذ عن ذلك تمرًا فإن التمر ها هنا ليس
بعوض عن الحنطة فيتصور فيه بيع الطعام قبل قبضه، لكون الذمة خالية من
الحنطة لفساد
__________
(1) هكذا في جميع النّسخ ولعل الصواب هنا.
(2) (فيه) ساقطة في و.
(2/7)
العقد عليها، وإذا كانت خالية من الحنطة
فالواجب رد رأس المال كما يحكم في البياعات الفاسدة، فإن التمر المأخوذ ها
هنا عن رأس المال الذي هو دنانير ودراهم، وبيع الدنانير والدراهم قبل قبضها
بتمر دين. هذا هو الأصل المعتمد عليه، وعليه وقع جواب ابن القاسم في
المدونة من غير اشتراط وقوع حكم القاضي بالفسخ. وأجاز لمن أسلم في حنطة
سلمًا فاسدًا أن يأخذ تمرًا. وهذا طرد مذهبه؛ لأن السلم إذا فسد عقده لم
يستحق المسلم في ذمة المسلَم إليه سوى رأس ماله الذي دفع إليه. لكن أشهب
التفت في هذا إلى اختلاف العلماء في هذا العقد الذي أفسدناه نحن وأمضاه
غيرنا، فنهى عن أخذ التمر عن الحنطة حتى يقضي القاضي بفسخ العقد فيرتفع
الخلاف. أو يكون الفساد مجمعًا عليه فيكون عُرُوُّ الذمة متفقًا عليه ولا
مخالف فيه يمحسَّس إليه، وهذه مُراعاة منه لاختلاف العلماء، واحتياطًا من
الوقوع في المحرم. لأنه إذا كان بعض العلماء يرى عقد هذا السلم صحيحًا وقد
يرفع إلى قاضٍ يحكم بصحته، صارت المعاوضة عند هؤلاء كبيع الطعام قبل قبضه.
ولكن أشار بعض الأشياخ إلى أن المتعاقدين لو وقعا في هذه المعاوضة ما
أُحسِّن أن تفسخ عليهما مع كون هذه المعاوضة عندنا جائزة، ولا يحسن بالفقيه
أْن يفسخ عقدًا وهو عنده جائز ماض لأجل أن غيره ذهب إلى فساده. لكن يحسن
النهي عن الوقوع في هذا ابتداءً احتياطًا من الخلاف.
ومال بعض الأشياخ إلى أنهما لو حكّمًا رجلًا فحكم بالفسخ لحل ذلك محل حكم
القاضي. وأشار أيضًا إلى أن أحدهما لو حكّم صاحبه فاجتهد فم بالفسخ أو
اجتهدا جميعًا ففسخاه لأجزأهما ذلك.
وهذا الّذي قاله في حكم أحدهما أو حكمهما جميعًا فيه نظر؛ لأن الحاكم لا
يحكم لنفسه. لكن الاختلاف في تراضيهما فالإشهاد على الفسخ هل يحل ذلك محل
الحكم بالفسخ؟ مشهور بين أشهب وابن المواز (1) ومراعاة الخلاف
__________
(1) هكذا في جميع النسخ. وفي الكلام شيء من الاضطراب.
(2/8)
وكون العقد الفاسد عقدًا يفتقر إلى حل، فيه
اضطراب في المذهب سنتكلم عليه في كتاب البيع الفاسد إن شاء الله تعالى.
فإذا راعينا الخلاف وجعلنا العقد الفاسد له شبهة العقود، افتقر إلى حله
بقضية قاض. وإن لم يراع الخلاف ولا جعلنا العقد الفاسد عقدًا، فإنه لا يجب
الافتقار إلى قضية قاض.
فإذا تقرر عندك هذا الاضطراب في افتقار العقد إلى حل إذا كان مختلفًا في
فساده، فإنه إذا كان العقد مجتمعًا على فساده أو مختلفا لم فيه فقضى بنقضه
قاض لم يختلف في ترك مراعاة بيع الطعام قبل قبضه، إذ لا طعام ها هنا في
الذمة يباع قبل القبض. لكن لو أراد (1) بعد الحكم بالفسخ أن يأخذ مثل ما
عقدا عليه من الطعام في المقدار والصفة، فإن ظاهر المذهب على قولين: أحدهما
إجازة ذلك، لكون المأخوذ الآن إنما أخذ معاوضة عن دنانير، لا عن مثل ما كان
في الذمة على اعتقادهما ومقتضى عقدهما. وإلى هذا ذهب ابن حبيب. وظاهر كلام
ابن المواز المنع منه، لئلا يكون لم يقصد بهذه المعاوضة الثانية إلا إمضاء
الأولى التي فسخت عليهما، فيكون الفسخ لم يفد، ومتى أبحنا له، وقد أسلم في
مائة قفيز سمراء سلمًا فاسدًا ففسخ عليهما ووجب رد رأس المال أن يأخذ عنه
مائة قفيز سمراء، فإنّ هذا الذي فعلاه صورة ما عقدا عليه والفسخ لم يفد
شيئًا. وقد وقع لمالك رضي الله عنه فيمن [قال من طعام أسلم فيه سلمًا
صحيحاَ وأخّر المناجزة في رأس المال، أنّ الإقالة تفسخ لما دخلها وما تصور
فيها من فسخ الدين. لكنه أباح لهما أن يرجعا إلى إقالة صحيحة يتناجزان
فيهالأولم يتهمهما على إمضاء الإقاله الأولى التي فسخت عليهما ولم يقدر
أنهما رجعا إليها. وهذا ينظر لأحد القولين في إجازة أخذ مثل الطعام سواءً
بعد الحكم بفسخه. لكن الإقالة الأولى تصور فيها سورة التأخير وتقدير
اتّهامهما على فسخ الدين في الدين، وهذه الثانية لم يتصور فيها ذلك لأنهما
يتناجزان فيها. وهكذا وقع لابن القاسم فيمن قارض رجلًا بمائة على أن يحمل
__________
(1) في النسختين: أراه (بالهاء).
(2/9)
له مائة أخرى إلى بلدة أخرى، أن القراض
فاسد ويقضي فيه، على أصله، بإجارة المثل، لأجل ما فيه من زيادة منفعة انفرد
بها رب المال، وهي حمل المائة الأخرى. لكون ابن القاسم أجاز لهما أن
يتراضيا على ما حصل من الربح. وهذا وإن وقع بعد معرفتهما بمقدار ما يجب
للعامل من الإجارة وفسخ العقد بأنه. رجوع إلى ما فسخناه عليهما أولًا.
وكذلك قال أشهب في غاصب غصب قمحًا جُزافُ اثم تراضيا على مكيلة معلومة بعد
الحكم بالقيمة، أنّ ذلك جائز. ورأى أنّ الحكم بالقيمة يمنع من كون الطعام
مأخوذًا عن الطعام الجزاف من غير قيمة وجبت فيه لم يجز (1) لجواز التفاضل
بين الطعامين والشك في الوقوع فيه. وهكذأ قال فيمن صرف دنانير بدراهم فوجد
الدناني رنا قصة حتى وجب الرد، فإنه لا بأس أن يصرفها منه، وإذا أبحنا له
أن يصرفها بدراهم بعد أن نقضنا الصرف الأول لما فيه من النقصِ لم يمنع
أيضًا أخذ مثل الطعام المسلم فيه بعد أن نقض العقد فيه. لكن إن كان المراد
بهذا يصرفها صرفُ اثانيًا ليس مثلَ الأول فقد يباح هذا لأجل ما في العقد
الثاني من المخالفة الأولى (2). وهكذا اضطراب أصحابنا في جواز الأخذ عن
القفح شعيرًا أو سُلْتا. فكان الشيخ أبو محمَّد اللؤلئي يرى أن ذلك مثل أخذ
القمح بعينه الذي أسلم فيه، لكون الشعير والسلت في الزكاة والبيع حكمهما
حكم القمح.
وذهب ابن أبي زمنين إلى أن ذلك ليس كأخذ المسلم فيه بعينه بعد الفسخ، لكون
هذا المأخوذ ليس هو عين الأول الذي فسخ. وقد أجاز ابن حبيب أن يأخذ بعد
الفسخ سمراء عن محمولة لما دخل في العقد الثاني من التغيير عن العقد الأول.
وإذا جاز أخذ السمراء عن المحمولة فَأَخْذُ السلت والشعير أولى بالجواز.
لكن لو أخذ عن سمراء جيدة سمراء دنيّة، لكان هذا أقرب إلى الإشكال من أخذ
الشعير والسلت.
__________
(1) هكذا في جميع النسخ. وفي الكلام نقص ظاهر.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: للأولى.
(2/10)
ومن الأشياخ من يراه كأَخْذِ الشيء بعينه
لكون النوع واحدًا، وإنما اختلف بالجودة والدّناءة (1).
ومنهم من يشير إلى ارتفاع التهمة بالعودة إلى العقد الأول لأجل ما دخلَ في
هذا من التغيير، وقد وقع في المدونة لفظان يشيران إلى ما قدمناه من
الاختلاف في أخذ الشعير والسلت عن القمح. وذلك أنه قال في الباب: لا بأس أن
يأخذ من الطعام ما شاء غير الحنطة التي أسلم فيها. والشعير والسلت لا
يسميان حنطة.
فاقتضى ظاهر هذا اللفظ جواز أخذ الشعير عن القمح. وقال أيضًا في الباب
بعينه: لا بأس أن يأخذ ما شاء من الطعام سوى الصنف الذي أسلم فيه.
والشعير والسلت يعدهما أهل المذهب مع القمح صنفًا واحدًا، لكن ربما كان
دلالة قوله: غير الحنطة، على جواز أخذ الشعير أوضحَ من دلالة قوله: سوى
الصنف الذي أسلم فيه؛ لأنه قد يريد بالصنف المثلَ. وأجاز أخذ القمح الدنيّ
عن الجيد.
هذا حكم أحد الشروط التي ذكرنا اعتبارها في المعاوضة عن السلم الصحيح،
ذكرنا إجراهما (2) ها هنا في السلم الفاسد على حسب ما فصّلنا القول حيه.
وأما الشرط (3) الآخر وهو اعتبار أن يكون المأخوذ مما يجوز، أن يسلم فيه
رأس المال، وإجراء هذا الشرط في السلم الفاسد مجراه في السلم الصحيح ...
(4) أجاز ابن حبيب في السلم الفاسد المحكوم بنسخه أن يأخذ دراهم عن رأس
المال وهو دنانير رأى أن الحكم أوجب بطلان ما في الذمة من الطعام الذي فيه
أسلم رآس المال، وأوجب الحكم كون رأس المال دينًا
__________
(1) (والرّداءة) في م
(2) هكَذا في النسختين
(3) هكذا في جميع النسخ. ولعل الصواب الشّرط.
(4) هكذا في جميع النسخ ش لعلّ الصواب فأجاز.
(2/11)
على المسلم إليه، فلا يمنع مستحقه من
المصارفة فيه، ويبعد أن يعقدا عقدًا فاسدًا تحيلًا به على الرجوع إلى عقد
فاسد آخر؛ لأنه لما سهل عليه الوقوع في الفساد في العقد الأول يسهل عليهما
أن يجعلا هذا العقد الثاني الفاسد في أول أمرهما. وقد وقع في المستخرجة ما
يدل على جواز أخذ الدراهم عن الدنانير إذا كانت رأس مال السلم الفاسد.
وحاول الشيخ أبو القاسم ابن الكاتب أن يضيف هذا المذهب إلى المدونة فقال:
قد وقع في كتاب الصلح من المدونة، فيمن ابتاع عبدًا فاطلع فيه على عيب بعد
أن فات في يديه وقد دفع ثمنه وهو دنانير، أنه يرجع بقيمة العيب من الدنانير
التي دفع، ويجوز له أن يأخذ عما يجب له منها دراهم. ودافعه غيره من الأشياخ
من تعلقه بهذا، بأن السلم الفاسد دخلا فيه مدخلًا واحدًا فتتطرق التهمة
للمتعاقدين أنهما أرادا جميعًاا لتحيل على الصرف المستأخر، ومسألة العيب لا
مدخل للمشتري فيها ولا سبب له فيه. ولا علم له به حين العقد وإنما العيب من
جهة أحد المتعاقدين وهو البائع، فلا تتطرق التهمة بأنهما يتراضيان على
التحيل على ما لا يجوز إلا فيما دخلا فيه مدخلًا واحدًا، وأمكن أن يشتركا
في القصد إليه. فالعيب إذا لم يكن عند المشتري منه علم، ولا له فيه سبب،
يستحيل أن يواطىء على التحيل به في أصل العقد لأن التحيل به إنما يكون بعد
العلم به، ومن لا يعلم الشيء كيف يتحيل به؟. وقد وقع في الحاوي لأبي الفرج
رواية عن مالك أنه أجاز لمن أسلم دنانير في عروض أن يأخذ من الدنانير
دراهم. فإن جاز هذا في سلم صحيح تقايلا فيه، ففي الفاسد المحكوم بفسخه أحرى
أن يجوز. لكن المعروف من المذهب أن التقايل تعتبر فيه التهم، ويمنع أن يأخذ
عن رأس المال وَرِقًا لما وقع حل العقد باختيار منهما.
ولو انحل العقد بسبب لا مدخل فيه لواحد منهما، كاكتراء دار بدنانير فانهدمت
الدار وجب (1) رد الدنانير، فإنه يجوز أن يأخذ عنها وَرِقًا، إذ لا سبب
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ووجب.
(2/12)
لواحد منهما في حل هذا العقد، فيتهمان على
التحيل فيه على الصرف المستأخر.
وكذلك لو كان السلم في ثمار بعينها فاجتيحت على حسب ما تقدم بيانه في جائحة
الثمار المسلم فيها، فجاز أن يأخذ عن رأس المال الذي هو ذهب ورقا، لمّا
كانت الجائحة لا مدخل لواحد منهما فيها.
وكذلك الرد بالعيب به ألحق بهذا النوع لكون أحدهما، وهو البائع، انفرد
بالسبب الموجب لحل العقد. والبيع الفاسد وقع فيه الاضطراب هل هو من هذا
النوع لأجل أن القاضي فسخ العقد عليَهما بغير اختيارهما. وقد صورنا وجه
بَعد التهمة عنهما في هذا. ويجري ذلك مجرى الإقالة التي فعلاها باختيارهما
لما كانا مشتركين ها هنا في العقد الفاسد. وكذلك قال مالك، فيمن أسلم إلى
صاحب حائط في ثمرة، فعدمت الثمرة، إنه لا بأس أن يأخذ عن رأس المال، وهو
ذهب، ورقًا ورأى انقطاعها كالجائحة، وانهدام الدار. وإن أمكن أن يقدر ها
هنا أنهما تعمدا التأخير في الاقتضاء حتى يذهب إبان الثمرة، تحيلًا منهما
على الصرف المستأخر وهذه التهمة دعت ابن القإسم إلى أن قال، فيمن أسلم في
ثمر حائط بعينه فانقطعت الثمرة بعد أن أخذ بعضها: إنه يأخذ بقية رأس ماله
ما شاء، ما لم يأخذ أكثر من المكيلة التي عقد السلم عليها. واتهمهما على
تعمد التأخير لأجل ما زاد على المكيلة التي استحق عليه.
فأنت ترى مراتب هذه المسائل في قوة التهمة وضعفها فاتضح فيما لا سبب لواحد
منهما فيه كالجائحة وانهدام الدار بُعْدُ التهمة، فأجيز الأخذ عن الدنانير
دراهم، واتضح في الإقالة في السلم الصحيح قوة تطرق التهمة، فمنع ذلك في
المشهور المعروف من المذهب سوى ما حكيناه مما هو شاذ عن المعروف من المذهب.
وتزاحمت الظنون في قوة التهمة وضعفها في السلم الفاسد فكان فيه من الاضطراب
ما حكيناه. وعلى هذا جرى الأمر في انقطاع الثمرة على حسب ما حكيته أيضًا.
فهذه النكتة التي تدور عليها مسائل هذا الباب.
(2/13)
وقد ألحق في المدونة بهذا الباب مسألة من
باع دارًا على أن ينفق مشتريها عليه حياته، فذكر أنّ هذا عقد فاسد لا يجوز،
وأنه يجب فسخه ورد الدار لبائعها، ويرجع مشتريها عليه بقيمة ما أنفق عليه.
وإيراد هذا السؤ الذي هذا الباب قد يفتقر إلى اعتذار لكونه في الظاهر
خارجًا عما ترجم الباب به. والعذر عن ذلك أنه قدر أن بائع الدار أسلمها في
طعام يطعمه أجلًا مجهولًا، وهذا سلم فاسد، يجب فسبخه، ورد دار البائج عليه،
ورد البائع على المشتري ما أنفق عليه. فلهذا أدخل هذا السؤال ها هنالأولا
خفاء بفساد هذا العقد. لأن أمد حياة هذا البائع مجهول. فقد يحيى بعد العقد.
يومًا وقد يحيى ألف يوم أو أكثر منها. وهذا اختلاف عظيم في مقدار الثمن لا
يعلم ضبطه ولا حقيقته لا البائع ولا المشتري.
ولكن هذا مع وضوح فساده قد وقع لأشهب إمضاء هذا العقد، واختلف المتأخرون في
العذر عنه، فقيل: إنما أجاز ذلك لأنه أعمر البائع أمرًا والنفقة في هذا
الأمر في حكم المعلوم يطلب بها ذمة المشتري مات أو عاش. فصار العقد وقع على
ثمن معلوم ..
وهذا العذر لو صورت المسألة عليه وأن بيع الدار وقع بثمن معلوم لا غرر فيه
أصلًا لم يخالف ابن القاسم فيه أشهب. كما أن أشهب لو صورت المسألة عنده
بانعقاد البيع على ثمن مجهول لم يمضه.
واعتذر بعض أشياخنا عنه بأنه قد يريد وقوع هذا العقد على جهة المكارمة، كما
يفعل الأب مع ابنه، بأن يقول: أنفقْ عليَّ، وداري لك. والقصد ها هنا
المكارمة من الأب لولده، ولم يقصد الأب وولده بمثل هذا العقد المعاوضة على
جهة المكايسة والمتاجرة. فلهذا جاز.
والتأويل الأول هو أولى لكونه عامًا في سائر المتبايعين على تعمير يصير معه
الثمن معلومًا. وأما فعل الآباء وأمثالهم مع بنيهم وأقاربهم فهذا يتسع
القول فيه، ولا يكون الجواب عامًا في سائر الناس.
(2/14)
وإذا أوجبنا للمشتري أن يرجع على البائع
بما أنفق، فإنه إذا كان لا
تتحصل النفقة، مثل أن يكون مضافُ العياله أو ينفق عليه نفقة لا يتحصل
مثلها،
فإن الواجب الرجوع بقيمة النفقة. ولو كان يدفع إليه طعامًا مكيلًا لكان
الواجب
الرجوع بمثله سواء اشتراه دافعه أو أخرجه من عنده. بخلاف الكفيل إذا قضى
الطعام عن الغريم فإنه إن دفعه من عنده رجع بمثله، وإن اشتراه رجع بمثل
الثمن. لأن الكفيل إذا تكفل عن الغريم بإذنه فكأنه كالآمر له أن يُسْلِفَه
ما يقضي به عنه دينه. فإذا اشترى طعامًا بثمن فقضاه عنه صار كأنه إنما أسلف
للغريم الثمن الذي اشترى به عنه دينه. فإذا أشترى طعامًا بثمن فقفعاه عنه
صار كأنه إنما أسلف للغريم الثمن الذي اشترى به وبيع (1) الدار ها هنا إنما
له نفقة في ذمة مشتريها. فإذا وجب نقض ما كان بينهما رجع عليه بما أعطاه.
واختلف المتأخرون لو أنفق المشتري على البائع نفقة واسعة فيها زيادة عما
يُقْضَى عليه به مما وقع في العقد عليه، هل يرجع بهذه الزيادة إذا وقع
الفسخ لأنها هبة لأجل البيع، فيكون حكمها في الرد حكم الثمن، أَوْ لاَ يرجع
بها؛ لأنه متطوع بدفعها متبرع بإنفاق ما لا يلزمه إنفاقه على حكم ما عقداه،
فقد سلّط دفع (2) هذه الزيادة آكلها على أكلها وأذن له في ذلك من غير
اشتراط عوض. ولعلنا أن نبسط الكلام على هذا الأصل فيمن أثاب من صدقة ظن أنه
لا يلزمه الثواب عنها، فأكل هذا ما دفع إليه عوضا عن صدقته.
وأما كون مشتري الدار أحق بها إذا وقع الفلس ففيه الاختلاف الذي سيذكر في
كتاب التفليس إن شاء الله تعالى.
بيع الجزاف
قال القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب رحمه الله: وبيع الطعام وسائر المكيلات
جزافًا جائز في الغرائر، وصَبَّا على الأرض.
__________
(1) هكذا في جميع النسخ. ولعلّ الصواب: وبائع الدّار.
(2) هكذا في جميع النسخ. ولعل الصواب: دافع.
(2/15)
وكذلك سائر العروض المكيلة والموزونة كالجص
والنَّوْرة والقطن وغير ذلك.
ولا يجوز فيما يعظم الغرر فيه كالعبيد والحيوان والثياب والجواهر. ومِن
شرْط جواز بيع الجزاف تساوي المتعاقدين في الجهل بمقداره، ولا يجوز مع علم
بائعه، ويكون للمشتري الخيار. ولو دخل على الرضا بذلك لم يجز.
قال الشيخ رحمه الله: يتعلق بهذا الفصل ستة أسئلة، منها أن يقال:
1) ما معنى الجزاف؟
2) وما الوجه في إجازة بيع الجزاف؟
3) وما الجنس الذي يباع جزافًا؟
4) وهل من شرط ما بيع جزافًا أن يكون مرئيًا؟
5) وهل يشترط كون المتعاقدين متساويين في عدم العلم بمقدار المبيع؟
6) وهل يجوز أن ينضاف إلى المبيع جزافًا مبيعًا (1) غيره؟
فالجواب عن السؤال الأول أن يقال: المجازفة لا تكون إلا من إثنين جزافًا
(2)، على أسلوب باب المفاعلة، كقولهم المقاتلة والمضاربة والمشاتمة
والملاعنة، إلى غير ذلك مما يكثر تعداده. فلهذا قلنا إذا علم أحد
المتبايعين قيل الصبرة وجهلها الآخر، فإن البيع غير منعقد، كما سيرد بيانه،
لكون المجازفة التي هي المفاعلة والمراد بها كونهما جميعًا يرجعان إلى حزر
وتخمين، لم يحصل منهما جميعًا إذا علم قيل الصبرُ أحدهمالأولا يسمى جزافًا
لعدم الكيل بل للجهل به. لأنهما لو علمًا جميعًا قيل الصبرة وتصادقا على
البيع فيها على غير إحداث قيل بعد العقد، لم يكن هذا بيع جزاف. فثبت أن
المراد بهذه اللفظة كونهما غير عالمين بالمبلغ يقينًا بل بالظن والتخمين.
والجواب عن السؤال الثاني أن يقال: قد ورد الشرع بالنهي عن بيع الغرر.
والمراد به كل ما كان فيه تغرير وخطر. لكن الشرع قد عما عن عقود فيها
__________
(1) هكذا في النسختين، والصواب: مبيعٌ.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: تجازفا.
(2/16)
غَررٌ كما عما عن عقد إجارة الدار شهراً مع
إمكان كون الشهر تسعة وعشرين يومًا أو ثلاثين يومًا، وعن الشرب من السفَّاء
مع كون السقاء لا يقف على الحد الذي ينتهي إليه شارب الماء منه. ولم يعف عن
بيع الطير في الهواء والسمك في الماء، وما ذاك إلا أن الغرر إذا كان يسيرًا
غير مقصود فإنه يعفى عنه. وكذلك إذا كان القصد به الارتفاق ورفع المشاق
فعفي عن ذكر الدار لأجل أن زيادة يوم على تسعة وعشرين يومًا أو عدمه لا
يلتفت إليه المتعاقدان. وكذلك أجزنا بيع البرنامج لما في ذلك من الارتفاق
ورفع المشاق بنشره وحله وطيه. وقد قال ابن الجهم من أصحابنا: لو قال له:
بعني قطن جبتك أو جنين أمتك، لم يجز. ولو قال له: بعني الجبة بقطنها والأمة
بجنينها لجاز ذلك. وأشار إلى ما قررناه من أن القصد التخاطر إذا عقدا البيع
على أمر مغيّب كجنين الأمة وقطن الجبة. وإذا عقدا على الأمة نفسها والجبة
بجملتها، صار المُغَتبُ من ذلك غير مقصود إلى التخاطر فيه، فجاز هذا العقد.
وهكذا العقد على صبرة طعام عفي عن الغرر في العلم بمبلغها وسومح في الرجوع
إلى الحزر والتخمين فيها لأجل أن العارفين بالحزر في هذا والتخمين يقل
غلطهم فيه يكثر (1) مقدار ما بين غلطهم فيه إذا وقع الكيل، مع ما في ذلك من
الارتفاق ورفع المشاق لتكلف الكيل وطلب المكيال، وهذا من طريق الاعتبار.
وأمّا من جهة الآثار فقد خرج البخاري عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال:
"كان الناس يبتاعون الطعام على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
جزافًا (2). وخرج عنه أيضًا: كانت الصحابة يبتاعون الثمار جزافًا على عهد
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (2)، وهذا وإن وردت الآثار بالجواز فيه
مطلقًا، وإباحة العلماء من غير تقييد، فإنه يجب أن يشترط في ذلك كون
المتعاقدين ممن لهما دربة في هذا الحزر والتخمين وشاهدا منه ما يقيسان عليه
ما يتبايعانه جزافًا.
وأما إن كان المتعاقدان بعيدين من معرفة هذا ويقعان في الغلط الفاحش فيه
__________
(1) هكذا. ولعل الصواب: ولا يكثر.
(2) نص حديث البخاري: لقد رأيت النّاس في عهد رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - يبتاعون جزافًا -يعني الطّعام. يضربون أن يبيعوه في مكانه حتى يؤووه
إلى رحالهم. فتح الباري ج 5 ص 254.
(2/17)
الذي له مقدار كثير من الثمن والمثمون،
فإنه لا يبيح لهما أن يتعاقدا بيعًا جزافًا، وهما يعلمان من أنفسهما أن
غلطهما يتفاحش ويعظم حتى يقعا في الغرر والتخاطر.
والجواب عن السؤال الثالث أن يقال: تحقيق مقادير المبيعات يكون بثلاث صور:
أحدها الكيل والآخر الوزن والآخر العدد.
فأما المكيلات فالحنطة والشعير والقطاني وغيرها من ضروب المكيلات فإنه لا
يختلف في جواز بيعها جزافًا على الجملة. وكذلك الموزونات أيضًا كاللحم
وشبهه. وأما المعدودات فقد وقع في المذهب روايات تشير إلى الاضطراب في هذا.
فوقع لمالك رضي الله عنه في الموطأ أنه قال، في بيع الإبل والغنم والخيل
والرقيق جزافًا: إن ذلك لا يجوز. ولا يجوز الجزاف فيما يعد عدًّا (1). وهذا
الإطلاقال في وقع في الموطأ يقتضي ظاهره منع بيع المعدود جزافًا، بخلاف
المكيل والموزون. وإن ترك على ظاهره كانت التفرقة بينه وبين المكيل
والموزون أن المكيال والميزان التي لا يمكن العلم بالمبلغ في الحنطة واللحم
إلا بحضورهما، وقد لا يوجدان أو يشق إحضارهما، فرخص في ذلك لأجل هذه
المشقة. والعدد لا يفتقر فيه العاد إلى آلة قد يتعذر إحضارها. فلم يكن في
تكليفه العدد مشقة. فلهذا عفي (2) عنه. لكن الحذاق من المتأخرين يشيرون إلى
أن قول مالك رضي الله عنه هذا متأول فيما يكون المراد منه أعيان آحاده لا
العلم بمبلغه. فلهذا مثل في الموطأ لما ذكر هذا بالإبل والغنم والخيل
والرقيق. وهذه الأصناف التي ذكرها المراد أعيان آحادها والإحاطة بصفاتها،
كل شيء منها على حياله، ليعلم بذلك قدر ثمن كل واحد على انفراده، فيحصل له
من ذلك كونه غابنا أو مغبونا. فلو بيعت الجمال أو الجواري عددًا من غير
اطلاع على صفات كل واحد منها على انفراده، لعظم في ذلك الغرر واتضح الخطر.
فيحمل قول مالك: ولا يباع جزافًا ما يعد عذاة على هذه الأجناس
__________
(1) الموطأ: 2/ 219: "2002".
(2) هكذا في النسختين ولعل الصواب لم يعف عنه
(2/18)
المراوإلاطلاع على عين آحادها. وأمّا ما
تتساوى آحاده والمراد منه معرفة المبلغ كالمراد من صبرة الحنطة معرفة
مبلغها لا عين كل بُرَّةٍ منها، فإنه يجوز بيعه، وإن كان معدودًا، جزافًا،
فإن اعترض هذا ما أشرنا إليه من التفرقة التي ذكرناها آنفُ ابين المعدود
والمكيل قيل قد يكثر الشيء حتى يشق عدده كما يشق كيله ووزنه. وهكذا عند
القاضي أبي محمَّد عبد الوهاب هذا الباب لتمييز ما المراد منه أعيان آحاده؟
أو ما المراد منه معرفة مبلغه لا أعيان آحاده؟ لكن هذا الذي ذكرناه في
المعدود يقتضي أنه لو كان قليلًا لا كلفة في عدده، والعادة أن يباع بالعدد
لم يسامح ببيعه جزافًا. وقد قال مالك رضي الله عنه: لا بأس أن تباع
العصافير والحيتان الصغار جزافًا. وأما الكبير منها فلا يباع جزافًا، وإنما
يعد عددًا. وفي الموازية أنه إذا علم أحد المتعاقدين العدد فكتمه عن الآخر
وتبايعا على الجزاف، أن ذلك عيب يوجب الرد. فأشار ها هنا إلى جواز بيع
المعدود جزافًا. فتحمل هذه الروايات التي اختلفت ظوأهرها على ما قلناه من
كون المعدود لا تُرادُ آحاده. فيجوز فيه الجزاف كالجوز والبيض، على حسب ما
مثل به القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب المعدود الذي يجوز بيعه جزافًا.
لكن وقع في كتاب ابن حبيب جواز بيع الأترجّ والبطيخ جزافًا، وإن اختلفت
أجرام آحاده في الكبر والصغر. وهذه الرواية لا تصح على ما أصلناه، إلا أن
يكون الثمن لا يختلف عند المتعاقديق باختلاف صغر البطيخ وكبره. وقد ذكرنا
عن مالك أنه أجاز بيع العصافير جزافًا. لكن ابن القاسم تأوّل ذلك على أنها
مذبوحة، وأما إن كانت حية فلا يجوز بيعها جزافًا لأنها يموج بعضها في بعض.
وهذه إشارة إلى أن الحية لا يتأتى حزرها لما يحدث فيها من حركات وبسط أجنحة
يستر بعضها بعضا. وهذا مسلم إن ثبت أن الحزر لا يوثق به فيما كان حيًا
منها؛ لأنا شرطنا في جواز بيع الجزاف أن يكون مما لا يعظم الغلط فيه
ويتفاحش، فقدر ابن القاسم أن الحي من العصافير يعظم الغلط فيه ويتفاحش،
فلهذا منعه.
(2/19)
ومن هذا الأسلوب بيع الذهب والفضة جزافًا.
فأمّا ما كان منها تبرًا أو مصوغًا فإن بيعه عندنا جزافا غير ممنوع، ولو
كان العلي محش وَا لم يمنع ذلك من بيعه جزافًا إذا اختبر مقدار الحشو من
الساتر من ذهب أو فضة، بأن يعلم غلظ هذا الساتر من الذهب أو الفضة فيمكن
حزره. وإذا لم يعلم مقدار غلظه من رقته لم يمكنه أن يحزر وزنه حزرًا
موثوقًا به. وأما إن كان الذهب أو الفضة مسكوكين دنانير أو دراهم، فإنه في
المدونة لم يُجز بيع ذلك جزافًا. واختلف البغداديون في هذا المنع هل هو منع
كراهة أو منع تحريم؟ فقال ابن القصار: إنّه منع كراهة. وأشار إلى هذا
محمَّد بن عبد الحكم في قوله: لم أر أحدًا من أصحابنا يجترىء على فسخ بيع
الدنانير والدراهم جزافًا. وذهب أبو بكر الأبهري وأبو محمَّد عبد الوهاب
إلى حمل هذا المنع على التحريم. فمقتضى مذهب ابن القصّار لا يفسخ البيع
لكونه مكروهًا لا محرمًا. ومقتضى قول الأبهري وأبي محمَّد عبد الوهاب
الفسخ، إذا لم يراعيا الخلاف في هذا.
واختلف أيضًا في تعليل منع هذا، فأشار محمَّد بن مسلمة إلى أن الجزاف إنما
جاز لكون الغلط فيه إنما يقع بيسير محتقر يزيد ذلك على حزر الحازر العارف
أو ينقص. واليسير من الذهب والفضة له مقدار، وتشح النفوس عليه ما لا تشح
على اليسير من غيره .. فلهذا منع بيع الدنانير والدراهم جزافًا. وهذا الذي
قاله، وإن كان يستمر على القاعدة التي قدمناها في اعتبار كون الغرر مقصودًا
أو غير مقصود، فإنه ينتقض على أصل المذهب لإجازة أهل المذهب بيع التبر
والذهب والفضة المصوغين جزافًا. ويتصور من نفاسة مقدار الغلط فيها ما يتصور
في الذهب والفضة المسكوكين وكذلك اللؤلؤ يتصور من نفاسة الغلط بقليله ما
يتصور في الدنانير والدراهم المسكوكين.
وهذا في لؤلؤ تتسَاوى آحاده، والقصد فيه مبلغه لا الاطلاع على كل واحدة على
حيالها، فإن بيع ذلك لا يجوز عندي جزافًا، وهو كبيع الرقيق والخيل.
وذكر القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب ها هنا المنع من بيع الجوهر جزافًا
(2/20)
ولم يفصّل بين كبيرها وصغيرها. والمرجع في
هذا إلى العادة فيما المقصود آحاده، أو المقصود مبلغه.
وعلل المنع من هذا الشيخ أبو بكر الأبهري والقاضي أبو محمَّد عبد الوهاب
بأن الدنانير والدراهم ما خفّ منهما أنفقُ مما ثقل. فصار الغرر فيها إذا
بيعت جزافًا من وجهين: الجهلَ بمقدار الخفيف منها من الثقيل، والجهلَ
بالمبلغ. والغررُ إذا صار من جهتين صار مقصودًا.
والقمح واللحم إنما المقصود فيهما العلم بمبلغ قيل القمح ووزن اللحم،
فصار الغرر من جهة واحدة فخف وأجيز.
والحق أن هذا التعليل الذي وقع للأبهري إنما ذكره في بيع الدنانير والدراهم
المعدودة. هكذا قال محمَّد بن عبد الحكم في المختصر. ولما شرح الأبهري
كلامه في هذا أشار إلى ما قلناه من التعليل. وهكذا في الموطّأ قال مالك رضي
الله عنه: لا تباع الدنانير والدراهم المعدودة جزافًا، والعدول إلى الجزاف
فيها غرر (1). فقيد المنع يكون الدنانير والدراهم معدودة، كما ذكر ابن عبد
الحكم في المختصر. وقد كنا نحن قدمنا ما وقع لمالك رضي الله عنه في الموطأ
من بيع المعدود جزافًا ونقلنا فيما تقدم كلامه في هذا، وتأولناه بأن المراد
به ما كان من المعدود يُقصد منه إلى الاطلاع على عين آحاده دون ما كان يقصد
منه الاطلاع على المبلغ خاصة. وذكرنا أنه إن تُرك قول مالك هذا على ظاهره
عمومًا في كل معدود، فإنما ذلك لكون المكيل والموزون قد يتعذّر عن بيعهما
وجود المكيال والميزان" والعدد لا يتعذر لأنه علم لا يفارق المتعاقدين ولا
يستعينان فيه بآلة كالمكيال والميزان.
والجواب عن السؤال الرابع أن يقال: الجزاف يجوز العقد عليه سواء كان المبيع
موضوعًا على الأرض أو
__________
(1) المو طأ: 2: 161 - ر قم 1854 (بتصرف).
(2/21)
موضوعًا في ظرف. فالقمح والتمر يجوز العقد
عليهما (1) وإن كانت الصبرة المصبرة من كل واحد منهما موضوعة على الأرض
يحيط البصر بجميع جوانبها.
وكذلك يجوز بيعهما ولو كانا في غرارة أو شبهها؛ لأن المعتمد في هذا على
الحزر الذي يحرره العارف. ولا تختلف معرفة العارف بهذا يكون القمح موضوعًا
في الأرض أو في غرارة أو في جَفنةٍ. لكن ابن المواز لما أجاز هذه، قال: لو
عقد البيع على أن يملأ له غرارة فارغة قمحًا موصوفًا أو مشاهدًا ما جاز
ذلك. وكذلك قال في الزيت: إنه يجوز بيع قارورة منه مملوءة زيتًا يعقد البيع
على زيتهالأولو كانت فارغة ما جاز له أن يشتري ملأها من الزيت. وكذلك لو
اشتراها مملوءة جزافًا ما جاز له أن يعقد على ملئها ثانية.
وهذا قد يهجس في النفس استبعاد الفرق بين ما أجاز وما منع. إذ لا يختلف حزر
الحازر لزيت في قارورة أو حزره لمقدار ملئهلالكن قصارى ما يفرق بينهما (2)
به، أن المقصود تغير أحكام العقود على حسب ما قدمناه مرارًا. وإذا كانت
القارورة مملوءة زيتًا والغرارة مملوءة قمحًا، صار المبيع جزافًا مرئيًا
مشاهدًا. فالقصد العقد على مرئي مشاهد فتطلب معرفة مبلغه بالحزر والتخمين
حتى إذا كانت القارورة فارغة فالمشترَى جزافا غير مرئي ولا مشاهد، فالقصد
العقد على قمح مكيل بمكيال غير معلوم مقداره في المكيال الذي اعتادا به
التبايع. فصار ها هنا القصد إلى التغارر لكون المبيع غير مرئي ولا مشاهد،
حتى إذا كان مشاهدًا مرئيًا صار العقد على ما شاهد ورأى، لا العقد بمكيال
مجهول. لكنه استثنى في المدونة، لما منع البيع بمكيال مجهول، بمكيال غير
معروف من الأعراب لكون المكيال عندهم يتعذر وجوده، فعفي عن ذلك للارتفاق
ورفع المشاق، مع كون هذا مجهولًا في نفسه.
واختلف المذهب لو وقع التبايع بمكيال مجهول المقدار، هل يفسخ البيع
__________
(1) هكذا في النسختين. ولعل الصواب حذف الواو.
(2) في نسخة ب: ما بينهما.
(2/22)
أم لا؟ فذهب أشهب إلى أنه لا يفسخ، تقريبًا
منه حكم هذا من أحكام الجزاف، والجزاف جائز كما قدمناه. ورأى غيره أنه
يفسخ؛ لأن العدول عن المعتاد من المكيال إلى المجهول منها قَصْدٌ إلى الغرر
والمخاطرة. وقد حاول بعض المتأخرين أن يجعل فيما حكيناه عن ابن المواز
اضطرابًا في المذهب. هل منع شراء ملء قارورة وحل (1) غرارة لكونه جزافًا
غير مرئي، أو لكونه تبايعاه بمكيال مجهول المقدار؟ وذكر الرواية الواردة
يمنع أن يبيع منه قمحًا مكيلَ هذه الصبرة.
وأجاز ذلك في سلة عنب أن تشتري سلة عنب مملوءة ويملأها له ثانية، وما ذلك
إلا لكون العنب مما لا يكال. فلم يقصدا في اشتراطهما ملأها ثانية إلى البيع
بمكيلة مجهولة، والقمح مما يكال. فإذا اشترى كيلًا مثل الصبرة المعقود
عليها، صار (2) هذا كالعقد بمكيال مجهول. وهذا الذي قاله في الصبرة يفتقر
إلى بسط، ولعلنا أن نبسطه في أحكام الصبر إن شاء الله تعالى.
والجواب عن السؤال الخامس أن يقال:
إذا استوى المتعاقدان في العلم بكيل المبيع لم يكونا عقَدا على جزاف.
وإن استويا في الجهل بكيله كانا عقدا على الجزاف وإن انفرد أحدهما بعلم
كيله فإنهما ليسا بمتجازفين فلا يجوز العقد على هذا عندنا.
وأجازه أبو حنيفة والشافعي.
ولا يخلو انفراد أحدهما بعلم ذلك: إما أن يشترط على المشتري أنه لا يخبره
بما علم من مبلغ الكيل ويَكِله إلى حزْر نفسه أو يكتم أنه يعلم. ذلك ثم
يطلع على ذلك بعد العقد.
فأما إن اشترط عليه في أصل العقد أنه يعلم بالكيل ولا يعلمه بذلك، فإن
البيع فاسد لأجل أنهما عقدا على مخاطرة وغرر. وقد نبهنا عليه فيما تقدم من
كون المشتري إنما ينشط خاطره للشراء، ويعتقد أنه لم يغبن إذا علم أن البائع
__________
(1) هكذا في جميع النسخ. ولعل الصواب: وملىء غرارة.
(2) في م: جاز.
(2/23)
منه إنما يعوّل على الحزر والتخمين كما عول
هو عليه. حتى إذا علم أن البائع يعلم بالكيل حقيقة لم يجبر على العقد ولم
يتق بحزره وتخمينه ويسبق إلى نفسه أن البائع لما علم أنه أخطأ في حزره على
نفسه أنعم له بالبيع. وأما إذا لم يشترط العلم بذلك وكتمانَه، ولكنه اطلع
على علم البائع بذلك بعد العقد، فإنه عندنا عيب في المبيع يكون للمشتري
الخيار. إن شاء التزم البيع وإن شاء رده، لما نبهنا عليه من كون المشتري لم
يدخل إلا على أن البائع معول على الحزر مثل ما عول هو عليه. وانفرد الأبهري
ولم يَرَ هذا كالعيوب التي يكون للمشتري الخيار في الرد بها إذا اطلع عليها
بل جعل ذلك مفسدًا للعقد كما يفسده اشتراط العلم وكتمانه. وأشار إلى أنه
خطر وغرَرٌ بخلاف العيوب.
والمعروف من المذهب أن هذا الحكم عندنا جار في انفراد علم المشتري بالكيل
لجريانه في انفراد علم البائع به، وأن للبائع الخيار أيضًا إذا اطلع على
انفراد المشتري بعلم ذلك. ورأيت بعض أصحابنا حكى فيه عن بعض أهل المذهب
خلافًا. ورأى أن البائع لا خيار له؛ لأن الانفراد بالعلم كعيب يوجب الخيار
كما قدمناه، لكون البائع أيضًا إنما دخل مع المشتري على أنه يساويه في
الجهالة بمبلغ المبيع. وذكر القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب أن القاضي كان
يعارض هذا ويراه كالممتنع في المذهب، لأجل قولهم: إن البيع يفسد إذا اشترط
البائع أنه لا يذكر للمشتري ما علم، مع قولهم: إنه إذا اطلع على علمه بعد
العقد كان بالخيار في الرد والإمضاء. وإذا قدروا انفراد البائع بعلم عيب
يوجب للمشتري الخيار إذا اطلع عليه فإذا اشترطه في أصل العقد فينبغي أن لا
يكون للمشتري مقال في صحة هذا البيع ولا في رده. كما إذا بين البائع العيب
في أصل العقد.
وأجاب القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب عن هذا بأنه غير ممتنع أن يكون الشيء
يفسد العقد إذا قارنه ولا يفسده إذا اطلع عليه بعد العقد. كما قيل في بيع
أمة مغنيّة: إنه إن اشترط كونها مغنية في أصل العقد فسد البيع، وإن لم
يشترط ذلك ثم اطلع المشتري بعد العقد على كونها مغنية كان بالخيار في إمضاء
العقد
(2/24)
أو رده بهذا العيب الذي هو كونها مغنية.
وكذلك لو غصب سلعة وباعها مِمّن يَظُن أنها مِلْكُه، ثم اطلع على أنها
مغصوبة، فإن البيع لا يفسد ويثبت فيه الخيار الذي نذكره في موضعه إن شاء
الله تعالى. ولو شرط البائع كونها مغصوبة، ودخل المشتري على ذلك لفسد
البيع. فأنت ترى كيف كان الاطلاع على هذه الأمور بعد العقد لا يؤثر في
صحته. [والاطلاع (1) عليها في أصل العقد يؤثر في صحته]. وهذا الذي ذكره
رحمه الله في شراء السلعة المغصوبة وشراء المغنية.
نبسط الكلام فيه في موضعه، ونكتة الأمر فيه أن اشتراط هذا بها عددًا أو
وزنًا، فقد علم من علم عددها مقدار ما يحصل بها من الأعواض. وعلمْه بذلك
ربّما أغنى عن علمه بالوزن، ولم يفده العلم بالوزن شيئًا، فإذا انفرد العلم
بهذا، صار المشتري أيضًا لم يدخل معه على أنه يعلم عددها فيعلم بذلك مقدار
ما يحصل له من الأعواض، وإنما يدخل على أنه لا يعلم هو ولا البائع مقدار ما
يحصل بها من الأعواض. فهذا مما ينظر فيه. كتمان ما علم من قيل الصبرة في
أصل العقد يوقع في التخاطر والغرر الذي نبهنا عليه، والاطلاع على ذلك بعد
العقد يدفع كون العقد وقع على غرر.
وقد قال بعض المتأخرين: إن البيع لو كان له مبلغان يباع عليهما فعلم البائع
أحد المبلغين دون المشتري وبايَعه على المبلغ الآخر جزافًا، فإن ذلك يجوز،
ولا مقال فيه للمشتري. ومثَل هذا بدراهم تباع ببلد وزنًا وعددًا فباعها على
الوزن مجازفة وهو منفرد نعلم العدد، ورأى أن المتبايعين لما استويا ها هنا
في الجهل بالمبلغ الذي تجازفا فيه لم يكن في العقد قدح ولأ خيار.
وهذا الذي قاله فيه نظر على التعليل الذي قدمناه. لأن الدراهم إذا كانت
يتبايع بها عددًا أو وزنًا، فقد علم من علم عددها مقدار ما يحصل بها من
الأعواض. وعلمه بذلك ربما أغنى عن علمه بالوزن، ولم يفده العلم بالوزن
شيئًا. فإذا انفرد العلم بهذا صار المشتري أيضًا لم يدخل معه على. أنه يعلم
__________
(1) ما بين المعقفين ساقط من نسخة م.
(2/25)
عددها، فيعلم بذلك مقدار ما يحصل له من
الأعواض. فهذا مما ينظر فيه.
والجواب عن السؤال السادس أن يقال:
قد قدمنا أن البيع مجازفة فيه غرر رخص فيه للارتفاق ورفع المشاق. وما جرى
على هذا الأسلوب يجب أن لا يوسع الغرر فيه إلا بمقدار مسيس الحاجة إليه.
فإذا باع صبرة قمح منفردة أو صبرة قمح وصبرة تمر في عقد واحد وثمن متفق أو
مختلف، جاز ذلك لما لّمس الحاجة إليه للمجازفة في هذين المكيلين القمح
والتمر. فلو أضاف إلى صبرة القمح جنسًا آخر أو نوعًا منها، مكيلًا أو
موزونًا، فإن هذا فيه اختلاف في المذهب، هل يجوز ذلك أم لا؟ فمن أجازه رأى
أن الغرر لم يكثر بإضافة هذا المكيل إلى هذا الجزاف. ومن منع من هذا رأى أن
المكيل معلوم مبلغه قطعًا، والجبزاف يظن مبلغه بالحزر. واجتماع معلوم
ومظنون في عقد واحد يصير في المظنون تخاطرًا لم يكن فيه إذا انفرد، مع
كونهما كحكمين مختلفين. وكذلك لو أضيف إلى المكيل ثوبًا أو عرضًا، فإن
المذهب يختلف على دولين فيه أيضًا، كإضافة المكيل إلى الجزاف. وقد كنا
قدمنا في كتاب السلم الأول التنبيه على إجازة ذلك في المدونة في مسألة من
أسلم في شعير وثوب، وأنه أجاز في هذه المسألة اجتماع مكيل وعرض. وهذا قد
وقع في كتاب ابن المواز المنع منه. وقد وقع لابن القاسم، فيمن باع صبرة على
الكيل ومعها ثوب، أن ذلك لا يجوز إذا كان يأخذ جميع الصبرة على الكيل،
لكونه لا يعلم مبلغها. فصار إضافة الثوب إليها يؤكد الغرر في هذا العقد.
وأجاز ذلك أشهب، وهذا ليس ببيع صبرة على الجزاف ولكنها على الكيل. لكن
الوقوف على مبلغ المكيلة (1) لم يتحصل فصار ذلك يثبت في العقد غررًا لما
انضاف إليه ما سواه. وقد قال أبو حامد الإسفراييني: لا يجوز بيع صبرة قمح
على الكيل، كل قفيز بدرهم على أن يزيده قفيزًا، إلا أن القفيز المشترط
زيادته مقسط على سائر الأقفزة، وهو لا يعلم مبلغها؛ فصار كأنه اشترى قفيزًا
ومعه شيء لا يوقف على
__________
(1) الكميّة في نسخة م.
(2/26)
حقيقته من القفيز المشترط زيادته. فتضمن
هذا جهلًا بالمبيع فمنع. وقد أشرنا نحن إلى ما قاله ابن القاسم في بيع صبرة
على الكيل ومعها ثوب وهو من هذا الأسلوب. لكن أبا حامد قال: وكذلك لو باع
صبرة على الكيل، كل قفيز بدرهم واستثنى منها قفيزًا لم يجز ذلك. وأجرى
النقص ها هنا مجرى الزيادة. فأما الزيادة فالذي علل به يتصور، وقد ذكرنا ما
وقع في المذهب من هذا الأسلوب. وأما النقص فيفتقر إلى بسط. فإن قيل: إن
المستثنى كالمشترى فإنه قد يتصور ما قال كما تصوره في الزيادة. وهذا إنما
يتضح عند الكلام على المستثنى هل هو مبقى أو مشترى؟
قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله: ويجوز تصديق المشتري للبائع في كيله إذا
كان ينقد ويكره في النّساء.
قال الشيخ رحمه الله: يتعلق بهذا الفصل سبعة أسئلة، منها أن يقال:
1) لم جاز التصديق في النقد؟
2) ولم كُرِهَ في النساء؟
3) وهل يجوز التصديق في السلم؟
4) وهل يجوز التصديق في بيع الطعام بالطعام؟
5) وهل تصديق البائع للمشتري كتصديق المشتري للبائع؟
6) وإذا اختلفا في قدر المكيلة بعد التصديق القول قول من يكون منهما؟
7) وإذا حَضَرَ المشتري الكيلَ هل له أن يطالب به البائع؟
فالجواب عن السؤال الأول أن يقال:
إذا اشترى الطعام كيلًا بثمن نقد، فأراد المشتري أن يقبله بقول البائع: فيه
من المكيلة كذا وكذا، فإن ذلك سائغ له. وذكر ابن حبيب أن القاسم بن محمَّد
وغيره استثقل هذا، وأن كثيرًا من التابعين أجازوه.
والظاهر عندي من مذهب الشافعية أنهم يمنعونه. وكان الشيخ أبو الحسن المعروف
باللخمي رحمه الله يكره ذلك وإن كان الثمن نقدًا، ويرى أن الزمان فسد،
وإباحة التصديق في هذا توقع المتبايعين في النزاع والمخاصمة والأيْمان،
(2/27)
وقد أمر الله سبحانه بالإشهاد في التبايع
رفعًا للخصام والأيمان.
وهذا الذي اعتل به يمكن أن يكون إليه نحا القاسم بن محمَّد. على أن مالكا
رضي الله عنه ذكر في الموطأ أن هذا جائز في بياعات النقد. ثم أشار إلى أن
المنع من ذلك في بياعات النساء حماية للذريعة فيما يتخوف من الربا (1). ثم
قال: والذريعة في بيع النساء أبين. وهذا اللفظ ربما اقتضى أن في بيع النقد
ذريعة ولكنها لا تَبيَّنُ كبيانها في بيع النساء. والذي نذكره من التعليل
في بيع النساء قد يصلح إجراؤه في بيع النقد.
والجواب عن السؤال الثاني أن يقال:
قد ذكرنا في السؤال الأول ما أشار. إليه مالك رضي الله عنه في تعليل النهي
عن التصديق في المكيلة في بيع النساء. وبسط كلامه أن الطعام إذا بيع نسيئة
ربما اطلع المشتري على نقص في الكيل فيقف على ذكره والخصام فيه لئلا يسترد
البائع طعامه، ويسيء اقتضاعه الثمن عند حلول الأجل، لأجل ما قدم المشتري من
طلب حقه في النقص، فيتجافى المشتري عنه رجاء: في مسامحة البائع في الاقتضاء
والتأخير في الأجل. فيكون تجافيه عن طلب هذا كهدية المديان وهي زيادة منه
يرجو بها التأخير. فضارع ذلك ربا الجاهلية، وهو قولهم: تقضي أو تُرْبِي. مع
أنه أيضًا أخذ مكيلة مجهولة المقدار عنده في حكم اليقين والقطع، ويمكن أن
يكون أقل مما اشترى من الكيل أو أكثر، فيصير أخذ طعامًا في أكثر من الطعام
الذي اشترى أو أقل. فضارع ذلك ربا الفضل (2).
وهكذا رأيت أصحاب الشافعي عللوا أخذ الطعام من الغريم على التصديق بأن
قالوا: أخذ ما لا يَدري هل هو مثل حقه أو أقل؟ فنهي عن ذلك لأجل هذا.
وهذا التعليل يشير إلى ما قدمناه عنهم من أن هذا يجري في بيع النقد. ويكون
هذا تعليلًا أيضًا لما حكيناه عن القاسم بن محمَّد وغيره.
__________
(1) الموطأ: 1971 ص، 20 ج 2.
(2) والنِّساء في م.
(2/28)
والجواب عن السؤال الثالث أن يقال:
اختلف في التصديق في الطعام المسلم فيه. فأجازه في المدونة ومنعه في
الموازية. فإذا عللنا، لما أشرنا إليه وبسطناه من تعليل مالك رضي الله عنه
في بيع النساء، فإنه قد يجد نقصًا فيصفح عنه رجاء أن يؤخره بالثمن المؤجل،
لم يطرد هذا في السلم لقوله: لا دين يبقى بينهما بعد قبض الطعام المسلم
فيه.
وأمّا إن عللنا برفع الخصام والأيْمان، فإنه يحسن النهي عن هذا في السلم
وفي بياعات النقود (1) -على حسب ما قدمنا. ولكن بياعات النقود (1) - لم
يختلف فيها من تقدم من أصحابنا كما اختلفوا في السلم. فيطلب في السلم معنى
آخر، وما ظهر فيه وجه سوى أن الطعام المشترى فيه غير معين كما يكون في
بياعات النقود (1) - وإنما يعطيه طعامًا من ذمته يطابق الصفة التي تواصفاها
في أصل عقد السلم: فقد يعطيه أجود من الصفة التي يقضى بها عليه عند
المشاحة. فإذا اطلع على النقص تجافى عنه لئلا يسترد الطعام الذي هو أجود
مما له في ذمته فيقعان بذلك في الربا لأن الأخذ في السلم طعامًا أجود وأقل
كيلًا لا يجوز. هذا حكم التصديق فيما في الذمة ..
وأما التصديق في رأس مال السلم فاختلف الأشياخ فيه. فذكر عن الشيخين أبي
محمَّد بن أبي زيد وأبي الحسن القابسي رضي الله عنهما أنهما أجازا دفع
دينار في طعام على تصديق قابض الدين دافعه في وزنه. وإنما ينهى عن دفع
الدينار بغيبر وزن ولا يعرفان وزنه، فيكون هذا جهالة في الثمن. أو كبيع
الدنانير جزافا. وخالفهما غيرهما ونهى عن ذلك. وما أراه إلا أنه قدر أن
قابض الدنانير قد يطلع على نقص فيه (2) فيتجافى عن طلبه رجاء أن يؤخره
بالسلم. وقد قال الشيخ أبو القاسم بن الكاتب في الطعام المسلم فيه: إنه لو
قدمه قبل الأجل لنهي عن التصديق فيه لئلا يقعا في: ضع وتعجل. فإذا اطلع
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: النقد.
(2) الملاحظ: عدم التوافق بين الضمير المفرد ومعاده: الدنانير؛ جمعًا.
(2/29)
على نقص صفح عنه لأجل تعجيل الدين قبل
أجله.
والجواب عن السؤال الرابع أن يقال: اختلف في المذهب في جواز التصديق في قيل
الطعام إذا بيع بطعام آخر أو بودل به. فقال مالك: لا يجوز. وبه قال ابن
كنانة. واختاره سحنون. وقال ابن القاسم وابن الماجشون: بل يجوز. واختاره
أصبغ.
وسبب الخلاف في هذا أنك قد علمت ما قدمناه في كتاب السلم الأول. أن من شرط
بيع الطعام بالطعام المناجزة - قبل الافتراق. وهذان إذا تراضيا على أخذ
الطعام بما يقوله البائع، فإن المشتري إذا اختبره بعوإلافتراق فاطلع على
نقص خاصم فيه وطلب البائع به، فيكمله له، إن ثبت النقص، طعامًا، أو يرتجعه
ثمنًا. فقد حصل الافتراق ولم ينقطع التعلق بين البائع والمشتري، فلم يحصل
التناجز عند مالك. وحصل عند ابن القاسم، لأجل أنه لو لم يفارقه حتى اكتال
الطعام لصح البيع باتفاق ولم يكن قدح. فكذلك إذا صدق المشتري البائع في
الكيل، فإن ذلك يحل محل مشاهدة الكيل. ولهذا لم يصدق في دعواه النقص بعد
الافتراق.
وعلى هذا الأسلوب من التعليل جرى اختلاف المذهب في التصديق في الصرف في
مبايعة الدنانير بالدراهم.
ومن هذا المعنى ما وقع من الاختلاف في الطعام إذا قبضه المشتري على تصديق
البائع في كيله ثم أراد أن يبيعه في الحال قبل أن يغيب عليه، فإن مالكا رضي
الله عنه منع من ذلك حتى يغيب عليه، وأجازه ابن القاسم. جَرْيًا من مالك
على التعليل الذي ذكرناه من كون التصديق لا يقطع التعلقال في بين البائع
والمشتري في هذا المبيع، لكونه يذهب به فيختبره فإذا وجد نقصًا طلب به فلم
يحصل القبض على التمام. ورأى ابن القاسم أن التصديق يحل محل مشاهدة الكيل،
ولو شاهد الكيل وقبضه بعد أن اكتيل عليه لم يُمنع من البيع وإن لم يغب
(2/30)
عليه، فكذلك إذا قبضه على التصديق وإن لم
يغب عليه.
والجواب عن السؤال الخامس أن يقال:
إذا دفع البائع الطعام، ووكل كيله للمشتري، وصدقه فيما يزعم أنه وجده فيه
من الكيل، فإنه لا يخلو ذلك أن يكون يتأخر فيه الكيل المدة الطويلة، أو إلى
غاية بعيدة يبلغها، أو يكتاله المشتري بعد مضي زمن قريب من العقد. فإن
اشترط تأخير الكيل زمنًا طويلًا فإن ذلك لا يجوز؛ لأن الطعام في ضمان بائعه
حتى يكتال. وبيع المعينَّ بشرط أن يبقى في ضمان البائع أمدًا طويلًا لا
يجوز. وقد قدمنا ذلك فيما مضى وأشرنا إلى علته. [وإذا اشترط الكيل إلى أمد
قريب من العقد، ارتفعت هذه العلة فلم يمنع (1)]. وإن اشترط الكيل إلى أمد
قريب فلا يخلو أن يشترط المشتري أنه إن وجد نقصًا رجع بمقداره من المبيع،
أو بمقداره من الثمن .. فإن شرط الرجوع بمقداره من المبيع، وكان ما يرجع به
حاضرًا عند البائع، وهو من الجملة التي باع ما قبضه المشتري منها، فإن ذلك
جائز. إذ لا مانع يمنع من هذا حتى إذا لم يكن ذلك عند البائع، صار ذلك من
بيع ما ليس عندك.
وإن شرط المشتري أنه ينحط عنه مقدار النقص من الثمن، فإن كان لم ينقد
البائعَ جاز ذلك، إذ لا مانع أيضًا يمنع من هذا الاشتراط. وإن كان قد نقد
البائع، وعقدا البيع على هذا، فإن ذلك لا يجوز، لجواز أن يجد نقصًا فيسترد
بعض ما نقد من الثمن، ويكون ذلك بيعًا وسلفا. إلا أن ينقد من الثمن ما
يُومَنُ معه رد شيء منه، للعلم بأن ما قبض يقابل ما دفع من الثمن ويربي
عليه. وقد وقع في المدونة لابن كنانة النهي عن هذا من غير تفصيل، وأشار إلى
أنه يكتب عليه ذكر الحق بما لم يتحصل عليه يقينًا. قال: وفيه وجه آخر
وأبواب من الفساد.
