شرح
التلقين فصل في المداينة
المشترط فيها القبض ببلد غير بلد المعاقد.
اعلم أن اشتراط القبض [ببلد بعينه يوجب الوفاء به إذا كان لمشترطه فائدة
فيه. ولما أن اتضح أن الدنانير والدراهم يتفق فيها أسعار البلاد وأغراض
أهاليها] (1) لم يجب عند أهل المذهب الوفاء بهذا الشرط، بل قصر على من باع
سلعته بدنانير أو دراهم وشرط قبضها ببلد سماه، وضرب لذلك أجلًا، أنه يحكم
على المشتري بدفعها إذا حلّ الأجل حيث ما كان من البلاد، إذ لا فائدة له في
التأخير إلى البلد المشترط حين العقد. ولهذا أيضًا احتيج في صحة هذا البيع
اشتراط الأجل؛ لأن ذكر البلد لما كان ملغىً مطَّرحًا لا يقضى به، صار ذكره
كالعدم. فإذا لم يذكر الأجل فسد البيع، لكون البيع على ثمن مؤخر إلى أجل
غير معلوم، ولم يجعلوا مسافة البلد كأجل معلوم، لما كان ذكره لا يقضى به،
فصار مشترطه كأنه لم يشترط بلدًا، وباع بثمن مؤخر إلى أجل غير معلوم.
ولو كانت الدنانير المبيع بها هذه السلعة معينة غائبة ببلد معلوم، عقد
البيع عليها، لصحّ ذلك إن اشترط حلفها (2)، وصار كبيع بدنانير في الذمة لما
اشترط حلفها (2). وإن لم يشترط حلفها (2) ففي صحة البيع قولان.
وقد استحب ابن المواز ها هنا ذكر الأجل، ولم يوجبه كما أوجبناه في العقد
على دنانير في الذمة، لأجل أن البيع وقع ها هنا على ثمن معين (من حق مشترط
تعينه ألا يلزم غيره) (3) يقدَّر ها هنا مسافة البلد كذكر الأجل لما تعلقت
المعاوضة بأمر معين غائب، بخلاف ما كان في الذمة.
__________
(1) ما بين المعقوفين ساقط من (و).
(2) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: خلفها.
(3) هكذا في جميع النسخ.
(2/240)
وقد عورض في هذا الاستحباب بأنه لا فائدة
فيه، لأن الأجل إذا حلّ قبل الوصول لم يجب إخراج مال من الذمة بوقوع العقد
على معين، وإن لم يحلّ وقد وصل ولا فائدة في تأخير هذا المعين ومنْع مستحقه
من القبض، فصار استحباب الأجل ها هنا لا معنى له.
وقد يعتذر عن هذا بأنه لما ذهب بعض أصحاب مالك إلى أن الحكم الخلف لهذه
الدنانير وإن لم يشترط ذلك حين العقد، صار عب (1) ما عقد عليه من دنانير في
الذمة ولكنها لم يكن حكمها الأجل المعين (ما قبض) (2) على الاستحباب.
ولعلنا أن (نشترط) (3) الكلام على هذا في موضعه إن شاء الله. وأما إن لم
تكن هذه المعاملة على دنانير أو دراهم في الذمة أو معينة غائبة، بل كانت
على سلع اشترط قبضها ببلد آخر، ولكنها في الذمة، فإن هذه السلع إن كانت مما
لها حمل ومؤونة وجب الوفاء بهذا الشرط، وأن لا يلزم مشترطَها القضاءُ بغير
البلد المشترط. وإن كانت لا حمل لها ولا مؤونة، كاللؤلؤ والعنبر، وما يخف
حمله، فإن الظاهر من المذهب أيضًا أن الحكم فيها كالحكم فيما يقتضى إلى حمل
(4). وذكر في كتاب ابن المواز أنه لا يعتبر حكم البلد إذا تلاقى المتبايعان
ببلد سعر اللؤلؤ والعنبر فيه أرخص من سعره في البلد المشترط، فإن من حق
المطالب لهذا الدين أخذه حيث تلاقيا، لأن ذلك أرفق بالمطلوب، وأهون عليه.
وإذا كان المذهب القضاء بالوفاء بالشرط ببلد معين، فإن البيع ينعقد ها هنا
ويصح، وإن لم يضربا أجلًا، لما (5) ذكره للبلد ها هنا مفيدًا، ويجب القضاء
به، ولم يكن ملغى في المعاملة. وإذا وقعت بدنانير أو بدراهم، واكتفي بذكر
المسافة عن ذكر الأجل، فذكر ابن القاسم في سماعه أن
__________
(1) هكذا في جميع النسخ. ولعلها: عين.
(2) هكذا في جميع النسخ.
(3) هكذا في جميع النسخ. ولعل الصواب: أن نبسط.
(4) هكذا في جميع النسخ. ولعل الصواب: الحملَ.
(5) هكذا في جميع النسخ. ولعل الصواب: إضافة: كان، فيصير: لما كان ذكره.
(2/241)
مالكًا سئل عن هذا فقال: أَحَالُّ هو؟ قيل:
نعم. فأجازه. فكأنه أشار إلى أن الاكتفاء بذكر المسافة عن الأجل إذا عقد
البيع على الحلول، وهذا لا يحسن الخلاف فيه؛ لأنه لو عقد على التأخير
المجهول لم يصح، وإنما يصح إذا عقد على أنه يبتدىء في الخروج إلى البلد
بفور العقد. وقد قال فضل بن سلمة في العروض أنها مثل الدنانير، لا بد من
ذكر الأجل فيها وأن يكتفي بذكر البلد.
ولعله قدّر أن تعجيله للخروج لا يقتضيه القضاء (1) ولا العادة، فالمسافة
حينئذ لا تغني عن ذكر الأجل، بل يكون الاقتصار عليها يتضمن غررًا وجهالة في
الثمن، إذ لا يدري متى يختار المشتري الخروج.
وقد ذكر ابن أبي زمنين أن الاقتصار على المسافة إنما يصح إذا كان السفر إلى
البلد المشترط القضاء به في البرّ، وأما إن كان في البحر لا يصح ذلك فيه،
ولا ترتفع الجهالة بذكر المسافة، إذ هو بحكم الريح، ولا يدري المدة التي
يصل فيها.
وإذا تقرر عندك أن النكتة التي تدور عليها هذه المسائل اعتبار العوائد في
الشروط فإنه قد يتّفق الدنانير والدراهم أغراض في البلد المشترط، فيجب
حينئذ الاقتصار عليه كالعروض. وهذه الأغراض ذكرها على الجملة أَوْلى من
تفاصيلها؛ لأنها قد تنضبط البواعث على هذه الأغراض. وإذا وجب الاقتصار على
البلد المشترط فحالَ دونه مخالف، وانقطعت سبله، فإن هذا قد يجري على ما
قدمناه لك فيمن أسلم في ثمرة فانقطع إبّانها هل له الفسخ أم لا؟ ولو ثبت
الدّين في الذمة، وحل أجله، وتعين مكانه، فبذله من هو عليه، فقال الطالب:
لا آخذ، لأني إن أخذته أخذ مني بالبلد العالية (2). وقال من هو عليه: وأنا
أتخوّف أيضًا إن أخذته (3) أن تأخذه منّي يدٌ عادية. فإن هذا حق من هو عليه
أن يبرأ منه، ولا يلزمه صيانة مال مسلم بإتلاف ذلك المال من مال نفسه. لكن
__________
(1) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: اللفظ.
(2) هكذا، ولعل الصواب: العادية.
(3) هكذا في جميع النسخ ولعل الصواب إن لم تأخذه.
(2/242)
لو لم يتخوف من عليه الدّين من أن يطلبه
اليد العالية (1)، فإن بعض أشياخي مال إلى أنه من حقه التعجيل.
وهذا فيه نظر، لأنه إذا لم تكن عليه مضرة في تأخير قضائه صار (2) بذلك
المطالبة مع كونه يؤخذ منه ظلمًا، كإتلاف مال مسلم مع القدرة صيانة (3).
لكن لو لحقته في هذه مضرة كان هذا في موضع الترجيح. وقد ذكر في المدونة
الحميل بالوجه إذا سلمه من تحمل به في موضع لا تأخذه الأحكام أنه لا يبرأ
لكونه تسليمًا لا يفيد. وإذا تعين القضاء بالبلد المشترط، فإنه يكلف من
عليه الطلب الخروج لقضاء ما عليه، إذا بقي من الأجل مقدار ما يصل إلى البلد
فيه.
ولا يمكّن من ترك الخروج إلى زمن لو خرج فيه لم يدرك البلد إلا بعد الأجل.
ولكنه لو أراد أن يوكل وكيلًا فخرج للقضاء عنه فإن ابن القاسم أجاز هذا،
ومنعه سحنون، وأشار إلى أنه كالحوالة على ذمة آخر بدين لم يحل. وهذا لا
يتّجه لأن الوكيل إنما يخرج على أن الدين باق في ذمة موكله، على حسب ما كان
عليه الأمر حين التعاقد، ويكلف موكله أن يعطيه من الثمن ما بقي لقضاء ما
عليه، إذا وصل إلى البلد المشترط، أو يتحمل ذلك الوكيل، فإن الحمالة تصح
بما لم يحل من الدين، لكون المتحمل عنه لا تبرأ ذمته بالحمالة، بخلاف
الحوالة بما لم يحل. وقد ذكر في الكتاب أن من عليه دين مؤجل وأراد سفرًا،
فإنه يعتبر سفره: فإن كان إلى مسافة يعود من سفره قبل حلول الأجل مكّن من
ذلك، وإن لم يمْكن أن يعود إلا بعد الأجل لم يمكّن من ذلك. وذكر ابن القاسم
في غير المدونة أنه يحلف أن يعود قبل الأجل. واشترط بعض الأشياخ أن يكون من
أهل التّهم حتى يتجه تعلق هذه اليمين به، وهذا فصل كنا أمليناه فيما تقدم،
ولم نذكر ذلك حتى فرغنا من إملائه.
__________
(1) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: العادية.
(2) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: جازت.
(3) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: على صيانته.
(2/243)
فصل
ذكر القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب رحمه الله تعالى فصلًا في المزابنة
وعدّدها، وذكر فيما عدّد فيها الحيَّ الذي يراد للحم كالكبش باللحم من
جنسه.
قال الإِمام رضي الله عنه (1).
يتعلق بهذا الفصل أربع مسائل منها أن يقال:
1) ما جملة مذاهب الناس في هذه المسألة؟
2) وما الظواهر الواردة فيها؟
3) وما علة المنع؟
4) وما الشروط المذكورة في المنع؟
فالجواب عن السؤال الأول أن يقال:
اختلف الناس في جواز بيع اللحم بالحيوان؛ فأجازه أبو حنيفة وأبو يوسف على
الإطلاق.
ومنعه الشافعي والليث على الإطلاق.
ومنعه مالك إذا بيع اللحم بحيّ من جنس أصله، وإن بيع بغير جنس أصله أجازه.
ومنعه محمَّد بن الحسن صاحب أبي حنيفة إذا كان اللحم المعاوض له مثل مقدار
ما في الحي من اللحم فأقل، وإن كان مقدار اللحم أكثر من مقدار لحم الحي حتى
تكون هذه الزيادة عوض (2) وغيره جاز ذلك.
__________
(1) في (و) زيادة نصها: ونفعنا به وبأمثاله.
(2) كلمة غير واضحة في النسخ، ولعلها: الجلد.
(2/244)
وهذه المذاهب التي ذكرناها في حيوان يجوز
أكل لحمه، فأمّا ما لا يجوز أكل لحمه، كالحمير والخيل والبغال، فإن مالكًا
لم يمنع بيعه باللحم إذا كان من جنسها كالخيل والبغال والحمير. وذكر (1)
أكل لحمه كالهر والثعلب والضبع فإن مالكًا كره بيعها باللحم إذا كان من
جنسها. فبعض المتأخرين يرى أن نفي التحريم في هذه القوة (2) الاختلاف فيها،
ولكنه قدح في هذا التعليل بأن مالكًا أجاز بيع الفرس بلحم من جنسها، مع ما
في الفرس من الاختلاف.
وبعضهم يرى أن الهر والثعلب والضبع مما تأكله الأعراب، فصارت مما تراد
للأكل فمنع بيع الحي منه باللحم من جنسه مع كونه (3) منفعة فيه، والخيل
والبغال والحمير لم تجر العادة بأكلها مع أبي فيها منافع، وهي المقصودة
منها كالحمل عليها وغير ذلك من ضروب الانتفاع بها. وقد ذكرنا مذهب أبي
حنيفة.
وذكر بعض المتأخرين عن أشهب أنه مال إلى مذهب أبي حنيفة، قال: وأحسب أن هذا
المذهب رواه عنه البرقي، والمعروف عنه خلافه.
وأشار بعض الأشياخ إلى تخريج مذهب أبي حنيفة من بعض الروايات عندنا، وذلك
أن ابن المواز ذكر عن مالك أنه كره بيع الشاة الشارف والكسير باللحم، ثم
أجازه بعد ذلك. وقال ابن المواز: بل لا خير فيه، وبيعها باللحم أحرم من
بيعها بالحية، وكل لا خير فيه.
وقد علم أن بيع اللحم باللحم لا يجوز إلا متماثلًا. وقد اختلف قوله في هذه
الشاة الموصوفة وما ذاك إلا لكونه رآها كالصحيحة، ولو رآها كاللحم لم يختلف
قوله في المنع منها، ولكنه تردد في هذا الترجيح، وقال: يمكن أن
__________
(1) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: وما كُرِهَ.
(2) في (و): لقلة.
(3) فراغ في (و) بمقدار كلمة، ولعلها: (لا).
(2/245)
يكون بين الفضل ما بين لحم الشاة واللحم
الآخر (1) ارتفعت فيه المزابنة فلهذا أجازها، ويمكن أن يكون أراد لحم شاة
اللحم تحريًا، فتارة رأى أن التحري لا يوثق به فمنع، وتارة رأى أن التحري
ها هنا يوثق به فأجازه.
هذا ضابط المذهب على طريقة المغاربة. وأما على طريقة البغداديين فإنهم يرون
أن المنع من بيع اللحم بالحيوان إنما يتوجه إلى حيوان إنما يراد للحم،
كالشاة المعلوفة التي تراد للذبح، والمدقوقة العنق والشارف. فأما إذا كان
الحي لا يراد للذبح فإنه يجوز بيعه باللحم الذي من جنسه. ذهب إلى هذا منهم
أبو بكر الأبهري، ورأيته يشير في كلامه هذا إلى أن العلة في النهي الوارد
عن هذا، المزابنةُ، وهي إنما تتصور إذا كان الحي لا يراد إلا للذبح حتى
يصير في حكم اللحم، فتتصور في ذلك المزابنة (وهي بيع مجهول بمجهول من جنس
واحد) (2). وهذا مسلك القاضي أبي محمَّد عبد الوهاب في الكلام الذي نقلنا
عنه؛ لأنه أورده في فصل ذكر فيه المزابنة وعدّ فيها اللحم بالحيوان وهكذا
وقفت لإسماعيل القاضي على كلام يشير فيه إلى هذا، فقال: إذا كان الحيوان
شارفُ اأو مدقوق العنق صار بيعه باللحم من الخطر والغرر؛ لأنه أخذ الحي على
أنه إن نقص عن مقدار اللحم الآخر عليه، وإن زاد فله. وإن كانت الشاة لا
تراد للذبح بَعُدَتْ التهمة إلى القصد في المزابنة ووكل الناس إلى أمانتهم
فيها، فإن قصدوا المزابنة في ذلك منعوا. وهكذا ذكر ابن القصار، فقال: إنما
منع شيوخنا بيع اللحم بالحيوان إذا كان الحيوان إنما يراد للذبح، كالشاة
المعلوفة للهراس (3) والجزار؛ لأنها إذا كانت كذلك فبيعت صار ذلك في معنى
بيع الرطب بالتمر.
وأنكر بعض الأشياخ هذه الطريقة القياسلكها البغداديون أن تكون هي
__________
(1) كلمة مهملة غير واضحة في النسخ.
(2) ما بين القوسين هكذا في جميع النسخ .. مع أن المزابنة: بيع معلوم
بمجهول أو بيع مجهول بمجهول من جنس واحد .. والجزء الذي ذكره من هذا
التعريف لا يتلاءم مع الصورة السابقة. انظر حدود ابن عرفة 251 ..
(3) هكذا في النسختين، بالمهملة، ولعل الصواب: للهراش.
(2/246)
طريقة المذهب، واحتجوا بما ذكرناه عن كتاب
ابن المواز من اختلاف قول مالك في الشاة الكسير إذا بيعت باللحم، ولو كانت
صحيحة مِمّا يبقى لم يختلف قوله في تحريم بيعها باللحم، فاقتضى ذلك أن
التحريم فيما يبقى آكد منه في مثل هذه التي هي كسير وشارف.
والجواب عن السؤال الثاني أن يقال:
أما الظواهر الواردة في هذا فقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ
وَحَرَّمَ الرِّبَا} (1) وقوله {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ
بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (2)
فإن قلنا: إنه يتصور الربا في بيع شاة بلحم من جنسها صار قوله تعالى: "وحرم
الربا" يخصَّص بقوله: "وأحل الله البيع" وإن قلنا: لا يتصور في هذا الربا
لكون الحي الذي يبقى كالعروض، ولجواز بيع شاة بشاتين ولا يقدر ذلك من الربا
الممنوع، واحتجنا إلى تخصيص هذا العموم إما بأثر وإما بقياس: فأما الأثر
فإن مالكًا روى في الموطأ عن زيد بن أسلم عن سعيد ابن المسيب "أن النبي
عليه السلام نهى عن بيع الحيوان باللحم" (3) وذكر مالك أيضًا عن داود بن
الحصين أن ابن المسيب قال: ذلك مَيْسِر الجاهلية (4)؛ ورواية غير مالك: ذلك
ربا الجاهلية وذكر عن أبي الزناد أنه قال: كان من أدركت من الناس ينهون عن
ذلك، ويكتب في عهود العمال كأبان بن عثمان وهشام بن إسماعيل (5)، فإن قيل:
هذا الحديث مرسل؛ لأن ابن المسيب تابعي لم يلق النبي - صلى الله عليه وسلم
-. قلنا: أبو حنيفة يقول بالمراسيل، فهذا الحديث حجة عليه على أصله، وإن
كان مرسلًا. لكنه يبقى ها هنانظر آخر وهو تخصيص عموم القرآن بأخبار الآحاد،
وذلك فيه خلاف بين أهل الأصول، فإن لم يقل بالمراسيل،
__________
(1) سورة البقرة، الآية 275.
(2) سورة النساء، الآية 29.
(3) الموطأ: باب بيع الحيوان ج: 2 ص 183 حد 1912.
(4) الموطأ: باب بيع الحيوان ج 2 ص 184. حد 1913.
(5) الموطأ: باب بيع الحيوان ج 2 ص 184. حد. 1914.
(2/247)
وقلنا بها ولم نقل بتخصيص عموم القرآن
بأخبار الآحاد، فإن هذا الحديث لا حجة لنا فيه، وإن قلنا بقبول المراسيل
وتخصيص عموم القرآن بأخبار الآحاد كان في هذا الحديث حجة على أبي حنيفة.
وقد احتج الشافعي فقال: أنا مالك عن زيد بن أسلم، وساق الحديث. وقد اعترض
عليه بأنه لا يقول بالمراسيل، واعتذر عنه بأن الصدّيق رضي الله عنه منع من
بيع اللحم بالحيوان. وقال الشافعي: لم يختلف حينئذ. وأشار (إلى بقوله) (1)
بما روي عن الصديق، وعلى أن الذي روي عن الصديق قدح في التعلق به أيضًا،
لأن المروي عنه، رضي الله عنه، أنه قسم جزورًا عشرة أجزاء، فأتى رجل بشاة،
فقال: يباع مني جزء بهذه فقال الصديق: لا يصلح ذلك. فقيل: يمكن أن يكون هذا
الجزور من إبل الصدقة، وقسمها قسمة الصدقة، والصدقة لا يحل بيعها، فلهذا
قال: لا يصلح ذلك. وهذا وإن قيل: إن الظاهر غيره، فإنه تأويل ممكن. واعتذر
عن الشافعي أيضًا (بأنه رأى أن طرق الاعتبار تمنع من هذا بقوي المراسيل
عندَهُ فلهذا قبله) (1).
وقيل أيضًا: إنما احتج بهذا في الزمن الذي يقول فيه بقبول مراسيل سعيد بن
المسيب. وأما أصحابنا وأصحابه ما في التعلق بالحديث المرسل من الاختلاف،
ذكروا أيضًا أن الحديث من طريق آخر. فقال: إن ابن المسيب رواه عن أبي هريرة
عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وذكر أيضًا في بعض الطرق أن مالكًا رواه
عن سهل بن سعد الساعدي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ولكن قال بعض
المتأخرين: لا أعلمه متصلًا من طريق ثابت. واستنكروا ما روي من طريق مالك
عن سهل بن سعد الساعدي. فإن ثبت هذا الاتصال عوِّل عليه، وإن لم يثبت فقد
ذكرنا وجه التعلق برواية مالك في الموطأ على مذهب الأصوليين.
والجواب عن السؤال الثالث أن يقال:
ذكر ابن القاسم معنى الحديث الوارد في هذا، وعلته المزابنة. ولكنه لم يطرد
هذا التعليل فيجيز بيع اللحم بالحيوان إذا تبيّن الفضْل، كما ذكر بعض
الأشياخ أن مَن علّل بالمزابنة يقتضي تعليلُه جواز بيع اللحم بالحيوان إذا
تبين
__________
(1) ما بين القوسين كلام غير واضح وفي معظم ما ورد في هذا الجواب غموض
واضطرابٌ.
(2/248)
الفضل، وسلم العقد من المخاطرة والقمار.
وقد حكينا كلامهم في هذا.
