شرح التلقين

فصل في الشركة
وقد ذكرنا فيما قدمنا أن مذهبنا أن التولية والشركة رخصتان قد استثنيتا من النهي عن بيع الطعام قبل قبضه كالإقالة، وذكرنا مذهب من قصر الرخصة على الإقالة خاصة. لكن ذكر أبو الفرج عن مالك أنه يمنع من الشركة في الطعام الذي يقبض (1). وهذه الرواية مشابهة لمذهب أبي حنيفة والشافعي في قصر الرخصة على الإقالة، لكنه (2) قصر هذه الرواية التي حسماها على الشركة لم يكن عن هذا عندي (من له اعتذار سوى) الشركة (3) إنما تكون في بعض المبيع فيسلم لشريكه جزءًا منه ويبيع الجزء بما كان مخالفًا للبيع الجملة، بخلاف التولية التي هي كبيع للجميع بجملة الثمن. وهذا لا يتصور فيه تقدير اختلاف الثمن. ولكن مع هذا أشرنا إليه، وقدمنا بيانه مبسوطًا.
يتعلق بالشركة ثلاث مسائل منها أن يقال:
1) هل على الشريك أن يكتال ما اشترك فيه ويضمنه؟
2) وهل يحمل إطلاق لفظ الشركة على المساواة؟
3) وهل تجوز الشركة بلفظ السلف؟
فالجواب عن السؤال الأول أن يقال:
__________
(1) هكذا في الأصل ولعل الصواب: لم يقبض.
(2) هكذا في الأصل ولعل الصواب: لكن.
(3) هكذا في النسختين ولعل الصواب: (من اعتذار سوى أنّ).

(2/211)


ذكر في المدونة فيمن اشترى طعامًا في سفينته فاكتاله ثم أشْرك فيه رجلًا فغرقت السفينة: أن مصيبة الطعام جميعًا منهما، مشتريه ومن شاركه فيه. وهذا يشعر بأنه لا يوجب على الذي اشترك في طعامه كيلًا، إذ لو وجب عليه الكيل لكان ضمانه منه حتى يكتال الشريك ما اشترك فيه، كما يجب على البائع للطعام ضمان ما باعه حتى يكتاله لمشتريه. وإلى هذا ذهب ابن حبيب. وأشار سحنون إلى خلاف هذا، وكتب على المسألة (1). وقال فضل بن سلمة: ينبغي أن يكون للطعام (2) من مشتري الطعام حتى يكتال لمن أشركه ما أشركه فيه. وأشار بعض الأشياخ إلى أنه ينبغي أن يُجرى في التولية والإقالة والمقبوض (3) والهبة هذا المجرى في إسقاط الكيل، بخلاف البيع، لأجل أن هذه المعاني كلها طريقها المعروف، وإذا كان طريقها المعروف والإحسان لم يكلف من قصد "الإحسان شططًا بإيجاب الكيل وأداء أجرته. وأشار إلى أنه قد تختلف هذه المعاني التي ذكرناها كما اختلف في المذهب فيمن وهب لرجل أقساطًا من زيت جلجلان، هل يجب على الواهب عصر هذا الجلجلان حتى يتوصل الموهوب إلى ما وهب له أم لا؟ وفرق ابن حبيب بين هذه المعاني، فسلك في الشركة مسلك المدونة كما حكيناه، وأوجب في التولية والإقالة الكيل على المقيل والمولي إذا غابا على الطعام، فإن لم يغيبا عليه فإن الكيل لا يجب على المقيل ويجب على المولّي. وهذه التفرقة التي فرق فيها بين الإقالة والتولية (إذا لم يقع عليه على الطعام) (3) لا يتضح لها وجه محقق؛ لأن المولي والمقيل إنما عقدا على أنفسهما ما عقداه في هذا الطعام على أن يكون المقال والمولَّى لهما زيادة الكيل في هذا الطعام أو نقصانه والتزمَا قَبُولَ أخذ الطعام على حسب ما رضي به المقيل والمولي في الكيل، وهو لم يغب على الطعام، فيتهم بالخيانة، والبيع الذي طريقه المكايسة يكون للبائع مَقال في زيادة الكيل ونقصانه، على ما سيرد بيانه
__________
(1) كلمتان غير واضحتين.
(2) هكذا في الأصل، ولعل الصواب: الضمان.
(3) هكذا في الأصل.