__________
(1) ما بين المعقوفين ساقط في (م) وهو أقرب للصواب.
(2/31)
وتعليله بأنه يكتب ما يمكن أن يسقط عنه
بعضه ليس من العلل اللازمة؛ لأنهما قادران أن لا يكتباها وثيقة بهذا الثمن،
أو يكتباها ويشيرا فيها إلى أن الثمن لم يتحقق وجوب جميعه. لكن قوله وأبواب
من الفساد [أن] (1) أشرنا نحن إليه في هذه التفاصيل الممنوعة فهو مما
بيَّنّا. ولكن لا يحسن إطلاق الجواب في مواضع يجب فيها التفصيل.
والجواب عن السؤال السادس أن يقال:
إذا قبض المشتري الطعام على تصديق البائع في كيله، ثم زعم أنه وجده ناقصًا،
فإن شهدت بينة تصديقه (2) رجع بالقبض مكيلة، إن كان المقبوض طعامًا في
الذمة أو طعامًا معينًا من صبرة قد بقي بعضها. وإن كان طعامًا قبض جميعه،
فإنه يرجع بمقدار النقص ثمنًا. وإن لم تشهد بينة بصدقه فإن القول قول
البائع. ومذهب الشافعي أن القابض إذا صدق غريمه ثم ادعى نقصًا أن القول قول
القابض، لأجل أن الطعام في ذمة البائع، وحق عليه يجب أن يوفيه. ونحن على
شك: هل صدق في التوفية أو كذب، فلا يبرأ من حق وجب عليه بالشك.
ونحن نقول: إذا صدّق البائعَ في كيله فقد أقر بخلو ذمة البائع من حقه فليس
له تعميرها بعد إقراره بخلوها من حقه. لكن رأيت أبا حامد الاسفراييني ذكر
أنه إذا كانت لزيد على عمرو عشرة فوزنها له، فلما انصرف بها زيد زعم أنه
وجدها تسعة، فحكى عن مالك أن القول قول القابض. وعن أبي حنيفة أن القول قول
البائع. وحكى عن مذهبهم قولين، وقال: إن الصحيح منهما أن القول قول الدافع.
قال: وبه أُفْتِي.
وهذا الذي ذكره عن مالك بعيد من أصوله. وما حكاه (عنه (3) أحد) من أهل
المذهب. ويعتل لأحد القولين عندهم في تصديق القابض بما قدمناه من
__________
(1) ساقطة من م. ولعلّه أولى.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بتصديقه.
(3) في الأصل وفي. م: عنه أدّته. وصوّبناه: عنه أحد.
(2/32)
كون ذمة الدافع عامرة فلا يصدّق في خلوها
إلا ببيان. ولم يختلف القول عندهم في العيب فيما قبض أنه لا يصدق، وفي كونه
وجد الدراهم زيوفا؛ لأن هذا دعوى عيب في المقبوض والظن (1) السلامة منه.
وذكر أيضًا أنهم يمنعون بيع الطعام المقبوض على التصديق، واعتل بما عللنا
به مذهب مالك رضي الله عنه من كون المعلق لم ينقطع، فصار القبض لأجل هذا
قبضًا ليس بتمام.
والجواب عن السؤال السابع أن يقال:
ذكر أصبغ: أن من اشترى طعاما ذكر له البائع كيله أن هذا لا يدفع عن البائع
ما وجب عليه من كيله للمشتري، وأن العقد على ما ذكر من هذا ليس بتصديق من
المشتري للبائع. لكن لو صدق المشتري البائع والتزم أخذه على التصديق
للبائع، فإنه قد سقط حقه في وجوب الكيل على البائع. ولو حضر المشتري قيل
هذا الطعام على البائع منه، لكان من حقه أن يطالب البائع بأن يكيله عليه
لأجل حقه أنه يضمنه له حتى يكتال، ولأنه قد يكون البائع سامح من
المُشْتَرِي منه مسامحة لا يرضى بها هذا المشتري الذي حضر الكيل، فإذا صدق
البائع والتزم أخذه على التصديق، لم يُمَكَّنْ من الرجوع عن ذلك لما يتعلق
للبائع من فائدة في هذا التصديق وهو سقوط الضمان عنه، ومنع المشتري أن
يشاحّه في الكيل ويطلبه بالنقص.
قال القاضي أبو محمَّد رحمه الله.
وإذا اختلف المتبايعان فلا يخلو اختلافهما أن يكون إلى (2) ما يؤدي إلى
فساد في العقد أو إلى نَفْي لزومه أو إلى سقوط بعض حقوقه. فإن كان
__________
(1) والظّاهر في م.
(2) فيما في الغاني: فيما.
(2/33)
اختلافهما (مما) (1) يؤدي إلى فساد العقد
مثل أن يقول أحدهما (2) بعت لك هذه السلعة ولم ترها ولم أصفها لك أو بثمن
إلى أجل مجهول (3) وما أشبه ذلك، ويدعي الآخر أنه قد رآها ووصفت له وأن
الأجل في الثمن معلوم، فالقول قول مدعي الصحة منهما مع يمينه. وإن كان
اختلافهما فيما ينفي اللزوم مثل أن يدعي أحدهما أنه شرط الخيار لنفسه وينكر
إلآخر ذلك، فالقول قوْل من ينكر، وعلى مدعي اشتراطه البينة. وإن كان ذلك في
حق من حقوق العقد فإن كان ذلك في عين الثمن وجنسه تحالفا وتفاسخا. وإن كان
في مقداره فالأظهر من المذهب أنه إن كان قبل القبض تحالفا وتفاسخا. وإن كان
بعده فالقول قول المشتري مع يمينه (4). وإن كان الاختلاف في قبض الثمن
رُجِع إلى العرف في موضعهما وحلف من يشهد له العرف منهما. وإن لم يكن عرف
فالقول قول البائع مع يمينه.
قال الشيخ رحمه الله: يتعلق بهذا الفصل سبعة أسئلة منها أن يقال (5):
1) الاختلاف في الأعواض يكون في الماهية والكمية والكيفية والزمان والمكان
والايصال والأحكام،
2) فالماهية اختلاف المتبايعين في جنسين، مثل أن يقول البائع: بعتك بمائة
دينار مائة قفيز تمرًا، ويقول المشتري: بل اشتريت منك بها مائة قفيز قمحًا.
3) والاختلاف في الكمية أن يقول البائع: بعتك ثوبي هذا بعشرة دراهم، ويقول
المشتري: بل بعته منّي بثمانية دراهم.
__________
(1) في الغاني: فيما.
(2) ساقطة في الغاني.
(3) أو في الغاني: أو.
(4) مثبتة في الغاني ساقطة من الأصل ومن م.
(5) لم يذكر النص الأسئلة على عادته. وكذلك دخل في الجواب عن السؤال الأول.
دون ذكر ما اعتاده من قوله: والجواب عن السؤال الأول.
(2/34)
4) والاختلاف في الكيفية أن يقول اليائع:
أسلمت إليَّ عشرة دنانير في عشرة أقفزة محمولة، ويقول المشتري: بل بعته
منّي إلى شهرين، أو يقول البائع: بعته منك بثمن حالٍّ، ويقول المشتري: بل
إلى شهر.
5) والاختلاف في المكان، مثل أن يقول البائع: أسلمت إليّ في عشرة أقفزة
قمحًا نأخذها بمكة، ويقول المشتري: بل بالمدينة.
6) والاختلاف في الأيصال أن يقول المشتري: دفعت الثمن، ويقول البائع: لَم
أقبضه، أو يقول البائع: سلمت لك السلعة، ويقول المشتري: لم تسلمها إليّ.
7) والاختلاف في الأحكام أن يقول المشتري: عقدنا حلال ويقول البائع: بل
حرام.
فكان مقتضى هذا الترتيب أن نبدأ بالكلام على اختلافهما في الماهية،
وهي قوله: ما الشيء، قبل الكلام في الكمية وهي قولنا (...) (1) كيف الشيء؟
وللسؤال عن الماهية قبل الكمية والكيفيّة، وهو قد بدأ فيها بالكلام في
الاختلاف في الكمية.
واعلم أنّ اختلاف المتبايعين (2) لا يخلو أن يختلفا في ذلك والسلعة بيد
البائع (3) أو قبضها وانصرف بهالأولم تتغير في نفسها ولا سوقها أو تغيرت
(4) أو سوقها. فهذه الأربعة أقسام في كل قسم في المذهب عندنا قولان، هل يجب
(5) أو يصدق فيه المشتري سوى اختلافهما (6) والسلعة في يد البائع فإنه لا
خلاف عندنا وعند فقهاء الأمصار أن الحكم التحالف والتفاسخ. وذهب أبو ثور
إلى أن القول
__________
(1) بياض في الأصل وفي م. ولعلّ تقديره: ما هو الشّيء.
(2) بياض في الأصل وفي م.
(3) بياض في الأصل وفي م. ولعل الساقط: أو بيد المشتري.
(4) بياض بمقدار كلمة في النسختينء ولعلّ الساقط: في نفسها.
(5) بياض في النسختين، ولعله: أن يصدق فيه البائع.
(6) هكذا في النسختين.
(2/35)
قول المشتري في مقدار الثمن. وهذا نوع يضبط
به الخلاف في هذه المسألة.
وإن شئت أن تقول: في المذهب خمسة أقوالذي هذه المسألة:
أحدها: أنهما يتحالفان ويتفاسخان فا لم يقبضها المشتري. وإذا قبضها صُدق في
الثمن.
والقول الثاني: أنهما يتحالفان ويتفاسخان إلا أن يَبِينَ بها المشتري
فيصدق. وهذه الرواية مذكررة عن مالك في كتاب المكاتب من المدونة. ويشير بعض
الأشياخ إلى أن قوله في كتاب الرواحل والدواب حكايته عن قول غير ابن القاسم
إذا قال: بعت منك بهذه المائة التي قبضتها مائة إردبّ إلى سنة. وقال
المشتري: أكثر من ذلك. أن قوله: بهذه المائة، يشير إلى أنهما لم يفترقا حتى
اختلفا؛ ولم يجعلهما يتحالفان ويتفاسخان. وهذا التعليل إن كان هو الذي أراد
بما أشار إليه في كلامه فإن فيه احتمالًا وقد يكون افترقا ثم عاد القابض
فأشار إلى المائة وخالف في المشتري بها.
والقول الثالث: أنهما يتحالفان ويتفاسخان وإن قبضها المشتري وبأن بهما، إلا
أن يفوت بتغير سوق أو بدن فيكون القول قول المشتري. هذه رواية ابن القاسم
عن مالك، وبها أخذ ابن القاسم، وهي مذهب أبي حنيفة وتبعه تلميذه القاضي أبو
يوسف.
والقول الرابع: أنهما يتحالفان ويتفاسخان وإن فاتت. روى هذا أشهب عن مالك،
وبه أخذ أشهب، وهو مذهب الشافعي، وتابعه محمَّد بن الحسن تلميذ أبي حنيفة.
وهذا المذهب الذي كان يفتي به شيخنا رحمه الله، وأنا أمَّتي به أيضًا.
والقول الخامس: أنهما يتحالفان ويتفاسخان إذا كانت السلعة قائمة وادعيا
جميعًا ما يشبه. فأما إن ادعى أحدهما ما لا يشبه وادعى الآخر ما يشبه، فإن
الذي ادعى ما يشبه هو المصدق فصار هذا قولًا خامسًا إذا ادعى أحدهما ما
يشبه والآخر ما لا يشبه. فأما إذا ادعيا جميعًا ما يشبه فليس في المذهب سوى
(2/36)
الأربعة أقوال التي ذكرنا.
وسبب هذا الخلاف تعارض آثار وطرق أعيان. فأمّا الآثار فإنه عليه السلام
قال: "البينة على المدعي واليمين على من أنكر" (1) وهذا وإن لم يرد فيما
نحن فيه من هذه المسألة فإن عمومه يحسن أن ينطبق عليها، فيقول مالك في أحد
أقواله، والشافعي الموافق له على هذا القول: كل واحد من هذين المتبايعين
مدع ومدعى عليه، فالمشتري يدعي البائع عليه زيادة في الثمن، فإذا قال
البائع: بعتك هذه السلعة بمائة، وقال. المشتري: بل بخمسين فلا شك أن
المشتري مدعى عليه بخمسين وهو ينكرها، فعلى البائع البينة لكونه هو المدعي
لها، وعلى المشتري اليمين في إنكارها. وكذلك حال البائع فإنه مدعى عليه أنه
باع سلعة بخمسين، ونقل ملكه عنها بهذا المقدار، وهو يقول: لم أبعها إلا.
بمائة، وإنما نصفها هو المبيع بخمسين، والملك قد ثبت في الأصل له، فهو مدعى
عليه فيه فيكون القول قوله فيما أنكر من ذلك، وعلى المشتري المدعي (2) أن
كل واحد منهما مدع ومدعى عليه. وقد ورد هذا الحديث (3) هذا تحليفهما جميعًا
على ما أنكراه وتبقى كل منكر مصدقًا فيما أنكره (4) يقتضي الفسخ. وهذا
التصوير واضح معقول المعنى وواضح دخوله (5) عند من قال بالعموم. وإذا تقرر
هذا التصوير واشتمال الحديث عليه، فهذا في حال فوت السلعة على حسب ما تصور
في قيامها من غير فرق بينهما (6) التحالف والتفاسخ وإن فاتت السلعة. ويعضد
هذا الاستدلال الاتفاق على أن رجلًا إذا قال لآخر: بعت منك سلعتك بكذا
وكذا،
__________
(1) فتح القدير: 3/ 225 حديث: 3226.
(2) بياض في النسختين مقدار ست كلمات.
(3) بياض في النسختين مقدار ست كلمات.
(4) بياض في النسختين مقدار ست كلمات.
(5) بياض في النسختين مقدار ست كلمات.
(6) بياض في النسختين مقدار ست كلمات.
(2/37)
وقال صاحب السلعة: لم أبعها منك أصلًا، فإن
القول قول صاحبها في إنكار بيعها جملة، فكذلك إنكاره في بيعها، إلا على
الصفة التي ذكرها. وأيضًا فإنهما لو اختلفا في جنسين لتحالفا لأن البائع
إذا قال: بعت منك تمرًا، وقال المشتري: ما اشتريت منك إلا قمحًا، وكل واحد
منهما ينكر صاحبه فيحلف على ما أنكر، فكذلك اختلافهما في الثمن لأن البيع
بمائة غير البع بخمسين، فصار ذلك كعقدين مفترقين اختلفا فيهما، فلابد من
تحالفهما، فيحلف كل واحد منهما على ما أنكر من العقد الذي ادعى عليه به.
على أن هذا قد يجاب عنه بأن يقال: هما متفقان على أن لم يكن بينهما سوى عقد
واحد، فلم يتضمن اختلافهما (سواه عزى) (1) البائع على المشتري عمارة ذمته
بدراهم لم يقر بهما فيجب تصديق المشتري المدعى عليه وهذا المعنى الذي قاد
أبا ثور إلى أن جعل القول قول المشتري بمجرد اتفاقهما على أن العقد قد وقع،
ويزعم أنهما متفقان على أن الملك انتقل للمشتري وما اتفقا عليه لا يقدر فيه
تحالف بينهما.
وإذا علم من ناحية العقل، عند تتبع أصول الشرع، أن اليمين إنما يكون فيما
اختلفا فيه لا فيما اتفقا عليه، وعُلم ها هنا أنهما متفقان على انتقال
الملك لم يتصور بينهما الاختلاف إلا في تعمير ذمة المشتري بدراهم، وهو
ينكرها، فيصدق في إنكاره. وكذلك أيضًا يجاب عن استبعاد حال الفسخ مع
القيام، وإسقاطه مع الفوت؛ لأن المطلع على عيب فيما اشتراه له الفسخ مع
قيام السلعة، ولا فسخ له مع فوتها، وإنما له الأرش. وينفصل عن هذا بأن
العيب الغرض منه استدراك المشتري ظلامة ظلم بها، فمنع (2) القيام يتجه
استدراكها بالفسخ، ورد المبيع، ومع الفوت يتجه استدراكها بأخذ قيمة العيب،
إذ لا يتصور استدراك ظلامة في رد قيمة السالم من هذه السلعة، بل ربما كان
في هذا ضرر عليه، والتحالف في اختلاف المتبايعين في اليمين ليس طريقه طريق
__________
(1) هكذا في النسختين. ولعل الصواب: سوى ما ادّعى.
(2) هكدا في النسختين، ولعل الصواب: فَمَعَ.
(2/38)
استدراك الظلامة، ولا يعرف مَن الظالم
منهما فلا ترتفع الظلامة إلا بأن تراث (1) العقد ويفسخاه.
هذه طريقة من رأى الفسخ وإن فاتت السلعة قد أبّنا وجه الحجة فيه من جهة
الأثر وطرق العِبر، وأدرجنا في ذلك قول أبي ثور وهو طرف نقيض مع هذا
المذهب؛ وما سوى هذين من أهل المذاهب المذكورة يتعلقون أيضًا بأثر آخر وهو
ما روى ابن مسعود رضي الله عنه أنه باع من الأشعث شيئًا فاختلفا في ثمنه
فحكم المشتري ابن مسعود في المسألة، فقال ابن مسعود: سمعت النبي - صلى الله
عليه وسلم - يقول: "إذا اختلف المتبايعان فالقول قول البائع أو يترادان"
(2). وفي بعض الروايات في هذا الخبر تقييد بقوله: والسلعة قائمة. ودليل هذا
الخطاب يقتضي أنهما لا يتحالفان مع فوتها، مع القول بإثبات دليل الخطاب،
ويكون هذا المستفاد من دليل الخطاب مخصصًا لعموم قوله "البينة على المدعي
واليمين على من أنكر" (3). وهذا ينظر فيه من جهة أصول الفقه، من القول
بدليل الخطاب. وفي تخصيص العموم بدليل الخطاب اضطراب. وهذا مبسوط في كتب
أصول الفقه. على أن الحديث قدح في سنده، وذكر أنه مرسل. لكن قد روي أنهما
إذا كانت السلعة قائمة؛ وإن فاتت فالقول قول المشتري. وروي إذًا اختلف
المتبايعان أستُحلف البائع، فلو ثبت قوله: فإن استهلكت فالقول قول المشتري،
لم يكن هذا تخصيصًا بدليل الخطاب. وروي أنه عليه السلام قال: "إذا اختلف
المتبايعان فالقول قول البائع والمشتري بالخيار" (3) ولم يذكر في هذه
الرواية أنهما يترادان. وأما الرواية التي فيها "ويترادان" فإنها أيضًا
تؤكد الرواية المشترط فيها قيام السلعة؛ لأن الترادّ تفاعل إنما يكون بين
إثنين، وهذا لا يتصور إلا مع كون السلعة قائمة يتأتى ردها ويرد الآخر
الثمن، فيكون ترادًا.
وأمّا إذا فاتت فإنما يرد المشتري القيمة، وليست القيمة هي عين السلعة،
فينطلق
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بأن يترادَّا.
(2) البيهقي ح 5 ص 233/ 333.
(3) نصب الرية ح 4 ص 95 وإرواء الغليل ج 6 ص257
(2/39)
عليها حقيقة قوله "ويترادان". فهذا طريقة
من منع من التحالف مع الفوت. لكن ما قيل عندنا: إن قبض المشتري يوجب تصديقه
وإن لم ينصرف بالسلعة، إنما صار إلى ذلك من قال به، لأجل أنه ترجحت عنده
جهة المشتري بالقبض؛ لأنها لو هلكت في يديه بعد قبضها لضمنها، وضمانه إياها
يوجب قوة جهته في هذا الاختلاف. كما قيل: إن من باع سلعة من واحد ثم من
آخر، أن الآخر أحق بها إذا قبضهلالأجل ضمانه لها أيضًا، فإن تسليمها
للمشتري كالائتمان له على الثمن، لكن القول الآخر أنه إنما يصدق إذا بأن
بها، قدر حقيقة الائتمان في الثمن إنما يتصور إذا ترك البائعُ المشتريَ
ينصرف بها، ثم يطلبه بالثمن، ولعل اشتراط الانصراف بها التفاتٌ لقول من
قال: المتبايعان بالخيار ما لم يفترقا.
فكأن البيع لم ينعقد إلا بالافتراق.
وأما من ذهب إلى تصديق من ادعى ما يشبه مع قيام السلعة، وهو مذهب مطرف وابن
الماجشون واختاره أصبغ، وحكى ابن المواز عن أشهب في اختلافهما في المقدار
والجنس: أنه إن عرف صدق أحدهما وكذب الآخر كان القول قول من عرف صدقه. وهذا
موافقة لما حكيناه عن هؤلاء، وهو الذي يسبق إلى النفس عند اعتبار أصخول
المذهب؛ لأن المذهب مبني على تصديق من شهد بصدقه العرف والعاهة (1)، كما
قالوا في اختلاف الزوجين في متاع البيت: إن ما يعرف بالرجال دون النساء
يكون للرجل، وما يعرف للنساء دون الرجال يكون للمرأة. واستدل على ملك
الحائط الفاصل بين دارين بما تدل عليه العوائد من شواهد القُمُط وغيره (2)؛
فكذلك إذا اختلفا في الثمن يجب أن يصدق من ادعى الثمن الذي الغالبُ التبايع
به، دون من ادعى ما لا يتبايع به غالبًا في تلك السلعة. ومن خالف هذا
المذهب من أصحابنا يرى أن العوائد إنما تجعل أدلة على التصديق عند التنازع
إذا لم يترجح أحد المتنازعين على صاحبه بدلالة ينفرد بها؛ والبائع ها هنا
قد ترجح جانبه، فإن مِلْك السلعة سابق لهْ وهو يُدَّعَى عليه أنه انتقل عنه
بثمن
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: والعادة.
(2) هكذا في النسختين، والأوْلى: وغيرها.
(2/40)
ينكر البيعَ به، فصار دلالة سبق ملكه
وحيازته أَرجَحَ من دلالة العرف، لا سيما إن ثبت الحديث بإيجاب التحالف عند
التنازع، على حسب ما قدمناه عند ذكرنا الأحاديث. فإنه إن ثبت لم يعدَل عنه،
ولم يردّ شواهد أصول قد أُرسِيَ وجة القدح في التعلق بها. وبعض أشياخنا
يشير إلى أن هذا الاختلاف في تصديق من ادعى ما يشبه إنما يتصور إذا كانت
دعوى من ادعى ما يشبه مما يمكن، لكن الغالِبَ خلافها. وأما إذا كانتْ من
الوضوح في الاستبعاد تكاد تلحق بالمحال، فإنه لا يختلف ها هنا أن من ادعى
ما لا يمكن، لا يصدق، بل يصدق صاحبه، كمن زعم أنه اشترى سلعة قيمتها ألف
دينار بدينار، وهو والبائع عارفان بالقيمة، فإن هذا يكاد يلحق بما لا يمكن،
بل يلحق بمن أقر بالبيع والشراء وكتم الثمن، فإنه يصدق من ادعى معرفة
الثمن، ويختلف في استحلافه. وقد أشار بعض الشيوخ إلى أن الذي تقرر من
الروايات عن مالَك ثلاث روايات:
1) تصديق المشتري إذا قبض السلعة وبأن بها. وأن هذه رواية ابن وهب.
2) وتصديقه إذا فاتت بحوالة سوق أو تغيُّر بدنٍ ..
3) والتحالف وإن فاتت.
وهذه الثلاث روايات رواها اين القاسم بن مالك. وغيرُه يشير إلى أنها أربع
روايات، وأن ابن وهب روى عنه: أن المشتري إذا قبضها صدّق.
فهذا ضبط الخلاف والكشف عن الطرق التي من أجلها وقع الخلاف. وإذا وضح لك
الحكم في الاختلاف في مقدار الثمن المقصود منه النزاع فيما يجب على المشتري
فلنذكر الاختلاف في الثَّمن المقصود منه ما يجب على البائع رده. وذلك يكون
بثلاثة وجوه:
أحدها أن يكون بفساد عقدهما ورد الثمن المقبوض، فيقول البائع: إنما كان
الثمن ثمانية دنانير وهي التي قبضتُ. ويقول المشتري: بل عشرة، وهي التي
دفعتُ إليك. فها هنا يصدق البائع لأن العقد منحلّ، فصار محصول هذا التنازع
أن المشتري يدعي على البائع دينًا يستحق أخذه منه، والبائع ينكر ذلك،
والمنكر هو المصدق مع يمينه.
(2/41)
والثاني: أن يختلفا في الثمن فيتحالفان
ويتفاسخان، ويدعي المشتري على البائع أنه دفع إليه أكثر مما أقر به البائع،
فيصدق البائع ها هنا أيضًا، لكون المشتري يدعي دينًا عليه وهو ينكره.
والوجه الثالث: أن يتقايلا في بيع صحيح، ويختلفا في الثمن، فها هنا قال في
المدونة: إذا تناقضا السلم واختلفا في رأس المال، فالقول قول البائع.
وهذه مسألة تنازع الأشياخ في تأويلها، فقال بعضهم: محمل هذا الذي ذكر في
المدونة على أنهما تناقضا البيع لكونه منقوضا في الشرع لأجل فساده، فيكون
القول قول البائع، لما قدمناه في القسم الأول، ولا يكون في المسألة تعقّب؛
لأن العقد منتقض وردّ ما نقض واجب، والقول قول غارمه.
وأشار بعضهم إلى أن قوله: تناقضا السلم؛ ظاهره أنها إقالة وقعت باختيارهما؛
لأن قوله: تفاعلا، يقتضي أن كل واحد مثهما دخل في العقد كما دخل فيه الآخر
باختياره، كما يقال: تضاربا وتقاتلا. لكن حمل المسألة على أنها إقالة يكون
قوله: تناقضا السلم، يشير إلى كونها إقالة تتعقب، لقول سحنون: إذا أسلم
إليه في طعام فتقايلا واختلفا في رأس المال أن الإقالة منفسخة. وقال بعض
الأشياخ إنما ذكر سحنون كونها منفسخة لأجل النزاع في الثمن الذي وقع به
العقد (1) بحكم التقايل بل رده يفتقر فيه إلى خصام وترافع إلى الأحكام (2)،
ومن شرط الإقالة في السلم أن يتناجزا في رأس المال، ولا يجوز تأخيره ولا
تأجيله لئلا يقع في فسخ دين في دين، وهذا التعليل الذي عللوا به ما قاله
سحنون إنما يطرد حيث لا يحضر الخصمين الحكام؛ فلو صورت المسألة في مختلفين
في رأس المال وقد تقايلا، والحاكم حاضر يقضي بينهما في الحال من غير تأخير،
لبطل هذا التعليل، ومن حق التعليل أن يكون متصورًا في سائر فروع المسألة
وأحوالها. فإذا وضح ارتفاع هذه العلة حيث يحضر الحكام لا سيما أن التأخير
ها هنا بغلبة أحدهما وجحوده الحق، فيصير الآخر مغلوبًا
__________
(1) فراغ بالنسختين مقدار كلمة.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: الحكام.
(2/42)
على ترك التناجز. وسنذكر الغلبة على
المناجزة في الصرف في موضعه إن شاء الله.
تطلبنا النظر في وجه آخر قد تُعقَّب به المسألة. وذلك أن الإقالة في الطعام
على أقل من رأس المال لا تجوز لكونها بيع الطعام قبل قبضه، والشرع إنما رخص
في الإقالة لكون الثمن إذا رُدّ على ما هو عليه صار ذلك حَلاّ للعقد الأول،
فإذا رد أقل من ذلك أو أكثر، صار ذلك ابتداء بيع الطعام قبل قبضه، فلم يجز
ذلك. فيقتضي هذا كون الإقالة فاسدة على مقتضى دعوى المشتري؛ لأنه يقول:
أسلمت عشرة دنانير في طعام، ثم أقلْتُ منه، ومن شرط إقالتي وجوازها كوني لا
آخذ أقل من رأس المال، (فإذن قضيتم عليّ بإمضاء الفساد وإِتمام ما لا يجوز
على مقتضى قولي) (1).
وهذا التعقب دعا بعض الأشياخ إلى أن قال: يمكن أن يكون ما وقع في المدونة
المراد به أن السلم وقع في عروض، والعروض يجوز بيعها قبل قبضها، والإقالة
على أقل من رأس المال. فلهذا لم يشر في المدونة إلى تعقب المسألة من جهة
دعوى المشتري، ويتضمن دعواه كون فعلهما فاسدًا. ويشير أيضًا إلى أن الإقالة
وقعت على الصحة والجواز، وإنما تعاقدا على لأرأس المال لا أكثر ولا أقل.
فبعد فردت (2) الإقالة الصحيحة جحد البائع بعض الثمن فلا يؤثر ذلك في صحة
الإقالة. وهذا قد يجاب عنه بأن الإقالة ها هنا يعتبر مع صحة عقدها صحة
التقابض فيهلالما قدمناه من منع تأخير رد رأس المال وإن لم يشترط في أصل
الإقالة تأخيره. وإذا كان القبض فيها معتبرًا والعقد موقوفًا على صحته
اقتضى ذلك تعقب هذه الإقالة من جهة دعوى المشتري، لكونها تتضمن أن كونه
فاسدًا لا يجوز العقد عليه، لكن لا يجب تصديقه في الفساد مع دعوى البائع
__________
(1) في الكلام اضطراب، ولعل الصواب: فإذا قضيتم عليّ على مقتضى قولي فقد
قضيتم بإمضاء الفساد وإتمام ما لا يجوز.
(2) هكذا في النسختين.
(2/43)
صحة الإقالة، إذ المختلفان في صحة العقد
وفساده لا يصدق مدعي الحرام ويكذب مدعي الحلال، على ما سيرد بيانه. وإذا لم
يجب تصديق المشتري على البائع وجب أخذ كل واحد منهما بمقتضى قوله، فيترك
البائع وما هو عليه لكونه لم يقرّ على نفسه بفساد. ويقال للمشتري: أنت
أقررت على نفسك بفساد الإقالة، وإذا فسدت وجب ردّكما إلى انعقاد السلم على
ما كان عليه، فيوقف المقبوض من الثمن حتى يحل الأجل فيشتري له مثل مالَه في
ذمة البائع من السلم، فإن وفَّى فلا مطالبة له ولا عليه، وإن قصر ما قبض
على ثمن ما لَه في الذمة من السلم، كان ذلك جائحة عليه لكونه لا يصدق على
البائع لما قدمناه.
وإن فضلت فضلة مما قبض، بعد أن اشتريت له المكيلة التي له في الذمة، كانت
تلك الفضلة على قوله للبائع توقف له حتى يرجع إلى تصديق المشتري، فيأخذها
أو يتصدق بها.
وقد أشار بعض الشيوخ إلى ما قدمناه من حمل مسألة المدونة على أن الإقالة
كانت صحيحة لقوله: تناقضا السلم؛ وأنه قد يمكن أن يكون ذلك في العروض فلا
يكون في المسألة تعقب، أو في الطعام فيعتبر يكون الإقالة انعقدت على الصحة،
ووقع الجحود بعد ذلك. لكنه بعد هذا أشار إلى أنهما في الإقالة الصحيحة
يتحالفان ويتفاسخان. وأشار بعض أشياخي إلى أن التحالف والتفاسخ هو البخاري
على أصل ابن القاسم، على حسب ما يراه في اختلاف المتبايعين في الثمن، وأن
القول قول البائع، كما ذكر في المدونة على رواية من يرى أن القبض فوت؛ لأن
البائع قابض لرأس المال ولما عليه من السلم.
وهذا عندي يستند إلى أن الإقالة كابتداء بيع فيجري فيهما من الخلاف ما
قدمناه، أو الإقالة حلّ بيع فيصدَّق الغارم، وهذا مما ينظر فيه.
(2/44)
وإذا تقررت أحكام الاختلاف في الثمن فإن
الاختلاف في المثمون جار عليه، إذ لا فرق ها هنا بين ثمن ومثمون، بل كل
واحد منهما ثمن لصاحبه ومثمونًا له، لكن العرف بتسمية الدنانير والدراهم
ثمنًا، والعروض والمكيلات والموزونات مثمونات. ومع هذه فإن البيع في هذه
المثمونات ربما كان نقدأوربما كان نساء.
فأما إذا كان نقدًا فمثال إجرائه على ما قدمناه من الاختلاف في التنازع في
الثمن أنه لو باع ثيابًا معينة من رجل وهي عشرة، فقال البائع: بعتك منها
تسعة بمائة دينار، وهذا العاشر باق على ملكي. وقال المشتري: بل اشتريت
العشرة كلها بالمائة دينار. فإن الثوب العاشر، الذي لم يقر البائع ببيعه
ولا انتقال ملكه عنه، هو مصدق فيه، والمشتري مدع عليه أنه باعه منه. ومن
ادعى على رجل أنه باع منه ثوبه فإن القول قول صاحب الثوب: إني لم أبعه،
باتفاقٍ. وهذا الحكم لا يتغير في هذا العاشر بكونه مضافُ اإلى التسعة أثواب
أخر. وأما التسعة أثواب فإنها إذا كانت قائمة في يد البائع، لم يقبضها
المشتري، فإنهما يتحالفان ويتفاسخان، لكونهما مختلفين في ثمنها، فالمشتري
يقول: إنا نحب أن ندفع في السلعة تسعين دينارًا؛ لأني اشتريت عشرة بمائة،
فكل ثوب ثمنه عشرة.
والبائع يقول: بل ثمن السلعة مائة دينار. فهما مختلفان في ثمن السلعة
فيتحالفان ويتفاسخان. فإن قبض المشتري الثياب ولم يبِنْ بها صدّق، على
رواية ابن وهب، إن بأن بها صدق على الرواية التي وقعت في كتاب المكاتَب.
وإن حال سوقها أو تغيرت في نفسها، على حسب ما بيناه في الرواية المتقدمة.
وأما الثوب العاشر فيردّ إلى بائعه، وإن تغير أو حال سوقه، وينظر في أحكام
تغييره، ومَن غيّره، على حسب ما يبين في كتاب الاستحقاق. وهذا الذي مثلنا
به الاختلاف في المثمون، وصورناه في اختلافهما في عدد ثياب بيعت جار في
سائر العروض والمكيلات والموزونات على حسب ما نص عليه في الموازية وغيرها.
لكن ذكر ابن حبيب عن مطرف عن مالك أنه قال، في رجلين تبايعا طعامًا، فقال
البائع: بعتك ثلاثة أرادب بدينارة وقال المشتري: بل أربعة بدينار، إن
البائع لا يؤخذ منه من الطعام بأكثر مما أقرّ به، فيؤدي في الثلاثة
(2/45)
أرادب ثلاثة أرباع دينار. وهذا اختلاف في
المثمون لم يوجب فيه التحالف والتفاسخ مع القيام، وعدم القبض، على ظاهر هذه
الرواية. وهذا مذهب من ذكرنا أن فقهاء الأمصار على التحالف والتفاسخ إذا لم
تفت السلعة ولا قبضت، إلا أبا ثور فإنه يذهب إلى أن القول قول المشتري وإن
كانت السلعة في يد البائع. ودعا بعضَ المتأخرين شذوذُ هذه الرواية إلى أن
رأى أن العذر عنها كون الاختلاف بين المتبايعين وقع في مكيل، والمكيل
والموزون عنده بخلاف العروض؛ لأنه مما يعرف بعينه. واستند في هذا التأويل
إلى قوله في المدونة في اختلاف المتبايعين في السلم، هل وقع السلم في
ثمانية أرادب أو في عشرة: إن القول قول البائع إذا حل الأجل؛ مع كون هذا
الطعام المسلم فيه لم يقبض، لكنه لما كان مما يعرف بعينه لم يرل القبض.
وكذلك عقده لو كان الاختلاف في عروض في الذمة لجرت مجرى المكيل والموزون.
ولما كان ما في الذمة لا يتعين وهذا الذي استند إليه غير صحيح لأنه ذكر في
المدونة في هذه المسألة أن اختلافهما إذا وقع بقرب العقد أو بعد أيام.
يسيرة فإنهما يتحالفان ويتفاسخان.
وطرْد ما اعتذر به يقتضي أن يكون القول قول البائع، وإن اختلفا بقرب العقد
أو بعده، إذ المسلّم فيه لا يختلف كونه غير معين بقرب العقد أو بعده. وهذا
واضح. على أن هذا الرجل أشار إلى أن البائع إنما صدق إذا حل الأجل لكون
القبض مستحقًا إذا حل الأجل. وهكذا المعينات لما كان القبض مستحقًا فيها في
بياعات النقود جعل استحقاق القبض كالقبض. وهذا يشير إلى اعتذار آخر عما
حكيناه من رواية ابن حبيب لكن هذا أيضًا ينتقض بقوله في الرواية: إن الأجل
إذا طال أو حل فإن القول قول البائع، وإذا طال ولم يحل الأجل فالقبض غير
مستحق. وسننبه الآن على وجه التفرقة بين القرب والبعد.
فهذا القول في الاختلاف في المثمونات إذا بيعت نقدًا. وأما إذا بيعت نساء
فإنها أيضًا تجرى على ما قدمناه من الاختلاف في اختلاف المتبايعين في مقدار
الثمن. فرواية ابن حبيب أن قبض السلعة فوت يوجب تصديق المشتري في مقدار
الثمن، يقتضي أيضًا تصديقال في عليه السلم في مقدار ما عليه إذا
(2/46)
قبض رأس مال السلم وإن لم يَبِنْ به. وعلى
الرواية الأخرى إنما يصدق إذا قبضه وبأن به. وعلى رواية ابن القاسم لا يصدق
وإن بأن به حتى يقع الفوت.
فرأى ها هنا أن المسلم إليه إذا قبض رأس مال السلم، وطالت الأيام، فإنه قد
حصل لديه انتفاع من تَجْرٍ به، أو غير ذلك من وجوه الانتفاع، فصار انتفاعه
به كالفوت في السلعة المقبوضة؛ لأن السوق إذا ح الذي السلعة المعينة صدق
المشتري، لما يقع من الضرر بالفسخ عند التحالف. وكذلك ها هنا إذا أوجبنا
التحالف والتفاسخ لَحِق المسلم ضرر لكون مالِه انتفع به زمنًا طويلًا، ثم
رُدَّ عليه من غير عوض، والمسلم إنما يعجل النقد ليحصل للمسلم إليه
الانتفاع به، ولهذا يبيعه ما عليه من الطعام نسيئة برخص. وقد قدمنا أن هذا
المعنى هو العلة في جواز السلم، فوجب اعتبار طول الانتفاع برأس المال (وأن
نقد وذلك فوتًا) (1). وكان بعض أشياخنا يرى هذا التعليل صحيحًالأولكنه يقل
(2) الأمر إلى المسلم، فإن شاء أسقط حقه في هذا الضرر، وطلب أن يحكم بينهما
بالتحالف والتفاسخ، ويرد إليه رأس ماله بعوإلانتفاع به. وإن شاء لا يسقط
حقه في الضرر فيه، وطلب أحكام الفوت، فيصدق البائع ويدفع من العوض ما أقرّ
به.
وهذا ينظر إلى أحد القولين فيمن اشترى سلعة فاطلع فيها على عيب، وقد حدث
عنده عيب آخر، أنه بالخيار من أن يأخذ قيمة العيب لأجل ما يناله من ضرر
بغرامة قيمة ما حدث عنده، أو يرد ويرد ما نقص. فإذا قال البائع: أنا أرفع
عنك غرامة ما نقص فيزول عنك الضرر الموجب لك أخذ قيمة العيب مني. فإنه لا
يمكن من أخذ قيمة العيب. وفي قول آخر عندنا أنه يمكن. فأنت تراه في أحد
القولين كيف أوجب له خيارًا لأجل الضرر، فإذا ارتفع الضرر زال تخييره.
فهذا فيه ملاحظة لهذا الذي اختاره بعض أشياخنا.
ولو كان رأس مال السلم ثوبًا وتغير سوقه من غير انتفاع لكان ذلك فوتًا يوجب
تصديق البائع فيما عليه من السلم. وهكذا لو حال سوق السلعة في بيع
__________
(1) هكذا في النسختين. والكلام بين القوسين غير واضح. ولعله وأن يعد ذلك
فوتًا.
(2) هكذا في النسختين. ولعل الصواب: ينقل.
(2/47)
النقد، واختلف في الثمن، لكان ذلك فوتًا.
لكن قد يقال ها هنا أيضًا: هلا جعلت الخيار لمن عليه الضرر في فوت السلعة!
فإن حال سوقهم ابن قص كان من حق البائع أن يقول: إنما أتحمل الضرر بنقص
السوق، ولا يلزمني بيع سلعتي بأقل مما أقررت به، فنتحالف ونتفاسخ. وشيخنا
هذا لم يطرد مقاله في هذا الذي اعترضنا به وهذا مما ينظر فيه. وأما على
رواية أشهب الذي يوجب التحالف والتفاسخ وإن فات المبيع، فإن شيخنا هذا كان
يرى أن الأجل إذا حل ووقع الانتفاع برأس المال، فإنهما يُحمَلان على الوسط
من سلم الناس في عقدهما، لئلا يظلم المسلم برد رأس المال عليه بعد التحالف،
على حسب ما قدمناه عنه. وهذا أيضًا مما ينظر فيه على أصل أشهب. وقد قال بعض
الأشياخ: لا معنى للتفرقة التي وقعت في المدونة بين قرب زمن العقد أو بعده.
وذكرنا عن غيره أن الأجل إذا حل استحق القبض، بخلاف كونه لم يحل. وذكرنا
هذه الطريقة الثانية من اعتبار الانتفاع برأس المال وتقدير ذلك فوتا. فعلى
هذه الطريقة قد يحسن ما قاله هذا الشيخ من حملها على أصل أشهب على الوسط من
سلم الناس في عقدهما. وقد قررنا اختلاف الروايات عن مالك وكون ابن القاسم
اختار منها تصديق المشتري مع فوت السلعة في يديه بتغير سوق أو ذات، فيبقى
النظر في هذا الفوت لو وقع، والسلعة في يد البائع، هل يكون هذا الفوت في يد
البائع يوجب تصديق المشتري أم لا؟ هذا مما أخرجه أصحابنا على اختلاف قول
مالك في المحبوسة بالثمن هل ضمانها من البائع أو من المشتري؟ إذ لا غرامة
عليه فيما حدث بها فيكون عليه ضرر في إلزامه القيمة فيبقى الحكم على ما هو
عليه من التحالف والتفاسخ. ولو كان هذا التغيير (1) بعيب حدث لكان للمشتري
الرد به من غير تحالف لكون البائع ضامنًا لهذا العيب الحادث في حال احتباسه
إياها بالثمن.
وإن لم يقم المشتري بهذا العيب ورضي به، وقام بالاختلاف في الثمن، فإنهما
يتحالفان ويتفاسخان. وإن قلنا: إن ضمانها من المشتري، وهي في يد البائع
__________
(1) هكذا، ولعل الصواب: التغيّر.
(2/48)
كالرهن بالثمن، فإن التغيير (6) ها هنا في
سوقها أو ذاتها يوجب تصديق المشتري في الثمن، كما لو فاتت في يده.
لكن يعرض في هذه المسألة حكم آخر، وهو كون المشتري، الذي صار ها هنا
راهنًا، لا يصدق في مبلغ الدين إذا ادعى منه دون قيمة الرهن، والمرتهن لا
يعمر ذمة الراهن بما لم يقر له به، وإنما له حبس الثمن حتى يُفتك منه
بقيمته التي ادعاها وزعم أنها دين له على المشتري والسلعة رهينة بها، ويكون
الرهن شاهدًا على نفسه لا على الذمة، على إحدى الطريقتين؛ فإذا كان المبيع
جارية، وحدث بها في أيام احتباسها بالثمن عور، وهو في التقدير ربع قيمتها،
صار هذا الربع قد فات في يد المشتري، فيصدق في مقدار ثمنه، كما يصدق في ثمن
سلعة فات جميعها في يديه. وقد قررنا على هذه الطريقة التي يحكم فيه (1)
بكونه ضامنًا لما حدث من عيوب أن هذا الحادث في يد البائع يقدر أنه حدث في
يده، وما فات في يديه صدق في ثمنه، ويبقى ما يقدر أنه ثلاثة أرباع هذه
الجارية في القيمة، يقِع فيه التحالف والتفاسخ، فيحلف المشتري لينفي عن
ذمته ما يطلب البائع أن يقضى له به عليه، ويحلف البائع لئلا يؤخذ من يده
الرهن بما لم يقر به مما هو مصدق في كون الرهن ليس برهن فيما هو أقل منه،
على ما سنوضح هذه الإشارات في كتاب الرهن إذا تكلمنا على اختلاف الراهن
والمرتهن إن شاء الله تعالى.
وهذه الطريقة القياسلك ابن عبدوس في هذه المسألة من تصديق المشتري في ثمن
ما فات، والتحالف فيما لم يفت.
وقد ذكر بعض البغداديين من أصحابنا في مرافعته للخلاف من تأويل الحديث الذي
تقدم ذكره، واشترط فيه كون السلعة قائمة، لما قال المخالف: إنما اشترط أنها
إذا فاتت في يد البائع لم يكن تحالف لكونه ضامنًا لهما. فهذا فائت ذكر
اشتراط قيام السلعة الواقع في هذا الخبر. فقال هذا الرجل من أصحابنا، وأظنه
ابن القصار: ضمانها عندنا من المشتري، وفوتها في يد البائع كفوتها في يد
__________
(1) هكذا، في النسختين، ولعل الصواب: فيها.
(2/49)
المشتري، فيصدق المشتري في فوتها، كان (1)
هذا الفوت في يد البائع.
ورأيت القاضي إسماعيل ذكر ما يشير إلى خلاف هذا، فقال: إذا اختلفا في الثمن
فإن للبائع حبسها حتى يأخذ الثمن، ولا يلزمه تسليمها بما لم يقر به، ولا
يصدق على الشزي في تعمير ذمته بما لم يقر به، وفوتهما في يد البائع الحكم
فيه التحالف والتفاسخ. فلم يصدق المشتري ها هنا بهذا الفوت الواقع في يد
البائع، فيمكن أن يكون بناء ذلك على أحد القولين في كون البائع ضامنًا لها،
على حسب ما بيناه لما خرجنا الخلاف المذكور. وإذا جعلنا الفوت في يد
المشتري يوجب تصديقه، على ما اختاره ابن القاسم، فإن ذلك إذا ادعى ما يشبه
أن يكون ثمنًا للسلعة التي فاتت في يديه. فإن ادعى ما لا يشبه صدق البائع
فيما يدعيه من الثمن إذا ادعى ما يشبه. فإن ادعيا جميعًا ما لا يشبه رد إلى
قيمة السلعة، وصار دفع قيمتها كدفع عينها. وقد كنا قدمنا أن اختلافهما مع
قيام السلعة يقتضي التحالف والتفاسخ جميعًا، لكون كل واحد منهما لا مزية له
على صاحبه. وكذلك إذا ادعيا ما لا يشبه تحالفُ اوتفاسخًا أيضًا لكونهما لا
مزية لأحدهما على صاحبه.
فإذا انفرد أحدهما بدعوى ما يشبه دون الآخر كان فيه الخلاف الذي ذكرناه عن
عبد الملك وغيره، والأشهر أنه لا يراعيَ دعوى الشبه مع القيام. وقد ذكرنا
وجه ذلك فيما تقدم. فإذا فاتت السلعة فلم يقع نص خلاف عندنا في مراعاة دعوى
الشبه، فيصدق من ادعاه دون صاحبه المدعي ما لا يشبه، لكون الحديث ورد فيه
اشتراط قيام السلعة في التحالف والتفاسخ على الإطلاق من غير مراعاة دعوى
شبه، ولكون السلعة قائمة يمكن ردها بعينها إلى مالكها، حتى إذا وقع الفوت
صارت المنازعة في غرامة مال من الذمة، فلا يصدق فيه من إدعى ما لا يشبه.
وأما لو كان الاختلاف في بيع نَساء كاختلاف المسلم والمسلم إليه في مقدار
المكيلة التي عقد السلم عليها، فإنهما إذًا ادعيا ما يشبه جرى ذلك على
الخلاف المتقدم الذي بينّاه. وإن ادعيا ما لا يشبه فإن ابن القاسم اختلف
قوله في هذا، والمشهور عنه أنهما على الوسط من سلم الناس من يوم تعاقدا
السلم.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: وإن كان.
(2/50)
ولكن في الأسدية أنه اختلف قوله. فقال مرة
بهذا، وقال مرة أخرى: بل يتحالفان ويتفاسخان. ورأى بعض الإشياخ أن هذا
القول هو البخاري على أصلهم، لقولهم، في اختلاف المسلم والمسلم إليه في
مكان قضاء السلم فادعى كل واحد منهما أنه شرط القضاء في بلد غير البلد الذي
وقع فيه العقد، ولكنهما ادعيا بلادًا بعيدة لا يشبه أن يشترط قضاء السلم
فيها لبعدها، أو لمعنى آخر يستنكر معه دعوى كل واحد منهما ما لا يشبه. وهذا
عندي لا يشبه اختلافهما في المكيلة وقد ادعى كل واحد منهما ما لا يشبه لأن
مقدار المكيلة ربما ضبط من جهة العوائد، فيسأل أهل المعرفة بهذا السلم،
ومقتضى العادة في كم يسلم مائة دينار في قمح يوجد عند حلول سنة من يوم
العقد؟. فإذا قالوا: قول البائع: أسلمت إليه في قفيز واحد، مستنكر لا يشبه،
وقول المسلم: في ألف قفيز، مستنكر لا يشبه، وإنما يشبه في العوائد أن تسلم
المائة في مائة قفيز من القمح. فهذا مما يضبطه التجار. وأما تعيين بلد
لقضاء السلم مع كثرة البلاد وتقاربها في المسافة، مشرقة عن بلدهما أو
مغربة، فإن هذا مما يضبط (1) فيه تعيين بلد فلهذا قالوا فيه بالتحالف.
وألحق بعض الأشياخ بهذا الذي استشهد به من اختلافهما في البلد اختلافَهما
في أجل السلم، وسنتكلم على اختلافهما في أجل السلم في موضعه إن شاء الله
تعالى.
وإن ادعى أحدهما ما يشبه، والآخر ما لا يشبه، فإن كان من ادعى ما لا يشبه
هو الذي عليه السلم فالقول قوله إذا حل الأجل، على الاختلاف الذي قدمنا
بيانه وذكرناه في كونهما جميعًا ادعيا ما يشبه فكيف إذا كان الغارم هو الذي
ادعى ما يشبه والآخر ادعى ما لا يشبه. وأما إن كان المدعي ما لا يشبه هو
الذي عليه السلم، والمسلم ادعى ما يشبه، فإنه ذكر في كتاب السلم من المدونة
أن المسلم مصدق ويقضى على المسلم إليه بالمكيلة التي ادعاها المسلم، مع كون
المسلم إليه لم يقرّ ببيع المقدار الذي ادعاه المسلم؛ خلاف ما صنع في
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: مِمَّا لا.
(2/51)
كتاب الأكرية في اختلاف المكري والمكتري في
المسافة التي وقع العقد عليها، فقال المكرَى منه: اكتريت بمائة دينار إلى
برقة. وقال المكتري: بل إلى إفريقية. وكانت دعوى المكري لا تشبه، فإنه لم
يقض على المكري بأن يبلغ المكتري إلى إفريقية لما كانت المسافة التي زادت
على برقة لم يقر بيعهالأولا يقضى على رجل ببيع سلعة لم يقر بأنه باعها.
وكان بعض أشياخي يشير إلى أنه لا يتجه بين السؤالين فرق محقق، وبعضهم يشير
إلى فرق ليس بالواضح، فيقول: إن أجزاء المسافة كسلع منفردة ادعى رجل شراء
جميعها، ووهم (1) مالكها أنه لم يبع منه إلا بعضها، فإنه لا يصدق على
المالك في دعواه. وإن كان مقدار الثمن الذي اتفقا عليه لا تشبه معه دعوى
البائع، مثل أن يقول المشتري: بعت منّي ثوبك هذا، وعبدك، بمائة دينار.
ويقول البائع: لم أبع منك بالمائة دينار سوى الثوب. ويقول أهل المعرفة: لا
يشبه أن تكون المائة دينار ثمنًا للثوب خاصة، ويشبه أن تكون ثمنًا للثوب
والعبد. فإنه لا ينفع المشتري كونُ البائع ادعى ما لا يشبه، في تصديقه عليه
في إخراج ملكه الذي لم يقرّ ببيعه. وكذلك الزائد من المسافة على برقة، وهو
كسلعة أخرى لا يقضى على المكري بأنه باعها لكون الثمن الذي وقع به الكراء
لا يشبه أن يَكون ثمنًا لمسافة نهايتها برقة، وإنما ينفع المشتريَ كونُ
البائع ادعى ما لا يشبه في تصديقه في غرامة ما يغرم من الثمن في إيصاله إلى
برقة، وبعض ثمن الكراء على دعوى المكتري، فيلزمه منه ما ينوب إيصاله إلى
برقة، على أن نهاية المسافة إفريقية. ورأى أن اختلافهما في مقدار المكيلة
المسلم فيها اختلاف في عقد واحد عقد على ما في الذمة، وما في الذمة شيء
متحد، وهو المعقود عليه، فمن ادعى في هذا المتحد ما لا يشبه لم يقبل قوله.
وهذا تخييل فيه بعد، وعدد الأقفزة يمكن أن يتصور فيه أنه كسلع مختلفة، كما
صور في أجزاء المسافة، فلهذا أشار بعض أشياخي إلى أنه لا يتجه بين السؤالين
فرق.
__________
(1) هكذا في النسختين ولعل الصواب وزعم.
(2/52)
وقال غيرهم من الأشياخ: يمكن أن يكون توقّى
في السلم، إذا لم يغرم المسلم إليه ما ادعاه المسلم من المكيلة، وقضى عليه
برد بعض رأس المال، أن يوقع هذين المتعاقدين في بيع وسلف، وقد علم أنه لا
يجيز الإقالة من بعض رأس مال السلم، على ما يرد بيانه في موضعه، مخافة أن
يكونا أظهرا كون الثمن سلما، وأبطنا كون بعضه سلفًا يرد عند أمر اتفقا عليه
في الباطن، وهو وقت إظهار هذا الخلاف بينهما ليتوصلا به إلى بيع وسلف.
وهذا الذي أشار إليه الشيخ أبو إسحاق التونسي، ولكنه ذكر أنه ليس بالبيّن،
وكيف جرت الحال فهو أبين من الفرقال في حكيته عن بعض الأشياخ.
وأنت إذا علمت جميع ما قدمناه من حكم اختلاف المتبايعين في مقدار الثمن،
وأحكمت إجراء ما شذّ عنه من فروع هذا الباب على الروايات المذكورة أمكن أن
يعرف منه الحكم في نقد بعض الثمن أو بعض المثمون أو نقد البعض من هذا وهذا.
فلنذكر مثالًا لنقد بعض الثمن أو بعض المثمون يعرف منه حكم نقد بعض أحدهما
دون الآخر:
فذكر ابن المواز اختلاف رجلين في بيع طعام، فقال البائع: بعتك صاعين
بدينار؛ وقال المشتري: بل اشتريت منك ثلاثة آصع بدينار. وقد قبض المشتري
صاعًا وقبض البائع نصف دينار، فقال ابن المواز: عليهما اليمين ويُعطي
البائع بربع دينار نصف صاع.
وهذا جواب فيه إجحاف، ونحن نبينه، ونقدم لك أن هذا الجواب الذي ذكر، إنما
يجري على أحد الروايات، وهو تصديق القابض، وكون النقد المقبوض فوتا. وأمّا
من لم ير القبض فوتا فإن الحكم عنده التحالف والتفاسخ ورد ما قبض هذا وهذا.
لكن من يرى النقد المقبوض فوتا يقول: إن نصف دينار المقبوضَ مقبوضٌ على ما
قبض من الطعام وما لم يقبض، فالذي ينوب الصالح المقبوضَ من النصف دينار
المقبوضِ، ربعُ دينار، على مقتضى دعوى البائع؛ لأن البائع يقول: سلمت نصف
الطعام على نصف ما قبضت من الذهب.
(2/53)
وينوب الصاعَ المقبوضَ عن دعوى المشتري
سدسُ دينار؛ لأنه يقول: النصف دينار، الذي سلمتُ، يُفَضقُ على ثلاثة آصع،
فينوب الصاعَ الذي قبضتُ نصفُ دينار. وهو يحاول أن يسترد من البائع قيراطين
من الربع دينار الذي ناب الصالح، على قول البائع، والبائع قد حافي هذا
الربع دينار وقبضه، والنقد المقبوض فوت فيصدق القابض. لكن يقول البائع:
يبقى لي من حق الصالح الذي دفعتُ ربعُ دينار آخرُ، ويقول المشتري: لا يبقى
لك سوى سدس دينار على فضّ النصف دينار، على دعوى (1) والمشتري حائز لما في
ذمته، فلا يلزمه أن يغرم الزيادة على سدس دينار، وهو لم يقرّ يكون ذلك في
ذمته. فلا يقال ها هنا: هلا قلتم: لا يغرم المشتري سوى قيراطين، وهي نصف
سدس، لكون البائع ظلمه في قيراطين من الربع دينار الذي صدقنا البائع فيه،
على مقتضى الفض على دعوى المشتري. قيل: لو أسقطنا على المشتري، فيما يغرم،
هذين القيراطين، لم ينفع البائع كونه حائزأ للربع دينار، الذي صدقناه في
كونه استحقه؛ والمسألة إنم ابن بن علي كون القابض مصدقًا فيما قبض، فلو
عدنا إلى محاسبة المشتري بما يقول: إن البائع ظلمني، بجحوده له، مع اعترافه
بأنه يستحق ذلك في ذمته، ودعواه أنه ظلمه البائع لبطل هذا الذي أصلناه.
وإذا اتضح حكم هذا الصالح المقبوض، فإن الصالح الذي لم يقبض ينوبه مما قبض
البائع ربع دينار، فيصدق البائع في مقدار. ما يُستحقَ عليه به الطعام،
والذي يستحق عليه به من الطعام، على مقتضى دعوى (2) نصفُ صاع، فيقضى عليه
بربع نصف صاع للمشتري، فيحصل للمشتري من هذه الصفقة صاع ونصف، ويحصل للبائع
ثلثا دينار. فهذا بسط ما أشار إليه ابن المواز من جواب هذه المسألة.
ولِمَا يجرُّ القول في اختلاف المتبايعين في الثمن والمثمون، مشتملًا (3)
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: دعواه (أي المشتري).
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: دعواه.
(3) هكذا في النسختين.
(2/54)
على فروع كثيرة تكرر في أجوبتها أنهما
يتحالفان ويتفاسخان، وجب أن نبين
حكم هذا التحالف والتفاسخ. والكلام فيه من خمسة أوجه:
أحدها: صفة هذا التحالف، والثاني: من يبدأ فيه. والثالث: حكم
النكول عن هذه اليمين. والرابع: متى يقع الفسخ. والخامس: هل يقع الفسخ
ظاهرًا أو (1) باطنًا أو ظاهرًا خاصة.
أمّا الوجه الأول، وهو صفة التحالف، فإنا قد قررنا لك أوّلًا أن هذين
المتبايعين كل واحد منهما مدع ومدعىً عليه، وبهذا علل مالك رضي الله عنه في
موطئه كونهما يتحالفان ويتفاسخان، بأن قال: وذلك أن كل واحد منهما مدع على
صاحبه. فإذا وضح لك قول مالك: إن كل واحد مدع، ومدعىً عليه؛ وتقرر في أصل
السماع بالحديث المشهور واتفاق العلماء أن البينة على المدعي واليمين على
من أنكر، والمدعى عليه منكر، فهو الذي يكون عليه اليمين، والمدعي مثبت،
والمثبت عليه البينة. ولا يكتفى بيمينه في مجرد دعواه دون عرض اليمين على
المدعى عليه. فإذا تقرر هذا الأصل فقد صار كل واحد من المتبايعين المختلفين
في الثمن مدعيًا، فيكون الحكم من هذه الجهة استحلافَه، فقد صارت دعواه
تتضمن نفيًا، وهو أنه لم يبع سلعته من المشتري بعشرة دنانير، كما زعم،
ويتضمن إثباتًا، وهو أنه باعها منه بإثنى عشر دينارًا فوجب أن يستحلف على
ما أنكر، دون ما أثبت، على ما قررناه من أصل الشرع الوارد في هذا الكتاب،
لكن لما كان ها هنا مطلوب أبي مين من جهة إنكار حسن أن يضيف إليه اليمينَ
على ما أثبت، لئلا ينكل صاحبه فيفتقر إلى يمين أخرى على ما أثبت، وتكرير
اليمين مما يشق، والأصول تقتضي تقليل الأيمان ما أمكن.