وقد اختلف عندنا فيما لا ربا فيه هل يجوز بيع رطبه بيابسه إذا تبين الفضل
(1)، الرطب باليابس وعين (1) الرطب باليابس. فمن أجاز ذلك رأى أن علة النهي
عن بيع الرطب باليابس المزابنة والمخاطرة في مقدار أحدهما من الآخر. فإذا
تبين مقدار زيادة أحدهما على الآخر زيادة لا شك فيها، ارتفع الخطر، وذهب
الغرر، ولم تتصور المزابنة، فوجب الجواز. وإن قلنا: إن النهي عن ذلك غير
معلل منع ذلك، ولو تبين الفضل. فأمّا من حكينا عنه أنه يجيز بيع اللحم
بالحيوان إذا تبين الفضْل فإنه قد حكى عموم النهي عن بيع اللحم بالحيوان
بشواهد الأصول ومفهوم قواعد الشرع من النهي عن الغرر والمزابنة. وقد تصور
ذلك في بيع اللحم بالحيوان، فيجب أن يجري مع هذه العلة، فمتى ارتفعت ولم
تتصور ارتفع حكمها. (وكان ابن القاسم حين عقده هذا التعليل، ولكنه لم يبسط
عن الخروج عن عموم لفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا الضرب من
الاستدلال، ولا يعلل الحديث فعله يرتفع حكم عمومه، ولكنه ما تصورت فيه
العلة وهي المزابنة معه حديثًا وقياسًا، وما لم يتصور فيه منعه لأجل عموم
الحديث) (2). ولا يستبعد من ابن القاسم هذا، فإن المذهب متفق على أن بيع
اللحم بالحيوان من غير جنسه جائز .. وإنما يمنعه الشافعي .. وعموم النهي عن
اللحم بالحيوان يقتضي المنع، سواء كان اللحم من جنس الحيوان أو من غير
جنسه. لكن المزابنة إنما تتصور مع التجانس في العوضين حتى ينصرف للأعواض
إلى الحرس (3) على المقادير، فيكون ذلك مزابنة. وإذا كان العوضَان من جنسين
مختلفين اختلفت الأغراض. فأنت ترى أهل المذهب كيف اتفقوا على تخصيص هذا
العموم بهذا النوع من الاستدلال، فلا يستنكر ما قاله ابن القاسم على أصل
المذهب.
__________
(1) كلام غير واضح.
(2) هكذا في جميع النسخ، والكلام بين القوسين غير واضح.
(3) كلمة غير واضحة، ولعلها: الحدس.
(2/249)
وقد سلك أصحاب الشافعي قريبًا من هذا
المسلك في التعليل، ولكنهم أتوه من طريقة أخرى، فقالوا: إن اللحم فيه
الربا، والحيّ أصل هذا اللحم، واللحم كالبعض من الحي، وما كان فيه الربا
فلا يباع بأصله، كما لا يباع السمسم بدهنه.
وهذه الطريقة إن لم ترجع إلى ما قلناه نحن، وإلا فهي منفعته، لأن الحي
المقتنى (1) لا ربا فيه، ولهذا يجوز بيع بعضه ببعض متفاضلًا. وإذا كان لا
ربا فيه فلا معنى للالتفات إلى كون ما يعاوض به عنه وهو اللحم فيه الربا،
كما لا يلتفت إلى كون اللحم فيه الربا إذا بيع بثياب لما كانت لا ربا فيها.
وقد اختلف عندنا في جواز بيع الحي باللحم من جنسه مطبوخًا إلى أجل.
فكرهه ابن القاسم، وأجازه أشهب، وعموم الحديث يقتضي النهي عنه، واعتبار
التعليل يقتضي الجواز. لكن اللحم المطبوخ بالأبازير وغيرها يخرجه الطبخ عن
اعتبار الربا بينه وبين اللحم الغير المطبوخ، ويصيره جنسًا آخر. وقد ذكرنا
أن المزابنة أو الربا إنما يتصور مع كون العوضين من جنس واحد، وقد (2)
الشيخ أبو إسحاق التونشي هذا المسألة على أن المراد بيع الحي بالمطبوخ إلى
أجل، فيكون هذا كبيع كتان بثوب إلى أجل يمكن أن يصنع الثوب من الكتان. وقد
تقدم وجه المنع وأما (لو كذلك) (3) فهذا لم يختلف فيه لكون الطبخ صيره جنسا
آخر.
والجواب عن السؤال الرابع أن يقال:
أما الشروط المعتبرة في منع اللحم بالحيوان، فقد كثر الاضطراب فيها.
وقد قدمنا الكلام على ما بيْن (4) الفضل فيه ما بين الحي واللحم.
وأما اعتبار الجنسية فقد أشرنا إليه، ومذهبنا أن النهي عن بيع اللحم
__________
(1) كلمة غير معجمة في جميع النسخ، ولعلها: مُقْتنى.
(2) فراغ: مقدار كلمة في جميع النسخ، ولعلها: قرّر.
(3) هكذا كلمة في جميع النسخ.
(4) هكذا ولعل الصواب تبين.
(2/250)
بالحيوان إنما يتصور مع اتحاد الجنس. وأما
اختلافه فإن الأغراض تختلف ما بين الجنسين اختلافًا يخرج المتعاقدين على
القصد إلى المزابنة، وذكرنا أن الشافعي يمنع من ذلك، وإن كان الحي من غير
جنس اللحم، فمنع بيع لحم الدجاج والطير بالشاة والبعير. وأشرنا إلى سبب هذا
الخلاف.
وأما اعتبار كون اللحم والحيوان مما يؤكلان، ويحل أكلهما، فقد قدمنا أن
مذهبنا جواز بيع الخيل والبغال، فإنا وإن كرهنا أكل لحومها، فلا يمنع من
بيعها، وهي حية، بالحيوان الذريعة (1) من جنسها لما كثر فيها الاختلاف
واشتهر. وللشافعي في هذا الذي لا يؤكل لحمه قولان: أحدهما: المنع، لعموم
الحديث، والثاني: الجواز؛ لأن العلة الربا، على ما ذكرناه عنهم. وهذه
اللحوم (ليست بما فيها للربا) (1) لكونها لا تؤكل، أو العلة المزابنة،
والمزابنة إنما تتصور مع تساوي الأغراض في الأغراض، وما لا يجوز أكله الغرض
فيه مخالف للغرض في لحم ما يؤكل. وإذا علمت أنّا نشترط تجانس العَرْضين:
الحيوان واللحم، فإن الأجناس عندنا ثلاثة: فكل ما يمشي على أربع فهو جنس
واحد، سواء كان وحشيًا أو إنسيًا. وكل ما كان من ذوات الأجنحة فهو صنف آخر.
وكل ما كان من سمك البحر وطعامه فهو صنف ثالث. وأما الجراد فقد حكي عن مالك
أنه صنف رابع، والمعروف عندنا أنه مما لا ربا فيه، وسنتكلم عليه في
الربويات من الطعام إن شاء الله. فأنت تعلم متى كثرت هذه الأجناس أن بيع
الشاة والبعير والبقر بلحم الأرْنب والغزال لا يجوز، لأنه بيع لحم حيوان
بجنسه حيًا، ويجوز بيع الشاة والبعير بلحم السمك أو لحم الطير، ويجوز بيع
حي الطير بالسمك، فإنما يعتبر في هذا الجنسية على ما عددناه فيها.
وأمّا الوصف الذي يلحق منه الحي بالحيوان المنهي عن بيعه باللحم.
فاعلم أن ما طالت حياته وادخر للانتفاع به (2) لذلك، فإنه مراد بالحديث في
__________
(1) هكذا في جميع النسخ.
(2) كلمة غير واضحة في جميع النسخ، ولعلها: وربِّي ..
(2/251)
المعروف من المذهب. لكن البغداديين يخالفون
في هذا، على ما حكيناه عنهنم، ويرون المزابنة إنما تتصور في كسير أو شارفٍ
شارفَ الموت، يقصرون النهي على ذلك، ويجوّزون بيع ما تطول حياته، ويقتنى
للمنفعة باللحم من جنسه. وقد ذكرنا ما وقع في المذهب من هذا بما يغني عن
إعادته.
والمنفعة المعتبرة ها هنا ما جرت العادة باقتناء ذلك الجنس من الحيوان
لأجله، فالشاة والناقة والبقرة يدّخرون للدَّر والنسل، وهي منفعة مقصودة
عند الجمهور في هذا الجنس من الحيوان. وأما الاقتناء من النسل كالكبش يقتنى
لفحله فإن ذلك مقصود أيضًا، وهي المطلوبة في هذا الجنس، وأما لو كان كبشًا
خصيًا، ولا يقتنى لصوفه، فإنه خارج عن هذا النوع الذي ذكرنا. وأما إن اقتني
لصوفه فبعض الأشياخ أن ظاهر المذهب على قولين هل مجرد الاقتناء للصوف،
ونماؤه لا يكون إلا مع الحياة، فلما اختص هذا بالحياة وكانت الحياة شرطًا
فيه وجب أن يلحق ما يقتنى لأجل هذا بالحيوان المدخر للمنفعة المقصودة منه.
وأما لو كان تيسًا خصيًّا فإنه يخرج عن هذا النوع. لكن بعض الأشياخ رأى أنه
قد يقتنى لشعره ولجلده، وهذه منافع مقصودة في مثله، فألحق بهذا النوع.
وأمّا ما يقتنى للحم والسمن فظاهر المذهب أيضًا أنه على قولين، وجه ذلك ما
أشرنا إليه في كون مثل هذه المنفعة مقصودة في هذا الجنس أو غير مقصودة.
وأمّا ما طالت حياته ولا منفعة فيه ففيه قولان: هل يلحق بها التفاتًا
للمنفعة، أو لا يلحق بها لأجل كونه لا يدخر ويقتنى لمنفعته. وأما ما كانت
حياته لا تطول ولا منفعة فيه فإن الأكثر من المذهب على إخراجه عن هذا
النوع. لكن أشهب ألحقه بهذا النوع الذي يقتنى للمنفعة، ورآه مما يشتمل عليه
عموم النهي عن بيع اللحم بالحيوان، فلم يكن لإخراجه عن جملة الحيوان وجه.
وأما ابن القاسم فإنه أخذ لهذا النوع بالاحتياط، فجعل ما لا تطول حياته،
ولا يدخر لمنفعة فيه، حكمه كحكم اللحم، فيمنع من بيعه بطعام (1) ويمنع من
بيعه بحيوان يقتنى للمنفعة. وإذا كان غرضه اللحم اعتبر فيه مذهب أشهب،
وألحقه بجملة.
__________
(1) كلمة غير واضحة.
(2/252)
الحيوان، وألحقه بعموم الحديث احتياطًا في
التحريم في الوجهين جميعًا. وأنت إذا علمت هذه الأقاويل، وصرفتها في فروعها
صرفتها أيضًا في بيع الحيوان بعضه ببعض، إذا كان أحد العوضين لا تطول حياته
ولا منفعة فيه، أوْ لا تطول حياته وفيه منفعة، فيجري ذلك على هذا الاختلاف
الذي رسمناه.
ويلتفت في هذا إذا قدرت أنهما في حكم اللحم للحي (1) إلى جواز بيع اللحم
باللحم تحريًا.
وسنتكلم على جواز بيع اللحم باللحم تحريًا، وهما في جلودهما، وقد سلخا
عنهما، وسبب الاختلاف في ذلك إن شاء الله. وقد أشار بعض الأشياخ إلى مقتضى
حكمنا يكون الجنس كالجنس أَلا يجوز في التعاوض بهما للمتأخرين (2) كما لا
يجوز في الطعام بالطعام، لكنهما لما اشتركا في الحياة لم يعتبر ما يقصد
منهما في حكم (3) - كما لا يعتبر في بيع الزيتون بالزيتون يتفاضل ما فيها
من زيت، ولو بيع الزيتون بزيته لمنع واعتبر ذلك فيه.
قال القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب رحمه الله:
بيع الربا غير جائز. والربا ضربان: تفاضل ونساء.
والتفاضل على وجهين: تفاضل في العين وتفاضل في القيمة.
فالتفاضل في العين يحرم من جهتين: إحداهما الجنس الواحد من المقتات المدخر،
وما في معناه مما يصلح الأقوات، وذلك في المسميات الأربع التي نصّ عليها
الرسول عليه السلام وهي: الحنطة والشعير والتمر والملح. ويلحق بها ما في
معناها كالأرز والذرة والدخن والسمسم والقطاني كالفول والعدس واللوبيا
والحمص. وكذلك اللحوم والألبان والخلول والزيوت، والثمار كالعنب والزبيب
والزيتون. واختلف في التين، ويلحق بها العسل والسكر. ولا يحرم التفاضل في
الماء كله، ولا في رَطب الفواكه التي لا تبقى كالرمان والتفاح والكمثرى
والبطيخ والخيار والباذنجان والقثاء وغير ذلك
__________
(1) هكذا، ولعل الصواب: الحي.
(2) هكذا في (و)، وفي (ش): للتأخير، ولعل الصواب: التأخير.
(3) فراغ: بمقدار كلمتين في جميع النسخ.
(2/253)
من الخضروات، ولا فيما يدخر من الفواكه
للأدوية كالمشمش والأجاص، أو على وجه الخصوص والندور كالخوخ وغيره.
قال الفقيه الإِمام رضي الله عنه: يتعلق بهذا الفصل سبعة أسئلة منها أن
يقال:
1) ما الربا؟
2) وما أقسامه؟
3) وما الدليل على منعه على الجملة؟
4) وما الدليل على تحريم ربا الفضل في النقد؟
5) وما سبب الخلاف في علة ربا النقد؟ (1) والله المستعان.
فالجواب عن السؤال الأول أن يقال:
اختلف الناس في المراد بهذه التسمية، فقال بعضهم: هي الزيادة.
واختلف هؤلاء في هذه الزيادة، فقال بعضهم: هي الزيادة في نفس الشيء لا فيما
يقابله من العوض. وم الآخر ون إلى كون هذه اللفظة تنطلق على الزيادة حقيقة،
سواء كانت الزيادة في نفس الشيء أو في عوضه المقابل له.
ورأيت ابن داود ذهب إلى أن حقيقة هذه اللفظة الزيادةُ في نفس الشيء خاصة،
واحتج بقوله: {فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ
وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} (2) والأرض إنما تربو في نفسها لا
في شيء يقابلها. وأجاب الآخرون عن تعلقهم بقوله عليه السلام في الذهب
بالذهب وما ذكر معه "مثلًا بمثل فمن زاد أو ازداد فقد أربى" (3) فإنه أراد
أنه فعل ما يشبه الربا أو ما قارب فعل الربا، فأشبه فعله "للربا" فأشار إلى
أن الحقيقة في هذه التسمية الزيادة في نفس الشيء: وأما الزيادة فيما يقابله
فإنما سمي ربا مجازًا.
ورأيت ابن سريج من أصحاب الشافغي، رحمه الله، سلك قريبًا من هذا المسلك،
فأشار إلى أن هذه التسمية، وإن وضعت للزيادة في نفس الشيء،
__________
(1) السؤالان السادس والسابع ساقطان في جميع النسخ. انظرها ص 462 وص 372.
(2) الحج: 5.
(3) أخرجه مسلم والأربعة والدارمي وأحمد. الهداية: 7/ 180.
(2/254)
فإنها تنطلق على الزيادة فيما يقابله بحكم
العرف، ويكون من الأسماء العرفية، كالصلاة التي هي في اللغة موضوعة للدعاء،
وهي في الشرع كناية عن الصلاة المعهودة التي فيها ركوع وسجود (1) ابن داود
في أن أصلها في اللغة هو الزيادة في أصل الشيء، وأقرب للطرق بعد ذلك فاعتقد
ابن داود في أن تسمية الزيادة فيما يقابل الشيء ربا مجازٌ. واعتقد ابن سريج
أن هذا من الأسماء العرفية في الشرع. ونحن قد كشفنا في كتابنا في الأصول
المترجم بالمحمول من برهان الأصول على حقيقة هذا المذهب في تسمية الركوع
والسجود صلاة وبيناه هنالك بيانًا شافيًا.
ومال آخرون إلى انطلاق التسمية على الزيادة في نفس الشيء وفيما يقابله
انطلاقًا متساويًا. ويحتج هؤلاء بعموم قوله تعالى: {يَمْحَقُ الله الرِّبَا
وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} (2) وربا عوض الصدقة من الأجور ليس هو نفس الصدقة
بل هو زيادة فيما يقابلها، وما هو كالعوض عنها. واحتجوا بما وقع في الحديث
من قوله عليه السلام للذي باع صاع بر بصاعين: عين الربا (3). فنصَّ على أن
الزيادة فيما يقابل الشيء عين الربا.
وثمرة هذا الاختلاف أن ابن داود نفى الربا عما سوى هذه المذكورات في الحديث
من العين والطعام، واحتججنا عليه بقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ
الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (4) أجاب بأن الربا المذكور في القرآن ربا
الجاهلية، وهو كالزيادة في نفس الشيء، لأنهما إذا حل عليهما المطالبة بعين،
فقال الطالب: تقضي أو تربي بمعنى تزيد بمقدار ما في ذمتك، صار هذا كالزيادة
في نفس الشيء. وقد ذهبت طائفة إلى حمل هذه الآية على ربا الجاهلية، وجعلت
الألف والسلام في قوله تعالى {وَحَرَّمَ الرِّبَا} للعهد، لأن الجاهلية
قالت: إذا حل لنا البيع الأول حل لنا
__________
(1) كلمة غير واضحة في جميع النسخ.
(2) سورة البقرة، الآية 276.
(3) فتح الباري: كتاب الوكالة، 6/ 396.
(4) البقرة: 275.
(2/255)
البيع الثاني. وهو فسخ الشيء في أكثر منه.
وأنكر ذلك عليهم سبحانه بقوله {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا
الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ
الرِّبَا} (1) وأخبرهم أنه أحل لهم هذا وحرم عليهم هذا، فانصرف الألف
والسلام إلى ما تقدم ذكره مما أخبر الباري سبحانه به عنهم. ويؤكد هؤلاء هذا
التأويل بقوله تعالى: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ} (2) وبيع شيء بأكثر منه نقدًا لا يتصور فيه {وَذَرُوا مَا
بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} (2) وإنما يتصور فيمن فسخ دينه في أكثر منه يقال له:
ذَرْ ما يُبْرِئك في الذمة من زيادة اشترطتها عوض التأخير. فإذا ذهبنا إلى
أن الربا ينطلق على الزيادة في نفس الشيء وعلى الزيادة فيما يقابله، وقلنا:
إن العموم إذا خرج على سبب ويقدّر دخول الجاهلية وجب أن يُقضى بحكم اللفظ
في العموم لا بحكم تخصيص السبب، صح الرد على داود على هذا المذهب، ولعل
ابنه إنما ذهب إلى ما حكيناه عنه في حقيقة اسم الربا، فسُدّ باب الاحتجاج
على ابنه بهذه الآية. وقد ذكرنا مذهب ابن سريج ورأيته اتفصل عن هذا التعلق
بقوله: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} (2) فإنه قد يكون ما بيع
متفاضلًا نقدًا لم يقبض العوض الذي فيه الزيادة، فيتصور أن يقال {وَذَرُوا
مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} (2) بمعنى: لا تقبضوا الزيادة، وسمّوا (3) العقد
الفاسد. ومن الناس من ذهب إلى أن التسمية تنطلق على كل بيع محرم، وأُضيف
هذا المذهب إلى عائشة رضي الله عنها لأجل قولها: لما أنزلت آية الربا قام
النبي عليه السلام فحرم التجارة في الخمر (4). وهذا منه إشارة إلى أن بيع
الخمر لما كان محرمًا كان ربًا، فلهذا حرمت عقيب نزول آية الربا.
وأُضيف أيضًا إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأجل قوله: إن من الربا بيع
الثمر وهي معصية (5) قبل أن تطيب. فأطلق على بيع الثمر قبل الزهو اسم الربا
__________
(1) سورة البقرة، الآية 276.
(2) سورة البقرة، الآية 278.
(3) في ش: ويتمّ.
(4) المزي: تحفة الأشراف. 11/ 736 حد. 17636.
(5) هكذا في جميع النسخ.
(2/256)
لما كان محرمًا. ويحتج هؤلاء بقوله عليه
السلام: "الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء" (1) والتفاضل بين الذهب والورق
جائز، وإنما يسمى (2) ها هنا بربا لكونها محرمة.
والجواب عن السؤال الثاني أن يقال:
قد قسم القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب رحمه الله الربا على قسمين: ربا نقد
وربا نسيئة. وربا النساء لهما (3) يتصور وقوع هذه التسمية عليه على هذه
الطريقة التي سماها لها الجواب، وهي تسمية كل بيع محرم للربا (4). وقد
تكلمنا نحن على ربا النساء في كتاب السلم الأول فيما يحرم التفاضل (في ربا)
(5) وفيما لا يحرم، وبسطناه هنالك بسطًا لا وجه لإعادته ها هنا. لكن ربا
النساء متفق على تحريمه، ومتفق على أنه مراد بالآية التي ذكرناها. وقد
يتصور في الذهب بالذهب متفاضلًا نساء، وفي القمح بالقمح متفاضلًا نساء،
ويمتنع ذلك لأجل التفاضل ولأجل النساء والتأخير. وأمّا ما (6) وعقد على
تفاضل نساء، ولكنه لا ربا في نقده، ففيه من الاختلاف الأمصار (7) وما
قدمناه في كتاب السلم الأول في سلم ثوب في ثوبين. وأمّا ما اختلف جنسه ولا
ربا في نقده فإنه يجوز النساء، كسلم عقد في ثوبين أو في ثوب واحد. وأمّا ما
كان في هذه الربا (8) فإنك تنظر: هل يجتمع العرضان (9) جميعًا في علة واحدة
لأجلها منع ربا الفضل بينهما أو لا يجتمعان في علة؛ فإن اجتمعا في علة
واحدة كالقمح والثمر
__________
(1) الموطأ: 2/ 162.
(2) فراغ في جميع النسخ بمقدار كلمة.
(3) هكذا، ولعل الصواب: مما.
(4) هكذا، ولعل الصواب: بالربا.
