شرح التلقين

فصل اعتبار الملك للطعام الممنوع بيعه قبل قبضه.
اعلم أن الطعام يملك من طرق مختلفة. وليست كل الطرق يمنع فيها من بيع الطعام قبل قبضه، ولا كلُّها يباح له ذلك فيها. فوجه اتباع لفظ صاحب الشرع في هذا وهو - صلى الله عليه وسلم - قال: "من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه" (1) فاقتضى هذا أن من ملكه، بوراثة أو هبة أو اقتراض أو من مغنم أو من صدقة، فإنه لا يمنع من بيعه قبل قبضه، إذ لو كان ذلك ممنوعًا لقال "من ملك طعامًا" ولم يقل "من ابتاع طعامًا" وتقييد التحريم بالبيع. وهذا يتضح الاستدلال به مع القول بدليل الخطاب، مع أنا كنّا قدمنا أن الشافعي منع من بيع كل شيء قبل قبضه، للحديث الوارد بالنهي عن ربح ما لم يضمن (2). ونحن خصصنا بهذا الطعام خاصة وقد تقرر أن من وهب طعامًا أو ورثه فإنه غير ضامن له، والحديث يشير إلى التعليل في منع البيع بالضمان، وبسطنا هذه العلة، وقلنا: إن الطعام إذا اشتُري ولم يكتل فإنه معرض للتلف، وإذا تلف انفسخ العقد، وانفساخه يتضمن أن العقد لم يحصل فصار البيع قبل الكيل فيه غرر بكونه باع ما لا يدري هل يستقر عقده عليه أم لا، ومن ورث طعامًا أو وهب له فإنه لم يحصل ذلك بعد معاوضة فيكون معتبرًا به الغرر في حصول الملك، مع كون التهمة في كون هذا الطعام المبيع يتحيّل فيه على سلف بزيادة لا يتصور في الهبة والميراث، فروعي الغرر في عقد البياعات، ولم يراع في الهبات، وأمكن التحيّل على ما لا يحل
__________
(1) تقدم تخريجه.
(2) جزء من حديث - أخرجه أحمد: 2/ 174 والترمذي: حد: 1234. وأبو داود: 3504.

(2/229)


في البياعات، ولم يمكن في المواريث والهبات، افترق الحكم في ذلك. لكن ربما منع الوارث والموهوب من جهة أخرى، وهو كونه يحلّ محل من صار ذلك إليه من جهته.
فإذا ورث طعامًا أسلم فيه أبوه، ولم يقبضه فإن الوارث يمنع من بيعه قبل قبضه؛ لأنه إنما يورث المال على ما هو عليه، وقد كان هذا المال ممنوعٌ بيعه قبل قبضه على أبيه، فسرى هذا الحكم إلى الولد الوارث.
وكذلك من وهب طعامًا أسلم فيه أو تصدق به فإن الموهوب له هذا الطعام والمتصدق عليه يمنعان من بيعه قبل قبضه، لكون من كان ذلك الطعام له ممنوعًا من بيعه قبل قبضه. لكن ذكر مالك في كتاب ابن حبيب أن الصدقة والهبة أخف، وقدر أن يد الواهب قد زالت عن هذا الطعام بالهبة ولم يبق له به تعلق، ومن صار الطعام إليه ليس بمبتاع، فلم يتأكد عنده منعه من البيع. كما فيمن اقترض هذا الطعام لأن يد المقرض باقية على هذا الطعام حتى يصير لمن اقترضه، ولو هلك قبل أن يقبضه المقترض، أو لو قبضه المقرض ثم أراد (1) لم يكن على المقرض شيء ولا مطالبة به. (فأشعر ذلك بأن يد المقرض باقية عليه حتى يقبضه المقترض، فإن قبضه المقرض ثم أراد المقرض أن يبيعه قبل قبضه لمنع من ذلك) (2)، لكونه بائعًا لطعام ملك أصله من بيع ولم يقبضه هو ولا وكيله، فلا يسوغ البيع له. ووقع في الموازية (3) جاء هذا في قليل من كثير، ورأى أن القليل من هذا السلم لا يمنع مقرضه من بيعه قبل قبضه إذا كان أكثر لم يبعه حتى قبضه، لا سيما أن المقرض قد يتصور فيه أنه كالوكيل للمقترض على القبض، لأنه إنما يصير في ذمته بعد قبضه له وتمكنه منه، فصار في القبض كالنائب عن المقرض.
وقد ذكر في الموطأ بيع صكوك الجار، والمراد أنهم كانوا يكتب لهم
__________
(1) هكذا في جميع النسخ.
(2) ما بين القوسين هكذا في جميع النسخ.
(3) فراغ بمقدار كلمة في جميع النسخ.