وهذا المعنى هو الذي ننفصل به عن اعتراض من اعترض علينا في هذا فقال: لو
ادعى رجل على رجل بعشرة دنانير لم يستحلفوا إلا المدعى عليه، فإنْ طلبكم
المدعي المثبتُ أن تستحلفوه قبل نكول المدعى عليه لم تفعلوا، فلم
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: وَ.
(2/55)
استحلفتم أحد المتبايعين على ما أثبت وهو
فيه مدع قبل نكول المدعى عليه؟! وذلك أن المدعي والمدعى عليه شخصان انفرد
هذا بإثبات محض، وانفرد الآخر بنفي محض، فلم يحسن، على ما قررناه من أصل
الشرع، أن يستحلفه على ما أثبته أوَّلًا، وحسن ذلك في المتبايعين لما كان
من إثبات قوإنضاف إلى إثباته إنكار ونفي، وهو المبدَّأُ فيه باليمين، فحسن
أن يُسْنَدَ إلى هذه التبدئة وجه آخر ليس من حقه أن يبدّأ به ليرفع عن نفسه
الضرر بتكرير اليمين. وهذا فرق واضح لا إشك الذيه.
وعلى هذه الطريقة جرى أهل المذهب في تحليف من بيده الرهن على ما ادعاه من
الدين، فإن كان ما ادعاه أكثر من قيمة الرهن، وهو لا يصدق فيما زاد على
قيمة الرهن، وإنما يصدق في قدر قيمته مع يمينه، فلما توجهت عليه هذه اليمين
على قيمة الرهن، التي هو مبدَّأ فيها على الراهن، حسن أن نضيف إليها ما
ادعاه من الزيادة على قيمة الرهن، لئلا ينكل الراهن عن اليمين فيحتاج إلى
يمين أخرى على ما زاد على قيمة الرهن.
وقد حكى شيخنا أبو الحسن اللخمي اختلافًا في صفة اليمين: هل يحلف على النفي
أو على الإثبات؟ واختار هو أن يخير هذا المستحلَف، فإن شاء حلف على النفي،
وهي اليمين التي يقضى بها عليه، ويؤخر يمينه على الإثبات إلى أن ينكل
صاحبه، فيحلف حينئذ يمينًا أخرى. فقضى عليه باليمين التي هي الواجبة في
الأصل، وخيّره في اليمين التي لا تجب عليه. وإنما مُكِّن منها لإزالة الضرر
بتكرير اليمين عليه. وهذا هو من حقوقه، فإن شاء التزم هذا الضرر، وقدم يمين
الإثبات مع النفي، وحلف عليهما جميعًا. وهذا الذي اختاره لم يبعد فيه على
ما قدمناه لك من تأصيل الشرع. لكن هذا الخلاف الذي حكاه لا أحفظ الآن نص
أحدٍ من أصحابنا عليه، لكن أحفظ عن الشافعية فيه اختلافًا، فمنهم من يرى أن
مذهب الشافعي أنه يحلف يمينًا واحدة على النفي والإثبات، قول واحد. ومنهم
من يخرّج له قولًا آخر، أنه يحلف يمينين: على النفي يمين، ويمين أخرى على
الإثبات. واستقراء ذلك من قوله، في رجلين أيديهما جميعًا على دار، فزعم كل
واحد منهما أن جميع الدار له، فقال: يحلف على نصفها الذي حازه أنه لا حقَّ
(2/56)
للآخر فيه. فإن نكل الآخر عن اليمين على
النصف الذي في يده حلف الأول يمينًا أخرى: أنه لهه، بعد نكول الحائز. ومنهم
من منع هذا التخريج والاستقراء، وقال بأن كل واحد حائز لما في يديه، فلا
يحسن أن يحلف أحدهما على النصف الذي في يد الآخر قبل نكول الآخر عن اليمين
عليه، والمتبايعان إنما يحلفان في صفة عقد، وهما متساويان في كون كل واحد
منهما مدع ومدعى عليه، فحسن ها هنا أن يُلزم يمينًا واحدة على النفي
والإثبات، على حسب ما قدمناه. فأنت ترى اختلاف الشافعية هل يحلف يمينًا
واحدة يجمع فيها بين نفي وإثبات، أو يحلف يمينين: الأولى منهما على النفي،
فإذا نكل صاحبه عن اليمين حلف يمينًا أخرى على ما أثبت. فيقول أوَّلًا:
بالله ما بعتك بعشرة. لأنه هو الذي نفى من قول صاحبه، ويَقتصر على هذا. ثم
يقال لصاحبه: احلفْ أنت أيضًا على أنه ما باعك بإثني عشر. فإن حلف، قيل
للبائع: احلفْ على أنك بعت بإثني عشر، ثم يقال للمشتري: احلفْ على أنك
اشتريت بعشرة؛ ويتفاسخان. ومن نكل منهفا عن اليمين عاد صاحبه إلى اليمين
على ما نكل هذا عنه.
وشيخنا أبو الحسن لم يورد هذا الخلاف الذي أشار إلى إسناده إلى أصحابنا،
على مقتضى عادته، على هذه الصفة التي أوردناها عن أصحاب الشافعي، وإنما
قال: واختلف هل يحلف أحدهما على النفي أو على الإثبات؟ وبيْن أصحاب الشافعي
أيضًا اختلاف فيما تقدم في اليمين مرة واحدة، واليمينين: هل اليمين على
النفي أو على الإثبات؟ فانفروإلاصطخري منهم بأن قال: يبدّأ بيمين الإثبات؛
لأن الله تعالى بدأ في اللعان بها، وهو عندنا أيْمان الزوج، وهو المثبت
للزنا على زوجته. وقال أكثر أصحاب الشافعي: بل يبدأ بيمين النفي؛ لأنها هي
التي يقضى بها في الأصل لورود الشرع بتحليف المنكر، وتكليف المثبت البينة.
وهذا عندي أولى على ما فرضته من التعليل من كون يمينه على الإثبات
(2/57)
خارجةً عن الأصول؛ واعتذرنا عنها بأنها.
إنما حسن إخراجها عن الأصول لإسنادها إلى يمين النفي، لئلا يلحقه ضرر
بتكرير اليمين، فاقتضى هذا كون اليمين على الإثبات تبعًا، ومستندةً إلى
تمييز النفي، ومن المستنكر أن يبدأ بالتابع على المتبوع.
وأمّا ما احتج به الاصطخري من بداية الله سبحانه في اللعان بالزوج فقد
ينفصل عنه عندي بأن اللعان فيه اختلاف: هل هو قائم مقام الشهادات، ولهذا
كرر أربع مرات حتى يكون كأربعة شهود على الزنا، أو قائم مقام الأيمان؟ وإن
قلنا: إنه قائم مقام الأيمان، فقد يقال في هذا: إن اللعان إنما ورد به
الشرع لحفظ الإنساب، وكون الزوج لا يلحق به ولد ليس من ظهره. وإذا كان لهذا
شُرعَ، وهو مقصود الشرع، فالزوجة كالمدعية على الزوج إلحاق نسب به، وهو
ينكره، فلهذا بُدِّىء لكونه مدعىً عليه في النسب. فلم تخرج هذه المسألة عن
الأصول. هذا الذي يظهر لي، وللنظر في هذا مجال، ولعلنا أن نبسط هذا عند
كلامنا على قذف الزوج، ولعانه لنفي الحد لا لنفي النسب، فإن هذا الوجه إذا
قيل بأحد القولين فيه تطلبنا انفصالًا آخر عمّا قاله الاصطخري. أو يقال: إن
المقصود في الشرع ما ذكرناه من نفي النسب، وهذا الوجه الذي هو نفي الحد تبع
له.
وأما الوجه الثاني وهو الكلام على من يبدأ باليمين من هذين المتبايعين
المختلفين، فإن المذهب عندنا على قولين: بدّأ في المدونة البائع باليمين:
وفي كتاب تضمين الصناع من المدونة تبدية ورثة المشتري باليمين إذا تجاهلا
هم ورثة (1) البائع الثمن. وهكذا بدّأ في المستخرجة باليمين إذا اختلف هو
والبائع في الثمن. وبتبدئة المشتري قال أبو حنيفة.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: (هم وورثة البائع) كما يدل عليه كلام
المدونة.
انظر المدونة: ج 4 ص 393.
(2/58)
والمشهور عن الشافعي تبدية البائع، وهكذا
ذكر الشافعي في اختلاف المسلم والمسلم إليه في مقدار السلم أن البائع، وهو
المسلم إليه، يبدأ. وهكذا ذكر في اختلاف السيد مع عبده في الكتابة أن السيد
يبدأ باليمين. لكن ذكر في اختلاف الزوجين في مقدار الصداق أن الزوج يبدأ.
فبعض أصحابه أضاف إليه قولًا آخر في اختلاف المتبايعين أن المشتري يبدأ
باليمين، كما حكينا ذلك على أحد القولين في المذهب عندناة وبعضهم منع من
هذا الاستقراء وقال: بأن الشافعي إنما بدأ البائع لأنهما إذا تحالفا رجعت
سلعته إليه، فكان أوْلى بالتبدية لرجوع المبيع إليه، والزوجان إذا اختلفا
في مقدار الصداق وتحالفا فإن الزوج يقضى عليه بصداق المثل ويبقى البضع له
كما بقيت السلعة للبائع بعد التحالف.
وهذا فرق يصح على أصلهم، ولو كانوا يقولون بمذهبنا أنهما إذا اختلفا في
مقدار الصداق قبل الدخول تحالفا وتفاسخا النكاحَ، ويبقى البضع على ملك
المرأة، على حسب ما كان قبل عقد النكاح، لكان هذا الاستقراء صحيحًا. وقد
وقع للشافعي كلام ذهب بعض أصحابه إلى أنه قول ثالث في هذه المسألة وهو
قوله: إن استحلف الحاكم البائع قيل للمشتري: أتقبل منه أم تحلف؟ وإن بدأ
بالمشتري قيل للبائع: أتقبل منه أم تحلف؟
وقال بعض أصحابه: هذا لا ينبغي أن يكون يجعل له قولًا ثالثًا؛ لأنه يمكن أن
يكون أراد أن يحكم (1) الحاكم بتبدية البائع، وهو مذهبه، قيل للمشتري؛ كذا.
أو حكم بتبدية المشتري، لما كان ذلك مذهبه، قيل للبائع: كذا. فأنت ترى أن
الشافعي ينسب إليه بعض أصحابه ثلاثة أقوال: تبدية البائع، وتبدية المشتري،
وتخيير الحاكم فيمن يبدأ به منهما. وبعض أصحابه ينكر أن يكون له إلا قول
واحد، وهو تبدية البائع.
وهذا الذي ينسب إليه بعض أصحابه من تخيير الحاكم يضارع ما ذهب إليه أشياخي
من أن الصحيح في هذا أن يقرع بينهما مَن الذي يبدأ منهما؛ لأن
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: إِنْ حَكَم.
(2/59)
الشافعي إنما ذهب إلى تخيير الحاكم، على ما
نسب إليه بعض أصحابه، لكون البائع والمشتري لا مزية لأحدهما على الآخر توجب
تبديته. وكذلك رأى أشياخي أن كل واحد من هذين المتبايعين مدع ومدعى عليه،
وليس أحدهما أحق بالتبدية من الآخر، فوجب تخيير الحاكم فيمن يبدأ به منهما.
ورأى أشياخي أن صرف ذلك إلى القرعة أطيب لنفوسهما، وأقرب إلى ما ورد به
الشرع في مثل هذا من القرعة في العتق، لما عتق أحد الصحابة ستة أعبد له.
الحديثَ المشهور (1).
فتلخص من هذا أن في المسألة أربعة أقوال: تبدية البائع، وتبدية المشتري،
والتخيير، على رأي من ذكرناه، والقرعة على رأي أشياخي.
فأمّا من ذهب إلى التعبدية بالبائع فإنه يرتجح جَنْبة البائع بظاهر الحديث
وهو قوله عليه السلام: "إذا اختلف المتبايعان فالقول قول البائع، أو
يترادان" (2) وظاهر الحديث قبول قول البائع من غير يمين، ومن كان قوله هو
المقبول هو المبدأ. وإنما أثبتنا اليمين بظواهر أُخَر في هذا الخبر وغيره.
وأيضًا فلأن البائع أقدم ملكًا، ومن كان ملكه أقدم وأسبق كان جانبه أوضح.
وأيضًا فإنهما إذا تحالفا رجعت السلعة إلى يد البائع، على حسب ما كانت عليه
قبل البيع، ورجوعها إليه بعد التحالف: يشعر بأن جانبه أقوى من جانب المشتري
لرجوعها إليه دونه.
وأما من ذهب إلى تبدية المشتري فإنه يرى أن الأصل قبول قوله لكونه مدعى
عليه زيادة ثمن بعد إقرار البائع له بانتقال الملك إليه، وإذا اتفقا على
انتقال الملك إليه واختلفا في المستحق في ذمة المشتري، فقال البائع: بعتك
بعشرة. وقال المشتري: بل بخمسة. صارت الخمسة الزائدة كمال انفرد بالدعوى
فيه البائع دون المشتري، فيصدق المدعى عليه. ولهذا ذهب أبو ثور
__________
(1) الموطأ: رقم 2244، كتاب العتق: باب 3 - وانظر التمهيد: ج 23/ 414.
(2) ابن ماجة: باب 19 البيّعان يختلفان: حد. 2186.
(2/60)
إلى تصديق المشتري على حسب ما كنا قدمناه
(1) لذكره عنه. لكن فقهاء الأمصار لم يساعدوه على هذا المذهب لأجل ورود
الخبر الذي قدمناه. وإذا كان الأصل قبول قول المشتري أشعر ذلك بأنه أقوى
جنبة من البائع، فاستحق لأجل هذا الترجيح أن يقدم على البائع. ويجيب هؤلاء
عن ترجيح جنبة البائع يكون ما له أسبق، بأن المشتري متفق على انتقال الملك
إليه، فكان أيضًا أرجح من هذه الجهة. ويجيبون، عن ترجيح البائع يكون السلعة
ترجع إلى ملكه، بإن المشتري أيضًا يبقى الثمن عن (2) ملكه. فإذا كانت
الترجيحات قد تعارضت على ما أريناك استوت (3) مزية البائع والمشتري، فلم
يكن أحدهما أحق بالتبدية من صاحبه، فوجب تخيير الحاكم أو القرعة، كما ذهب
إليه أشياخي.
فهذا تلخيص المذاهب في هذه المسألة وضبطها وبيان منشأ الخلاف فيها.
وأمّا الوجه الثالث، وهو حكم النكول فلا يخلو من أن ينفرد البائع بالنكول،
أو ينفرد المشتري، أو يجتمعان عليه، والسلعة في جميع هذه الأقسام قائمة أو
فائتة.
فأمّا انفراد أحدهما بالنكول فإنه يوجب تصديق الحالف، والقضاء له بما حلف
عليه بائِعًا كان أو مشتريًا.
وأما اجتماعهما على النكول، والسلغة قائمة، فإن ابن القاسم ذهب إلى أن
البيع يفسخ، كما يفسخ إذا تحالفا، إذ لا فرق بين أن يتحالفا فيستويان لأجل
اليمين، أو ينكلا فيستويان لأجل النكول، وقد شرع الشرع بأن تساويهما يوجب
رجوعهما إلى ما كانا عليه قبل العقد، لكونهما إذا تحالفا تفاسخا، فهكذا
يكون حكمهما إذا تناكلا.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بذكره.
(2) هكذا، والأوضح: على.
(3) في النسختين: استهوت.
(2/61)
وإلى هذا ذهب شريح. وذكر ابن حبيب أنهما
إذا تناكلا كان القول قول البائع؛ ورأى أنه لما كان مقدما على المشتري
باليمين عاد الأمر عند نكولهما جميعًا إلى تصديق من بدئ باليمين، كرجل ادعى
على رجل بمال، فإن المدعى عليه المبدأُ باليمين على نفي دعوى المدعي، فإن
حلف برىء من دعوى المدير، وإن نكل وحلف المدعي استحق ما ادعاه. وإن لم يحلف
المدعي سقطت دعواه، وبرىء منها المدعى عليه، كما يبرأ لو حلف اليمين التي
بدّأناه فيها. وهذا لا يلزم. وليس هذه القاعدة تطرب إلا إذا كانت اليمين
التي بدأت بها أحد الخصمين يفيده إيقاعها بطلان دعوى صاحبه واستحقاقه لما
حلف عليه.
والمدعى عليه بمال إذا حلف فقد استقر بيمينه الحكم له ببراءته مما ادعاه
عليه الآخر، ولا قدرة للآخر على مقاومة هذه اليمين وردها. والبائع إذا خالف
المشتري في الثمن، وبدأناه باليمين، فإنه لا يستحق بيمينه على المشتري ما
ادعاه وحلف عليه؛ لأن للمشتري أن يقاوم يمينَه ويردها، بأن يحلف على صحة ما
يقول فتسقط يمين البائع التي يحاول بها استحقاق شيء عليه، فلهذا كان المدعى
عليه بمال إذا نكل ونكل المدعي عاد التصديق إليه في كونه بريئًا من الدعوى؛
لأنه لو حلف لاستحق براءته من الدعوى، ولم يقدر المدعي على مدافعته عن هذه
البراءة. فإذا نكل هو والمدعي عاد الحكم إلى ما يحكم به لو حلف اليمين التي
بدأنا به فيها. وكذلك من أقام شاهدًا بمال له على رجل، ونكل عن اليمين مع
شاهده، وطلب يمين المشهود عليه، فنكل أيضًا عن اليمين، فإن الطالب يستحق
هذا المال من غير مطالبته بيمين؛ لأنه لو حلف أوَّلًا مع شاهده لاستقر له
هذا الم الذي ذمة المطلوب، فإذا نكل ونكل المطلوب استحق الحق، وحكم له
بالحكم الذي حكم له به لو حلف اليمين التي بدّأناه بهما. فقد اتضح مخالفة
تبدية البائع المخالفِ للمشتري في الثمن باليمين، وهو الذي حكيناه من رواية
ابن حبيب من كون البائع يقبل قوله، هل مراده أنه يقبل قوله ويأخذ ما ادعاه
من الثمن من غير أن يحلف، أو لا يأخذه إلا بعد اليمين عليه؟ الذي يشير إليه
أشياخنا أجمعون: أنه يأخذ الثمن من غير يمين.
(2/62)
وقال أبو الوليد الباجي: لا بد من يمينه؛
جنوحًا منه إلى الطريقة التي ردَدْنا بها ما حكاه ابن حبيب لأجل أن اليمين
التي عرضت على البائع أوَّلًا لو أوقعها لم يستحق بها على المشتري الثمن
الذي يدعيه، بل أمرها مترقَّب هل يحلف المشتري فلا تفيده يمينه شيئًا،
ولأجل ترقب عدم هذه الفائدة (1) يقع التشاح في من يبدأ باليمين؛ لأن كل
واحد من المتبايعين قد يريد أن يؤخر رجاءَ أن ينكل صاحبه فيحلف هو يمينًا
تفيده تصديقه والقضاءَ له بمضمون ما يدعيه. وإذا كانت هذه اليمين يترقب رفع
حكمها بيمين المشتري لم يلحق باليمين التي يستقر الحكم بإيقاعها ولا يترقب
ارتفاعه. وإذا كانت لو أُوقعت لم توجب على المشتري غرامة ما يدعيه موقعها،
فكذلك إذا نكل عنها ذلك أَوَّلًا لا توجب على المشتري غرامة ما يدعيه
الناكل؛ لأن إيقاعها آكد في تصديقه من النكول عنها، فإذا لم يستفد لإيقاعها
غرامة المشتري ما يدعيه لم يستفد بالنكول عنها.
وهذه الطريقة التي سلك أبو الوليد الباجي مقتضية (2) من الطريق الذي رددنا
به قول ابن حبيب. فإذا حمل على ابن حبيب مخالفة هذه الطريقة التي نبهنا
عليها، وحمل عليه أنه يُجري الدعاوي كلها مجرى واحدًا فيحكم بتصديق المبدّأ
باليمين، ولا فرق بين يمين توقع يترقب رفع حكمها، أو يمين توقع لا يترقب
رفع حكمها، اقتضى هذا أن يصذق البائع إذا تناكلا جميعًا، من غير أن يطلب
منه يمين، على حسب ما صورناه في مدع ومدعى عليه تناكلا، أو رجل قام له شاهد
فنكل عن اليمين هو والمطلوب. ولو لم يسلك هذه الطريقة ويُجري هذه الدعاوى
مجرى واحدًا في حكم النكول لوجب عليه أن يقول بما قاله ابن القاسم: إن
البيع يرد، لأجل ما نبهنا عليه من الفرق بين هذه الدعوى وغيرها من الدعاوي.
وقد كنا ذكرنا لك قبل هذا اختلاف أصحاب الشافعي في
__________
(1) بياض في النسختين بمقدار كلمة.
(2) هكذا في النسختين.
(2/63)
يمين البائع والمشتري، هل يطلب من كل واحد
منهما يمين على النفي إذا نكلا عنها جميعًا طلب من كل واحد منهما يمين على
الإثبات، على حسب ما بيناه فيما تقدم. فعلى هذه الطريقة يصح ما قاله أبو
الوليد الباجي، ولكن تكون صورة اليمين الأولى أن يحلف كل واحد فنهما على
النفي فإذا تناكلا استُحلفا بعد ذلك على الإثبات، على حسب بيناه فيما تقدم.
وما أحد من أهل المذهب يقول ها هنا بتكرير اليمين على البائع، وقد قدمنا أن
البائع إنما أضاف إلى يمين النفي يمين الإثبات لأجل ما يتوقعه من الضرر
بتكرير اليمين إذا نكل المشتري.
فإذا كانت العلة عند أهل المذهب في استحلافه على الإثبات قبل نكول المدعى
عليه رفع الضرر عنه بتكرير اليمين عليه من الحرص على تقليل الأيمان ما
أمكن، كانت هذه العلة تنقض على أبي الوليد قولَه؛ لأنه إذا طلبه باليمين
بعد تناكلهما جميعًا صار تكرير اليمين على الإثبات بعد أن قدمها مخافة ألا
يتكرر عليه، وهذا كالمناقض، وإن ما لاح لأبي الوليد ما قدمناه من كون هذه
اليمين مترقب ارتفاعها فلا توجب غرامة لو أوقعت فأحرى أن لا توجب غرامة إذا
لي توقع ونكل عنها. وقد بينا عزْوَ أهل المذهب في تقدمتهم هذه اليمين، وأن
العلة عندهم خوف التكرار، وأن الحالف لما وجب أن يقدم في يمين النفي أُسند
إليه يمين الإثبات فصار ذلك كجزء من يمين النفي وصار بمعنى واحد. وإذا كانت
يمين النفي تفيده البراءة، وهذه اليمين التي أسندت إليها تفيده الإثبات،
واستحقاق الطلب بحكم إسنادها إلى يمين النفي، وجب أن يجري مجرى الأيمان
التي لو أوقعت لم يقدر على رفعها بيمين أخرى.
وهذا الذي قلناه في رد ما ذهب إليه أبو الوليد الباجي واضح لمن تأمله.
وقد قدمنا أن مراعاة الأشبه مع قيام السلعة فيه الاختلاف الذي ذكرناه.
وأمّا مع فوتها فإنه لا خلاف فيه عندنا أنه يراعَى دعوى الأشبه، فإذا فاتت
السلعة في يد المشتري صُدق في مقدار الثمن إن ادعى ما يشبه، فإن ادعى ما لا
يشبه صُدق البائع في مبلغ الثمن الذي ادعى، إن ادعى أيضًا ما يشبه. فإن
ادعيا جميعًا، البائع والمشتري، ما لا يشبه، تحالفا وقضي على المشتري
بالقيمة، وتكون
(2/64)
القيمة بدلًا من العين يجب ردها إذا كانت
قائمة وادعيا ما لا يشبه، وقد تحالفا وتناكلا. ولو ادعيا جميعًا ما لا
يشبه، مع فوت السلعة، ونكل أحدهما عن اليمين ولم ينكل الآخر، يقضى للحالف
منهما بما ادعاه وإن كان ذلك مِمَّا لا يشبه، ذكر ذلك ابن مزين عن مالك.
ووجهه أن الناكل قَدَر أن يحلف، وينفي عن نفسه طلب الآخر، فلما نكل عن
اليمين ومكّن الآخر منها صار كالراضي بما ادعاه الحالف، وإن كانت دعوى
الحالف لا تشبه. ولو نكلا جميعًا عن اليمين، مع فوت السلعة في يد المشتري،
وقد ادعيا ما لا يشبه، فإن الواجب على مقتضى الأصول التي قررناها القضاء
بقيمتها. ورأى ابن أبي زمنين أنه يتخرج في ذلك من الخلاف بما كنا قدمناه من
تناكل المتبايعين، والسلعة قائمة، أن ابن القاسم يقضي بنقض البيع، وابن
حبيب ذكر عن مالك أن البائع يصدق لكونه قد استحق أن يبدّأ به قياسًا على
سائر الدعاوي في تصديق المبدّأ باليمين على حسب ما كنا بسطنا القول فيه،
ودفعنا ابن حبيب عن قياسه على سائر الدعاوي لكون اليمين ها هنا التي
بدَّأنا بها يترقب دفعها بيمين الآخر، فكذلك يجب ها هنا إذا تناكلا مع فوت
السلعة وقد ادعيا ما لا يشبه أن يكون الواجب ردَّ القيمة بدل العين، على
مذهب ابن القاسم، ويكون الواجب تصديق المشتري المبدإ باليمين مع فوت السلعة
ها هنا، على ما حكاه ابن حبيب. وهذا التخريج مما يفتقر إلى بسط؛ لأنه إذا
ادّعيا ما يشبه، والسلعة قائمة، استحق البائع أن يبدّأ باليمين، لظاهر
الحديث على حسب ما قدمناه. فإن ادعى ما لا يشبه فقد صارت دعواه مدفوعة
بكونه ادعى ما لا يشبه، ولم يستحق أن يحلف على هذه الدعوى التي لا تشبه،
وهذا مما يفتقر إلى بسط.
وأما الوجه الرابع وهو بيان زمن الفسخ إذا تحالفا، فإنه اختلف فيه عندنا:
هل يقع الفسخ بنفس التحالف، كما ذهب إليه سحنون، أوْ لاَ يقع إلا بحكم،
لقول ابن القاسم: إذا تحالفالأولم يحكم بالفسخ فللمشتري قبولها بما ادعاه
البائع. وبعض أشياخي يحكي قولًا ثالثًا وهو وقوع الفسخ بتراضيهما عليه.
(2/65)
وفائدة هذا الاختلاف تمكين أحد المتبايعين
من الرجوع إلى تصديق صاحبه، وإلزامه موجب ما ادعاه. فإذا قيل: إن الفسخ يقع
بنفس التحالف لم يكن للمشتري أن يقبل السلعة بما قال البائع، ولا للبائع أن
يُلزِم المشتري السلعَة بما قال المشتري. وإن قلنا: إن الفسخ لا يقع إلا
بحكم، كان للبائع أن يرجع إلى تصديق المشتري، وللمشتري أن يرجع إلى تصديق
البائع ما لم يقع الحكم بالفسخ، أو يتراضيا به على القول الثالث الذي أشار
إليه بعض أشياخي. وقد أشار بعض المتأخرين في مقتضى ظاهر كلامه على هذه
المسألة التي أبقى كل رواية على ظاهرها، فقال: إذا تحالفا كان للمشتري أن
يقبل بما قال البائع قبل وقوع الحكم على مذهب ابن القاسم. وأشار إلى أن
المشتري إنما كان له ذلك لقوة جنبته، ولظاهر الخبر الذي نذكره.
وحكى عن محمَّد بن عبد الحكم أنه يقول: للبائع بعد التحالف أن يرجع إلى
تصديق المشتري، على حسب ما حكاه عنه الشيخ أبو محمَّد بن أبي زيد في
نوادره، وأشار إلى أن البائع كان له الخيار، قبل أن يحلف، في إلزام المشتري
البيع بما ادعاه، فلا يسقط هذا الخيار الثابت له بتحالفهما.
والذي عليه الحذاق من أصحابنا وأصحاب الشافعي أن هذه الفائدة التي أشرنا
إليها تطّرد في البائع والمشتري. فإن قلنا: إن الفسخ يقع بنفس التحالف كان
ذلك في حق البائع والمشتري، وإن قلنا: لا يقع حتى يقع بحكم الحاكم به، كان
ذلك في حق البائع والمشتري أيضًا، ووجه هذا: أن الاختلاف للتنازع في ظاهر
الخبر وطرق العبرة فأما الخبر فإنه قال عليه السلام: "إذا اختلف المتبايعان
ولا بينة لكل واحد منهما والسلعة قائمة تحالفا وترادا" (1) فأمر بالترادد،
وأمْره بذلك يقتضي الوجوب، والرد هو النقض للعقد، فلولا أنه منتقض بنفس
التحالف لما أوجب النقض. ويجيب الآخرون عن هذا بأن المراد به أنهما
يستأنفان بعد التحالف والفسخِ ردَّ السلعة وردَّ الثمن، ويستدلون على ما
__________
(1) انظر نيل الأوطار: ج 5 ص 339 - 342.
(2/66)
يقولون بالرواية الأخرى: "إذا اختلف
المتبايعان تحالفا وللمبتاع الخيار" (1) فقد جعل المشتري بالخيار بعد
التحالف. وهكذا نص الشافعي فقال: "إذا تحالفا فللمبتاع أن يقبل بما قال
البائع. ولعل هذا الذي (2) عن بعض المتأخرين الذي أشرنا به حتى قال ما
ظاهره يقع الفسخ بعد التحالف على البائع دون المشتري.
وبعض أصحاب الشافعي يذهب إلى أنه لا يقع الفسخ إلا بحكم؛ لأن المسألة مسألة
اجتهاد فتفتقر إلى حكم، كالطلاق بالعنة، وعدم النفقة. وبعضهم يرى أنه يقع
الفسخ بعد التحالف بفسخ أحدهما، كابرد بالعيب؛ لأن هذا العقد دخل فيه نقض،
لكون البائع ممنوعًا من الثمن، وكون المشتري ممنوعًا من البيع، فصار ذلك
كالعيب الموجود فيما حصل في يد كل واحد من المتبايعين، (والعيب إذا وقع على
صفة ما ذكرناه بل يكتفي في نقض بالبيع بفسخ من يده السلعة المعينة) (3).
ومن ذهب من أصحابنا إلى وقوع الفسخ بنفس التحالف قاس على اللعان الذي يقع
بنفس تلاعن الزوجين، وهو أيمان كهذه الإيمان الواقعة بين المتبايعين. ويحتج
أيضًا بأن البائع لما حلف فقد حقق صدقه بيمينه، فكذلك المشتري حقق صدقه
بيمينه، فصار من (4) الثمن مجهولأوجهالة الثمن توجب فسخ البيع.
وهذا الاستدلال لا يصح لأن كل واحد منهما لو أقام البينة على صحة ما يدعيه
لتحقق صدقه بما يقيم من البينة، ثم مع هذا لا تكون إقامة البينة المقتضية
صدقه توجب جهل الثمن المقتضي فسخ البيع، وهذا واضح. وكان شيخي أبو محمَّد
عبد الحميد رحمه الله يشير إلى رفع الخلاف الواقع عندنا ويقول: لو قام (5)
__________
(1) بالرجوع إلى "معرفة السنن والآثار" عن الإِمام الشافعي، تصنيف البيهقي
ج: 4: 369 - 371. لم نجد نص هذا الحديث. وروي بمعناه (حرز الأماني ح 15 ص
66).
(2) نقص، ولعله: رُوي.
(3) ما بين القوسين هكذا نصه في النسختين، وهو غير واضح.
(4) هكذا في النسختين؛ ولعل الصواب حذف (من).
(5) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: قال.
(2/67)
المشتري والبائع قبل يمينهما إنا إنما نحلف
لتنتفي الريبة عن أنفسنا، ونزيل الشك في صدقنا؛ فإنه لا ينفسخ الييع بنفس
التحالف الواقع على هذا. ولو قدما أنهما يتحالفان لينفسخ البيع لا نفسخ
بنفس التحالف (1) (فعلى كل واحد من المذهبين صرف كل منهما إلى ما لا يليق
بمذهبه) (2).
وأمّا الوجه الخامس، وهو بيان حكم الفسخ إذا وقع ها هنا، هل يقع ظاهرًا
وباطنًا أو ظاهرًا خاصة، ففيه اختلاف. وكذلك اختلف أصحاب الشافعي فيه
أيضًا. وزاد بعضهم مذهبًا ثالثًا فيه وهو أن البائع إن كان ظالمًا وقع
الفسخ في الظاهر دون الباطن، لأجل أنه يعتقد أن السلعة التي رجعت إليه بعد
التحالف هو في إمساكها عن مشتريها منه ظالم غاصب، لكون المشتري ممكن (3) له
من الثمن الذي يعلم أنه باع به، فلم يقبله منه، ومسك سلعته غصبًا وتعديًا،
والغاصب لا يحل له التصرف فيما غصب. وإن كان البائع مظلومًا انفسخ البيع في
الظاهر والباطن لكون البائع قد مُنع من الثمن، ولا يلزمه تسليم سلعته بغير
ثمن، وقد ردها المشترى عليه، فصار بردها كناقض حقه في عقدها، فتعود إلى ملك
البائع ظاهرًا وباطنا.
وفائدة هذا الخلاف أن الفسخ إن وقع في الظاهر والباطن حل للبائع التصرف
فيها بما شاء من وطء وعتق وبيع وغير ذلك. وإن وقع في الظاهر خاصة لم يحل
للبائع التصرف فيها بعتق ولا وطء؛ لأنه وطء لملك غيره، وعتق لملك غيره، وهو
يقول: لي قِبَل المشتري دين منعني منه، وقد عثرت له على سلعة، فلا يمكّن من
أخذها عوض دينه، لكن يمكن من بيعها في الدين الذي له عليه. فإن سَوِيَتْ
مثلَ الثمن الذي له عليه فلا كلام، وإن سويت أقل من ذلك ففي (4) بقية الثمن
دينًا له عليه، وإن سويت أكثر من ذلك رد الفضلة عليه.
__________
(1) فراغ بمقدار كلمة.
(2) كلام غير واضح.
(3) هكذا، ولعل الصواب: ممكنًا.
(4) هكذا، ولعل الصواب: تبْقَى.
(2/68)
وبين أصحاب الشافعي اختلاف: هل يبيع ذلك
بنفسه، لأجل تعذر الرفع للحكام في مثل هذا، أو يتولى الحاكم البيع عليه؟
والأشبه بظاهر مذهبنا نحن أن نرفع للحاكم فيتولى البيع عليه.
والجواب عن السؤال الثاني أن يقال:
قد أشرنا إلى العذر في تقدمة الكلام على حكم الاختلاف في الكمية قبل الكلام
على الاختلاف في الماهية. فاعلم أن المتبايعين إذا اختلفا في ماهية المبيع،
فقال المسلم: أسلمت إليك في بُرّ، وقال المسلم إليه: بل أسلمت في تمرْ أو
قال المسلم: أسلمت إليك في حنطة، وقال المسلم إليه: بل في شعير، فإن مالكا
رضي الله عنه ذهب إلى أنهما يتحالفان ويتفاسخان، ولو كان اختلافهما عند
حلول أجل السلم. وذكر أبو الفرج في الحاوي عن مالك رضي الله عنه مثل ما
ذكرناه ها هنا. وذكر أن عبد الملك قال: إنهما لا يتحالفان لأنهما اتفقا على
جنس واحد، إذا كان اختلافهما ما بين حنطة وشعير. وتقييده نقل الخلاف عن عبد
الملك في أحد المثالين اللذين مثلنا بهما بقوله: وقال عبد الملك إذا
اختلفا، فقال المسلم: أسلمت إليك في حنطة، وقال المسلم إليه: بل في شعير.
ولم يحك ذلك عنه إذا اختلفا في تمر وحنطة، مع تعليله ما ذهب إليه: بأن
اختلافهما في قمح أو شعير اتفاق منهما على جنس واحد يقتضي أنه لا يخالف
مالكًا رحمه الله فيما ذهب إليه إذا اختلفا في جنسين متباينين كبُرّ وتمرْ.
والتحالف والتفاسخ في اختلافهما في جنسين لم يختلف فيه أحد من أصحاب مالك
رضي الله عنه لكن شيخنا أبا محمَّد عبد الحميد يخرج في هذا اختلافًا من
قوله في المدونة، في صبّاغ صبغ لرجل ثوبًا أسود، فقال صاحب الثوب: إنما
أمرتك أن تصبغه أحمر أن القول قول الصباغ، ولم يقل: يتحالفان ويتفاسخان، مع
كون محصول اختلافهما أن الصباغ يقول: إنما بعتك نيلا، وهو الذي صبغتُ به
ثوبك، ويقول صاحب الثوب: إنما اشتريت منك عُصفُرًا أمرتك أن تصبغ به ثوبي.
(2/69)
وهذا الذي ذكره في المدونة، في مسألة
الصباغ، يوجب أن يكون اختلاف المسلم والمسلم إليه في برّ أو تمر، يصدّق
المسلم إليه فيما ذكر أنه عليه. وهذا الذي خرجه رحمه الله فيه نظر، وذلك أن
الصباغ لما أسلم إليه الثوب وأمر بصبغه صار مؤتمنًا على ما يفعل فيه، مصدق
فيما ادعاه من الصِّباغ، كما صدق في أحد القولين مالك المشتريَ في مبلغ ثمن
السلعة، إذا سلمها البائع إليه. وعلّل ذلك بأنه اؤتمن على ما دفع إليه، مع
كون صاحب الثوب يدعي على الصباغ تعديًا قد يوجب عليه غرامة قيمة الثوب،
والأصل براءة ذمته، فلم يقبل قول صاحب الثوب في دعواه دينًا في ذمة المشتري
كما لم تقبل دعواه، على الرواية المشهورة، إذا فاتت السلعة ووجب على
المشتري غرامة الثمن في إلزام المشتري غرامة ما يدعيه عليه؛ وكما قيل، في
الوكيل إذا قال: أمرتني أن أشتري لك تمرًا، وقد فعلت. وقال الموكل: بل برّا
... إنه لا يصدف الموكِّل لأنه يدعي إيجاب غرامة على الوكيل، والأصل براءة
ذمته، على ما سيرد بيانه في كتاب الوكالات.
وأما عبد الملك فإنه إنما استلوح ما ذهب إليه، في اختلاف المتبايعين، في هل
كان السلم في قمح أو شعير؛ فإنما صار إلى ذلك لأنه لما رأى أن التفاضل بين
القمح والشعير لا يجوز، استشعر من ذلك أنهما كصنف واحد اختلف المسلم
والمسلم إليه هل عقد السلم على جيد ذلك الصنف أو رديئه، ولا معنى لاعتبار
حكم الربا ها هنا لأن عِلل الربا غيرُ علل التداعي.
وإنما وجب التحالف والتفاسخ في الجنسين لأن المتبايعين لم يقر أحدهما بما
ادعاه عليه الآخر من انتقال الملك فإذا قال المسلم: أسلمت إليك في برّ،
وقال المسلم إليه: بل في تمر. وقال: بعتك هذه الجارية بمائة دينار.
وقال الآخر: بل اشتريتها بمائة قفيز بر. فصاحب الجارية يدعي أن ثمنها
دنانير أو عَرْض غير البر، والمشتري لم يقرّ له بذلك، فصار بمنزلة رجل قال
لآخر: بعت منّي ثوبك، ويقول صاحبه: لم أبعه، فإن القول قول المدعَى عليه
البيعُ
(2/70)
إجماعًا. فقوله في مسألتنا: وكذلك المشتري
يدعي على البائع ما لم يقر له به، فإذا قال البائع: بعت جاريتي منك بثوبك،
وقال المشتري: بل بعبد. وهكذا فإن البائع لم يقز له بانتقال الملك عن
الجارية إلا بشرط أن يعطيه ثوبه عوضها، فلا يلزم نقل ملكه بجنس أمر (1) غير
الجنس الذي أقر بأنه إنما باع به. وإذا اختلف الجنسان فلم (2) يقع اتفاق في
نقل الملك، ولا على انعقاد البيع؛ بخلاف الاختلاف في مقدار الثمن فإنهما
اتفقا على جنسه وعلى مبلني مّا منه، وانفرد البائع بطلب غرامة المشتري
زيادة على المبلغ الذي اتفقا على جنسه واستحقاق البائع له. وكذلك في السلم
إذا قال المسلم: أسلمت إليك في تمر. فإنه يدعي على المسلم إليه أنه باع منه
تمرًا، فلا تقبل دعواه، ويدعي المسلم إليه أنه اشترى منه برًّا فلا تقبل
دعواه. وإذا تقرر أن المذهب التحالف والتفاسخ في هذا، فسواء قيام السلعة
فيه وفوتهما، لأجل ما بيناه من كون هذين المتبايعين لم يتفقا على جنس، ولا
على انتقال ملك، لبهن يجب رد القيمة ها هنا مع فوت السلعة المقبوضة.
وقد قال في المدونة: إذا قال بعتك جاريتي بمائة دينار، وقال المشتري: بل
اشتريتها منك بخمسين دينارًا أنهما يتحالفان ويتفاسخان، وإن فاتت الجارية
قضي على المشتري بقيمتها يوم قبضها.
وتنازع الأشياخ في هذه اللفظة هل هي متأولة أم لا؟ فذهب ابن شبلون إلى
إبقائها على ظاهرها، ورأى أن القيمة التي يقضى بها، في هذا الاختلاف، يعتبر
فيها يوم القبض، سواء كان التنازع في جارية أو عرض آخر سواها. ورأى الشيخ
أبو محمَّد بن أبي زيد أن القيمة إنما تعتبر يوم العقد، لكن الجارية لما
كانت فيها المواضعة أشار فيها إلى يوم القبض، وهو خروجها من المواضعة، وإن
تقدم العقد أيامًا. وإلى هذا التأويل ذهب الشيخ أبو بكر ابن عبد الرحمن،
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: آخَرَ.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لَمْ.
(2/71)
وذكر أنه ناظره الشيخ أبو القاسم بن الكاتب
في مجلس الشيخ أبي الحسن بن القابسي رضي الله عنهم في هذه المسألة.
وسبب هذا التنازع الذي وقع بين هؤلاء الأشياخ أنه قد تقرر أن البيع الصحيح
إذا وجب رد العرض فيه، وقد فات، فإنما تعتبر فيه القيمة يوم العقد؛ لأن يوم
العقد تحقق انتقال الملك، فيطلب قيمة الملك الذي انتقل إليه إذا لم يقدر
على رده لفوته. وتقرر أيضًا أن البيع الفاسد لما كان لا يجب إمضاؤه بل يجب
نقضه ورده، ولم يتقرر فيه انتقال الملك انتقالًا محققًا، فاعتبر فيه يوم
القبض ووضع اليد عليه، فاعتبر فيه قيمة ما وضَع عليه يده يوم وضعه يدَه
وقبضه له. فقد رأى الشيخ أبو القاسم بن شبلون أن هذين المتبايعين لما
اختلفا في جنسين تضمن ذلك كون الملك لم ينتقل على حسب ما صورناه أو لا،
وإذا لم يتحقق انتقاله اعتبر فيه يوم القبض كالبيع الفاسد. ورأى الشيخ أبو
محمَّد أنه لما كان عقدًا لا فساد فيه، ولو رجع أحدهما إلى تصديق الآخر لم
يمنع من ذلك ونفذ البيع بينهما، اعتبرَ في القيمة يوم العقد كما يعتير في
العقد الصحيح.
وإذا تقرر أن الحكم في اختلاف المتبايعين في جنسين التحالفُ والتفاسخ، فإنه
لو حلف أحدهما ونكل الآخر، لكان الحالف يقضى له بما حلف عليه. لكن اعتبر
الأشياخ ها هنا حق الله سبحانه فيما نهى عنه من أحكام الربا، وبيع الطعام
قبل قبضه وما كان في معنى ذلك، فأَمَروا المقضيَّ عليه أن يتحيَّل على
تخليصه (1) من الربا وما في معناه مما حرم. وإذا (2) اختلفا في قمح وشعير،
والمكيلة فيهما سواء، وقد حل الأجل، فإنه إذا كان الحالف مَن له السلم قضي
له بما حلف عليه، وحلّ للآخر أن يعطيه أن (3) يقول: إنه لا يستحقه لأن
المبادلة في مثل هذا، قمحًا بشعير كيلًا واحدًا، سائغ. ولو كان
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: تخلُّصه.
(2) الأوْلى: فإذا ...
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ما.
(2/72)
اختلافهما في هذين الجنسين، والمكيلة
مختلفة، فزعم المسلم أنه أسلم في مائة قفيز قمحًا-. وقال المسلم إليه: بل
في مائتي قفيز شعيرًا، فإنه إذا حلف المسلم كان على المسلم إليه أن يخرج من
ذمته الشعير، الذي يزعم أنه هو الذي له عليه، ويبيعَه ويشتري بثمنه قمحًا
فيسلّمه للمخالف عليه. فإن تخلص، فيما باع، من خسارة أو ربح فلا كلام، وإن
لم يوفّ ثمنُ الشعير الذي باعه بالقمح الذي يزعم أنه عليه أُمر أن يُكمل
للحالف ما بقي له من القمح. وإن باع الشعير بزيادة على ما يشترى له به
القمح، وُوقِفَتْ هذه الزيادة حتى يطلبها مستحقها، فإن لم يطلبها، وسلمها
(1) تُصدِّق بها عنه. وقد قدمنا في كتاب السلم الأول ما يجوز أخذه عن
الأطعمة المسلم فيها إذا حل الأجل، وإذا لم يحل، فمن هناك تعلم ما يجوز له
أن يدفعه للحالف وما لا يجوز له أن يدفعه فيؤمر ببيعه، على حسب ما فصلناه.
وراعى الأشياخ في هذا حق الله سبحانه في التخليص (2) من الربا وغيره مما
يحرم في هذه المعاوضات وَالمبادلات، ولم يلتفتوا إلى النظر في العهدة، وكون
ما علم المسلم إليه إذا بيع فقد يضيع الثمن فيتكلف خسارة أخرى، وكذلك إذا
حلف المسلم إليه ونكل المسلم أمر المسلم أيضًا يأن لا يأخذ ما حلف عليه
المسلم إليه بل يبيعه ليتخلص من الربا، ويشتري بثمنه ما يدعيه، على حسب ما
فصلناه.
والجواب عن السؤال الثالث أن يقال:
المعروف من المذهب أن اختلاف المتبايعين في كيفية المسلم فيه، بأن يقول
المسلم: أسلمت إليك في مائة قفيز قمحًا طيبًا من جنس كذا. ويقول المسلم
إليه: بل دنيئًا. وقد اتفقا في جنس القمح، أنهما يجري أمرهما على ما قدمناه
من اختلافهما في الكمية، بأن يقول أحدهما: بعتك ثوبي هذا بعشرة
__________
(1) أي: تركها.
(2) أي: التخلُّص.
(2/73)
دراهم. ويقول الآخر: بل بتسعة دراهم. وجميع
ما جرى من اختلاف الروايات عن مالك مما بيناه هناك، يجري ها هنا. لكن ربما
وقع إشك الذي بعض المسائل: هل يعود اختلافهما إلى جنسين، أو إلى صفة الجنس
الواحد، كما كنا قدمنا مذهب مالك وعبد الملك، في اختلافها في قمح وشعير، أن
مالكا ذهب إلى التحالف والتفاسخ، لكون الشعير (1) ها هنا جنسين. وذهب عبد
الملك إلى أنهما كجنس واحد، واختلفا في جودته أو دناءته.
وكذلك اختلف أصحابنا أيضًا في اختلاف المتبايعين في سمراء ومحمولة، فذهب
ابن حبيب إلى أن هذا الاختلاف يعود إلى اختلاف في صفة المسلم فيه فكأن من
قال: أسلمت في سمراء، قال: أسلمت في قمح جيّد؛ ومن قال: إِنما السلمَ على
محمولة؛ قال: إنما أسلم إليّ في قمح دنيء. وقد كنا قدمنا عنه أنه يقول في
السلم الفاسد إذا فسخ: لا بأس أن يأخذ محمولة من سمراء. وهذا قد يشير به
إلى أنهما كصنفين، إن كان يمنع بعد الفسخ أخذ الصنف بعينه الذي وقع الفسخ
فيه.
وذهب فضل بن سلمة إلى أنهما يتحالفان ويتفاسخان. وحمل بعض الأشياخ عليه أنه
يرى هذا الاختلاف كاختلاف في جنسين، ويمكن أن يكون سلك في هذا طريقة من يرى
التحالف والتفاسخ في الاختلاف في مقدار الثمن، وإن فات المبيع. ونقل هذا عن
فضل بن سلمة بكلام يوهم أنه كذلك يقول: لو كان اختلافهما: هل وقع السلم في
سمراء جيدة أو وَسَطة؛ وهذا النقل إنما يصح على ما أشرنا إليه بأنه سلك
طريقة من يرى التحالف والتفاسخ في مقدار الثمن وإن فات المبيع.
ولو كان اختلاف المتبايعين، وقد وقع السلم في الخيل، هل وقع عقد السلم على
ذُكْرانِها أو إناثهلالكان هذا اختلافًا في جنسين، لكون الأنثى تراد للنسل،
والذكر لا يراد له. ولو كان هذا الاختلاف في بغال، لكان اختلافهما
__________
(1) أي: والقمح.
(2/74)
في الذكررية والأنوثية اختلافًا في الصفة
والجودة والدناءة؛ لأن الأنثى لا تراد للنسل. وهذا ينحصر الفقه فيه إلى
مقتضى العوائد، وما يتعارف الناس في مثل هذا. وإنما ذكرنا هذا لأنه أنموذج
لهذه المسائل. وبالله التوفيق.
والجواب عن السؤال الرابع أن يقال:
ذكر بعض المتأخرين من أصحابنا أن كل معنى يؤدي إلى الاختلاف في المثمن حكمه
حكم الاختلاف في الثمن. قال: وذلك كاختلاف المتبايعين في الأجل، واشتراط.
رهن، أو حميل، أو يقول: أحدهما اشترطت الخيار، ويقول الآخر: أنا اشترطت
الخيار دونك، أو عقدنا البيع بتْلا.
وهذا الذي مثل به فيما (1) يؤدي إلى الاختلاف في الثمن الصحيح. لكن قوله:
في اختلافهما في شرط الخيار، ووقوع البيع بتلا، مما يفتقر إلى تحقيق، وهو
النظر فيما يختاره مدعي الخيار، هل الإمضاء؟ فيوافق دعوى من يدعي البتل،
فلا يفتقر إلى يمين، أو يختار رد البيع، فيختلف هل يكون القول قولَه، أو
قولَ من يدعي البتل، على ما يدعي. سيبسط الكلام فيه في موضعه إن شاء الله
تعالى.
واعلم أن اختلاف المتبايعين في الأجل، لا يخلو من ثلاثة أقسام:
أحدها: أن يتفقا على أن البيع وقع إلى أجل محدود، واختلف في هذا الأجل، هل
تقضّى أم لا؟ و (2) يختلفان في مقدار الأجل، هل شهر أو شهران؟ أو يختلفان
في نَفيه أصلًا، أو ثبوته، فيقول البائع: بعت على أن آخذ الثمن حالًا.
ويقول المشتري: بل إلى شهر.
فأمّا القسم الأول، وهو اتفاقهما على مدة الأجل واختلافهما هل تقضّى أم لا؛
فإن القول فيه قول من أنكر تقضّيَه؛ لأنا نعلم أن هذا الاختلاف بينهما يرجع
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: مما.
(2) هكذا، ولعل الصواب: أو.
(2/75)
إلى الاختلاف في زمن العقد متى كان؟ ولو
اتفقا على زمن العقد؛ لأنكرت العقول عليهما اختلافهما في تقضيه؛ فإذا قال
البائع: وقع العقد في أول يوم من شهر شعبان، والثمن يحل إلى شهرين. وقال
المشتري: بل إني أدفع إليك الثمن بعوإنقضاء شوال. مع موافقته له على أن
البيع انعقد إلى شهرين. عُلِم أنه كَذَب في قوله: إن الأجل لم ينقضِ إذا
استهل هلال شوال. وإن قال البائع: وقع العقد في أول شعبان والأجل شهران.
وقال المشتري: بل في أول رمضان والأجل شهران. كان القول قولَ المشتري؛ لأن
الأصل أن لا معاملة .. بينهما فيما مضى من غيرهما (1)، فهما باقيان على هذا
الأصل مستصحبان له، حتى يثبت أنهما تعاقدا هذا البيع في زمن معلوم، ببينة،
أو بإقرار، فيزول حكم استصحاب الحال.
وأما القسم الثاني، وهو أن يختلفا في مقدار الأجل مع اتفاقهما على ثبوته
واشتراطه في أصل العقد على الجملة؛ فإن هذا الحكمُ فيه كالحكم في الاختلاف
في الثمن، يجري فيه من الاختلاف ما قدمناه من الروايات عن مالك وأصحابه رضي
الله عنهم. فيتحالفان إذا كانت السلعة في يد البائع، وإن فاتت بالقبض جرى
ذلك على الاختلاف هل القبض فوت فيصدّق المشتري، كما روى ابن وهب في هذه
المسألة بعينها في اختلافهما في الثمن؛ ويراعى في الفوت مع القبض أن
يَبِينَ بالسلعة، أو يتغير سوقها أو ذاتها، على ما مضى بيانه، فيصدق
المشتري في مقدار الأجل مع حصول الفوت، على الاختلاف المذكور فيه، أن ادعى
ما يشبه. وهذا لم يختلف فيه المذهب، وكذلك مذهب الشافعي أجرى هذه المسألة
على حكم الاختلاف في الثمن.
وخالف في ذلك أبو حنيفة: أن التحالف والتفاسخ مختص بالاختلاف في الثمن،
وأما هذه الصفات الملحقة بالعقد التي لا تثبت فيه إلا باشتراط القول،
فالقول قول من نفاها لكون حقيقة البيع لغةً وشرعًا تحصل، وإن لم يشترط أجل
__________
(1) أي: الشهرين.
(2/76)
أو ضمين أو رهن، فمن ادعى تغير هذه الحقيقة
وإضافة شرط إليها لم يقبل قوله، وكان الأصل أن يصدق المشتري في مقدار
الثمن، على حسب ما كنا قدمناه. لكن ورد الخبر المتقدم ذكره وبيانه، فنقلنا
عن مقتضى هذا الأصل والقياس، فلا يبعد ما اقتضاه الخبر.
نجيب عن هذا بأن قوله عليه السلام: "إذا اختلف المتبايعان فالقول قول
البائع وللمبتاع الخيار" (1) يقتضي عمومه إجراء هذا الحكم في سائر
الاختلافات، على اختلاف أنواعها، إلا ما خصه دليل. وإن زعموا أن هذا اللفظ
مجمل لا يحتج به، قلنا: بل هو عموم. فإن قالوا: هو عموم من جهة المعنى لا
من جهة الصيغة؛ لأنه لم يقل: كل مختلفين في أمر أو في حكم، أو في شيء،
فيدعَى العموم في هذه اللفظة التي هي: أمر أو شيء أو حكم؛ ولكنه لما قال:
"إذا اختلف المتبايعان" ولم يذكر ما اختلفا فيه نصًّا ولا عمومًا، صار من
ناحية العموم في المعاني. قيل لهم: جماعةٌ من الفقهاء يقولون بالعموم في
المعنى كما يقولون به في الصيغ. فإن قالوا: مرور الزمن ليس بثمن ولا في
معنى الثمن، فلا يجب إلحاقه بالاختلاف في الثمن. قيل لهم: الصبر على
المشتري حتى ينقضي الأجل هو الذي له رخصة (2) من الثمن. فالاختلاف في الأجل
اختلاف في هذه الحصة، فجرى الحكم على الاختلاف في الثمن. وإن قالوا: لو
ادعى البائع شرط البراءة من العيوب حين العقد، لم يتحالفا، وكان البائع
مدعيًا؛ فكذلك الأجل، إذا ادعاه المشتري. فأما بعض أصحابنا فأشار إلى الفرق
أن الأصل في الشرع القيام بالعيوب، وهو من مقتضى العقد، فمن ادعى خلاف هذا
الأصل وخلاف مقتضى العقد، كان عليه الإثبات.
__________
(1) لم أجد إلا الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة لفظ ابن
ماجة: إذا اختلف البيعان، وليس بينهما بينة والبيع قائم بعينه، فالقول كما
قال البائع، أو يترادان البيع ابن ماجة ج 2 ص 737 ح 2186. وأخرجه الحاكم ج
2 ص 45. وانظر تهذيب ابن القيم ج 5 ص 163 وروي بمعناه عند الإِمام أحمد ج
15 ص 66.
(2) هكذا، ولعل الصواب: حِصّة.
(2/77)
وبعض أصحاب الشافعي يرى أن دعوى الشرط
بالبراءة من العيوب الباطنة في الحيوان التي يجوز اشتراط البراءة منهلالو
اختلفا فيه لتحالفا كما يتحالفان في الاختلاف في الأجل.
وأما القسم الثالث، وهو دعوى البائع انعقاد البيع على كون الثمن حالًا،
ودعوى المشتري أنه إلى شهر. فإنه ذكر في تضمين الصناع من المدونة أنهما
يتحالفان مع قيام السلعة؛ وإن فاتت صدق البائع في دعواه الحلول. وفي رواية
غير يحيى تصديق المشتري مع الفوت. وذكر في كتاب الوكالات وكتاب الرهن من
المدونة تصديق المشتري مع الفوت، إذا ادعى حدًا قريبًا لا يتهم فيه.
وهكذا قال ابن القاسم في كتاب الرهن: إنه يقبل قول البائع في دعوى الحلول.
وقد قدمنا لك اختلاف المذهب في مراعاة دعوى الشبه إذا اختلفا في الثمن،
والسلعة قائمة. وأما مع الفوت فيراعى دعوى الشبه، فكأن من صدق البائع في
الحلول رأى أن من ادعى الحلول هو الذي ادعى ما يشبه فيصدّق، ومن لم يصدق
رأى أن البيع يكون حالأوإلى أجل فيجري الأمر فيه على الاختلاف في الثمن مع
فوت السلعة.
والجواب عن السؤال الخامس أن يقال:
قد قدمنا أن اشتراط تعيين المكان الذي يقبض فيه السلم ليس بشرط في صحة عقد
السلم. فإن اتفق المتبايعان على أنه اشترط في العقد القبض في بلد بعينه،
فإنه يقضى على من عليه السلم بتسليمه في البلد الذي وقع فيه (1) العقد، على
ما قدمنا بيانه. وإن اتفقا على أن العقد وقع على شرط تعيين بلد، واختلفا في
البلد المشترط، فلا يخلو أن يدعي أحدهما اشتراط البلد الذي وقع فيه العقد،
أو يدعي كل واحد منهما اشتراط بلد غير البلد الذي وقع فيه العقد. وإن ادعى
أحدهما اشتراط البلد الذي وقع فيه العقد، وكان ذلك بقرب زمن العقد، تحالفا
وتفاسخا؛ لأن (الاختلاف في مقدار الأجل) (2) على حسب ما بيناه.
__________
(1) هكذا، ولعل الصواب: عليه.
(2) هكذا في النسختين؛ ولعل المعنى: (كالاختلاف ...).
(2/78)
ويجري في ذلك من الخلاف جميع ما قدمناه في
أنواع الفوت، ومراعاة دعوى الشبه مع عدم الفوت؛ والاختلاف في ذلك لأجل أن
مدعي موضع العقد ادعى ما يشبه، فإن وقع الفوت بطول الزمن، على المذهب
المشهور المذكور في المدونة، صُدّق من ادعى موضع العقد، إن كان هو المسلم
إليه، من غير خلاف عندنا. وإن كان مدعى موضع العقد المسلم، ففيه قولان: ففي
المدونة أنه يصدَّق. وذهبَ سحنون إلى أنه إنما يصدق الغارم، وهو الذي عليه
السلم، وإن كان مدعيًا لغير بلد العقد.
وسبب هذا الاختلاف في هذا الوجه دون ما قبله، أنه إذا ادعى المسلم إليه
موضع العقد، وهو الغارم، فقد قوي جانبه من وجهين: أحدهما: كونه غارمًا،
والغارم هو المدعى عليه. والثاني: كونه ادعى ما يشبه، ودعوى ما يشبه توجب
تصديق من ادعاه ها هنا. فصار له ترجيحان، حتى إذا كان مدعي بلد العقد
المسلمَ افترق هذان الترجيحان، فترجح جنبة المسلم إليه بكونه غارمًا،
وتترجح جنبة المسلم بكونه ادعى ما يشبه وهو موضع العقد، فحسن ها هنا
الخلاف؛ فرجح في المدونة المسلم لأجل انفراده بدعوى الشبه، ورجح سحنون
المسلم إليه بكونه غارمًا.
وإن ادعى كل واحد منهما انعقاد السلم على القبض ببلد غير بلد العقد فإن
المشهور من المذهب أن القول قول الغارم إذا ادعيا جميعًا من البلاد ما يشبه
أن يُشترط قبض المسلم فيه.
وذهب أبو الفرج في الحاوي إلى أنهما يتحالفان ويتفاسخان.