(5) هكذا، ولعل الصواب: فيه للربا.
(6) كلمة غير واضحة في جميع النسخ، ولعلها: تَجانَس.
(7) هكذا في جميع النسخ. ولعلها: من اختلاف علماء الأمصار.
(8) هكذا.
(9) هكذا، ولعل الصواب: العوضان.
(2/257)
فإن علة المنع من بيع القمح بالقمح
متفاضلًا كونه مقتاتًا، والعلة في منع الثمر بالثمر متفاضلًا كونه مقتاتًا،
وإن كان فيه معنى التفكه، على ما سيرد بيانه، فبيع أحدهما بالآخر نساء لا
يجوز لاشتراكهما في علة ربا الفضل. وأما بيع الثمر أو القمح بدنانير أو
دراهم إلى أجل فإن ذلك جائز، لأن علة ربا الفضل في الذهب كونه لما (1)، وفي
الثمر أو القمح مقتاتًا، فقد افترقا في علة ربا الفضل فجاز بيع أحدهما
بالآخر تساويًا (2) .. وأما ربا الفضل مع النقد فسنتكلم عليه بعد هذا.
والجواب عن السؤال الثالث أن يقال:
الربا محرم على الجملة بالكتاب والسنة وإجماع الأمة.
فأما الكتاب فقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ
مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ الله الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (3) فأنكرت
(4) الجاهلية الاعتقاد أنها بيع مثل البيع الأول فإذا حل بها أن يسلم
دينارًا في حمل إلى أجل فكذلك يحل لها إذا حل الأجل أن يفسخ العمل في حملين
إلى أجل آخر، فيكون بايَعه حملًا بحملين، وأنكر الله تعالى قولهم فقال:
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ
الله الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (3) فنص تعالى على تحريمه فقال:
{اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ
وَرَسُولِهِ} (5) وقال تعالى: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا
مُضَاعَفَةً} (6) وقال تعالى: {يَمْحَقُ الله الرِّبَا وَيُرْبِي
الصَّدَقَاتِ} (7) وقال تعالى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ في
أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللهِ} (8) لكن هذه الآية ذهب بعض
الناس إلى أنها نزلت في الهدايا.
__________
(1) هكذا في جميع النسم، ولعل الصواب: ثمنًا.
(2) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: تساويا أو تفاضَلا.
(3) سورة البقرة، الآية 275.
(4) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: فأنكر على.
(5) سورة البقرة: الآية 278.
(6) سورة آل عمران: الآية 130.
(7) سورة البقرة: 276.
(8) سورة الروم: الآية 39.
(2/258)
وأما الأحاديث (1) فقد غلظ النبي - صلى
الله عليه وسلم - في بعضها فقال: "لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه
وشاهديه" (2) فعم باللعنة فاعله ومن أعان عليه بكتبة أو شهادة، وقال: "لا
تبيعوا الذهب إلا مثلًا بمثل ... " (3) الحديث الوارد من طرق كثيرة وبألفاظ
مختلفة.
وأما الإجماع فإنه انعقد على تحريم الربا في النسيئة. وإن كان ربا النقد
فيه خلاف سنذكره. والمعاملة بالربا في النسيئة أكثر تكرارًا لمسيس الحاجة
إلى المعاملة نسيئة بزيادة، فلهذا لم يقع فيها اختلاف، وفي كون الآية في
البقرة مراد بها ربا النسيئة بدليل قوله تعالى: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ
الرِّبَا} (4) وأشعر هذا بأنه ربا في الذمة. وقد تقدم الكلام على هذا وما
فيه من الخلاف مبسوطًا مبينًا بيانًا شافيًا.
والجواب عن السؤال الرابع أن يقال:
قال الله سبحانه: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} (5)
وقال تعالى: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا
أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (6) فمن الناس من ذهب إلى
أن جميع البياعات الممنوعة في الشرع غير خارجة عن هاتين الآيتين. وهذا
المذهب يحسن إذا قيل: إن الربا تسمية لكل عقد محرم.
أو قيل: إنه تسمية لبيع وقعت فيه زيادة في أحد العوضين. وقوله تعالى: {لَا
تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ
تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (6) يشتمل على بيع الغرر وما في معناه
لأنه من إضاعة المال.
واختلف الناس في ربا الفضل في النقد: فالمشهور المعروف عن جمهور الصحابة
رضي الله عنهم ومن بعدهم المنع منه على الجملة التي نفصلها فيما بعد
__________
(1) كلمة غير واضحة في جميع النسخ، ولعلها: الكثيرة.
(2) أبو داود: اختصار المنذري، 5/ 9 حد 3193.
(3) الموطأ: 2/ 157 حد: 1845.
(4) سورة البقرة: الآية 278.
(5) آل عمران: 130.
(6) النساء: 29.
(2/259)
إن شاء الله. وذكر عن ابن عباس رضي الله
عنه جوازه. وعن عبد الله بن الزبير وأسامة بن زيد وزيد بن أرقم (يكون
الأكثر في النقد إضافتهم هذا الآن ابن عباس مع أصحابه للرجوع عن هذا المذهب
إليه (1) فقال بعضهم رأيت ابن عباس يبيح ربا الفضل: الدينار بالدينارين
فلما مضيت إلى العراق افتيت به الناس فأتاني من ذكر لي أن ابن عباس رجع عن
هذا المذهب، فعدت إليه وسألته فقال: أبو سعيد الخدري يخبر عن النبي - صلى
الله عليه وسلم - بالمنع منه. وذكر أبو سعيد الخدري قال له: هذا رأي رأيته
أو سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال له: إنما حدثني به
أسامة أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال. "إنما الربا في النسيئة"
وأبيح (2).
وإن ثبت أن هذا مما اختلف فيه الصحابة وثبت أن مَن بعدهم أجمعوا على تحريم
الربا في النسيئة المذكررة في الحديث، فارتفع حكم الخلاف المتقدم بإجماع من
تأخر على مذاهب الأصوليين، ولم يرتفع حكم الخلاف في قول بعضهم على ما
ذكرناه في كتابنا الذي أمليناه في أصول الفقه. فأخبر ابن عباس بالوجه الذي
أداه إلى مخالفة مذهب الجمهور، وهو حديث أسامة. وحديث أسامة هذا ورد بألفاظ
مختلفة منها "الربا في النسيئة" (3) وهذا ليس بنص في نفي الربا في النقد،
لكن من ناحية دليل الخطاب على أن هذه اللفظة التي تشعر بالحصر وهي قوله
"إنما" من آكد دليل الخطاب. لكن روي بلفظ آخر أنه عليه السلام قال "لا ربا
فيمن كان يدًا بيد" (4) وهو نص عمومه في نفي الربا في النقد، لكنه مقابل
بما ورد من طرق كثيرة وبألفاظ مختلفة من قوله عليه السلام "لا تبيعوا الذهب
بالذهب إلا مثلًا ولا يزد بعضه على بعض" وفي آخر: "ولا تبيعوا غائبًا منها
بناجز" وفي بعض الطرق أنه قال "الذهب بالذهب والورق بالورق والبر بالبر
والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح سواء بسواء
__________
(1) هكذا في جميع النسخ، وفي الكلام اضطراب.
(2) في ش: وأبيح النقد. والله أعلم.
(3) إرواء الغليل: 5/ 188.
(4) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: فيما.
(2/260)
غير (1) يدًا بيد فإذا اختلفت هذه الأجناس
فبيعوا كيف شئتم" (2) الحديث كما وقع هذا وغيره مما يكثر تعداده فنهي فيه
عن التفاضل بين هذه المذكورات، مع اشتراطه كونها يدًا بيد وعينًا بعين.
وقوله "لا تبيعوا غائبًا منها بناجز" (3) وفي بعض الطرق "ومن زاد أو استزاد
فقد أربى" (3) وقد تكلمنا على هذه الأحاديث في كتابنا المترجم بالمعلم (3).
وقد ذكر الشافعي رحمه الله في تأويلها وبناء بعضها على بعض وجواز أحدهما
أنه قال: يمكن أن يكون سائلًا (4) سأل النبيّ - صلى الله عليه وسلم - عن
التفاضل فيما بين جنسين من هذه فقال له "إنّما الربا في النسيئة" يعني أمر
هذه الأجناس أنها إذا اختلفت فالفاضل بينهما حل الذي النقد وحرام في النساء
إذا اجتمعا في علة واحدة كما قدمنا بيانه، فيكون الألف والسلام ها هنا ليست
للجنس ولكنما المراد بها الذي وقع السؤال عنه وهو نوع من أنواع الربا.
والوجه الثاني أن قوله: "لا ربا فيما كان يدًا بيد" وقوله: "إنما الربا في
النسيئة" عموم في سائر هذه البياعات تجانست أو اختلفت. ولكن هذا العموم
يخَص بقوله: "من الذهب بالذهب مثلًا بمثل يدًا بيد" إلى غير ذلك من الألفاظ
التي ذكرناها (5) الأحاديث فيحتمل (6) قوله "إنما الربا في النسيئة" على ما
اختلفت أجناسه من هذه الأنواع المذكورة بدليل منعه لربا الفضل فيما تجانس
وكان يدًا بيد. وقد تأول في هذا أن قوله "إنما الربا في النسيئة" يريد
العروض التي لا ربا في نقدها إذا تماثلت لكي يكون الربا فيها إذا تماثلت
ووقع البيع نساء، البيع ثوب بثوبين مثله نقدًا، فإنا نجيزه، ونمنع منه إذا
كان ذلك نساء لما تقدم بيانه وذكر المذاهب فيه في كتاب السلم الأول.
__________
(1) هكذا في جميع النسخ، والصواب حذفها.
(2) إرواء الغليل: 5/ 189.
(3) المعلم: 2/ 195 - 201.
(4) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: سائل.
(5) فراغ: بمقدار كلمة في جميع النسخ، ولعلها: في.
(6) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: يحمل.
(2/261)
والجواب عن السؤال الخامس أن يقال:
قد قدمنا أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - نص على تحريم الربا في ستة
أنواع، وهي: الذهب والورق والبر والشعير والتمر والملح.
فأمّا داود وغيره من أهل الظاهر فإنهم قصروا التحريم على هذه الستة
المذكورة في الحديث، وأباحوا النقد فيما سواها من سائر الأنواع، بناء منهم
على مذهبهم في نفي القياس، بأنه ليس بدليل في أحكام الشرع، وإنما أحكام
الشرع مقصورة على ظواهر الكتاب والسنة.
وهؤلاء إن نشأ رددنا عليهم بالطريق التي سلموا بكونها دليلًا وهو لفظ
الشارع فيما رواه عمران أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "الطعام
بالطعام مثلًا بمثل" (1) فقوله "الطعام بالطعام" (1) يشتمل على البرّ
والشعير والتمر والملح، والمنصوص على عينها في الحديث، وعلى ما سواها من
سائر الأطعمة.
وإن شئنا رددنا عليهم بإثبات القياس في كونه دليلًا في الشرع يجب الرجوع
إليه.
وأما من سواهم مِمّن يقول بالقياس، وهم أئمة الأعصار وفقهاء الأمصار فإنهم
لا يقصرون تحريم الربا على هذه الستة المنصوص عليها في الحديث، بل يستنبطون
من هذه الستة علة، ويقيسون عليها ما سوى الستة مما يشاركها في هذه العلة
المستنبطة.
واختلفوا في هذه العلة المستنبطة، فنقل بعض النقلة عن ابن الماجشون أنه
يقول: العلة: المالية. وأنكر بعضهم هذا النقل والتعليل يكون الشيء مالًا،
وأضاف الغلط والوهم لناقله، وأشار إلى الاتفاق.
وعلل ابن حبيب ذلك بتفاوت المنفعة.
وعلل ابن سيرين بالتجانس.
__________
(1) إرواء الغليل: 5/ 191.
(2/262)
وعلل ربيعة بوجوب الزكاة.
وعلل أبو حنيفة الذهب والفضة بالوزن، والبرّ والشعير والتمر والملح بالكيل.
واتفق مالك والشافعي رحمهما الله على تعليل الذهب والفضة بالثمنية، واختلفا
في تعليل المطعومات الأربعة، فقال الشافعي في القديم: العلة كونها جنسٌ
مأكولُهُ مكيلةٌ، وقال في الجديد، وهو المذهب الذي عليه أصحابه: العلة
كونها مطعومة.
وأما نحن فأكثر عندنا اختلاف العبارات عن هذه العلة في هذه المطعومات.
فقال مالك رضي الله عنه في الموازية: كل ما كان من الطعام والشراب كالحبوب
والأوْدُك والأدم والفواكه، رطبها ويابسها مما يدخر، وهو جنس واحد، فإن
الربا فيه حرام بشرط الجنسية والادخار. وذِكْر أنواعها فيه أشارة لما يقتات
ويؤتدم به وما يتفكه، واقتضى هذا أن العلة كون الشيء، قوتا أو إداما أو
تفكها، مدخرًا.
وأما اشتراط الجنسية فلا يفيد ذكره لأنه مشترط عند مالك والشافعي وأبي
حنيفة فلا خلاف عندهم لقوله عليه السلام: "إذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف
شئتم إذا كان يدًا بيد" (1) وقال بعض أصحابنا كل واحد من هذه الأربعة لعلة:
فالبرّيقتات حال السعة والاختيار، والشعير حال الفاقة والاضطرار، والتمر
يتفكه به، والملح يصلح الأقوات، وهو أيضًا كاللحم فيها لأن الخبز واللحم
إذا لم يكن فيهما ملح نافرتهما الطباع. فصارت علة القوت الاختياري أو
التفكه أو المصلح للقوت. وذكر أبو بكر الأبهري من أصحابنا من علل هذه
بثلاثة أوصاف فالملح والشعير العلة فيهما القوتية، والعلة في التمر التفكه،
وفيه معنى القوت، والعلة في الملح كونه مصلحًا في القوت. قال: ومنهم من علل
ذلك بالقوتية. وذكر ابن القصار والقاضي أبو محمَّد عبد الوهاب في غير كتابه
هذا أن العلة الادخار للعيش غالبًا. وأنكر بعض أشياخنا هذا، وقال: إنما
يحسن هذا التعليل لوجوب
__________
(1) تقدم تخريجه.
(2/263)
الزكاة، فإن الزكاة متعلقة بما هو في أصل
العيش غالبًا، ولهذا لم يوجبها في الجوز واللوز، وإن كنا نحرم فيهما الربا
لأنهما، وإن ادّخرا، فلا يدخران لأنهما أصل في العيش غالبًا. وأنكر أيضًا
تعليل التمر لكونه متفكهًا به، لأجل أنه (1) أن كان قوتًا في زمن النبيّ -
صلى الله عليه وسلم -.
فأما هذه العبارات التي أوردناها عن أهل المذهب فإنها تتضمن الاتفاق على
تحريم الربا في أنواع لم ينص عليها كالذرة والدخن والأرز والسلت وما أشبه
ذلك لكون ذلك قوتًا مدخرًا اختيارًا واضطرارًا. ويتضمن الاتفاق على نفي
الربا عن أنواع فيما لم ينص عليها، كالبقول مثل الخضر والهندبا والقطن وما
أشبه ذلك. ويقع الإشك الذي أنواع أخر نفرضها (2) على هذه الحدود كالرمان
فإن فيه قولين: هل يحرم فيه التفاضل أم لا؟ لأجل أنه لا يدخر للعيش غالبًا،
وأنه أيضًا ليس بقوت ولكنه يدخر تفكها. وكذلك الخوخ وغيره مما سنذكر الخلاف
فيه، إنما تصور الخلاف فيه لفرضه (2) على هذه العبارات، واختلاف الفقهاء
فيه، في حكم العوائد فيه، فربما كان الشيء قوتا أو تفكها عند قوم، وكان
بخلاف ذلك عند آخرين، على ما سنقف على تفصيله إن شاء الله عَزَّ وَجَلَّ.
والجواب عن السؤال السادس أن يقال:
أمّا ما ذهب إليه ابن (3) واعتبار تقارب المنفعة، وما ذهب إليه ابن سيرين
من اعتبار المجانسة، وما ذهب إليه ربيعة من اعتبار تعلق الزكاة فإنه يرد
على هؤلاء بأن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "اشترى عبدا بعبدين" (4)
وبأنه "أمر عبد الله بن عمر بأن يأخذ القلوص بالقلوصين إلى إبل الصدقة"
(5). ومعلوم أن القلوص بالقلوصين تتقارب منفعتهما (6) ويتجانسان أيضًا،
وكلك العبد بالعبدين، والإبل فيها
__________
(1) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب حذفها.
(2) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب نعرضها.
(3) فراغ بمقدار كلمة في جميع النسخ. ولعله: ابن حبيب.
(4) نيل الأوطار: 5/ 314.
(5) نيل الأوطار: 5/ 315. قارن الهداية 7/ 193.
(6) هكذا، ولعل الصواب: تتفاوت.
(2/264)
الزكاة، وقد أباح منها القلوص بالقلوصين.
فهذا ينتظر (1) الرد على هذه الثلاث مذاهب المذكورة.
وأما اختلاف فقهاء الأمصار فرأى (2) التعليل. فإنا نتكلم ها هنا على
اختلافهم في تعليل الأربع المطعومات وهي البرّ والشعير والتمر والملح،
ويؤخر الكلام على اختلافهم في تعليل الذهب والفضة إلى كتاب الصرف.
فأما أبو حنيفة والشافعي فإنهما قد يتعلقان بظاهرٍ حسن يغنيهما عن التعليل
والقياس أو يجعلانه ترجيحًا لتعلقها وقياسها. فالشافعي منهما يقول: روى
معمر بن عبد الله عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "الطعام
بالطعام مثلًا بمثل" (3) وهذا يقتضي تحريم الربا في سائر المطعومات على حسب
مقتضى تعليل الشافعي رحمه الله بالطعم.
وأبو حنيفة رحمه الله يقول بأنه لما أنكر النبيّ - صلى الله عليه وسلم -
على عامل خيبر بيع الصالح بالصاعين، ذكر في آخر الحديث أنه قال في الميزان
مثل ذلك (4). وهذا معلوم أنه لم يرد نفس الميزان، وإنما عبّر عن الموزون
بالميزان، وعموم القول أن الموزون فيه الربا يقتضي استيعاب كل ما يوزن،
وإذا ثبت تعلق الربا بكل ما يوزن ثبت تعلقه بكل مكيل؛ لأن ذكر الموزون
تنبيه على المكيل ها هنا.
(والآخر أيضًا تعلق الربا بكل موزون عمومًا بل تعلقه ببعض المكيلات خصوصًا)
(5).
وأما نحن فلا ظاهر عندنا من الكتاب والسنة نتعلق به في تصحيح التعليل
بالقوت. لكنا إن سلمنا للشافعي هذا الحديث تأولناه على أن المراد به
الأطعمة المقتاتة.
__________
(1) هكذا.
(2) هكذا في جميع النسخ، ولعلها: في.
(3) الهداية: 7/ 185.
(4) فتح الباري: 5/ 304 - 305.
(5) هكذا في جميع النسخ.
(2/265)
وقيل: خصوصيته (1) - صلى الله عليه وسلم -
البر والشعير والتمر والملح بالذكر فلو كان سرعة (2) تحريم الربا في كل
مطعوم لم يحسن الاقتصار على أربع منها على أكثر المطعومات. ولا يمكن أن
يقال في هذا: إن الطعام في العرف عندهم لم يكن في عرف التخاطب في سائر
أنواع الأطعمة بل كان على صنف أو أصناف مخصوصة، فيحمل الحديث عليها.
وأمّا ما تعلق به أبو حنيفة فإنا لا نسلم له هذه الزيادة، ولا كونها من لفظ
النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، بل يجوز أن يكون من كلام الراوي وتأويله.
فإن قال الشافعي: إن لم يمكن من التعلق بعموم قوله "الطعام بالطعام مثلًا
بمثل" فإنه يجب أن يمكن من كونه منبّها على صحة العلة التي أخرجت، لأنّ
الحكم إذا علق باسم مشتق قإن معنى ذلك الاشتقاق علة الحكم. وحكم الربا ها
هنا معلق بلفظ الطعام والطعام مشتق من الطعم، فيجب أن يكون الطعم علة فيه.
ألا ترى قوله سبحانه {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} (3) {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا
أَيْدِيَهُمَا} (4) لما علق حكم الضرب والقطع على لفظ الزاني والسارق، وكان
ذلك مشتقًا من الزنا والسرقة، كان الزنا والسرقة علّة في الحكم.
وهذا لا نسلمه أيضًا لأن الأسماء إنما وضعت للدلالة على الذات وليتعارف بها
الذوات المرادة بالنطق في نفي أو إثبات. ولكنها إذا حملنا الزنا والسرقة
على الضرب والقطع ليس من ناحية مجرد الاشتقاق، ويكون مناسبتهما في الفعل
بهذا الحكم على مقتضى أصول الشرع وتأثيرهما فيه، وللتأثير الدال على صحة
التعليل هو أن تكون العلة تحمل مناسبة لما ربط بها من الحكم إذا
__________
(1) هكذا في جميع النسخ، والأوْلى: تخصيصه.
(2) هكذا في جميع النسخ.
(3) النور: 2.
(4) المائدة: 38.
(2/266)
عرضت على أصول غير معهودة في الشرع قوّت
الظن بصحتها. ومعلوم أن الزنا والسرقة جنايتان عظيمتان على الأموال
والإنساب، وأن الجاني إن لم يزجر عن جنايته، ويعاقب عليها. لم يكفّ عنها،
فكان الزنا موجبًا الحد، لكونه جناية عظيمة (يخرج للركب) (1) هذا الجاني
عنها بعقوبته. وكذلك السرقة إذا أخذت من غير حرز لم يجب القطع، لأن من لم
يصن ماله فهو الذي أضاعه، ولا يحتاج إلى صيانة الشرع فيه، فإذا تحرز وأغلق
على ماله ثم احتيل عليه وسرق له احتيج إلى إسناد الشرع في حصانة ماله بقطع
اليد الجانية المتناولة ثم الرِّجْل الساعية إليه. وهذه معان مناسبة للحكم
فلهذا سلمنا كونها عللا، ولم نسلم ذلك بمجرد الاشتقاق.