(2/212)


إن شاء الله في موضعه.
وقد اختلف تأويل الأشياخ لهذه المسألة المذكورة في المدونة، فرأى بعضهم أن هذا الطعام الذي غَرِقَتْ به السفينة شهدت بينة بتلفه، فلهذا أطلق القول بأنه لا يضمنه الذي أشرك فيه، بل يكون الضمان عليهما جميعًا. وإذا لم تقم بيّنة بتلفه فإنه لا ضمان على من أشرك فيه إذا كان ذلك محبوسًا بالثمن، على ما سيرد بيانه في ضمان المحتبس بالثمن إن شاء الله.
ومن الأشياخ من رأى أن هذه المسألة وأمثالها يجب أن تخرج عن هذا الأصل، لأجل أن الشركة في الطعام قبل أن يقبض إنما جازت لكونها يقصد بها المعروف فخالفت البيوع بهذا، فكذلك ينبغي أن يخالف أحكام البيوع في الضمان أيضًا. ولو اكتال المشترك الطعامَ الذي اشترك فيه فضاع بقية الطعام قبل أن يكتال، إن ضمان الذي ذهب قبل كيله منهما جميعًا، والذي اكتيل بينهما يكون جميعًا لأجل ما صار في يديه مما اكتيل إنما يعلم استحقاقه لجميعه بعد قيل ما بقي، فإذا ضاع ما بقي قبل أن يستحق هو ما في يديه وجب أن يبقيا على حكم الشركة فيما ضاع وفيما بقي. هكذا ذكر أشهب في كتاب ابن المواز، لكن لو تلف الذي اكتيل في يد من اكتاله لكان ضامنًا لنصيبه الذي قبضه لنفسه ليستبد به؛ لأنه بقي عليه حق التوفية لصاحبه مثل ما صار إليه هو، فهذا رجع إليه صاحبه إذا ضاع ما لم يكتل، ويضمن هو ما اكتيل لأجل أنه قد وفّى لصاحبه ما عليه من قيل.

والجواب عن السؤال الثاني أن يقال:
هذه اللفظة التي هي الشركة يصلح استعمالها في الشريك يجد من المال كل ذلك الجزء أو أكثر. لكن هذا الجزء إذا نصّ عليه ارتفع الاحتمال، مثل أن يقول: أشاركك بربع هذا المال. فإن لم ينص على هذا الجزء بل ذكر لفظ الشركة مطلقًا فقد قال (1) في المدونة في رجلين اشتريا عبدًا شركة بينهما،
__________
(1) بداية صفحة 43/ ومن الوطنية حيث انتهى النقص الواقع فيها قبل.

(2/213)


فلقيهما رجل فقال: أشركاني معكما ... إنه يكون شريكًا بالثلث، لأنه إنما أراد أن يكون كأحدهما. وهذا الجواب لا يعول عليه في إطلاق لفظ الشركة على ماذا يحمل من الأجزاء، لأنه ذكر في الكتاب أنهما أرادا أن يكون العبد بينهم على المساواة، والمساواة لا يكون له بأن يكون بينهما العبد وقد (1) ... أن الشركة إذا قدمت بذكر جزء صِير إليه. وهذا إن أراد أن يكون كأحدهما صار ذلك كالنطق بالجزء، ولهذا قال بعض الأشياخ: إن المسألة محمولة على أنه لقيهما مجتمعين فخاطبهما جميعًا فأجابا جميعًا. لأن هذه الصورة الظاهر أن الخطاب لما كان لهما معًا حمل جوابهما على قصدهما إلى أن يساوي كل واحد منهما. فلو لقي كل واحد على انفراده فسأله في الشركة فأجابه بالإِنعام لاستحق بذلك نصف ما ملكه من هذا العبد وهو الربع فإذا لقي بعد ذلك الشريك الآخر فسأله في الشركة فأنعم له فإنه يستحق أيضًا نصف ما في يديه وهو الربع، فيكون لهذا المنفرد بالسؤال نصفه، والآخريْن نصفه. ولو كانت شركة المشتريين العبدَ على أجزاء مختلفة فسألهما هذا في الشركة فأنْعَمَا لهُ بها، فإنه يكون له نصف العبد لأن كل واحد منهما قد أشركه فيما يملكه، والشركة تقتضي المساواة، فإذا ساوى كل واحد منهما جاز له نصف ما في يديه، فقد ملك نصف العبد.
وهذه الطريقة التي سلكها الأشياخ تقتضي حمل لفظ الشركة على المشاركة بالنصف والمشاركة فيما اشتركا فيه، وإنما استدلوا باختلاف الأجزاء أو بالتقاء في مجلسين على أنهما لم يقصدا الخروج على ظاهر لفظ الشركة الذي قدرنا أنه يقتضي المساواة، وعولوا على قوله في الكتاب؛ لأنهما رهنا (2) فأشاروا إلى أن اختلاف الأجزاء، وافتراق المجالس لا يظهر معه أنهما أرادا ما ذكر عنهما. وقد قيل في مسألة الكتاب: إن هذا السائل في الشركة يكون له نصف العبد. وهذا الجواب الذي وقع مطلقًا هو مطابق لما ذكرناه عن الأشياخ
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: قدر.
(2) مقدار كلمتين غير واضحتين.