فمن ذهب إلى أن القول قول الغارم رجح جانبه بكونه غارمًا، ومع الفوت يصدق
الغارم. وأما أبو الفرج فيمكن، عندي، أن يكون ذهب في هذا إلى طريقة أشهب،
وهي التحالف والتفاسخ مع فوت المبيع، وهذا إذا ادعى كل واحد منهما بلدًا
يشبه أن يشترط قبض السلم فيه، فإنهما يتحالفان ويتفاسخان.
ولا يمكن أن يقال ها هنا ما قلناه في اختلافهما في مقدار المكيلة المسلم
فيها، إذا ادعيا جميعًا ما لا يشبه فيها: إنهما يحملان على الوسط من سلم
الناس،
(2/79)
على أحد القولين، كما قدمنا ذكر هذا،
وذكْرَ الخلاف فيه لأجل أن البلاد كثيرةٌ، وكلُ بلد منها حكمه في نفسه يشبه
اشتراط قبض المسلم فيه، كحكم بلد آخر في محاذاته، أو قريبًا منه. والمكيلة
مقدار الأسعار فيها معلوم، فإذا رُدَّ إلى الوسط من أسعارها حُملا على أمر
معلوم. وقد تقدم بيان هذا. وقد قيل في الآجال: إذا تداعيا فيها ما لا يشبه،
كما قيل في اختلاف الأمكنة التي لا يشبه القبض فيهالأولكن المعروف في
اختلافهما في الأجل أن يحملا على الوسط من الأجل، لكون الأثمان يستدل بها
من جهة الأسعار على مقدار الأجل، ويعرف الوسط منها.
ولو اتفقا على أنهما اشترطا بلدًا معينًا، وتراضيا عند حلول الأجل على قبض
الطعام ببلد آخر تلاقيا به، فإن اشترط قابض الطعام أن يأخذ مع المكيلة التي
له على الذي عليه السلم زيادةَ دراهم أو عرض، فإن ذلك لا يجوز، لكونه بيعَ
الطعام قبل قبضه لما باع المكيلة التي له في الذمة بمثلها وزيادة دراهم، أو
عرض عليها، مع التفاضل بين الطعامين، مع تقدير النساء في بيع هذين
الطعامين، وهو مسافة ما بين البلدين. وإن تراضيا على المكيلة مجردة من
زيادة عليها، فإن ابن المواز وابن حبيب ذكرا إجازة ذلك. وذكر أبو القاسم بن
الكاتب أن الأشبه أنه لا يجوز، لكون اختلاف مسافة البلدين، وأسعارهما
كزيادة مقبوضة مع الطعام الذي أخذ ببلد غير البلد الذي تعاقدا على القبض
فيه، فلهذا امتنع في اشتراط قرض الطعام أن يدفعه مسلفه في غير البلد الذي
قبضه فيه، لما تقرر من كون العمل في المسافة التي بين البلدين كزيادة
مشترطة في السلف.
وإن لم يحل الأجل فلا يجوز التراضي بأخذ ذلك ببلد آخر، لكون التهمة ها هنا
في حصول الزيادة متأكدة لكون الأجل لم يحل، ولم يلزم المسلم إليه أن يدفع
السلم، فكأنه إنما يطوع لأجل حمل مؤونة المسافة. وذكر بعض الأشياخ أنه لا
فرق بين حلول الأجل وكونه قد حل، وقد نبهنا على الفرق بتأكد التهمة إذا لم
يحل الأجل، وضعفها إذا حل.
(2/80)
ومما يلحق بالكلام على اختلاف المتبايعين
في مكان القبض اختلافهما في جنس المكيلة. فقد ذكر ابن حبيب أنهما إذا اتفقا
على أن العقد وقع على مائة قفيز قمحًالأولم يشترط كل واحد منهما عيار بلد
بعينه، إنهما يحملان على المكيلة التي يُكتال بها بالبلد الذي وقع العقد
به. وإن قال المسلم: بل شرطت مكيلة بلدي، وقال المسلم إليه: بل مكيلة بلدي.
فإن القول قول الغارم وهو الذي عليه السلم، وهذا لأجل أن هذا، الاختلاف
يفضي بهما إلى اختلاف في مقدار المسلم فيه، هل هو مائة قفيز أو تسعون
قفيزًا. وقد قدمنا أن القول قول الذي عليه السلم إذا وقع الاختلاف بعد زمن
العقد. وكان بعض أشياخي يرى حملها على مكيلة البلد الذي اشترط قبض الطعام
فيه، وهذا لأجل أنه يراه مقتضى العرف والعادة، وبالجملة فالمسألة راجعة إلى
ما بسطنا القول فيه في اختلافهما في مقدار المسلم فيه.
والجواب عن السؤال السادس أن يقال:
اختلاف المتبايعين في التسليم على وجهين:
أحدهما: أن يختلفا من الذي يبدأ بتسليم ما عنده.
والثاني: أن يختلفا: هل وقع التسليم أو لم يقع.
فأمّا الوجه الأول، وهو تشاحهما فيمن يبدأ بالتسليم فإن هذه المسألة لا
أعرف فيها نصًّا جليًّا لمالك ولا لمن تقدم من أصحابه.
لكن أبا حنيفة ذهب إلى أن المشتري يُجبر أن يبدأ بتسليم الثمن، فبعد تسليمه
إياه يستحق قبض السلعة المبيعة.
وذهب الشافعي في الأظهر من كلامه إلى أن البائع يجبر على أن يبدأ بتسليم
السلعة، فإذا أسلمها استحق قبض الثمن .. ومن أصحاب الشافعي من يضيف إليه
قولين آخرين: أحدهما أنه لا يرى جبر هذا ولا هذالأولكن يُعرِض الحاكم عن
النظر بينهما، كأنهما لم يتبايعا، ويمنعهما من التشاجر والتخاصم.
(2/81)
حتى إذا تطوع أحدهما بأن يبدأ بالتسليم
وسلّم ما عنده قضى على الآخر بتسليم ما عنده.
والثاني: أن الحاكم يقبض الثمن والمثمون، ثم يسلم لكل واحد منهما ما
يستحقه، ولا يبالي بمن يبدأ به منهما. وأبو حامد الإسفراييني تردد في هذا
النقل: هل ثبتت عن الشافعي هذه الثلاثة مذاهب أو لا يثبت عنه إلا البداية
بجبر البائع على التسليم؟ وتردد في هذا الاحتمال كلام الشافعي. فقد صار
الخلاف بين هذين الإمامين هل يبدأ بالمشتري ويجبر على التسليم كما قاله أبو
حنيفة، أو يبدأ بالبائع فيجبر على التسليم كما قال الشافعي في المذهب الذي
اتُّفق على إضافته إليه؟ وأما مذهبنا نحن فإن ابن القصار قال: الذي يقْوَى
في نفسي جبر المشتري على البداية بتسليم الثمن أو إعراض الحاكم عنهما، كما
قال الشافعي في أحد أقواله، ومال إلى أن البداية بجبر المشتري، كما قاله
أبو حنيفة أقوى.
وأما شيخنا أبو محمَّد عبد الحميد رحمه الله، فإنه كان يرى أن المذهب عندنا
على قولين:
أحدهما: البداية بجبر المشتري على التسليم، كما قاله أبو حنيفة.
ويخرج هذا من كون الزوج مجبورًا عندنا على دفع الصداق قبل أن تمكنه المرأة
من نفسها، وهو المشتري لمنافع البضع. ويخرج ما قاله الشافعي من البداية
بجبر البائع على التسليم، من قوله في المدونة: إذا اختلف المكتري وصاحب
الدابة في تعجيل الكراء وتأخيره ولم يكن بينهما شرط ولا عادة، فإنه يقضى
على المكتري أن يدفع لصاحب الدابة بقدر ما سار. وهذا يقتضي البداية بالبائع
في دفع السلعة، قبل أن يقبض الثمن الذي هو الكراء.
ونازع في هذا شيخنا أبو الحسن اللخمي فقال: إن المكتري ها هنا إنما لم يلزم
بتعجيل الكراء قبل أن يركب، لأجل أنه لا يمكن أن يقسط الكراء على كل خطوة،
لما في ذلك من الحرج والجهل بحقيقة التقسيط وأقل ما يقسط
(2/82)
الكراء على يوم يوم، يلزم المكتري أن يدفع
نقدًا عند طلوع الشمس ويتأخر قبض العوض عنه إلى آخر النهار. بخلاف إذا كان
العقد على سلعة معينة يمكن تسليمها، وقبض الثمن بعد تسليمها في الحال، من
غير تراخ، فإنا إذا أجبرنا المشتري على البداية بالنقد، على مذهب من ذهب
إلى هذا، لم يكن في ذلك ضرر ولا إسقاط للمساواة بين البائع والمبتاع. بخلاف
جبر المكتري على دفع كراءٍ وعوضُه يتأخر قبضه.
وهذا هو مدافعة لشيخنا أبي محمَّد عن استقرائه (1)، فيه نظر. ولشيخنا أن
يقول: إذا جعلت في هذه المسألة خصوصًا دون غيرها من عقود البياعات، لأجل أن
المشتري إذا أجبرناه على الوزن تأخر قبض عوض ما يوزن، وهذا لا سبيل إليه،
فهلا عكستم هذا؟ وقيل أيضًا: لا يلزم ربَّ الدابة أن يقطع بالمكتري مسافة
يوم، وما قطعه في أول النهار يتأخر قصد عوضه، فهذا التعليل - لما وقع في
المدونة، ينقلب كما بيناه، وإذا انقلب عدل عنه إلى أن العلة في هذا كون
البائع يبدأ بالتسليم في هذا وفي غيره، لأجل العلل التي نذكرها في توجيه
هذا المذهب. ويذكر هذا أنه قد تقرر أن من باع سلعة بثمن إلى أجل فإنه ليس
له حبس السلعة حتى يحِلَّ الأجل ويَقبض الثمن؛ لأنه لم يدخل على ذلك، لأجل
(2) ما رضي به من التأجيل وقد أخذ عوض الصبر، فالثمن فيه زيادة على بيع
النقود، فكذلك ها هنا المكتري قد علم أن ما اشتراه من المنافع لا يقبض دفعة
واحدة بل يقبض شيئًا فشيئًا، فليس من حقه قبض الكراء حتى يفرغ آجال المشتري
من المنافع. وهذا يولد ضعف الاعتماد على ما أشار إليه شيخنا أبو الحسن من
الفرق لما أريناك من كون النظر يقتضي البداية بتقديم المشتري في دفع الكراء
قياسًا على بيع سلعة بثمن إلى أجل، فإن المؤجل يتأخر والمنقود يبدأ
بتسليمه.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: وَفيه نظر.
(2) هكذا في النسختين.
(2/83)
وقد أشار أبو الحسن المعروف باللخمي إلى
طريقة أخرى فقال: إن المحتبسة بالثمن، إنما وقع الخلاف في ضمان البائع لها،
وأن المبيع مما لا يغاب عليه، كعبد أو دابة، لأجل أن البيع يختلف فيه، هل
هو مجرد العقد، أو البيعُ التقابضُ بعد العقد؛ فإن قلنا: إن البيع مجرد
العقد كان الضمان من المشتري، لكونه (لم يقبض) (1). وإن قلنا: إنه التقابض
لم يضمن المشتري ما احتبسه البائع من الثمن، لكونه لم يقبضه. فمتى قلنا: إن
البيع هو مجرد العقد جبر البائع على تسليم السلعة، لحصول حقيقة البيع فيها،
ثم يجبر المشتري على إخراج الثمن الذي وقع العقد عليه في ذمته. وإن قلنا:
إن العقد هو التقابض حسن في ذلك ما قدمناه من الاختلاف بمن يبدأ بالتسليم،
ويرى أن المتبايعين لا مزية لأحدهما على الآخر، وإذا لم يترجح أحدهما على
الآخر ولم يكن له عليه مزية لم يتقدم أحدهما على صاحبه، ويؤمران بأن يخرج
المشتري الثمن العين من ذمته فينقد ويوزن، ثم يمد يده به إلى البائع، ويمد
البائع سلعته ويتقابضان معًا.
وهذا الذي ذكره هو النظر الصحيح إذا لم يكن لأحدهما على الآخر مزية ولا
ترجيح، لكن يبعد تصور ذلك وخروجه إلى الوجود؛ لأنهما إذا تلاقت أيديهما فقد
لا تمكن المساواة في التقابض في أضيق زمن، وقد يقول أحدهما: أزل يدك عن
ثوبك قبل أن أزيل يدي عن كيسي. ويقول الآخر: بل أنت تزيل يدك عن كيسك قبلُ.
وتصوّر تقابضهما معًا من غير سبق بحركة من الحركات في التسليم يبعد. ولكن
إذا بعُد هذا ولم يتصور، وثبت الأمر به لأحدهما على الآخر، كانت القرعة
أَوْلى، كما قدمناه في اقتراع المختلفين في اليمين: من يبدأ منهما؟ ولكنه
مع هذا قال: ولو كان المبيع عقارًا فأخلاه من شواغله بائعه، ورفع يده عنه،
لكان برفع يده يستحق قبض الثمن.
وهذا أيضًا فيه نظر؛ لأن رفع يده عنه تمكينَ المشتري من قبضه، فإن
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: عقد.
(2/84)
لم يمكنه فإنه لم يرفع يده، وإن مكّنه فقد
برأ (1) بالتسليم، وهو غاية المقدور عليه في تسليم العقار وما لا ينتقل.
واختار أنه لو كان التعاقد على سلعة بسلعة لم يكن بدّ من تقابضهما معًا، إذ
لا مزية لأحدهما على الآخر.
وقد أشار أبو حامد الإسفراييني إلى هذا الذي أشار إليه شيخنا من التفرقة
بين أن يكون بيع السلعة بعين أو بسلعة أخرى، فقال: إذا كان المبيع سلعة
بسلعة فإنه لا يتصور فيه ما حكيناه عن الشافعي من البداية بالبائع؛ لأن كل
واحد من هذين بائع، لكن إنما يتصور فيه القولان الآخران، وهما إعراض الحاكم
عن النظر ليهما، أو قبض العوضين منهما، على حسب ما بيناه من مذهب الشافعي.
واعلم أن مدار الخلاف في هذه المسألة على اعتبار ترجيح أحد المتبايعين على
الآخر، فإن لم يكن ترجيح فليس إلا التقابض معًا كما قاله شيخنا أبو الحسن
إن أمكن ذلك، على بعد إمكانه، أو القرعة بينهما.
وإن ترجّح أحدهما على الآخر قضي له على الآخر، فمن ذهب إلى ترجيح جنبة
البائع وقضى له على المشتري بأن يبدأ المشتري بالدفع إليه يقول بأن البائع
يقول: من حقنا أن تساويَ بيننا، وسلعتي المبيعة قد تعينت، وها أنا أسلمها،
وما في الذمة من الثمن لم يتعين، وإن عينه في يده فله إبداله فلا يتعين إلا
بتسليمه إليّ.
وهذا يقتضي ما ذهب إليه أبو حنيفة من البداية بالمشتري في التسليم.
ومن رجّح جنبة المشتري جبر البائع على التسليم أوَّلًا، ويقول: إن المشتري
يزعم أن السلعة التي اشترى قد ملكها، وتعين حقه في عَينٍ معينة، وحق البائع
عليه شيء في الذمة لم يتعين، فلا يؤخر عنه قبض ما تعين حقه فيه، فإذا لم
يؤخر عنه قبض ما تعين حقه، وجب أن يبدَّأ بالبائع، ويقضَى على
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بَرِئَ.
(2/85)
المشتري بالثمن الذي لم يتعين حين العقد.
وأما من ذهب إلى إعراض الحاكم عنهما، فإنه يرى أنه لما لم يترجح جانب
أحدهما على الآخر لم يصح القضاء لهذا على هذا، فأبقاهما على المشاركة،
ومنعهما من المشاجرة، كما لو ادعى رجل على آخر بدين فنكل المدعَى عليه عن
اليمين، وردها على المدعي فنكل، فإنهما يتشاركان، ويمنعهما الحاكم من
المشاجرة والخصام (1).
وعلى هذا الأسلوب جرى من ذهب إلى قبض الحاكم منهما الأعواض، ثم تولّي الدفع
أوَّلًا لمن شاء منهما، لكون أحدهما لا مزية له على الآخر.
فصرف الخيار إلى الحاكم بعد قبضه ما في أيديهما جميعًا حتى يتساويا في
الدفع إليه، ثم يخير هو فيمن يبدأ به.
هذا بيان اختلافهما فيمن يبدأ بالتسليم منهما.
وأما لو اختلفا: هل وقع التسليم والقبض أو لم يقعا، فإنه لا يخلو من قسمين:
أحدهما: أن ينكر المشتري تسليم البائع السلعة المبيعة إليه؛ أو ينكر البائع
قبض ثمن ما باعه.
فأما إن أنكر المشتري قبض السلعة المبيعة، فإن القول قوله، إذا لم يقع
إشهاد بينهما على كون الثمن في ذمة المشتري؛ لأن على البائع التمكين من
المبيع وتسليمه لمشتريه. والأصل كونه غيرَ فاعل لهذا، فإذا زعم أنه قد فعله
فعليه إثباتٌ. وأما إن وقع الإشهاد على المشتري بالثمن، فإن في ذلك قولين:
المشهور منهما أن البائع مصدق في دفع السلعة. وذهب محمَّد بن عبد الحكم إلى
أن البائع لا يصدق في دفع السلعة. وهو ظاهر مذهب ابن أبي ليلى.
وهذا الذي قاله محمَّد بن عبد الحكم هو طرف التعليل الذي قدمناه؛ لأنا
ذكرنا أن على البائع التمكينَ من المبيع والتسليم له. وإن ادعى أنه فعله
فعليه
__________
(1) هذ ابن اء على عدم مراعاة: مقابلة النكول بالنكول تصديق للناكل الأول.
(2/86)
إثبات ذلك. وهذا التعليل جار في كون
المشتري قد أُشهد عليه الثمنُ، على حسب ما هو جار في (1) إذا لم يشهد عليه
بالثمن.
ومن ذهب إلى تصديق البائع يعتلُّ بأن الظاهر في العادة أن المشتري لا
يسامِح بالإشهاد على عمارة ذمته بالثمن، وكونه مطلوبًا به، إلا وقد قبض
السلعة التي هي عوض ما أشهد به على نفسه. فأصحاب هذا المذهب إنما انتقلوا
على هذا الأصل الذي قررناه لأجل اعتقادهم كون العادة ما ذكرناه، ولم تثبت
عند الآخرين هذه العادة، فأبقوا الحكم على الأصل الذي قدمناه. وإذا قرر
هؤلاء أن التسليم يصدَّق فيه البائع ها هنا، إذا وقع الإشهاد على المشتري
بالثمن، لدلالة العادة على صدقه، فإن في المستخرجة تصديقَه في ذلك، ويحلف
على أنه سلم السلعة، إذا كان هذا التنازع بفور البيع. وأما إن أخر المشتري
طلب السلعة حتى طال، أو حلّ أجل الثمن، فإنه لا يمين على البائع، وقدّر أن
المشتري إذا لم يطلب السلعة المبيعة، إلا بعد طول زمن وقت (2) العقد، فإنه
تبين كذبه في أنه لم يقبضها واتضحت العادة الدالة على كذبه فوق اتضاحها إذا
أشهد على نفسه بالثمن وطلب السلعة بفور البيع.
وهكذا ذكر ابن حبيب عن مالك وأصحابه في إشهاد البائع على نفسه بقبض الثمن،
ثم عاد يطلبه، واعتذر عن الإشهاد على نفسه بقبض الثمن؛ لأنه وثق بالمشتري
أنه لا يمنعه إياه ولا يجحده، أنه لا يمين على المشتري لكون البائع ادعى ما
أكذبته فيه البينة التي شهدت على إقراره بقبض الثمن. لكن ابن حبيب رأى
اليمين على المشتري إذا ظهر سبب أو تهمة، وإن كان البائع قد أشهد على نفسه
بقبض الثمن، لإمكان صحة ما اعتذر به عن ثقته بالمشتري مع وجود سبب أو تهمة
تؤكد صحة اعتذاره. وفي الموازية وإلزام المشتري اليمين على دعوة البائع؛
وكأنه قدر اعتذاره يشبه ويليق.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فيما.
(2) هكذا في النسختين، والمعنى: طول زمن من وقت ...
(2/87)
هذا حكم إنكار المشتري قبض السلعة المبيعة.
وأما إنكار البائع قبض الثمن، فإن الأصل في هذا المعتمد عليه ما كنا أشرنا
إليه من استصحاب الحال، وكون ذمة المشتري عامرة بدين وهو الثمن، والأصل أنه
لم يدفعه، ولا خلت ذمته منه، فإن ادعى أنه قد دفعه فعليه إثبات ذلك. لكن
أيضًا اتفق المذهب ها هنا على اعتبار حكم العادة، فصدق المشتري فيما العادة
التبايع فيه بالنقد في الأسواق، كالخبز والزيت والبقل، وغير ذلك مما يباع
على النقد. فإذا تسلم المشتري المبيع، وبأن به، صدق في دفع الثمن بشهادة
العادة له بصدقه، وأنه لا يمكّنه البائع من فراقه بعد القبض للمبيع إلا وقد
دفع إليه الثمن. وهذا لم يختلف فيه المذهب لاتضاح العادة الدالة عليه.
لكن اختلف ابن أبي زمنين ويحيى بن عمر في هذا الجنس الذي يباع فيه قليله
بالنقد، لو اشترى منه الكثير هل يصدق المشتري في دفع الثمن، كما صدق في
القليل أم لا؟ فذهب ابن أبي زمنين إلى تصديقه. وذهب يبيح ابن عمر إلى أنه
لا يصدق.
وهذا منهما اختلاف في شهادة بعادة فلو اتضحت العادة، بأن الكثير من الخبز
والزيت والبقل لا يباع إلا بالنقد، كما يباع القليل من ذلك، لما اختلفا
فيه.
وأمّا ما سوى هذا مما يباع على غير النقد، فإن القول قول البائع أنه لم
يقبض الثمن، لما قدمناه من كون ذمة المشتري عامرة بالثمن، ولا بينة له على
البراءة، ولا عادة تشهد وتصدقه، فوجب مطالبته بإثبات ما ادعاه من البراءة
من الثمن المتقرر في ذمته، وهذا ما لم يطل الزمن بعد العقد طولًا تشهد
العادة بكذب البائع في أنه لم يقبض الثمن، فيصدق حينئذ المشتري لشهادة
العادة له.
والتحقيق أن هذا الطول غير محدود ولا مقدر إلا بحسب ما تجري به العادة في
سائر الجهات، ومن اختلاف أجناس التجارات. وإن كان ابن حبيب ذكر عن مالك أن
الحيوان والعقار بخلاف البَزّ وغيره مما يباع على التقاضي.
(2/88)
فرأى أن العام والعامين في الحيوان والرقيق
طول يشهد بصدق المشتري في دفع الثمن. وذكر عن ابن القاسم أنه ساوى بين
العقار والحيوان والبز، ورأى أن البائع مصدق في أنه لم يقبض الثمن وإن طال
الزمان، إلا أن يطول طولًا كثيرًا لا يجوز البيع إليه، فإنه لا يصدق البائع
حينئذ. وهذا كله مداره على ما قدمناه من اعتبار العوائد فلا معنى للرجوع
إلى هذه الروايات فيه إذا كانت العادة في بعض البلاد بخلاف مقتضى هذه
الروايات لأنها مبنية على شهادة بعادة وهذا واضح.
والجواب عن السؤال السابع أن يقال: لها (1) اختلاف المتبايعين في الأحكام
بأن يدعي أحد المتبايعين صحة العقد، ويدير الآخر فساده. فإنه ذكر في
المدونة أن القول قول مدعي الصحة على الإطلاق. ولم يفرق بين كون هذا
الاختلاف يتضمن اختلافًا في الثمن أوْ لا يتضمنه، بل ذكر، في اختلافهما في
السلم هل ضربا له أجلًا أم لا؟ وهل تأخر قبض رأس المال أو تقدم بشرط أم لا؟
أن القول قول مدعي الصحة.
وحمل الأشياخ ما وقع في المدونة على أن هذا الاختلاف لم يتضمن اختلافًا في
الثمن، وإنما وقع بينهما اختلاف في صحة العقد أو فساده خاصة، مثل أن يقول
أحدهما: عقدنا البيع يوم الجمعة والإمام يخطب، أو ما في معنى ذلك مما لا
ينصرف الاختلاف فيه إلى الثمن.
ونوقضوا في هذا بأنه ذكر في المدونة أن القول قول مدعي الصحة وإن اختلفا:
هل تأخر رأس مال السلم بشرط أو لا؛ وهذا يتضمن كونهما مختلفين في الثمن لأن
اشتراط تأخير رأس المال يخالف اشتراط انتقاده في مقدار الثمن.
وأجاب بعضهم عن هذا بأن هذه المسألة تحمل على أن اختلافهما في هذا وقع بعد
أن فاتت السلعة، ونحن إنما قلنا أن القول قول مدعي الصحة لأنه ادعى
__________
(1) كذا في النسختين. ولا معنى لكلمة: لها. في هذا الموضع.
(2/89)
الأشبه؛ لأن الغالب في بياعات المسلمين
الصحة، ومن ادعى الأشبه من المتبايعين صدّق مع فوت السلعة من غير خلاف، كما
قدمناه قبل هذا في موضعه.
وإنما اختلف المذهب في تصديق مدعي الأشبه مع قيام السلعة، فالأكثر على أنه
لا يصدق، بل يتحالفان ويتفاسخان. وقال عبد الملك بن الماجشون: بل يصدق من
ادعى الأشبه. واختلف هذان (1) هل اشترطا في عقد السلم تأخير رأس المال أو
لم يشترطاه، وإنما وقع عند حلول الأجل، وحلول الأجل في المسلم جرى مجرى
الفوت في السلع المعينة، كما قدمناه. وأما لو كان اختلافهما في هذا في فور
عقد السلم لتحالفا وتفاسخا، على حسب ما قدمناه من إيجاب التحالف والتفاسخ
مع قيام السلعة عند من لا يراعي الأشبه. وأمّا من يراعيه فسواء عنده قيام
السلعة وفوتها.
وهذا الذي ذكروه هو مقتضى أصل المذهب في الاختلاف في الثمن تصريحًا أو
ضمنًا، على حسب ما قدمناه في موضعه، ونبهنا عليه من كون مراعاة دعوى الأشبه
تجب مع فوت السلعة من غير خلاف. واختلف فيها مع قيام السلعة.
وإذا اتضح أن العلة في تصديق مدعي الصحة كونه ادعى الأشبه، لأجل أن
البياعات الصحيحة هي الغالب في بياعات المسلمين فقد كان شيخنا رحمه الله
يذهب في هذا إلى أن بعض أجناس البياعات لو غلب على المتعاملين فيها الفساد
لصدق مدعيه. ونستشهد على هذا بأنه قد صدق الزوجة، إذا أرخى الزوج عليها
الستر، أنه وطئهالأولو كان ذلك في نهار رمضان الذي لا يحل الوطء فيه، لمّا
كان الغالب كون الستر لا يرخى على الزوجة إلا وهو مبادر إليها وإلى جماعها.
وهكذا قيل في المغارسة إذا غلب على أهلها التعاقد على الفساد أنه
__________
(1) هكذا؟
(2/90)
يصدق من ادعاه. وهذا الذي قاله صحيح على
مقتضى أصل المذهب الذي قررناه مرارًا من الاستشهاد بالعوائد. وقد نص ابن
المواز على أنهما إذا اختلفا في الصحة والفساد، وفي مقدار الثمن، أنهما
يتحالفان ويتفاسخان. وهذا هو الذي قدمناه عن المشهور من المذهب أنه لا
يراعي دعوى الأشبه في الاختلاف في الثمن مع قيام السلعة، فأجراهما ابن
المواز ها هنا على حكم الاختلاف في مقدار الثمن خاصة، مع اتفاقهما على صحة
العقد، مع كون دعوى الأشبه لا تعتبر كما بيناه.
وقد وقع بين الأشياخ تنازع في هذا الذي قاله ابن المواز، فبعضهم رأى أنه
مذهب صحيح، وهو البخاري على أصل المذهب، وهو الذي يدل على صحة عموم الحديث،
وهو قوله عليه السلام: "إذا اختلف المتبايعان فالقول قول البائع" الحديث
الذي تقدم ذكره مرارًا. ولم يفرق في هذا الحديث بين كون أحدهما ادعى مع هذا
صحة أو فسادًا بل ذكر البداية بالبائع عمومًا. وخالفه غيره في هذا، ورأى أن
أصول الشرع تقتضي الطرد عن الأيمان عند التخاصم والتحاكم، ما أمكن، لئلا
يكون من ألزمناه اليمين كاذبًا، فيحمله على الإثم.
فإذا كان البائع المخالف من الثمن هو مدعي الفساد وجب أن يبدأ به، أخذًا
بعموم الحديث. فإن حلف استحلف المشتري وانفسخ البيع بتحالفهما، وإن بدّأ
بالبائع المدعي للفساد، على ظاهر الحديث، فنكل، حلف المشتري وصح البيع
بالثمن الذي ذكر، ولم يفسخ. وإن نكلا جميعًا فسخ البيع على حسب ما قدمناه
في بيان حكم تناكلهما جميعًا.
وأمّا إذا كان البائع هو مدعي الصحة والمشتري هو مدعي الفساد، فإنا نبدأ ها
هنا بالمشتري لأنه إن حلف فسخ البيع بمجرد يمينه من غير مطالبة للبائع
باليمين؛ لأنه لو طلبناه بها فحلف فلم يفده إلا فسخ البيع، وفسخ البيع قد
ثبت بيمين المشتري عليه، فلا يحسن إذا حلف المشتري المدعي للفساد أن يطالب
البائع بيمين لا تفيد شيئًا، ويدعى إلى ما هو لغو غير مفيد، وقد يكون فيه
آثمًا إن كان كاذبًا. فلما تصور ها هنا أن البداية بمدعى الفساد، بائعًا
كان أو مشتريًا،
(2/91)
يقتضي ألا يحلف سواه، إذا كان ذلك أولى من
البداية بيمين من ادعى، استحلفنا غيره. وهذا الذي نصره الشيخ أبو إسحاق.
ورأى غيره أن الأولى البداية بمدعي الصحة؛ لأنه قد ينكل عن اليمين فلا
يحلف، فينفسخ البيع، حلف مدعي الفساد أو نكل، فيكون نكول مدعي الصحة
مقتضيًا إسقاط اليمين عن الآخر، يحصل من هذا تقليل الأيمان كما قدمناه.
ولكن قدرها الشيخ أبو إسحاق من جهة وقوع اليمين مِمَنْ بدأنا به. وقدرها
غيره بنكول من بدأنا به، فحصل التقليل من الأيمان، ولكن هل بيمين أحدهما أو
بنكوله؟ هذا الذي وقع فيه التنازع.
فصل ألحقناه لأجل ما توخيناه من الجري على ترتيب المدونة، وهو الكلام على
الوكالة على السلم. ثم الكلام على تعدي الوكيل. وكانت الرتبة تقتضي تأخير
هذا الكلام إلى كتاب الوكالات حق ذكرنا عذرنا في تقدمته ها هنا. والكلام في
الوكالات على السلم يشتمل على ستة أسئلة منها أن يقال:
1) من المطلوب برأس مال السلم: الوكيل أم الموكل؟
2) وهل يصح عقد السلم على كون الثمن مترددًا بين ذمة الوكيل والموكل؟
3) وهل يجوز توكيل من ليس بمسلم؟
4) وهل يباح للوكيل أن يسلم لنفسه أو لمن يتهم فيه؟
5) وهل يتقيد مطلق الوكالة بالعادة؟
6) وهل للوكيل أن يوكل غيره؟
فالجواب عن السؤال الأول أن يقال: الوكالة على السلم جائزة، كما تجوز في
سائر عقود المعاوضات ثم لا يخلو الوكيل من أن يصرح بأنه وكيل على العقد
خاصة والثمن مطلوب به الموكِّل، أو يصرح بأن الثمن عليه، أوْ لا يصرّح بأحد
الوجهين.
فإن صرح بأحد الوجهين قضي بموجب تصريحه من براءته من الثمن أن اشترط
البراءة منه، أو إلزامه إياه إن اشترط التزامه. كذلك المسلم فيه الذي
(2/92)
وكِّل على عقْدِه.
هكذا ينقسم الأمر في الوكالة على المعاملة بالنقد، فإنه إن وكل على بيع
سلعة كان له قبض ثمنها، وإن وكل على شرائها، وأخبر البائع أنه وكيل لغيره،
فإن ابن المواز رأى أن مجرد إخباره بأنه وكيل لغيره، أو أنه اشترى السلعة
لغيره لا تسقط عنه المطالبة بالثمن. وذكر أنه إذا قال البائع (1): فلان
بعثني لأشتري له هذه السلعة منك. فإن هذا لا يبرىء الوكيل من الثمن. قال:
لأنه يقول له البائع: أنت مشترٍ منّي، ولا أبالي هل شراؤك لنفسك أو لغيرك.
وذكر في المبسوط عن مالك: أنه إذا وجد البائع الدراهم زيوفا أنه لا يلزمه
بدَلُها، وإنما يطالب بالمال الموكّلَ، إذا كان قد أخبر الوكيلُ البائعَ
أنه إنما اشترى لغيره.
وهذا يقتضي عند بعض أشياخنا أن المذهب على قولين في مطالبة الوكيل بالثمن
إذا لم يصرح بالتزامه ولا بالبراءة منه. ورأى أن هذا الاختلاف ينبني على
الاختلاف في البيع هل هو العقد بمجرده أو هو التقابضُ العِوَضِيُّ. وعلى
هذا أجرى اختلاف قول مالك في ضمان العبد المحتبس بالثمن، هل يضمنه المشتري؛
لأن البيع هو العقد، وقد حصل، أو لا يضمنه؛ لأن البيع هو القبض، وهو لم
يحصل. فكذلك يختلف في مطالبة الوكيل بالثمن. فإذا قيل: إن البيع هو العقد،
فقد نجز ما وكِّل عليه، وفرغ منه؛ لأنه إنما وكّل على البيع، وقد حصل. وإن
قلنا: إن البيع هو التقابض، فإن الوكيل يُطلب بالثمن؛ لأنه لا يحصل ما وكل
عليه وعَقَده إلا بالتقابض. وهو (2) الذي أسند إليه هذا الاختلاف في
المحتبسة بالثمن في هذه المسألة لا يستقيم، إذا اعتبر بحقائق الأصول.
وسنبسط الكلام على هذا عند كلامنا على المحتبسة بالثمن، وذكرنا لما ذكره
الشيخ أبو الحسن بن القابسي رحمه الله من كون الخلاف فيها مبنيًا على ضمان
الحيوان، وما لا يغاب عليه في الرهبان، ولما ذكره غيره من الأشياخ من كون
الخلاف في ذلك مبنيًا على مراعاة مضي قدر التسليم بعد زمن العقد. ولكن
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: للبائع.
(2) هكذا، ولعل الصواب: هذا.
(2/93)
الضابط: الحقيقة في هذا أن الأصل براءة
الذمة، ولا تعمر إلا بدليل يوجب تعميرها. وقد علمت أن الطرفين اللذين
ذكرناهما، وهما اشتراط الوكيل البراءة من الثمن أو التزامه له، متفق
عليهما، ويبقى النظر فيما بين هذين الطرفين، فإن كانت العبارة الصادرة من
الوكيل: بعثني إليك فلان لتبيع منه، فإن هذا يقتضي أنه غير مطلوب بالثمن،
لكونه قد (1) أسند البيع إلى الموكِّل. وإن عبر عن هذا بأنه قال: بعثني
لأشتري منك. كان مطلوبًا بالثمن؛ لأنه قد يراد بهذه العبارة أنه دلّنِي على
الشراء منك لنفسي. فلا يسقط عنه ما يوجبه مقتضى العقد من مطالبة المشتري
بالثمن.
وإن كانت العبارة: لأشتري له؛ أو ما في معنى هذا، كان هذا على القولين
المذكررين عن كتاب ابن المواز، وعن المبسوط. على أنا إذا قلنا: إن الخلاف
في هذا يستند إلى النظر في البيع، هل هو التعاقد أو التقابض، كان ما وقع في
المبسوط خلافًا لما وقع في الموازية. وإن قلنا: إنّه يلتفت في هذا إلى
العرف والمقاصد، أمكن أن يقال: إنه إذا وكِّل على شراء بالنقد، فقد دفع
إليه النقد على مقتضى غالب العادة، فلا يصدق في أنه لم يدفع إليه. وإذا دفع
النقد، وظهر فيه زيوف يمكن أن لا يكون علم بها، فإنه قد ادعى من هذا ما
يمكن والبدل لم يقتضه حكم العقد في غالب العادة. ولو أنكر المسلم قبض الثمن
والعقدَ، فإنه يحلف ويبرأ، ويسقط عنه السلم.
واختلف في غرامة الوكيل الثمنَ الذي دفعه بغير إشهاد حتى جحده القابض،
فقيل: يغرم؛ لأنه كمتلف رأس المال على من وكله. وقيل: لا غرامة عليه. وقد
علم أنه لو شرط له أن لا يدفع إلا ببينة، فدفع بغير بينة، أنه ضامن،
لتعَدِّيه ما أَذِن له فيه. ولو شرط أنه يدفع بغير إشهاد لم يضمن لرِضا
رَبِّ المال له بذلك. فإذا لم يشترط أحدَ الوجهين فعلى ماذا يحمل أمر
الوكيل منهما، هذا منشأ الخلاف.
__________
(1) بياض بالأصل، قدرنا أنه: (قد أسند).
(2/94)
والجواب عن السؤال الثاني أن يقال:
إذا شرط المسلم في العقد أن الموكّل إن لم يُقرّ بالوكالة. فالوكيل ضامن
المسلّم فيه، ومطلوب به .. فإن هذا أجازه ابن القاسم في المدونة، ومنعه
سحنون ورآه غررًا، ومنعه أشهب ورآه دينًا بدين. وقد علم أن الغرر في العقود
ممنوع. وكذلك الدين بالدين.
ولكن وقع النزاع في تصور الغرر في هذا العقد.
فرأى ابن القاسم أنه لا غرر فيه فأجازه، وإن كان المسلم فيه مترددًا بين.
ذمتين لا يدري المسلم من يطلب منهما، كما أجيز البيع على الحميل والبائع
يجهل مَن المطلوب بالثمن هل المشتري إن كان حين الطلب غنيًا أو الحميل إن
كان المشتري حين الطلب فقيرًا.
ورأى سحنون أن هذا غرر وتخاطر في العقد، لكون دافع رأس مال السلم لا يدري
أيّ الذمتين يطلب: أذمة الوكيل أم الموكل؟ ويعلم أن المسلّم فيه لم يستقر
حين العقد في ذمة معلومة بل يتردد استقراره ما بين ذمتين، وهذا غرر ظاهر.
ولا يُنقض هذا بإجازة البيع على الحميل، لأجل أن المشتري مطلوب بالثمن، وهو
مستقر في ذمته، وإن طرأ عليه فقر فإن ذلك لا يسقط الطلب عن ذمته متى
أَيْسر. ولا يبرىء فقرُه ذمتَه من الثمن. لكن أخذ الحميل تقوية لذمة
المشتري أو زيادة في الثقة بها. والثمن لم يتردد في استقراره في ذمة
المشتري في كل الأحوال، حين العقد وبعده، بخلاف البيع باشتراط حميل.
ومن الأشياخ من يشير إلى طريقة أخرى وهي المساواة بين تردد الثمن بين ذمتين
كما صورناه في مسألتنا، وفي مسألة اشتراط الحميل. فإن مسألتنا هذه ذكر في
الكتاب أن المأمور قال: إن فلانا أمرني. وكلامه محمول على الصدق، وأكد
تصديقه بالتزام المبيع في ذمته إن جحد الآمر، وجحود الآمر بعد إقراره أم
رنا در، والنوادر لا تراعى في العقود، وإمكان جحوده بعد إقراره كإمكان فقر
الغريم بعد ملائه حتى يفتقر إلى طلب الحميل، والعقود لا يراعى فيها من
الغرر
(2/95)
ما ليس بمقصود. وما صور من غرر في مسألة
الحميل، وتردد الثمن بين ذمتين. الغرر في المسألتين غير مقصود، وإنما
القصد، بما اشترط فيهما، التوثقة، فلم يمنع ذلك كما لم يمنع الرهبان.
وأمّا ما أشار إليه أشهب في تعليله من منع تردد الثمن بين ذمتين، فإن ذلك
دين بدين، فإنه يقدِّر أن المبيع استقر في ذمة الآمر على مقتضى قول الوكيل،
وتصديقه فيما قال، فيكون بجحوده يقتضي نقل ما في ذمته إلى ذمة الوكيل، وبيع
الدين الذي عليه بدين يصير على الوكيل. وهذا أيضًا قد يجاب عنه بما قدمناه
من كون القصد ها هنا التوثقة وتأكيد ما في الذمة، لا التخاطر، ولا بيع ذمة
بذمة. قد استقر الدين في الأولى ثم عاوض عنها ذمة أخرى.
والجواب عن السؤال الثالث أن يقال:
قد تقرر في الشرع جواز التوكيل والاستنابة فيما يجوز النيابة فيه. لكن قد
يعرض عارض يمنع من الاستنابة التي هي جائزة في الأصل على الإطلاق، وذلك بأن
تتضمن الوكالة الوقوع في فعل حرام، أو كونَ الغالب الوقوع فيه، ولهذا يصح
الرجوع. ولهذا يمنع من أن يوكل المسلم النصراني على بيع أو شراء يغيب عليه،
لكون النصراني وغيره من الكفار يستحلون في شرائهم ما لا يستحله المسلم
الموكل لهم. ولهذا ينهى المسلم أن يقارض ذميًا، لكونه يُتخوف منه أن يعامل
بالربا، وما لا تحل المعاوضة به. وقد قال ابن المواز: إن نزل هذا تصدّق
المسلم بالربح.
وهذا الذي قاله ابن المواز إنما يخلّص فيما يتخوف من الحرام أن يكون فعله
النصراني من الربا، (إلا من رأى نقض ما فعل وإن لم يعلم من عامله تصدق
بالربح لكون الربح هو الحرام) (1) قال الله تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ
فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} (2)، وأما لو وقع الوكيل الذمي أو المقارض
الذمي في المعاوضة
__________
(1) ما بين القوسين هو نصّ النسختين، وهو كلام غير واضح.
(2) سورة البقرة: الآية 279.
(2/96)
بخمر أو خنزير وأتى الموكِّلَ بأثمان ذلك
فإنه يتصدق بجميع ما أتى به؛ لأن العوض كله ثمن خمر وخنزير وذلك حرام. وفي
الربا إنما الحرام الزيادة، وهي التي تسمى ربا، فإذا تصدق بها ارتفع حقيقة
الربا. لكن لو كان الذمي عاوض بهذا عن علم بتحريمه على المسلم، وأن المسلم
الذي وكّله لم يرد ذلك منه ولا أذن له فيه، فإنه يكون متعديًا على مال حلال
أعطاه إياه المسلم، فأتلفه عليه بمال حرام، تجب الصدقة به، فيغرم للمسلم ما
أتلف عليه من ذلك. وقد منع في المدونة من توكيل الذمي على تقاضي الديون.
وما ذاك إلا أنه قد يُغلظ على المسلمين الذين وُكِّل عليهم في التقاضى،
ويستعلي عليهم، قصدًا لإذلالهم، ولا يجوز للمسلم أن يُعينه على ذلك. وقد
ذكر في المدونة أنه ليس لسيد العبد الذمي أن يمنعه من شرب الخمر، وبيعها،
والذهاب إلى الكنيسة؛ لأن ذلك من دينه، وقد أقره على دينه، فيقره على
أحكامه لما أقره عليه.
وقد عارض الأشياخ ما وقع في الكتاب من قوله: لا يمنع عبده بيع الخمر
وشراءها بأن السيد له أن يمنع عبده النصراني والمسلم عن التجارة في
المباحات، وأن يبيعها أو يشتريها، ويحجِّر عليه ذلك، فكيف به إذا أراد
التحجير عليه في المحرمات كبيع الخمر وشرائها.
وقد اعتذر بعضهم عن هذا بأن المراد بالعبد ها هنا المكاتب؛ لأن المكاتب لا
يقدر سيده على منعه من التَّجْر في ماله، ولا التحجير عليه، ما دام
مكاتبًا، فالمباح والمحرم في حق المكاتب النصراني سواءٌ في كون سيده ليس له
أن يحجِّر عليه في ذلك.
وقال بعضهم: بل المراد، بما وقع في الكتاب، في المال اليسير الذي يعطيه
سيده إياه لقوله: وليرفّه به نفسه. فإن هذا يصير في حكم ما لا حق للسيد
فيه، وما لا حق للسيد فيه ليس له أن يحجّر عليه فيه ..
وهذا الاعتذار والاعتذار الأول يرجعان إلى معنى واحد وهو حمل المسألة على
مال ليس من حق السيد أن يحجر عليه فيه. لكن اختلفوا في التمثيل
(2/97)
فبعضهم مثل بالمكاتب لما كان ليس لسيده
الحجر عليه، وبعضهم مثل بما يعطيه لقُوته لما كان ليس له أن يحجر عليه
أيضًا فيه.
وصار بعضهم إلى اعتذار آخر سلك فيه طريقة أخرى، فقال: المراد بما وقع في
الكتاب من هذا أن السيد لا يجب عليه أن يمنعه من هذا لكونه في حكمه. وقد
حاول فعلًا حرامًا، لأجل أن السيد لما رضي له بالمقام على دينه صار كالراضي
له بالجري على أحكامه. فأشار بهذا إلى نفي وجوب تغيير هذا المنكر على
السيد، كما يجب ذلك عليه لو حاوله عبد له مسلم.
وهذا تأويل وإن لم يبعد في معناه فقد بعد عن مقتضى لفظ الكتاب؛ لأنه قال:
ولا ينبغي للمسلم أن يمنع عبده النصراني من شرب الخمر وبيعها وشرائها.
وقوله: "لا ينبغي" كالنهي له عن أن يفعل. وهؤلاء حملوا ذلك على أن المراد
به: لا يجب عليه أن يفعل، وإن كان مباحًا له أن يفعل. وهذا يبعد حمل هذا
اللفظ عليه.
وقد اختلف القول عندنا في منع الزوج المسلم زوجته النصرانية من شرب الخمر،
وأكل الخنزير، والخروج إلى الكنيسة. فقيل: ليس له منعها من أحكام دينها وما
هو من شرائعها؛ لأنه إنما نكحها على ذلك، وعلى ذلك تزوجته. وقيل: له منعها
من ذلك، ومن إتيان الكنيسة إلا في الفرض والأمر النادر.
وقد أجاز في الكتاب وكالة العبد. ولكن لو وُكِّل عبد أجنبي والعبد الوكيل
محجور عليه، لكان لسيده طلب إجارته فيما تولى من سعي في العقد، لكون سعيه
ومنافعه يملكها عليه، فليس لغيره أن يتملكها ولا ينتفع بها دون إذن سيده،
ولو كان العبد مأذونًا له في التجارة والسعي في مثل هذا، والنيابة فيه من
مصالح تجارته ومن جملة ما تضمنه إذن السيد له فيه، فإنه لا أجرة على من
وكله.
والجواب عن السؤال الرابع أن يقال: إنه قد تقرر أنه ليس لأحد أن
(2/98)
يتصرف في مال أحد إلا على حسب ما أذن له
فيه الشرع، وإن أذن له فيه المالك. وهذا يقتضي نص الوكيل على مقدار ما أذن
له فيه. فإذا وكِّل على أن يُسْلِم في طعام، فأسلم إلى نفسه، أو من في معنى
نفسه، فإن هذا مما يتعقب عليه، لتطرق التهمة إليه. فأمّا إسلامه إلى نفسه،
فالمعروف من المذهب عندنا منعه من ذلك، لاتضاح التهمة فيه، وكون الموكل
يستشعر منه أنه إنما وكله على إسلام ماله لمن يَستقْصِي في الاجتهاد في
مماكسته، واستصلاح ما يعقد منه، ولا يمكن في العادة أن يؤثر أحد على (1)
أحد على نفسه.
وقد اتفق على أن رب المال لو صرح حين الوكالة بأني إنما أوكلك على أن
تُسْلم إلى من سواك، فإنه ممنوع أن يسلم إلى نفسه، ومتعدٍّ في ذلك إن فعله.
ولو صرَّح له، بأني وكلتك أن تسلم إلى من شئتَ حتى نفسك؛ لكان له أن يسلم
إلى نفسه، ويكون الموكّل كالواهب له بعض ماله، إن نَقَصَ في الاجتهاد وحابى
نفسه.
وإن لم يصرح بهذا ولا هذا وأطلق القول فَعلى ماذا يحمل؟ ها هنا يحسن
الخلاف، فالمعروف من المذهب المنع كما قدمناه. وقال أبو محمَّد عبد الوهاب
في الوكيل إذا باع واشترى بأثمان لا محاباة فيها فإن ذلك جائز. فلعلّه قدر
أن إتيانه بثمن يُستدل به على أنه لو لم يبالغ في الاجتهاد لم يأت إلا بأقل
منه يرفع عنه التهمة، وتطيب نفس الموكل عليه. فلهذا أمضاه.
وقد وقع في المذهب ما يدل على اضطراب في هذا الأصل إذا فعل ذلك الموكل، هل
هو يجري على أحكام الغاصب في فعله، أو على أحكام من فعل شيئًا بوجه شبهة؟
وضبط المذهب في هذا أنه إذا لم تفت السلعة التي باعها من نفسه، ولا تغيرت
في ذاتهالأولا في سوقها، فإنه من حق الموكل أن يستردها، ويفسخ عقده فيها،
إلا ما ذكرناه عن القاضي أبي محمَّد عبد الوهاب من إمضاء ذلك، على التفصيل
الذي حكيناه عنه. وإن لم يشعر بذلك الموكّل حتى فاتت
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أحدٌ أحدًا ...
(2/99)
السلعة وعُدِمت عينها فإنه يكون لربها
الأكثرُ من الثمن الذي أتى به، أو قيمتُها.
وإن فاتت بتغير سوقها، أو ذاتها، ففي المذهب قولان: هل لصاحبها استرجاعها،
وفسخ البيع فيها، كما له أن يسترجع سلعته من يد غاصب لها، وأن تغيرت ذاتها
وأسواقها. أو يمضي ذلك ولا يكون له أخذ عينها بل له الأكثر من الثمن أو
القيمة؛ لأنه ليس كالغاصب. والمتعدي فيما فعل من البيع من نفسه، لأجل ما في
ذلك من الشبهة والتأويل. وقد ذكر في كتاب القراض من المدونة، فيمن اشترى
سلعة بدنانير، ثم بعد شرائها ذهب لرجل أخذ منه مالًا قراضًا، وأراد أن
ينقده في تلك السلعة التي اشتراها: إنه يُنهى عن ذلك؛ لأنه يُخاف أن يكون
استقلالها (1) بعد اشترائها، فأراد أن يصرف ما وقع من غبن فيها إلى مال
القراض. وهذا إشارة منه إلى أنه ليس كالمعزول عن البيع من نفسه، ولا
كالغاصب الذي لا تأويل له ولا شبهة؛ لأنه إنما علل بتهمته فيما فعل، فإذا
ارتفعت التهمة مضى فعله، على مقتضى ما حكيناه عن القاضي أبي محمَّد عبد
الوهاب. وقال أيضًا غير ابن القاسم في كتاب القراض: كل من وكِّل على بيع
فباعه من نفسه، وأعتق العبد الذي اشتراه من نفسه، فإن عتقه مردود، إلاَّ
المقارض إذا (2) كان له فيما أعتق شركة من ناحية الربح، فلم ير عتق الوكيل
الذي اشترى من نفسه ماضيًا ولا أمضى العتق بحِرمته، بل جعله كالغاصب يعتق
ما غصب، فإن عتقه غي رنا فذ إذا رده مالك العبد. ولو أراد مالك العبد إلزام
الغاصب قيمة العبد، لأجل عتقه إياه، فإن ابن شعبان ذكر في هذا قولين:
أحدهما أن ذلك ليس من حقه، لكون العبد لم يتغير في نفسه ولا سوقه، ولم
يُحدث الغاصب سوى كلام لا تأثير له في عين العبد المغصوب.
والقول الآخر أن ذلك من حقه، وما هذا إلا أنه قدر أن الغاصب لما أعتقه
فكأنه التزم قيمته لربه، فلرب العبد أن يطلبه بما التزم.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: استغلاها.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: إذ.
(2/100)
وذكر ابن حبيب أن الوكيل على بيع سلعة
فاشتراها وباعها بربح، أن الربح للموكِّل، وكذلك الوصي إذا اشترى لنفسه من
مال الأيتام الذين في ولأنه شيئًا وباعه بربح، فإن الربح لهم. وهذا الذي
ذكره قد يهجس في النفس أنه أمضى شراءه من نفسه، فلهذا لم يقل: إن للموكل أن
ينقض ما فعل، ويشتري ما باعه الوكيل بعد أن اشتراه لنفسه. لكن يمكن أن يكون
إنما لم يقل ذلك لأنه رأى أن بيعه من نفسه غير واقع ولا لازم وهو كالعدم،
فبيعه بعد ذلك نافذ بحكم ما تقدم من وكالة رب السلعة، ولم تعتبر نيته وقصده
فيما باع أنه إنما باعه على ملك نفسه لا على ملك من وكله.
فأنت ترى هذا الاضطراب المشعر بما ذكرناه من رد المسألة إلى كون الوكيل
معزولًا عن البيع من نفسمعتى يكون متعديًا في ذلك إن فعل، أو ليس كالمعزول
لأجل تأويله، وللشبهة التي يتعلق بها في هذا من الإذن له في البيع عمومًا،
مع كون الموكل إنما غَرَضُه تحصيل الثمن لا النظر في أعيان من يشتري سلعته.
وإذا كان البيع وقع عن ملك أو شبهة الملك نُفِّذ كما ينفذ بيع من اشترى
سلعة شراء فاسدًا ثم باعها بيعًا صحيحًا، على ما سيرد بيانه في موضعه إن
شاء الله تعالى.
وأما بيعه مِمن تتطرق التهمة إليه في البيع منه، كبيعه من ولده الصغير الذي
في ولايته أو يتيم في ولايته، فإنه منع ذلك في المدونة، ورأى ذلك يتنزل
منزلة نفسه في تطرق التهمة إليه، وأجاز ذلك سحنون لما كانت العهدة في مال
ابنه ويتيمه لا في مال نفسه، فلم يمنع من ذلك كما لم يمنع من بيعه من ولده
الكبير ومن زوجته. والنكتة التي تعتبر في هذا ما قدمناه من تطرق التهمة
إليه وقربها منه أو بعدها عنه. هذا سبب الاضطراب في بيع الوكيل ممن في
ولايته.
والجواب عن السؤال الخامس أن يقال:
اعلم أن هذا السؤال جوابه يدور على ما قدمناه من اعتبار ما صرح به الموكّل،
أو قام مقام التصريح بدلالة قرائن الأحوال أو العادة. فإنا نقيد مطلق
(2/101)
الأقوال بقرائن الأحوال، فإذا وكل رجل
رجلًا على شراء ثوب أو خادم، فاشترى له من الثياب أو الخدم ما يصلح للباسه
وخدمتهء فإنه يلزمه ذلك. وإن اشترى له ما لا يصلح له ولا يليق به من ذلك،
فالمذهب على قولين:
لم يُلزمه ابن القاسم ذلك. وألزمه إياه أشهب. وخلافهما راجع إلى ما قدمناه،
فقد علمت أن قوله: اشتر لي ثوبًا؛ عموم ينطلق على كل ما يسمى ثوبًا، كان
الثوب مما يصلح للموكِّل أو لا يصلح له. لكن ربما اقتضت العوائد دلالة على
قصده أنه أراد شراء ثوب يصلح للباسه. فمن اعتبر عموم المقال، ولم يخصصه
بالعوائد، قال بمذهب أشهب. وبين الأصوليين خلاف في تخصيص العموم بالعادة.
والموكّل على شراء سلعة لا يخلو أن يكون يُقيِّد المثمون والثمن، أوْ لا
يقيدهما جميعًا، أو يقيد المثمون دون الثمن، أو الثمن دون المثمون.
فإن قيدهما فخالف الوكيل ما قيّد له، كان متعديًا من غير خلاف، مثل أن يقول
له: اشتر لي ثوبًا يصلح للباسي بأربعين دينارًا. فاشترى له ثوبًا لا يصلح
للباسه بخمسين دينارًا. فإنه لا يلزم الموكل لكونه خالف ما قيد له في الثمن
والمثمون. وهذا لا خلاف فيه.
وإن أطلقهما جميعًا فقال: اشتر لي ثوبا. فإنه إن اشترى ثوبًا يصلح للبالس
الموكل بقيمة مثلِه، فإنه يلزم الموكِّلَ ذلك. وإن اشترى له ثوبًا بثمن
فاحش خارج عن العادة لم يلزم ذلك الموكلَ؛ لأنه كمُتْلِف مالِه عليه، ولم
يوكّله على إضاعة ماله وإتلافه. وسواء في هذا اشتري له ما يصلح للباسه، أو
لا يصلح للباسه. وإن قيد المثمون دون الثمن، فقال: اشتر لي ثوبا. يصلح
للباسي، فإنه إن اشتراه بقيمته لزم ذلك الموكلَ، وإن اشتراه بزيادة خارجة
عن المعتاد على قيمته، لم يلزم ذلك الموكلَ.
وإن قيد الثمن دون المثمون، بأن يقول له: اشتر لي ثوبًا بأربعين دينارًا.
(2/102)
فها هنا. اختلاف بين الأشياخ، ما الذي
يقتضيه مذهب ابن القاسم ها هنا؟ فرأى بعضهم أن التقييد بالثمن يرفع التقييد
في المثمون، وأنه إذا اشترى له بأربعين دينارًا ثوبًا يصلح للباسه أوْ لا
يصلح للباسه، فإنه يلزمه؛ وإن كان ابن القاسم يرى أن الإطلاق في المثمون
يتقيد بحكم العادة، ويُقصَر الوكيل على شراء ما يصلح للباس الموكِّل، لأجل
أنه إذًا قيد الثمن ها هنا أشعر بأنه لم يقصد إلا (1) إلى تحصيل ما يساوي
أربعين دينارًا على أي حال كان مما يصلح للباس الموكل أوْ لا يصلح. ورأى
بعضهم أن هذا التقييد في الثمن لا يدفع التقييد في المثمون الذي اقتضته
العادة مما يصلح للباس الموكل.
واعلم أن التقييد في الثمن لا يوجب المنع من زيادة يسيرة عليه؛ لأنه قد علم
في العادة أنه لا يتفق غالبًا شراء سلعة بما يحدَّد في شرائها من الثمن،
ولا بدَّ عند المماكسة فيها من زيادة على ما حَدَّ من الثمن أو نقصان منه.
فأما النقصان منه فلا اعتبار به وإن كثر؛ لأن ذلك أبلغ في الاجتهاد للموكل
وأنفع له. وأما الزيادة الكثيرة فإنه لا يلزم الموكلَ الاستغناء (2) عنها.
وأما الزيادة اليسيرة كمن حد له أربعون دينارًا، فاشترى بأحد وأربعين، فإن
ذلك يلزم الموكل للحاجة إلى مثل هذه الزيادة، وأنه لا يستغنى عنه. فإن وقع
الوكيل في زيادة كثيرة لم يلزم ذلك الموكل لكونه خارجًا عما حَدَّ له، وعما
هو في حكم ما حد له، وإن زاد زيادة كبيرة كان الموكل بالخيار، إن شاء قبل
ذلك منه ورضي به، وإن شاء ألزمَه غرامة الثمن الذي حَدّ له ودفعه إليه.
وأما الزيادة اليسيرة فإنها تلزم الموكل، على حسب ما قلناه، وبيّنا وجهه.
لكن هل يصدق الوكيل في أنه زادها، ويطلب ذمةَ الموكل بها؟
وإن هلكت السلعة التي اشتراها له هل يجري على قولين، وهما: من أمران يُخرج
ما في ذمته إلى أمانته، هل يُقبل قوله، في أنه أخرج ذلك إلى أمانة،
__________
(1) هكذا في النسختين ولعل الصواب حذف إلا.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: للاستغناء. كما يدل عليه قوله بعدُ في
مقابل هذه الصورة: (وأنه لا يستغنى، عنه).
(2/103)
حتى يكون مصدقًا في ضياعه، أو لا يصدق في
إخراجه من ذمته؟ وسنبسط
الكلام عليه في موضعه إن شاء الله تعالى.