وهاهنا أيضًا ظواهر أخر منع فيها الشارع، فتجاذبها المختلفون، وهي قوله
عليه السلام: "لا تبعيوا البر بالبر إلا مثلًا بمثل" الأحاديث الواردة في
هذا على اختلاف ألفاظها. وقد افتتحها بالنهي عن بيع البر بالبر عمرمًا، ثم
استثنى من هذا النهي ما تساوى فيه الكيل. فيقول المخالف لأبي حنيفة: قد عمّ
قوله "لا تبيعوا البر بالبر" بأقل من البر أو أكثر، وما لا يمكن كيله
لقلّته، وما أمكن كيله لكثرته، وأنه حكم ما جرى التفاضل فيما قل من الطعام،
فلم يمكن كيله لقلته، وعموم الحديث يقتضي المنع منه، وتعليل الحديث بما
ينافي عمومه لا يقبل، كتفريع على أصل يعود التفريع بإبطال الأصل.
ويجيب أبو حنيفة عن هذا بأن المراد بقوله "لا تبيعوا البر بالبر إلا مثلًا
بمثل" ما كان من البر يصح كيله لأن قوله "كيلًا بكيل" بيان لما تقدم،
وإشارة إلى أن المراد به ما يصح كيله، والاستثناء إنما يكون من جنس
المستثنى فقدله "إلا كيلًا بكيل" استثناء مما يصح كيله، هذا حقيقة
الاستثناء. وإذا دل الاستثناء على أنه مجانس لما استثنى منه تضمن ذلك كون
المستثنى فيه (2) مما
__________
(1) هكذا.
(2) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: منه.
(2/267)
تصح فيه المساواة في الكيل والمفاضلة.
ويرى أصحاب أبي حنيفة أن هذا المراد (1) بهذا الحديث ويقولون: قد روي
الحنطة بالحنطة مثلًا بمثل وفي رواية "مثل بمثل" فمن نصب "مثلًا" أضمر فعل
أمر فكان التقدير بيعوا الحنطة مثلًا بمثل. ومن رفع أضمر مصدرًا فكان
التقدير: مثل بمثل. فيكون هذا بمعنى المبتدأ والخبر. فلم يأت في هذه
الرواية لفظ آخر يعم ما يمكن كيله مما لا يمكن.
قيل لهم: ورد فيها إيجاب المساواة بين البرين إذا بيع أحدهما بالآخر، فيحمل
ما سواه من الألفاظ الواردة في الطرق الأخرى على هذا، ويكون القصد
بالأحاديث إيجاب التسوية.
قالوا: وإذا كان المراد إيجاب التسوية فالتسوية تكون من ناحية الذوات، ومن
ناحية المقدار، فإيجاب التسوية من ناحية الذوات هو اشتراط الجنس، وهو أحد
وصفي العلة، واشتراط إيجاب المساواة أيضًا يقتضي المساواة في المقدار، ولا
تكون المساواة وتتحقق وتعرف إلا من ناحية الكيل، فقد تضمن هذا كون الجنس
والكيل عُلقة بتحريم الربا بواسطة إيجاب التسوية، ولا معنى لمناقضتها في
قولنا: إن الكيل علة، فإنه يكون علمًا على التحليل إذا تساوى وعلمًا على
التحريم إذا تفاضل. ولا يكون الوصف الواحد علة التحليل والتحريم لأنا قد
بيّنا أن المطلوب إيجاب التسوية لا أكثر، وإنما يتوصل إلى التسوية بالكيل،
والتساوي .. بسب الخلاص من التحريم. وهو المطلوب في الشرع، وليس هو علة في
التحريم والتحليل، وإنما هو علم على المساواة التي أوجبها الشرع. ولا يناقض
أيضًا بجواز صاع برّجيّد بصاع بر ردىء، لأن الشرع إنما طلب المساواة من جهة
التشابه كيلًا ومقدارًا، لا مساواة تعم سائر الأوصاف لأنه لو شرع هذا كان
من الحرجِ العظيم، وانقطعت المعاوضات ها هنا، مع كون هذا الوصف غير منفرد
عن الذات، ولا متميز، والاختلاف في المقدار متميز
__________
(1) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: هذا هو المراد.
(2/268)
محسوس بحس قدر أحدهما بالآخر. فإن المقابلة
تشاهد، فإن (طالت أحدى) (1) على الأخرى في المقدار صارت تلك الزيادة لا
مقابل لها، وإذا كانت المقابلة لم تتأتّ فيها حقيقة المساواة مع هذه
الزيادة المحسوسة، ومعلوم أن البر إذا بيع بالبر هما متساويان قطعًا، فإذا
بيع صاع بصاع (2) صار الصالح الثاني لا مقابل له، وإذا لم يكن له مقابل
استح الذيه حقيقة المعاوضة، لأن حقيقة البيع نقل الملك بعوض، والمقابلة في
المعاوضة إنما تصح مع المساواة في التقابل، فإذا لم يكن التقابل نافر ذلك
حقيقة (ذلك فاسد) (3)، وهذا الصالح الزائد لا مقابل له فعروّه عن مقابلته
بشيء يسلبه حقيقة البيع وقضيته وما أستُلِب منه حقيقة البيع وقضيته فسد.
فلهذا المعنى حرم الربا فيما تجانس، وصار المقابل له خرج من الملك بغير
معاوضة، فلحق بأكل المال بالباطل.
والمقابلة مع الاختلاف في الجودة والدناءة يتصور، ولا يتبين عدم المقابلة
فيها كما تتبين في زيادة المقدار، كما قدمنا.
وأجيب عن هذا بأن المقابلة في المعاوضة إنما تحمل (4) بقصد المتبايعين،
وهما إذا جعلا قصد الصالح عوض (الصاعين) قد قابلا أحد العوضين لقصدهما إلى
مقابلة هذا بهذا في التعاوض، ألا ترى أن العدديات من المطعومات لا ربا فيها
عند أبي حنيفة، وإن لم يتقابل، كبيع بيضة ببيضتين، وجوزة بجوزتين، وما ذلك
إلا لقصد المتعاوضين جعل الواحد ها هنا عوض الاثنين، ولو لم يعتبر القصد
لوجب المنع، لكون البيضة الثانية والجوزة الثانية لا مقابل لها، فخرجت عن
حقيقة البيع.
وأجيب عن هذا بأن هذه العدديات وما اختلفت أجناسه إنما يكون التقابل فيهما
بالقيمة، ولهذا كان على متلفها القيمة في المثل، كما يكون عليه إذا أتلف
__________
(1) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: زادت إحداهما.
(2) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: بصاعين.
(3) هكذا في جميع النسخ.
(4) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: يحصل.
(2/269)
مكيلة من البر مكيلة من البرّ وإذا كانت
المقابلة إنما تعتبر بالقيمة، والشرع لم يطالب بالتقويم والمقابلة، لأنه
أمر خارج عن الذاتين بالتعاوض (1) بهما، فلهذا صح العقد مع المفاضلة
والزيادة في العددية، وفي الجنسين المختلفين.
وهاهنا أيضًا طريق في الاعتبار يتجاذبها المختلفون في هذا التعليل، وهي أن
الشافعية تقول: الإنسان شريف في نفسه، له في الوجود مزية على غيره، فما
حفظه وقامت حياته به وجب أن يكون شريفًا وله مزية على غيره فالمطعومات بها
قوامه فيجب أن لا يمتهن ويبتذل بلا بيعٍ ولا إباحةٍ له على الإطلاق، كما
يكون الأمر في غيرها من الأموال التي لا شرف لها. ولا يحسن أيضًا أن يحظر
بيعها، فيكون في ذلك حرج وإضرار بالناس، فخصت باعتبار شروط لم تعتبر في
غيرها حتى تكون لها مزية على غيرها في تضييق العقد عليها، فمنع فيها
المفاضلة والنساء، كما اشترط في النكاح الصداق والولي لشرفه على غيره من
المتملكات، لأجل ما فيه من تحصين الإنساب.
وهذا للمالكية أن يقول أيضًا فيه. حفظ حياة الإنسان بالأقوات لا يساوي
المطعومات، فيجب أن يختص هذا الشرف وهذه المزية بالأقوات خاصة دون غيرها من
الأطعمة.
وأصحاب الشافعي لا يمكنهم مدافعتهم عن هذا بالمناكرة لكنهم يدفعونهم عن هذا
بنصه عليه السلام على الملح، والملح ليس بقوت ولكنه مطعوم، فلهذا لم يخص
الشرف على المطعومات التي هي أقوات، بل يخص به سائر المطعومات عمومًا، لأجل
التنبيه بذكر الملح على الطعام على القوت.
والمالكية تجيب عن هذا بأن الملح وإن لم يكن قوتًا فإنه يصلح القوت، فلا
يستطاب اللحم والخبر. وغيرهما من الأقوات إلا إذا أصلح به، فكأنه مقوّم
للقوت، والمقوم للشيء يعدّ من جملته.
وأصحاب أبي حنيفة يدافعون هذه الطريقة بأن الحاجة إلى القوت تقتضي
__________
(1) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: المتعاوَض.
(2/270)
السعة من الإباحة والإطلاق، لأن أصل
البياعات إنما شرعت لأجل الحاجة إليها، فكلما كانت الحاجة إليها أمسّ كان
أحق بإطلاق الإباحة واجتناب التقييد، وبيع الشيء بجنسه يشعر أن ذلك الجنس
يحتاج إليه المتعاوضان، ولهذا لم يعدل أحد ما عن جنس ما في يديه، بخلاف
المعاوضة بجنسين مختلفين، فإن ذلك يشعر باستغناء كل واحد منهما عن الجنس
الذي باعه. وإذا وضح مسيس الحاجة إلى الجنس الواحد وجب أن توسع الإباحة
فيه، خلاف ما أشار إليه أصحاب الشافعي من كونه يجب أن يختص لأجل شرفه بنصين
(1) في الإباحة.
ويجاب عن هذا بأن مسيس الحاجة إليه تقتضي المنع من بذله وامتهانه بمعاوضة
وجنسه (2) على صاحبه لأجل حاجته إليه، فضيق عليه طرق الإباحة في العقود
ليحفظ عليه، ويصان له. وإذا كان نظر التعليل اعتبار الشرف، على حسب ما
بيناه، كان الطعم والقوت مجرد علة، ويكون اشتراط الجنس، الذي اتفق الجميع
من فقهاء الأمصار، شرطًا أو محلًا، لأجل أنه لا يظهر في اشتراطه معنى مؤثر
على حسب ما أظهرناه في اعتبار الطعم والقوت.
وقد ذكرنا عن أصحابنا المالكية عبارات مختلفة في التعليل، فمن لم يقتصر
منهم على ذكر القوت خاصة قال: إن القوت يفتقر إلى متهمم وهو الأدُم والدهون
وهو (3) الملح، وإن كمل (4) الشيء المتمم له والمقوم له والمصلح يكون كبعض
أجزائه، فلهذا عددوًا مع القوت ما ذكرنا من تلك العبارات.
ويرون أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ذكر البرّ لأنه يقتات في حال
الاختيار والسعة. فقد نظّر الشارع القوت الاختياري فذكر الشعير لأنه قوت في
حال الاضطرار، ثم ذكر التمر لأنه وإن كان مما يتفكه به ففيه معنى القوت، ثم
ذكر الملح لأنه مصلح
__________
(1) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: بنصّ.
(2) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: حبسه.
(3) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب خذف: هو.
(4) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: والمكمل.
(2/271)
للقوت، فالأربع المذكورة تشترك في كونها
مأكولة ومكيلة ومدخرة ومقتاتة فكونها مكيلة لا يصلح أن يكون علة، للكيل (1)
فيها واقع على وجه واحد لا يختلف، فلم يكن للتعديد والاقتصار على أربع
فائدة، مع أن الكيل والوزن فإن (2) أريد به ما يصلح أن يكال ويوزن ويمكن
ذلك فيه، فقد يمكن الوزن فيما لا ربا فيه كالثياب، وإن أريد به ما جرى فيه
الكيل والوزن في معيار الشرع، فقد توجد مكيلات وموزونات لم يكن لها وجود في
عصر الصحابة، فإن أريد المعيار المتعارف فأهل البلاد يختلفون في الاصطلاح
على معيار، فقدم يكتالون الشيء وقوم يزنونه وقوم يعدّونه وقوم يجازفون فيه.
وهذا يؤدي إلى اختلاف الربا باختلاف أهل البلاد. فلا ينتقض هذا بأن القول
يختلف أيضًا باختلاف أهل البلاد، لأن ما يحفظ حياة الناس يحفظها في كل
مكان، لكنه في بعض الأمكنة ربما عزّ وجوده فلم يجدوه قوتا، ولكنه في نفسه
مهيأ لكونه قوتا، فإذا بطل التعليل بالكيل، والتعليل بالطعم، لأن المقصود
منه على الأكثر كونه حافظًا للحياة أو متممًا لما يحفظها أو هو مالكها (3)،
وبطل التعليل بمجرد الادخار، لأن الادخار إنما الغرض منه في أكثر القوت،
وقد رفق الله سبحانه بعباده فجعل أقواتهم مما يبقى حتى يدخروها لوقت الحاجة
إليها، فصار الحاصل من نقد هذه الأوصاف اعتبار القوت والغرض المقصود في
أكثر في الأطعمة المخلوقة للإنسان وقد سلك بعض أصحاب الشافعي قريبًا من هذا
المسلك، فقال (قدحا من الأربعة يمنع الدين) (3) فيما تجانس وإباحته فيما
اختلف، وما ذلك إلا لكون المتجانس الغرض فيه واحد، وإذا كان مطلوب الشرع
إيجاد الغرض، طلبنا نحن الكشف عن الغرض ما هو؟ فوجدناه للطعم لأن المطعومات
ما خلقت لتكال أو توزن، لكن لتؤكل، فنقول نحن: بل لتكون قوتا حافظًا لحياة،
على حسبما بسطناه.
__________
(1) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: لأن الكيل.
(2) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: إن.
(3) هكذا في جميع النسخ.
(2/272)
واعلم أن أصحاب أبي حنيفة إن عورضوا في
التعليل للذهب (والوزن) (1) بالوزن، وكون المصوغات من الذهب والفضة فيها
الربا وإن لم توزن، اعتذروا عن هذا بأنه عليه السلام قال "الذهب بالذهب
مثلًا بمثل" فاحتمل عمومه على ما يوزن وما لا يوزن، فمنع ما لا يوزن منه
بحق العموم لا بحق التعليل، وكذلك إذا عورضوا بأن أحد الوصفين يستقلّ علة
في الربا، ربا بالنساء، وقد تقرّر ومنع بيع الذهب بالفضة لاشتراكهما في أحد
وصفي العلة وهي الوزن، وجاز بيع الزعفران بالدنانير نساء، وإن اشتركا في
أحد وصفي العلة وهو الوزن، اعتذروا بأن هذا الاشتراط إنما يؤثر إذا كانا
جميعًا ثمنين أو مثمونين، فإذا كان أحدهما ثمنا والآخر مثمونا كالدنانير
بالزعفران جاز ذلك إجماعًا وصار هذا الإجماع مخصصًا لهذا التعليل، أو يعتذر
عنه بأن الوزن في الأثمان كالكيل في غيرها من المثمونات، فلم يشتركا في علة
واحدة لكون الوزن في الدناير التي هي أثمان كالكيل في المثمونات، والوزن في
الزعفران على حقيقته لا ينقل عنه إلى التشبيه بغيره. ولعلنا أن نبسط ما
تعلق بهذا الاعتراض من أصول الفقه في كتاب الصرف إن شاء الله، ونتكلم على
التخصيص وقصرها.
والجواب عن السؤال السابع أن يقال:
اختلف المذهب في ثبوت الربا في بعض الثمار، كالرمان، فقال مالك رحمه الله:
لا ربا فيه (عند مالك) (2) ولا في التفاح. وقال ابن نافع بإثبات الربا
أيضًا في التفاح (والعين) (3) والإجاص والموز. وذكر أن ذلك مما ييبس ويدخر.
وحكى ابن المواز أنه لا ربا فيه، وذكر أيضًا مما يشير إلى كراهية التفاضل
فيه، فقال: وقد قال: لا يعجبني، وغير (4) منه قال ابن المواز: يريد
__________
(1) هكذا في جميع النسخ، ولعله زائدة والأولى حذفه.
(2) هكذا في الجميع، وهي زيادة.
(3) هكذا في الجميع، ولعل الصواب والعين الإجاص. انظر ص 276.
(4) كلمة غير واضحة، ولعلها: ما يَبْيَسُ.
(2/273)
الرطب منه بالنضيج. فأما سبب الاختلاف في
ثبوت الربا في الرمان، ففرضه، على ما تقدم من عبارات أصحابنا عن علة الربا
في المطعومات الأربع المذكورة في الحديث. فمن علّل بالادخار للعيش غالبًا
لم ير في الرمان ربا، لأنه لا يدخر للعيمثل غالبًا. ومن أثبت فيه الربا رآه
مما يدخر للتفكّه ويكون أُدما، وقد قدمنا أن الأدم للقوت فحكمه حكمه. وكذلك
يرى الخلاف في الخوخ وغيره مما ذكرنا الخلاف فيه، فإنه إذا عرض على ما
قدمناه من التعليل ظهر فيه وجه الصواب. وربما كان سبب الخلاف منازعة في
المختلف فيه هل هو ما يدخر أو لا يدخر؟ ولماذا يدخر، هل للدواء وما في
معناه، أو للأكل، أو للعيش، والائتدام؟ فمن اعتقد فيه أحد الأمرين أعطاه
حكم مقتضى ما اعتقد فيه. وأما اللوز فقد ذكرنا عن ابن المواز حكايته الخلاف
فيه وتأويله لكراهة للتفاضل فيه، على أن المراد رطبه بيابسه. وهذا منه
إشارة إلى أنه ليس من جنس ما يدخر للعيش والائتدام وتكون الكراهية محمولة
على وجه آخر وهو بيع الرطب باليابس، وبيع الرطب باليابس إذا كانا هما للربا
فلا يختلف عندنا في المنع من ذلك، كبيع الرطب بالتمر متماثلًا. وإن كانا
مما لا ربا فيهما ففيه اختلاف في المذهب إذا لم يتبين فضل أحدهما على
الآخر، هل يمنع لأجل ما يتصور فيه من المزابنة أو لا يمنع؟ فإذا كان الموز
مما لا يدخر من المقتات، ولا هو من مصلحات الأقوات، على حسب ما قدمناه لم
يكن فيه مطلب ابن المواز، لأجل أن هذا وجه آخر للكراهة فأخرجها عن هذا
الباب إلى باب النهي عن المزابنة. هذه طريقة بعض الأشياخ، ومنهم من رأى أن
الكراهية إنما وقعت لأجل أنه لا ينقطع شتاء ولا صيفًا فصار اتصال وجوده
ودوامه على جهةٍ ما، ذَهَبَ كالادخار.
وهذا النهي الذي أشار إليه ليس هو حقيقة الادخار إنما هو الادخار في الذات
الواحدة المعتبر حصول وصف الربا (بية لا فيها) (1) على جهة التعاقد
__________
(1) هكذا في جميع النسخ، والمعنى حصول البقاء في الذات لا في الجنس.
(2/274)
وخلف ذات أخرى. ولأجل ما في هذه الطريقة من
التعقب الذي ذكرناه عن (1) ابن المواز إلى طريقة أخرى وهي إلحاق ذلك بحكم
المزابنة.
وقد أشار مالك رحمه الله إلى هذه الطريقة فقال: إن في البصل والثوم الربا
لأنهما مما يدخران. واختلف المذهب عندنا على قولين في التأويل (2) كالفلفل
والكمُّون والكَرَوْيا هل هذه الأصناف مما يدخر في الربويات أم لا؟ على ما
كنا قدمنا ذكره في بيع الطعام قبل أن يستوفى، فالاختلاف في هذا ينصرف أيضًا
إلى ما قدمناه وهو النظر في هذه التأويل (2) هل هي مصلحة للقوت كالملح
المنصوص عليه، ولهذا يراد في الاستعمال، أو إنما يستعمل في الغالب دواء.
وأما الزفيزف (3) فلا ربا فيه، لأنه وإن جفف رطبه وادخر فلا يدخر غالبًا
للإدام أو التفكه، وإنما يدخر للتداوي. وكذلك الفريك (3) وما في هذا المعنى
مما يجفف ويطول بقاؤه فلا يفسد، مما لا يقصد بادخاره إلا التداوي به، وكذلك
الحلبة، واختلف هل هي طعام؟ فقيل: هي طعام، وقيل: ليست بطعام، وقيل: أما
الخضراء أو المبلولة فهي طعام. وهذا أيضًا يعرض على ما قدمناه على القصد
بها التداوي والعلاج، أو أكل. ومن شرط في كونها طعامًا أن تكون خضراء فلأجل
أن اليابسة لا تؤكل، ولا تدخر لتيبس (4)، بخلاف الترمس الذي يدخر لييبس
(4).
واختلف أيضًا في البيض فالمشهور أن فيه الربا لأنه مما يؤكل ويحفظ الحياة
ويكون بمعنى القوت، ويدخر أيضًا مدة طويلة. وإنما يفسد إذا مرّ عليها الصيف
لأجل حرارة الصيف. وذكر ابن شعبان قولًا آخر بإجازة التفاضل فيه.
وذكر حماد أنه سمع أن محمَّد بن عبد الحكم يذكر أنه لا ربا فيه كالفاكهة.
__________
(1) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: مال.
(2) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب. التوابل.
(3) هكذا، والظاهر أنهما نباتان يتداوى بهما.
(4) كلمة غير واضحة.
(2/275)
فقلت: أرأيت لو رطبه (1) محرم أليس عليه
الجزاء والفاكهة لا جزاء فيها؟ قال: فسكت. وذكر ابن حارث عقيب هذا الذي نقل
عن حماد أن ما ناقضه به لا يلزم؛ لأن الحيوان في الجزاء إذا قتله المحرم
وإن كان مما لا ربا فيه.