(2/214)


من وجوه حمل لفظ الشركة على المساواة إذا لم يقتدو (1).
وعلى هذا الأسلوب يجري ما ذكرنا عن سحنون في مسألة من أقر بأن هذا العبد الذي في يديه فيه شركة لرجل آخر سماه، أو قال: هو لي، وأراد هو مني (2). فإنه ذكر اختلافًا في المذهب في هذا، فقيل: يحمل إطلاق هذا على المساواة في المال. وهذا هو الذي سلكه بعض الأشياخ في مسألة الكتاب. وذكر قولًا ثانيًا وهو أنه يسأل في هذا، فما فسّر به رُجع إليه، وحمل اللفظ عليه، ثلثًا قال، أو ربعا، أو غير ذلك. وذكر قولًا ثالثا أن هذا الإطلاق لقوله فيه شركة، يقتضي المساواة، ما لم يقل: هذا العبد فيه شركة لفلان معي. فإنه إذا قال: معي، حمل على المساواة. واستدلال شهادة اللفظ على قصد المساواة لا يتضح إلا أن يكون صاحب هذا المذهب تكلم على قوم لا يستعملون هذه اللفظة، وهي قوله: معي، إلا مع المساواة، فيصح الاستدلال بها.
وهذا الخلاف الذي ذكرناه في إطلاق هذه اللفظة إنما يتصور إذا أطلقها ثم بعد حين قيّدها بثلث أو ربع. فإن كان لا يقبل منه على أحد الأقوال التي ذكرها ابن سحنون، لكونه عند هؤلاء ادعاءَ خلاف ما يقتضيه ظاهر اللفظة. وأما لو وقع المقيّد متصلًا بلفظ الشركة فإنه لا يختلف في كونه لا يطلب بأكثر مما قيده في إقراره. لكنهم (3) التقييد في قولهم: لفلان عليّ حق في هذا المال. قبل ذلك الحق بحدّه تقييدًا متصلًا بالكلام أو متراخيا عنه. وكأنهم رأوا أن هذه اللفظة لا تشعر بالمساواة لا من جهة كونها نصًّا فيه ولا ظاهرًا، بخلاف الشركة فإنها إن لم تشعر بالمساواة نصًّا أشعرت به ظاهرًا. فإزالة الخطاب عن ظاهره إنما تقبل إذا كان متصلًا به وأما إذا كان منفصلًا فإنه لا يقبل في ألفاظ المقرّين بالحقوق.
وهذا فيما وقع في القرآن أو السنة التفرقة فيه بين متصل ومنفصل يفتقر
__________
(1) هكذا ولعله إذا لم يعينوا.
(2) هكذا والكلمة غير واضحة.
(3) فراغ في جميع النسخ بمقدار كلمة.