(2/230)


أَعطياتٌ في صحائف، وهي الصكوك، فيبيعونها، فنهى عن بيعها قبل قبضها لمن أعطيت له صلة (1). وهكذا رأى مالك الأرزاق التي كانت تفرض لأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - فيجوز بيعها قبل قبضها. لكن ما فرض للقضاة والمؤذنين فإنه يمنع من بيعه قبل قبضه لأنه في معنى عقود المعاوضة.
وهذا الكلام في الأطعمة المملوكة بعقد معاوضة مالية على الحقيقة، كمن اشترى طعامًا بعين أو بعرض، فإن العرض والعين مال على الحقيقة. فأمّا النكاح على الطعام فإن الزوجة أيضًا تمنع من بيعه قبل قبضه، وإن لم يتضح كون الانتفاع ببضعها مالًا على الحقيقة، لأن الزوج لا يمكن من بيعه كما يمكن من بيع ما ليس له من منافع الرباع والعبيد وغيرهالأولكن لما منع الشرع النكاح إلا بمال أُلحق بالعقود المالية. وأما الخلع فإنه أيضًا يمنع فيه من بيع الطعام قبل قبضه الذي خالع عليه الزوج؛ لأنه أخرج عن ملكه منافع البضع بالطعام الذي أخذ، كما ملكته هي منافع البضع بالطعام الذي أخذت، وإن كان النكاح أوضح لكونه لا يجوز بالغرر، ويجوز الخلع بالغرر على أحد القولين.
وأما دم العمد فإذا صولح فيه على طعام فإنه يمنع أيضًا من بيعه قبل قبضه. وهذا يتضح إذا قيل إن لولي القتيل أن يجبر القاتل على الدية إن لم يرض بدفعها للقاتل (2)، لأنه يكون على هذه الطريقة كمن أخذ طعامًا عن مال وجب له على رجل.
وأما الكتابة على طعام فإنه لا يجوز للسيد أن يبيعه، قبل قبضه له، من غير عبده؛ لأن الطعام ها هنا كالعوض عن رقبة العبد فهي معاوضة مالية، فلحقت بالبيوع والعقود المالية. وأما بيعه قبل قبضه من المكاتب إن عجل عتقه بهذا البيع جاز ذلك، كما يجوز غير هذا مما يحرم في المعاوضات، إذا عجل للسيد مما أخذ عن الكتابة عتق عبده، لأجل حرمة العتق ومعرفة (3) السيد على
__________
(1) الموطأ: 2/ 168 حد: 1867.
(2) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: له.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: مَعُونة.

(2/231)


تحرير رقبته، والعبد على التخلص من أسر الرق، فبعُد ها هنا تصور المكايسة من السيد وعبده. وإذا كان القصد الرفق والمعروف تغيرت الأحكام في العقود، كالعرايا التي رخصت فيها، واستثنيت من الأصل المحرم لما كان القصد فيه الإحسان والمعروف، على ما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله.
وأما لو باع نجمًا واحدًا من الطعام وبقي العبد مطلوبًا ببقية النجوم فإن في هذا اختلافًا: هل يمنع لفقد الدلالة على أنهما لم يقصدا المكايسة أو يجوز لكون الكتابة ليست بدين ثابت فيصير في ذمة المكاتب، على ما سيرد بيانه في كتاب المكاتب إن شاء الله.
ويلحق بما نحن فيه من تفصيل حال المالك تفصيل حال المالكين فإنه قد منع في كتاب الصلاة من المدونة أن يشتري المسلم من النصراني طعامًا اشتراه النصراني وأراد بيعه قبل قبضه، ورأى أن قوله عليه السلام "من ابتاع طعامًا ... " الحديث، يخاطب به النصراني، كما يخاطب به المسلم، بناء على القول بأن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، ومعاقبون في الآخرة على معصية الأوامر التي توجهت على المسلمين، وتوجهت عليهم ولكن بشرط أن يقدموا الإيمان. وإذا كان النصراني عاصيًا في هذا الفصل لم ينبغ لمسلم أن يعينه على معصية، فلهذا نهى مالك رضي الله عنه أن يشتري من النصراني طعامًا لم يقبضه.
وقد عورض هذا بأن أم الولد النصراني إذا أسلمت بيعت عليه، مع كونه مخاطبًا بأن لا يبيع أم ولده على هذه الطريقة، وإذا بيعت عليه فقد أعين على معصية في أخذ ثمنها.
وقد يعتذر عن هذا بأن بقاءها في ملكه محرم أيضًا فعدل عنه إلى ما هو أخف منه وهو بيعها لأجل الضرورة الداعية، ولا ضرورة بالمسلم في شراء طعام من نصراني لم يقبضه. ولعلنا أن نبسط الكلام في بيعها إذا أسلمت في موضعه إن شاء الله تعالى.