وأما الزفيزف فإنه لا ربا فيه. واعتل ابن المواز لهذا بأنه إن كان جفف ويبس
فإنه لا يُفعل ذلك للعيش والأكل لكن للعلاج. وهذا تنبيه على صحة ما قدمناه
من ذكر الثلاثة التي يدور عليها فرض هذا الباب، وهي اعتبار الغرض في مقتضى
العادة في الطعام هل يدخر ذلك وارى (2) العلاج أو الاقتيات والأدم وإصلاح
القوت على حسب ما تقدم بسط القول فيه.
والعين الذي هو الإجاص اختار بعض أشياخي كونه مما لا ربا فيه، لأنه إنما
يجفف ويدخر للعلاج والتداوي لا اقتياتًا ولا تفكها.
وأما الألبان واللحوم فإنها يمنع الربا فيها، وإن كانت للغالب أنها لا تدخر
لأجل أنها إنما تقتات غالبًا حال رطوبتها، وهو الغرض المقصود منها. وكذلك
اللُّحمان، وإن كان الغالب أنها لا تدخر، فالغرض المقصود منها هو المستعمل
في الاقتيات. وقد نبهنا على الاقتيات، وهو المعتمد عليه في التعليل على أنه
قد تجفف اللحمان فتدخر. وكذلك الألبان يصنع منها غالبًا ما يدخر كالجبن
والأقِط والسمن، فأعطيت حال رطوبتها حكم ما نص عليه بالصنعة من الادخار
والاقتيات. لكن المخيض بالجبن وقع فيه قولان: هل يجوز ذلك لكون المخيض لا
يكون منه جبن فلا يدخل في نوع بيع الرطب باليابس المنهي عنه، كما تقدم. أو
يمكن أن يعمل من المخيض أقِطًا فيكره بيع المخيض بالجبن، لأجل أنه يتكون
منه بالصنعة الأقط، والأقط والجبن مُنع فيهما الربا. وقد قال في المدونة:
لا بأس ببيع المضروب بالسمن. وقال بعض الأشياخ: هذا يشير إلى أنه لا يحرم
في المخيض والمضروب التفاضل، إذا بيع بمثله، لكون
__________
(1) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: وَطِئَهُ.
(2) كلمة غير واضحة، ويصح الكلام بدونها.
(2/276)
المضروب لا يدخر ولا يصنع منه ما يدخر،
بخلاف الحليب الذي يصنع منه ما يدخر كالجبن والسمن والأقط، وأجرى في جواز
التفاضل في المخيض والمضروب اختلافًا في إثبات الربا، لكونهما نوعًا من
جنسٍ الغالبُ ادخاره، أو يجوز فيهما الربا لكونهما في أنفسهما لا يدخران،
فكذلك يكون حكم المخيض.
وقد ذكر القاضي أبو محمَّد رحمه الله في الكتاب الذي هذا شرحه وهو التلقين،
اختلافًا في التين. وذكر ذلك مطلقًا من غير تقييد شتوي ولا صيفي، ويبعد نفي
الربا عن التين المدخر لكونه مما يقتات كالزبيب. وإذا اتفق المذهب على منع
الربا من الزبيب لكونه مقيسًا على الثمن (1) المنصوص عليه في الحديث.
فالتين كالزبيب في هذا المعنى.
وأما الزيوت فإنها مما منع فيها الربا، لكونها تدخر ويؤتدم بها. لكنها
تتنوع أنواعًا، فما تحقق فيها ادخاره للائتدام ويكمّل القوت، فإنه يتضح على
أصلنا إثبات الربا فيه، وعلى أصل الشافعي الذي يراعي الطعْم، وعلى أصل أبي
حنيفة. لكن بعض أصحاب الشافعي قسمه على أربعة أنواع: أحدها: ما يدخر
للائتدام كزيت الزيتون، وزيت الفجل وما أشبههما. والثاني: ما يدخر للتداوي
كدهن الخروع، والخوخ، فإنه يثبت فيه الربا عندهم لكونه مطعومًا، والمطعومات
خلقت لحفظ الحياة، على ما تقدم، فما كان منها مطعومًا لكنه لا يستعمل إلا
تداويًا، فإنه يثبت فيه الربا، لأن الدواء والصحة على البدن السقيم، كما أن
الغذاء والقوت يحفظ الصحة على البدن الصحيح، فقد استويا في كونهما قوتين
لكن أحدهما اختياري، والآخر ضروري. وهكذا الهليلج (2) والبليلج يثبت فيهما
الربا لكونهما من جملة الطعام ويَرُدّان الصحة على البدن السقيم، فكانا كما
يحفظهما على البدن الصحيح.
__________
(1) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: التمر.
(2) في القاموس: إِهْلِيلج.
(2/277)
ومن الادهان قسم ثالث، وهو ما يستعمل طيبًا
كدهن الورد والبنفسج والزنبق فإن فيها لكونها تؤكل، وليس إمساكها لما هو
أعلى، وهو التطيُّب، بالذي يخرجها عن كونها مطعومة.
ومنها قسم رابع وهو مما لا يؤتدم به، ولا يتداوى، ولا يكون طيبًا، كزيت
البذر فإنه لا ربا فيه. وهكذا اتفقوا الربا في الطين الأرميني لكونه
مطعومًا يتداوي به. ونَفَوْه عن الطين الخراساني وشبهه لكونه لا يتداوى به،
وإنما يكون لشهوة فاسدة كما يؤكل سفها وعيبًا، وقد قال عليه السلام لعائشة
رضي الله عنها: "لا تأكلي الطين فإنه يصفر اللون" (1). وعندنا نحن اختلاف
في جواز أكل الطَّفل سنذكره في موضعه إن شاء الله.
وأما الماء، فإنه لا ربا فيه عندنا، هذا المعروف من مذهبنا. وذكر القاضي
أبو محمَّد أن (2) ابن نافع في الماء بالطعام إلى أجل لا يجوز، ليخرّج منها
إثبات الربا فيه. وفي هذا التخريج نظر لأن من المطعومات ما يحرم بيعه
بالطعام إلى أجل، ويمنع بيعه قبل قبضه، كالفاكهة التي لا تقتات ولا تدخر،
ومع هذا المنع يجوز الربا فيها إلا على رواية ابن وهب التي قدمنا ذكرها، من
اعتبار منع بيع الطعام قبل أن يسْتوفى، أن يكون الطعام مما يمنع فيه الربا.
وأما أصحاب الشافعي فإنهم ذكروا أن من مذهبهم قولين في إثبات الربا في
الماء، نفاه بعض أصحاب الشافعي وأثبته غيره من أصحاب الشافعي وهو الصحيح
عند أبي حامد الإسفراييني، لكن أبا حامد خرّج من هذا الاختلاف اختلافًا في
مسألة أخرى، وهو بيع دار بدار فيها بئران، وقلنا: إن الماء لا يملك، وإنما
يمنع صاحبه منه لحيازته إياه، وكونه مستحقًّا للمنع من التطرق في داره، فإن
بيع دار بدار جائز، لكون الماءين اللذين بهما غير مملوكين، فلم يقع عقد
عليهما.
__________
(1) انظر: تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة لابن عراق
الكناني: 257.
(2) كلمة غير واضحة، ولعلها: رواية - انظر المعونة: 2/ 963.
(2/278)
قال: وإن قلنا: إن الماء مملوك، وقلنا: إن
الماء يثبت فيه الربا، منع من بيع دار بدار فيها بئران، لأجل اجتناب (1)
هذا العقد على التعاوض بأمرين فيهما الربا وبأمرين لا ربا فيهما، وهذه
أحجار الدار قبض هذا، كمن باع ثيابًا ودنانير بثياب ودنانير وهو الذي خرجه
في بيع دار بدار فيهما ذهبنا نحن إلى الصحيح، فخرج القاضي أبو محمَّد عبد
الوهاب إخراج الربا فيه من الرواية التي ذكرناها عنه، وقلنا: الانتفاع
مقصوده في العقود وجب منع بيع - دار بدار فيهما بئران حلوان، أو عينان كما
قال أبو حامد. وإن قلنا: إن الأتباع لا حصة لها من الثمن، وغير مقصودة في
العقود جاز البيع، وإن كان الماء فيه الربا، لكن الماءين تَبع في الدارين.
وسنتكلم على هذا في بيع السيف المحلَّى بذهب يسير، أو بيع الشجر المثمر
بشجر مثمر مثله. وقد تقدمت إشارتنا إلى هذا في بيع الشجر المثمر بطعام إلى
أجل، وذكرنا ما في ذلك من الخلاف. فوجه قول من نفى الربا في الماء كونه خلق
للامتهان والبذلة حتى ورد في الشرع النهي عنه عند بعض العلماء، وما ذلك إلا
تنبيهًا على المسامحة به وبذله. وقد قدمنا أن علة الربا مبنية على اكتساب
الأقوات حرمة وشرفًا يجب أن يصان عن الامتهان إلا على خفة. فلو قلنا: إن
الماء فيه الربا لكان هذا. مخالفًا لموضوع الأصل الذي قررناه وعللنا به
الربا، ووجه القول بإثبات الربا فيه بأنه طعام قال الله تعالى: {إِنَّ
اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ
لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} (2) فسماه طعامًا، وإذا كان طعامًا فهو
أيضًا مما يحفظ الحياة، والصبر عنه أقل من الصبر عن القوت، وفيه تكملة
وتتميم القوت، فوجب أن يثبت فيه الربا.
قال القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب رحمه الله:
فكل مسمى مما يحرم التفاضل فيه فإنه صنف مفرد بنفسه لا يضم إليه
__________
(1) كلمة غير واضحة في الجميع، ولعلها: اشتمال.
(2) البقرة: 249.
(2/279)
سوى أنواعه، إلا الحنطة والشعير والسلت
فإنها كصنف واحد، واختلف قوله في القطنية.
قال الفقيه الإِمام رحمه الله تعالى: يتعلق بهذا الفصل تسعة أسئلة، منها أن
يقال:
1) ما الدليل على كون القمح والشعير نوعًا واحدًا؟ (1)
2) وهل القمح والشعير جنسان؟ (2)
3) وهل يضاف إلى القمح والشعير والسلت غيرها أم لا؟
4) وما حكم ما مسته النار مما تفرع من هذه الحبوب؟
5) وما حكم ما يستخرج مما فيه الربا؟
6) وما حكم ثمر النخيل؟
7) وما حكم اللحوم؟
8) وما حكم ما صُنع منها؟
9) وما حكم ثمنَ (3) صنع منها؟
10) وما حكم ما تولد عنها؟ (4)
وما حكم المراتبة؟ (5)
والله المستعان.
فالجواب عن السؤال الأول أن يقال:
اختلف الناس في القمح والشعير هل هما جنس واحد أو جنسان؟ فذهب مالك إلى
أنهما جنس واحد.
__________
(1) لَمْ يَرِدْ الجواب عن هذا السؤال.
(2) جواب هذا السؤال هو الأول في الشرح.
(3) فراغ: بمقدار كلمة ولم يرد جواب عن هذا السؤال بالشرح.
(4) لم يرد الجواب عنهما في الشرح.
(5) لم يرد الجواب عنهما في الشرح.
(2/280)
ورُوي أن معمر بن عبد الله بعث غلامًا له
بصاع قمح، وأمره أن يبيعه ويشتري به شعيرًا، فأتاه بصاع ونصف، فقال له:
ردّه، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "الطعام بالطعام
مثلًا بمثل" وطعامنا يومئذ الشعير (1). فهذا صاحب روى الحديث، وحمله على
كونه يقتضي منع التفاضل بين القمح والشعير.
وأجاب المخالف عن هذا بأن لفظ الحديث لا يقتضيه؛ لأنه إن أراد بقوله
"الطعام بالطعام" أي الشعير بالشعير لكونه طعامهم حينئذ، كما قال الراوي،
فلا يختلف في تحريم التفاضل بين الشعير والشعير، وإن أراد الطعام بالطعام
عمومًا، جنسًا كان أو جنسين، فإن هذا متفق على منع الذهاب إليه لكون
التفاضل بين الجنسين جائزًا باتفاق إذا بيعا يدًا بيد. وإذا كان هذا متفقًا
عليه في الجنس الواحد أنه ممنوع التفاضل، افتقر إلى نظر آخر، هل القمح
والشعير جنس واحد أو جنسان؟ على أنه قد روي في هذا الحديث أنه قيل لمعمر:
إنه ليس مثله قال: أخاف أن يضارع (2). وهذه إشارة إلى توفي التفاضل
استحبابًا لا إيجابًا.
وكذلك ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه نهى عن التفاضل بين القمح
والشعير، يمكن أن يكون ذلك استحبابًا لا إيجابًا. وسعد بن أبي وقاص أنه ذهب
إلى المنع من ذلك أيضًا فإن مذهبه وحده لا يكون كالإجماع، ويستدل مالك
أيضًا على منع التفاضل بين القمح والشعير بأن ما تجانس من هذه الأطعمة منع
التفاضل فيه وما اختلف جنسه جاز التفاضل فيه. والمعتبر في الجنسية ها هنا
تجانس المنفعة وتقاربها لأنه المطلوب من هذه الذوات ومراد الخلق بها
والمقصود بملكها؛ وأما نفس الذات فمالكها على الحقيقة الله سبحانه وحده
القادر على إيجادها وإعدامها، وإنما يملك الخلق على الحقيقة الانتفاع
__________
(1) البيهقي: 5/ 283.
(2) نفس المرجع السابق.
(2/281)
بها فاقتضى هذا اعتبار تساوي المنفعة
وتقاربها لا اختلاف الصور والأشكال.
والقمح والشعير قوتان متقاربان في القوتية، فوجب أن يكونا جنسًا واحدًا.
وأجيب عن هذا بأنهما غير متقاربين في القوتية لأنهما لا يقتاتان في بلد
واحد على حد سواء، وإنما يقتاتان على جهات مختلفة، إما لعزة القمح وعدمه،
فيرجع إلى الشعير، أو لاعتياد التقوت بأحدهما. وقد أكد الشافعي هذا بأن
قال: التمر والزبيب جنسان مع كونهما قوتين حلوين يخرصان، فكذلك القمح
والشعير.
ومما يعتمد عليه من قال: هما جنسان، قوله عليه السلام "البر بالبر والشعير
بالشعير والتمر بالتمر" الحديث المذكور فيه "فإذا اختلفت هذه الأصناف
فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد" (1) فأفرد كل واحد من هذه بتسمية،
وإفراده بها يدل على أنه جنس خارج عما سمى قبله وبعده من الأجناس، وأيضًا
ففي بعض طرق الحديث "وبيعوا البر بالشعير والشعير بالبر كيف شئتم يدًا بيد"
(2) الحديث كما وقع.
ولا يعترض بأن القمح الجيد بينه وبين القمح الرديئ من التفاوت مثل ما بين
دنيئ القمح وجيد الشعير، ثم مع هذا لا يحل التفاضل بين جيد القمح ودنيئه.
ولا يتأول تسمية البر والشعير لأجل ما ذكرناه من دلالة هذا الحديث من كون
اختلاف اسمائهما يشعر باختلاف أجناسهما.
والجواب عن السؤال الثاني أن يقال:
اختلف الناس في بيع ما فيه الربا من الحبوب بدقيقه، فذهب أبو حنيفة
والشافعي إلى منع بيع البر بدقيقه. واختلف الرواة عن مالك، فذكر ابن القصار
أنه روي عنه المنع إذا بيع أحدهما بالآخر كيلًا. ورواية الجواز على أنه إذا
بيع أحدهما بالآخر وزنًا. ومن أصحابنا من ذهب إلى حمل رواية الجواز على
__________
(1) تقدم تخريجه.
(2) البيهقي: 5/ 283.
(2/282)
مكيال الدقيق وزنًا، ولا يكون ربا. ومن
أصحابنا من ذهب إلى أن الروايتين معمولتان على إطلاقهما. وفي كتاب ابن حبيب
أن الجواز فيما يكلفنا (1) بفعله الجيران على جهة المعروف، وأما ما كثر فلا
يجوز، وقد قال رجل من أصحاب الشافعي: إن أبا عبد الله روي عنه أيضًا
الجواز، فقال رجل من أصحابه: إنما أراد هذا الناقل بأن أبا عبد الله
الشافعي فيكون على هذا أيضًا اختلاف قولٍ للشافعي.
وأنكر أصحاب الشافعي هذا التأويل، وقالوا: إنما أراد هذا الناقل أبا عبد
الله مالكا أو أبا عبد الله أحمد بن حنبل. وقد نقل عن ابن حنبل أنه يشترط
في إجازة ذلك أن يكون التبايع وزنًا.
وذهب عبد العزيز بن أبي سلمة إلى أنهما جنسان يحل التفاضل بينهما.
فمن ذهب إلى أنهما جنسان يستدل بخلاف التسمية والصورة، كما تقدم الاستدلال
بهذا على كون القمح والشعير جنسين مع اختلاف الغرض أيضًا في ادخار القمح
والدقيق.
ومن ذهب إلى المنع يرى أن التفاضل بينهما ممنوع لكونهما نوعًا واحدًا.
لكن أحدهما تفرقت أجزاؤه وهو الدقيق، والآخر بقي على صورته وليس بين
جوهريهما اختلاف، ولا في المراد منهما، وبيعهما من غير تفاضل يمنع لأن كل
ما أريد (2) بصنعة آدمي عن أصله في صفة الادخار والغرض فإنه لا يجوز بيعه
بأصله إذا كان مما فيه الربا، كبيع التمر بالنخل، والحيوان باللحم، كما
قدمناه في هذا.
وأما من يشترط في إجازته المماثلة من جهة الوزن، كما حكيناه عن ابن حبيب،
وذكرنا أن ابن القصار تأوله على ذلك في رواية الجواز على الإطلاق، فإنه
يقتضي تقدير أصل يستند هذا إليه، وهو أن ما حرم فيه الربا وطلبت فيه
المماثلة، ويوجب (3) فيها اعتبارها بالمعيار المعتاد في زمن النبي - صلى
الله عليه وسلم -، ويحمل
__________
(1) هكذا، ولعل الصواب: يطلبنا.
(2) هكذا في جميع النسخ، والمعنى يقتضي: تغيّر.
(3) هكذا في النسختين ولعل الصواب حذف الواو.
(2/283)
خطاب أهل زمانه في أمرهم بالمساواة على ما
كانوا يعرفون المساواة من وزن أو قيل، فذكر بعض الناس أن ما كان أصله حينئذ
الوزن فإنه لا يجوز بيع بعضه ببعض كيلا باتفاق، لأن الوزن أخص من الكيل،
فإذا عدل عما هو أضبط للمساواة إلى ما هو دونه في ضبطها منع من ذلك.
وأما بيع ما كان أصله حينئذ الكيل وزنًا فإن بعض الناس ذهب إلى جوازه
اعتلالًا منه بأن غرض الشرع المساواة بين الطعامين المبيعين فبأي الأمرين
اتفقت المساواة من قيل أو وزن فيما كان أصله حينئذ الكيل فإنه جائز.
وأجيب هؤلاء عن هذا بأن مطلوب الشرع حينئذ المساواة بالمعيار المعتاد
حينئذ، ألا تراه قال في الحديث "كيلا بكيل" فإذا كان مطلوب الشرع المساواة
بالمعيار المعتاد حينئذ وجب الاقتصار عليه وأن لا يعدل عنه إلى ما سواه،
لأنهما لما عدل عنه أمكن أن يقعا في التفاضل والربا (لو تغير الطعامين
بالمعيار المعتاد فيهما) (1). ومال ابن القصار إلى جواز بيع ما اعتبر فيه
الكيل حينئذ بالوزن، لحصول المساواة به وكونه أضبط للمماثلة والمساواة من
المكيال، وذكر أن القمح بالقمح لا يمنع من بيعه وزنًا بوزن، وإن كان
مذكورًا في الحديث الكيل لأن مقصود صاحب الشرع المساواة.
وأنكر هذا بعض الأشياخ، وقال: المعروف من المذهب خلاف هذا، وأنه لا يجوز
بيع القمح بالقمح وزنًا، لأنهما وإن تساويا في الوزن فقد يختلفان في
المساواة إذا كِيلا، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "المكيال مكيال أهل
المدينة والميزان ميزان أهل مكة" (2) ولم يرد بهذا أنه ليس في العالم سوى
ميزان أهل مكة ومكيال أهل المدينة، وإنما أراد الرجوع إلى مكيال أهل
المدينة وميزان أهل مكة. وهذا يشير إلى منع تبديل ما كانوا عليه. وأما ما
لا أصل له في المجاز (3) فإن من الناس من ذهب إلى أنه يعتبر فيه عادة
المتبايعين به في بلادهم. فهذا فيه
__________
(1) هكذا في جميع النسخ، والمعنى على: لو غُيّر الطعامان بالمعيار غير
المعتاد فيهما.
(2) مختصر سنن أبي داود: 5/ 12 - 15 حد. 3199.
(3) هكذا في النسختين.
(2/284)
مأخذ الخلاف في بيع القمح بالدقيق هل هما
جنسان يحل التفاضل بينهما، أو جنس واحد يمكن المساواة أو لا يمكن.
وقد اعتل من ذهب إلى إمكانها ويطول (1) المساواة أن الدقيق فقد عين القمح،
لكون أجزائه تفرقت وأجزاء القمح لم تتفرق، والتفرق والانضمام لا يخالف بين
الشيئين.
وأجيب عن هذا بأن هذا التفرق في الأجزاء يوقع في التفاضل لكون الأجزاء التي
هي ملء صاع أكثر من الأجزاء التي في الدقيقال في هو ملء صاع، فإذا تفاضلت
الأجزاء وشوهد التماثل في المعيار عيانًا، فإن ذلك يمنع منه لتحقق الربا،
كما منع التمر بالرطب، وإن تساويًا في المكيال، لما يحدث من تفاضل الأجزاء
إذا جف الرطب، على ما سيرد بيانه بعد هذا، وذكر ما قيل فيه. وقد أجرى بعض
أشياخي هذا الاختلاف من بيع الدقيق بالقمح في بيع السميد بالدقيق لأن
السميد إذا طحن زاد على مقدار الدقيق، فيختلف مذهبنا فيه على حسب ما اختلف
المذهب في بيع القمح بالدقيق.