والجواب عن السؤال السادس أن يقال:
إذا وكل رجل رجلًا على أن يبيع له أو يشتري، فليس للوكيل أن يوكل غيره، لما
قدمناه من كون أملاك المالكين لا يُتصرف فيها إلا على حسب ما أذنوا فيه،
وهو إنما أذن لهذا الوكيل بعينه في التصرف في ماله، ورضي بأمانته دون أمانة
غيره، فهو متعد إذا خالف ما رَسَم له مالك المال. فإذا وكله على أن يُسلِم
له في طعام، فوكّل الوكيل غيرَه على ذلك، فإنه لا يلزم الموكِّلَ ما فعله
الوكيل الثاني، لكونه لم يُلْزَم ما عُقِدَ عليه إلا إذا فعله من أذن له
فيه، وهو لم يأذن لوكيل الوكيل. وذكر ابن حبيب أنه قد قيل: إن الوكيل
الثاني إذا اجتهد، وتوثّق، وفعل ما يفعله الأول، فإن الموكل ليس له نقض هذا
الفعل.
وهذا لا يصح إلا على اعتبار المفاسد، وأن رب المال قصده تحصيل عقدٍ على
طعام بولغ في الاجتهاد فيه، وفي التوثق في عقده. والمعروف من المذهب ما
قدمناه، وأن ذلك لا يلزم الموكِّل الأولَ على الإطلاق. فإذا قلنا بالمعروف
من المذهب، فلا يخلو من أن يكون شعَر بذلك مالك المال، وهو لم يدفع إلى من
عُقِد السلمُ عليه، أو أُسلِم إليه وهو قائم العين في يديه، أو أسلم إليه
وقد ذهب الثمن من يديه وغاب عليه، أو لم يشعر بذلك إلا بعد أن حل أجل السلم
وقبض المسلم فيه. فإن شعر بذلك قبل أن يدفع الوكيل رأس المال كان رب المال
بالخيار بين أن يجيز فعل هذا الوكيل الثاني، ويمضي عقده ويأمره بدفع الثمن،
أو يرد عنه ويسترجع الثمن. وكذلك إذا شعر بهذا بعد دفع الوكيل الثاني الثمن
ولم يغب عليه من هو في يديه ممن أسلم إليه. وأما إن غاب عليه فإنه صار
دينًا على الوكيل الأول لتعدّيه ما أُذِن له فيه، فلرب المال، ها هنا، أن
يرد فعله، ويطالبه بغرامة المال الذي دفع إليه. وهل له أن يجيز فعله
ويمضيه؟ منع ذلك في الكتاب، ورآه كفسخ دين في دين، لأجل أن هذا الثمن
(2/104)
كمًا (1) تعدّى فيه الوكيلُ الأول صار
دينًا عليه لرب المال، له المطالبة به، فإذا عزل (2) عن المطالبة بهذا
المال الذي صار له دينًا على الوكيل إلى الرضا بأخذ ما أسلم فيه، فإنه فسخ
دينًا وهو رأس المال الذي استحقه على الوكيل المتعدي في طعام يقبضه إلى أجل
من ذمة المسلم إليه. وقيل: ذلك جائز له ولا يكون هذا فسخ دين في دين؛ لأنه
لا يكون الثمن دينًا على الوكيل إلا إذا رضي رب المال بإغرامه إياه ولم يرض
بإمضاء عقده، فحينئذ يكون دينًا على الوكيل فيمنع من فسخه في دين آخر. وأما
إذا لم يختر تضمين الوكيل، واختار إمضاء ما فعله، فلم يملك دينًا على
الوكيل يقدَّر فيه الفسخ، فلا يمنع من الرضا بإمضاء ما فعله؛ لأنه لم يتحقق
فسخُ الدين في الدين. وهذا جَار على أصل تدور عليه فروع كثيرة تذكر في
مواضعها، وهو من خُيِّر بين شيئين، وملك أن يملك، هل يُعدّ في اختياره أحد
القسمين منتقلًا عن الآخر أم لا؟. وهل يقدر فيمن ملك أن يملك كأنه استقر
ملكه عليه حتى يَصير منتقلًا عنه إلى ما سواه، أم لا؟ يقدر أنه قد استقر
ملكه عليه فلا يتصور فيه النقل من وجه إلى وجه؛ وهذا يبسط في موضعه إن شاء
الله تعالى (3) وأما إن لم يشعر بذلك حتى حل الأجل، وقُبض المسلم فيه، فإنه
يكون بالخيار بين أن يطلب الوكيل برأس المال الذي تعدى فيه، أو يرضى بإمضاء
فعله، ويكون الطعام له، ولا يتصور في هذا فسخ دين في دين، ولا يختلف فيه،
لكون ما خير فيه قد حضر جميعُه وحل.
وقد قدمنا أن المعروف من المذهب منع الوكيل من أن يوكل غيره، لكن لو صورت
المسألة في وكالة رجل مشهور بعلوّ المرتبة، وجلالة المقدار، ويعلم أنه لا
يتولى مثل ما وكِّل عليه بنفسه، بل يستنيب فيه، فإنه إذا كان من وكله
عالمًا بحالته هذه، فإنه لا يكون متعديًا بوكالة غيره، من غير خلاف؛ لأن
الموكل لما علم حاله، وأنه لا يباشر هذه الأمور بنفسه، بل يستنيب فيها، صار
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لَمَّا.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: عَدَلَ.
(3) انظر "الفروق" للقرافي: الفرق 121 ج 3 ص 20.
(2/105)
المقصود من وكالته أن يوكل على ما وكل
عليه. لكن لو كان الوكيل مشهورًا بهذا الحال من الجلالة المانعة من كونه
مباشرًا لهذه الأمور بنفسه، ولم يعلم بذلك رب المال، فإن هذا مما تردد فيه
كلام الشيخ أبي إسحاق، وقال: إن الأشبه ألا يضمن هذا الوكيل؛ لأنه يقول:
ليس جهلُ من وكلني بالموجب عليَّ الخروجَ عن عادتي، فإنه (1) غير متعدٍّ
بجرياني على عادتي. ثم أشار إلى أن الوكيل لا يصدّق في أنه لم يعلم حاله
لكونه ادعى ما يكذبه فيه العرف غالبًا.
وهذه إشارة إلى التعليل يكون الموكل عالمًا بحال الوكيل ونحن لو صورنا
المسألة في علم الموكل بحالته لارتفع الإشكال.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فإني.
(2/106)
فصل في تعدي الوكيل
إذا خالف الموكَل، فلا تخلو مخالفته له من أربعة أقسام: أحدها: أن يخالف في
الجنسية أو في النقدية أو فيهما جميعًا، أو يخالف في العددية خاصة، مثل أن
يأمره بأن يبيع له سلعة بدنانير، فباعها بطعام أو عرض، أو يأمره أن يبيعها
بدنانير أو عرض نقدًا، فباعها بذلك إلى أجل، أو يأمره أن يبيع بعشرة فباعها
بثمانية.
فأما إذا خالفه فيما أمره أن يبيع به من الأجناس، فإن الموكل لا يلزمه ما
فعل الوكيل، وسلعته باقية على ملكه؛ لأنه لم يأذن بأن ينقل عن ملكه إلا على
صفة شرطها على الوكيل، وإذا فعلها على صفة أخرى لم ينتقل ملك الموكل عنها،
وأن شاء الموكِّل أجاز تعدِّيَهُ، وقَبِل الثمن الذي عقد الوكيل به وإن لم
يكن تقدم إذنه فيه. هذا هو الأصل لأن من تعدى له على سلعة، فبيعت بغير
إذنه، فإن الخيار في إمضاء ما فعل المتعدي، من بيعها، أو نقض فعله، وإبقاه
(1) على ملك نفسه، على حسب ما كانت عليه قبل الوكالة. وقد ذكر في المدونة:
أن من وُكِّل على بيع عرض أو طعام، فباعه بعرض أو طعام، فإن الوكيل ضامن،
إلا أن يشاء الموكل أن يجيز فعله ومضيَّه (2)، ويأخذ ما عقد به من الثمن.
ولكن أكثر القول في تعقيب هذا الجواب الذي ذكر في المدونة لأجل أنه
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: إبقائها.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يُمضيَه.
(2/107)
ذكر في السؤال أنه وكل على بيع طعام أو عرض
فباعه بطعام أو عرض، ثم أجاب عن هذا بأن الوكيل (1) غير بين أن يرد ما فعل
الموكِل (2) أو يمضيه، ويأخذ الثمن الذي باع به. وقد اشتمل السؤال على
وكالته على بيع طعام، فباعه بطعام وإذا كان بيعه بطعام لا يلزم الموكلَ
لأنه وإن أطلق له الإذن فالعادة البيع بالدنانير والدراهم، فالمخالفة له
فيما أطلق من هذا على مقتضى العادة كمخالفته فيما شرطه وأمران يباع به،
نُطقًا، كان مشتري هذا الطعام من الوكيل اشترى طعامًا فيه خيار لمالك بطعام
يدفعه لوكيله، ولا يجوز فيما من شرط صحة عقده التناجز أن يعقد على خيار.
وهذا يجاب عنه بأن يقال: أما لو علم المشتري بأن الوكيل متعد في هذا البيع
وعقده معه على أن لمالك الطعام خيارًا في هذا العقد، إن شاء استرد طعامه من
يد المشتري وإن شاء أبقاه له، وأخذ الطعام الن في دفعه المشتري ثمنًا عن
طعام هذا الموكل. فإن هذا العقد فاسد. لأجل عدم التناجز. وأن عقده على
الخيار مانع من حصول التناجز.
وأمّا إن لم يعلم المشتري بتعدي هذا الوكيل، واعتقد أنه (عقدًا جائزًا له
لازمًا) (3)، فإن هذا جار على القولين المشهورين في هذا الأصل. وابن القاسم
يمنع هذا، وأشهب يجيزه.
وسبب هذا الاختلاف أن من قدّر أن العقد لم يزل منبرمًا جائزًا لما أجازه
الموكل حين علم به، لم يتعقب هذا العقد، ورأى أن إجازة الموكل لفعل الوكيل
يتضمن كون الوكيل لم يعقد إلا عقدًا ماضيًا جائزًا. ومن قدر أن هذا العقد
لم يُبرم ويَلزَمْ إلا الآن حين علم الموكل فأجاز، أبطل هذا العقد لأنه لم
يحصل فيه التناجز حين عقده، وإنما حصل فيه التناجز حين أمضاه الموكل
وأجازه.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: الموكَل.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: الوكيل.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أنه [عقد] عقدا.
(2/108)
وعلى هذا الأصل جرى الاختلاف في نكاح، حكم
الولي فيه بالخيار في رده أو إمضائه، فأمضاه بعد أن وطيء الزوج زوجته، ثم
زنت، فإن قدّرنا أنه لم يزل ماضيًا حين العقد لمّا أمضاه الولي الآن، كانت
الزوجة بالوطء الذي تقدم إجازة الولي محصنة لأن الوطء وقع بعد عقد ماضٍ
منبرم. ومن لم يقدر ذلك، ورأى أنه إنما انعقد وانبرم حين أمضاه الولي، لم
تكن بالوطء المتقدم (1) إجازته للولي محصنة؛ لأنه وطءُ "ليس بواقع في نكاح
منعقد".
إلى غير ذلك من المسائل التي يكثر جريانها على هذا الأصل.
فهذا بيان القول فيما تعقب من الجواب الواقع في المدونة في هذه المسألة متى
بقيت دلالة ألفاظها على ظواهرها.
وأشار بعضهم إلى حملها على وجه يغني عن هذا الاعتذار، وأجراها على الخلاف،
فقال: إن ما ذكر في المدونة في السؤال أنه وكل رجلًا على بيع عرض أو طعام،
فباعه الوكيل بعرض أو طعام، فيمكن أن يكون لم يُرد أن البيع وقع بكل واحد
من الجنسين المذكررين، في الجواب على أحد الجنسين المذكررين في السؤال،
وإنما أراد به باع ما وكل عليه من العروض بطعام أو باع ما وكل عليه من طعام
بعرض، فذكر هذا على جهة المقابلة، لكون نوع في الجواب لنوع خلافه وقع في
السؤال. فإذا كان المراد هذا لم يتصور في المسألة تعقب من ناحية بيع الطعام
بطعام. وقد ذكر في رواية الدباغ في المدونة جواب هذا السؤال، وقال: يباع
العرض الذي أخذه الوكيل ثمنًا وإن كانت السلعة الموكَّل على بيعها قائمة.
فإن كان ثمن هذا العرض يفي بقيمة العرض الذي وكَّل الموكل على بيعه لم يبق
للوكيل والموكل مطالبة، وإن زاد ثمن هذا العرض عن قيمة العرض الموكَّل على
بيعه كانت هذه الزيادة للموكِّل؛ لأنها ثمن عرض يعتقد من هو في يديه أنه
إنما اشتراه للموكل، وعاوض عنه بمال الموكل، فلا
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: المتقدم.
(2/109)
يكون ربحه له مع تعديه أيضًا، وحرمان
المتعدي الأرباحَ والفوائدَ قد يحسم مادة التعدي والغصب.
وقد طرح سحنون هذه الرواية لأجل أن الأصل ما قدمناه من كون المتعدي على
سلعة رجل لا يضمنها ويغرم قيمتها مع قيام عينها وكونها لم تتغير في ذاتها
ولا سوقها. ولا معنى لتضمينه مع كون مِلك المالك لم يتغير بوجه من وجوه
التغييه. وقد وقع لابن القاسم في المستخرجة فيمن تعدى على طعام فباعه بعرض
إلى أجل، أن هذا العرض الموكَّل لا يباع، فيأخذ صاحب الطعام ربحه. وقال
الشيخ أبو القاسم بن الكاتب إنما قال هذا لما كان الطعام مضمونًا بمثله،
وما كان مضمونًا بمثله فعينه كالموجودة وإن ذهبت، لكون مثله يسد مسده وينوب
منابه، وقدر الطعام ها هنا كالعين إذا تعدى فيه. وذكر في كتاب ابن المواز،
فيمن أودع دراهم فصارفها لربها بدنانير، فذكر أن الدنانير تباع ويشترى بها
مثل الدراهم المودعة، فإن كان في الدنانير فضل كان ذلك لربها الذي أودعها،
وإن قصرت الدنانير عن الدراهم غرم المودَع ما نقص من الدراهم. وهذا أيضًا
لأجل اعتقاد المودع أن الدنانير إنما صرفها لتكون ملكًا لرب الدراهم فلا
يستبد بربح ما ليس بملكه، ولا يعطى ربحًا ولا فائدة مع تعديه، على حسب ما
قدمناه.
وقد تعقب هذا بأنه إذا كان ممنوعًا من أخذ الدنانير التي صرفها المودع فكيف
أبيح له ربحها؟ وكيف يسوغ له أخذ ربح ما يحرم عليه أخذ عينه؛ وهذا التعقب
إنما ينبني على أحد القولين، وهو منع رب الدراهم المودعة إجازة صرفها له،
وقد ذكرنا الخلافَ في هذا الأصل. وسببَ الخلاف فيه.
على أنه يمكن أن يكون العذر عن هذا التعقب كونَ التحريم ليس بواضح، لأجل
اختلاف أهل المذهب فيه، مع كون سبب التحريم على أحد القولين، الاحتياطَ من
إمضاء عقد فضة بذهب لم يحصل فيه التناجز. فإذا عُدِل برب المال عن قبض
الدنانير التي صرفها المودَع له، وبيعت، ورد إليه رأس ماله
(2/110)
وهي الدراهم، فإنه لم يحصل في يديه عوض وقع
فيه صرف مستأخر، وإنما أعطي ما زاد على رأس ماله لئلا يربح المتعدي، وقد
بيّنا وجه منعه من الربح فيما تعدي فيه. وقد قيل: إن قوله فيمن دفع إلى
وكيلٍ دراهم ليُسْلمها له في سلعة، فصرفها بدنانير، ثم أسلم الدنانير، وكان
فعله في الصرف مما لم يؤذن له فيه، لكونه غيرَ محتاج إليه، أنه إذا قبض
المسلمَ فيه كان لرب رأس المال أن يقبض المسلم فيه. وإن كان ممنوعًا من
إجازة ما فعله الوكيل من الصرف له، لمنع من أخذ عوضه وهو المسلم فيه؛ لأنه
إذا أسقط حقه في العوض عنه فكيف يقدّر أنه لا يباح له ملك شيء ويباح له ملك
العوض عن ذلك الشيء؛ وهذا لا يصح فيه ما وقع من هذا الجواب إلا بعد أن يكون
يباح له أخذ ما صرف له.
وهذا العذر عنه ما قدمناه من صرف الدراهم المودعة لربها من غير إذنه، والذي
ذكرناه من رواية الدباغ من بيع العرض الذي باع به الوكيل، وأخذ الموكل ثمنه
في القيمة التي وجبت له على الوكيل بتعديه. وقد ذكره ابن المواز في كتابه
وذهب إلى أن العرض الذي باع به الوكيل يباع به ليقضي ثمنه في قيمة العرض
الذي تعدى الوكيل في بيعه بما لم يؤمر به، فإن كان ربح كان للموكل، وإن
كانت خسارة ونقصٌ من القيمة كان ذلك على الوكيل، ورأى أن هذا هو الحكم.
وإن كانت سلعة الموكل قائمة بيد مشتريها لم تفت ولم تتغير في ذاتها ولا في
سوقها فهذا الذي ذكرنا أن سحنونا أمر بطرحه في أكثر الروايات عنه، لخروجه
عن الأصول هو الذي ذهب إليه ابن المواز. وقد نص غير ابن القاسم في كتاب
الوكالات من المدونة على أن الوكيل لا يضمن مع قيام الطعام الذي وكل على
بيعه فباعه بغير ما أذن له فيه. ولما رأى بعض الأشياخ أن هذا الذي ذهب إليه
غير ابن القاسم في كتاب الوكالات من المدونة. والذي اختاره سحنون، وأمر
بطرح ما سواه، هو البخاري على الأصل، اعتذر عما وقع من القول الآخر من
تضمين الوكيل وإن كانت السلعة التي باعها قائمة لم تتغير في سوقها ولا
بدنها، فإن هذه الرواية محمولة على أن المشتري نازع في كون هذه
(2/111)
السلعة المبيعة للموكل، وزعم أن الوكيل مدع
لها، وأنها للوكيل الذي باعها.
والحكم في هذا ألا يصدق الموكل أنها له إلا بإثبات، فإذا لم يمكنه الإثبات،
ومنعه المشتري من استرجاعها، فقد صار الوكيل أفاتها عليه لتعديه، فلزمه
قيمتها لفوتها.
وهذا التأويل إن صح حمل الرواية عليه وأن قصد من ذهب إلى هذا المذهب كون
المسألة مبنية على أن الوكيل أتلفها على ربها، فإنه لا يختلف في تضمين
الوكيل. ولا يكون المذهب في هذا إلا على قول واحد، وهو سقوط تضمين الوكيل
مع كون السلعة التي تعدى عليها قائمة لم تفت ولم تتغير.
هذا حكم تعدّيه في مخالفة الجنس فيما أمران يبيعه.
وأما ما أمران يشتريه فخالف في جنس الثمن، فإنه ذكر في المدونة أنه إذا
أمره أن يشتري له سلعة فاشتراها بغير العين، من عرض أو مكيل أو موزون، فإن
الموكل لا يلزمه ما عقد عليه من هذا، لكون الوكيل عقد عليه بخلاف ما أذن له
فيه. لكن للموكل أن يجيز فعله، أو يضمّنه (1) ويدفع إليه مثل ما أداه من
الثمن.
وهذا ظاهره أن الموكل إذا أجاز فعله يعطيه مثل ما أدى من الثمن ولو كان
عرضًا لا يكال ولا يوزن؛ لأنه ذكر في السؤال أنه خالف فاشترى بعرض أو بمكيل
أو موزون. فأجاب عن السؤال بقوله: إذا أجاز فعله دفع إليه مثل ما دفع
ثمنًا. ولم يفرق بين دفع الوكيل لعرض أو لمكيل أو موزون. وقد ذكر في
الأسدية عن ابن القاسم أنه إذا أجاز فعله، وقد دفع عرضًا، فإنما يدفع إليه
قيمة العرض. وقد ذكر في المدونة في كفيل صالَحَ عن دنانير بعرض، أن الذي
عليه الدين إذا أجاز فعله فإنه يعطيه قيمة العرض.
وقد تردد بعض الأشياخ في هذا هل يتخرج من هذا الجواب كون الموكل
__________
(1) هكذا في النسختين، وهو لا يتلاءم مع سابقه ولاحقه.
(2/112)
إنما تلزمه قيمة العرض الذي أداه الوكيل
ثمنًا أم لا؛ وهذا التردد لأجل أن الموكل أمره أن يشتري له ويسلفه عينًا
فاشترى له وأسلفه عرضًا. فإذا أجاز فعله لزمه مثل العرض كما يلزم في السلف
ردّ مثل العرض، وأجراها في السلف مجرى المكيل والموزون. وأما الكفيل فإنه
إذا صالح بغير علم مَن عليه الدين فإنه يقدر كبائع للعرض الذي دفعه عوضًا
عن الدين وكأنه اشترى الدين به وإذا كان بائعًا لم يلزم من عليه الدين إلا
قيمة العرض. وقد يقدر أن العروض يقضى فيها في السلف بالمثل وفي التعدي
والاستهلاك بالقيمة. ووقع هذا الاختلاف في وكيل تعدى فاشترى بها، هل يقضى
له بمثلها أو بقيمتها إذا أجاز فعله من وكله؛ وهذا ينبني على الاختلاف في
المترقبات، فإن قلنا: إن الموكل إذا أجاز ما خُيِّر فيه لَمّا علم بتعدي
الوكيل فإنه يقدر أنه لم يُلزَم جائزًا ولم يقع العقد إلا على إجازة الموكل
ورضاه، فإنه يقضى ها هنا للموكل بمثل عرضه لأنه تحقق فيه أنه دفعه، وعقد
عليه بإذن الموكل له في عقده به سلفًا له. وإن قلنا: إنه إذا أجاز ما
خُيِّر فيه، وما يترقب فيه أن يجيزه أو يردّه، فإنه إنما يقدر انبرام العقد
وإجازته حين وقعت الإجازة منه، صار العرض المدفوع حين العقد. لم يدفع عن
إذن الموكل ولا رضاه، بأن يكون سلفًا عِنْدَهُ، فيكون لدافعه قيمته لا
مثله.
ولو كان تعدي الوكيل في الجنسية في بيعه نسيئة، كمن يدفع إليه ذهبًا ليسلمه
في ثوب فأسلمه في بساط. فإنه لا يخلو هذا من أن يكون الموكل علم بمخالفة
الوكيل له، ودنانيره بعينها قائمة في يد المسلم إليه، أو ليست بقائمة ولا
معلومة العين. فأما إن كانت قائمة بعينها، وثبت ذلك بالبينة، أو على إقرار
الوكيل عند دفعها، بأنها للموكل، فإن من حق مالكها أن يسترجعها من يد
المسلم إليه. وقد ذكر في المدونة أنه لا طلب للموكل على المسلم إليه. وهذا
إنما يصح على أن الدنانير لم يثبت كونها هي عين ما دفعه الموكل، فإذا لم
يثبت ذلك للموكل صارت في معْنَى ما فات عينه. فإذا فات عين الدنانير لم يكن
للموكل رجوع بها على المسلم إليه، وإنما يرجع بذلك على الوكيل الذي تعدى
فيها عليه.
(2/113)
إلى هذا التأويل أشار فضل بن سلمة وقدر أن
الموكل إذا استحق عين الدنانير فلا وجه لصرفه عن عين ماله، وإذا كان لا
يستحق إلا مثلها في ذمةٍ، فذمة المتعدي عليه أولى بالطلب من المسلم إليه.
ولو كان دفع الموكل إليه ثوبًا ليسلمه. له فيما ذكرناه فأسلمه في غير ذلك
من الأجناس، لأخذه الموكل إن شاء، ولو غاب عليه المسلم إليه؛ لأن الغيبة
عليه لا تمنع من العلم بعينه، بخلاف الدنانير وما لا يعرف بعينه. هذا حكم
رجوع الموكل مع قيام رأس المال عينًا كان أو عرضًا، وما يعرف بعينه لتعلق
الأغراض فلا يلزم إمضاء العقد مع ذهاب الغرض الذي وقع العقد لأجله.
وأما إن كان رأس المال مما لا يعرف بعينه كالدنانير وما في معناها فإنه إذا
ارتجعها من يد المسلم إليه لم ينفسخ العقد وأُلزِم الوكيل المتعدي غرامتَها
للمسلم إليه لأنه مطلوب بالثمن، وقد استُحق ما دفعه منه. وإذا استحق الثمن
وهو عينٌ فإن العقد لا ينفسخ، ويلزم العاقدَ غرامةُ مثله، والعاقد ها هنا
الدافع لهذه الدنانير المستحقة، وهو الوكيل. لكن لو عقد السلم على وجه لا
يكون عليه فيه - تباعة بالثمن، فإنْ بَيَّن أنه وكيل أو رسول الموكِّل،
ليباع منه المسلَم فيه، فإنه ها هنا لا يطالب بغرامة ما استحق من الثمن.
وإذا لم يطالب بغرامة، انفسخ العقد في السلم، لكون المسلم إليه لا يجد من
يطالبه برأس المال. هذا لو ضاع رأس المال وحكم فسخ (1) العقد. وأما لو أراد
الموكل ألا يرتجع رأس المال بل يمضي العقد ويجيزه، فإنه إذن لم تَجبْ له
غرامة على أحد، وإنما استحق أخذ رأس المال من يد المسلم إليه، عينا كان أو
عرضًا، فإن له أن يجيز تعدي الوكيل، ويمضي العقد، ويصير قد ملك استرجاع عين
رأس المال وفسْخَ العقد في حق نفسه، فلا يحرم عليه أن يستأنف عقدًا برأس
المال الذي ملك استرجاعه، دنانير كان أو عرضًا.
وأما إن وجبت له غرامة مثل رأس المال أو قيمته إن كان عرضًا، قيل:
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بفسخ.
(2/114)
يمكّن من إجازة هذا العقد وإبقائه على ملك
نفسه. هذا فيه قولان: منعه في المدونة، وأجازه مالك في كتاب ابن حبيب -
وسبب هذا الاختلاف أنه قد تقرر أنه لا يجوز بيع دين بدين، والغرر (1) أنه
يجوز استئناف عقد سلم بمال يدفعه المسلم. فمن رأى أن الموكل كان بالخيار في
إمضاء العقد أو ردّه وأنه إذا اختار أحد الأمرين، وهو إمضاء العقد، فكأنه
لم يقع العقد إلا على رضاه، وارتفع عن العقد حكم التعدي. وإذا قدرنا أن ما
يُترقب من إجازة العقد إذا أوقعه، كأن العقد لم يزل ماضيًا جائزًا، فإنه لا
يتصور ها هنا بيع دين بدين، وإن قدرنا أنه وقع ما توقيناه (2) منه من
الإجازة فإن العقد لم يثبت له حكم الإمضاء في أصله، وإنما ثبت له الآن، فإن
هذا يمنع لأن هذا بالعقد الذي تعدى فيه الوكيل استحق أن يغرمه رأس المال
فانتقل عن هذا الذي استحق من الدفع للموكل رأسُ المال إلى أن أخذ عوضًا عنه
المسلَمَ فيه، فمنع من ذلك، لكونه دينًا بدين. وأيضًا فإنه قد ملك أن يردّ
العقد؛ لأنه لم يقع عن إذنه، ومَلَكَ أن يجيزه لأن الوكيل مقر أنه إنما
عقده لموكله لا لنفسه. فإذا قلنا: من ملك أن يملك إنه كالمالك، جاز ذلك؛
لأنه لم ينتقل عن الرضا بالسلم فيه عن مال تحقق له، وإن لم ينظر الموكل في
ذلك إلا بعد أن حل أجل السلم، وقبض المسلم فيه، فإن له إجازة العقد من غير
خلاف، لارتفاع ما صورناه في هذا القسم من أن يُتصور فيه بيع دين بدين.
وقصارى ما يتصور فيه أنه باع ما يستحق أن يغرمه الوكيل من رأس المال بعرض
يأخذه في الحال، وصارت المسألة على ثلاثة أقسام: إما إجازة الموكل، وقد
استحق أخذ عين رأس المال، فإنه جائز: وإما إجازة ذلك وقد قبض السلم بعد
حلوله، وهو عرض، فإنه جائز له ذلك أيضًا. وإما إجازته ذلك، ولم يستحق أخذ
عين رأس المال، ولم يحضر المسلم فيه، فيأخذه، وقد وجبت له غرامة رأس المال
على الوكيل أو على المسلم إليه، فإن في تمكينه من إجازة هذا العقد قولين،
ووجههما ما بيّناه.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: وتقرر.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: توقعناه.
(2/115)
ولو كان الوكيل تعدى فأسلم في طعام، فإنه
لا يمكَّن الموكل من إجازة العقد وأخذ الطعام وإن أخذه بالفور؛ لأنه بيع
الطعام قبل قبضه، على أحد القولين المذكررين وهو تقدير كون الطعام على ملك
الوكيل المتعدي فدفعه قبل كيله عوضًا عما وجب عليه من غرامة رأس المال الذي
ثبت في ذمة الموكل. وقد ذكر فضل بن سلمة أن أصل ابن القاسم وأشهب في هذا أن
الموكل له أن يغرم الوكيل رأس المال الذي تعدى عليه ولا طلب له بأكثر من
ذلك، أو ترك طلبه بغرامة ذلك ويباع له العرض المسلم فيه، فإن وفّى بما وجب
له من رأس المال أو زاد ثمن العرض على رأس المال، فإن ذلك للموكل، وإن قبض
عين العرض المسلم فيه عما وجب للموكل من رأس المال غرم الوكيل ما قبض عن
ذلك لكونه ضامنًا لجملة رأس المال بتصرفه فيه. وإن شاء الموكل أغرم الوكيل
رأس المال وانتظر حلول الأجل وقبَض المسلم فيه، فإذا قبض بيع، فإن كان فيه
ربح أخذه، وإن كانت خسارة كانت على الوكيل لأجل تعدّيه. وذكر أن أشهب ذكر
هذا في ديوانه وأشار إليه الدمياطي في كتبه عن ابن القاسم. وقال الأشياخ
إنما يصح بيع هذا العرض الدين إذا ظُن أن فيه ربحًا يأخذه الموكل؛ وأما إن
كان لا ربح فيه يأخذه الموكل أو فيه خسارة يفتقر الوكيل إلى غرامتها فلا
معنى لبيعه إذا دفع الوكيل للموكل رأس ماله، وإلزام بيع العرض الدين بخسارة
يغرمها الوكيل مع كونه وفَّى الموكل حقه إضرارٌ لا فائدة فيه. وهذا الذي
قالوه هو مقتضى الأصول.
ولكن عبارة أصحاب الروايات قد تشير إلى خلافه لأنهم قالوا: يباع، فإن كانت
فيه خسارة غرمها الوكيل.
والعبارة السديدة على طريقة هؤلاء الأشياخ أن يقال: يباع إن ظُن أن فيه
ربحًا. لا (1) أن يكون المراد بما وقع في الروايات أنه ظن أن فيه ربحًا
فبيع لأجل ذلك فانكشف من حال بيعه أن فيه خسارة فلا تكون عبارتهم منافرة
لما
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: إلاّ.
(2/116)
تأوله الأشياخ عليهم. وقد وقع في كلام بعض
الأشياخ ما يشير إلى أن العرض المتعدَّى في بيعه بغير ما أَذِن فيه الموكل
هو الذي يباع للدين الذي يبيع به إن كان ربح. وأما لو كان المتعدَّى في
بيعه طعامًا أو عينًا فإن ابن القاسم لا يرى بيع العرض الدين الذي هو ثمنه
لأن غرامة مثله يصيِّره كأنه لم يفت، وكأن عينه باقية، فلا معنى لتضمين
الوكيل غرامة والمتعدَّى فيه قائم أو في حكم القائم.
وإنما تَرَكَ بيعَ العرض الذي كان فيه ربح أشهبُ، ولم يعتبر كون المتعدَّى
فيه عرضًا أو عينًا.
وقد قدمنا نحن ذكر الخلاف في تضمين الوكيل مع قيام عين العرض المتعدى فيه،
وذكرنا تأويل ما وقع من الخلاف في ذلك، ولا معنى لإعادته.
ومما ينخرط في هذا الأسلوب الذي ذكرناه من تفرقة ابن القاسم بين التعدي على
العرض فيكون الحكم فيه غرامة الوكيل المتعدِّي (فيه الغرض) (1) الذي أتلف
بتعديه. والتعدِّي على مكيل أو موزون فيباع بعرض مؤجل أنه لا يباع العرض
المؤجل، على ما كنّا قدمنا حكايته عن ابن القاسم لكون المكيل والموزون،
المتعدّي في بيعه، إنما يوجب الحكمُ على المتعدي غرامةَ مثله، فكأنه لم
تذهب عينه إذا غرم المتعدِّي مثلَه. فالمتعدي إنما يضمن مع إتلافه العين
الذي تعدى فيها، والمكيل والموزون كأنه لم يتلفه إذا غرم مثله. ما ذكره ابن
القاسم في المستخرجة فيمن دفع عرضًا لمن يبيعه له بمكيلة من القمح نقدًا،
فباعه بدنانير نقدًا، أن الوكيل يُلزَم تضمينَ تلك المكيلة التي أمره أن
يبيع بها ويشتري بالدنانير التي تعدى فباع بها قمحًا، فإن كان فيه وفاءً
بما حدَّ له الموكل أو زيادة على تلك المكيلة المحدودة كان ذلك للموكل، وإن
قصرت الدنانير عن أن تشترى بها مثلُ المكيلة التي حدّ له فإن الوكيل مطالب
بأن يكمل المكيلة ويشتري من ماله ما يكمل به المقدار الذي حد له.
قال: وإن كان أمَره أن يبيع هذا العرض بعرض سماه له، فباعه بدنانير،
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: في العَرْض.
(2/117)
فإنه لا يلزمه أن (يقوم له بمثل) (1) العرض
الذي أمره أن يبيع به ولا بقيمته وإنما تلزمه قيمة العرض الذي دفع إليه
ببيعه (2). والفرق بينهما أن من استهلك مكيلًا أو موزونًا فإنما عليه مثله،
ومن استهلك عرضًا فإنما عليه قيمته.
وبسط هذا الذي أشار إليه ابن القاسم من التفرقة، أن الموكل على بيع سلعة له
بقمح محدود المبلغ، قد حرم الوكيل الموكل أن يأخذ هذا المبلغ في سلعته،
ومنعه منه بإفاتة سلعته عليه، فضمِّن ما منع منه. ونحن إذا ضمناه ما منع
منه، وصلنا المتعدَّى عليه إلى ما أراد من ثمن سلعته، فدفعنا الجنس الذي
أمران تباع سلعته به. فإذا كان الموكل إنما أمر الوكيل أن يبيع سلعته بعرض
فإن العرض لا يقضى بمثله، وإنما يقضى بقيمته على من أتلفه بعينه، فكيف بمن
لم يتلفه وإنما منع من التوصل إليه وإذا كان الحكم أن يقضى عليه بالقيمة
لأجل أنه منع الوكيل (3) من عرضه فإن القيمة التي تضمنه (4) على العرض
المرسوم له البيع به ليست هي مرادَ الموكِلْ، ولا مطابقة لغرضه، وما رسَم
في سلعته، فلا يحصل على مطابقة ما رسم في سلعته في البيع بعرض إذا أغرمنا
الوكيل قيمة العرض الذي رسم الموكِّل، وإذا لم يقدر على مطابقة غرض الموكل،
وكان لا بد من العدول عنه إلى أعدم (5) قيمة العرض، فالعرض الذي أتلفه عليه
أولى أن يضمن قيمته من عرض لم يتلفه عليه وإنما يقدَّر أنه منعه منه.
هذا وجه التفرقة التي أشار إليها ابن القاسم، وقال: إن الموكل الذي أمر
أن تباع سلعته بقمح محدود لا يباح له أن يأخذ من الوكيل غير القمح
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يغرم له مثل.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: ليبيعه.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: الموكِّل.
(4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: تضمن.
(5) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: إغرام.
(2/118)
الذي أغرمناه إياه، لكونه حرمه له (1)
ومنعه حقه. فالمعتبر عنده في هذا المعنى أن يكون الوكيل أمر ببيع عرض بمكيل
أو موزون نقدًا فخالف في ذلك.
وإنما يشترط كون المبيع المتعدَّى فيه عرضًا لما قدمناه من أنه لو كان
مكيلًا أو موزونًا لكان تضمين الوكيل مثله يصيِّر عينه كأنها لم تذهب لكون
مثله يسد مسده، والعرض لا يقضى بمثله ولا قيمة مثلٍ له فيسد مسده، فوجب
لأجل هذا اعتبار كون المبيع الذي وكِّل الوكيلُ على بيعه عرضًا لا مكيلًا
وموزونًا.
وكذلك اعتبر أن يرسم له ببيعه بمكيل أو موزون محدود المبلغ دون أن يرسم له
أن يبيعه بعرض لأجل ما قدمناه من تفرقة ابن القاسم التي بسطنا بيانها.
وبعض الأشياخ يتعقب هذا ويرى أنه ينبغي أن يُلزِمه قيمة العرض الذي حدّ له
أن يبيع به لأنه حرمه إياه ومنعه منه بإتلافٍ، فوجب أن يضمن قيمته. وقد ذكر
في المدونة أنه إذا أمره أن يبيع سلعة بعشرين دينارًا إلى أجل، فباعها بأقل
من ذلك نقدًا، أن الوكيل يضمن قيمة تلك السلعة. وهذا لكون الثمن المرسوم ها
هنا مكيلًا أو موزونًا مؤجلًا، ونحن قد أخبرنا أنه يعتبر في إغرام الوكيل
إياه كونُه مأمورًا أن يبيع به نقدًا. ورأى هؤلاء المتعقبون أنه ينبغي أن
تلزمه هذه الدنانير المؤجلة التي حد له البيع بهلالكونه أتلفها عليه، ومنعه
منها بتعديه على سلعته، طردًا لما قاله في مخالفة الوكيل المأمور بأن يبيع
السلعة بقمح نقدًا فباعها بدنانير؛ لأن جميع هذه الأنواع يتصور فيها حرمان
الموكل ما سمَّى ورسم أن تباع به سلعته، لكن ينبغي إن سلك في هذا طريقة
أخرى فينظر في هذا الذي سماه الموكل، فإن كان مما لا يتأتى البيع به
غالبًالأولا يمكن أن يحصل له في سلعته، فإن الوكيل لا يغرمه لأجل تسميته
لأنه سمّى له ما لا يصح له، كمن أمره أن يبيع سلعة، قيمتها مائة، بألف،
فإنه لا يحسن ها هنا أن يقال يضمن الوكيل له ألف دينار، لأجل أنه قد سمّى
له البيع بها، فكذلك إذا أمره أن يبيع سلعته بعرض لا يباع به غالبًالأولا
يتأتى البيع به في غالب الأمر، فإنه لا
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: منه.
(2/119)
يحسن أن يلزم الوكيل غرامة قيمة ما لا
يتأتى البيع به غالبًالأولا يتحصل مقدار قيمة العرض الذي يباع به. ولعله
لهذا فرق بين أن يأمره بأن يبيع سلعته بقمح أو بعرض، لكون العرض لا يتأتى
البيع به غالبًالأولا يَنضبط أسْعارُ البيع به، وقد ينضبط بالقمح إذا كانت
عادتهم التبايع به. وهكذا ما ذكر في المدونة من أمره أن يبيع سلعته بدنانير
إلى أجل محدود لا يتأتى غالبًا، لكن إن سمّى له ما يبيع به مما يتأتى
غالبًا، ويمكن أن يحصّله البائع لسلعته ثمنًا لها، فإنه قد يجري هذا على
القولين في تضمين المتعدي ما منع منه لا ما أتلفه. كمن أتلف سلعة وقفت على
ثمن معلوم، فإن فيها قولين: أحدهما أنه يضمن قيمتها لإتلافه إياها.
والثاني أنه يضمن الثمن الذي وقفت عليه. من ذلك تضمينه السلعة التي حال
سوقها (1).
__________
(1) في مخطوطة (و) تنبيه في نهاية الورقة (27 ظ) نصّه: هنا نقص في النسخ
الأصول.
وفي مخطوطة (م) النقص واضح ولم ينبه عليه.
(2/120)
فصل آخر في الرهن في السلم
اعلم أن النكتة المعتبرة في هذا الفصل هي المعنى المعتبر في بيوع الآجال
التي ينبني الحكم فيها عندنا على حماية الذرائع واعتبار ما خرج عن اليد
وصار إليه على جهة المعاوضة هل يجوز به التعاوض أم لا؟ وهل تتطرق التهمة
فيه إلى المتعاوضين بأنهما قصدا لإظهار فعل يجوز ليتوصلا به إلى ما لا يجوز
أم لا؟ هذا هو المعتبر على الجملة، وبسطه على التفصيل:
أنا إذا فرضنا كون رجل أسلم إلى رجل آخر في شيء وأخذ المسلم من المسلم إليه
رهنًا بما (1) فإنك قد علمت أن ها هنا ثلاثة أنواع مالية: رأس مال السلم،
والمسلم فيه، والرهن بالسلم، فيعتبر عندي دعوى المسلم قابض الرهن عوضًا عن
رأس مال السلم. وهل يجوز أن يؤخذ عن غير المسلم فيه؛ فإن امتنعا جميعًا أو
منع أحدهما منعت المقاصصة بالرهن والمشاركة على إسقاط السلم عوضًا عن الرهن
المدعى تلفه. وإن جازا جميعًا عدت إلى النظر في قيمة الرهن هل يجوز
المعاوضة به عن المسلم فيه أم لا؟ وهل يعتبر جواز المعاوضة بقيمة الرهن من
رأس المال أم لا؟ المذهب على قولين: ظاهر المدونة أن ذلك لا يعتبر. وذهب
ابن ميسر إلى أنه يعتبر، كما اعتبر ذلك في المعاوضة عن المسلم فيه، وتطرق
التهمة ها هنا قد يقوى فيقوع. المنع وقد يَضعف فيضعف المنع.
وإنما تتطرق التهمة إذا كان ما أظهراه من المقاصصة قد تكون طريقًا إلى
التحيل على فعل ما لا يجوز إلا (2) بإظهار هذا الجائز. وبيان هذا كله
بالمال أنا إذا فرضنا كون رجل أسلم دنانير وحيوانًا أو عروضًا، وأخذ من
المسلم إليه دراهم
__________
(1) نقص، ولعله: بما هو دين في ذمته.
(2) هكذا في النسختين ولعل الصواب حذف إلا.
(2/121)
بالسلم الذي له عليه، ثم أتى بعد ذلك فادعى
ضياع الدراهم، وأراد أن يتشاركا ولا يغرم المسلم إليه بما عليه من حيوان أو
عرض، فإن المذهب المنع من ذلك. وأنت إذا عرضته على الأصل الذي قررناه لك
علمت وجه المنع لأن رأس المال الذي هو دنانير لا يجوز أن يؤخذ عنه دراهم
مؤخرة لكون الصرف المستأخر لا يجوز. فقد تقرر من هذا أنهما أبطنا العقد على
بيع دنانير بدراهم إلى أجل ولم يظهرا ذلك لئلا يفسخ عليهما ويُعاقبان عليه،
فتشهرا بأن سميا هذا الذي أظهراه سلمًا ورهنًا. وهذا اعتبارًا لمعاوضة عن
أحد الطرفين وهي رأس المال. ولكن هذه التهمة إنما تتصور إذا أخذت الدراهم
رهنًا بعوإنقضاء مجلس السلم؛ لأن مجلس السلم إذا انقضى وأقر بأن الدنانير
المدفوعة إنما هذا على أن عوضها دراهم لا ما أظهراه من السلم فيه مُنِعا من
ذلك وعوقبا عليه إذا أَتياه عن علم بتحريمه، فلو صورت المسألة على أن
الدراهم أُحضِرت حين عقد السلم، وحين دفع الدنانير، وقبضت في الحال رهنًا،
فإن التهمة ها هنا مرتفعة، ولا حاجة بهما إلى التحيل بهذا على ما لا يجوز
لأنهما لو شاءا لجعلا التقابض للدنانير والدراهم صرفُ ا. فإذا كان ذلك
جائزًا لهما، أظهراه أو أبطناه، فلا حاجة بهما إلى فعل آخر يكون ظاهره خلاف
باطنه. ويجري على هذا الأسلوب لو كان الرهن دنانير ورأس المال دنانير، هل
بهما حاجة إلى هذا التحيل لكون المعاوض يتضمن تفاضلًا بين ذهبين أو نوعًا
من أنواع الربا فيمنع من المقاصّصة، كان ارتهان الدنانير في مجلس السلم أو
بعده، أو لا يقعان في محرم إذا أظهرا ما أبطنا أم لا؛ وهذا يعرف من مسائل
كتاب الصرف وأحكام المراطلة.
وأما اعتبار الطرف الآخر وهو المعاوضة عن المسلم فيه، فإنا لو فرضنا أن
الرهن ثوب كتان والمسلم فيه ثوب كتان من جنس الرهن، فإنه إن أراد المقاصصة
والمشاركة عند دعوى ضياع الرهن، وكان ذلك قبل حلول أجل السلم فإنه يجوز إذا
كان الثوب المرتهن مثل الثوب المسلم فيه. وأما إن كان أجودَ منه أو أدنى
فإن ذلك يمنع لأن من عليه ثوب كتان إلى أجل يمنع من تعجيل ما هو أدنى منه
قبل حلول الأجل لأنه حط من صفة ما عليه عوض ما
(2/122)
عجل ويمنع من تعجيل ما هو أجود لأنه حط عنه
الضمان لأجل ما زاد من الجودة وإذا كان هذا ممنوعًا منه في السلم الذي لم
يؤخذ به رهن منع في هذا السلم الذي أخذ فيه هذا الرهن لئلا يكونا إنما
أظهرا تسمية الثوب المأخوذ رهنًا على أن يدعيا ضياعه ويتقابضاه. ولو كان
الثوب المرتهن مثل الثوب المسلم فيه، ليس بأجود ولا بأدنى، فإن المقاصة ها
هنا جائزة كما يجوز تعجيل مثل ما عليه من الثياب قبل الأجل من غير أن يكون
أدنى ولا أجود. لكن لو حل الأجل ها هنا لم يمنعا من المقاصة لارتفاع ما
صورناه من التحيل على الوقوع في: ضع وتعجل، أو حط الضمان وأزيدك. لأن الأجل
إذا حل وجب التعجيل فلا يفتقر الطالب إلى أن يسقط من حقه شيئًا ليعجل له
حقه، وقَدَر المسلم على البراءة مما عليه فلا يفتقر إلى أن يزيد شيئًا فيحط
عنه الضمان. ورأى بعض أشياخي إنما يتضح فيه ارتفاع التهمة مع حلول الأجل
إذا كان ارتهان الثوب مقارنًا للعقد، وأما إن كان بعد تراخي العقد فإنه قد
تتطرق إليه التهمة بأن يدفعه، وهو أدنى أو هو أعلى مما عليه، عوضًا عن
الثوب المسلم فيه إليه، وأخرا ذكر المقاصة إلى حلول الأجل؛ لأنهما لو
حاولاها قبل حلول الأجل لمنعا من ذلك ما قدمناه (1).
وهذا الذي قاله مما ينظر فيه هل تقوى فيه التهمنة أم لا؟ هذا اعتبار
المعاوضة بعين الرهن عن رأس المال وعن المسلم فيه قد ذكرنا مُثُلَه.
وأما اعتبار المعاوضة بما لزم عن غرامة في الرهن، وأنا إذا فرضنا أن رجلًا
باع ثوبًا بدنانير إلى أجل وأخذ ثوبًا رهنًا بالدنانير ثم ادعى بعد ذلك
ضياعه، وهو مما يقوم بالدنانير، فإنما يمنع ها هنا من المقاصة والمشاركة؛
لأن الواجب لصاحب الرهن على قابضه دراهم وهي قيمة الرهن فتركها له، وقد وجب
له أخذها عاجلًا، بشرط أن يضع رهنًا بدلها، وإن لم يجد رهنًا طبع عليها
ووقعت رهنًا فإذا تتاركا صار ذلك صرفُ امستأخرًا لأنه ترك دنانير له مؤجلة
بدراهم وجب عليه أداؤها معجلة. هذا على المذهب المشهور في منع مصارفة العين
المؤجل في
__________
(1) هكذا، ولعل الصواب: على ما قدمناه.
(2/123)
الذمم. وأما اعتبار أخذ قيمة الرهن على رأس
المال على أحد القولين المقدم ذكرهما، فإنا لَوْ فرضنا أن هذا الثوب يقوّم
بالدراهم لا بالدنانير، وقيمته أكثر من مقدار رأس السلم، فإن ذلك لا يجوز
على مذهب ابن ميسر، كما لا يجوز لمن أسلم دنانير في سلعة أن يقيل منها على
دنانير هي أكثر من رأس المال، لأجل كونهما يتهمان على سلف بزيادة، بأن يدفع
دنانير ويأخذ بعد حين أكثر منها.
وهذا القول غير مرضيّ عند بعض أشياخنا. وقد أشار ابن المواز إلى ما يقتضي
ضعف هذا الاعتبار وإن كان أوردهُ في غير هذا السؤال، وذكر أنه لا يخلو أن
يكون من بيده الرهن قد علم الله سبحانه صدقه في الضياع فلا تجب عليه غرامة
حتى يعتبر ما يحل ويحرم في هذه الغرامة، وإن كان كذب فعين الرهن باقية
نفسها، ينظر هل تجوز المعاوضة بها أم لا؟ ومعنى النظر في قيمتها (1). وأما
اعتبار قيمتها في المعاوضة عن المسلم فيه، على حسب ما حكيناه عن المذهب،
فإنما ذلك لأجل أن المسلم فيه دين مستقر في الذمة سبق استقراره المعاوضةَ
والمشاركة، فتجري المشاركة فيه مجرى المبايعة، ومن باع دينًا له في ذمة آخر
نظر في العوض الذي يأخذ عنه هل يجوز أن يؤخذ عنه عوض أم لا؟ والذي بيده
الرهن مقر على نفسه أن المعاوضة إنما كانت منه على القيمة الواجبة عليه.
وإن كان السلم في طعام وأخذ به ثوبًا رهنًا، فادعى المرتهن ضياعه، لم تجز
المعاوضة لإمكان أن يكون الرهن باقيًا لم يذهب فيكون أخذه عوضًا عن الطعام
الذي في الذمة بيعًا. وإن كان قد ذهب. ووجبت فيه القيمة وهي خلاف رأس المال
فلا يجوز أيضًا لكون ذلك بيعًا للطعام قبل قبضه .. إن كانت مثل رأس المال
لمنعا من ذلك، لجواز أن يكون كذب المرتهن في دعوى ضياعه، فيكون إقالة منهما
على غير رأس المال. وهذا إذا كان الطعام من بيع. ولو كان من قرض لم يعتبر
فيه هنا المعنى المعتبر في العروض، لكون بيع الطعام القرضِ جائزًا قبل
قبضه.
__________
(1) هكذا.
(2/124)
ولو كان الرهن المأخوذ بطعام السلم دنانير
مثل رأس المال، فإن ارتهانها إن وقع بعد العقد ثم ادعى من هي بيده الضياعَ
فإن المعاوضة لا يعتبر فيها ها هنا بيع الطعام قبل قبضه، لكون الإقالة في
ذلك على مثل رأس المال سرًّا غير ممنوعة. لكن لو كانت الدنانير المأخوذة
رهنًا قد اشترط أخذها، مطبوعًا عليها، رهنًا في أصل العقد، فإن هذا مما
تنازع فيه الأشياخ، فمنعه منهم قوم، وتأول التهمة يتطرق ها هنا إلى أصل صحة
العقد لا إلى نفس المشاركة، لأجل أن اشتراط تأخر رأس المال السلم لا يجوز،
على حسب ما قدمناه في موضعه. وإذا دفع إليه مائة دينار في عروض، أسلم إليه
فيها، وأخذها منه مطبوعًا عليها، فكأنه لم ينقد رأس المال.
وأشار الشيخ أبو القاسم بن الكاتب إلى جواز ذلك. وقد يحتج بقوله في
المدونة: إذا أسلم في طعام وأخذ منه طعامًا رهنًا مطبوعًا عليه فإن ذلك
جائز كما يجوز ارتهان الدنانير المطبوع عليها. وقد أجبت عن هذا بأن قوله في
المدونة: وأخذ طعامًا رهنًا؛ يمكن أن يريد به أنه ليس ما وقع فيه السلم،
حتى لا يكون أسلم في شيء وأخذه معينًا مطبوعًا عليه على أن لا يملكه إلا
إلى أجل، وإنما شبهه بالدنانير المطبوع تشبيهًا على الجملة لكون الدنانير
لا تعرف بعينها كما لا يعرف الطعام بعينه، وإنما لم يتهمهما أيضًا في
ارتهان الطعام المطبوع عليه بخلاف اشتراط ارتهان مثل رأس الم الذي دنانير
مطبوع عليها لأجل أن هذا الطعام المرتهن مضمون بالغيبة عليه ضمان الرهبان،
وبيع المعين بشرط القبض إلى أجل إنما يمنع لأجل أن الضمان من المشتري بحكم
الشرع، فإذا شرطه على البائع فقد زاد في الثمن لأجل هذا الشرط فصار بيعًا
للضمان، وبيع الضمان لا يجوز. وأما اشتراط ارتهان دنانير مثل رأس المال فإن
ذلك يصير العقد في صورة سلم شرط فيه تأخير رأس المال. ولما ذكرنا ما تعلق
به بعض الأشياخ من لفظ المدونة ها هنا، وكنا قدمنا في هذا الفصل أن ظاهر
المدونة كون قيمة الرهن لا يعتبر مع رأس المال، فاعلم
(2/125)
أن اللفظ الذي يشير أيضًا إلى هذا المعنى
الآخر هو قوله في الكتاب: إذا أسلم في عروض أو حيوان وأخذ رهنًا فادعى
ضياعه وأراد المقاصة فإن ذلك يجوز إذا لم يكن رأس المال ذهبًا أو ورقًا.
فأطلق الجواز من غير اعتبار لقيمة الرهن وقد قدمنا إشارات ابن المواز إلى
تصحيح هذا المذهب.
(2/126)
فصل في صلح الكفيل:
اعلم أنه ينبغي أن يقدم ها هنا الكلام على ما يجوز شراؤه من الديون الثابتة
في الذمة وما لا يجوز. والدين يكون على رجل حي أو على رجل مات.
فأمّا الدين الذي على رجل حي فإنه لا يخلو أن يريد شراءَهُ رجل لا مطالبة
عليه بهذا الدين ليكفله به وضمانه عليه. فأما أن (1) الشراء رجل لا مطالبة
عليه.
بهذا الدين على حال، أو رجل قد يطالب بهذا الدين على حال، فإنه يعتبرها هنا
وجهان أحدهما كون الثمن الذي يشتري به هذا الدين مما يجوز أن يُسلَم في
الدين المشترَى أو لا يجوز أن يسلم فيه. والوجه الثاني كون هذا العقد لا
غرر فيه ولا خطر ..
فأمّا الوجه الأول، وهو اعتبار جواز سلم الثمن ها هنا في المثمون، فمثاله
أن يسلم رجل إلى رجل في ثياب معدودة موصوفة إلى أجل معلوم فإنه إذا أراد أن
يبيعها بعرض نظرت في هذا العرض فإن كان مخالفًا لجنس الثياب التي أسلم فيها
كبيعه الثياب بأكسية أو بحيوان فإن هذا لا يمنع؛ وإن كانت الثياب التي
يأخذها ثمنًا عن الثياب المسلم فيها أقل (2) أو أدنى في الجودة فإن هذا
ممنوع، إذ لا يجوز سلم قليل في كثير من جنسه أو أدنى في جيّد من جنسه لأن
ذلك يكون سلفًا جر منفعة. وكذلك لو أراد أن يشتريها بثياب هي أكثر عددًا أو
أعلى في الجودة فإن ذلك يمنع؛ لأنه ضمن له الثياب التي أجّلها لِمَا ازداد
من عدد أو جودة وهذا لا يجوز في بيع ما في الذمم وما يتأخر قبضه، وإنما
__________
(1) فرك: بمقدار كلمة في النسختين.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أقل عددًا.
(2/127)
يجوز فيما كان يقبض على الفور كالمعينات.
وكذلك لو باع رجل من رجل ثوبًا بدنانير إلى أجل معلوم ثم أراد رجل آخر شراء
هذه الدنانير منه بدراهم، فإن ذلك لا يجوز، لكونه صرفا فيه تأخير، وبيع
دنانير بدراهم ليست يدًا بيد. ونحن وإن اعتبرنا في هذه القاعدة كون الثمن
ها هنا يجوز سلمه في المثمون فإنما يعتبر ذلك من ناحية الجنسية لا من ناحية
الأجل، فإن الأجل معتبر في صحة السلم، على ما تقدم بيانه في كتاب السلم
الأول، وها هنا لا يعتبر الأجل ولو وقع الشراء لقرب حلول أجل السلم أو عند
حلوله لم يمنع ذلك؛ لأنه مشترًى قد حصل في الذمة، وحصوله في الذمة دين لم
يقع عليه بهذا العقد الثاني، وإنما وقع بالعقد الأول، والعقد الأول هو الذي
يراعى فيه حصول الارتفاق بضرب الآجال كما تقدم بيانه في موضعه وأمّا إذا
حصل السلم دينًا في الذمة جرى بيعه مجرى المعيَّنات التي لا يشترط في صحة
عقدها ضرب الأجل. فهذا مثال الوجه الأول، وهو اعتبار جواز السلم في المثمون
ها هنا.
وأما الوجه الثاني وهو اعتبار ارتفاع الغرر، فإن الغرر يتصور ها هنا في كون
هذا الجميع مترددًا بين الحصول والانتفاء، فيقتضي هذا اعتبار معرفة ذمة
الغريم المبيع ما عليه من دين هل هو مليء الذمة أو فقير؛ لأنه إن كان
مليئًا بدين فإنه يفي بما عليه تصورت الرغبة في شراء ما عليه، وإن كان
فقيرًا لا يرجى أخذ ما عليه لم يُقدم أحد على شراء ما عليه فاحتيج هذا إلى
الاطلاع على مقدار ما في يديه على الجملة، حتى يقع العقد على صفة لا تخاطر
فيها ولا غرر، وهذا يقتضي إمكان المعرفة بملائه من فقره، وهذا يمكن مع
حضوره. وأما إن كان غائبًا بمكان بعيد فإن المعرفة بذلك لا تمكن للجهل بحال
الغائب. ولو أتى من أخبر عنه بأنه غادره مليئًا، مكن أن يكون يتلف ما بيده
أو يكثر عليه الديون حتى لا يحصّل المشترى (ما عليه شيء) (1) أو يحصل له ما
لا يعرف مبلغه إذا
__________
(1) هكذا، ولعل الصواب: مِمّا عليه شيئًا.
(2/128)
وقع الحصاص. وأما إن كان قريب الغيبة، ولا
بينة عليه، فإنه يمنع أيضًا لأجل ألا يحوز جحوده (1) للدين فلا يحصل
للمشترى المثمون الذي بذل فيه الثمن.
وإن كان عليه بينة فإن ابن المواز اختار ها هنا الشراء، وقدر أن الخطر ها
هنا والغرر يبعد. وتعقب هذا بعض أشياخنا من جهة إمكان دعواه قضاء الدين
الذي ثبت عليه، أو تجريحه للشهود فيصير المشتري غير موثوق بحصوله إذا جرح
الشهود. أو أقام بينة بالقضاء وحلف عليه إذا ردت اليمين عليه. لكنه سلم
ارتفاع التعقيب إذا ثبت أنه حين غاب كان مقرًا بالدين. وهذا عندي أيضًا قد
يتوجه فيه القدح الذي أشار إليه لجواز أن يجرح البينة الشاهدة بإقراره حين
غيبته.
وأما إن كان الذي عليه الدين قد مات، فإنه ذكر ابن المواز أنه لا يجوز شراء
ما عليه، ولو مات مليًّا، لأجل أنه قد يطرأ عليه غريم أو غرماء يستحقون ما
ترك فيضمن (2) هذا العقد غررًا لأجل هذا الإمكان الذي قررناه. وأشار بعض
أشياخنا إلى أنه إذا كان قد مات مليًّا وهو غير معروف بمداينة الناس فإن
الشراء لا يمنع. وأشار إلى التعلق بما وقع في المدونة في كتاب المديان من
قسمة ماله بين غرمائه إذا لم يعرف بمداينة الناس.
وهذا الذي أشار إلى التعلق به من مسألة المدونة قد يقدح فيه: فإن الغرماء
قد استحقوا ماله بالمعاملة التي تقدمت بينهم وبينه في حياته وقد حل حقه (3)
فلا وجه لإضرارهم بتأخير حقهم الذي قد حل، ويطالبهم بما وجب لهم، فدعت
الضرورة من اعتبار إزاحة الضرر عنهم إلى قسمة ماله بين من استحقه، ولا
ضرورة تلجىء هذا إلى شرءا دين على ميت، فاعتبر في أمر هذا الإمكانُ
والتجوّز (4) لتطرق غرماء إذ ليس في اعتبار إلحاق ضرر بآخر.