(2/232)


فصل
يلحق بالحق فيه بذكره لأجل ذكره في المدونة وهو أن من باع طعامًا على الكيل والوزن فإن ضمانه منه حتى يكيله لمشتريه أو يزنه له. وإنما كان ضمانه من البائع حتى يكال أو يوزن، لأجل أن على البائع تمييز البائع (1) عن ملكه وتمكين المشتري من قبضه. ولا يتأتى هذا إلا أن يميز هذا الطعام المبيع ويعلم مبلغه، ولا يعلم ذلك إلا بأن يكال أو يوزن. فلهذا كان على البائع ضمان ما بيع على الكيل أو الوزن أو العدد، حتى يوفيه من ذلك ما عوقد عليه من قيل أو وزن أو عدد. فإذا باع صبرة طعام على الكيل، وتبين أن عليه ضمانها وكيْلَها، فإنه إذا لم يفعل ذلك حتى هلكت فإنه لا يخلو أن يكون هلاكها بأمر من الله سبحانه لا صنع لأحد من الناس فيه أو يكون هلاكها من جهة الناس، إما البائع أو المشتري أو أجنبي. فإن كان هلاكها من الله سبحانه من غير صنع الإنسان فيها، فإن البيع ينفسخ لأنه إنما باع طعامًا معينًا، وليس عليه أن يخلفه إذا هلك؛ لأن خلفه ليس هو العين المبيعة فلا يلزمه، وقد يكون في غير (2) ذلك الطعام غرض لا يوجد فيما سواه فيكون العقد مقصورًا على عينه، فإذا ذهبت العين بطل العقد.
وإن كان تلفها من عند إنسان، وكيلها قد عرف، فإن على متلفها غرامة مثلها، إن كان أجنبيًا أو هو البائع لها، وإن كان مشتريا عند (3) ذلك كالقبض لما أتلف.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: المبيع.
(2) هكذا، ولعل الصواب: عين.
(3) في جميع النسخ: عِنْدَ، ولعل الصواب: عُدَّ.

(2/233)


وإذا وجب غرم المثل على البائع أو على أجنبي أتلفها فالبيع منعقد.
وإنما بقي منعقدًا ها هنا، بخلاف تلفها من قبل الله سبحانه، لأن الأجنبي إذا غرمناه مثلها وجبرناه عليه بحكم الشرع صارت الصبرة المتلفة كأنها لم تتلف، لكوننا قد جبرنا متلفها ها هنا على رد مثلها مكانها، فلا مضرة على البائع في بقاء العقد على ما هو عليه. والمشتري إذا اجتهدنا في القضاء على متلفها في إحضار مثلها على حسب ما كانت عليه فكأنه لا ضرر عليه في إلزامه أخذ هذا عن المتلَف (1). ولهذا ألزمنا متلف طعام عرف كيله غرامة مثله، ولم يكن مقال لصاحب الطعام إذا أخذ مثل طعامه، لأنّا بالغنا في الاجتهاد في نفي الضرر عنه، لا سيما وهذا الذي أتلف صبرة مبيعة قد علم كيلها قد أبطل حقًا على البائع، وهو حل عقدته، وإبطال صفقته، وحقَّا على المشتري تعلق بعين الطعام الذي اشتراه. فإذا أغرمنا المتلف مثل المكيلة فقد قام بما عليه من الحقين: حقّ البائع في أن لا يُحل عقدُه، وحق المشتري أيضًا في ذلك. وإذا تلفت بأمر من الله سبحانه، وطلبنا البائع بغرامة مثلها أضررنا به لإمكان أن لا يكون عنده ما يشتري به صبرة أخرى، وإذا لم يوجب عليه ذلك أشعر ذلك بانحلال العقد، فلا يلزم المشتري أيضًا قبول مثلها، وإن تطوع البائع بغرامة مثلها. هذا قصارى ما يمكن أن يذكر من وجه التفرقة بين التلف من قبل الله سبحانه أو التلف من جهة الأجنبي لأجل أن السّابق إلى النفس أن الطعام إن كان يراد لعينه كالعروض فإن العقد ينفسخ بتلف المبيع، كان تلفه من قبل الله سبحانه أو من قبل رجل أتلفه؛ وإن كان لا يراد لعينه كان القضاء بمثله هو الأصل كما يقضى في الدنانير والدراهم. لكن ما ذكرناه هو العذر عن التفرقة بين التلف من قبل الله سبحانه أو من قبل أحد من الناس .. وإن لم تتقدم معرفة بكيل الطعام فتلفه من قبل الله سبحانه يحلّ العقد أيضًا كما قدمناه.
فإن كان تلفه من قبل المشتري فإنه يعدّ ماضيًا لما يتحرى فيه من المكيلة.
__________
(1) في (ش): هكذا.

