شرح
التلقين فصل في التولية
يتعلق بهذا الفصل سؤالان منهما أن يقال:
1) ما الدليل على جواز التولية في الطعام؟
2) وما حكم تغيّر رأس الم الذيها؟
فالجواب عن السؤال الأول أن يقال:
روى ابن القاسم عن سليمان بن بلال عن ربيعة عن سعيد بن المسيب: أن النبي -
صلى الله عليه وسلم - قال: "من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه إلا ما
كان من إقالة أو شركة أو تولية" (1). وقد قدمنا نحن الكلام على الإقالة،
ولا نعلم في جوازها خلافًا إذا وقعت برأس المال قبل قبض الطعام. وإن لم
يقبض الطعام، فإن قلنا: إن الإقالة حل بيع، وليس بابتداء بيع، كان هذا
الاستثناء الواقع في الحديث كأنه استثناء من غير جنس، والاستثناء من غير
جنس قد ورد في الشرع واللغة. وإن قلنا: إنها بيع، كان استثناء من الجنس
ولكن خصت بالجواز، لكونها معروفُ ا، وفي الحديث "كل معروف صدقة" (2) وقد
ندب الشرع إلى إحسان المسلمين بعضهم لبعض، وهذا من "الإحسان والمعروف،
والشرع يندب إليه فاقتضى ذلك أن يعير (3) عليه بهذه الرخصة في الطعام.
وأعلاه الأوزاعي حتى قال، فيمن قال لعامله: أقلني من هذا الطعام ولك كذا:
فإن ذلك لا يمنع. وهذا شرود وخروج
__________
(1) انظر المدونة ج 4 ص 8 أو المصنف لابن أبي شيبة ح 4 ص 386 ح 2138.
(2) فيض القدير ج 5 ص 32 حد: 6351.
(3) هكذا في الأصل.
(2/205)
عن أقوال العلماء سواء أن الربح والوضيعة
يشعران بطلب المكايسة والمغابنة وإذا وقعت الإقالة عليها خرجت من المعنى
الذي لأجله رخص فيها. وأما التولية فإنها جائزة عندنا في الطعام وإن لم
يقبض، خلافًا لأبي حنيفة والشافعي، ورأيا أن الإقالة إنما جازت عندنا في
الطعام لكونها حلَّ بيع وفسخَ عقدة والتولية لا ينكر (1) أن يتصور فيها هذا
مِنْ أنّ مَن اشترى طعامًا فولاه لغيره فإن العقد الذي وقع بينه وبين بائع
الطعام منه الفسخ (2) باتفاق. (وإن اتفقا على أنه لم ينفسخ لم يتصور وبه
بعد بر) (3) حله ولا فسخه. ونحن نحتج بالحديث المتقدم، وليس ذلك على
الإقالة لأن مشتري الطعام إذا لم يربح ولا خسر ويسمح بأن يولي (ما السنن)
(4) أشعر ذلك بقصده إلى "الإحسان والمعروف لمن ولاه الطعام الذي اشتراه،
فصارت التولية بمعنى الإقالة فأجيزت.
والجواب عن السؤال الثاني أن يقال:
إن ولّى ما اشترى له) (5) من الطعام أو أسلم فيه قبل قبضه، وشرط زيادة على
الثمن الذي اشتراه به، أو نقصانًا منه، فإن ذلك يمنع، لما قدمناه من كون
هذا الاشتراط يشعر بأنه لم يقصد المعروف والإحسان. وإن تقدر الثمن بقدر
"الإحسان مثل ما قدمناه أيضًا في الإقالة يمنع أيضًا، كمن أسلم دنانير في
طعام وأخذ به رهنًا أو حميلًا لرجل آخر يشترط أن يسقط الحميل والرهن، فإن
ذلك لا يجوز لما فيه من تغير الثمن من جهة التقدير؛ لأن ثمن الطعام المشترى
على أن يأخذ رهنًا أو حميلًا ثمنه إذا اشتُري بغير رهن ولا حميل بشرط إسقاط
الرهن والحميل في التولية يغيّر الثمن، كما بيّنّاه. لكن إن أسقط الرهن
والحميل قبل أن يولّي هذا الطعام وولاه بعد ذلك، وبيّن لمن ولاه أنه أسقط
الرهن والحميل
__________
(1) هكذا في الأصل ولعل الصواب: لا يمكن.
(2) هكذا في الأصل. ولعل الصواب: لم ينفسخ.
(3) هكذا في الأصل ولعل الصواب: وإن اتّفِق ... لم يَعتذرْ ربه بعُذْر.
(4) هكذا في الأصل.
(5) هكذا في الأصل، ولعل الصواب: إن ولاه ما اشترى.