__________
(1) هكذا؟ والكلام غير واضح.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فيتضمّن.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: حَقُهم.
(4) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: والتجوير.
(2/129)
هذا حكم شراء الديون إذا اشتراها من لا
مطالبة عليه بها.
وأما إذا اشتراها من قد يطالب بها لِحَق كفالته وضمانه لها فإنه ذكر في
المدونة، فيمن أسلم دنانير في ثياب إلى أجل وأخذ بها كفيلًا (1) وللكفيل
شراؤها بما يحل له أن يشتري به إذا كان الذي عليه الدّين حاضرًا مقرًا.
فأمّا اشتراط حضوره فإنه ثابت عند رواة المدونة.
وأما اشتراط إقراره فإن الرواة اختلفوا فيه: فأثبته العسال، وأسقطه غيره من
الرواة. وذكر بعد هذا في المدونة في هذا الباب فيمن له على رجل دراهم أخذ
بها كفيلًا، أنه يجوز للكفيل أن يشتريها لنفسه بقرض، ولم يشترط في هذه
المسألة شرطًا كما اشترطه، في المسألة الأولى التي ذكرناها.
وكما اختلفت الرواة في لفظ الإقرار في المسألة الأولى المذكورة اختلف
اختيار المتأخرين فيما صنعه الرواة من إسقاط لهذه اللفظة أو إثباتٍ، فكان
أبو محمَّد اللؤلؤي وغيره يرى أنه لا حاجة إلى إثبات لفظة الإقرار لكون
الكفيل ها هنا مطلوبًا بهذا (أبدا لدين الذي يكون) (2) الكفيل: إنّ من
تكفلتُ عنه ظالم في جحوده كاذب في إنكاره. وإذا كان هذا الدين لا يسقط ملك
بائعه عنه على حال، لم يعتبر ها هنا إقرار من هو عليه، بخلاف ما لو اشتراه
من ليس بكفيل به لأن جحود من هو عليه لا يوجب مطالبة على مشتريه، فيصير
المبيع ها هنا لا يوثق بحصوله ولا بكونه ملكًا للبائع، فلم يجز العقد إلا
مع الإقرار بخلاف الكفيل: وهذا إذا وقعت الكفاله على وجه يوجب مطالبة
الكفيل بالدين وإن جحده من هو عليه. وأما لو كانت كفالته به بعد معاقدة
طالب الدين والمطلوب به والكفيلُ لا علم عنده يكون الطالب مستحقًا للطلب،
فإن الكفيل ها هنا كغيره يشترط في صحة شرائه الإقرارُ لأن من حقه مطالبة من
له الدين الذي تكفل به بإثبات دينه على من زعم أنه يستحقه عليه.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فللكفيل.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: الدين الذي يقول.
(2/130)
وهذا الذي أشار إليه هؤلاء من الفرق طريق
صحيح في التفرقة بين حصول الغرر في شراء من لم يتكفل بالدين وشراء من تكفل
به لكن المسألة عندي على طريقة هؤلاء يلاحظ مسألة أخرى، قدمنا ذكرها في
كتاب السلم الأول، وهي إذا عقد السلم بوكالة على أن الموكِّل إن جحد لزم
الوكيل المطالبة بالسلم، وقد قدمنا هناك أن كون هذا المبيع مترددًا بين
ذمتين يقتضي فيه غررًا فيمنعه سحنون، ويجيزه ابن القاسم؛ لأنه يرى هذا
التردد بين الذمتين غررًا، كما قدمنا بيان القول فيه. وكذلك ها هنا تعليل
هؤلاء يقتضي كون بائع الدين باع ما لا يدري هل يستحقه ويقبضه من ذمة
المديان أو من ذمة الكفيل فإن كان يقول: إني أستحقه في الذمتين جميعًا لكن
أحدهما ظالم، فإنه لا يقضى له على هذا (1) جحد بأن يسلم إليه ما ادعى به
عليه.
وبعض من سلك هذه الطريقة يشير إلى أن الأصل ما ذكره في المدونة في المسألة
الثانية إذا اشترى الكفيل ما تكفل به من دراهم بعرض لنفسه فإن ما اشترطه في
المسألة الأولى من الإقرار يستغنَى عنه. ومنهم من سلك خلاف هذه الطريقة،
ورأى أن الكفيل يفتقر فيه إلى شرط كما يفتقر في ذلك إذا اشترى هذا الدين من
لم يتكفل به، ويعتل بأنه لا يقصر الغرر على الجحود خاصة بل كل إمكان تحصل
الثقة بحصول المبيع يوجب المنع إذا وقع التحرير بين الحصول والانتفاء على
وجه واحد. وها هنا يمكن أن يكون الغريم الذي عليه السلم يدعي القضاء ويقيم
عليه بينة، فيسقط الطلب بالدين عنه وعن الكفيل، وينصرف الح الذي اليمين فلا
يبدل الكفيل من الثمن وهو يقدر أن المشتري لا يحصل له ما يبدله وهو يعلم أن
المشتري حاصل له واختلاف الثمن ها هنا يتضمن غررًا في العقد فوجب المنع إذا
لم يقع إقرار. وهؤلاء يشيرون إلى أن الأصل ثبوت الإقرار وإنما حذف الثانية
اختصارًا واكتفاءًا بما تقدم. ومنهم من يريد إبقاء كل مسألة من هاتين على
ما هما عليه ويرى أن المسألة الأولى الدينُ المشترَى فيها
__________
(1) هكذا في النسختين.
(2/131)
عروض، والعروض قد يتنازع فيها في صفتها
ويكثر الخصام فيها، فلهذا اشترط الإقرار فيها. والمسألة الثانية إنما لم
يشترط الإقرار فيها لكون المتكفل به دراهم، والدراهم لا يتنازع في صفتها
فيعدل عن الغرر.
وهذه الطريقة ليست سديدة ولا واضحة، وقد تُحصر العروض حصرًا لا يقع فيها
تنازع ولا خصام، وتشهد البينة بذلك، فلا يكون بينها وبين الدراهم فرق،
وإنما للنظر مج الذي اعتبار الغريم القضاء فيبطل الدين المبيع إذا حكم بصحة
القضاء ويصير كتجويز الجحود، أوْ لا يعتبر هذا لكون دعوى القضاء في دعوى
(1) النادر، وما يندر لا يوجب في العقد غررًا ..
ومن الأشياخ من سلك طريقة أخرى وتوسط فيها بين هاتين الطريقتين، فرأى أن
الأجل إذا كان لم يحل احتيج في شراء الكفيل إلى إقرار الغريم، لكون الكفيل
لم يتوجه عليه طلب، وإذا حل الأجل لم يفتقر في شراء الكفيل إلى إقرار
الغريم، لكون الطلب متوجهًا عليه. وبعضهم يتردد في هذا التفصيل ويقول: قد
لا يطلب الحميل وإن حل الأجل، وإذا أمكن أن لا يطلب إذا حل الأجل صار ذلك
كشرائه قبل حلول الأجل. وبعضهم يشير إلى أنّا إن قلنا بأحد قولي مالك من
كون مستحق الدين مخيّرًا بين طلب الغريم أو الكفيل اتضح كون الكفيل كغريم
اشترى ما عليه. وإن قلنا: إنه لا يطالب إلا بعد تقرُّر أخذ الدين ممن هو
عليه، أمكن ها هنا أن يعتبر الإقرار ليطلع على ملائه من فقره لما ذكرناه من
التجويز المتطرق إلى غريب غائب، وأيضًا فإن الطلب يتوجه على الكفيل في
عينه. وأما مع حضوره وملائه ففيه الخلاف الذي ذكرناه. وقد قال ابن المواز
أنه لا يفتقر (2) شراء الكفيل من شراء غيره إلا في وجه واحد وهو أن الكفيل
لا يجوز له أن يشتري الدين الذي تكفل به إلا بما يجوز لمن هو عليه أن
يشتريه.
فإذا أسلم رجل دنانير في ثياب فإن الغريم الذي عليه الثياب لا يجوز أن يقضي
__________
(1) هكذا، ولعل الصواب: حكم.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يفترق.
(2/132)
عنها دراهم أو ذهبًا أكثر مما قبض لئلا
يكون قد قبض دنانير ورد أكثر منها فيكون سلفًا بفائدة، أو قبض دنانير وردّ
دراهم فيكون صرفًا مؤخرًا، فكذلك الكفيل يمنع من الشراء بهذا لأنه كغريم
ثانٍ.
هذا الذي أشار إليه ابن المواز. وظاهره يقتضي أنه يفتقر في إجازة شرائه إلى
إقرار الغريم كما يفتقر إلى ذلك في شراء هذا الدين من لم يتكفل به، لقوله:
إنهما لا يفترقان إلا في وجه واحد. وذكر ما حكيناه أنه أشار إليه.
وقد قال بعض الأشياخ: إن هذا الذي ذكره من منع الكفيل أن يشتري بما لا يجوز
أن يُقِيل أحدهما من جميع ما عليه، وقدر أنه وإن أقاله من جميع ما عليه فإن
ما سوى ذلك مما يحلّ كأنه عليه وهو غريم مطلوب به، فمتى أقاله من كل ما
عليه فكأنه أقاله من بعض ما عليه، والإقالة من بعض ما عليه لا تجوز.
وهذا يشير إلى ما قال ابن المواز من أن ما يطلب به الكفيل بحق الحمالة هو
كما يطلب به بحق المعاملة التي عامل لنفسه.
وبعض الأشياخ يشير إلى أن هذا إنما يحسن إذا كانت الكفاله وقعت مقارنة
للعقد، فيحسن حينئذ كون الكفيل يقدّر غريمًا، وأما لو كانت الكفاله بعد
العقد فإنه لا يعتبر ها هنا ما يشتري به الكفيل من دراهم أو ذهب أكثر من
رأس المال، لكون العقد عليها وقع قبل كفاله الكفيل.
وبعض الأشياخ يشير إلى أنه لا يجب بمقتضى القياس اعتبار هذا في حق الكفيل
لأن الغريم هو قابض الدنانير فيُتَّهَم على أنه رد أكثر منها وجعل الزيادة
عوضًا لانتفاعه، والكفيل ها هنا لم يقبض ذهبًا ولا انتفع بشيء يقدر إنما
زاد منه على رأس المال عوض الانتفاع.
وهذا الذي قاله له وجه على مقتضى تعليل أهل المذهب في منع الغريم أن يقضي
ها هنا عمَّا عليه من ثياب ذهبًا أكثر من رأس المال الذي أخذه.
هذا حكم شراء الوكيل ما يكفل به لنفسه. وأما لو اشتراه لغريمه فإنه لا
(2/133)
يلزم الغريم شراء الوكيل له بغير إذنه
لكونه، عقد على جائز الأمر ما لم يوكله عليه. ولكن من عقد بيعًا على جائز
الأمر كان الخيار في إمضاء العقد أو رده للمعقود عليه، ما لم يمنع مانع من
إمضاء العقد لفساد العقد فيبقى النظر ها هنا في صحة عقد الكفيل، على أن
الخيار للغريم في إمضاء العقد أو ردّه. فاعلم أنه لا يخلو أن يكون صالح
الكفيل عن الغريم بجنس آخر خلاف ما على الغريم، هذا الذي صالح به إنما وقع
عن دين ليس بعين دنانير أو دراهم، أو وقع الصلح عن دنانير أو دراهم ثبتت في
ذمة، فصالح الكفيل عنها بما يقضى فيها بالمثل أو بما يقضى فيه بالقيمة.
فأما إذا وقع الصلح عن دين في ذمة الغريم ليس بعين، فإن كل ما صالح به
الكفيل من الأجناس المخالفة لما على الغريم فيه اختلاف: هل يمكن الغريم من
الرضا بما عقده الوكيل عليه لكون ما عقده عليه جائزًا؟ أو لا يمكن من ذلك
لكون ما عقده الكفيل وقع فاسدًا؟ فمنع من هذا العقد في كتاب السلم من
المدونة وأجازه في كتاب الحمالة. وسبب هذا الاختلاف أنك قد علمت أن الشرع
ورد بمنع العقود الواقعة على غرر وخطر، وسامح فيما طريقه المعروف والرفق
والإحسان ما لم يسامح به فيما طريقه المكايسة والمتاجرة، كمنعه بيع المجهول
وما لا يحاط به، وإجازته ما أعراه من تمر نخلة وإن اشتراه بخرص، على ما يرد
بيانه في كتاب العراياة وما ذاك إلا لكون شراء العرايا المقصود به الرفق
والإحسان" فخالف ما قصد به من العقود المكايسة والمغابنة.
وها هنا إذا تكفل الغريم بثياب في ذمة رجل ثم اشتراها من يستحقها بثياب
مخالِفة أو بطعام أو حيوان أو دنانير ودراهم فإنك قد علمت أن هذه المعاوضة
لا تلزم الغريم، وإذا كانت لا تلزمه، وله الخيار في إمضائها عليه وردها،
(فقد صار الكفيل عوضًا) (1) لا يدري ما يأخذ عنه، إما الثياب التي على
الغريم إن لم يرض بعقده عليه، أو مثل ما دفعه للكفيل إن كان له مثلٌ، فيكون
__________
(1) هكذا في النسختين ولعل الصواب فقد صار للكفيل عوض.
(2/134)
الكفيل كأنه أسلف شيئًا ورجع إليه مثله؛
وإذا كان العقد مترددًا بين أن يقع بيعًا أو سلفًا كان ذلك فاسدًا؛ لأنه في
معنى سلف جر منفعة، إذ لا يسمح يكون هذا سلفًا إلا لرجائه أن يكون بيعًا
فيربح فيه، وإذا تردد عقده بين هذين الأمرين وجب منعه وإفساده. لكنا كنا
قدمنا أن الشرع عَفَا عن (بعض الغَريم) (1) إذا قصد به الرفق والإحسان" على
حسب ما قدمناه، والقصد هنا من الكفيل في غالب الأمر "الإحسان للغريم، ومثل
هذا القصد يخرج العقد عن كونه عقد مكايسة ومخاطرة، فحسن إمضاؤه. فهذا سبب
اختلاف القول فيه. وأيضًا فإن العقد إذا التفت فيه إلى هذا الوجه كان
صحيحًا ما بين المتعاقدين، وهما طالب الدين الذي باعه والوكيل الذي اشتراه،
ولا مرجع لطالب الدين في دينه، ولا خيار له في العقد، لكن إنما يتصور القدح
الذي فرضنا في هذا البيع من ناحية رجل ثالث غير هذين المتعاقدين، وهو
الغريم الذي عليه الدين. فإنا ذكرنا أن له الخيار في إمضاء عقد الوكيل أو
رده، فاختص هذا الغرر والفساد بفعل الكفيل فيما بينه وبين الغريم، لا فيما
بينه وبين مستحق الدين الذي باعه منه. فصار هذا كفساد طرأ على أحد
المتبايعين لا مدخل لآخر (2) فيه. وعندنا اختلاف (3) وعلم أحد المتبايعين
بالفساد، فهذا أيضًا الوجه مما ينظر فيه.
وأما إن صالح الكفيل عن دنانير ودراهم بشيء يقضى فيه بالمثل فإن فيه
الاختلاف، الذي ذكرناه، إذا كان ما صالح به جنسًا غير العين. وما عللنا به
الاختلاف المذكور متوجه ها هنا.
وإن صالح بعرض فرجع إلى القيمة فإن المعروف عند الأشياخ من المذهب لم يختلف
في جواز هذاة لكن الشيخ أبا القاسم بن الكاتب اعترض هذا، وأشار إلى أنه
ينبغي أن يجري على الاختلاف الذي قدمناه لكون الكفيل
__________
(1) هكذا في النسختين.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: للآخر.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: في.
(2/135)
ها هنا بذل في هذا الصلح ثوبًا لا يدري هل
يمضي الغريم ما عقده عليه فيعطيه قيمة الثوب أو لا يرضى بما عقده عليه
فيعطيه ما عليه من الدين، والكفيل لا يدري أيهما أكثر، فصار ما دفعه وقع
على وجه فيه هذا الوجه من الغرر والخطر فيجب منعه، أو إمضاؤه لكون القصد به
المكارمة، كما قدمناه. واعتضد في هذا بأن ابن المواز ذكر في كتابه في من
تحمل بدنانير وصالح عن الغريم على عرض يقضي فيه بالقيمة أن ذلك أجازه أشهب
وإليه رجع ابن القاسم قال: ولم أر بين أصحابهما فيه اختلافًا. فقوله: إن
ابن القاسم رجع إلى هذا، وهو الإجازة، يقتضي أنه كان يقول بالمنع. وهذا وإن
كان ظاهر هذا اللفظ مما يشير إلى الخلاف الذي رأى أنه ينبغي أن يجري في هذه
المسألة فإن ظاهر المدونة يمنع منه؛ لأنه فرق في كتاب السلم فمنع الصلح في
هذه المسألة بعرض يقضى فيه بالمثل، وأجازه بعرض يقضى فيه بالقيمة. فلو كان
النوعان عنده يجريان مجرى واحدًا لم يكن لهذه التفرقة في الجواب معنى.
ولا شك أن هذه التفرقة التي وقعت في المدونة تشير إلى أن هذين النوعين لا
يكون حكمهما واحدًا، فلا وجه لتقويّهم المساواة بين ما فرقوا فيه.
واعتذر بعض الحذاق. عن الذي أشار إليه الشيخ أبو القاسم بن الكاتب من
الاعترَاض، وصوره من الغرر، بأن الكفيل إذا دفع هذا العرض فالغالب أنه لا
يدفعه إلا وقد عرف قيمته، وعلم أيضًا أن الغريم لا يحتاج إلا غرامة أقل
المقدارين، إما الدين الذي عليه، أو قيمة العرض الذي صالح به عنه الكفيل،
فيكون إذا قدرنا أنه علم مبلغ الدين ومبلغ قيمة العرض الذي دفع، وعلم أن
الغريم لا يختار أن يدفع له إلا أقل المقدارين، صار كالمتطوع بزيادة قيمة
عرضه على الدين، أو كالمتطوع بزيادة قيمته على الدين، وهذا يمنع تصور
الغرر.
وهذا أيضًا إذا كان العرض الذي صالح به الكفيل يقوّم من العين بجنس الدين،
إن كان الدين دنانير قوّم بها في المعتاد عندهم، أو كان الدين دراهم
والعادة عندهم تقويمه بالدراهم. وأما إن كان يقوم من العين بجنس آخر خلاف
الدين مثل أن يكون الدين دنانير وصالح بعرض يقوم بالدراهم، فإن هذا خارج
مما
(2/136)
نحن فيه، وراجع إلى ما قدمناه من جريه على
الخلاف في أن الصلح الواقع بجنس خلاف جنس الدين كما قدمناهُ.
وكذلك اختلف القول عندنا في صلح الكفيل عن دنانير تحمل بها بدراهم، لأجل ما
في هذا الصلح من تخيير الغريم بين دفع الدنانير التي عليه أو جنسًا آخر وهي
الدراهم التي دفعها الكفيل عنه. وهذا إذا حل الأجل، وأما قبل حلوله فيتصور
فيه الصرف المؤخر؛ لأنا نمنع أخذ دنانير عن دراهم لم يحل أجلها، وتأخيره
إذا حل الأجل، هذا هو الأشهر في تعليل الخلاف في هذا. وقد اعتذر ابن حبيب
عن كون هذا صرفا بأن قال: من أقرض طعامًا فإن للكفيل أن يصالح عن الغريم
بطعام خالفه، ولا يكون هذا بيع طعام بطعام ليس بدَنانير، كما يجوز له أن
يصالح عن دنانير تكفل بها بدراهم ولا يكون هذا صرفًا مستأخرًا؛ لأنه إنما
يكون صرفًا أو بيعًا لطعام بطعام عند إمضاء الغريم فعل الكفيل والتزامه أن
يؤدي ما أُدي عنه، فحينئذ يؤمر بالتناجز، وأما قبل أن يخيّر فيختار إمضاء
فعله، فإن الذي في ذمته باق عليه، ومعاملة الكفيل ومستحق الدين (تأخير في
طعام) ولا (1) في مصارفة. وذكر أن هذا مذهب ابن كنانة، وأشار إلى اختلاف
قول ابن القاسم فيه. وقد قيل في هذا إن الغريم إذا رضي بإمضاء فعل الكفيل
فإنه يخرج من ذمته الدنانير ويشتري بها الدراهم، فإن قصرت عن مبلغ الدراهم
لم يلزم الغريم زيادة، وإن فضل من الدنانير فضلة كانت للغريم، ولا تكون
للكفيل لأنه لا يربح فيما اشتراه لغيره، وهذا احتياط للخروج عن صرف فيه
خيار.
وقد ذكرنا لك أن شراء الكفيل الدين لنفسه بخلاف شرائه (2) فإن وقع الشراء
بجنس واحد غير الدين جاز ذلك إذا اشتراه الكفيل لنفسه على صفة ما بيناه
واشترطناه، وإن اشتراه الغريم (3) كان فيه الخلاف الذي قررناه ونوعناه.
__________
(1) الكلام على الإثبات، والسياق يقتضي النفي.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: للغريم.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: للغريم.
(2/137)
وإن كان الشراء بجنس الدين، فإن كان الثمن
والمثمون متساويين، عددًا وصفة ونوعًا، جاز ذلك قبل الأجل وبعد الأجل، سواء
اشتراه الكفيل لنفسه أو للغريم، مثل أن يتكفل بثياب يشتريها بثياب مثلها،
نوعًا وعددًا وصفة، فإن ذلك يكون قضاءً للدين لا مبايعة فيه؛ وقضاء الدين
على ما هو عليه جائز. وإن كان ما يشتري به الثياب المسلم فيها أدنى من
الثياب التي في ذمة من عليه السلم أو أقل عددًا فإن ذلك لا يجوز إذا لم يحل
الأجل لأنه إن اشترى ذلك لنفسه كان كمن أسلم ثوبًا في ثوبين وقد أسلف في
زيادة. وإن اشترى ذلك بثياب أكثر عددًا أو أعلى صفة فإن ذلك لا يجوز كان
ذلك داخلًا في أسلوب حط الضمان وأزيدك وأما إذا حل الأجل فإن الشراء لهذه
الثياب التي في الذمة بثياب أدنى منها في الصفة أو أقل في العدد أو أجود في
الصفة وأكثر في العدد لا يجوز إذا اشترى ذلك لنفسه؛ لأنه شراء ثياب في
الذمة، وبيع الثياب بثياب مخالفة لها في الصفة لا يجوز إلا إذا كان لا
تأخير فيه.
وقال بعض أشياخنا إن جواز شراء الكفيل هذا لنفسه إذا حل الأجل واشترى بما
هو أفضل من الصفة أو أكثر في العدد؛ لأن هذا يكون قضاء من الكفيل لما وجب
عليه، وحسن القضاء مأمور به في الشريعة. وهذا الذي انفرد به ظاهر المذهب
خلافه، ولا يسلّم أهل المذهب أن هذا القصدُ به حسنُ القضاء؛ لأنا فرضنا
السؤ الذيما قصد به المبايعة والمتاجرة، فخرج بهذا القصد عن حسن القضاء،
كما لو اشترى الثياب التي في الذمة بأدنى منها فإنه يسلَّم منعُ ذلك لكون
القصد بهذا العقد المبايعة، وصار كسلف يطلب به الزيادة والمنفعة.
لكنه لو جبر الكفيل بعد حلول الأجل على القضاء فقضى ما هو أدنى وقبل منه
ذلك من له الدين، فيما عما من الجودة هل أراد بذلك الهبة لمن عليه الدين أو
للكفيل فيمضي الأمر فيه على ما قصد إليه من هذا؟ وأما لو صالح الكفيل بعد
حلول الأجل على ثياب من أدنى الثياب التي في ذمة الغريم، أو أجود فإن ذلك
يجوز إذا صالح بهذا عن الغريم لما كنا قدمنا الإشارة إليه من كون من عليه
الدين لا يختار أن يقضي إلا ما هو أخفّ عليه، وأقل في المقدار، فصار الكفيل
(2/138)
المصالح كأنه عاوض عنه، وهو يعلم ما يصير
إليه من قبله، وإذا علم ذلك ارتفع الخيار الموجب للخطر على أحد القولين
المتقدمين. هذا حكم العروض المتكفل بها إذا وقع الصلح عنها من الكفيل
لنفسه، أو عن الغريم قبل الأجل وبعده.
وأما لو كان المتكفَّل به طعامًا من سلم فإن الصلح قبل الأجل لا يجوز
بسمراء عن محمولة، ولا محمولة عن سمراء؛ لأنه إن وقع الصلح عن الغريم تضمن
هذا العقد ما قدمناه من الوقوع في: ضع وتعجل، أو حط عنّي الضمان وأزيدك.
وإن صالح لنفسه فذلك أحرى في المنع لأنه عقد بطعام على طعام مؤخر ووقع
العقد على بيع الطعام قبل قبضه. وأما إن حل الأجل فلا يجوز ذلك عن نفسه لما
قدمناه، ولا عن الغريم لكون الغريم مخيرًا لما يدفع للكفيل المصالح، وقد
يعتقد أن المحمولة أفضل من السمراء، لاختلاف حال منهما، أو اختلاف حال
الأغراض عندهما. وإذا صارا كالجنسين منع من ذلك، بخلاف ما لو دفع الغريم من
مال نفسه بعد الأجل محمولة عن سمراء أو سمراء عن محمولة، فإن هذا جائز لأنه
كالمبادلة ولا بيع فيه، وإذ كان الدفع من الكفيل على وجه فيه خيار للغريم،
ولا يدري الكفيل ما يحصل له هل ما دفع أو ما اشترى؟ صار هذا يتصور حكم
المبايعة فيه وثبوت الخيار الذي إنما يتصور غالبًا في البياعات لَلَحِق هذا
العقد من الكفيل بالوجه الممنوع لأجل أنه دفع ما فيه خيار لغيره عليه.
ولو كان الدين سمراء فقضى الكفيل الغريمَ أدنى منها -من السمراء- أو كان
الدين محمولة فقضى الكفيل عن الغريم محمولة أدنى منها، فإن ابن القاسم منع
من ذلك إذا كان الدين من سلَم. والوجه للمنع ها هنا على مقتضى ما أصلناه
لأنه يعلم حين الصلح أن الغريم لا يختار إلا ما هو أرفق به. ولا يتصور ها
هنا أن يعتقد أحد أن السمراء الجيدة تكون أدنى من السمراء الدنيئة.
بخلاف ما قررناه في السمراء إذا أخذ عنها محمولة. وقد أجاز في كتاب الحمالة
(2/139)
هذا إذا كان الطعام قرضًا، لكون طعام القرض
يجوز بيعه قبل قبضه، فلم يحتط لبيع الطعام قبل قبضه في طعام القرض كما
احتاط في طعام السلم، ولكنه في كتاب الحمالة شرط في القرض أن يكون الأجل قد
حل، وهذا إنما شرطه لأنه ذكر في السؤال أنه دفع عن طعام سمراء عن محمولة أو
محمولة عن سمراء، ودفع محمولة عن سمراء في طعام القرض المؤجل لا يجوز قبل
الأجل؛ لأنه بمعنى: ضع وتعجل. وإما حطّ عني الضمان وأزيدك، فلا يتصور في
القرض لأن من هو عليه له تعجيله بغير اختيار من هو له. فلما اشتمل السؤال
على وجهين يمنع أحدهما قبل الأجل، ويجوز الآخر اشترط حلول الأجل لكون الأجل
إذا حل استوى الوجهان في الجواز.
وإذا وضح ما يجوز الصلح عليه وما. لا يجوز فلنذكر حكم طلب الكفيل براءة
ساحته ما يكفل به (1) بأن يقضي المسلم ما يقدر عليه، فاعلم أن الأجل إذا حل
كان من حق الغريم الذي عليه الدين أن يطالب من له الدين بقبضه منه ليبرأ من
الطلب، وهذا لأنه لا يلزمه أن يبقي ذمته عامرة بعوإنقضاء الأجل الذي تعاقدا
عليه.
وأما طلب الكفيل أن يبرأ من كفالته فإنه إذا حل الأجل وكان من له الدين
حاضرًا كان من حق الكفيل أن يطلب براءته من الكفاله إما بمخاطبة من عليه
الدين أن يقضيه أو بمخاطبة من له الدين أن يقبضه أو يُبرىء الحميلَ إن
اختار تأخيره على من هو عليه، لكون الحميل يتضرر ببقاء المطالبة بالحمالة
عليه بعد ذهاب المدة التي التزم الحمالة فيها.
وأما إن كان من له الدين غائبًا ومن عليه الدين يُخشى أن يعجز عن قضاء
الدين إن تأخر قبضه، أو يَلِدّ عن القضاء، فإن من حق الحميل ها هنا أن
يطالب القاضي بإخراج الدين الذي يجب للغائب. ويوقفه على يد من يأمنه عليه،
ليبرأ الحميل من حمالته إذا أخرج الدين من الذمة التي تحمل عليها. وأما إن
__________
(1) هكذا في النسختين، وفي ش: له.
(2/140)
كان الذي عليه الدين ظاهر الملأ لا يخشى
منه لَدَدٌ فإن الأظهر من أقوال مشائخنا أن من حق الحميل أن يطلب من القاضي
إخراج هذا الدين ليبرأ من الحمالة، لما قدمناه من كونه يتضرر ببقاء الحمالة
عليه أَمَدًا آخر زائدًا على الأمد الذي التزم الحمالة له فيه. ولم يَلتفت
ها هنا إلى حق الغائب قد يضيع فتكون مصيبته منه، وقَدَّم مراعاة ضرر الحميل
على مراعاة ضرر الغائب لأجل أن المعاقدة إنما كانت على أن الحميل لا مطالبة
عليه إلا إلى أجل محدود، وقد سبق حقه في نفي الضرر عنه حق الغائب في اعتبار
إخراج دينه من ذمة إلى أمانة، وأصّلنا في الضررين إذا تقابلا أن يعتبر
أحدهما فيقدم اعتباره والنظر في إزاحته. وقد ذكر ابن حبيب في هذا أن من
عليه الدين إذا كان مليئًا فإنه لا مقال للحميل؛ وهذا لأنه رأى أن الحميل
إنما كان له مدخال (1) في المطالبة بإخراج هذا الدين من ذمة إلى أمانة،
لأجل ما يلحقه من الضرر من تخوف عُدْم الغريم، فتتوجه المطالبة عليه. وإذا
كان الغريم لا يُتخوف جانبه في هذا لم يحسن إلحاق الضرر بالغائب بإخراج
دينه إلى أمانة مع كون الحميل [لا يظهر وجه تصوره بترك خروج الدين من
الذمة، وهذا عندي قد يحسن مع القول: إن الحميل] (2) لا يطالب إلا عند تعذر
أخذ الدين من الغزيم. وإذا كان الغريم مليئًا غير مُلِدٍّ فكان (3) الحميل
آمنًا من توجه المطالبة عليه. وأما إذا قلنا بأحد قولي مالك: إن من له
الدين من حقه أن يطالب الحميل مع حضور الغريم وملائه، قد يحسن الطريقة
الأخرى وهي تمكينه من طلب براءة ذمته حتى لا يبقى لمن له الدين مطالبة
عليه. وإذا تقرر هذا وعلم حقيقة توجه طلبه بإخراج الدين من ذمة المدين فإنه
إن قبضه من الغريم لم يخل من ثلاثة أقسام:
أحدها أن يقبضه برسالة من له الدين ووكالته على ذلك أو برسالة من عليه
الدين ووكالته على إيصاله لمستحقه، أو يقبضه على جهة الرسالة ممن له
__________
(1) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: مدخل.
(2) ما بين المعقّفين زيادة من (ش).
(3) هكذا في جميع النسخ ولعل الصواب كان.
(2/141)
الدين أو ممن عليه الدين، فإنه غير ضامن له
إن ضاع في يديه لكونه أمينًا لمن وكله، إما مَن له الدين وإما من هو عليه.
والوكيل لا يضمن لأنه مؤتمن كالمودع.
وأما إن قبضه على جهة الاقتضاء فإنه يضمن، وإن ضاع في يديه من غير تفريط
منه. وبالغ في المدونة في هذا فقال: يضمنه، كان هذا الدين المقبوض مما يغاب
عليه أو لا يغاب عليه، ضاع ببينة أو بغير ببينة، قضاه الغريم متبرعًا أو
غير متبرع بقضاء من سلطان أو بغير قضاء منه. وأنكر سحنون هذه اللفظة التي
وقعت ها هنا وهي قوله "بقضاء من السلطان" لكون السلطان لا مدخل له ها هنا،
ونقلها ابن المواز وزاد في النقل أن السلطان إن قضى بذلك فقد أخطأ.
وأشار فضل بن سلمة إلى طريقة أخرى في الاعتذار عنها، فذكر ما حكيناه عن ابن
حبيب أن الحميل إذا طلب براءة من الحمالة، وكان الغريم ممن يتخوف ألا يؤخذ
منه الدين، فإن من حق الحميل أن يطالب القاضي بإخراجه من ذمة الغريم ويوقفه
على يدَ من يشق به، إما هذا الحميل أو غيره. وإشارة فضل بن سلمة ها هنا
تقتضي ضمان الحميل إياه وإن كان وقفه عنده القاضي لما طلبه بالإبراء من
الحمالة، وكأنه قدر أنه إنما قبضه وقبله من القاضي لمنفعة نفسه، وطلبًا
لبراءة ساحته وهو السبب في إخراجه من الذمة، فضمنه بوضع يده عليه مع كونه
طلب ذلك لمنفعة نفسه. ولو وقفه القاضي عند غير الحميل، وحكم ببراءة من عليه
الدين، لكان ذلك، إن ضاع، في ضمان الغائب. وأشار بعض الأشياخ إلى أن الحميل
إنما يضمين هذا إذا قبضه على جهة الاقتضاء؛ لأن معنى الاقتضاء أنه طالب
الغريم بأن يسلِّم إليه الدين الذي علية ليبرأ منه، ويكون هذا المطالَب به
دونه. وهذا الالتزام ودفع الدين على هذا الشرط يوجب ضمانه على كل حال.
وقوله في المدونة في هذا الجواب "دفعه متبرعًا أو غير متبرع" يعني أنه دفعه
بقضية السلطان أو بغير قضية السلطان؛ لأن مطالبة الحميل له به وأخذه منه
على جهة الاقتضاء.
ولو تعدى هذا الحميل القابض لهذا الدين على ما قبضه من طعام من سلم تحمل
له، فباعه بعد أن أُسلِم إليه تعديًا، فإن المتعدي على سلعة غيره إذا
أفاتها
(2/142)
بالبيع، ولم يمكن استرجاعها، فإن صاحبها
بالخيار بين مطالبة قيمتها أو مثلها إن كان لها مثل. فإذا تقرر هذا اعتبرت
بعده نكتة أخرى وهي أن بيع الطعام قبل قبضه لا يجوز. وإذا تقررت هذه النكتة
اعتبرت بعدها نكتة أخرى أيضًا، وهي أن هذا الطعام إذا قبضه الحميل بوكالة
من له الدين، فكأن من له الدين قبضه بيده وبرئت ساحة الغريم، وإذا قبضه
برسالة من عليه الدين فإن هذا المقبوض من الطعام تعلق به حقان لمن عليه
الدين وهو مرسله لكونه لا يبرأ من طلب منه الدين إلا بوصوله إليه. وتعلق به
أيضًا حق من له الدين لأن باعثه قد ملكه إياه بهذه الرسالة إن شاء ذلك وقبل
هذا وصار الرسول كأنه من قبله، ولهذا لم يكن للرسول أن يمنع من له الدين
قبضه إذا شاء، ولا أن يبدله عليه. ولو فلس باعثه لكان المبعوث إليه الذي له
الدين أولى به من الغرماء لكونه بعث إليه ليتملكه إذا شاء.
وإذا تقررت هذه النكتة علمت منها أن هذا الحميل إذا باع الطعام لمن يتعلق
به مطالبة من الغريم إذا كان إنما قبضه منه بوكالة من له الدين لأنه قد
برىء بدفعه لهذا الوكيل، لكن يتوجه إلى الموكل الذي له الدين فيغرم الوكيل
بائعُ الطعام تعديًا إن شاء مكيلة الطعام، وإن شاء أجاز بيعه على مقتضى ما
قدمنا ذكره في هاته النكتة. وأما إن قبضه هذا الحميل برسالة ممن هو عليه
فإن المطالبة ها هنا تقع بأحد أمرين: إما بمثل الطعام المبيع وإما بثمنه.
فأما المطالبة بمثل الطعام فإن ذلك متوجه لمن له الدين لكونه قد تملك هذا
الطعام المبعوث إليه إذا شاء، وهو الآن يقول: قد شئت، ويتوجه أيضًا للذي
عليه الدين لكونه مطلوبًا بغرامته، لكون من له الدين قد لا يرضى بطلب رسوله
ولا يطلب إلا غريمه. فلهذا كان طلب هذا البائع المتعدي بمثل الطعام الذي
باعه حقًا للرجلين جميعًا من له الدين ومن عليه الدين. وأما المطالبة
بالثمن فإنه يمنع منها من له الدين ويمكن منها من عليه الدين. أما من له
الدين فإنما منعناه من هذا لأنا لو مكناه من أخذ ثمن الطعام بالطعام المبيع
تعديًا، وهو لم يضمنه ولا صار إلى يديه، لكنا أبحنا له بيع الطعام قبل
قبضه، وأما تمكين مَن
(2/143)
عليه الدين من طلب الثمن فإنا مكنّاه من
ذلك لأن الطعام الذي في ذمته لم يبرأ منه، وعليه أداؤه لمن له الدين إذا
طلبه منه. وإذا كان باقيًا على ملكه أو في حكم الباقي على ملكه لم يمنع من
قبض ثمن ما بيع عليه من ملكه بغير إذنه.
وأما إن قبضه هذا الحميل على جهة الاقتصار (1) وباعه فإنه لا مطالبة عليه
بالثمن، لكونه إنما باع ما صار إلى ملكه، وهو المطلوب به بثمنه لا مقال فيه
[لأنه لم يقبضه بوكالته، ولا لمن عليه الدين لأنه سلّمه إليه كقرض يكون له
عليه يقضيه عنه لمن له الدين] (2). فإن طلب من له الدين الكفيل بالطعام
فأخذه منه، فقد بريء هو والغريم. وإن طلب الغريم وأخذه منه (3)، ورجع
الغريم على الحميل المقتضى منه ثمن ما أعطاه.
وأما إن كان الحميل قبض هذا برسالة ممن عليه الدين فإنّا ذكرنا أنه قد تعلق
من الرجلين جميعًا من له الدين ومن عليه الدين، فطلب هذا الحميل المتعدي
بمثل الطعام الذي باعه تعديًا، فإن اختار من له الدين أن يطالب بالطعام
الكفيلَ بحق تعديه لا بحق الكفالة مُكّن من ذلك لما قدمناه من وجه تعلق حقه
به. لكنه في المدونة ذكر أنه لا يمكّن من ذلك إن قبضه الحميل على غير جهة
الاقتضاء، ولا ضمان عليه فيه. وأنكر يحيى بن عمر هذا الاشتراط، ورأى أنه
إذا قبضه هذا الحميل على جهة الاقتضاء كان تمكين من له الدين من طلبه بما
قبض أوضحَ من تمكينه من طلب به إذا قبضه على جهة الرسالة؛ لأنه إذا قبضه
على جهة الاقتضاء فقد أخذه ملتزمًا براءة ذمة الغريم، واستقرار طلب من له
الدين على ذمته، فذلك أحرى أن يمكن من له الدين من طلبه به إذا تعدى فباعه،
لما صورناه من كون باعث الطعام ملكه لمن له الدين إن شاء، فلذلك أنكر يحيى
بن عمر هذا الاشتراط، ورآه مُوَهّنا أن قبضه على جهة الاقتضاء يمنع من
تمكين رب الدين من طلبه به، فيكون هذا كعكس الأصول.
__________
(1) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: الاقتضاء.
(2) ما بين المعقوفين مثبت في (ش) فقط.
(3) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب حذف الواو.
(2/144)
واعتذر عن هذا بعض الأشياخ وقال: إنما قصد
بهذا التنبيه على موضع الإشكال، وهو قبضه إياه على جهة الرسالة. وأما قبضه
إياه على جهة الاقتضاء فحكم (1) ذلك واضح، فكأنه أراد يمكن من هذا، وإن
قبضه على جهة الرسالة، لكون قبضه على جهة الرسالة فيه من الإشكال ما ليس في
قبضه على جهة الاقتضاء.
وينبغي أن يعلم ها هنا أن من حق رب الدين أن يطلب الكفيل بحكم التعدي، فإن
تمكنه من ذلك مع حضور الغريم وملائه يجري على القولين المشهورين، ويمكن من
له الدين من طلب الكفيل مع حضور الغريم وملائه.
وأما إن اختار من له الدين طلب الغريم لا الكفيل فإنه يمكن من ذلك، فإذا
دفع إليه الغريم الطعام الذي كان من حقه أن يخير بين إغرام رسوله مثل
الطعام الذي تعدى له عليه، أو يجبر تعديه ويغرّمه الثمن لأن طلب مثل الطعام
حق لمن له الدين ومن عليه الدين، كما قدمناه. وأما طلب ثمنه فإنما منع منه
من له الدين لئلا يكون بائعًا للطعام قبل قبضه. ولو اختار من له الدين طلب
الكفيل المتعدي على البيع فأغرمه مثل الطعام لكان من حق الغريم باعث الطعام
أن يأخذ منه ثمن الطعام الذي بعثه معه ويعطيه مثل الطعام الذي أغرمه من له
الدين. وقد يهجس في النفس أن هذا مناقض لما قدمناه من كون تعدي هذا الرسول
يوجب حقًا لمن له الدين ومن عليه الدين. فإذا اختار من له الدين طلب الكفيل
بغرامة مثل ما تعدى فيه صار إنما باع ما هو على ملكه، لكونه أغرم مثله. لكن
بعض حذاق الأشياخ أشار إلى الاعتذار عن هذا بأن باعث الطعام يقول لرسوله:
أنت بعت الطعام الذي أنفذتُ معك، وهو في يدك على حكم الوديعة مني لك، فتعلق
لي حق عليك في غرامة مثل ما بعثه (2) أو ثمنه، فلا يُسقط حق في ذلك غرامة
من له الدين مثل الطعام، وقد تقرر لي حق في إجازة
__________
(1) في ش: وحكم.
(2) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: بعته.
(2/145)
بيعك، وأخذ ثمن الطعام، ولا سبيل إلى هذا
إلا بأن يعطيك مثل الطعام الذي أغرمك من له الدين.
وأما قبضه على جهة الاقتضاء فإنه لا يطالب الحميل بثمن ما باع، لا من جهة
من له الدين لأنه وإن مكناه من ذلك كان بيعًا للطعام قبل قبضه؛ ولا من جهة
من عليه الدين لأن قبضه منه كقرض أقرضه إياه ليَقضيه عنه، فإذا طلب من له
الدين الغريم لم يرجع عليه الغريم إلا بمثل الطعام الذي أخذه منه على جهة
الاقتضاء، كما لا يرجع عليه بطعام أقرضه إياه إلا بمثل الطعام لا بثمنه إن
باعه.
وإذا تقررت أحكام هذه الفصول الثلاثة وهي قبضه بوكالة أو رسالة أو اقتضاء،
فإنه لو اختلف الحميل قابض الطعام والغريم دافعه على أي وجه قبض، فقال من
عليه الطعام: على جهة الاقتضاء؛ ليضمن القابض الطعام.
وقال قابضه: على جهة الرسالة، ليسقط الضمان عنه. فإن هذا يجري على القولين
في المسألة المشهورة إذا قال قابض الدنانير: قبضها (1) وديعة وقد ضاعت؛
وقال دافعها: بل دفعتها إليك سلفًا. فإن الاختلاف في هذا مشهور، فمن ذهب
إلى أنه لا يؤخذ المقر بأكثر مما أقرّ به صدّق القابض ها هنا: أي ما قبضته
إلا على جهة الأمانة. ومن ذهب إلى أن القابض مقرّ بالملك للدافع مدع عليه
ما سقط (2) الضمان عنه صدق ها هنا الغريم دافع الطعام.
وينبغي أن يعلم أنه متى طلب من له الدين الكفيل بأداء ما تكفل به فغرمه له،
فإنه يعتبر في ذلك هل اشتراه بثمن فيرجع به؛ لأنه كالمأذون له في هذا لما
تكفل عمن عليه الثمن (3) الدّين، ويقدر كأن من عليه الدين أذن له في أن
يسلفه ما يشتري به ما يغرمه عنه. وإن كان أدى ذلك من ماله من غير شراء فإنه
يرجع بمثله على الغريم وإن كان عرضًا؛ لأنه كالقرض هذا للغريم (4)، والقرض
إنما
__________
(1) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: قبضتها.
(2) هكذا في النسختين والأولى بسقط.
(3) ساقطة في (ش) وهو الأولى.
(4) هكذا في النسخ، ولعل الصواب: لهذا الغريم.
(2/146)
يرجع فيه بالمثل ولو كان عرضًا.
ولو أدى عنه طعامًا هو عليه من سلم لجاز للكفيل أن يأخذ منه من الغريم إذا
تراضيا بذلك، ولا يتهم في هذا، [لكونه إنما يأخذ ثمن طعام أقرضه الغريمَ،
وبيع القرض قبل قبضه جائز. هذه المعاملة التي تراضيا عليها أمر حادث بعد
القرض، فلا يتهمان في هذا] (1) بخلاف اتهامهما في معاملة الكفيل لمن له
الدين. لكنا ذكرنا عن ابن المواز أنه يمنع الكفيل من أن يشتري الثياب التي
تكفل بها بدنانير أكثر من رأَس مالها أو بدراهم، وأحلّه في هذا محل الغريم
التي هي عليه لما كان يتوجه لمن له الدين طلبُه بهذا الذي اشتراه، فصار
كأنه هو الغريم، وقد قدمنا ما قيل في هذا. وكذلك لو تكفل بثمن طعام عمن
اشتراه فأدىَ الثمن عنه، فإنه يجوز له أن يأخذ عن ذلك الطعام ثمنًا، لما
كان، قبل هذا، معاملةٌ بينه وبين من يحمل عنه حادثة بعد أن أقرضه الثمن
الذي أدى عنه على حسب ما قدمناه.
ولو اشترى الكفيل ألف درهم من رجل تكفل له بها مائة درهم واشترى ذلك لنفسه
فإن ذلك لا يحل لكونه بيع دراهم بدراهم متفاضلة نساء. لكن إذا نقضنا هذه
المعاملة بينهما وألفينا الكفيل عليه ديون استدانها بعد الكفاله، فهل يكون
من له الدين أحق بما قبض من الكفيل من غير بابه، ويرد ذلك إليهم، ويحاصّهم
بما توجه له على الكفيل؟ حاول بعض الأشياخ أن يجري هذا على الخلاف فيمن
اشترى سلعة شراءً فاسدًا ونقد ثمنها ففسخ، وطلب الثمن فألفى على قابضه
غُرَماء، فإن ابن القاسم لا يراه أحق بالسلعة دونهم، لكون الشرع نقض بيعه،
وأمره بإزالة يده عنها، فكأنه لم يَحُزها دونهم. ورأى عبد الملك ابن
الماجشون أنه أحق بالسلعة حتى يقبض ثمنها الذي دفع، لما كانت له شبهة في
هذه السلعة المقبوضة، لكونها إن حال سوقها أقرّت في يده، ولكونه ضامنًا
لها.
__________
(1) ما بين المعقّفين ساقط من (و)، (م).
(2/147)
وأشار بعض الحذاق إلى أنه لا خلاف في مسألة
الحميل، لكونه دفع دفعًا فاسدًا يجب نقضه عن دين مستقر في الذمة، فكأنهما
أمران لا علاقة لأحدهما بالآخر. ولو تحمل الكفيل لمن أسلم في طعام رأس
المال خاصة، لاعتُبر هذا هل أراد به أنه مَن طلبه بالضمان أعطاه رأس المال
وانحلّ العقد، أو يعطيه رأس المال يشتري به من الطعام السلم ما بلغ فيه رأس
المال. فإن كان المراد بضمان رأس المال أنه ينتقض السلم إذا طلب الخميل
ويعطيه رأس المال، فإن هذا يفسد العقد إذا وقع عليه، لكونه تارة بيعًا إن
لم يطلبه بالضمان، وتارة سلفًا إن طلب به. ولو كان هذا بعد النقد لم ينفسخ
العقد وفسخت الحمالة خاصة. وإذا كان هذا مقارنًا للعقد وأفسد الحمالة، فهل
يطالب الحميل أم لا؟ هذا جارٍ على ما يرد بيانه في كتاب الحمالة إن شاء
الله من اختلاف ابن القاسم وغيره في الحمالة الفاسدة إذا قارنت العقد هل
يطلب الحميل بما ضمن لكون ضمانها هو سببًا لدفع رأس المال أو لا يطلب بذلك؟
فعند ابن القاسم لا يطلب، وعند غيره يطلب بما أتلف، على ما سيرد بسطه في
موضعه إن شاء الله. وأما لو كان المراد يتحمل برأس المال ليشتري به من له
الدين من الطعام ما بلغ إليه ما دفعه الحميل ويبقى بقية الطعام في ذمة
الغريم، فإن هذا يجوز إذا كان بعد العقد.
وأما إن كان (1) العقد فإنه حاول بعض الأشياخ أخرى (2)، ورأى أن الحمالة ها
هنا بأمر معلوم لا غرر فيه، وإنما يجهل ما يشتري من الطعام المسلم فيه، فلا
وجه لمنع هذه الحمالة، وأجراها على الخلاف، كما لا يمنع أن يرتهن رهنًا بما
أسلم فيه وإن كان لا يعلم هل بقي ثمن الرهن إذا بيع المسلم فيه لتغير
أسواقه أو لتغير عينه أشد مما يرقب من اختلاف سعر الطعام المضمون ثمنه
مقدار رأس المال.
__________
(1) نقص في الأصل ولعل الصواب وإن كان بعد.
(2) هكذا.
(2/148)
فصل في المعاوضة على تحويل السلم
اعلم أنا كنا قدمنا في كتاب السلم الأول نكتةً معتبرة في المعاوضة عن
السلم. وهذا الفصل ملحق بها ويجري فيه بعض ما قدمناه من تلك النتكة.
فإذا أسلم دنانير في ثوب إلى أجل فعلوم، فلما حل الأجل أراد من له السلم أن
يزيد دينارًا لتغير (1) السلم فيأخذ عنه صنفًا آخر عما أسلف فيه، أو الصنف
بعينه ولكن صفة مختلفة أو متفقة. فأما إذا أراد أن يُعَاوِضَ على تبديل
الصنف، بأن يعطيه لما حل الأجل عوض الثوب طعامًا أو حيوانًا، فإن ذلك جائز،
جريًا على ما أصلناه في كتاب السلم الأول من كون الطعام أو الحيوان يحوز أن
تسلم فيه الدنانير التي هي رأس المال، وأن يؤخذ ذلك عوضًا عن الثوب المسلم
فيه، على حسب ما قدمناه من اعتبار هذين الوجهين.
ولكن من شرط هذا تعجيل المأخوذ عن السلم، وأن يتناجزا فيه ولا يتأخر قبضه
لئلا يكون تأخير قبضه معاقدة على فسخ دين في دين.
ولو أراد أن يأخذ عن السلم ما هو من صنفه وقد حل الأجل لجاز ذلك أيضًا،
ويعتبر فيه ما اعتبرناه فيه إذا أخذ فيه من غير صنفه من تعجيل وجواز
المعاوضة به عن رأس مال السلم وعن المسلم فيه لكن إن تأخر العوض عن السلم،
وهو من غير صنف السلم، كان دينًا بدين، وإن تأخر، وهو من صنفه، لكنه أزيد
مقدارًا منه، كمن أسلم في ثوب شطاط عشرين ذراعًا، فإن هذا إن
__________
(1) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: لتغيير.
(2/149)
دخله تأخير كان بيعًا وسلفًا، الزيادة على
المقدار الذي عقد عليه السلم بيعُ، وتأخير المقدار المسلم فيه سلفٌ. هذا
إذا تراضيا بتحويل السلم بعد حلول الأجل. وأما إن تراضيا بذلك قبل حلول
الأجل فتعاقدا على أن زاد من له السلم دينارًا على أن يأخذ عوض ما عقد
السلم صنفًا غير ما أسلم فيه، فإن ذلك لا يجوز، بغير خلاف؛ لأنه دين بدين،
فكأنه أسلم دينارًا في ثوب إلى شهر، فزاده بعد العقد وقبل حلول الأجل
دينارًا على أن يأخذ منه إذا حل الأجل طعامًا أو دابة موصوفة، فإن هذا
معاوضة عن دين مؤجل وهو الثوب الذي تعاقدا عليه السلمَ أوَّلا بطعام إلى
أجل، رهنًا حقيقة الدين بالدين. وكذلك إذا زاده دينارًا على أن يأخذ عوض
الثوب المسلم فيه ثوبًا أرقّ منه (1) وأصفق وأعرض منه، فإن ذلك يمنع، كما
يمنع تعاقدهما على أخذ صنف آخر، لما يتصور فيه أيضًا من دين بدين، فيقدر أن
المسلم باع ثوبًا خشنًا مؤجلًا ودينارًا معجلًا، بثوب رقيق يأخذه مؤجلًا
أيضًا، وهذا دين بدين فوجب أن يمنع. وأما إن لم يكن اختلاف الثوبين لا من
ناحية الطول فزاد من له السلم دينارًا قبل الأجل على أن يأخذ ثوبًا عند
الأجل على صفة الثوب الذي تعاقدا عليه، لكن الثوب الذي رجع إليه أطول
بذراع، فإن هذا يمنعه سحنون ويراه يتصور فيه الدين بالدين، كما صورناه فيما
قبل، وكأنه باع منه ثوبًا مقداره عشرون ذراعًا مؤجلًا ودينار نقدًا بثوب
مؤجل مقداره أحد وعشرون ذراعًا، على حسب ما صورناه فيهما إذا اختلفا بالرقة
والخشانة، وأجاز في المدونة هذا الوجه خاصة، ورأى أن الثوب الذي تعاقدا
عليه إذا لم يتغير شيء من صفاته فإن الأذرع التي تعاقدا عليها السلم حاصلة
بعينها في المعاوضة الثانية، وإنما أفادت المعاوضة الثانية عقد صفقة أخرى
كأنها لا تعلق لها بالأولى، وكأن هذه الزيادة لا تغيّر حكم المزيد (2) عليه
وتُعلْقه (3) بصنف آخر، كما تغيّره صفة الرقة والصفاقة، فلم يكن في
الانتقال إلى
__________
(1) هكذا، ولعل الصواب: أو.
(2) هكذا في (ش)، وفي م، و: الدين.
(3) هكنا في (ش)، وفي م، و: تعلقه.
(2/150)
هذه المعاوضة الثانية بيع دين بدين. ولكن
يعتبر ابن القاسم في هذا ما يعتبر في أصل السلم من تعجيل رأس المال، ولهذا
قال في المدونة: يجوز ذلك لأنهما صنفان.
والمعتبر أيضًا أن تكون المعاوضة الثانية إلى أجل من آجال السلم، فإن كان
يبقى من أجَل السلم الأول مثل ما يجوز عقد السلم إليه، جازت هذه المعاوضة
الثانية.
ويعتبر أيضًا ألاّ يقدّم المسلم الأول عن أجله ولا يؤخر؛ لأن تقديمه على
أجله أو تأخيره عنه يتضمن كون هذه المعاوضة بيعًا وسلفًا لأن الدينار
المزيد في رأس المال عوض الذراع المزيد في الثوب إذا تعاقدا فيها على تقديم
مثل الأجل أو تأخير صار ما وقع من زيادة تبايعًا قارنه سلف وهو التعجيل أو
التأخير. وقد أشير إلى الانتصار لمذهب سحنون في منع المعاوضة على زيادة في
الطول، بأن ابن القاسم منع من ذلك إذا وقعت المعاوضة بعد طول الأجل مع
تأخير الثوب المسلم فيه، وقدّر ذلك يكون البائع باع ثوبًا ودرهمًا بثوب
أطول منه من غير تناجز. وهذا يتصور إذا وقعت هذه المعاوضة قبل الأجل. ويفيد
أيضًا أن من له السلم باع ثوبًا مقداره أحد وعشرون بشرط التأخير. واعتذر عن
هذا الذي تناقض به ابن القاسم بأن الأجل إذا حل فقد ملك من له السلم
تعجيله، فإذا عاوض معاوضة فيها تأخير تحقق تصور البيع والسلف، لكون ما يقدر
سلفًا فقد ملك تعجيله فأخره. وإذا لم يحل الأجل لم يملك تعجيل السلم فيه،
ولا يقدر أنه باعه وهو لا يملك قبضه ولا تعجيله. لكن إن تحقق أن الزيادة في
مقدار الأذرع بغير (1) ثمن الثوب الذي تعاقدا عليه على غير نسبة زيادة
الأذرع حسن ما قاله سحنون، وأن يلحق بالدين بالدين. وإن لم تغير هذه
الزيادة ثمن الأذرع الذي تعاقدا عليها أوَّلًا حسن ما قاله ابن القاسم،
وكان المعقود عليه أَوَّلًا لم يتحول. وهكذا يحسّن ابن القاسم مثل هذا في
الإجارة، مثل أن يستأجره على
__________
(1) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: تُغيّر.
(2/151)
أن ينسج له أذرعًا معلومة، فزاده شيئًا على
أن يزيده غزلًا يزيد به أذرعًا؛ لأنهما صفقتان. وسحنون يوافقه في الإجارة،
ويعتل بأنها معاقدة على شيء بعينه، بخلاف السلم المضمون. وسنتكلم نحن في
كتاب الإجارة إن شاء الله تعالى على تحويل الإجارة المضمونة في الذمة من
عمل صنف إلى عمل جنس خلافه أنه منع، ولو كان غير مضمون لاختلف فيه اختلافًا
نبينه في موضعه إن شاء الله.
هذا حكم تحويل السلم بزيادة في رأس المال.
وأما تحويله بانتقاص في رأس المال على معنى الإقالة مثل أن يسلم إليه في
مائة ثوب مائة دينار فيقيله من خمسين ثوبًا على أن يرد له خمسين دينارًا،
فإن هذا لا يجوز إذا كان رأس المال مما لا يعرف بعينه، وغاب عليه قابضه
لأنه يقدر أن ما ردّ من رأس المال إنما أبطنا قبضه على جهة السلف، وما لم
يتقايلا فيه هو الذي أبطنا البيع فيه، فيكونان تعاقدا على بيع وسلف. وأجاز
هذا أبو حنيفة والشافعي، وقدر أن الخمسين دينارًا والمعاقدة وقعت الإقالة
عليها وعلى ما كان من المنفعة بها، فلم يمنعا ذلك. ونحن إذا قدرنا أن هذا
كالمشترط في أصل العقد ظهر وجه. وأما لو كان رأس المال ها هنا مما يعرف
بعينه وإن غيب عليه جازت الإقالة التي صورناها على الجملة، لارتفاع ما
عللنا به من تقدير البيع والسلف، للعلم بأن رأس المال ثيابًا أو رقيقًا أو
حيوانًا أو صوفًا، فأقال من بعضه، فإن ذلك جائز وقال فضل بن سلمة: قوله:
"أو صوفًا" (1) هو يشير بهذا إلى أن الصوف لا يعرف بعينه بعد الغيبة عليه
فهو كالدنانير. واعتذر بعض الأشياخ عن هذا بأنه يمكن أنه أراد الصوف
المنسوج، والصوف المنسوج يعرف بعينه. وبالجملة فإن مثل هذا اللفظ يقع كأنه
غير مقصود بيان الحكم فيه، وإنما هو كالتمثيل، فإذا وجد له تخريج لم يتعقب.
وأما لو كان تحويل المسلم فيه إنما وقع بزيادة في مقداره مع بقائه على
صفاته من غير عوض يؤخذ عن ذلك، فإنه قد ذكر في المدونة جواز ذلك فيمن
__________
(1) كلمة غير واضحة في (و). محذوفة في (م)، (ش) والكلام مفهوم بدونه.
(2/152)
أسلم في مائة إِرْدَبٍ قمحًا فلقيه المسلم
إليه بعد ذلك فقال له من له السلم: زدني زدني في السلم، فزاده مائة قفيز
أدنى يأخذها إذا حل الأجل، أن ذلك جائز. وذكر سحنون عنه أنه كان (1) يضطرب
فيها فيجيزها تارة ويمنعها أخرى.
وقد أكثر الأشياخ الاعتذار عن هذه المسألة، لأجل أنه قد تقرر أن هبة
المديان لا تجوز، لكونها قد تضارع ربا الجاهلية في قولهم: تقضي أو تربي.
فإذا وهب من عليه السلم لمن له السلم هبة فقد يظن بهما أنهما تعاملا على
ذلك ليؤخر الدين عن أجله، وقصد المديان ما وهب أن يؤخره من له عليه الدين
بما له عليه لأجل ما كارمه به من هبة، وتأخير الدين عن عوض لا يجوز، كما
قدمناه.