(2/234)


وإن كان تلفه من البائع أو أجنبي افترق الحكم: فأما تلفه من قبل البائع فإنه يتحرى مثل الطعام في الكيل فيغرمه البائع ويَقضيه المشتريَ ويتم العقد بينهما بقبضِه لذلك: وأما إن أتلفه أجنبي فإنه لا يتحرى المكيلة ها هنا بل تلزمه القيمة. وقد تكلم الأشياخ على الفرق بين هذين لأجل أن البائع عليه غرامة ما أتلف، فتعلق حق المشتري به. وكذلك على الأجنبي لتعلق حق صاحب الطعام عليه في المطالبة بغرامة ما أتلف. فإما أن يكون التحري واجبًا فيهما كما يجب رد مكيل ما علم من المكيلة فيهما جميعًا إذا أتلفاه، أوْ لا يكون التحري ها هنا يقوم مقام العلم بالمكيلة، فيكون الواجب القيمة كما يجب في إتلاف العروض التي ليست بمكيلة ولا موزونة.
وقد اعتذر عن هذين (1) منها: أن البائع يمكن أن يعلم قيل الصبرة التي باع، ويكتم ذلك حتى تلزمه القيمة إذا أتلفها، ليشتري بالقيمة طعاما أقل مما كان في الصبرة من الكيل، ينصر فإن (2) هذا الضرر عن المشتري بأن يُتحرى ما فيها فإذا كلف غيره التحريَ مما (3) لا يتهم ارتفع الضرر عن المشتري.
وهذا الاعتذار مبناه على التهمة، وهي ها هنا لا تتضح.
واعتذر بعض الأشياخ بعذر آخر، وهو أن الأجنبي إذا أتلف هذه الصبرة فألزمناه مثلها تحريًا، فإنا لا نأمن أن يغلط في التحري، فيَلزمه أكثر مما أتلف أو أقل، فيكون هذا يوقع في إباحة التفاضل بين طعامين مثليَّيْن مما فيهما الربا.
واعتذر بعض الأشياخ عن هذا أيضًا، بأن الغلط في التحري لا يظهر فيه كبير ضرر بالبائع؛ لأنه يأخذ ثمن ما أغرمناه تحريًا، فإن نقص أو زاد عن تلك الصبرة علة (4) لم يذهب من ماله شيء بغير عوض. والأجنبي إذا غلطنا عليه في
__________
(1) فراغ في جميع النسخ بمقدار كلمة، ولعلها: بوجوه.
(2) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: ينصرف.
(3) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: ممّن.
(4) هكذا في جميع النسخ.

(2/235)