(2/206)
بعد أن عقد عليه، فإن ذلك على ما ذكره ابن
المواز، وعورض فيه بأن الثمن لم (1) عن تغيير في هذه التولية، فإن إسقاط
الحميل والرهن قبلها، كما لو أُسقط في حين العقد لها، وكذلك لو أسلم عشرة
دنانير في طعام، ثم زاد من عليه السلم في ثمنه دينارًا، قد قيل: لا يجوز في
هذه التوليةُ على حال؛ لأنه إن وقعت على العشرة دنانير التي عليها ولم
يطالب من ولاه الزيادة التي زادها بعد العقد لأجل العقد، وهي كبعض الثمن،
فإن ذلك يمنع لما فيه من تغير الثمن. وإن عقدت التولية على أحد عشر دينارًا
فإن ذلك أيضًا يغير الثمن؛ لأن الدينار الزائد على العشرة بقوله (2) وتطوع،
وهو على من ولاه واجب في عقد التولية، ولهذا تغيّر الثمن.
وقيل: بل تجوز التولية إذا ولاه بجملة الثمن وما زاد عليه، وأخبره أن
الزيادة تطوعَ بها بعد العقد. كذلك اختلف فيمن اشترى طعامًا بثمن مؤجل هل
يجوز له أن يوليه بمثل الثمن إلى مثل الأجل؟ فأجازه مالك ومنعه ابن القاسم
وأشهب.
وسبب هذا الاختلاف النظر في اختلاف الذمم هل يغير الثمن أم لا؟ فقال مالك:
إن الثمن لا يختلف باختلاف ذمة (الثمن المبيع به) (3) المولي والمولى فلم
يمنع الإقالة. ورأى ابن القاسم وأشهب أن الدين يختلف باختلاف الذمم؛ لأن
الثمن المبيع به إذا كان مؤجلًا على غنيّ تثق النفس بأنه لا يعتبر (4)
بالثمن إذا حل الأجل، فسامح فيه البائع. وإذا بيع بثمن مؤجل على فقير تتخوف
النفس منه ألا يجد ما يقتضي منه عند الأجل، يستظهر عليه بالثمن، لأجل ما
يترقب من فقره. فصار الثمن مختلفًا في هذه التولية في التقدير ملحقًا بما
ذكرناه مما صورنا فيه اختلاف الثمن تقديرًا لا حسًا.
وأيضًا فإن العين المؤجل كالعدم. وقد قدمنا أنه لا يفيد التولية على مثل
العرض في الرهبان، وأن لما بينا في هذا الثمن المؤجل كتماثل العرضين، وقد
__________
(1) كلمة غير واضحة في الأصل.
(2) هكذا.
(3) هكذا، والكلام بدونه أوضح.
(4) هكذا، والأقرب: لا يتعَثَّر.
(2/207)
انتصر بعض الأشياخ لمذهب مالك في هذه
المسألة، بأن الإقالة تجوز في الطعام وإن تغيرت ذمة المقال، وتبدلت بالوسع
والعسر؛ فاقتضى هذا أن اختلاف الذمم لا يعتبر ها هنا. وهذا لا يلزم ابن
القاسم وأشهب؛ لأن الذمة ها هنا ذمة واحدة، وقد وقعت المعاملة عليها، وعقد
السلم مع تجوّز اختلاف حالها، وتبدل شأنها بالوسع والعسر، والثمن الذي عقد
به السلم قد اعتبر دافعه حال هذه الذمة وما يتخوف، فزاد في الثمن، أو نقص،
بمقتضى ما يظهر من حال هذه الذمة في المستقبل. فإذا وقعت الإقالة بعد تغيير
الثمن، يكون في الثمن المقال عليه تغير لأجل أن هذا التغير عليه وقع العقد.
بخلاف من ولى رجلًا آخر طعامًا اشتراه بثمن مؤجل عليه، فإن هذا لم يقتض
العقد بينه وبين من عليه السلم اعتبارَ ذمة المولَّى، كما اقتضى العقد ذمة
المقال. وكذلك اختلف أيضًا فيمن أسلم في طعام فلما حل الأجل قبض بعض السلم،
ثم أراد أن يولي ما لي يقبض، فإن الخلاف في هذا أيضًا مبني على ما أشرنا
إليه من كون الثمن يختلف اختلافًا مفيدًا (1) لا اختلافًا محسوسًا؛ لأن
السلم إذا عقد على مائة قفيز، فقبض منها خمسين، ثم ولى الخمسين التي لم
يقبض بنصف الثمن، فإنها لا يقابلها من الثمن الذي وقع العقد بنصفه ولأن (2)
المقبوض قد استقبل فيه على التقاضي والطلب، وثمنه إذا بيع معينًا يمكن قبضه
في الحال أكثر من ثمن ما لم يقبض، لما يتخوف المولي من مَسعد (3) الطلب له
وكلفة التقاضي، والثمن إذا اختلفَ مُنِعَتْ التولية. ومن أجاز التولية ها
هنا رأى أن العقد إنما وقع من (4) وقوعه على أن هذين النصفين من الطعام
المتساويين في الثمن، فإذا وقعت التولية على التساوي لم يُتصور اختلاف في
الثمن الذي وقع عليه العقد. ولولا ولَّى ها هنا جميع الطعام، ما قبض وما لم
يقبض، لمنع؛ لأن المقبوض يكون العقد فيه
__________
(1) هكذا في الأصل، ولعل الصواب: مقدرًا.