لكن اعتذر بعض الأشياخ عن هذا في هذه المسألة بأن قال: ذكر في المدونة أن
السلم عقد على مائة قفيز، ثم زاده مائة أخرى وهذه الزيادة كثيرة تخرج عن حد
ما توهب للتأخير، ولا يهب من عليه الدين مثل الدين الذي عليه ليؤخره به.
هذا هو الظاهر في حكم العادة فإذا ظهر من كثرة هذه الهبة ما يدل على أنها
لم تجعل عوض التأخير لم يكن للمنع وجه إذا ثبت أنها لم يقصد بها التأخير
بالدين.
ومنهم من اعتذر عن هذا بأن من له الدين سأل في الزيادة لأجل أنه اطلع على
أنه عين (2) فسمح له المديان بها لأجل سؤاله فيها، وما وقع عن سؤال من
الموهوب لم يظن بالواهب أنه إنما وهبه له رجاء التأخير. وهذا الاعتذار
يقتضي جواز هذه الهبة قليلة كانت أو كثيرة. والاعتذار الأول يقتضي التفرقة
بين قليل الهبة وكثيرها.
ومنهم من يشير إلى أن الهبة لما علقت بحلول الأجل لم يمنع، لكون من عليه
الدين لم يجب عليه قضاء ما عليه من دين، فلا يفتقر إلى معاوضة على
__________
(1) كلمة مثبتة في (ش) ساقطة من (و)، (م).
(2) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: غُبِنَ.
(2/153)
التأخير لأجل استغنائه عن ذلك يكون من له
(1) الدين لم يجب عليه طلب لوقوع هذه المكارمة قبل الأجل معلقًا قبضها
بالأجل.
وهذا الاعتذار يقتضي جواز هذه الهبة إذا عجلت قبل الأجل، لكونها وقت
تعجيلها لم يجب على دافعها طلب.
وقد ذكر في كتاب ابن المواز اختلافًا فيمن له سلم مائة قفيز محمولة فسأل من
عليه أن يحولها سمراء يأخذها عند الأجل. واعتذر بعضهم عن هذا بأن المكارمة
ها هنا إنما وقعت في تحسين صفة ما يقضى، والشعبي عليه السلام قد ندب إلى
ذلك وقال: بأن (خياركم أحسن قضاء) (2)، والقرض يباح أن يقضى على صفة هي خير
مما قبض، ويمنع في المشهور أن يقضى على عدد أكثر مما قبض، لكون الزيادة في
الصفة حُسْنَ قضاءٍ، بخلاف زيادة العدد.
ومنهم من يشير إلى ما ذكرناه من كون الهبة معلق قبضها بالأجل قبل استحقاق
الطلب فلم يمنع.
ولو وقعت الإقالة على رد رأس المال كله أو ردّ بعضه مع بقاء السلم على حاله
إلى أجله، فإن ذلك ممنوع أنه لا يتصور فيه ما قدمناه من أن المردود من رأس
السلم إنما قبض على جهة السلف، وتعاقدا على أن عوض المنفعة بالسلف ما
أبقياه في الذمة برسم السلم، فيصير ما دفعه على أنه برسم السلم عوض
الانتفاع لما رده من جميع رأس المال أو من بعضه. ورأى عيسى بن دينار أن هذا
إنما يمنع فيمن يتهم على القصد إليه، وأما إذا كان المتعاملان من أهل الصحة
والبعد من التهمة فإنهما لا يمنعان من هذالأولا يتهمان على إبقاء جميع
السلم في الذمة، وجعل ما سمياه رأس مال السلم قصدا به السلف.
وإذا تقرر أن الإقالة من بعض رأس المال، الذي هو دنانير أو دراهم وما في
معناهما لا يجوز، لما صورناه من التحيل على البيع والسلف، فإن رأس مال
__________
(1) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: عليه.
(2) فتح الباري: كتاب الوكالة. ج 5 ص 389.
(2/154)
السلم لما (1) نقد بعضه ولم ينقد بعضه فإن
ابن المواز ذكر أن الإقالة تجوز في المنقود كله لا في بعضه ويجوز في كل ما
(2) لم ينقد وفي بعضه. ويجوز فيما نقد وما لم ينقد وقد عارضه الشيخ أبو
إسحاق في أحد هذه الأقسام الخمسة بأن قال: إذا أجاز الإقالة من جميع
المنقود خاصة فإنه يتصور من التهمة فيها ما يتصور في الإقالة من بعض
المنقود وهو قد منع منه، وقدر أن ما ارتجع من المنقود سلفًا (3) وما أمضاه
منه بيعًا (3)، فكذلك تصور الإقالة من جميع المنقود؛ لأنه يقدر فيه أن
المنقود إذا رد كله بالإقالة فيما قايله كان ما أمضاه من الصفقة مما لم
ينقد بيعًا مستقرًا لا يعاد فيه، فبَعُد أنه (4) قارنه السلف، وهو الانتفاع
بالمردود الذي نقد.
وهذا الذي قاله صحيح على أصل المذهب في القول بحماية الذرائع والتهمة تتصور
في رد المنقود كله كما تصورت في بعضه ولا يقدر أن المنقود كأنه عقد منقود
(5) لأنا لو قدرنا ذلك لصح ما قاله ابن المواز، لأجل ما قدمناه من أن العقد
الواجب إذا وقع المنقود فيه جازت الإقالة من كله لا بعضه، وهذا ها هنا
المنقود هو بعض المعقود عليه، يجب أن يمنع الإقالة في المنقود كله لأنه بعض
العقد كما منعت الإقالة في بعض المنقود.
ولو اعتذرنا عن هذا بأنه إذا أقال ها هنا من جميع المنقود لمن يمنع لأنه لا
يسترجع المنقود بل يقاصّه به فيما لم ينقد، مثل أن يكون أسلم إليه مائة
دينار في مائة ثوب فنقد خمسين دينارًا ثم أقال منها، فإنه إن طالب برد
الخمسين دينارًا بحكم الإقالة طالبه من عليه السلم بإمساكها في الخمسين
الدينار التي بقيت عليه ولم ينقدها، فتصير الإقالة كأنها وقعت فيما لم
ينقد، والإقالة فيما لم
__________
(1) في ش: لو.
(2) في و، م: من. والإصلاح من ش.
(3) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: سلفٌ؛ بيعٌ.
(4) في و، م: بعد أن. والإصلاح من ش.
(5) هكذا في جميع النسخ ولعل الصواب: منفرد.
(2/155)
ينقد جائزة في كله أو بعضه على ما قدمناه
فإن هذا القدر يتصور في الإقالة من بعض المنقود؛ لأنه إذا طالبه بارتجاعه
طالبه بأن يقاصه به فيما بقي له عليه ما (1) لم ينقد، فتوجه ما عارض الشيخ
أبو إسحاق، ولم يصح العذر عنه بأنه يقدّر المنقود وغير المنقود كالصفقتين،
لكون العقد عقدًا واحدًا يشتمل عن الجميع، ولم يصح العذر عنه أيضًا بتقدير
المقاصة التي صورناها لكونها تتصور في كل المنقود وفي بعضه تصورًا متساويًا
وهذا اضح.
ومن هذا الأسلوب ما ذكر في المدونة في سلم أسلمه رجل (2) إلى رجل فأقال أحد
الرجلين المسلم من جميع مالَه عليه فإنه في المدونة أجاز هذا وأجرى عقدهما
مجرى عقدين منقودين (3)، فيمنع أن يقيل أحدهما من بعض ماله ولا يمنع أن
يقيله من كل ماله كما قدمناه في العقد الواحد المنقود (3) به رجل واحد.
وأنكر هذا الجواب سحنون ومنع من هذه الإقالة لما كان الشريك من حقه أن يدخل
على شريكه فيما اقتضاه من دين بينهما، وإذا وجب دخوله عليه فيما اقتضاه من
دين بينهما لم تجز هذه الإقالة لأجل أنه يكون مقيلًا من بعض ماله لا من
كله. وقد اختلف اعتذار الأشياخ عن هذه المسألة، فمنهم من يشير إلى أن هذا
الجواب إنما يصح على ما أشار إليه غير ابن القاسم في المدونة من أن أحد
الوليين إذا صالح عن نصيبه في دم عبد بعبد، أن شريكه في طلب هذا الدم لا حل
عليه في العبد الذي أخذه. ويقتضي هذا أن لا يدخل شريك على شريك فيما اقتضاه
من سائر الديون من إثبات المشاركة فيما اقتضاه أحد الشريكين [من دين بينه
وبين شريكه] (4)، وأيضًا فإن الذي ألزم غير ابن القاسم أن يقول به في سائر
الديون المشتركة لا يلزمه لأن هذا الدم ليس بمال، وإنما الحكم في قتل العمد
القصاص أو ما تراضيا عليه من مال. فإذا كان المال لا
__________
(1) هكذا في كل النسخ، ولعل الصواب: مما.
(2) هكذا في جميع النسخ ولعل الصواب أسلمه رجلان.
(3) هكذا في النسختين ولعل الصواب منفودين. المنفود.
(4) ما بين القوسين ساقط من (و)، (م).
(2/156)
يثبت في دم العمد إلا بتراضي ولي الدم
والقاتل، فقد صار هذا العقد المأخوذ، وليس بمال مشترك بين وليّي الدم، ولا
عوضًا عما لم يشترك. ولو قلنا بمذهب أشهب أن لولي الدم أن يجبر على الدية
وله أن يقتل، لكان في هذا أيضًانظر.
ويمكن أن يقال بأنه لا يكون مالًا حتى يختار الطالب بالدية، فكيف جرت الحال
فإن الدين المستقر في الذمة عن معاملة رجلين شريكين في المعاملة، بخلاف مال
لا يستحقه أحد الشريكين إلا برضاه ورضا القاتل، أو يستحقه ولكن بعد أن
يختاره على ما سواه مما خير فيه وهو القصاص. ولما لم يتضح هذا العذر قال
بعض الأشياخ: إنما نفرض المسألة التي وقعت في المدونة على أن هذين الرجلين
اللذين لهما السلم تقاسما الدين الذي على المسلم إليه، ورضي كل واحد أن
ينفرد بنصيبه. فإذا تقاسماه وتراضيا على ذلك لم يكن لأحدهما دخول على الآخر
فيما اقتضاه، كما ذكر في المدونة أنه إذا اعتذر لشريكه فلم يقبض معه أنه لا
يدخل معه فيما اقتضاه. ورأى بعضهم أن هذا تعسف فعدل عنه، وقدر أن هذه
الإقالة والشركة والتولية (1)، وما ذلك إلا لكون الإقالة في هذا السلم
وطريقها المعروف لم يجر مجرى سائر الديون المشتركة، ولم يدخل الشريك الذي
لم يقل على شريكه المقيل. وذكر الشيخ أبو محمَّد بن أبي زيد أن العذر في
هذا أن الإقالة ها هنا إذا وجبت المشاركة فيها فسدت، فمنع من المشاركة
فيها، فكأنها (2) يشير إلى أنه إذا كان دخول أحد الشريكين على شريكه في هذه
الإقالة لأجل فقد ما يدخل عليه لفساد الإقالة وردها (فصار كفرع - يبطلان
أصله وإذا كان الفرع يبطلان أصله كان هو الباطل دون أصله) (3)، فدخول
الشريك على شريكه في هذه الإقالة فرع عن ثبوتها، وإثبات دخوله عليه يمنع من
ثبوتها فقد صار الفرع كرّ ببطلان أصله فوجب أن يبطل هذا القدر الذي أشار
إليه الشيخ أبو محمَّد بن أبي زيد. ولكن لم ينص على وجه الفساد، وقد
__________
(1) هكذا في جميع النسخ، ولعل في الكلام نقصًا.
(2) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: فكأنه.
(3) هكذا في جميع النسخ.
(2/157)
نص عليه فضل بن سلمة لما قدمنا الإشارة
إليه، وهو أن دخول الشريك الذي لم يقل على المقيل يصيّر المقيل مقيلًا على
بعض ما أسلم فيه، وقد قدمنا أن الإقالة إنما تجوز على كل السلم لا على
بعضه. وأشار الشيخ أبو عمران إلى طريق أخرى في فساد الإقالة: إنما تجوز على
كل (1) ها هنا يقتضي خيار الشريك الذي لم يقل بين أن يمضي الإقالة أو يشارك
فيها، والإقالة على خيار لا تجوز لما تضمنته من التأخير، والتأخير في
الإقالة ممنوع، وكلا الوجهين إذا فسدت لهما الإقالة كان عذر فيما قدح به
سحنون في جواز الإقالة. ونحا الشيخ أبو الحسن ابن القابسي إلى ناحية أخرى
في الاعتذار، وسلكها بعده الشيخ أبو القاسم بن الكاتب، وهي أن الإقالة ها
هنا كأنها سائغة لمن عليه السلم، فيصير من عليه السلم شريكًا لمن كان
المقيل شريكه، فحل في ذلك محل بيع أحد الشريكين نصيبه من الدين من أجنبي لم
يدخل عليه شريكه، لكون الذمة التي عوملت بالسلم إليها بقيت على حالها،
بخلاف الاقتضاء فإن أحد الشريكين إذا اقتضى نصيبه فإنه قد أوهن ذمة الغريم
المشتركة بينه وبين شريكه، وأخلاها مما أعطاه، فكان لشريكه في ذلك مقال مع
كون الإقالة طريقها المعروف. ولا ينتقض هذا بصلح أحد الشريكين عن نصيبه من
الدين، فإنه ذكر في المدونة أنه إذا صالح على نصيبه من الدين كان لشريكه أن
يدخل عليه فيما صالح به لكون الصلح ها هنا يحل محل الاقتضاء، وكان القصد به
الاقتضاء لا المبالغة. وهذه الطريقة قد لا يصح فيها وجه التفرقة بين صلح
أحد الشريكين وبين إقالته؛ لأن الصلح يتصور أيضًا كون الشريك كبائع نصيبه
من الدين من أجنبي.
(على أن ابن المواز ذهب إلى أن أحد الشريكين إذا باع نصيبه من الدين من
أجنبي) (2) فإن لشريكه أن يدخل عليه ويشاركه في الثمن الذي باع به، مع كونه
لم يخل ذمة غريمه ولا أوهنها، وإنما باع جزءًا منها ممن يحل محله. فهذه طرق
شتّى في الاعتذار عما وقع في هذا السؤال.
__________
(1) بياض بمقدار كلمة في جميع النسخ.
(2) ما بين القوسين ساقط من و، م.
(2/158)
وعندي أنه لو سلك فيه طريقة أخرى لكانت
سالمة من القدح، وهو أن يقال: قد علم من المذهب الاختلاف في الإقالة، هل هي
حل بيع أو ابتداء بيع؛ فإن قلنا: إنها حل بيع اتضح ما قاله ابن القاسم؛ لأن
الشريك المقيل قد حل ما عقد على نفسه، وكأنه لم يكن شريكًا في هذا الدين
قط. وإذا لم يشارك فيه لم يستحق الآخر الدخول عليه. وإن قلنا: إن الإقالة
ابتداء بيع، اعبترتَ أصلًا آخر وهو إلحاق دخول الشريك على شريكه فيما
اقتضاه لكونه أوهن الذمة المشتركة بما أخذ منها، وإذا وجب دخوله عليه صار
الشريك المقيل كأنه [قال من بعض نصيبه هي ما وقع عند الإقالة، وعند الإقالة
ها هنا إنما وقع على نصيب الشريك كله لا على بعضه. لكن الأحكام علمته
وأوجبت دخول شريكه، وهذا حكم توجه عليه بعوإنعقاد إقالته على وجه صحيح في
ظاهره مما يوجبه الأحكام، هل يقدر كأنه كالمشترط في العقد أو لا يقدر أنه
كالمشترط؟. وهذا أصل اضطرب فيه المذهب، ألا ترى أنْ الوليّ الأبْعدَ إذا
عقد، فإنه قد قيل: إن العقد يفسد لأجل ما أوجب الشرع من الخيار للولي
الأقرب، فكأنه كالخيار المشترط في أصل العقدة وقيل: لا يفسد، إلى غير ذلك
من المسائل المبنية على هذا الأصل. فهذه طريقة إذا سلكت بعد منها القدح.
وقد ذكر في آخر كتاب السلم الثاني مسألة من أسلم في ثوب بذراع رجل بعينه
فأجاز ذلك إذا أراه الذراع، ويؤمر أن يأخذ قياسه بعصاة على أنه عدل، أو
يأخذه كل واحد منهما عنده. ولو عقد السلم على ذراع مطلق لكان العقد جائزًا،
ويقضى عليهما بالذراع الوسطى. هكذا ذكر أصبغ عن ابن القاسم. وقال أصبغ: هذا
استحسان، والقياس الفسخ. ولو وقع العقد على ويبة وحفنة فإنه في المدونة
قال: ذلك جائز إذا أراه الحفنة. فاشترط ها هنا رؤية الحفنة، ومقتضى ما
حكيناه عن ابن القاسم يقضى بحفنة وسطٍ. وهنا عقد يقدح فيه بأنه اشتمل على
مكيل وهو الويبة، وجزاف وهو الحفنة، وفي اشتمال العقد الواحد على مكيل
وجزاف خلاف. لكن هذا الاختلاف في جزاف مرئي وها هنا إنما
(2/159)
استُخِفَّ هذا، وإن كان غير مرئي، لكون
المسألة شرط فيها أن العقد وقع على ويبة وحفنة، ولو وقع على ويبات كثيرة
وحفنات كثيرة لفسد العقد لكثرة الغرر فيه بكثرة الجزاف الغير مرئي.
وقد رأينا أن نؤخر الكلام على الإقالة من أحد ثوبين أسلما في طعام، والكلام
على تلف ثوب قبل قبضه أسلم في طعام، ونشرع في كتاب السلم الثالث، ونبدأ
بالكلام على بيع الطعام قبل قبضه، ثم نجمع أحكام الإقالة، ونتكلم فيها على
هاتين المسألتين من إقالة وقع فيها تلف الثوب أو إقالة على أحد ثوبين.
(2/160)
كتاب السلم الثالث
(2/161)
فصل
قال القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب رحمه الله:
الأعيان المبيعة ضربان: طعام وغير طعام. فغير الطعام (1) من سائر المبيعات
(2) هي العروض والعبيد والحيوان والعقار وما ينقل ويحوّل أو لا ينقل ولا
يحوَّل، فبيعه جائز قبل قبضه (3)، على الجملة، ما لم يعرض فيه ما يمنع منه.
وأما الطعام فلا يجوز فيما (4) يتعلق به حق توفية، من وزن أو قيل أو عدد،
أن يباع قبل قبضه أو يعاوض عليه، إلا أن يكون على غير وجه المعاوضة، كالهبة
والصدقة، أو على وجه المعروف، كالقرض والبدل، فيجوز. ثم لا يجوز لمن صار
إليه ذلك أن يعاوض به (5) قبل قبضه. وتجوز فيه الإقالة والشركة والتولية
قبل قبضه. وما بيع منه جزافًا أو مُصْبَرا فبيعه جائز قبل نقله أو أخذه (6)
البائع بينه وبينه.
قال الفقيه الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل ثلاثة فصول:
أحدها: القول في بيع الطعام قبل قبضه.
والثاني: القول في صفة الملك للطعام الممنوع من بيعه قبل قبضه.
__________
(1) في المغربية: فغير الطعام والشراب.
(2) في المغربية: من.
(3) في المغربية والغاني: في.
(4) في المغربية والغاني: فغلق.
(5) في المغربية والغاني، عليه.
(6) في المغربية والغاني: إذا خلّى.
(2/163)
والثالث: القول في الشركة والإقالة
والتولية فيه.
فأما الفصل الأول فيتعلق به أربعة أسئلة منها أن يقال:
1) ما الذي يمنع بيعه قبل قبضه؟
2) وما سبب الاختلاف فيه؟
3) وإلى أي شيء خص الطعام بالمنع؟
4) وهل هذا المنع في سائر أنواع الأطعمة أم لا؟
فالجواب عن السؤال الأول أن يقال:
الذي يمنع بيعه قبل قبضه فذكر عن عثمان البتّي أنه أجاز بيع كل شيء قبل
قبضه. وذكر أبو الفرج من أصحابنا، يشير إلى التردد في هذا المذهب، فقال:
يمنع من بيع الطعام قبل قبضه لأجل العينة، وهكذا كل شيء من السلع إذا قصد
بها العينة منعت لها بمنع الطعام. لكن العينة إن ارتفعت منع الطعام خاصة
لأجل الحديث، وجاز ما سواه من السلع. فجعل الطعام ممنوعًا للمعنى وهو
العينة تارة، وتارة أخرى للخبر. ثم قال: ووجه آخر أن استعمال العينة إنما
يكثر في مبايعة الأطعمة. ويقول، والله أعلم: لو سلم البيع فيه من العينة
لجاز إذا بيع بنقد. وهذا القول منه يشير إلى قريب من قول عثمان البتي.
والقاضي أبو محمَّد عبد الوهاب يعلل بيع الطعام قبل قبضه بالعينة ولم يجعله
شرعًا غير معلل. ومن ذهب من الناس إلى عكس هذا المذهب، فمنع من بيع كل شيء
قبل قبضه، طعامًا كان أو غيره، مما ينقل ويحول كالعروض، أو مما لا ينقل
كالعقار إلى هذا ذهب ابن عباس رضي الله عنه. وبه قال الشافعي ومحمد بن
الحسن من أصحاب أبي حنيفة. ومن الناس من قصر المنع على كل مكيل وموزون
طعامًا كان أو غيره. ذهب إلى هذا عثمان بن عفان رضي الله عنه وابن المسيب
والحسن البصري وربيعة ويحيى بن سعيد وبه قال ابن حنبل.
وذهب مالك رضي الله عنه إلى قصر المنع على الطعام خاصة دون ما
(2/164)
سواه من سائر الأجناس. وذهب أبو حنيفة إلى
المنع في كل جنس كما قاله الشافعي لكنه انفرد فاستثنى منه ما لا ينقل ولا
يحول. فهذه خمسة مذاهب.
والجواب عن السؤال الثاني أن يقال:
اختلفت الأحاديث الواردة في هذا الباب، فروي في الحديث الصحيح أن النبي -
صلى الله عليه وسلم - قال: "من ابتاع طعامًا (قبل النعمة) (1) حتى يستوفيه"
وروى عمرو بن العاص أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "نهى عن ربح ما لم
يضمن" (2) وروي عن حكيم بن حزام أنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -:
"بيّن لي ما يحل ويحرم" فقال: "إذا ابتعت بيعًا فلا تبعه حتى تستوفيه" (3)
وذكر ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: "ابتعت زيتًا فلقيني رجل بالسوق
فأعطاني فيه ربحًا حسنًا فمشيت وأنا آخذ بيده فإذا رجل أخذ بذراعي من وراء
فالتفت فإذا زيد بن ثابت رضي الله عنه قال لي: فإن النبي - صلى الله عليه
وسلم - نهى عن بيع السلع، حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم" (4).
فأما عثمان البتي فإنه يترك النظر في هذا، ويتعلق بقوله تعالى: {وأَحَلَّ
اللهُ البَيْعَ} (5). وبقوله تعالى: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ
بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ
مِنْكُمْ} (6) فعم كل بيع، وكذلك عمّ كل تجارة عن تراض.
وأما من سواه، فإن مالكًا رضي الله عنه يتعلق بقوله: "من ابتاع طعامًا فلا
يبعه حتى يستوفيه" دليل الخطاب أن ما عدا الطعام يباع قبل أن يقبض.
وأما ابن حنبل ومن ذكرنا معه فإنه يقيس على الطعام كل مكيل أو موزون
لمشاركته الطعام في الكيل أو الوزن، ويرى أن تخصيص الطعام هنا بالذكر تنبيه
__________
(1) نص الحديث: فلا يبعْه. المعلم: ج 2: 165.
(2) ابن ماجة: ج 2 ص 737 - أحمد: ح 2: 175.
(3) نصب الراية: ج 4: 32.
(4) نصب الراية: ج 4: 32.
(5) سورة البقرة، الآية 275.
(6) سورة النساء، الآية 22.
(2/165)
على كل مكيل وموزون، ولم يرد به قصر الحكم
على الطعام خاصة، ونفيه عما سواه، كما لم يرد بذكر الربا في البر والشعير
وما ذكر معهما قصر الربا على ما سمي من هذه الأصناف، بل ذكرها لينبه على ما
شاركها في علة الربا. وكذلك ها هنا إنما ذكر الطعام لينبه به على ما شاركه
في قيل أو وزن، وقد وقع في بعض طرق الحديث "من ابتاع طعامًا مكيلًا"
فتقييده بالكيل تنبيه على أنه عليه الحكم.
وأما الشافعي ومن تعلق معه فإنه يتعلق بعموم نهيه عليه السلام عن ربح ما لم
يضمن بعد (1) سائر أجناس المبيعات.
وكذلك يتعلق أبو حنيفة بعموم هذا الحديث، ولكنه خص العقار وما لا ينقل بوجه
من النظر سنذكره إذا خضنا في طريق النظر إن شاء الله تعالى.
وأما اختلاف هذه الظواهر فإن مالكًا رضي الله عنه يتأول النهي عن ربح ما لم
يضمن على أن المراد به بيع ما ليس عندك فيجعل هذا الحديث مطابقًا للآخر.
وكذلك ذكر ابن المواز.
ومن ساوم إنسانًا في سلعة وذهب بها فباعها بأكثر مما ساومه أن ذلك لا يجوز
إذا لم يعلم صاحبها بذلك وهو من ربح ما لم يضمن.
وكذلك لو اشترى سلعة بالخيار فباعها بربح قبل أن يختار، فإن الربح لربها
لأنه يتحرك في سلك ما لم يضمن. هذا اعتذار أهل المذهب عما تعلق به الشافعي.
وأما اعتذار أصحاب الشافعي عما تعلق به أهل المذهب من النهي عن بيع الطعام
قبل أن يستوفى، فإنهم لا يسلم أكثرهم (دون هذا الخطاب دليل) (2) لكونه إنما
علق الحكم فيه باسم، ودليل الخطاب، عند تبنيه، إنما يتضح في
__________
(1) هكذا، ولعل الصواب: من.
(2) هكذا في جميع النسخ. وهو غير واضح.
(2/166)
تعليقه بالأوصاف والشروط والعدد، وأما
تعليقه بالاسم فإن أكثر مثبتيه ينكرونه، لكن الدقّاق من أصحاب الشافعي قال
به. وأضيف أيضًا هذا المذهب إلى مالك رضي الله عنه. فإن قلنا بإنكاره إذا
علّق بالأسماء لم يكن اعتذار عنه، وإن الأسماء إذا علقت بها الأحكام كان ما
عدا الأسماء بخلافها ها هنا (1) ويصل الخطاب مع عموم قول الراوي "نهى عن
ربح ما لم يضمن" فينظر في الذي تقدم منهما. هذا إن سلم أن القصد به ها هنا
نفي الحكم عما عداه. وإن لم يسلم ذلك، وقيل: إن الدليل إنما يستعمل إذا لم
يكن الخطاب خرج مخرج التنبيه قدم تنبيه الخطاب ومفهومه على دليله، ألا ترى
قوله سبحانه {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} (2) دليل هذا الخطاب يقتضي أن
يقال لهما ما فيه سبّ لهما أولى وأحرى.
وموضع التنبيه في هذا الخطاب أن الطعام تمس الحاجة إليه، وإلى المبادرة
لنفعه، وابتياعه للقوت به، وحفظ الحياة بأكله، ما لم تمس الحاجة إلى
المبادرة إلى شرائه منه وبيعه له، كان نهيه عن بيع ما سواه من السلع قبل أن
يقبضها أولى وأحق.
هذا طريق الكلام على اختلاف ظواهر هذه الأحاديث. وأما الكلام عليها من جهة
الاعتبار فإن أصحابنا يقولون: لما جاز التصرف في الأثمان قبل قبضها جاز ذلك
في المثمونات. وإذا جاز بيع ما لم يقبض مما وهب أو تصدق به أو ورث فكذلك
يجوز بيع ما اشتُري قبل أن يقبض، (فكذلك يجوز التصرف فيه بالبيع) (3).
وأما أصحاب الشافعي فإنهم يجيبون عن هذا بأن المذهب عندهم على قولين في بيع
ما في الذمة من ثمن سلعة باعوها. فإن قيل بالمنع فلا تعلق به،
وإن قيل بالجواز فالفرق أن الأثمان في الذمم ملكها قد استقر ولا يحسن بطلان
الملك، فلهذا جاز البيع قبل القبض. وأيضًا فإن المالكية تمنع بيع الطعام
قبل قبضه (إذا كان دنانير أو دراهم أو ما يجوز بيعه قبل قبضه. وأما العين
فإن منهم
__________
(1) كلمة غير واضحة.
(2) سورة الإسراء: الآية 23.
(3) ما بين القوسين، مساوٍ في المعنى للجملة التي تقدمت قريبا.
(2/167)
منع منه قبل القبض. والمشهور عندهم جوازه
لكون العين له حرمة) (1) ألا ترى أن الشريك يقوّم عليه بنصيب (2) شريكه إذا
أعتقه، ولا يقوم عليه نصيبه إذا لم يعتق بل باعه. وأيضًا فإن بإعتاق العبد
سقط الملك عنه وسقط الضمان فلم يكن للمنع وجه.
وأما الهبة والصدقة والميراث فإنما جاز البيع في ذلك قبل القبض لأن ذلك في
ضمان الوارث بنفس الوراثة، وكذلك في ضمان الموهوب له بنفس الهبة. ويتعلقون
من جهة الاعتبار في صحة ما (3) لأنه إذا باع ما لم يقبضه فقد باع ما لا
يقدر على تسليمه حين العقد. وأيضًا فإن الملك في المشتري الذي لم يقبض منك
ناقص لكونه معرضًا للبطلان فهو غرر، والغرر في عقود البياعات نهى الشرع
عنه؛ ولأنه (4). هذا بالاستحسان فإنه يجوز، وإذا وقع الاستحقاق بطل البيع
وسقط الملك، ثم مع هذا لا يمنع تجويز الاستحقاق من صحة البيع بإجماع؛ لأن
هذا وإن كان فيه غرر فهو غرر لا قدرة على دفعه على حال إلا بمنع البيع
أصلًا، وهذا فيه ضرر بالناس فعفي عنه. وأما (5) الصالح السلع قبل قبضها
فإنه غرر ويقدر على رفعه بأن ينهى المشتري عن البيع حتى يقبض السلعة؛ ولا
يكون في عقده تعرض للبطلان على حال. وهذا الذي قالوه إنمانظر الجواب عندي
بأن يقال: اختلف المذهب هل ينتقل الضمان إلى المشتري في غير ما فيه حق
توفية بنفس العقد أَوْ لا ينتقل حتى يذهب زمان يمكن فيه التسليم؛ فإن قلنا:
إن الضمان ينتقل للمشتري من نفس العقد لم يصح لهم ما تعلقوا به من كون
البائع غرضه البطلان بجواز هذه السلعة المبيعة. وإن قلنا: إنه لا يضمنه
المشتري إلا بالقبض أو التمكين، وأن طرُوَّ الهلاك في ضياع السلع
__________
(1) ما بين القوسين في جميع النسخ، فيه نقص واضطراب.
(2) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب إسقاط حرف الجرّ.
(3) كلمة غير واضحة في جميع النسخ.
(4) كلمة غير واضحة في جميع النسخ.
(5) كلمة غير واضحة بجميع النسخ.
(2/168)
نادر، والنوادر لا يلتفت إليهالأولا يكون
تجويزها من العذر المانع لعقد البيع.
وهذه النكتة التي أشرنا إليها توضّح ذلك.
وجه تفرقة ابن حنبل وغيره بين المكيلات والموزونات وبين غيرها من المكيلات
والموزونات قد اتفق أن ضمانها لم ينتقل للمشتري قبل الكيل والوزن فحسن
دخولها في النهي عن ربح ما لم يضمن ولا يحسن دخول ما سواها من المبيعات
لكونها يضمنها المشتري بالعقد على أحد القولين عندنا. ولأجل هذه النكتة
التي نبهنا عليها ذهب أبو حنيفة إلى (1) ما لا ينقل ولا يحول كالعقار يجوز
بيعه قبل قبضه، بخلاف غيره من السلع؛ لأن العقار لا يمكن ضياعه وعدم عينه،
فيبطل العقد بعدم العين، وإنما يجوز عيبه، والعيب لا يبطل الملك ولا يلحق
العين بالعلم. فأنت ترى أبا حنيفة إنما فرق أيضًا بين العقار وغيره
اعتبارًا بهذه النكتة التي نبهنا عليها، وجعل ابن حنبل ومن ذكرنا معه إنما
فرقوا بين المكيل والموزون لأجلها. ولكن هذه النكتة عليها يدور أكثر
الخلاف.
قال بعض أصحاب الشافعي: القبض على ثلاثة أنواع: قبض ينقل الملك وذلك في
الهبات. وقبض يصحح العقد وذلك في الرهبان. وقبض يصحح الملك ويحققه وذلك في
المبيعات. والقبض يتنوع بتنوع المبيعات بحسب مقتضى العادات فيها، فالمكيل
والموزون يعتبر فيه الكيل والوزن، واعتبار قدر المناولة في انتقال الضمان
كالمكيال للزيت إذا انصرف عند (2) أحدهما قبل إمكان مناولته وتفريغه، فإن
فيه في المذهب اختلافًا عندنا: هل ضمانه من البائع أو من المشتري؟ فلو تصور
عقد البيع في هذه النكتة، التي اختلف فيها في الضمان، يجري جواز البيع على
القولين في جواز بيع الطعام الجزاف قبل أن ينتقل إلى ضمان المشتري، على ما
سنبينه إن شاء الله تعالى.
وأمّا ما سوى الطعام فإنه يجوز بيعه قبل قبضه فلا فائدة في تنوع القبض
__________
(1) هكذا في جميع النسخ. ولعل الصّواب إضافة: أَنَّ.
(2) هكذا في جميع النسخ ولعل الصواب حذف عند.
(2/169)
عندنا. وأصحاب الشافعي ينوعونه فيرون أن
الحيوان الناطق إذا بيع فقبضه أن يستدعَى فينتقل من مكانه إلى المشتري الذي
استدعاه. والحيوان البهيم أن يقاد من مكانه، إلى غير ذلك مما تعتبر فيه
العادة في قبضه. وأبو حنيفة يرى أن التخلية والتمكين من المبيع قبض. ويحتج
أصحاب الشافعي بالحديث الذي قدمناه، وهو قوله "نهى عن بيع السلع حيث تبتاع
حتى يحوزها التجار إلى رحالهم" ويقول ابن عمر: كانوا يضربون على عهد النبي
- صلى الله عليه وسلم - أن يبيعوا الطعام الذي اشتروه جزافًا قبل أن ينقلوه
(1). وهذا الظاهر يمنع من الاقتصار في القبض على التخلية والتمكين، وإن كان
ظاهر الحديث يقتضي أن لا يكتفي بتحويل المبيع عن مكانه حتى يصل إلى منزل
المشتري، فإن اعتبار وصوله إلى منزله وما قبله من النقل عن المكان خاصة
يُمنع لظاهر الحديث.
والجواب عن السؤال الثالث أن يقال:
اختلف أهل المذهب في منع بيع الطعام قبل قبضه: هل الحديث الوارد في ذلك شرع
غير معلل أو معلل يكون العِينة يستعمل فيه؟. ومذهب القاضي أبي الفرج
والقاضي أبي محمَّد عبد الوهاب أنه معلل بالعِينة. وقد ذكرنا كلام أبي
الفرج وتردده في ذلك، وإشارته إلى أنه يحرم تارة لأجل العينة وتارة للخبر،
ثم مال إلى اعتبار العينة وتعليل الحديث بها، ورأى أنها إذا ارتفعت ارتفع
حكمهالأولكنه شرط في هذا أن يكون البيع بالنقد. وقد أشار ابن مزين إلى
اعتبار النقد أيضًا في هذا. وكنا قدمنا نحن عن بعض أصحاب الشافعي أنه أشار
إلى أنه إنما أشار بالذكر لكونه تمس الحاجة إليه لحفظ الحياة بأكله، فإذا
منع بيعه قبل قبضه مع هذه الحاجة إليه فأحرى أن يمنع ما سواه. ويمكن عندي
على أصلنا إنما خص بالذكر لشرفه كما يخص بتحريم الربا على رواية ابن وهب؛
لأنه لا يمنع بيع ما لا ربا فيه من الطعام قبل قبضه.
والجواب عن السؤال الرابع أن يقال: ما يمنع التفاضل فيه من الأطعمة
__________
(1) إكمال الإكمال: ج 4: 193.
(2/170)
المبيعة على قيل أو وزن أو عدد فلا خلاف
عندنا، وعند فقهاء الأمصار، في المنع منه على ما مضى بيانه. وأمّا ما لا
ربا فيه من الأطعمة فالمشهور عندنا من المذهب المنع من بيعه قبل قبضه
أيضًا. وروى ابن وهب عن مالك جواز بيعه قبل قبضه.
فأما المذهب المشهور فحجته قوله عليه السلام "من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى
يستوفيه" (1) تعم سائر الأطعمة.
وأما رواية ابن وهب فقد أشرنا إلى وجهها، وكأنه رأى الطعام لما خصّ بالعبات
(2) منه ويدخر فتحريم الربا فيه لشرفه وكونه حافظًا للحياة، وكذلك يخص
بالمنع من بيعه قبل قبضه. وهذا المسلك بعيد، على مقتضى حقائق الأصول؛ لأنه
يختص (3) للعموم بهذا الضرب من الاستدلال المأخوذ منه، فكأنه تعليل للخبر
(لما يقتضي عمومَه) (4) فصار كالفرع إذا عاد ببطلان أصله.
فإذا قلنا بالمذهب المشهور من تعميم المنع من (5) سائر الأطعمة فإن الزرارع
منها ما لا يجري مجرى ما ينبت منها، إذا لم تكن مأكولة في نفسها في غالب
الأمر، فلهذا أبحنا زريعة الفجل الأبيض وزريعة الكراث والقثاء والبطيخ وشبه
ذلك. فهو، وإن كان ينبت منه الطعام المأكول، فليس هو الآن بالطعام الذي
اعتيد أكله، لكن لو كان زريعة الفجل الأحمر لمنع من بيعها قبل قبضها لكونها
يعتصر منها الزيت، ولهذا تُراد، وأعطيت حكم الزيت لما كانت لا تراد إلا له.
وكذلك قيل في حب العصفر أنه يمنع قبل قبضه لأجل أنه إنما يراد منه الزيت
الذي يعصر منه.
والخردل أُلْحق بالطعام لأنه يؤكل في نفسه فلحق بالأطعمة. بخلاف
__________
(1) الهداية ج 7 ص 229.
(2) هكذا، ولعل الصواب: بما يُقتاب.
(3) هكذا، ولعل الصواب: تخصيص.
(4) هكذا، ولعل الصواب: لما يقتضي تخصيص عمومه.
(5) هكذا، ولعل الصواب: في.
(2/171)
زريعة الحرْف وهي زريعة الرشاد لكونه لا
يؤكل في نفسه ولا يراد للزيت.
وقال ابن سحنون: اتفق العلماء على أن الزعفران ليس بطعام وأنه يباع قبل
قبضه.
وأما الماء فخرج فيه بعض أصحابنا اختلافًا في بيعه قبل قبضه سنبينه في
كلامنا على الربا فيه وفي غيره إن شاء الله.
وأما الأبزارُ المطيبة للأطعمة كالفلفل والكروي وشبه ذلك فإن المشهور من
المذهب المنع من بيعها قبل قبضها. وذكر ابن شعبان في مختصره جواز بيعها قبل
قبضها.
والكمون الأسود وهو الشونيز، المشهور عندنا أنه يمنع من بيعه قبل قبضه.
وقيل إن الكمونين جميعًا، الأبيض والأسود، لا يمنع من بيعهما قبل قبضهما.
وأما الشَّمَار، وهو زريعة البسباس، والأنيسون وهي الحبة الحلو (1) فإن في
بيعهما قبل قبضهما اختلافًا أيضًا في كونهما وكون الكمونين أصنافًا شتّى أو
صنفًا واحدًا اختلافًا أيضًا نبينه في أحكام الربا إن شاء الله.
واختلف في الحلبة فقيل: إنها طعام، وقيل: ليست بطعام؛ وقيل: اليابس منها
ليس بطعام. هذا دليل جنس الطعام الذي يمنع بيعه قبل قبضه.
وأما بيان الصفة التي يباع عليها، فإنا قدمنا أنه إذا بيع على الكيل أو
الوزن أو العدد فإنه لا يختلف في المنع من بيعه قبل قبضه. وأما إذا بيع
جزافُ الأولكن الضمان لم ينتقل إلى المشتري فإن المذهب في بيعه قبل قبضه
على قولين:
الجواز والمنع، كمشتري لبن غنم بعينها شهرًا، فإنه اختلف فيها ابن القاسم
وأشهب في جواز بيعه لهذا اللبن قبل قبضه. وكذلك يختلف في هذا في بيع صبرة
للطعام قبل أن تقبض، إذا كانت محبوسة بالثمن، على أحد القولين في
__________
(1) هكذا.
(2/172)
كون المحبوس بالثمن ضمانه من بائعه لا من
مشتريه. وأما إذا قيل: إن ضمان المحبوس بالثمن من مشتريه، فإن هذا لا يختلف
فيه بناء على هذا الأصل.
وكذلك اختلف فيمن اشترى جزءًا من ثمرة فأراد أن يبيع ذلك الجزء قبل قبضه،
وكذلك اختلف فيمن باع ثمر نخلة أو صبرة طعام واستثنى منها ما يجوز له
استثناؤه من المكيلة، وهو الثلث فأقل منه، وأراد أن يبيع هذا المكيل الذي
استثناه قبل قبضه فإن فيه روايتين: الجواز والمنع؛ ولكن هذا مبني على أصل
آخر وهو الخلاف في المستثنى هل هو مبقى على الملك فيجوز لمستثنيه أن يبيعه
قبل قبضه كسائر ما يريد أن يبيعه من أملاكه، أو يقدِّر أن المستثنى مشترى
فيكون البائع لما استثنى هذه المكيلة فكأنه باع الصبرة بدنانير وهذه
المكيلة التي استثناها، فيكون مشتريًا لها، ومن اشترى طعامًا على الكيل منع
من بيعه قبل قبضه. وأما لو مكن بائع الصبرة مشتريها منها ولم يحلها بالثمن
فإن مالكًا أجاز شراءها قبل أن تنقل. وروي عنه أنه استحب ألا تباع حتى
تُنقل. وبالمنع من بيعها قبل قبضها قال أبو حنيفة والشافعي لما روي عن ابن
عمر في الصحيح أنه قال: كانوا يُضْربون على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم
- في الطعام إذا اشتروه جزافًا، لا يبيعونه حتى ينقلوه إلى رحالهم (1).
وروى مالك في الموطأ هذا الحديث ولم يقل فيه: "جزافًا" بل أورده مطلقًا
(2).
وأما الفصل الثاني فهو الكلام في الإقالة على الطعام والشركة والتولية وبأن
الترتيب ينبغي أن يتكلم على الفصل الثاني وهو صفة الملك للطعام الممنوع من
بيعه قبل قبضه، اتباعًا لرتبة الكتاب الذي شرحناه، وأيضًا فإن الكلام في
صفة الملك قبل الكلام فيما استثنى من الممنوع فيه، ولأنا قدمنا في كتاب
السلم الأول العذر في ذلك، وهو أن الأصحاب رغبوا في توخي ترتيب المدونة في
كتاب السلم، فجرينا على ذلك فيها، ولكن دعت الضرورة إلى أن تقدم الكلام على
منع بيع الطعام قبل قبضه، ثم نعطف عليه الكلام في الرخصة
__________
(1) فتح الباري: ج 5 ص 254.
(2) الموطأ: ج 2 ص 168 حديث 1865.
(2/173)
فيه كفرع منه. واعلم أنه يتعلق بهذا الفصل
أحد عشر سؤالًا، منها أن يقال:
1 - ما الإقالة؟.
2 - وهل يسوغ تبديل لفظها؟.
3 - وما حكم تأخير الحكم فيها؟
4 - وهل تقدير التأخير فيها يغير حكم الضمان فيها؟
5 - وما حكم تغير رأس المال فيها حِسًّا؟
6 - وما حكم تغيره تقديرًا؟
7 - وهل يمنع استغلال رأس المال من الإقالة أم لا؟
8 - وهل يغيَّر حكم الإقالة إذا صار المقال فيه لجماعة بعد أن كان لواحد؟
9 - وما حكم إقالة واحد من جماعة يحمل بعضهم عن بعض؟
10 - وما حكم الإقالة في العروض على أمثالها؟
11 - وما حكم التأخير الاختياري في الإقالة؟
والجواب عن السؤال الأول أن يقال:
أما الإقالة فإنه اختلف في اشتقاقها. فقيل: إنها مأخوذة من الشبه. ومنه
قولهم: فلان يقيل مسجد أبيه، بمعنى أشبهه في المجد، ومنه القَيْل في
حِمْيَر وهو شبه المَلِكِ فيهم. ومبدأ الإقالة في البيع لأنها معاقدة ثانية
في البيع لشبه المعاقدة الأولى، أو حل بيع وحله يشبه عقدَه لكون الثمن
والمثمون في الإقالة (وقد يبدل فيما يبدل في المبيع) (1). ورأيت في بعض
شروحات أبي الفتح بن جني أنه حكى أن من الناس من ذهب إلى أنها مشتقة من
القول؛ وكأن القول الأول الذي وقع فيه التبايع أعيد مرة أخرى، فعله
بانعقاده على صفة أخرى.
وذكر أن شيخنا أبا علي الفارسي أنكر هذا الاشتقاق الثاني، وقال بأن أبا زيد
حكى أنه يقال: قلت الرجل، وأقلته، وأنا أقيله فيهما، ولو كانت الإقالة في
البيع مشتقة من إعادة القول لكان المستقبل منه: أقوله. ثم أخذ ابن جني
يعتذر عن هذا بما يتعلق من أحكام التصريف بما ليس هذا موضعه.
__________
(1) هكذا، والكلام غير واضح.
(2/174)
والجواب عن السؤال الثاني أن يقال:
ذكر في المدونة فيمن قال: ولّني الطعام الذي لك عليّ: ذلك جائز. وليس
بتولية، وإنما هو إقالة، وإنما جاز تبديلها ها هنا بلفظ التولية لكون
التولية رخصة معها، ومنعها بلفظ البيع لكون الحديث ورد بالمنع من بيع
الطعام قبل قبضه، مع أن موضوع البيع المكايسة، والإقالة موضوعها المعروف.
ولا ينتقض هذا بقوله في الكتاب: إذا قال له: خذ مثل رأس المال من الدنانير
فاشتر به طعامًا. أن ذلك جائز لأنهما لو شاءا التقايل (1). لأنه لم يرد
بهذا بيان العبارة الجائزة عنها وإنما أراد (2) الفعل لا تهمة فيه.
والجواب عن السؤال الثالث أن يقال:
أما الإقالة فإنها إذا وقع تأخير التقابض فيها بشرطٍ فإنها باطلة. ومن
حكمها التناجز، لأن الشرع ورد بمنع فسخ الدين في الدين، وهي إذا وقع تأخير
التقابض فيها خرجت إلى معنى الدين بالدين، والشرع استثناها في الطعام رخصة،
لما كان طريقها الإحسان والمعروف. فإذا دخلها التأخير انصرفت الأغراض إلى
المكايسة والمناجزة في التأخير، فمنعت.
لكن لو وقع التأخير حكمًا مغلوبيْن عليه، فإنه قد ذكر في المدونة، في إقالة
المريض: إذا أقال المريض من طعام أسلم فيه مائة درهم، وهو يساوي مائتين،
ولا مال له غيره، فإن ورثته إن أجازوا إقالته مضت، وإن ردوها قطعوا للمسلم
إليه بثلث ما عليه من الطعام، وأخذوا ثلثيه؛ وإن حمل الثلث جميع الطعام تمت
وصيته. ولو كانت الإقالة لا محاباة فيها لمضت على الورثة.
فاعلم أن المريض غير ممنوع من البيع والشراء بالقيمة، لأن الورثة إنما
يملكون الحجر عليه في مقدار ما في يديه سوى الثلث الذي جعل له صرفه
__________
(1) جواب (لو) غير مذكور، ولعله: لفعلاه.
(2) هكذا، ولعل الصواب: وإنما أراد "أنّ" الفعل.
(2/175)
عنهم، (كانت مناجزة، وطلب له الذي يرجو أن
يفيق من مرضه فيتوفر لورثته) (1). فإذا حابى في معاملته فقد صار ما جاء (2)
به كهبة لمن عامله، وهبته مقصورة على ثلث ماله وصى بها أن تنفذ بعد موته،
أو مثلها (3) في مرضه.
وإنما بيعه بالقيمة، فإن بتّله في مرضه نفِّذ لأجل ما قلناه، ولكونه طالبًا
نماء ماله لنفسه أو لورثته. وإن وصى به أن يفعل بعد موته، فإن قال: بيعوا
داري من فلان، فإن جميعها يجعل في الثلث، لأنه إذا مات ملك الورثة عين
ماله، فليس له أن يلزمهم بيع عين ما ملكوه بغير اختيارهم. لكن إذا حمل
جميعَه الثلثُ مضى ذلك عليهم، لكونهم لا حقّ لهم في ثلث ماله. وإذا تعذر
هذا فإن الأشياخ اختلفوا في هذه المسألة المذكورة. في المدونة، هل ذلك من
الميت على معنى الوصية، أو على معنى التبتيل للإقالة في المرض؟ وقد أخبرناك
بحكم الوجهين. وأما الشيخ أبو الحسن القابسي رحمه الله، فإنه تأول مسألة
الكتاب على أنها وصية من الميت، ويتعلق بقوله في الكتاب: إذا حمل جميعَه
الثلث جاز ذلك وتمت وصيته. فسماها وصية واعتبر كون الثلث يحمل جميعها، وهذا
إنما يعتبر في الوصايا في المرض لا في التبتيل فيه، كما قدمناه.
وقال غيره من المتأخرين: بل المسألة محمولة على أنها إقالة بتّلها في مرضه.
وتعلق بقوله في الكتاب: ولو كانت الإقالة لا محاباة فيها لنفذت. وقد قدمنا
أن الوصية لا بد أن يعتبر كونها يحملها الثلث، كانت لا محاباة فيها أو فيها
محاباة.
وإنما لا يعتبر الثلث فيما لا محاباة فيه إذا قوّل (4) في المرض هذه
المعاملة.
وينفصل صاحب هذا المذهب عما يتعلق به للتأويل الأول أن تسميته إياه وصية
تجوّز في العبارة، لأنها موقوفة على الاعتبار بعد موت الميت فاستحقت لأجل
هذا تسميتها وصية. وهذا اعتبار سهل المرام، ولكن الوجه الآخر وهو اعتبار
__________
(1) كلام مضطرب غير واضح في النسختين.
(2) هكذا، ولعل الصواب: حابى.
(3) هكذا ولعل الصواب: بتّلها.
(4) هكذا في النسختين ولعل بتَّلَ.
(2/176)
كون جميعها يحمله الثلث وهو صعب المرام،
فافتقر فيه إلى عذر من طريقة أخرى. وذلك أنه تقرر فيما تقدم أن الإقالة على
بعض رأس المال لا تجوز للتهمة على بيع وسلف. وأن الإقالة على رد رأس المال
كله ودفع بعض السلم، وكله لا يجوز لكونه سلفًا جر منفعة. وكذلك (سنبين أن
لغير رأس المال يمنع من الإقالة في الطعام على الجملة. قالوا: فلو اعتبرها
هنا في هذه الإقالة المسألة في المرض القيمة من غير محاباة فأنفدت الإقالة
فيه) (1)، وأعطى ما يستحقه من رأس المال من ما يحمله من الثلث، لكان قد رجع
إليه رأس ماله، وأعطى زيادة عليه ما حمل الثلث من المحاباة التي حابى
المريض بها؛ وهذا سلف جر نفعًا، مع كونه قد تغير رأس المال، فوجب المنع
لكونه بيعا للطعام قبل قبضه. (فلا حمل أن أمضى هذه الإقالة على الأصل الذي
قدمناه يؤدي إلى فسادها ونقضها، والمريض قصد إمضائها ونفوذها وجب أن بعدت
عن الأصل إلى ما يجوز) (2). هذا اختلاف الأشياخ في مسألة الكتاب والمراد
بها. وأما اختلافهم في الاعتذار عما وقع بها من إجازة الإقالة فإن الشيخ
أبا بكر بن اللباد قال: إن المسألة إنما تصح على أن المريض مات بفور
الإقالة فصار التأخير ضرورة. وقال أحمد بن نصر: إن قبض رأس المال بفور
الإقالة صح ما قال ابن القاسم، وإن تأخر قبضه لرأس المال إلى أن مات صح ما
قاله سحنون من فور (3) هذه الإقالة التي ذكرها في الكتاب فاسدة لما وقع
فيها من تأخير. وطعن الشيخ أبو القاسم ابن الكاتب في هذه الطريقة من
الاعتذار، بأن سحنونًا يرى فساد هذه الإقالة، سواء قبض رأس المال أو لم
يقبض، وبأن ظاهر المدونة ابن القاسم أجازها وإن لم يقبض رأس المال، لقوله
في الكتاب: إن شاء الورثة أجازوا الإقالة وأخذوا رأس المال. فدل هذا القول
على أن المريض لم يكن أخذه. واعتذر الشيخ أبو محمَّد بن أبي زيد بأن هذا
التأخير لم يُقصد، وإنما
__________
(1) هكذا.
(2) هكذا.
(3) هكذا، ولعل الصواب: كون.
(2/177)
أوجبته الأحكام، لا يتهمان على القصد إليه.
وهذا النوع من الاعتذار كنا سلكناه نحن في المسألة المتقدمة، وهي إقالة أحد
الشريكين في سلَم من جميع نصيبه، وذكرنا تعقب سحنون أيضًا لهذا، لأجل أن
الحكم يقتضي مشاركة شريكه فيما قبض من الإقالة، وأشرنا هناك إلى أن ما
توجبه الأحكام اضطرب المذهب فيه: هل هو كالمشترط لأنهما لما عملا ما توجبه
الأحكام فكأنهما عليه دخلا، وما دخلا عليه كأنّهما اشترطاه؟ أو لا يقدر
الحكم ها هنا كالشرط لكونهما مغلوبين عليه كما قيل في الإقالة إذا هرب
أحدهما أنها لا تفسد لكون الآخر مغلوبًا على التأخير؟ ولهذا بسط هذا الوجه
بعض أشياخي فقال: إن كانا جاهلين بالحكم معتقدين أن التأخير يصح والفعل (1)
للورثة فيه، فإن الإقالة ماضية لأنهما عقداها على وجه جائز، ثم غلبا على
التأخير. وكذلك لو كانا عالمين بالحكم، ولكنهما قصدا الافتيات على الورثة
وغَلَبَتَهم على حقهم في ذلك، فإن الإقالة تمضي أحوالهما (2) لم يتعاقدا
على تأخير.
ولو كانت الوصية لورثته لأن يقبلوه بعد موته، لصحت. ولو وقعت منه إيجابًا
على نفسه في المرض لا رجوع له عنه وهو يعلم أنها تؤخر فإنها تفسد.
ولو كان وقع ذلك منه في المرض على أنه بالخيار ما بينه وبين الموت لكان ذلك
جاريًا على القولين في عقد النكاح على خيار أحدهما أو عقد الصرف على خيار
أيضًا، لكن لم يختلف في إمضاء بيع المريض وإن كان بمحاباة، مع كون المحاباة
إنما تعتبر في ثلثه بعد موته ولا يدري متى يموت، ولا ما يحصل من المحاباة،
فصار الثمن مجهولًا لأجَلِه ومقداره. ولكنهم لم يختلفوا في هذه المسألة
لكون هذه جهالة أوجبت الأخذ. وهذا يؤكد صحة العذر الذي أشرنا إليه في مسألة
الكتاب.
__________
(1) هكذا، ولعل الصواب: والفضل.
(2) هكذا.
(2/178)
هذا حكم الإقالة إذا وقعت من المسلم في
الطعام وهو مريض.
ولو وقعت من المسلم إليه وهو مريض، فأقال من هذا الطعام الذي رأس الم الذيه
مائة درهم، وهو يساوي خمسين درهما، لكان أيضًا من حق الورثة فيه ما ذكرناه
من حقهم في الإقالة الواقعة ممن له السلم لأجل المحاباة؛ لكن الأشهر من قول
أصحابنا ها هنا أن يدفع الطعام كلّه إلى من له السلم، وينظر فيما فضل عن ما
اشترى به هذا الطعام من الدراهم التي وقعت الإقالة عليها، فيعطى الثلث من
هذه الدراهم الفاضلة بمنزلة السلم، وكان ما وصفه له بدراهم يعطاها بعد
قضاء؛ ولا يتصور ها هنا بيع الطعام قبل قبضه لأن جميعه وصل إلى من له السلم
ولم يبع منه شيئًا. وقال الشيخ أبو سعيد بن أخي هشام: بل يشترى له بالثلث
الباقي من الدراهم طعامًا، ولا يرد إليه درهمًا، لئلا يكون رجع إليه بعض
رأس ماله وهي الدراهم التي وصى له بها، فيكون هذا المنع لما تضمنه من سلف
جر منفعة، على حسب، ما يكون (1) بيانه فيما تقدم.
والجواب عن السؤال الرابع أن يقال:
ذكر في المدونة أنه إذا أسلم إليه ثوبًا في طعام فأقاله على الثوب، وضاع
الثوب قبل أن يعود إلى ربه، فإن الإقالة تبطل. وهذا لأنه لم يقدر أن الضمان
انتقل إلى دافع الثوب أوّلًا. وقد ينازع بعض الأشياخ في تأويل هذه المسألة،
فمنهم من أقرها على حكم الضمان وغيرها من عقود البياعات، ورأى أن الذي ذكره
في الكتاب محمول على أن الثوب لم يعد (2) بينته بضياعه، فإنه لا ينقل
الضمان عمّن هو في يده، على ما سيرد بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى. وقد
تقدمت الإشارة إليه فيما سلف.
ومنهم من رأى أن هذا الاختلاف كما اختلف فيمن احتبس بالثمن، لأن تأخير
التقابض فيما احتبس بالثمن لا يفسد العقد والمعاملة التي تعاقدا عليه،
__________
(1) هكذا، ولعل الصواب: تَمَّ.
(2) كلمة غير واضحة ولعلها: لم يُقم.
(2/179)
والتأخير ها هنا لقبض الثوب يفسد الإقالة
ويبطلها، ويعود الثوب باقيًا على ملك من هو في يديه، فيكون ضمانه منه إذا
عاد باقيًا على ملكه، من غير اختلاف في هذا. وقدر من سلك هذه الطريقة أن
صحة الإقالة، لما كان التأخير فيها لا يجوز، موقوفة على التناجز والتقابض،
كمنع الذهب بالوزن، فإن صحة عقده موقوفة على صحة قبضه، بخلاف غيره من
العقود التي يحل فيها التأخير. فإذا كانت الإقالة موقوفة على (1) صحة عقدها
على التناجز فيها، فهلك الثوب قبل التناجز، صار بأنه (2) هلك قبل عقد هذه
المعاملة فيه التي هي الإقالة. وهكذا لو صرف دراهم بدنانير فوزن الصيرفي
الدنانير، وأخذ في وزن الدراهم فضاع الدينار، فإن العقد ها هنا صحة (3).
ولكن بعض الأشياخ قال: إن ضمان الدينار من الصيرفي. ورأى أنه لما وزنه صار
كالمقبوض، والمقبوض مضمون ولو كان العقد فاسدًا، فكيف به إذا كان صحيحًا.
وهذا يتعلق بالقول في انتقال الضمان بمجرد العقد، من غير اعتبار قدر
المناولة، أوْ لا يتعلق الضمان إلا بعد مضي زمن المناولة بعد العقد. وسنبسط
القول في هذه المسألة في كتاب الصرف إن شاء الله تعالى.
والجواب عن السؤال الخامس أن يقال:
أما الإقالة على عين رأس المال ولم يقع فيه يعتبر (4) على حال قد صح
جوازها. وأما إن ذهب عين رأس المال، وأقال على مثله، والسلم في طعام، فإنه
إن كان رأس المال عوضًا مما يقضى به في القيمة في الاستهلاك، فإنه لا تجوز
الإقالة على حال، لأنه إيقال (5) على قيمته، وقيمته جنس آخر خلاف عينه،
وهذا ليس بإقالة وإنما هو بيع مستأنف. وإن أقال على مثله، فالأغراض
__________
(1) هكذا، والأولى في.
(2) هكذا، ولعل الصواب: كأنه.
(3) هكذا.
(4) هكذا، ولعل الصواب: تغيير.
(5) هكذا، ولعل الصواب: إقالة.