التحري أضرّ به؛ لأنه قد يذهب ماله بغير عوض إذا رددنا عليه مقدار ما أتلف.
وإذا تقررت هذه الفروق المذكررة بين البائع والمشتري، وكان الواجب أن يقضى على الأجنبي بالقيمة فماذا يصنع بهذا؟ أما ابن القاسم فإنه ذهب إلى أنه يشتري بهذه القيمة طعامًا (هل المنع) (1) المتلف فيقبضه المشتري على حسب ما ذكر في المدونة. وروي في غير المدونة عن أشهب مثل هذا. لكن ينبغي أن يعلم إذا ثبت على هذا المذهب أن هذه القيمة إذا أردنا أن نشتري به طعامًا فوجدنا السعر قد تغير فإنه إن كانت هذه القيمة يشترى بها أكثر من المكيلة التي وقع التعاقد عليها، فإنا لا نشتري إلا مقدار المكيلة، ويبقى ما فضل من القيمة لبائع الصبرة، لأن ضمانها كان منه فربحها له، وإن اشترى بها أقل من المكيلة التي وقع التعاقد عليها، فإن ذلك يجري مجرى الاستحقاق، والاستحقاق في الطعام إذا كان في اليسير منه لم يكن للمشتري فسخ العقد، لأجل ما استحق، وإن كان في الكثير كان له فسخ العقد.
فكذلك العاجز ها هنا عن مقدار المكيلة التي تعاقدا عليها، ينظر فيه هل هو كثير فيكون للمشتري فسخ العقد، أو يسير فلا يكون له فسخ، وإنما يكون له أن يحط من الثمن مقدار ما عجز عن ما وقع التعاقد عليه؟ ولا يغير هذا الحكم كون هذا العاجز (2) ليس من قبل البائع بل هو من قبل الله سبحانه، فيجب ألا يكون للمشتري مقال في فسخ العقد لأجل العاجز (1) قلّ أو كثر، كما لا يكون له مقال في الثمرة إذا أُجيحت جائحةً أتت على أكثرها. بل تُوبعَب له مقال ها هنا في هذا العاجز (1) عن مقدار ما تعاقدا عليه من الكيل إذا كثر. كما لو اكترى دارًا فانهدم الكثير منها، أو اشترى جاريتين فماتت في المواضعة أرفعهما، فإن للمشتري مقالًا، وإن كان الموت والهدم من قبل الله سبحانه. وسنتكلم على أصول هذه المسائل إن شاء الله عند كلامنا في الاستحقاق وحكمه.
__________
(1) هكذا في جميع النسخ.
(2) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: العجز.

(2/236)


ولو كان هذا الأجنبي المتلف لهذه الصبرة معسِرًا لكان من حق المشتري أن يفسخ العقد، ولا يلزمه انتظار يسر هذا المتلف، بل يكون هذا مما له الخيار فيه إن شاء صبر، وإن شاء فسخ، كعيب يجده المشتري، إن شاء رضي وإن شاء فسخ العقد. ولو تطوع ها هنا البائع بأن يشتري طعامًا بالقيمة لارتفاع (1) خيار المشتري في هذا لارْتفاع الضرر به، لوجود المبيع يقبضه في الحال. وذكر ابن المواز عن أشهب أن هذا المتلف إذا أغرمناه القيمة انفسخ عقد المشتري، إلا أن يقر هذا المتلفُ بمكيله لكونه قد علم مقدار ما أتلف، فإن بائع الصبرة بالخيار إن شاء كذبه وأخذ منه القيمة، وإن شاء صدقه وأخذ منه المكيلة بعد أن يستحلفه عليها. ثم يكون للمشتري الخيار في أخذ المكيلة أو المطالبة بالقيمة وبأن يشتري له بها طعامًا، أو يفسخ البيع عنه.
وما ذكرناه عن أشهب من وجوب انفساخ البيع إذا ألزمنا المتلف القيمة فإنما ذلك لِما تقدمت الإشارة إليه من كون إلزامنا متلف ما عُلِمت مكيلته على المكيلة يقدر فيه أن المكيلة التي وقع التبايع فيها كأنها لم تتلف. وإذا ألزمناه القيمة فلا شك أن القيمة ليست مثل المكيلة المبيعة وإذا لم تكن مثلها فقد تلف المبيع ولم يحضر ما يسد مسدّه، فوجب فسخ العقد هنا مع كون البائع إذا ألزمناه الشراء بالقيمة وحَلِفه ذلك (2)، ألحقنا به ضررًا لم يلزمه في عقد البيع، فيمنع من تكلف الشراء بالقيمة لما عليه في ذلك من مشقة، فكان له فسخ البيع لأجل هذه المشقة. كما قيل فيمن اشترى طعامًا واطلع على عيب بعد أن أتلفه: إن شاء أخذ القيمة فيه للعيب، لأجل ما يتكلفه من المشقة في شراء الطعام المعيب، وإن شاء يكلفه شراءه ورد مثله. وكأن ابن القاسم يرى أن الضرر بالمشتري في فسخ عقده أشد من الضرر في إلزام البائع تكلف الشراء، فكان من حقه المطالبة بتمام العقد. وقد ذكرنا اختلاف أقسام هذه الأحكام وذلك (إذا ثبت كل قسم) (2).
__________
(1) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: لارتفع.
(2) هكذا في جميع النسخ.