والجواب عن السؤال الثالث أن يقال:
لم يختلف أهل المذهب في كون القمح والشعير والسلت صنفًا واحدًا لا يحل
التفاضل بين أحدهما وبين الآخر. وقد قدمنا مخالفة أبي حنيفة والشافعي في
هذا. وأما العكس ففيه اختلاف في المذهب هل هو مما يضاف إلى القمح والشعير
والسلت أيضًا، أو هو جنس خارج عنهما. كما أن المعروف من المذهب كون الأرز
والذرة والدُّخن لا يضاف أحد الثلاثة إلى القمح والشعير والسلت. لكن ابن
وهب من أصحاب مالك نقل عنه إضافة هذه الثلاثة إلى القمح والشعير والسلت.
وهو مذهب الليث بن سعد.
وإذا تقرر أن المذهب المشهور عندنا. أن الأرز والذرة والدخن لا يضاف واحد
منها إلى القمح والشعير والسلت، فإن المشهور أن كل واحد منهما أيضًا
__________
(1) هكذا، ولعل الصواب: يقول:
(2/285)
صنف على حياله، لا يضاف أحدهما إلى الآخر.
وعلى ما ذكر عن ابن وهب والليث يجب إضافة هذه الثلاثة بعضها إلى بعض.
وأما القطنية كالفول والعدس والحمّص وما في معنى ذلك، فإن الخلاف في إضافة
بعضها إلى بعض مشهور في المذهب. ففي ذلك روايتان في إضافة بعضها إلى بعض
على الجملة. وقيل: إن الحمص واللوبيا يضاف أحدهما إلى الآخر.
وأما الجلبان والسلت فيضاف أحدهما إلى الآخر أيضًا. وما سوى هذين لا يضاف
فيه أحدهما إلى الآخر من بقية القطنية.
واعلم أن منشأ الخلاف في هذا كله على أصل المذهب حسب الغرض والمنفعة
بالشيئين فما تباينت فيه الأغراض وتباعدت فيه المنافع عدَّا جنسين وما
تشابهت فيه الأغراض وتقاربت فيه المنافع عد جنسًا واحدًا. فاتضح عند أهل
المذهب تقارب الأغراض والمنافع في القمح والشعير والسلت فعدوا ذلك جنسًا
واحدًا. واختلفت آراؤهم فيما ذكرنا عنهم الاختلاف فيه، فمن اعتقد في
الشيئين أنهما تتباعد الأغراض فيهما وتختلف المنافع فيهما لم يضف أحدهما
إلى الآخر. ومن اعتقد تشابه الأغراض والمنافع عد الشيئين جنسًا واحدًا. وقد
يستدل على صحة الاعتقاد في هذا تساوي الشيئين في المنبت (1) وكونهما
يقتاتان في البلد الواحد عمومًا، كما اتفق ذلك في القمح والشعير عند أهل
المذهب ...
والجواب عن السؤال الرابع أن يقال:
قد تقرر أن مما يغير صورة من جهة الصنعة طحنه. وقد تكلمنا على بيع الدقيق
بالقمح. ومما يغير الدقيق أيضًا عجنه. وليس العجين صنعة تخرج العجين عن
أصله. كما أن الطحن ليس بصنعة تخرج الدقيق عن أصله، كما تقدم. فلا يجوز
التفاضل بين دقيق وقمح، ولا بين دقيق وعجين، ولا بين عجين (2). ومن شرط
جواز بيع أحدهما بمثله أو بأصله المماثلة في المقدار.
__________
(1) كلمة غير واضحة في جميع النسخ رجحنا أنها المنبت.
(2) هكذا، ولعله: وعجين.
(2/286)
ولكن المماثلة في المقدار لا يمكن فيما بين
عجينين ودقيق وعجين. لكن يختلف المذهب في جواز بيع أحدهما بالآخر تحريًا.
فيتحرى في العجينين أصل كل واحد منهما من دقيق، وما بين العجين والدقيق أصل
العجين من دقيق. فمن رأى التحري لا يوثق به، وأن كثيرًا ما يقع الغلط فيه
منع من ذلك لأن الشك في الوقوع في الربا بمعنى تحقق الوقوع فيه. ومن رأى أن
التحري ها هنا يوثق به، والغلط فيه مما يندر، والضرورة تدعو إلى الرجوع
إليه، أجاز التحري ها هنا.
وأمّا إذا كان المصنوع مسّته النار، فإن ذلك يكون بقلي القمح. فبيع القمح
النبي بالمقلو رأى مالك أن فيه معمرًا (1) حتى يطحن وأجازه ابن القاسم.
وأما إن طحن المقلو حتى صار سويقًا فإن السويق يجوز التفاضل بينه وبين أصله
وبينه وبين دقيق أصله. فسويق القمح يجوز التفاضل فيما بينه وبين القمح
النبي وما بين دقيق القمح، لأن المنفعة فيه والغرض مخالف للقمح والدقيق
والمنفعة مختلفة فوجب أيضًا أن يكونا جنسين بناء على ما تقدم تأصيله من
اعتبار تشابه المنفعة والغرض أو اختلافهما.
والشافعي يمنع بيع السويق، ويرى أن ما صنع مما أصله الربا لا يجوز بيعه
بأصله، ولا بيع المصنوعات منه بعضها ببعض، لاختلاف أجزاء الأصل فيها. وكذلك
يمنع بيع الدقيق.
وأجازه أبو حنيفة في الخشونة والنعومة.
والحديدة بالسويق صنف واحد لتقارب المنفعة والغرض وقال الأبهري: حليل
السويق. وأشار بعض أشياخي إلى إجراء هذا على ما كنا قدمناه من تخريج الخلاف
في بيع السميد بالدقيق لكون السميد إذا طحن زاد مقداره إذا قيل على مقدار
ما ساواه في الكيل من الدقيق، فكذلك الحديدة إذا طحنت زاد مقدارها على
مقدار السويقال في كان مساويًا له في المقدار. وسويق كل حب
__________
(1) هكذا في جميع النسخ، ولعلها: مغْمَزًا.
(2/287)
لا يجوز التفاضل بين حب هذا وحب هذا. لكن
سويق القطنية لم يختلف المذهب في أن سويقها جنس واحد، لا يحل التفاضل ما
بين سويق أحدها وسويق الآخر، لاعتقاد أهل المذهب أن المنفعة بسويق جميعها
يتشابه والغرض فيها يتقارب.
وأما الخبز فإنه جنس مخالف للحب الذي صنع منه، والدقيق الذي عجن منه، لأن
المنفعة والغرض قد اختلفا، بينه وبين أصله، فوجب أن يكون جنسًا مخالفًا
لأصله أيضًا، متماثل (1) للخبز الذي صنع من أصله، فلا يحل التعامل (2)
فيهما.
وإن اختلفت التسميات، مع تساوي المنفعة والغرض، لم ير ذلك، كالكعك والخبر
فإنه لا يحل التفاضل بينهما إلا أن يكون في الكعك أَبزار أخرجته عن الغرض
المطلوب من الخبز، والمنفعة المقصودة منه، فيجوز حينئذ التفاضل كما يجوز
بين الخبز والأسفنجة لكون الغرض والمنفعة بينها وبين الخبز
مختلفًا.
واختلف المذهب في خبز القطنية مع القول، فإن حبها أجناس مختلفة، هل يكون
خبزها أيضًا أجناسًا تابعًا إلى حبها، أو يكون جنسًا واحدًا بخلاف أصوله،
لكون الغرض والمنفعة متساوية، فأشبهت السويق الذي اتفق المذهب على أنه جنس
واحد إذا صنع من القطنية على اختلاف أنواعها، وإن كان في أنواع حبها من
الخلاف ما قدمنا. فذهب أشهب إلى كون خبزها صنفًا واحدًا كالسويق. وابن
القاسم يذهب إلى إلحاق أخبازها بحبوبهما، وإذا وجب التماثل بين الخبزين إذا
بيع أحدهما بالآخر فإنه يعتبر في ذلك كون النار أخذت منها أخذًا واحدًا
لتحصل الثقة، إذا بيعا جميعًا وزنًا بوزن، أنهما متماثلان في المقدار. وإذا
كان أحد الخبزين رطبًا والآخر يابسًا لم يحصل التماثل، وإن
__________
(1) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: مماثلا.
(2) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: التفاضل.
(2/288)
تماثلا في الوزن، لكون الرطب إذا جف نقص عن
مقدار وزن اليابس، والتفاضل في المآل يعتبر كبيع الرطب. والتحري ها هنا
يجري فيه من الخلاف ما قدمناه وما سنذكره بعدها.
وقد حمل بعض الأشياخ على المذهب على أن المماثلة ما بين الخبزين في المقدار
يعتبر فيها الأصل الذي خُبِزا منه، فإن كان الأصلان مما لا يحل التفاضل
بينهما، كخبز شعير وخبز قمح، فإنه يتحرى ها هنا الدقيق الذي عجن منه، ولا
يعتبر الاتفاق في وزن الخبز، لأنهما قد يتفقان في ذلك، ويختلفان في أصل
حبهما، أو دقيقهما. كان (1) ما عجنا منه يجوز التفاضل فيه اعتبر تساويهما
في الوزن.
وقد ذهب اْشهب إلى أن خبز الأرز والذرة (2) لا يحل التفاضل فيه بخلاف جمعه.
وقال أصحابنا: الخبز تابع للأصل، فإذا كانت الأصول أجناسًا كانت الأخباز
أجناسًا. ومقتضى قول ابن القاسم عند بعض الأشياخ كون خبز هذه الثلاثة
مختلفًا كاختلاف أصولها. فعلى رأي بعض الأشياخ يجري اعتبار المماثلة في هذه
الأخباز وزنًا وتحريًا، على ما قدمنا ذكره من الخلاف في أصولها. وقال بعض
الأشياخ: إن اعتبار الوزن من غير التفات لحكم أصل الخبز لكون الخبز قد حكم
بأنه جنس مخالف لأصله، فلا معنى بعد هذا للالتفات لتحري أصله.
وأما السلق للحب فإن بعض الأشياخ رأى أن القول إذا سلق صار بالسلق جنسًا
آخر مخالفًا للنيء منه، فيجوز التفاضل بينهما. ورأى بعض أشياخي أنهما صنف
واحد، ولكنه لا يتضح هذا عنده اتضاح كون الترمس المسلوق جنسًا آخر مخالفًا
لما لم يسلق، فيحل التفاضل بينهما لأجل السلق، لكون الترمس يطول
__________
(1) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: وإن كان.
(2) في ش: والدُّخْن.
(2/289)
أمره إذا سلق، وتقصر المدة في سلق القول.
وأمّا السلق للحب من غير أن تمسه النار فلا يكون بذلك جنسًا مخالفًا للنيء،
ولا يباع بالنيء، وإن تساويا في الكيل، لأنه ينقص الرطب إذا جف، ولا يباع
مبلول بمبلول لاختلاف البلل، والشرع جاء بطلب المساواة في الحال، واعتبرها
أيضًا في المآل، على ما سيرد بسط القول فيه في بيع الرطب بالتمر إن شاء
الله عَزَّ وَجَلَّ، لا رب غيره ولا خير إلا من لدُنه.
والجواب عن السؤال الخامس أن يقال:
أما الأدهان المستخرجة من أنواع فيها الربا، فإن منها ما يختص باسم الزيت،
ومنها ما يختص باسم النبيذ. ومنها ما يختص باسم النحل.
فأما الزيوت فأنواع كثيرة كزيت الزيتون أو حبّ الفجل أو حبّ القُرطم أو
الجلجلان أو الخس، إلى غير ذلك مما يكثر تعداده. فما خرج منها من أصل واحد
لم يحل فيه التفاضل كما لا يحل في أصله، كزيت الزيتون على اختلاف أنواعه
وألوانه كما لا يحل التفاضل بين الزيتون بعضه ببعض، وإن اختلفت أنواعه.
واختلف قول الشافعي فروي عنه أن زيت الزيتون وزيت الفجل أصناف، كما قلناه؛
وروى عنه أنه صنف واحد.
وقد قدمنا أن ما يُصلح القوت أو يكون إداما للقوت فحكمه حكم القوت في تحريم
الربا. وأكثر هذه الزيوت يؤتدم بها لكن زيت زريعة الكتان ذكر ابن القاسم
أنه لا ربا فيه لأنه لا يؤكل. وذكر أشهب أنه لا يباع قبل أن يُستوفى؛ وهذا
يقتضي عنده أنه مما يؤكل لأنه ما ليس بطعام لا يمنع من بيعه قبل قبضه في
مذهبنا. وأشار بعض المصنفين في نقله لهذه الرواية عن أشهب إلى أن مقتضى
مذهبه إثبات الربا فيه مما يشير إلى سياق نقله للروايات، وقول أشهب: لا
يباع قبل أن يستوفى، لا يتضمن كونه مما يمنع فيه الربا، إلا على رواية ابن
وهب التي قدمناها، من أنه لا يمنع من بيع الطعام قبل استيفائه إلا أن يكون
مما فيه الربا.
(2/290)
وبعض أشياخي مال إلى أن دهن اللوز لا يثبت
فيه الربا لكونه عندنا لا يستعمل غالبًا إلا تداويًا. وهذا بعيد عندي على
أصل المذهب لأنه ربما كان الشيء قوتًا وإداما، ويترك في بعض البلاد
الاقتيات به أو الائتدام لغلائه وعزّه، وإن كان مما يصلح عندهم قوتًا
وإداما لو وجدوه، بل يؤثرونه على غيره.
وأما ما يختص باسم الدهن، في المعروف عندنا، كدهن الورد والبنفسج
والياسمين، فإنها عندنا لا تتخذ للإدام بل للتداوي والعلاج، فتخرج بهذا عن
حكم الأطعمة، عند بعض أشياخي، فيحل فيها التفاضل والنساء.
وللشافعية قولان: أحدهما: نفي الربا، والثاني: ثبوته، لأنه زيت (1)
الجلجلان ولا تَعْلُق به سوى رائحة الورد أو البنفسج أو الياسمين، فلا يحل
إلا مثلًا بمثل [على أن منهم من قال: لا تحل زيت الجلجلان مثلًا بمثل] (2)
لأنه يستخرج بالملح فصار كجنسين مختلفين من طعام بيعا بمثلهما. وأنكر أبو
حامد الإسفراييني وقال: أن الملح يَبقى في الشرج.
وأما الدهن الذي ويتَدَاوى به ولا يكون طيبًا فمذهبهم أن الربا فيه لأجل
رده الأجسام إلى الصحة من (3) الأقوات، كما تقدم في ذكر مذهبهم، كدهن
الخروج ودهن اللوز المر.
وصنف واحد من الأدهان لا ربا فيه، لكونه ليس إداما ولا داوء، ولا طيبا،
كدهن السمك. هذا حكم الزيوت.
وأمّا حكم الأنبذة، كنبيذ التمر أو العنب، فإنه لا يحل التفاضل بين نبيذين
أصلهما واحد، كنبيذي تمر أو نبيذي عنب. وأمّا ما أصله مختلف، كنبيذ تمر
ونبيذ عنب، ففيه عندنا قولان: المشهور أن ذلك صنف واحد. وقال أبو الفرج: بل
هما صنفان.
__________
(1) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: كزيت.
(2) ما بين المعقوفين زيادة من (ش). والظاهر أن (لا) زائدة والمعنى على
الإثبات: يحل.
(3) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: كالأقوات.
(2/291)
وأما الخلول فإنها صنف واحد عندنا، وأن
اختلفت أصولها، كخل العنب أو التمر أو الزبيب، فلا يحل التفاضل إذا بيع
بعضها ببعض، ويجوز بيعها مثلًا بمئل. ووافقت الشافعية على جواز بيع خل
الكُشْنَة (1) بمثله كيلًا بكيل مثله.
ومنعت من ذلك في خل التمر بالتمر (2) لكون خل التمر يصنع بالماء، فيختلف
أحد التمر (3) باختلاف قلة الماء وكثرته. والتفاضل في التمر حرام وكذلك
التفاضل في الماء، على أحد القولين عندهم في إثبات الربا في الماء، وأما خل
التمر بخل العنب فإنهما عندهم صنفان، كما أن أصوله صنفان. وأما خل العنب
بخل الغريث (4) فلا يباع أحدهما بالآخر: لكونهما تفرعا من أصل واحد، وكل ما
فيه الربا فلا يجوز عندهم ما صنع بأصله، ولا المصنوعات بعضها ببعض، لاختلاف
أجزاء الأصل.
وقد قال ابن القاسم في العتبية: إن النحل بالنبيذ صنف واحد لتقارب أمرهما؛
وأجرى النبيذ مع النحل مجرى الخلول، هذا مع أن النحل يطول أمره، ولهذا كان
المشهور من المذهب جواز بيعه بالأصل الذي عمل منه، فيباع خل التمر بالتمر،
ويباع خل العنب بالعنب، ولا يباع نبيذ العنب بالعنب ولا نبيذ التمر بالتمر.
وقد قال بعض الأشياخ منتصرًا لما حكيناه عن أبي الفرج في كون الأنبذة
أصنافًا بخلاف الخلول، وعنده إذا كان النبي لا يجوز بيعه بأصله لقرب عهده،
فكان حكمه حكم أصله، فكما لا (5) يجوز التفاضل بين العنب والتمر فيجوز
التفاضل بين نبيذيهما. وقد ذكر في ثمانية أبي زيد: لا يجوز بيع خل التمر
بالتمر، ولا خل العنب بالعنب. وأجرى ذلك مجرى نبيذ التمر، ولم يجعل الطول
في الأزمنة يخرج النحل عن حكم أصله في منع بيعه به، بل يمنع
__________
(1) انظر تاج العروس 36/ 53.
(2) المعنى: خل التمر بخل التمر.
(3) المعنى يقتضي: أحد الخلين.
(4) كذا.
(5) هكذا، ولعل الصواب حذف: لا.
(2/292)
ذلك للمزابنة. وهكذا ذكره في المدونة أن
النبيذ والخل ليسا كزيت الزيتون وزيت الفجل، لأن هذه مختلفة ومنافعها شتى.
وقال بعض الأشياخ يحتمل أن يريد هذا كون النبيذ والخل صنفًا واحدًا، كما
قدمناه عن ابن القاسم. ويمكن أن يريد أن الأنبذة وإن اختلفت أصولها صنف
واحد، وكذلك الخلول، وإن اختلفت أصولها فإنها صنف واحد، ولم يرد أن النبيذ
والخل صنف واحد.
والجواب عن السؤال السادس أن يقال:
لثمرة النخيل حالات: يكون طلعًا، وبلحًا صغيرًا، وبلحًا كبيرًا، أو زهوًّا،
أو بُسْرا، أو رطبًا، أو تمرًا.
فأمّا الطلع فإن الشيخ أبا إسحاق التونسي ذكر أن في المدونة ما يفهم منه أن
الطلع ليس بطعام. وفي هذا [ما] (1) يفهم منه أنه طعام يمنع الربا فيه.
وأما البلح الصغير فإنه ليس بطعام، بل هو صنف لا ربا فيه. ولا يستبعد كون
الطلع طعامًا، ثم ينتقل إلى كونه بلحًا صغيرًا فلا يكون طعامًا لاختلاف ما
يركب الباري سبحانه من طعم ومنفعة.
وأما البلح الكبير فالمعروف من المذهب أن فيه الربا. ووقع في مختصر ابن
شعبان في بيع البلح الكبير بالبسر أو الرطب: تركُه أحبُّ إلى (2) أن يجوز.
ومال بعض أشياخي إلى هذا، لكونه لا يدّخر، فخرج بكونه غير مدخر عما فيه
الربا. وخرج الخلاف فيه من الاختلاف في إثبات الربا في العنب الشتوي، والبر
(3) الشتوي، فمن نفى الربا فيهما فلكونهما لا يدخران، ومن أثبت الربا فيهما
ألحقهما بالغالب من جنسهما وهو. ما جد في الصيف فإنه يدخر وهو الغالب في
هذه الثمرة.
وقد اختلف أيضًا في بيع الزيتون الذي لا يخرج منه الزيت بزيت الزيتون،
__________
(1) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب زيادة: ما.
(2) بياض بمقدار كلمة في جميع النسخ، ويتضح الكلام بتقدير: والظاهر.
(3) هكذا ولعلها التين.
(2/293)
فالمشهور المنع، وأجازه ابن نافع. وهذا
أيضًا بناء على ما قدمناه من (1) لغالبه، وغالب الزيتون كون الزيت يخرج
منه، ولا يجوز بيع الزيت بأصله الذي استخرج منه لما قدمناه.
وكذا يجري الأمر في بيع التين الشتوي بالصيفي، هل يراعى حكم نفسه، لكونه
غير مدخر، أو يجري عليه حكم غالبه فيمنع التفاضل بسببه؟ ومن الغالب منه.
وأما الزيتون الذي لا زيت له فإنه يمنع فيه التفاضلَ كونُه مدخرًا، بخلاف
التين الشتوي الذي لا يدخر.
وأما الرطب والبسر والتمر فإن التفاضل ممنوع في بيع شيء منها بنوعه.
فيمنع بيع البسر بالبسر متفاضلًا. وكذلك الرطب بالرطب، والتمر بالتمر، وأما
بيع الرطب بالتمر فقد اختلف الناس فيه. مذهب مالك والشافعي المنع منه وإنما
(2) تماثلا في الكيل. ومذهب أبي حنيفة جواز البيع إذا تماثلا في الكيل.