(2/215)


إلى تفصيل ذكرناه فيما أمليناه من أصول الفقه. وما ذكرنا من الخلاف في هذا إنما هو في مقتضى لفظ المقرّ إذ أطلق وكان المقَرُّ له لا علم عنده، لكونه وارثًا أو شبه ذلك. فأما إن كان عالمًا بما لَه من الحق في المال المقَرّ بالشركة فيه، فإنه ينتقل الجواب فيه إلى أصل آخر وهو النظر في التداعي في المال المشتركِ.
فعلى أصل ابن القاسم يكون ما أقر به كل واحد منهما لصاحبه يُسلَّم إليه، وما اختلف فيه يقسم نصفين. فإذا فسَّر المقر بالشركة ما أراد، وقال: إنما أردت أنه شريكي في هذا العبد بالربع. وقال المقرُّ له: بل بالنصف. فالربع لهذا أو (1) النصف لهذا، اتفقا عليه. وبقي الربع المتنازع فيه يتحالفان ويقتسمانه نصفين.
ولأجل أن المقرّ بالشركة في عبد في يديه قد تضمن إقراره كون المقَرّ له يده معه على العبد حكمًا لإقراره له بملك جزء منه، فيجري له أمر (2) فيه على ما أشرنا إليه من أحكام التداعي في هذا.

والجواب عن السؤال الثالث أن يقال:
قد تقرر في الشرع منع البيع والسلف. فإذا شرط المشارك في سلعة على من أشركهُ فيها أن ينقد عنه ثمن نصيبه، فإن ذلك ممنوع، لأنه إذا اشترى سلعة لنفسه، ثم سأل شركة فأنعم له بشرط أن ينقدَ جميع الثمن، فإن ذلك بيع وسلف في النصف الذي سلمه إليه، وسماه شركة بيع باعه منه، واشترط في عقد هذا البيع على أن ينقد عنه البائع ثمن نصيبه الآخر المختص به. وهذا اشتراط سلف، فإن البيع يوجب أن يُمنع. وأمّا إن كان اشتراط السلف من السائل في الشركة، فإنه لا يخلو أن يشترط ذلك في أصل المعاقدة على الشركة، أو يسأل فيه بعد المعاقدة عليها. فإن اشترطه في أصل الشركة لم يخل من أن يكون إنما وقع الشراء على الشركة، مثل أن يقول رجل لرجل: اشترِ سلعة كذا، وأشركني فيها، وانقد عني الثمن. أو يقول له: اشتر السلعة شركة بيني وبينك. فلما
__________
(1) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: (و).
(2) هكذا في جميع النسخ.

(2/216)


اشتراها قال له: انقد عني. فإن هذا إذا وقع الشراء عليه فإن المتولي للعقد كالوكيل للآخر على شراء النصف. والوكيل يجوز أن يوكل على العقد، وعلى أن يدفع الثمن من عنده سلفًا، إذا لم يقصد بهذا السلف منفعة نفسه. فإذا وقع عقد الشراء على أن السلعة التي اشتريت شركة بينهما جاز اشتراط الموكّل على الوكيل أن ينقد عنه. ولم ينفذ (1) هذا في عقد من العقود حتى الصرف، لأجل أن العقد إنما وقع على أن متولّيه لا يملك له نصف ما اشتراه بالنصف الآخر ليس هو بائع له فيقدر فيه البيع والسلف، أو تأخير في مناجزة فيما يجب التناجز فيه. وأما إذا لم يعقد البيع على الشركة بل عقَد متولي العقد لنفسه ثم بعد ذلك أشركَ فيها لمن سأله في الشركة، فإنه لا يجوز ها هنا اشتراط السائل في الشركة النقد حين سؤاله في الشركة، ولا بعد أن أنعم له بها، لأن ذلك يكون صرفا مستأخرًا، لأن الدنانير التي تطوّع مشتريها بها يشارك هذا فيها، ومن وجب عليه دفع ثمنها من الدراهم فصار جميعها له، فإذا أشرك فيها فإنه يكون بائعًا لنصفها بدراهم من الذي أنعم له بالشركة، فإذا لم ينقد له هذا السائل في الشركة ثمن النصيب الذي أشرك به صار باع منه دنانير بدراهم مؤخرة وذلك ممنوع. وأمّا إن كانت هذه الشركة وقعت في عروض معينة حاضرة، فإنه يجوز للسائل اشتراط النقد عنه حين سؤاله في الشركة والإنعام له بها، وبعد أن ينعم له بها فيسأل في النقد عنه؛ لأن ذلك بيع العروض الحَاضرة بثمن مؤخر، وبيع عروض حاضرة بثمن مؤجل لا بأس بذلك. فلهذا أجيز هذا على الإطلاق، ومنع الصرف على الإطلاق في هذا الوجه الذي ذكرناه. وأما إن كانت العروض سلما في الذمة فإنه لا يجوز أن يسلم في الشركة بشرط أن ينقد عنه؛ لأنا قد قررنا أن الجزء الذي أنعم له بالشركة به بيع من هذا المشارك الذي أنعم بالشركة. وقد قدمنا أن بيع دين مستقر في الذمة لا يجوز تأخير ثمنه، على ما ذكره في المدونة. وذكرنا عن كتاب ابن المواز أنه يجيز اشتراط تأخيره اليوم واليومين، كما يجوز في رأس مال
__________
(1) هكذا في و. يتقد في ش.