(2/180)
تختلف فيه لا على قيمته ولا على مثله، لما
قدمناه من خروجها عن كونها إقالة إلى كونها مبايعة، وبيع الطعام قبل قبضه
لا يجوز.
وأما إن كان رأس المال مما يكال أو يوزن، وهو لا يراد لعينه، ولا يعرف إذا
غيب عليه، كالدنانير والدراهم، فإن الإقالة جائزة، لكون مثل الدنانير كأنه
هو عين الدنانير التي كانت رأس المال. وأما أن كان ليس بدنانير ولا دراهم،
كالحديد والرَّصاص والقطن والكتان، وغير ذلك من المكيلات والموزونات مما
ينخرط في سلك هذا، فإن المذهب على قولين: اختلف في جواز الإقالة على هذا
ابن القاسم وأشهب، فمنعه ابن القاسم وأجازه أشهب إذا كان المثل عنده
حاضرًا.
فمن أجاز رأى أن المثل يسد مسد المثل، كالدينار الذي يسد مسد دينار آخر من
سكتة. ومن منع رأى أن الأغراض ربما اختلفت في أعيانها، فوجب الخلاف فيها
بالعروض التي تمنع الإقالة على أمثالها (هذا حكم يعتبر المعين عوضها) (1).
والجواب عن السؤال السادس أن يقال:
أما (نفس) (2) رأس المال تقديرًا فإنه يكون على ضروب، أحدها: من أسلم ثوبين
في قفيزين طعام، فأقاله من أحد الثوبين، وهما متكافئان، على إسقاط أحد
القفيزين عنه، فإن ابن القاسم أجاز ذلك. وأشار سحنون إلى منعه والمناقضة
فيه بقوله في المدونة: إذا اشترى ثوبين متكافئين فإنه لا يبيع أحدهما
مرابحة بنصف رأس المال حتى يبين، لِجواز أن يكون غلط في التقويم، واعتقد
أنهما متكافئان وليسا بذلك، إذا أقال من أحدهما فإنه قد يعلمان تقديره، فإن
الذي ينوبه نصف الطعام، وإنما ينوبه في الحقيقة أقل أو أكثر، فيمنع من
الإحالة لئلا يكون قد أحال على أكثر من رأس المال أو أقل، منع إذا كانت
محسوسة، فكذلك إذا كانت مقدرة. وقد وقع في كتاب محمَّد، فيمن أسلم في أصناف
من الثمر، فإنه يجوز أن يقيل من أحدها لما ينوبه. وكذلك وقع فيمن أسلم في
قمح
__________
(1) هكذا في النسختين.
(2) كلمة ساقطة في ش.
(2/181)
أو شعير وعدس، فإنه يجوز له أن يقيل من أحد
هذه الأصناف. وهذا أيضًا يجب أن يمنع على طريقة سحنون، لأنه قد يغلط في
التقويم الذي يتوصل به إلى معرفة ما ينوب هذا الصنف المقال فيه. وقد اعتذر
الشيخ أبو إسحاق عن مسألة الإقالة من أحد الثوبين، فإنه لا يقدر أنه إنما
ينوب القفيز المقال منه، ونصفه الآخر معاوضة عن نصف الثوب الذي لم يقل منه،
وهو الذي يقابل هذا القفيز المقال منه، فإن هذا إنما يكون التقدير فيه أن
الثوب المقال منه يقابله نصف كل واحد من القفيزين، فإذا أقاله عن قفيز واحد
فكأنه إنما أقاله عن نصف القفيزين، وجميعهما، في النظر، في الإقالة، فلا
يمنع هذا، كما إذا كان له عليه نصف دينار، أو (1) باعه بيعً ابن صف دينار
آخر، أنه يقضى عليه بدينار كامل، لكون الحكم يوجب جميع النصفين.
وهذا الذي قاله فيه نظر لأنه ليس له أن يقول بأن التقدير ما ذكره أولى بأن
يقول الآخر العكس ما بدأنا به أولى من أن الثوب المقال منه نصفه يقابل
القفيز المقال منه ونصفه عوض عن نصف الثوب الآخر. وهكذا قدر الشيخ أبو
القاسم ابن القاسم (2) وذلك أنه عارض مسألة المدونة إذا أسلم إليه ثيابًا
في قمح وأقاله على نصف الثياب أن ذلك جائز. فقال: إن أقاله على أن تكون
الثياب شركة بينهما نصفين، فالشركة في الثياب عيب، والعيب في الثوب يمنع من
الإقالة عليه إذا كان رأس المال الطعام، وإن قدر أنهما يقتسمان الثياب
نصفين فيتميز نصيب كل واحد من نصيب صاحبه، فإن الثياب المقسومة لا يقدر أن
ما استبد به كل واحد منهما هو الذي يقابل به نصف الطعام المقال منه، بل
إنما يقابله نصف الثياب التي استبد بها ونصفها الآخر أخذها عوضًا عن نصف
الثياب التي صارت لصاحبه، وهو النصف الذي يقابل ما أقال فيه من الطعام.
وأشار إلى أنه إذا جاز أن يقيل (على مثل هذا النصف لزم أن يقيل) (3) على
ثوب مثل الثوب الذي هو رأس المال.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: و.
(2) هكذا ولعل الصواب ابن الكاتب.
(3) ساقط من الوطنية.
(2/182)
وكذلك عارض بعض الأشياخ من أسلم ثوبًا
واحدًا في طعام فأقال من نصف، بأن قال هذه شركة، وهي تعيب الثوب، والعيب ها
هنا يمنع من الإقالة.
والذي عندي أنّا إذا قلنا: إن القسمة لتمييز حق؛ لم يتوجه ما عارض به الشيخ
أبو القاسم ابن الكاتب، لأنه (إنما) (1) وقعت القسمة (أن) (1) الثياب التي
استبدّ بها كل واحد هي التي يقابل ما وقعت الإقالة عليه، (وما لم يقل فيه)
(2) وإن قلنا: إنها بيع من البيوع يوجه ما عارض به، ولا يلزم ما ألزمه في
جواز الإقالة على مثل الثوب لكون الإقالة على مثل الثوب لا يخاف (3) أنها
ليست إقالة على عين (4) رأس المال.
وأمّا ما وقع في القسمة فإن فيه من الخلاف ما ذكرناه في القسمة هل هي تمييز
حق أو مبايعة، وإنما يتوجه المعاوضة على أحد القولين. وأما المعاوضة فإن
الشركة في الثوب عيب، فإنه قد يقال في العذر عن هذا: إن هذا العيب لم يستبن
الإقالة (5) بل إنما حدث بحدوث الإقالة، وقد تعلق بالإقالة حل البيع وحدوث
العيب.
وقد اضطرب المذهب في مثل هذا، إذا كان الأمر يتعلق به حكمان متدافعان، ما
الذي يقدر السابق منهما، كقوله: إن لقيك فأنت حر. فإن قدرنا ها هنا أن
الإقالة حل البيع، كالسابق لحدوث عيب الشركة، لم يكن في الإقالة قدح؛ لأنه
إنما يمنع إذا حدث العيب قبلها، وها هنا قد تقرر أنه كالحادث بعدها، فلا
يقدح في صحتها.
__________
(1) هكذا، ولعل الصواب: إذا ..... فإن.
(2) هكذا، والصواب حذفها.
(3) في (ش): لا يخالف.
(4) في (ش): غير.
(5) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: بالإقالة.
(2/183)
ومن هذا الأسلوب الإقالة من الطعام على رأس
المال وقد يُعتبر عيبه كعيب أثر في دابة، كغرر في العقد أو خرق في الثوب،
فإن هذا يمنع الإقالة.
وإن كان ما يتغير (1) في القدر المبيع منه سالمًا فإنه في حكم المتغير
لانتقاص ثمنه لأجل العيب. وأما التغير الذي لا يرجع إلى عين رأس المال،
فإنه إن كان تغيّرًا في سوق السلعة التي هي رأس المال، فإنه لا يمنع
الإقالة تغير السوق بنقص أو زيادة. وأما إن كان تغيرًا مختصًا برأس المال
وإن لم يؤثر في عينه، كعبد أسلم في طعام فأذن له من عليه السلّم في
التجارة، فاستدان، ثم تقايلا وعلى العبد دين، فإن ذلك يمنع من الإقالة، وإن
كان هذا التغيّر لا تأثير له في البدن لكنه يختص به دون ما سواه من العبيد،
بخلاف تغير السوق الذي يعم جميع ذلك النوع. لكن لو كان الدين تافهًا يسيرًا
لا مقدار له، كالدرهم ونحوه، فإنه كالعدم لا يمنع الإقالة. وإن كان خارجًا
عن هذا المقدار منع الإقالة وإن لم يوسف بأنه كبير. بخلاف من اشترى عبدًا،
فأذن له في التجارة فاستدان العبد ربها، فإن هذا الدين وإن نقص ثمنَ العبد
لا يمنع المشتريَ الرد بالعيب، ولا يوجب عليه قيمة هذا النقص، لأن العيوب
اليسيرة الحادثة عند المشتري غير مطلوب بعوضها إذا رد بالعيب، لكون العيب
من جهة البائع، فكأنه كالعافي له عن هذا المقدار اليسير الحادث عنده. لكن
هذا الدين الذي استدانه العبد لو سقط عنه قبل الإقالة لم يمنع الإقالة لكون
رأس المال عاد على ما كان عليه فصار ما حدث في خلال عقد السلم والإقالة منه
(2) بالعلم.
ولو كان حدث بهذا العبد عيب أثر في بدنه ثم ذهب، فإن المتأخرين مختلفون في
هذا: هل تجوز الإقالة؛ لأنه يقدر لما ذهب كأنه لم يحدث، أو يمنع من ذلك
لأنه قد تأثر جسمه تأثير المنع من الإقالة حينئذ فلا يزول هذا المنع بزوال
المانع. بخلاف لو كان هذا العيب بياضًا في العين حدث بالعبد ثم
__________
(1) في (ش): يستوي.
(2) هكذالأولعل الصواب: كالعدم.
(2/184)
ذهب، فإنه لا تمنع الإقالة لأن البياض (قد
يعذر كالسائر بقيت العين على ما كانت عليه أوّلًا ولم يتخلل ذلك بعد حدث في
ذاتها) (1).
والذي سلمه صاحب هذا المذهب من كون سقوط الدين وذهاب بياض العين لا يمنع
الإقالة لا يتحقق بينه وبين العيوب المؤثرة في البدن فرق واضح.
وقد ذكر في الرواية أن العبد إذا أسلم، وفي عينه بياض، فذهب عند المشتري،
أن ذهابه كالنّماء المانع من الإقالة.
ولو كان العبد استدان دينًا بغير إذن سيده لكان سقوط هذا الدين لا يحيى
الإقالة، لكون هذا الافتيات على سيده عيبًا فيه ينقص ثمنه لأجله.
وكذلك لو أنفق ما استدان في فساد فإنه أيضًا لا يحيى الإقالة سقوط الدين
لأنه يخاف منه أن يقتضيه العوائد في الانفاق في الفساد.
ولو كان التغير في البدن مما تتلون فيه الحال كالسمن والهزال، فإنه يمنع من
الإقالة هذا التغير إذا كان رأس مال الطعام من الحيوان البهيم، لأن هذا
معتبر فيه. ولو كان في الحيوان الإنسان، فإن الظاهر من المذهب أنه لا يمنع
من الإقالة، لكون السمن والهزال لا يزيد عند التجار في الرقيق تأثيرًا مثل
ما يؤثر في الحيوان البهيمي.
قال يحيى بن عمر: هذا التفسير في الإماء يمنع أيضًا من الإقالة.
وذكر ابن حبيب أن الهزال البيّن والسمن البيّن فوت في المبيع المعيب من
الجواري بالهزال البيّن أو السمن.
وكذلك اختلف القول في المدونة في مضي الشهر والشهرين والثلاثة على الحيوان
الذي هو رأس مال الطعام: هل يمنع ذلك من الإقالة وإن لم يتغير الحيوان في
بدنه، فلم ير المنع منه في كتاب السلم، ولم ير المنع منه في كتاب البيوع
الفاسدة. وهذا كله العقد فيه ينحصر إلى الالتفات إلى مقتضى العوائد
__________
(1) هكذا في النسختين.
(2/185)
فيه، فما علم أنه يؤثر في الأثمان بزيادة
أو نقصان منع منه، وما لم يؤثر لا يمنع منه، ومضي هذا المقدار من الأشهر لا
يحسن القول بأنه يمنع من الإقالة إلا أن يقدر أنه لا يمكن في العادة أن
يمضي هذا المقدار من الزمن ولا يتغير البدن، فكأنه لم يسلم قول السائل: إنه
لم يتغير في هذا الزمن.
وأما التغير في الجواري بالولادة فإنه يمنع من الإقالة إذا حدث الولد عند
من عليه السلم؛ لأنه إن أقال ورد الولد صار زيادة على رأس المال، وإن أمسكه
كان نقصًا من رأس المال، والنقص والزيادة من رأس المال يمنعان من الإقالة،
مع كونه إذا أمسك الولد وقع في التفرقة بينه وبين أمه، ولكن هذا المنع من
جهة أخرى غير ما نحن فيه. ولو مات الولد قبل الإقالة، وقد حدث عند المشتري
من تزويج أو من زنا، فإن ذلك يمنع من الإقالة، لكون ما أحدث من عليه السلم
في الجارية من تزويج، أو ما أحدثت من زنا يعيبها عنها (1) لا يرجع إلى
الولد الذي مات، فوجب المنع. لكن لو كان حين عقد السلم ذاتُ زوج فولدت عند
الذي عليه السلم، ومات ولدها، وحالت من نفسها، فإن هذا لا يمنع من الإقالة
لكون التزويج كان عند من باعها، ثم رجعت إليه بالإقالة، وكون الولد قد ذهب
فلا يقال بنفيه أوْ ردّه. ولو كانت حاملًا حين عقد السلم فولدت ومات الولد،
لنظر في ذلك من جهة أخرى: هل العمل عيب، فيكون العمل قد ذهب بالولادة الولد
فيه، فيجري الأمر على ما قدمناه من ذهاب العيب فهل الإقالة أَوْلا يكون
عيبًا؟ وسيرد بيان هذا في أحكام العيوب إن شاء الله تعالى لا رب غيره.
ومما ينخرط في هذا الأسلوب أن من قبض بعض الطعام المسلم فيه فإنه لا يجوز
أن يقيل مما لم يقبض، لِما يتضمن ذلك من بيع، وهو المقبوض، وسلف، وهو ما
قابل من الثمن الطعام المقال فيه. ولو أقاله مما قبض وما لم يقبض، والمقبوض
له قدر وبال، فإن ذلك يجوز لكون المقبوض أكثر ثمنًا مما لم يقبض، فيقدر رأس
المال تقديرًا ولو كان لا قدر له كعشر أرادب من المائة.
__________
(1) هكذا ولعلها عيبًا.
(2/186)
فإن مالكًا استخفه وابن المنكدر كرهه.
والجواب عن السؤال السابع:
أما إذا كان رأس الم الذي الطعام دارًا، فسكنت، وأكريت أو فرغ عقد الكراء،
أو غنمًا فحلبت، أو عبدًا فاستخدم. فإن هذا النوع من الانتفاع لا يمنع من
الإقالة، إذا كانت الأعيان المقيلة باقية على حالها لم تتغير. وأما إن كان
الاغتلال في الغنم من ناحية صوفها، فإنه إن اشتراها وعليها صوف فجزّها،
وأقال منها على ردها دون صوفها، فإن ذلك لا يجوز، لكونه إقالة على أقل من
رأس المال، كمن أسلم سلعتين وطعامًا، فإنه لا يجوز له أن يسلم بله (1) على
أحدهما. وإن أمسك الصوف، وأقال عليها مجردة منه (2) فما ينوبها من الطعام،
فإن هذا يجري على ما قدمناه من الإقالة على ما ينوب المقال بالتقويم. وإن
أقال على ردها وردّ صوفها معها فإن ذلك جائز. وينبغي عندي أن يعتبر (هل
يتخذ إجارة فيكون كالإقالة حتى استوحده) (3) فإن هذا أمر طويل، والغالب
أنها تتغير فيه وتغيرها يمنع من الإقالة.
وأما إن كان رأس المال شجرًا لا ثمر فيها حين عقد السلم، فأثمر وجدّ
الثمرة، فإن الإقالة لا تمنع، لكون رأس المال لم يتغير عنه. وأما إن لم يجد
الثمرة فالإقالة تمنع لأجل أن الثمرة وقت الإقالة، إن كانت لم تؤبّر ورد
الشجرة بعد (4) الثمرة التي لم تؤبر، فقد رد رأس المال، وهو الشجرة
المجدودة، وزاد عليها ما بها من ثمر لم يؤبر، وإن استثناه واشترط بقاءه إلى
زمن الجداد، فإنه استثناء لا يجوز، لأنا نمنع من باع شجرًا فيها ثمر لم
يؤبر من استثنائه على ما سيرد بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى. وإن كانت
قد أبرت، وأقال على رد الشجر بثمرها، فكذلك أيضًا هو زيادة على رأس المال
يمنع من جواز الإقالة.
__________
(1) هكذا في جميع النسخ.
(2) هكذا، ولعل الصواب: بما.
(3) كلام غير واضح في النسختين.
(4) هكذا ولعل الصواب مع.
(2/187)
وإن استثناها من عليه السلم واشترط بقاءها
إلى الجداد، فإن ذلك أيضًا يمنع، لكون رأس المال الذي هو الشجر لم يسلّمه
إلى من أسلم إليه، بل يتأخر قبضه له إلى جداد الثمرة، وتأخير رأس المال
والإقالة ممنوع.
وإن وقعت الإقالة مطلقة فها هنا تنازع الأشياخ: فبعض أشياخي يرى جواز
الإقالة لكون سلم الشجر المقيل عليها يطالب بجدّ ما بها من ثمر حتى يتمكن
من تسليم رأس المال إلى ربه من غير تأخير، لكون التأخير يفسد الإقالة،
والتعاقد إنما يحمل على ما يجوز في الشرع، وأيضًا فإن لفظ الإقالة يشعر برد
رأس المال على ما كان عليه، ولا يمكن رده على ما كان عليه إلا بجد الثمرة
في الحال.
ومن تقدم هؤلاء من الأشياخ يرى فساد الإقالة لكون بائع شجر فيها ثمر مؤبر
من حقه أن يبقي الثمر إلى الجداد، وإن لم يشترط ذلك، وإذا كان من حقه هذا،
في البيع وإن لم يشترطه، كان ذلك من حقه في الإقالة، وإذا كان ذلك من حقه
في الإقالة فقد دخل على إقالة فيها تأخير رد رأس المال.
وينفصل من حكيت عنه من أشياخي عن جواز هذا بأن الأصل فيه أنه لا يمكن بائع
الشجر من بقاء الثمر المؤبر فيه، لأنه إذا أزال الشجر من ملكه لم يملك أن
يحمل له ثمرته، كمن باع مخزنًا له فيه قمح، فإنه ليس من حقه أن يتمادى على
الخزن فيه، لكن جرت العادة في التبايع بإبقاء الثمرة إلى الجداد وإن لم
يشترط ذلك أيضًا، ولم يجدْ هذه العادة في الإقالة فأبقيت على الأصل الذي
قررناه، مع كون لفظة الإقالة تقتضي رد الشجرة فارغة كما أخذها.
هذا حكم الشجر إذا أسلمت ولا ثمر فيها فأثمرت عند قابضها ثم تقايلا فيها.
وأمّا إن كانت حين السلم، فيها ثمر، فإنه لا يجوز إسلامها في طعام، كان
ثمرها مؤبرًا أو غير مؤبر. وإن كان على حال لا يصلح إلا لعلف، فإنه ينتقل
إلى ما يكون قوتًا للإنسان وطعاما له، فيكون حينئذ قد أسلف طعامًا في طعام،
ولم يقدر ما بالشجر من ثمر ملغىً لا حصة له من الثمر. وذهب ابن
(2/188)
مسلمة إلى أنه إنما يقدر أنه مُلغى ما لم
تَزْهُ الثمرة لكونه قبل الزهُوّ لا يحل بيعه، وإذا لم يحل بيعه على
التبقية، (وهو إذا بيع على الجداد لم يكن له ثمر له مقدار يوجب أن يلقى
(1)، فإذا أزهى لم يكن بيعًا لجواز بيعه حينئذ على الإطلاق فيكون ثمنه له
مقدار). وذهب سحنون إلى أنه ملغى ولو أزهى، كحلية السيف، ومال العبد، فإن
حلية السيف بفضة هي بيع للنصل لا يحرم ذلك بذهب إلى أجل، لكون الذهب الذي
هو ثمن مؤجل أنه (2) ربا عوضًا عن النصل، دون ما فيه من فضة. وكذلك مال
العبد إذا كان دنانير، واشترى العبد، واستثنى ماله، بدنانير مؤجلة، فإن ذلك
يجوز لكون مال العبد لا حصة له من الثمن الذي اشتري به العبد، لا سيما على
مذهبنا أن العبد مالك ماله لم يعاوَض على المال، وإنما عاوض عن عبد ذي مال.
فإن قلنا بمذهب ابن مسلمة وأسلم الشجر وفيها ثمر مؤبر، فانتقل إلى الزهو،
أو قلنا بمذهب سحنون فأسلم شجرًا فيها ثمر قد أزهى فانتقل إلى اليبس، فإن
الإقالة لا تجوز، لأنه إن أبقى الثمر لنفسه وأقال على الشجر مجردة، فإنه قد
استمسك ببعض رأس المال الذي أسلم إليه، وهي الثمرة التي كانت مأبورة أو
مزهية، والاستمساك ببعض رأس المال يمنع من الإقالة. وإن أقال على الشجر
وسلم ما فيها من ثمر، فقد سلم الثمر وهي على حالة أفضل مما أخذها عليه،
ونمت في يديه، وصارت الإقالة على أكثر من رأس المال، وقد تقدم أن الزيادة
على رأس المال أو النقص منه يمنع من الإقالة. وإن وقعت الإقالة على الشجر
بما ينوبها من طعام السلم، فإنا قدمنا الاضطراب في الإقالة في الطعام على
بعض رأس المال، لما ينوبه في التقويم.
فإن قلنا يجوز ذلك فإنه يعرض ها هنا معنى. آخر يمنع الإقالة، وهو أن الثمرة
إذا أمسكها لما ينوبها من الطعام الذي أسلم إليه فيه أتُّهِما على أن يكونا
تعاقدا على ذلك، والتعاقد على بيع ثمرة مؤبرة بشرط التبقية إلى الجداد
بطعام مؤجل يمنع، لكونه بيعًا للثمر قبل زهوه، وعلى بيع سحنون يمنع لكونها
إذا أزهت كانت
__________
(1) هكذا في جميع النسخ. ولعل الصواب يلغى.
(2) كلمة غير واضحة في جميع النسخ.
(2/189)
طعامًا من غير خلاف، فيتّهمان على أن يكونا
تعاقدا على إسلام طعام في طعام إلى أجل وهذا ممنوع. ولما قدرنا امتناع
الإقالة لتغير رأس المال وذكرناها. هذا عن أصل سحنون (علة الامتناع لعلة
أخرى غير تغير رأس المال) (1) لكون إسلام طعام في طعام إلى أجل يتصور ها
هنا من جهة التهمة وحماية الذريعة، فكذلك أيضًا لو اشترى طعامًا غائبًا ثم
أقال منه فإنه يمنع لكون ثمن الطعام عليه دينًا، فدفع عنه طعامًا غائبًا،
ودفع سلعة غائبة عن دين في الذمة لا يجوز، لأنه يقدر فيه فسخ دين في دين،
على ما وقع في المذهب من الاضطراب.
وهذا الأصل للإشكال الذي عرض فيه وذلك أنه لا إشك الذي أنه إذا فسخ دينًا
في الذمة في دين آخر يتأخر قبضه، فإن ذلك ممنوع، وإن أخذ عنه سلعة بعينها
قبضها في الحال فإن ذلك يجوز، إذا لم يمنع مانع، وقد قدمنا الموانع في
المعاوضة عن الديون. وإن أخذ سلعة بعينها غائبة فإنها تشبه فسخ الدين في
الدين، لما في قبضها من تأخير، وشبه السلعة المقبوضة في الحال لما فيها من
تعيين الخلاف، لكنها تخالف السلعة المقبوضة بالتأخير، وتخالف فسخ الدين في
الدين لما في قبضها من تأخير، وتخالف فسخ الدين في الدين بالتعيين. فوقع
الاضطراب فيهالأولأجل هذا منع في المشهور من المذهب الإقالة من سلعة غائبة.
وإن كانت عرضًا لا طعامًا لم يتصور فيها من تقدير فسخ دين في دين، وكأنه
دفع العرض الغائب الذي اشتراه عما وجب عليه من ثمنه، وإن كان أشهب أجاز
الإقالة من العروض الغائبة، ووافقه يبيح، وقال بأن الذمتين ها هنا تبرأ (2)
بهذه الإقالة من هذه المعاملة ولا ينعقد، بخلاف فسخ دين في دين الذي لم
تبرأ منه الذمة بل انعقد الدين فيها. ورأى بعض أشياخي أن هذا التعليل يقتضي
جواز الإقالة في الطعام الغائب، لكون الإقالة فيه تحل به المعاملة، وتبرأ
به الذمم، فكأن الدين الذي هو ثمن الطعام الغائب لم يقدر حصوله في الذمة
لكون المعاملة عليه قوإنحلت، لا سيما على القول: إن الإقالة حلّ للبيع لا
ابتداء بيع.
__________
(1) هكذا في جميع النسخ.
(2) هكذا في كل النسخ، ولعل الصواب: تبرآن.
(2/190)
ومما ينخرط في سلك الإقالة، وقد تغير رأس
المال: من أسلم في طعام فقبض بعضه لما حلّ أجله ثم أقال فيما بقي، فإن ذلك
لا يجوز، لأنه يقدر أن المقبوض انعقد به (البيع) والمقال فيه الذي لم يقبض
قد ردّ رأس ماله فقدر سلفًا، فصارت هذه الإقالة كبيع وسلف. ولو أقال من
الجميع، ما قبض وما لم يقبض، وكان المقبوض كثيرًا، فإنه يمنع؛ لأنه لما قبض
صارت الإقالة مانعة لما اكتاله وقبضه، وانتقل ضمانه إليه، ولكنه لم يفعل
هذه المبايعة إلا بشرط أن يقال في المال، والإقالة بشرط بيع سلعة أخرى
تمنع. بخلاف لو أقاله من جميع السلم، ولم يقبض منه شيئًا، فإنّ ذلك جائز،
لكونه لا يتصور فيه ما قررناه من تغير رأس الم الذي الإقالة. لكن لو كان
المقبوض يسيرًا كعشرة أرادب من مائة إردبّ، فإن مالكًا استخفه ليسارة
المقبوض، وبُعد التهمة فيه لنزارته، وكرهه ابن القاسم لما يتصور فيه من
إقالة بشرط سابق والله المستعان.
والجواب عن السؤال الثامن أن يقال:
إذا أسلم رجلان إلى رجل فولّى أحدهما نصيبه إلى رجل، فورثه عن ذلك الرجل
جماعة؛ أو ولاه لِجماعة، فإن كل واحد من هذه الجماعة يجوز له أن يقيل من
جميع نصيبه الذي صار إليه بالتولية وبالميراث، ولا يجوز له أن يقيل من
بعضه. وقدر في هذه الرواية أن أحد الورثة إذا ورث نصيبًا من ذلك السلم فإنه
يحل في نفسه محل من كان له أصل السلم. وقد قدمنا أن من كان له أصل السلم
يجوز له أن يقيل من جميع السلم لا من بعضه، وكذلك الوارث يحل محل الموروث
منه فتباح له الإقالة من جميع نصيبه لا من بعضه. وقد عرضنا المنع من إقالته
لبعض نصيبه بأن من كان له السلم في الأصل وتولى عقده، إنما منع أن يقيل من
بعض السلم حماية للذريعة لئلا يكون أظهر عقدًا صحيحًا وأبطن أنه يسلف من
رأس المال (أقال فيه بشرط منه المسلم إليه المبيع بقي الباقي الذي لم يقل
منه) (1). وهذه المواطأة إنما تتصور في عاقد السلم،
__________
(1) هكذا في جميع النسخ.
(2/191)
وأمّا من ورثه عنه فلا يتصور فيه أنه واطأ
المسلم إليه على بيع وسلف إذا (1) لم يكن له حين العقد حق في العقد ولا في
الملك. وهذه المعارضة صحيحة إذا اعتبرنا علة عاقد السلم من الإقالة من بعضه
لإمكان المواطأة على ما لا يحل بينه وبين المسلم إليه. وهذه المواطأة لا
تمكن في وارثه. لكن أصل المذهب لا يعتبر هذا، ألا ترى أن علة المنع من
اقتضاء طعام من ثمن طعام التهمة أن يكون المتعاملان أبطنا العقد على طعام
مؤخر وأظهرا أن العقد بدنانير، ثم حدث لهما رأي في أخذ طعام غير هذه. ولو
أحال بائع الطعام على ثمنه من له عليه دنانير مثل ثمنه فإن المحال يمنع ها
هنا من أنْ يأخذ إلا ما كان يجوز لمحيله أن يأخذه، وقد كان محيله ممنوعًا
من أن يأخذ من ثمن طعامه وكذلك يمنع من ينسب له إلى هذا الثمن أن يأخذ لها
ما يكون يد هذا المحال محل يد هذا المحيل، مع كون هذا المحال بالثمن لا
يتصور فيه المواطأة (المشتري الطعام) (2) على بيع طعام بطعام، إذ البيع
انعقد ولا حقّ له في هذا الثمن ولا في الطعام المبيع. ولم يعارضوا هذا لأجل
ما أشرنا إليه من كون من نُسب لشخص حل محله في المال الذي ينسب (له) (3)
إليه. وعارض بعض الأشياخ أيضًا إجازة إقالة الوارث من جميع نصيبه الذي ورث،
وقال: إن الميت الذي ورث عنه هذا الطعام كان ممنوعًا من أن يقيل من بعض
الطعام، ونصيب أحد الورثة هو بعض الطعام الموروث منع من الإقالة في جميع
نصيبه، كما كان يمنع من ورث هذا عنه من (الرواة) (4) من بعض هذا الطعام.
وهذا أيضًا يقال فيه: إن من عقد السلم وأقال من بعضه كان (5) أحسن الإقالة
لما سواها، أقال فيه فتطرقت التهمة إليه لما قدر على الإقالة في الكل
__________
(1) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: إذ.
(2) هكذا في جميع النسخ.
(3) هكذا في جميع النسخ.
(4) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: الإقالة.
(5) بياض في جميع النسخ، بمقدار كلمة.
(2/192)
فأقال في البعض، وهذا الوارث لا يملك سوى
نصيبه على الإقالة، ولا قدرة له من نصيب من الشركة في الميراث، فلما لم
يقدر على الإقالة من أكثر من نصيبه أبيح له ذلك، بخلاف من ورث هذا النصيب
عنه.
والجواب عن السؤال التاسع أن يقال:
إذا أسلم رجل إلى رجلين في طعام أو غيره، جاز لِمن له السلم أن يقيل أحد
الرجلين المسلم إليهما من جميع ماله إليه، لأنه، وإن اشتمل العقد على
المسلم إليهما جميعًا، فكل واحد منهما كمن انفرد بالعقد دون صاحبه وإقالة
منفردة لمنفرد جائزة من كل السلم لا من بعضه. لكنه ذكر في المدونة أنه إذا
كان كل واحد من الرجلين المسلم إليهما حاملًا لِما على صاحبه أيهما شاء أخذ
بحقه فإنه يمنع من له السلم بإقالة أحدهما.
ولو أقاله من جميع ما عليه فاختلفت طرق الأشياخ في هذا، فأما أبو القاسم بن
الكاتب فإنه علق المنع من الإقالة لأجل الحمالة يكون المسلم مستحقًا لطلب
العمل ها هنا بالحمالة كما يستحق طلابها بحكم المعاملة والمبايعة، ويرى أن
اشتراطه في المدونة أيهما شاء أخذ بحقه (1) على أن المنع إنما يتعلق إذا
وقعت الإقالة وقد استحق طلب المقال بالحمالة لأجل أنه إذا استحق طلبه بما
عليه بحكم المبايعة وما عليه بحكم الحمالة صار مستحقًا لجميع السلم على رجل
واحد، وقد قررنا أن الإقالة من بعض السلم لا تجوز، فإذا استحق طلب الجميع
على هذا المقال منع من أن يقيله مما بايعه فيه، لأنه بعضٌ لما استحقه عليه
ولو سقط من الرواية هذه اللفظة وهي قوله: أيهما شاء أخذ بحقه؛ لم تمنع
الإقالة إذا كان من لم يقل حاضرًا موسرًا، حتى لا يتوجه على هذا المقال
الأداء عنه بالحمالة. وهذا أيضًا على أحد قولي مالك: لا يستحق طلب الحميل
إلا مع تعذر أخذه من الغريم؛ فتكون هذه اللفظة إنما قيد بها في المدونة
لهذه الإفادة التي أشرنا إليها. ولو قيل بإحدى الروايتين أن لمن
__________
(1) كلمة غير واضحة في جميع النسخ.
(2/193)
له البينة طلب الحميل وإن كان المتحمل عنه
حاضرًا موسرًا، فإنه لا يفتقر إلى التقييد بقوله: أيهما شاء أخذ بحقه؛ لكون
التخيير على هذه الرواية يجعل لمن له الطلب وإن لم يقل هذه اللفظة بشرط
التخيير في طلب من شاء منهما.
ومن الأشياخ من رأى أنه يمنع من هذه الإقالة ولو قلنا بإحدى الروايتين وهي
منعه من طلب الحميل مع قدرته على الأخذ من الغريم، لأنه من الممكن إفلاس
غريمه قبل أن يصل منه إلى حقه، فعود الطلب على الحميل (1) الحميل وفي هذا
الطلب غير موثوق بها بل (2). والمذهب ها هنا كالمتحقق من توجه الطلب ذكر عن
الشيخ أبي محمَّد بن أبي زيد والشيخ أبي الحسن القابسي رحمهما الله أنهما
منعا من هذه الإقالة، وإن لم يتصور فيها العلة التي من أجلها منع من أداء
السلم من الإقالة في بعض السلم، وهي التهمة على التعاقد في الباطن على
البيع والسلف، فرأى أن من له السلم يمنع من هذه الإقالة، وإن لي يغب أحد من
المسلم إليهما على رأس المال. ونحن نجيز الإقالة من بعض السلم إذا لم يغب
على بعض (3) رأس المال المسلم على ما قبض من الدنانير، لأنه إذا لم يغب على
رأس المال لم يتصور فيه السلف. وإذا لم يتصور السلم لم تمكن في الإقالة
التهمة على البيع والسلف. وسلكا مسلكًا آخر غير ما قدمناه عما سواهما من
الأشياخ، وقدرا أن هذا المقيل إن أقال على أن يبقى المقال حميلًا فقد تغير
رأس المال فصار في حكم من أقال على بعضه؛ لأن رأس المال ها هنا دنانير
وحمالة، وقد قدمنا أن الإقالة على بعض رأس المال لا تجوز.
وإن أقال على سقوط الحمالة فإنه بايع المقال على إسقاط وضمان عنه، والبيع
على ثبوت الضمان أو إسقاطه لا يجوز. فأمّا ما يعتل به من وقوع الإقالة على
الحمالة فهو اعتلال صحيح لأنه يتصور فيه الإقالة على بعض رأس المال. وأما
__________
(1) كلمة غير واضحة في جميع النسخ.
(2) كلمة غير واضحة في جميع النسخ.
(3) في (ش): قبض.
(2/194)
الإقالة من جملة ما احتمل (1) العقد عليه
من طعام وحمالة فإنه يبعد تصور المنع فيه؛ لأن هذا الضمان والحمالة من نفس
هذا المقال، أو جزء من أجزاء المعقود عليه، وإذا وقعت الإقالة في العقد على
ما هو عليه، وكانت الإقالة فيه كالبيع للطعام المعقود عليه، والطعام الذي
هو مقصود قد سقط، فقد سقطت توابعه بسقوطه، كما سقطت الحمالة أيضًا عن هذا
الذي لم يقل وبصاحبه المقال، لكون ما تحمل به عنه سقط بالإقالة، لا سيما
إذا قلنا: إن الإقالة حل للعقد من أصله، وإذا حلّ العقد من أصله فكأنه لم
يكن ولم يعقد. وهذا يلخص ما يشار إليه من كون الإقالة وقعت على إسقاط ضمان،
لأن المبايعة على إسقاط ضمان المال لا تعلق له بالعقد المقال فيه يتصور
الغرر فيه في المعاوضة على ثبوت ضمان أو إسقاطه. ولما ذكر في المدونة
الحمالة لكل واحد من الرجلين لصاحبه فلننبِهك على أن هذه الحمالة إنما جازت
لكون كل واحد إنما يتحمل عن صاحبه بمثل ما تحمل عنه في عقد واحد مشترك
بينهما، فلا غرر في هذه الحمالة، بخلاف أن يبيع كل واحد منهما سلعة، ينفرد
بملكها، على أن يتحمل كل واحد منهما عن صاحبه بدرك سلعته، لأن هذا يتصور
فيه الغرر والخطر، لجواز أن يستحق سلعة أحدهما فيخسر الآخر الذي تحمل عنه،
ولا يخسر هو، وكل واحد منهما قد يقدر في نفسه أن صاحبه يخسر دونه، فكأنهما
تخاطرا في هذه الحمالة، مع كون المتحمل له يزيد في الثمن لأجل الحمالة،
فيكون (رادًا لمعنى) (2) منهما في ثمن سلعته ليتحمل به عن (الفقر) (1) وهذه
المبايعة للضمان ولا .. يجوز. فإذا كانت السلعة مشتركة بينهما نصفين، فكل
واحد منهما يأخذ نصف الزيادة التي زيدت لأجل الضمان، فلا يكون في هذا ضمان
بجُعل ولا تخاطر بينهما.
والجواب عن السؤال العاشر أن يقال:
إذا أسلم ثوبين في فرسين: أن الإقالة على أعيان الثوبين من جميع السلم
__________
(1) هكذا، ولعل الصواب: اشتمل.
(2) هكذا في جميع النسخ.
(2/195)
أو من بعضه جائزة تغير الثوبان أو لم
يتغيرا، لأن يبيع الفرسين بالثوبين نقدًا أو إلى أجل جائز. فكذلك لو أقال
على أعيان الثوبين وزاد معهما سلعة أخرى فإن ذلك جائز، ما لم تكن هذه
الزيادة من جنس المسلم فيه، مثل أن يقيله على أعيان الثوبين، ويزيده مثل
أحد الفرسين، فإن ذلك لا يجوز، إلا أن يشترط أخذ هذه الزيادة عند محل أجل
السلم، فإنه إذا اشترط أخذها عند محل أجل السلم، صارت الإقالة إنما انعقدت
على أحد الفرسين بالثوبين، وقد قدمنا أن الإقالة على أعيانهما تجوز عن
السلم كله وعن بعضه، فإذا اشترط تعجيل هذه الزيادة صارت هذه الإقالة معاوضة
عن التعجيل، وكأنهما قصدا المعاملة بالثوبين على إسقاط أحد الفرسين وتعجيل
الفرس الآخر، والمعاوضة على التعجيل لا تجوز لما قررناه فيما تقدم من سلف
جر منفعة، ومن معنى حطَّ الطعامين (1) وأزيدك، وضع وتعجّل؛ والبيع والسلف
في مثل هذه المعاني. (وإن كانت الإقالة على مثلي الثوبين، والمقال عليهما
حاضران، جازت الإقالة ها هنا على مثلي الثوبين وزيادة معهما؛ فإن هذا أيضًا
يمنع لكون هذه الزيادة تشعر بأنهما قصدا إلى سلف ثوبين ليرى مثلهما وزيادة
معهما وتكون عوض الانتفاع بالسلف) (2) وإن كان ابن المواز قد ذكر في كتابه
أن كل ما خرج من يدك على وجه المتاجرة مما له مثل، فإنه لا يجوز لك أن تأخذ
عوضه إلا ما يجوز أن يسلمه فيه إلى أجل، لأن الثياب وما في معناها مما يقضى
فيه بالقيمة لاختلاف الأغراض فيها، وكونُ القضاء بالقيمة يشعر باختلاف
الأغراض فيها.
وسنبسط الكلام على هذا في كتاب بيوع الآجال إن شاء الله تعالى. وهكذا أيضًا
ذكر ابن المواز عن ابن القاسم أنه يجيز ما قدمنا نحن المنع منه وذلك أنه
أجاز الإقالة على أن يعجل أحد الفرسين قبل أجله، ولم يقدر هذا التعجيل
سلفًا ممن
__________
(1) هكذا في جميع النسخ، والصواب: الضمان.
(2) ما بين القوسين من قوله: وإن كانت الإقالة على مثلي ... إلى: عوض
الانتفاع بالسلف ... هكذا نصه في جميع النسخ.
(2/196)
عليه السلم يسلفه لمن له السلم ليقبض هذا
السلف من نفسه وإذا (1) حل الأجل فيكون هذا إذا قدر سلفًا ممنوعًا، لكونه
انعقد على بيع وسلف: فالبيع سقوط أحد الفرسين عمن عليه السلم، والسلف تعجيل
الفرس الثاني سلفًا لمن له السلم ليأخذه عند أجله مما يجب له عليه حينئذ.
وكأن ابن القاسم لم يقدر في هذه الإقالة هذا التقدير ورأى أن الفرس المعجل
هو حق عجله قبل وقته، ولا يكون سلفًا يقبضه من نفسه إذا حل الأجل، لأن هذا
لو كان كذلك لوجب، إذا حل الأجل وعلى من له السلم غرماء ولا وفاء عنده
بديونهم، أن يكلف من عليه السلف إخراج الفرس الباقي في ذمته إلى الأجل،
تحاص فيه غرماء؛ لأنه لم يعجل غرماء عليه، وإنما عجل سلفًا يأخذه مما عليه،
والذي عليه قد استحقه غرماء المتسلف وهو أحدهم فيجب الحصاص فيه.
وهذا الذي احتج له به قد يجاب عنه لأنه إنما قدرها هنا كالسلف من باب حماية
الذرائع، والاحتياط من النظر، وإلى ما لا يجوز في بياعات الآجال وليس بسلف
محقق يشترط كونه سلفًا، وإنما خيف أن يكونا قصدا لكونه سلفًا منه مع
تجاوزٍ، هذا لو قدر سلفًا لكان قد انحال هذا بما أسلف على ذمة نفسه هو حائز
قابض لما في ذمة نفسه حين الإقالة، وأخذ الغرماء إذا قبض دينه قبل أن يفلس
غريمه مضى قضاؤه. وكذلك لو أحيل عليه قبل قيام الغرماء فكذلك ها هنا.
وطريقة بعض أشياخي في هذا أن الاختلاف الواقع في هذا السؤال إنما ينبني على
اعتبار ما في الذمم مؤجلًا هل يقدر عند المعاملة والمعاوضة فيه كالحال أم
لا؟ وعلى هذا انبنى الخلاف فيمن له دنانير مؤجلة في ذمة رجل فأراد أن يأخذ
عنها دراهم مؤجلة، فإن المشهور من المذهب منع ذلك، لأنه يقدر فيه أنه عجل
هذه الدراهم ليأخذ صرفها من نفسه إذا حل الأجل، ووجب أن يقضى ما عليه من
الدنانير، والصرفُ المستأخر حرام، وهذا منه. (والقول له آخر السائد) (2)
عندنا أن ذلك يجوز، لأنه يقدر فيه أن الدراهم لما تعاملاها عوضًا
__________
(1) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب حذف الواو.
(2) هكذا في جميع النسخ.
(2/197)
عن الذهب قدّر أن الذهب كالحالّ ووقعت
المصارفة عنه وهو كالحال، وعندنا أنه يجوز أن يؤخذ عن الدنانير الحالة في
الذمة دراهم معجلة، وهذا منه. وربما دلنا هذا الخلاف في تقدير ما في الذمة
من المؤجل هل هو كالحال أم لا؟ على ما عرف من اضطراب أهل المذهب في العقد
إذا التزم متضمنًا بحكمين هما كالمتدافعين، ما الذي يقدّر سابقا منهما، مثل
قول السيد لعبده: إن بعتك فأنت حر، فباعه، فالمشهور أنه يعتق عليه، وقدر أن
انعقاد بيعه كالمتأخر عما يقتضيه بيعه من الحرية. ومن ذهب إلى أنه لا يعتق
قدّر أن انعقاد البيع سابق لما تضمنه البيع من حريته، فصار ملكًا للمشتري،
والبائع لا ينفذ عتقه فيما باعه إذا أحدث عتقه بعد البيع. وكذلك ها هنا هذه
المعاملة تقتضي براءة ذمة من عليه السلم أو عليه الدنانير المؤجلة، فهل
يقدر انبرام البيع كالمتأخر عن براءة من عليه الدين، فتكون المعاوضة كأنها
وقعت عن أمر قد حل، أو يقدر انعقاد البيع وانبرامه كالسابق على براءة ذمة
الغريم، لكون ما عليه كالحالّ فمنع. وهذا يبسط إذا تكلمنا على المسائل
المبنية عليه. وأمّا ما ذكره في هذه المسألة فإنا أوردناه لكون هذه المسألة
فيها ملاحظة لهذا الأصل. وقد ذكرنا عن ابن القاسم إجازته للإقالة بشرط
تعجيل أحد الفرسين، وذكرنا أن الزيادة على الثوبين إذا كانت مثل أحد
الفرسين معجلًا فإن ذلك لا يجوز. وعلى مقتضى ما حكمنا (1) عن ابن القاسم في
إجازته اشتراط تعجيل أحد الفرسين المسلم فيهما، فإنما اشترط تعجيل حق نفسه
فلا يكون ذلك سلفًا وأنه اشترط في الزيادة تعجيل بملك، أشعرت هذه العبارة
يكون سلفًا. وأما إذا وقعت له إقالة على أحد مثلي الثوبين أو مثلي أحدهما
خاصة أو مثل أحدهما وعين الثوب الآخر فإن الإقالة على هذه الأوجه الثلاثة
تجوز إذا انعقدت في جميع السلم. وأمّا إن كانت في بعض السلم فإنها تمنع لما
تضمنته من سلف جر منفعة. فإذا كانت الإقالة على مثل الثوبين عن كل السلم
جازت، وإن كانت عن بعضه صار ما بقي من السلم مما لم يقع فيه إقالة عوضًا
لانتفاعه بالثوبين اللذين رد مثلهما. وإذا كانت الإقالة في كل
__________
(1) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: حكينا.
(2/198)
السلم لم يتصور ها هنا سلف جر منفعة، إلا
أن يشترط زيادة على الثوبين فيمنع ذلك، سواء وقعت الإقالة على كل السلم أو
على بعضه، لأن هذه الزيادة إذا ردت مع مثلي الثوبين كانت عوض انتفاع بهما.
وكذلك إذا كانت الإقالة على مثل أحدهما وعين الآخر، وانعقدت على بعض السلم،
فإن الثوب المردود بعينه لم يقع عليه سلم، والثوب المردود مثله سلف، وعوض
المنفعة ما بقي في ذمة المسلم إليه. ولو كانت الإقالة على عين أحدهما جازت
عن كل السلم وعن بعضه، إذ ليس ها هنا رد مثلٍ يقدر سلفًا، ولا وجه آخر يمنع
من ذلك.
وكذلك في الكتاب إذا باع عبدًا بمائة دينار إلى سنة فأقاله بخمسين دينارًا:
إن ذلك جائز إذا أخرت الخمسون الأخرى إلى أجلها، وأما إن شرط تعجيلها فإنه
يعلم مما قدمناه أن هذا ممنوع، وينقض هذا العقد، ويُرد بهذا العبدُ إن فات
في يديه، أو قيمتُه وإن كانت أقل من الثمن، ولا يكون هذا كما قيل في بياعات
الآجال: إن السلعة إذا فأتت فلا ترد قيمتها إن كانت أقل من الثمن؛ لأن
بياعات الآجال البيعة الثانية إنما تعتبر لتعلقها بالأولى، وهذه المسألة لا
تعلق البيعة الأولى بالثانية فلا يمنع، والله المستعان.
والجواب عن السؤال الحادي عشر أن يقال:
ذكر في المدونة أن من أقال من طعام أو عروض أو ولّى أو باع من ذلك دينًا
على آخر، فإنه لا يجوز أن يؤخر ذلك ساعة، ولا يكون إلا يدًا بيد، لأنه إن
تأخر صار دينًا بدين، وكذلك الصرف لا يحل أن يفترقا قبل القبض فكذلك هذا.
وهذا الكلام الذي وقع في المدونة اختلفت عبارة المتأخرين في معناه، فأمّا
الشيخ أبو الحسن القابسي، رحمه الله، فإنه أشار إلى أنه لم يرد بهذا الكلام
كون هذه العقود تجري على أسلوب واحد في التضمين (1) والتأخير، وإنما مراده
أنه يجب ألا يتعدى حكم الصرف في التناجز. وجرى بعض الأشياخ على هذا المعنى
الذي أشار الشيخ أبو الحسن لتأويله بهذا الكلام فقال: الصرف أضيق
__________
(1) في (ش): في.
(2/199)
هذه العقود، لأنه لا يجوز فيه الافتراق قبل
التقابض، وأوسع منه الإقالة في الطعام والتولية فيه، ثم أوسع من ذلك
الإقالة في العروض، وفسخ الدين في الدين، ثم أوسع من ذلك بيع الدين المستقر
في ذمة، ثم أوسع من ذلك رأس مال السلم. فهذه سبعة عقود، والشركة عقد ثامن،
(ولكن ينوب عنه في هذا الموضع التولية عبارة عن تولية كل الطعام) (1)
والشركة عبارة عن تولية جزء منه، وحكم تولية الكل أو النعم (2) متساوية في
حكم التعجيل. وبعض أشياخي يشير إلى أن الإقالة في الطعام والعروض تجري مجرى
واحدًا في حكم التعجيل، وهذا ظاهر كتاب ابن المواز لأنه ذكر أن الإقالة في
الطعام إنما يجوز فيها التأخير بمقدار ما يدخل إلى البيت ليُخرج رأس المال.
وهكذا ذكر في الإحالة (3) في العروض أنه إنما يجوز فيها مقدار ما يذهب إلى
البيت أو إلى السوق، وإنما بدأنا بالصرف، وذكرنا أنه أضيق هذه العقود لأن
الافتراق فيه ممنوع، والافتراق في الإقالة ليدخل بيته فيخرج رأس المال وشبه
ذلك يسوغ.
وأمّا التولية فإنها إذا كانت في طعام كانت كالإقالة فيه، وإن كانت في عروض
فإنها مختلف فيها هل يسوغ اشتراط تأخير دفع رأس المال اليومين ونحوهما؟ فيه
الاختلاف الذي ذكرناه. ولم يختلف في أن الإقالة لا يجوز فيها تأخير رد رأس
المال ولا يومًا واحدًا، فلهذا كانت أضيق من التولية وما ذكر بعدها، لأن
تأخير الثمن فيها يُلحقها بفسخ الدين في الدين، وهو ممنوع، ولهذا جعلناها
في مرتبة واحدة مع فسخ الدين في الدين إذا كانت إقالة من عروض. وأما إن
كانت إقالة من طعام انضاف إلى فسخ الدين في الدين لغير رأس المال باشتراط
التأخير، ونحن نشترط في جواز الإقالة في الطعام ألا يغيَّر رأس المال فيه،
لا حسًا ولا تقديرًا؛ فلهذا كانت الإقالة فيه أشد مما عددناه تضييقًا في
المراتب التي بعدها. وأما بيع دين مستقر في الذمة، فإنه لما وقع التعاقد
على دين مستقر في
__________
(1) هكذا في كل النسخ، إضافة إلى أن في (ش) عوض ينوب: يثوب.
(2) هكذا في كل النسخ، ولعل الصواب: أو البعض.
(3) هكذا في كل النسخ، ولعل الصواب: الإقالة.
(2/200)
الذمة، كان أضيق من تعاقد على أن ذمة
المتعاقدين غير مشغولة به، على مذهب المدونة، وعلى ما في الموازية لا فرق
بين كون الذمتين مشغولتين في عقد السلم أو كون إحداهما مشغولة بدين مستقر
فيها، فوقع البيع بهذا الدين المستقر في الذمة، ولو عقد السلم بشرط تأخير
رأس المال اليوم اليومين وقعت الإقالة من هذا العقد، فإن رأس المال تعجل،
وليس من حق من عليه السلم أن يؤخره مثل الأيام التي اشترط من له السلم
تأخيرها، لأن الإقالة حل للعقد الأول،
والمقصود بها إسقاط حق كل واحد من المتعاقدين فيما له من الحق في العقد
المقال منه، وهذا يقتضي تعجيل ثمن الإقالة، ولا يجوز ها هنا اشتراط تأخيرها
كما أجزناه في العقد المقال منه. ولا يعترض عن هذا بأنه إذا عجل رد رأس
المال، وقد أخر عنه أيامًا، فإنه كالمقيل في اليومين رأس المال؛ لأنا إنما
نعتبر رأس المال حين قبضه.
هذا حكم ما يجوز من اشتراط التأخير ويمنع.
وأما لو تأخر رأس المال بغير شرط فإن فيه ثلاثة أقوال: أحدها أن الإقالة
تفسد. وقيل: إن الإقالة تصح. وأشار ابن المواز إلى شذوذ هذه الرواية عن
مالك وأنه لم يقل بها أحد من أصحابه. وقيل: إنما تفسد بهذا التأخير إذا وقع
ذلك من أهل العينة، وأما إذا وقع (من لا يضربه) (1) أنه قصد في أصل العقد
إلى ذلك، فإن الإقالة لا تفسد. وأصل المذهب مبني على حماية الذريعة، ومقتضى
هذا فساد الإقالة، واعتبار من يتهم ومن لا يتهم خلافُ قاعدة المذهب فيم ابن
ي على الذرائع.
وذكر في المدونة إجازة الحوالة برأس المال على رجل آخر له عنده مثل رأس
المال، أن هذا كالإقالة بعرض ورأس المال عين، لأن هذه الحوالة تقتضى على
الحلول.
ولو أن من عليه السلم وكل وكيلًا ليدفع عنه رأس المال الذي أقيل عليه لجاز
ذلك أيضًا، (ولكنه يجوز ومن له السلم من عليه السلم قبل أن يقبض من
__________
(1) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: ممّن لا يظن به.
(2/201)
وكيله رأس المال لأن وكيله على محله) (1)
ولا يبرأ من عليه السلم إلا بعد أن يدفع وكيله رأس المال. وفي الحوالة لا
يفارق من له السلم من عليه السلم حتى يقبض ممن أُحيل عليه رأسَ المال؛ لأن
الحوالة يَبرأ من عليه السلم من الطالب برأس المال، فصار مفارقًا له قبل أن
يبرأ من رأس المال، وهذا تأخير في الإقالة.
ولو اشترى طعامًا وأقاله على مثله، وهما بغير البلد الذي وقع فيه قبض
الطعام، (فإن ذلك لا يجوز لأنه إن دفعه بالبلد الذي سميا به ووقعت الإقالة
فيه، فذلك بيع الطعام) (2) قبل قبضه، لاختلاف أسعار البلدان، وقد قدمنا أن
تغير الأثمان في الإقالة في الطعام يمنعها. وإن شرط تأخيره إلى البلد الذي
وقع فيه قبض الطعام، فإن ذلك تأخير في الإقالة، وهو ممنوع كما قدمناه.
ولو كانت هذه الإقالة في عروض لمنع أيضًا، من شرط تأخير أمثالها بالبلد
الذي وقع فيه القبض، لها (3) في ذلك من التأخير في الإقالة وفسخ الدين في
الدين. لكن لو شرط ها هنا قبض أمثالها بالبلد الذي تقايلا به لجاز ذلك، لأن
تغير رأس المال لا يمنع من الإقالة في العروض. وهذا إذا كانت العروض المقال
عليها حاضرة عندهما وقت الإقالة، وأما إن لم تكن موجودة عند من يغرمها فإن
ذلك يجري على القولين في السلم الحال؛ وقد ذكر في كتاب المرابحة اختلافًا
فيمن اشترى بعروض وباع على أمثالها بربح في جواز ذلك.
وقد قدح بعض الأشياخ في الإقالة في الطعام قبل قبضه إذا احتيج إلى أداء
أجرة في نقله، لأجل ما يتضمن هذا من الإقالة وقد تغير فيها رأس المال وعد
ما يؤدي من هذه الإجارة كبعض ثمن الطعام.
ولما ذكرنا ها هنا مَا لا بد من ذكره فيما يتعلق بالإقالة في الطعام لأجل
ما نبهنا عليه من حكم هذه الإجارة المغيرة للثمن، على ما ذكرناه عن بعض
الأشياخ، فلنذكر على من تكون إجارة النقل، ورد المبيع إلى مكانه في الإقالة
__________
(1) هكذا في جميع النسخ.
(2) ما بين القوسين ساقط من (ش).
(3) هكذا، ولعل الصواب: لما.
(2/202)
ورغب إلى صاحبه فيها، وكأنه استدل من عد
أحدهما في الإقالة على أنه كالراضي بأخذها حيث هي، والمكان الذي وقعت فيه
الإقالة القياسأل فيها صاحبه ورغب إليه فيها. ومال إلى هذا الشيخ أبو
محمَّد بن أبي زيد وأبو الحسن بن القابسي، رحمهما الله؛ وقد قدمنا لك
الاختلاف في الإقالة هل هي فسخ للبيع أو حل له أو ابتداء بيع؟.
فإن قلنا: إنها ابتداء بيع كان الأظهر أن النقل على من عادت إلى ملكه حكم
(1) الإقالة لأنه كالمشتري السلعة يريد نقلها إلى مكان آخر، فإنه لا يلزم
البائع أن ينقلها له، وإنما عليه تمكينها له وتسليمها له بحسب ما تقتضيه
العادة في تسليم أمثالها.
وإن قلنا: إن الإقالة حل بيع، فها هنا يقع النظر فيها على من قبضها وصارت
إليه بالبيع أن يردها إلى مكانها. فهذا موضع النظر ولو كانت سلعة بيعت
بخيار لكان مشتريها بالخيار أن يردها إلى مكانها الذي أخذها منه واشترط فيه
الخيار لمنفعة نفسه. ولو ردها بعيب وقد عقد البيع فيها بغير خيار فإن
البائع إذا كان مدلسًا عليه بالعيب فإنه لا يلزم المشتريَ أجرةُ نقلها؛
لأنه لو لزمه ذلك لوجب على البائع أن يغرمه له؛ لأنه غره غررًا يؤدي إلى
تلف ماله، لا سيما، أيضًا، إن قلنا: إن الرد بالعيب كابتداء بيع، فذلك آكد
في أن لا يلزم المشتريَ أجرة النقل. وإذا كان البائع لم يدلس بهذا البيع
فإن أجرة النقل إلى مكان القبض على المشتري، إلا أن يؤدي في ذلك ثمنًا
يلحقه بأدائه ضرر، فيكون هذا مما يوجب له أخذ القيمة للعيب إن شاء على ما
سيرد بيانه في كتاب البيوع إن شاء الله تعالى. وقد أشرناها هنا إلى
الالتفات إلى النظر بالرد بالعيب، هل هو ابتداء بيع أو فسخ بيع؟ فتجري فيه
على ما نبهناك عليه في الإقالة.
__________
(1) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: بحكم.
(2/203)
ومما قد يجري على هذا الأصل الذي نبهناك
عليه (1) ما ذكر في المدونة فيمن أسلم دراهم في طعام فأقاله على ردهالأولم
يغب عليها قابضها، فإن ابن القاسم رأى أن لقابضها أن يرد مثلها
ويمسكهالأولو شرط عليه أن يردها بعينها.
ورأى سحنون أن من حق دافعها أن ترجع إليه بعينها. فاعلم أيضًا أن تغير (2)
الدنانير والدراهم فيه اختلاف في المذهب سيرد بسطه في كتاب الصرف. فإذا
قلنا: إنها لا تتغير (3)، ولا ينفع فيها اشتراط التعيين، وأن الإقالة
ابتداء بيع اقتضى هذا ما قاله ابن القاسم من أن لمن هي في يديه أن يعطي
مثلها. وإن قلنا: إنها تتغير (3) وأن الإقالة حل بيع اقتضى هذا ما قاله
سحنون، لكون العقد قوإنحل فصارت هذه الدراهم كأنها بيد رجل لرجل آخر لم يقع
عليها تعاقد، فمن حق صاحبها أن يأخذها بعينها. هذه الفروع المتعلقة بأحكام
الإقالة، وقد كنا ذكرنا أنها رخصة، وكذلك الشركة والتولية في الطعام رخصتان
أيضًا.
فلنذكر الآن حكم التولية.
__________
(1) بقية الصحيفة 42/ ظ/ وبياض ووقع إتمام النص من المدنية وش.
(2) هكذا في النسختين ولعل الصواب تَعَيُّن
(3) هكذا في النسختين ولعل الصواب تتعين.
(2/204)
|