(2/237)


فأما إن ثبتت دعوى تلف (الفسخ إلا) (1) بقول البائع: إنه تلف، فإن المنصوص من ابن القاسم في المستخرجة أنه يكلف إحضار قمح مثل ما تحريناه في المبيع، ويكال للمشتري. ومقتضى ما ذكره في هذا الأصل في كتاب السلم من المدونة أن يحلف على إتلافه من قبل الله سبحانه، وينفسخ البيع. فوجه تكليف غرامة مثله لتطرق التهمة إليه في أنه قدم على عقد البيع فيه فأخفاه، وادعى ضياعه، لينفسخ البيع وهو مضمون في الأصل عليه، فلم يسقط الضمان بدعوى أمر يتهم فيه. ووجه فسخ البيع إذا حلف أن ما ادعاه من الضياع لو ثبت لانفسخ البيع ودعواه لذلك ممكن صدقه فيها، ولا دليل يثبت هذه التهمة التي أشار إليها للآخرين، فلم يلزم بيع شيء لم يبعه بإمكان كونه كاذبًا في خبره. فذكرنا أيضًا حكم تلف هذا القمح المبيع على الكيل من قبل البائع وأوجبنا عليه غرامته. فلو كان باعه لم يجز لربه أن يجيز بيعه ويأخذ الثمن، لأنه يكون بيعًا للطعام قبل قبضه. وكذلك لو أكله لم يكن له أخذ عوض عليه سوى مثله؛ لأنه لو أُبيح له ذلك لكان بائعًا للطعام قبل قبضه، وذلك ممنوع.
هذا حكم الطعام إذا بيع على الكيل.
وأما إذا بيع جزافًا فإنه إن مكّن بائعه مشتريه من هذا الطعام سقط الضمان على البائع، وانتقل إلى المشتري، فيكون التعدي عليه تعديًا على مال المشتري، فيطلب بالقيمة من أتلفه، بائعًا كان أو أجنبيا. وإن احتبسه البائع بالثمن فإن ذلك جار على اختلاف قول مالك في المحتبسة بالثمن، هل يبقى الضمان على البائع لأنه لم يمكّن للمشتري من المبيع، أو لا يبقى عليه ويكون احتباسه كارتهان المشتري له؟ فإن قلنا: إن ضمانه من مشتريه، كان الحكم فيه ما قدمناه من الحكم فيه لو مكن بائعه مشتريه منه، سوى أن يكون التلف من جهة البائع وتعديه، فإنه قال ابن القاسم ها هنا: إن لمشتريه أن يفسخ البيع عن نفسه لما كان المنع من هذا البيع من جهة البائع، وله أن يطالبه بالقيمة. وذكر
__________
(1) هكذا في جميع النسخ.

(2/238)


في مثل هذا أيضًا أن قائلًا لو قال: تلزمه القيمة، قلّت أو كثرت، لم (1) مجرى القول في كون المشتري مستحق المطالبة للبائع بالقيمة. ورد القول في هذه الرواية الثانية في كونه لا يستحق الفسخ. ولو أتلفه البائع ها هنا ببيْعه له لكان للمشتري أن يجيز بيعه، ويأخذ الثمن؛ لأنه لم يبع على قيل أو وزن قد انتقل ضمانه إلى مشتريه، فأشبه العروض. وإن قلنا: إن ضمان هذا الطعام المحتبس بالثمن من البائع إن فسخ البيع، كان التلف من قبل الله سبحانه أو من أجنبي أو من بائعه، لكنه إن كان التلف من بائعه بأن باعه فإن تمكين المشتري من إجازة البيع وأخذ الثمن على هذا المذهب يختلف فيه ابن القاسم وأشهب، على حسب ما قدمناه من اختلافهما في الطعام الذي لم ينتقل عن ضمان بائعه وبيع على حدّ قيل أو وزن، كما بيناه من اختلافهما في بيع اللبن المشترى أمدًا معلومًا وهو غير موجود بل يؤخذ من ضروع الغنم.
__________
(1) كلمة غير واضحة في جميع النسخ ولعلها يجري.

(2/239)