(2/217)


السلم. وكذلك الحكم ها هنا في هذه الشركة لما قدّمناه من تجويز من له السلم بائعًا نصفه، فيعتبر في هذا ثمن (1) الدين المبيع ما ذكرناه. وأما إن سأل له (2) في الشركة، فأنعم له بها المسؤول ثم بعد ذلك سأله أن ينقد عنه، فإن هذا ينبغي أيضًا أن يمنع لما أشرنا إليه من كون ثمن الدين المبيع لا يجوز تأخيره بشرط أو غير شرط، وقع في أصل العقد. ومن شرطه صحة المناجزة كما قدمناه وبيّنا رتبته في تضمين المناجزة مع غيره فيما يشترط فيه التناجز. لكن ذكر ابن المواز فيمن أسلم في طعام فسأله رجل أن يشرك فيه فأنعم له، من بعد ذلك سأله أن ينقد عنه، فإنه يمنع من ذلك إذا كان قد نقد جميع الثمن. وأما إذا لم ينقد الثمن فإنه ذكر المنع من السؤال في النقد. وذكر في موضع آخر من كتابه (من ذلك) (3) جواز ذلك، وقدر أن هذا الذي تولى العقد إذا تولاه لنفسه، ولم ينقد ثمنه حتى سأله آخر في الشركة فأنعم له بها، فإن النقد صار عليه وكل من شركهُ. فكأنه تطوّع بعقد وجب عليه للبائع، فلم يمنع من ذلك، كما لو عقد السلم شركة بينه وبين هذا حتى يصير كالوكيل به، فإنا قدمنا جواز النقد عن هذا الموكل، وكذلك ها هنا يقدر أنه إنما نقد عنه ما وجب لبائع الطعام عليه، وهذا النقد لا يتضح لأن الثمن إنما وجب لبائع الطعام على مشتريه الذي أسلم فيه، ولا يستحق مطالبة هذا الذي سأل في الشركة فيه بحكم مقتضى العقد.
ولو كانت هذه الشركة في طعام معين حاضر اشترط حين سؤاله في الشركة أن ينقد عنه، لكان هذا ممنوعًا، لكون الثمن المؤخر أقل في القيمة من الثمن المنقود، فصارت الشركة انعقدت على خلاف رأس المال.
ولو سأله في الشركة فأنعم له بها ثم سأله بعد ذلك في أن ينقد عنه، لجاز ذلك؛ لأن تطوعه بالشركة إحسان ومعروف واتبع هذا "الإحسان بإحسان آخر
__________
(1) في (ش): الثمن.
(2) ساقطة في (ش).
(3) بين القوسين ساقط في (ش).