وسبب هذا الاختلاف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن بيع الرطب
بالتمر فقال: "أينقص الرطب إذا يبس" قالوا: نعم. قال: "فلا، إذن" (3) فنبّه
- صلى الله عليه وسلم - على أنه قدم إليهم منع الربا في التمر في الحال،
فكذلك ينبغي أن يعتبر في المآل. وقد علموا أن الرطب بالتمر، إذا بيع أحدهما
بالآخر مثلًا بمثل، فإن الرطب إذا جفّ نقص عن مقدار التمر في الكيل، ونقصه
في المكيل الحادث بعد النقد كأنه نقص موجود في حال العقد. والمخالف يقول:
قد قال عليه السلام: التمر بالتمر كيلًا بكيل. وثمرة النخل تسمى تمرًا في
اختلاف أحوالها، وإن خصت بعض الحالات باسم رطب أو بسر، كما أن الصبى والشاب
والكهل والشيخ إنسانٌ، وإن اختص بعض شيء من عمره باسم شاب وكهل. ويبين هذا
أن الرطب بالتمر بينهما تفاضل في جنس العقد لا يجوز باتفاق إذا تحقق الفضل
في
__________
(1) مقدار كلمتين غير واضحتين في جميع النسخ، والمعنى: من إلحاق النادر
بالغالب.
(2) هكذا في الجميع، ولعل الصواب: وإنْ.
(3) الموطأ: 2/ 147 حد: 1826.
(2/294)
الحال. والمآل أن الرطب يسمى تمرًا لما منع
التفاضل بينه وبين التمر لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر أجناسًا
فيها البر والشعير والتمر، وقال في آخر الحديث المتقدم ذكره فلولا أن الرطب
تمر لم يمنع التفاضل بينه وبين التمر، كما لا يمنع التفاضل بين التمر
والبر، لكونه عليه السلام خص كل واحد منهما باسمه.
ويدفعون عن التعلق بحديث "أينقص الرطب إذا يبس"؟ بأن يقولوا: الحديث الصادر
بإباحة بيع التمر بالتمر كيلًا بكيل معلوم صحته لكثرة رواته، لأن الأمة
تلقته بالقبول، وعملت بموجبه لأجله، والحديثُ المذكور فيه نقص الرطب إذا
جفّ، خبرُ واحدٍ يظن صحته ظنًا، فلا يوازن بصحة الحديث المقطوع بصحته.
وأيضًا فإنه زيادةٌ على قوله "التمر بالتمر كيلًا بكيل"، والزيادة على النص
نسخ، ولا ينسخ مقطوع به بمظنون.
وندافعهم نحن عن هذا بأن هذا ليس بنسخ، إذ لا منافاة بينه وبين قوله في
التمر بالتمر كيلًا بكيل، بل هو بيان حكم واحد، وهو اعتبار المساواة التي
علق الإباحة بها في المآل، كما يعتبر في الحال، لا سيما إذا قلنا بالطريقة
التي قدمناها في كلامنا على علة الربا، أن قوله: "لا تبيعوا البر بالبر إلا
مثلًا بمثل" الحديثَ إنه نَهْيٌ عامّ على سائر أحوال بيع البر بالبر، إلا
ما ثبت فيه المساواة التي جعلها سببًا للتخلص مما حرم، فيكون الأصلُ المنعَ
إلا ما استثناه دليل، ولم يستثن الدليل إلا ما تساوى في الحال والمآل، على
ما أفاده تنبيهه عليه السلام "أينقص الرطب إذا جفّ" وقد علمنا على هذا أن
التحليل عند المساواة هنا رخصة؛ لأن العلة الطعم أو القوت، وهما موجودان
حال المساواة، فصارت الإباحة المعلقة كالرخصة، لأجل الحاجة إليها، والحاجة
إنما تعلق عند الجفاف وإمكان الإدخار وتكامل الصنعة، فوجب تعليق المساواة
بحالة الكمال التي تكمل بها المنافع، وتتحقق الحاجة حينئذ إلى الرخصة.
وهم يقابلون هذا بأن يقولوا: علّق التحليل بالمساواة، وإنما تمكن
(2/295)
الإنسان (1) المساواة ها هنا حال العقد،
وبحال العقد تتعلق الأحكام ويتوجه الخطاب. وأما اعتبار المساواة بين الرطب
والتمر إذا جف الرطب فلا يتصور لأنه إذا جف صار تمرأولم يكن رطبًا، وإذا لم
يكن رطبًا استحالت المساواة حينئذ بين التمر والرطب. ولا يُنقَضُ هذا بمعنى
بيع القمح بالدقيق كيلًا، لأنا لم نمنع ذلك اعتبارًا بما يحدث في المآل من
زيادة في الكيل، لكن لكون الإنسان مخاطبًا في بيع الحنطة بالحنطة بالمساواة
قبل أن يطحن، فإذا طحن فقد منع نفسه من إمكان المساواة، فصار هو الذي جنى
على نفسه في منع قدرته على المساواة، فلم يرخص له في هذا. والرطب بالتمر لا
اكتساب له في نقص أو زيادة ولا جناية وقعت منه، فحسن الترخيص له، مع أنا
قدمنا أن الرطب يُسمّى تمرًا، فدخل في عموم قوله عليه السلام في البرّ
"كيلًا بكيل" والدقيق لا يسمّى برًا، فلم يدخل في عموم قوله "البر بالبر
كيلًا بكيل" مع كون الدقيق هو أجزاء الحنطة التي تعلق بها الربا، ولكنها
مفترقة، وأجزاء البر الذي لم يطحن مجتمعة، قبل حكم الربا فيهما على ما كانا
عليه قبل الطحن.
وأما بيع الرطب بالرطب فإن المشهور عندنا جوازه. ومنع منه عبد الملك بن
الماجشون والشافعي، ذهابًا إلى أن الرطب إذا بيع برطب اختلف بعضها عند
الجفاف، وقد ورد الشرع باعتبار المماثلة.
وكذلك المذهب عندنا على قولين في بيع جديد التمر بقديمه. ومال بعض أشياخي
إلى المنع من بيع الرطب بالرطب لاختلاف نقصه في المال، إذا كان جُني من
صنفين من أنواع التمر. وأما إن كان جني من صنف واحد فإن النقص فيه يتماثل.
وهذا المعنى الذي أشار إليه صحيح إن سلم له أن مَا جني من صنف واحد تساوَى
نقصه، ولا يختلف لاختلاف ما باشرفه الشمس وكادت أن تنضجه، وما لم تباشره
فتبقى رطوبته على الكمال. وقد أشار بعض الأشياخ إلى أن الرطب فيه أجزاء
تمرية مازجها أجزاء من الرطوبة الحلوة، فصار هذا
__________
(1) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: حذفها.
(2/296)
تعاوضًا بجنسين عن جنس قبلها، لكون هذه
الأجزاء التي انضافت إلى الأجزاء التمرية لما كانت هي المرادة والمقصودة في
حال رطوبة هذه التمرة، وجب أن يكون للرطب حكم الجنس.
وكذلك يمنع عندنا بيع قصب السكر بعسله أو برُبّه الذي لم يدخله ابزار.
ويمنع من بيع عسله بربه لأجل المزابنة التي قدّرناها في بيع الرطب باليابس.
والجواب عن السؤال السابع أن يقال:
اللحم فيه الربا، لأنه مما يقتات ويحفظ الحياة ويؤتدم به، ومما يمكن ادخاره
بالتجفيف. لكن المقصود في عادة الاستعمال أكله طريًا، اقتياتًا وائتدامًا،
إيثارًا لما هو أشهى وأعذب في الطباع، مع كونه في نفسه صالحًا للإدخار. وما
تساوى جنسه حَرم فيه التفاضل. فاللحوم عندنا ثلاثة أصناف، فتعلق به (1)
الربا. وقد قدمنا أن ما اختلفت أجناسه من الربويات حل فيه التفاضل.
فذوات الأربع صنف واحد، وحشيّها وإنسيّها، صغيرها وكبيرها، لا يجوز فيها
التفاضل، فيمنع بيع شيء من لحمها بلحم الإبل أو الغنم أو الظباء أو
الأرانب، متفاضلًا، ولا يجوز إلا مثلًا بمثل.
والصنف الثاني: ذوات الريش، وهي صنف واحد، داجنها وشاردها، صغيرها وكبيرها.
فيمنع من بيع شيء من لحم الدجاج بأكثر منه من لحم الحمام أو العصافير أو
الإوز أو غير ذلك من سائر أنواع الطير.
والصنف الثالث: داوب الماء فيمنع بيع شيء من أصناف الحوت بأكثر منه من صنف
آخر، تساويا في الجرْم أو الطعم، أو اختلفا، فيمنع بيع المتن أو القلقط،
بالصند أو اللجمي (2)، متفاضلًا.
__________
(1) هكذا في الجميع، ولعل الصواب: بها.
(2) أسماء عرفية غير واضحة كتابتها.
(2/297)
وأما الجراد فإنه صنف رابع والمعروف من
المذهب أن بيع بعضه ببعض متفاضلًا جائز، وهكذا ذكر ابن المواز عن أشهب،
وذكر ابن حارث عن سحنون أنه يمنع بيع بعضه ببعض متفاضلًا، وإلى هذا مال بعض
أشياخي، ورأى أنه مما يدخر.
واختلف قول الشافعي فذهب إلى أن جميع اللحوم على اختلاف أنواعها صنف واحد،
وذهب أيضًا إلى أنها أصناف شتى، فلحم الإبل صنف، ولحم البقر صنف، ولحم
الضأن صنف، يجوز بيع بعضه ببعض متفاضلًا. وإلى هذا ذهب أبو حنيفة، ومنع ابن
حنبل من بيع اللحم الطبري بمثله، واشترط في جواز البيع أن يكونا جميعًا
جافين، فيجوز البيع حينئذٍ، مثلًا بمثل لا تفاضل بينهما.
وكأنه رأى اللحم إن كان طريًّا كالرطب. وقد نبهنا نحن فيما مضى على أن
المقصود في اللحم طراءته، والمقصود منه (إذا بيع التمر أو بيع بمثله على
القول بالمنع من بيع رطب برطب بمثله) (1).
واعلم أنا قدمنا أن المعتبر في الجنسية تقارب المنفعة والأغراض. ومن اعتقد
خلاف ذلك في لحم البقر مع لحم الضأن أو البقر (2) عدهما جنسًا، كأحد قولي
الشافعي، ومن رأى تقاربهما في المنفعة والغرض عدهما جنسًا واحدًا، كما ذهب
إليه مالك.
وأما أحد قولي الشافعي فإن اللحوم كلها صنف واحد (3) في الاختلاف، فإنه
اعتبر اشتراكها في تسمية لحم اسم خاص بجميعها يتناول جميع أنواعهما.
بخلاف تسمية أجزاء الثمر ثمرًا لأن لكل ثمر اسمًا يخصها كعنب وتسعين ورمان
وتفاح، وليس لكل نوع من اللُّحمان اسم يخصه، وإنما يميَّز بإضافته هذه
التسمية إلى تسمية أخرى، فيقال: لحم بقر أو لحم إبل.
وأما الجراد فإن فيه اختلافًا في الموازية أن التفاضل في بيع بعضه ببعض
__________
(1) ما بين القوسين هكذا نصه. هكذا في الجميع، ولعل الصواب: لا يجب أن
يشرع،
(2) هكذا في جميع النسخ، والأوْلى حذف: أو البقر.
(3) كلمة غير واضحة في جميع النسخ.
(2/298)
جائز. ومنع سحنون بيع بعضه ببعض متفاضلًا،
ورآه مما يدّخر، فيكون على هذه الطريقة لاحقًا باللحمان، ولكنه صنف رابع.
فأحطت (1) علمًا بهذه الأجناس، فبيع لحم بلحم مما يعد من جنسه متفاضلًا لا
يجوز كلحم بقر بلحم الضأن أو لحم إبل بلحم بقر أو لحم حيوان من ذوات الأربع
الوحشي بلحم إنسي، وعلى هذا الأسلوب يجري في بقية الأجناس والله المستعان
لا ربّ سواه ولا خير إلا منه.
والجواب عن السؤال الثامن أن يقال:
إن اللحم إذا شوي أو قدّد من غير أبزار خالطته فإنه لا ينتقل عن حكم اللحم
الطبري، ولا يجوز فيه التفاضل. وأما التماثل في بيع الطبري بالقديد فيعْسر
الوقوف على حقيقته وزنًا. وهل يجوز الاقتصار في التماثل على تحري المساواة؟
هذا مما اختلف فيه المذهب، وهو اختلاف في صفة، فمن منع المبايعة على
المساواة تحرّيًا رأى أن التحري لا يوثق به، وقد يغلط المتحري تارة، ويصيب
أخرى، وقد قدمنا أن الشك في التفاضل في الربويات كاليقين به في المنع. ومن
أجاز ها هنا الاقتصار على التحري، وقدره بما يُبعد الغلط فيه غالبًا إذا
كان من يتحرى عارفًا بالمقدار في هذا صحيحَ الحدس والتخمين فيها.
وكذلك بيع اللحم الطبري بالطري إذا بعد العهد بذبح أحدهما أو قرب عهد الذبح
باللحم الآخر، لأن اللحم الأقدم ذبحًا أكثر جفافًا. وكذلك رأى ابن حبيب في
القديد بالقديد والمشوي بالمشوي أنه لا يجوز فيه المبايعة لاختلاف تجفيف
الشمس في القديد وتجفيف النار في الشواء، وإن كان المشهور من المذهب جواز
بيع القديد بالقديد بناء على أن ذلك يكاد لا يختلف غالبًا اختلافًا محسوسًا
واختلافًا مقصودًا. وبيع الطبري بالقديد ممنوع كما يمنع الرطب بالتمر وهو
من المزابنة.
وأما إن صنع القديد بأبزار عظّمت فيه النفقة فإنه ينتقل حكمه عن حكم
__________
(1) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: فإذا أحطت.
(2/299)
اللحم الطبري، وعن حكم القديد الذي لا
أبزار فيه، ويصير كجنس آخر من اللحمان يحل التفاضل بينه وبين ما ليس من
جنسه.
وأما إن طبخ بالماء صِرفًا وبالملح، فإن هذا الطبخ لا ينقله عن حكم أصله
فلا يجوز بيع اللحم المصلوق باللحم الذي تمسه النار ولا الشمس متفاضلًا،
ولا يجوز متماثلًا بالوزن لكونه بيعَ الرطْب باليابس. وأمّا ما ثبت فيه
المساواة بالتحري فعلى القولين اللذين قدمناهما. وأما ما طبخ بشيء من
المياه المعتصرة كالخل، وماء الحصرم، وماء الليمون، فإنه ينتقل عن حكم
اللحم الطبري الذي لم تمسه النار فيصير كجنس آخر يحل فيه التفاضل، فيجوز
بيع السِّكباج والحصرمية والليمونية والسماقية والإجاصية بلحم لم تمسه
النار ومتفاضلًا. وكذلك غير هذا من الأنواع التي يكثر تعدادها. لكن هذه
الألوان التي ذكرنا بعضها كلها صنف واحد، وإن اختلفت المياه التي طبخت بها،
فلا يجوز التفاضل بين حصرمية وليمونية وسماقية إلى غير ذلك من ضروب الألوان
التي في هذا المعنى، لأن المطبوخات في هذه الأصناف تتقارب الأغراض فيها،
وكأن المراد منها الائتدام، وهي من ناحية كونها إدامًا متقاربة في الأغراض
والمقصود. ومال بعض أشياخي إلى أن اختلاف هذه الألوان يصيّرها أجناسًا إذا
تفاوت الغرض فيها، فليس الغرض في الإسفندباج كالغرض في السماقية والحصرمية.
وقد ذكر في الموازية أنه لا يحل التفاضل بين الأرز المطبوخ والهريسة. فإن
كان مراده الهريسة المصنوعة من الأرز ولكن خالطها اللحم وضرب معها الأرز،
فإن هذا مبني على أن مخالطة اللحم الأرز، هذا النحو من المخالطة لا ينقله
عن حكم الأرز المطبوخ بغير لحم. فقدر أنهما جميعًا أرز ولحم مطبوخان، فلا
يحل التفاضل بينهما. وإن أراد بالفريسة ها هنا ما صنع من القمح واللحم،
فكأنه رأى أن الطبخ للأرز والقمح ينقل كل واحد منهما عن أصله، فيجوز
التفاضل بينه وبين أصله؛ ولكن لا يجوز التفاضل بين هذين المطبوخين من هذين
الأصلين المختلفين، كما ذهب إليه أشهب في أن خبز الأرز وخبز القمح صنف واحد
لا يحل التفاضل بين هذين الخبزين، وإن
(2/300)
كان أصلهما مختلفًا يحل التفاضل فيه. وحكي
هذا عن ابن القاسم، لكن مقتضى أصل ابن القاسم أن يكون أخبازهما صنفين، كما
كانت أصولهما؛ كما وقفنا لك في أخباز القطنية أنها مختلفة لأجل اختلاف
أصولها. وأما بيع الخبز بالهريسة، فبعض أشياخنا يراه جائزًا متفاضلًا، وهما
صنفان لاختلاف الغرض فيهما، وبعض الأشياخ يتردد في هذا إذا بني على الرواية
التي ذكرنا عن الموازية في بيع الأرز المطبوخ بالهريسة وقدر بأن اللحم لم
ينقل الأرز أو اللحم عن أصلهما مطبوخين والهريسة كذلك.
وإذا وضح أن المذهب إجراء المطبوخات مجرى واحدًا، لتقارب الأغراض فيها على
حسب ما قدمناه، فإن التفاضل لا يحل فيها، والمساواة بالوزن، يصير موجب
الرجوع إلى طلب المساواة بالتحري. وتنازع المتأخرون في صفة هذا التحري،
فقال الشيخ أبو محمَّد بن أبي زيد: تجري المساواة في اللحوم وامْراقها، لأن
حكم مرقها كحكم لحمها، وكذلك يكون التحري في الهريسة إذا بيعت بالهريسة.
ورأى غيره من الأشياخ أن التحري إنما يكون في اللحم خاصة، دون الأمراق.
فكيف جرت الحال على هذا الاختلاف فإن المسألة تتعلق بمسألة أخرى نذكرها بعد
هذا إن شاء الله تعالى، وهي بيع صاع قمح وصاع دقيق بصاع قمح وصاع دقيق، فإن
المرق وإن عدّ حكمه كحكم أن الدقيق ليس هو صورة القمح وإن كان هو أجزاء
القمح، كما قدمناه قبل هذا.
وإن قلنا: إن الأمراق، وإن كانت تبعًا، فلا بدّ أن ترعى (1) حكم الربا فيها
في نفسها، جرت على ما ذكرناه من بيع قمح ودقيق بمثلهما. ولا يكون بين
المسألتين فرق إذا قيل: إن الاتباع تُراعى في نفسها في أحكام الربا.
وإذا علمت الحكم في التحري وما فيه من الاختلاف في بعض المسائل، فإن اللحم
إذا بيع باللحم، طريًا بطري، تتحرى المساواة بين اللحمين على ما هما عليه.
وذهب ابن شعبان من أصحابنا إلى أن التحري إنما يكون بين
__________
(1) هكذا، ولعل الصواب: يُرَاعَى.
(2/301)
اللحمين على أنهما مجردان من العظم، ورأى
أن الربا معلل بالقوت أو الإدام للقوت، وهذا المعنى مختص باللحم دون عظامه،
وعظامه تختلف بالكبر والصغر والخشانة والرقة فيؤدي إختلافهما في هذا إلى
عدم المساواة بين اللحمين.
ويجاب عن هذا بأن بيع التمر بالتمر جائز كيلًا بكيل، مع كون نَوَى كل واحد
من التمر يختلف بوجوده في الوزن، واختلافهما أيضًا يتضمن اختلاف وزن التمر
لوجود نواه، ولكن عُفي عن هذا الاختلاف للضرورة، وشدة الحاجة إليه، وكون
هذا النوع خلق هذا من مصلحته، فلم يعتبر حكمه على حياله.
فكذلك العظام مع اللحم. فلو أراد التبايع بشاتين مذبوحتين، وهما في جلدهما،
فإن هذا فيه اختلافًا: قيل: إنه يجوز إذا تحرى المتبايعان المساواة بين
اللحم. وقيل: هذا لا يجوز إذ لا يقدر على تحري ما تُجِنّه الجلود مما لم
يدركه البصر، وهو شراء اللحم المغيب ولا تعرف صفته. وقيل: يجوز ذلك إذا
استثنى صاحب كل شاة جلدها بموضع يجوز فيه استثناء الجلد، ولما كان الجلد ها
هنا لا بدّ من سلخه ونزعه على اللحم لم يجر مجرى النوى في التمر، وكان له
تأثير في بيع ما تحته من لحم على الخلاف فيه.
والجواب عن السؤال التاسع أن يقال:
يخرج من الحيوان لبن وسمن. فأما اللبن إذا بيع بلبن مثله في كل واحد منهما
زبد فإن المعروف أن ذلك جائز، لحصول التماثل. وروى أبو الفرج رواية أخرى
وهي المنع فيهما لأجل ما فيهما من الزبد المجهول. وهذا يحتمل أن يكون أراد
أن الزبد مقصود، وهو مغيب لا يدرى مقداره، فبيْعه بزبد آخر أيضًا مغيّب لا
يدرى مقداره من لبنه، غرر في عقد البيع، فوجب أن يمنع لأجل الغرر. ويمكن أن
يكون اعتبارًا بقوله: إن الزبدين مجهولان إلى الشك في حصول التماثل، والشك
في حصول التماثل فيما فيه الربا ممنوع، كما يتحقق التفاضل فيه. وإذا كان
هذا الحليب وما فيه من الزبد في حكم التبع، وجب أن يعفى عن الغرر فيه،
لتعذر الاطلاع على مقدار ذلك في حَالِ العقد، فأشبه
(2/302)
في قطن الجبة و (1) المَبيعة التي لا تعرف
إلا بعد فتحها مع كونها في حكم التبع، وكذلك الزبد. وإن حملنا قوله على أنه
من (1) أشار إلى الشك في المماثلة، وقلنا: إنه بيع للحليب، والأتْباع تراعى
في حكم الربا، فإنه يجب المنع منه لأنه قد يؤدي استخراجه من الحليب إلى عدم
المماثلة بعد الاستخراج فأشبه بيع الرطب بالرطب على أحد القولين عندنا في
عدمِه (2) لما يترقب من عدم المماثلة إذا جف الرطبان، ولم يعف عن هذا كما
عفي عن نوى التمر.