(2) هكذا في الأصل، ولعل الصواب حذف الواو.
(3) هكذا في الأصل، ولعل الصواب: مَسْعَى.
(4) هكذا في الأصل، ولعل الصواب: حين.
(2/208)
بيع (1) يحل فيه ويحرم ما يحل ويحرم في
العقود على طعام معينٍ، وما في الذمة بخلافه، يعتبر فيه الثمن الذي وقع
عليه العقد. فصارت التولية ها هنا إنما وقعت فيما لم يقبض بشرط أن يبيع منه
طعامًا آخر، وهكذا يمنع من توليته بشرط تولية آخر مثل أن يقول لرجل: وإلى
(2) ما أسلمت فيه من طعام على أن أوليك ما أسلمت فيه من طعام. لأن دخول هذا
الاشتراط في التولية يشعر بالقصد إلى المكايسة والمتاجرة، والتولية إنما
جازت لكونها غالبًا إقالة؛ لأن ما وقع على جهة التبايع طُلب المعاين (3)
فيه من الطرفين جميعًا غالبًا، فالبائع يحرص على أن يغبن المشتري ويستظهر
عليه والمشتري يحرص على أن يغبن البائع فيه والإقالة في غالب العادة إنما
يقصد بها رفق أحدهما، وكذلك التولية، فإذا وقع مع العقد فيها مثلُ هذا
الاشتراط المشر بقصد المكايسة مُنِعَتْ.
وهذا إذا اختلف رأس مال الطعامين واختلف الطعامان في أنفسهما. وأما إذا
تماثل الطعامان فهذا ينصرف إلى الحوالة. وسنتكلم على طعام أسلم فيه إن شاء
الله تعالى.
ومما يمنع أيضًا لما تقدر فيه من اختلاف الثمن في التولية أن من أسلم في
طعام بشرط تأخير رأس المال ثلاثة أيام، ثم ولاّه رجلًا آخر فإنه لا يجوز أن
يوليه إياه بشرط تعجيل النقد؛ لأن اشتراط تعجيل النقد، وهو قد اشترط تأخيره
في العقد الذي وقع بينه وبين من باع منه، يقتضي اختلاف الثمن، واختلاف
الثمن في الطعام ممنوع، لكن لو وقعت ها هنا بفور العقد على أن يؤخر المولّى
الأيام التي يشترط تأخيرها لنفسه، لمنع ذلك أيضًا على مذهب المدونة في أن
بيع الدين المستقرّ في الذمة لا يجوز بشرط تأخيره اليوم واليومين، بخلاف
شرط تأخير رأس المال على ما قدمنا بيانه في التولية ها هنا لهذا الطعام (4)
دين مستقر
__________
(1) هكذا في الأصل، ولعل الصواب: عقد بيع.
(2) هكذا في الأصل، ولعل الصواب: ولِّه.
(3) هكذا في الأصل، ولعل الصواب: التغابن.
(4) كلمة غير واضحة.
(2/209)
في الذمة فوجب أن يمنع. وقد حاول بعض
الأشياخ إجراء هذه المسألة على الخلاف فيمن اشترى شقصًا بثمن مؤجل، فلم يقم
الشفيع بطلب الشفعة إلا بعد حلول الأجل، هل يولّى الشفيع مثل ما أُجِّل
المشتري من الأجل الذي يقضى أم لا؟. فإذا قلنا: لا يؤجل، فكذلك التولية ها
هنا محمولة على تعجيل الثمن، وشرط تأخيرها يفسدها. وإذا قيل: إن الشفيع
يؤجل، أُجل هذا أيضًا على مقتضى إطلاق التولية. وهذا الذي أشار إليه قد لا
يصح (يكون يعتبر الأثمان في الشفعة بالتراضي وبالتولية في الطعام يمنع)
(1). وقد أشرنا إلى كون هذا التأجيل يقتضي اختلاف الثمن، وإذا أقضاه (2)
منع. ولا تمنع الشفعة ولا تسقط لاختلاف الثمن، ألا ترى أن من اشترى شقصًا
بعرض كان الشفيع يأخذه بقيمة العرض، وقيمة العرض خمس فخالف العرض. وقد
أشرنا إلى اعتبار اختلاف الذمم في التولية مع كون الشفيع أيضًا قد استحق
الشفعة في الزمن الذي انبرم فيه عقد المشتري المنتقض قبل ذهاب الأجل،
واستحق أن يأخذ الشفعة بالثمن على ما هو عليه، وهذه التولية ها هنا لم
يستحق له العدد انقضاء هذه الأيام المشترط تأخير النقد فيها وهي إنما وقعت
بتراضي المولي والمولى، والشفعة لا يفتقر فيها إلى رضي من لا (3) يؤخذ من
يده.
__________
(1) ما بين القوسين هكذا نصه في الأصل.
(2) هكذا في الأصل ولعل الصواب: اقتضاه.
(3) هكذا في الأصل، ولعل الصواب: حذف (لا).
(2/210)
|