(2/218)


وهو النقد عنه. وقد قيل: إنه لا يجوز. وهذا إن كان قد نقد جميع الثمن، وكأنهما اتهما في هذا القول على أن يكونا أبطنا عقد الشركة على شرط النقد وأظهرا خلاف ذلك.
وإذ قد نجز القول في الممنوع من بيعه قبل قبضه من الأطعمة، وفي المرخص فيه، فليعلم أن البيع للطعام قبل قبضه لما نهى الشرع عنه وقع العقد فيه فاسدًا لمخالفة الشرع. فإذا فسد وجب ردّه. فإذا كان الطعام المبيع قبل قبضه حاضرًا ونقض البيع فيه رد بعينه إلى يد بائعه إن كان قبضه منه المشتري أو أبقاه في يديه إن لم يقبضه منه المشتري، وسقط الثمن عن المشتري إن لم يدفعه أو يرد إليه إن كان قد دفعه. وإن كان الطعام المبيع قبل قبضه غاب مشتريه بهذا الطعام ولم يمكن ردّه من يديه فإنا إذا نقضنا البيع بإخراج الثمن واشترينا به طعامًا مثل الذي بيع قبل القبض (1) ذلك لبائع الطعام عروض طعامه الذي وجب رده عليه. فإن كان ما اشترى (2) باعه فقد تحقق الفسخ، ولا تراجع بين هذا المشتري والبائع. فإن نقص الثمن المأخوذ منه عن الطعام الذي نقصان ردّه عليه كان ما نقص من المكيل دينًا على المشتري يطلب به إذا وجد. وإن كان الثمن المأخوذ يزيد على ما يشتريه من الطعام للبائع لم يشتر له من الثمن إلا مقدارَ ما باعه، ومما بقي من الثمن يوقف للمشتري الغائب. هكذا ذكر ابن المواز في كتابه، واقتصر على رد هذا الطعام إلى يد بائعه قبل أن يقبضه وهو (3) ممن باعه منه أيضًا، وقدّر أن هذا الكيل الذي رددنا له عليه الطعام المبيع يكتفي به عن قيل البائع له هذا الطعام الذي باعه منه؛ لأن البائع لم ينقد في بيعه، وإنما بقي عليه التوفية بالكيل ليتميز المبيع من ملكه، وينتقل إلى ضمان المشتري منه. وهذا الكيل الذي (أكيل قضى من مشتريه الغائب يقبض) (4) فيه بالكيل على
__________
(1) فراغ مقدار كلمة، ولعلها: رُدَّ.
(2) كلمتان غير مقرؤتين ولعلهما: مساويًا لِمَا.
(3) هكذا في النسخ، ولعل الصواب حذف الواو.
(4) هكذا في النسخ.

(2/219)


رده إلى يد البائع الثاني الذي باعه قبل قبضه، لكون هذا الكيل قد ميّز له هذا الطعام من ملك البائع، وعلم به أنه قد استوفى جميع ما باعه منه البائع. (ولو رددناه إلى يد البائع الأول لم يقرّ في يده حل لغيره إلى هذا البائع الثاني الذي اشتراه منه) (1)، فلم يكن في هذه الإعادة إلى يد البائع الأول، فسقط اعتبارها ولم يأمر بها. لكن أمر بها في السليمانية على جهة الاستحسان، ورأى أن هذا الطعام، الذي يشترى بحكم القاضي على الغائب، إنما اكتيل بحق البائع الثاني حتى يرد إليه ما باعه بيعًا فاسدًا، ويتحقق النقض فيه والفسخ له. فإذا صار في يديه بقي ما كان على البائع الأول من التوفية، فيجب أن يرد ذلك إليه حتى يسلم إلى مشتريه فيكون حينئذ مشتريه كالبائع له بعد أن قبضه، وقدّر في هذا القول أنا إذا رددناه إلى يد هذا البائع الثاني، وهو مشتريه الأول، وسلطناه على بيعه والتصرف فيه من قبل أن يصيّره إلى يد البائع الأول، صرنا كالممكنين له من التصرف في الطعام وبيعه قبل قبضه. وقد روي في الحديث أنه عليه السلام نهى عن بيع الطعام حتى يَجري فيه الصاعان: صاع البائع وصاع المشتري (2). وهذا يقتضي ظاهره ألا يمكن المشتري الطعامَ من بيعه حتى يكتاله عليه البائع، ويجري صاع البائع فيه، ثم من بعد ذلك يَجري صاع المشتري فيه إذا باعه من آخر مكيل له عليه.
__________
(1) هكذا في جميع النسخ.
(2) نيل الأوطار ج 5 ص 260.

(2/220)