ومعلوم أنه إذا نزع فقد يؤدّي إلى عدم المساواة في التمر نفسه، لكون النوى
من مصلحة التمر، وكذلك يدخر بخلاف الزبد. وأما ما يستخرج من الحليب من زبد،
فلا بد من اعتبار التماثل فيه، والتماثل فيه يصح في المآل وكذلك إذا سير
الزبد سمنا، فإن التماثل في السمن بالسمن يشترط في صحة العقد أيضًا، وكذلك
الجبن بالجبن.
وأما الحليب إذا استخرج زبده وبقي مخيضًا لا يدخر ولا يصنع منه ما يدخر،
فإن الباب فيه على قولين، أحدهما: أن التفاضل فيه ممنوع لكونه، ملحقًا
بالغالب من جنسه والقول الآخر اعتباره في نفسه، وكونه مما لا يدخر، فلم يكن
مما يمنع فيه الربا، كأحد القولين في التين الشتوي أيضًا.
وإن أمكن أن يصنع منه ما يدخر مثل الأقط وما في معناه، فإنه يحسن إثبات
الربا فيه إذا كان هذا مما يقصد إليه (فيه شيء) (3) كثير من الأحوال. وقد
أجاز في المدونة بيع الحليب المضروب بالسمن. وهذا يشير عند بعض أشياخي إلى
أنه مما لا ربا فيه عنده، وأنه يعتبر فيه حكم نفسه في كونه غير مدخر. وأما
لو لحق بغالبه، وكان فيه الربالمنع بيع المخيض بالسمن، لأنهما جميعًا مما
فيه الربا، وما كان فيه الربا لا يباع منه رطب بيابس، كما لا يباع السمن
بالزبد. وقد منع في المدونة من بيع السمن بحليب لم يستخرج زبده، ورأى أن
الزبد الذي
__________
(1) هكذا، ولعل الصواب حذف: في، والواو، و (من).
(2) هكذا، ولعل الصواب: حِرمته.
(3) هكذا، ولعل الصواب: حذفها.
(2/303)
لم يستخرج كالمقصود، فيقتضي هذا البيع بيع
الرطب باليابس، لأن الزبد كالرطب والسمن كاليابس.
وقد اختلف في بيع الحليب المضروب بالجبن، فمن أجازه رأى أنه مما لا يدخر،
ولا مما يصنع منه ما يدخر، فلم يلحق بما فيه الربا. ومن كرهه رأى أنه قد
يصنع منه الأقِط، وبيع الأقط بالجبن لا يجوز، فكذلك بيع الحليب المضروب
بالجبن، لكونه يتأتى منه أقط، والأقط لا يجوز التفاضل بينه وبين الجبن،
وأما الجبن بالأقط والسمن فإن هذه مدخرات، والتماثل في بيعها واجب، وهو لا
يتأتى معرفته فيها فلا يباع بعضها ببعض.
وأما البيض فقد قدمنا أنه فيه الربا، في المذهب المشهور عندنا. وإذا أثبتنا
فيه الربا، فكله صنف واحد. فبيض الدجاج والإوز وغيرهما نوع واحد، لا يحل
بعضه ببعض متفاضلًا، وإنما يجوز بشرط التحري في المساواة، وأن يكون قدرًا
واحدًا.
وإذا اقتضى هذا التحري مساواة بيضة واحدة ببيضتين قال ابن المواز: وذلك بعد
أن يستثني صاحب بيض النعام قشره لأنه له ثمن، فإذا اشتمل عليه عقد صار كبيع
عرض وطعام بطعام. وهذا الذي اشترطه ابن المواز لم يشترطه غيره، فيمكن أن
يكون إنما أطلق الجواب لأنه لا يرى له ثمنًا مقصودًا، أو يراه من مصلحة هذا
النوع، فأشبه النوى في التمر. وقد قدمنا الكلام عليه. وقد قال بعض
الشافعية: لا يباع العسل بالعسل حتى يصفّيا من شمعهما، لئلا يتفاضل العسلان
بعد تصفيتهما من شمعهما، ورأى أن الشمعين كعرضين بيعا معًا بعسلين، ولم
يرهما كالنوى في التمر، لأن العسل إنما يدخر مصفّى غالبا، والتمر إنما يدخر
بنواه. والله المستعان.
قال القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب رحمه الله.
والجنس الآخر مما يحرم التفاضل في عينه هو الذهب والفضة، على اختلاف
صفتيهما، من تبر ومضروب ومهمل ومصوغ، فلا يجوز التفاضل في
(2/304)
الجنس الواحد منه بجنسه.
وما غيرته الصنعة من المأكول صار كجنس آخر، فيجوز التفاضل بينه وبين ما بقي
على صفته. وذلك كالحنطة والدقيق والعجين بخبزهما، واللحم النيّىء بمطبوخه،
والرطب والتمر والزبيب بخلّها.
وأما التفاضل في المعنى فمثل صاع مَعقِليّ وصاع دَقَل بصاعين برْنيٍّ لأن
المعْقلى أعْلى من البرني، والدقل أجود منه، والبرني وسط بينهما.
وكل ما حرم التفاضل فيه جاز البيع فيه مع التماثل.
والجهل بالتماثل في المنع كتحقق التفاضل (1).
قال الفقيه الإِمام رحمه الله تعالى:
هذا الفصل تكلمنا عليه، وإنما أوردناه ها هنا لأجل أنه افتتحه بالكلام على
الربا في الذهب والفضة، ورأينا تأخير الكلام على الربا في الذهب والفضة إلى
أن نتكلم على كتاب الصرف، كما رأينا الكلام على ما يمنع فيه الربا مضافًا
إلى ما أضفناه إليه، ولا (2) لأنه مقتضى ما رتبناه نحن.
وقد تكلم ها هنا على الربا وجعله نوعين: تفاضل في العين وتفاضل في القيمة.
والتفاضل في العين قد تكلمنا عليه. والتفاضل في القيمة رأينا تأخير الكلام
عليه إلى كتاب الصرف، لأنه لما ذكر منه ها هنا هذه المسألة، وهي بيع صاع
(3) بصعين من التمر من جنس واحد بصاعين مختلفين من التمر، وقد وجدنا في
المدونة الكلام على مسألة بيع مدّ قمح ومدّ دقيق بمد قمح ومد دقيق في كتاب
السلم. رأينا أن نتكلم ها هنا (على ما في كتاب السلم من هذا المعنى خاصة في
كتاب الصرف مبسوطًا) (4) إن شاء الله تعالى.
__________
(1) التلقين. تحقيق الغاني: ص 367 - 368.
(2) كلمة لا معنى لها والأولى حذفها.
(3) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب بعد حذف: بصعين: وهي بيع صاعين.
(4) في الكلام نقص.
(2/305)
فاعلم أن كل جنس فيه الربا فإنه لا يباع
شيء منه بجنسه، ومعهما أو مع أحدهما جنس آخر مثل أن يبيع صاع تمر بدينار
وبصَاعَيْ تمر من جنسه. وكذلك لا يباع قفيز قمح وقفيز دقيق بقفيز قمح أو
قفيزي دقيق، ولا قفيزًا قمح بقفيز قمح وبقفيز دقيق. وكذلك لو كان بدل
الدقيق شعيرًا أو جنسًا آخر من الأطعمة، أو عَرْضًا من العروض. وقد منع في
كتاب السلم الثالث من المدونة بيع قفيز قمح وقفيز دقيق بقفيز قمح وقفيز
دقيق. وأجاز ذلك ابن المواز لأنه قال بجواز بيع قفيزي قمح وقفيز دقيق إذا
كان قفيز القمح مثل القمح والدقيق أو أدنى منهما، أو مثل أحدهما أو أعلى من
الآخر وأدنى، على حسب ما نجيزه في المراطلة ما بين ذهبين مختلفين بذهب واحد
منفرد. فلما قيل لابن المواز: إن مالكًا يمنع من بيع قفيز قمح وقفيز دقيق
بقفيز قمح وقفيز دقيق، قال: إنما منعه للذريعة ولا بأس به عندي.
وقال ابن ميسر: لا يعجبني ما قال ابن المواز. فصارت المسألة عندنا على
قولين، والمشهور المنع، إذا انضاف جنس مع أحد العوضين، أو انضاف مع كل واحد
منهما جنس آخر.
وبالمنع قال الشافعي: وبالجواز قال أبو حنيفة.
وأشار بعض أشياخي إلى أن هذه المسألة خارجة عن أحكام المراطلة بين الذهوب؛
لأن الذهب مما يتساوى ما كان منه من سكة واحدة قطعًا. والتساوي في الأطعمة
طريقه الاجتهاد، ولهذا عدل ابن القاسم في التمثيل في المدونة عن المراطلة
إلى مثل بيع دينار ودرهم بدينار ودرهم، لكون الدراهم المقابلة للدنانير
إنما يعرف مقدارها منها بالتقويم، والتقويم طريقه الاجتهاد، وما طريقه
الاجتهاد يغلط فيه ويضاف. وقد خرج في الصحيح أنه عليه السلام أتي في خيبر
بقلادة فيها خرز وذهب فأمر - صلى الله عليه وسلم - بالذهب الذي في القلادة
فنزع، ثم قال عليه السلام: "الذهب بالذهب وزنًا بوزن" وفي بعض طرق هذا
الحديث أنه قال: "اشتريت قلادة فيها خرز وذهب باثنى عشيا دينارًا، ففصلتها
فوجدت فيها أكثر
(2/306)
من اثنى عشر دينارًا فقال عليه السلام: "لا
يباع حتى يفصل" (1) وظاهر هذا يقتضي المنع من بيع الذهب مع جنس آخر بذهب
منفرد، لأنه نهى عن ذلك وعن (2) الإباحة بالتفصيل وقال: "الذهب بالذهب
وزنًا بوزن" (3). وهذه إشارة إلى الرجوع إلى المساواة قطعًا ويقينًا، ولا
يكون ذلك إلا بالميزان. وأبو حنيفة يشترط في جواز هذا أن يكون الذهب الذي
أضيف إليه غيره من الذهب المنفرد عوضًا عن الجنس المضاف إلى الذهب، وتغالى
في ذلك حتى يجيز درهمًا في قرطاس بمائة درهم، ويجعل درهمًا من المائة
مقابلة الدرهم الذي في القرطاس، والتسعة وتسعون درهمًا في مقابلة القرطاس
وعوض عنه. وقد ذكر عنه في هذا الحديث: أنها لما فصلت وجد فيها أكثر من اثني
عشر دينارًا. فيتعلق أبو حنيفة بهذه الرواية، ويقول: إني مشترط في الجواز
أن يكون الذهب المنفرد أكثر من الذهب المضاف إليه جنس آخر لتحصل المساواة
بين الذهبين، ويكون ما زاد من المنفرد عوض الجنس المضاف إلى الذهب حتى
يقدّر العقد الواحد كعقدين منفردين. وها هنا قد ذكر أن الذهب الذي في
القلادة أكثر من المنفرد، وإنما يمنع من هذا البيع إلا بشرط كون الذهب
المنفرد أكثر من المضاف إليه غيره.
ويجاب عن هذا بأنه عليه السلام أشار إلى علة المنع وقال: الذهب بالذهب
وزنًا بوزن، وإذا بيع ذهب منفرد بذهب وسلعة أخرى فإن الذهب المنفرد لم يبع
بالذهب وزنًا بوزن، لأنه إنما قابل الذهب المنفرد شيئان يفترقان إلى أن
يعلم فيه كل واحد منهما بالنسبة إلى صاحبه. فإذا احتيج إلى ذلك، ونظر في
التقويم، والنص على الذهب المنفرد، فقد يقابل الذهب المنفرد من الذهب
المضاف إليه غيره ما هو أكثر أو أقل أو ما يساويه والخروج عن المساواة بين
الذهبين أو الجهل في المساواة يمنع من صحة البيع. وإلى هذا أشار مالك
__________
(1) إكمال الإكمال: 4/ 272.
(2) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: علّق.
(3) إكمال الإكمال: 4/ 273.
(2/307)
رضي الله عنه بقوله: قد يترك فضل شيء على
غيره لما أخذ عن فضيلته في الأخذ. وبهذا علل الشافعي أيضًا، وقال: إن كل
معاوضة تفتقر للتقويم لا تتحقق فيها المقابلة للمفرد إلا بعد النظر
والتقويم، والنظر والتقويم قد يخرج إلى التفاضل، أو يمنع تيقن المساواة،
فوجب المنع. ألا ترى أن من باع شِقصًا بدابة وثوب فإنه لا يدري ما يقابل
الشقص من الثوب والدابة إلا بعد التقويم، فإذا قوم ذلك بقي عليه ما يستحق
من شفعة أو رجوع بثمن مغيَّب أو ثمن مستحق وهذا يؤكد ما قلناه من الوقوع
(1) والتفاضل أو الجهل بالمساواة.
وأبو حنيفة يجيب عن هذا بأن الحديث ذكر في بعض طرقه أنه وجد في القلادة على
حسب ما ذكرنا عنه. وقد قال الطحاوي إن حديث فضالة بن عبيد فيه اضطراب، وقد
روي موقوفًا عليه، فإن صح أن الحديث مَرْفوع، فإنما نهى عن ذلك لئلا يغبن
أهل المغنم فيما يبيع لهم. وقد كشف الغيب وجه الغبن لأنه وجد في القلادة من
الذهب أكثر من وزنها.
عندي أنه إنما أشار بوقف هذا الحديث على فضالة بن عبيد بما خرجه مسلم عن
عمر (2) أنه قال: كنا مع فضالة بن عبيد فقال: انزع ذهبها فاجعله في كفة،
واجعل ذهبك في كفة، ثم لا تأخذنّ إلا مثلًا بمثل، سمعت النبيّ - صلى الله
عليه وسلم - يقول: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يأخذن إلا مثلًا
بمثل" (3).
ويجيب أصحاب أبي حنيفة عما ذكرناه من طرق الاعتبار، بأن ها هنا العقد لا
بدّ من اعتبار أنواع الاقتسام فيه، فاعتبرتم أنتم الاقتسام من ناحية
التوزيع والفصل، ليحصل لكم التفاضل من ناحية التقويم بين الذهبين أو
الطعامين. واعتبرنا نحن التقسيم من جهة أخرى، وهو أن العقد إن قصد فيه إلى
مقابلة الفرد بالفرد، بأن يجعل صاع التمر قبالة أحد الصاعين، والدينار الذي
مع
__________
(1) هكذا في الجميع، ولعل الصواب: في.
(2) هكذا في جميع النسخ، والصواب: حَنَش. إكمال الإكمال: 4/ 273.
(3) الإحالة السابقة.
(2/308)
صاع التمر قبالة الدينار، صحّ التعاوض على
هذه الصفة، والجمع إذا قوبل بالجمع قوبل الفرد بالفرد، كما يقال: ركب القوم
دوابهم، ولبسوا ثيابهم.
فالمراد مقابلة الفرد بالفرد، وهو أن كل رجل ركب دابته ولبس ثوبه، وإن
صرفنا هذا الانقسام إلى مقابلة الجمع بالجمع على التوزيع والشياع، اقتضى
ذلك فساد العقد، كما قلتم، وإذا احتمل العقد وجهين جهة صحة وفساد، صرفت
عقود المسلمين إلى الوجه الصحيح الذي يتدينون به. ألا ترى أن من باع سلعة
بدنانير ولم بسم سكتها، وفي ذلك العقد سكك مختلفة، لكن العرف تبايعهم بسكة
معينة، وبكون البلد لا سكة فيه سوى سكة واحدة، فإن لفظ الدنانير يحمل
عليها، وما ذلك إلا لأجل وجوب حمل عقود المسلمين على الوجه الجائز.
وأما وجوب التوزيع والفصل فيمن باع شِقصًا وسبعًا بدابة وثوب، فإنما ذلك
لأنه ليس له وجهًا صحة وفساد يجب حمله على أحد الوجهين، وهو وجه الصحة. فلا
مرَجِّحَ يقع بين احتمال واحتم الذي نفس أحد العوضين للشقص. (ولو فرضنا فيه
مقابلة الفرد بالفرد لم يجز فرقًا بين حملنا كون الشقص في مقابلة الثوب
حملنا له على أن يكون في مقابلة الدابة لا صحة وفساد ها هنا يتقابلان يقع
الترجيح بينهما ولهذا استغنى إلى موافقتهم ها هنا على وجوب التوزيع والقصر)
(1).
ولا ينقض هذا علينا بأنا نمنع من بيع دينار بدينارين مع احتمال أن يكون أحد
الدينارين مقابل الدينار الفرد، والدينار الثاني هبة، لأن هذا خلاف نص
اللفظ لأنهما جعلا الدينارين جميعًا بيعا وعوضا، فصرف أحدهما إلى كونه هبة
إبطال عقد المتعاقدين. وإذا باع دينارًا وصاعًا من تمر بصاعين من تمر، هما
جنس التمر، لما صاف (2) إلى الدينار، فإن مقابلة الفرد ها هنا وصرف
المعاوضة إلى مقابلة الصالح بالصاع ومقابلة الصالح الآخر بالدينار وليس فيه
__________
(1) ما بين القوسين كلام فيه اضطراب.
(2) هكذا، ولعلها: لأضاف.
(2/309)
إبطال النص الذي تعاقدا عليه. وكذلك أيضًا
إذا نوقض مخالف أبي حنيفة بإيجازهم (1) بيع درهمين جيدين بدرهمين رديئين،
مع إمكان العض (2) ها هنا أجابوا عن هذا بأن هذا لا يتصور فيه الفضل من جهة
التقويم والعض (2) ولأنه معلوم أن الدرهمين الرديئين دون الدرهمين الجيدين
في القيمة، ولكن كل درهم من الجيدين أو الرديئين مثل صاحبة فلا يقع اختلاف
ها هنا من جهة التقويم والعصر (2) لتساوي الدرهمين في كل واحد من الجانبين
وإنما يقع الاختلاف والتفاضل من ناحية التقويم وإذا (3) اختلف العوضان
المقومان، وكانا في حكم الجنسين، ألا ترى أن من باع قمحًا بمثله فاستُحِق
بعضه فإنه يرجع فيما باع فصعد أن (4) المستحق بنسبة التجزئة لا بنسبة
التقويم. وكذلك أيضًا يجاب أصحاب أبي حنيفة عن استشهادهم في وجوب حمل العقد
على الصحة إذا تقابلت الاحتمالات في العقد، بإن كل سكة يجوز العقد بها، فما
تردد هذا العقد إلا من وجوه كلها صحيحة ولكن إنما يحمل العقد على نقد البلد
لأجل العرف والعادة التي تقوم مقام النطق والاشتراط. ولعلنا أن نعيد الكلام
على هذه المسألة في كتاب الصرف ونصف به ما تعلق به منه.
__________
(1) هكذا، ولعل الصو اب: إجازتهم.
(2) هكذا، ولعل الصواب: النقص أو الغض.
(3) هكذا، ولعل الصواب حذف الواو.
(4) كلمة غير واضحة، ولعلها: بفقدان.
(2/310)
فصل
قال القاضي أبو محمَّد عبد الوهاب في المزابنة:
والمزابنة يجمعها بيع معلوم بمجهول من جنسه، كالرطب بالتمر والعنب بالزبيب
ورطْب كل تمرة بيابسها، أو حَبَّ كالحنطة المبلولة باليابسة، والدقيق
بالعجين؛ والحي الذي يراد للحم، كالكبش، باللحم من جنسه، والمشوي (1) (فلا
يجوز) (1) والمالح بالطري والسمسم بالشيرج (2). وهذا فيما بعده (3) الربا
ومنع (4) مجهول بمجهول من جنسه كصبرة بصبرة أو جزاف بجزاف، وثمرة نخلة
بثمرة نخلة أخرى. وأمّا فيما يجوز التفاضل في بعده (3) فإن تحققت الزيادة
جاز أو إن لم تتحقق دخله الحَظر. ويجوز الرطب بالرطب متماثلًا وكذلك البر
بالبر (5) وقسمة اللحم والسمن (6) على التحري (7).
قال الفقيه الإِمام رحمه الله:
هذا فصل قد تكلمنا على أكثر المسائل التي ذكرها القاضي أبو محمَّد في هذا
الفصل للقدر الذي قدمنا من أنا توخينا ترتيب المدونة. ولكنه تكلم ها هنا
على المزابنة.
__________
(1) في الغاني: والمشوي بالنِّيّىء.
(2) في الغاني: وما أشبه ذلك.
(3) في الغاني: نقده. والمعْنى: فيما يجري في عينه الربا.
(4) في الغاني: ومنها.
(5) في الغاني: اللبن باللبن.
(6) في الغاني: البيض.
(7) في الغاني: جائز.
(2/311)
فاعلم أن أصل هذه اللفظة مأخوذة من الدفع،
يقال: ناقة زبون، إذا منعت من حِلابها. وقال معاوية: ربما زبنت، يعني
الناقة، فكسرت أنف حالبها. ويقال للحرب: زبون لأنها تدفع بنيها للموت، ومنه
سمي ملائكة العذاب زبانية لأنهم يدفعون الكفرة إلى النار. ومنه سمي الرجل
المغبون زبونًا لأنه كالمدفوع عن وجه الصلاح له في البيع. وقد ثبّت عن
النبيّ - صلى الله عليه وسلم - النهي عن المزابنة. فذكر في الصحيح أنه عليه
السلام نهى عن المزابنة. قال: والمزابنة بيع التمر بالتمر كيلًا، وبيع
العنب بالزبيب كيلًا، وبيع القمح بالزرع كيلًا (1). وهذا لأجل أن هذه
الأجناس إذا بيعَ بمثله كيلًا لم تستحق (2) المساواة إلا مع كَيْلِهِمَا
جميعًا، وإذا كان أحدهما جزافًا أو هما جميعًا جزافان أمكن أن يكون بينهما
تفاضل. وقد قدمنا أن تحقق الربا في المنع مثل الشك فيه. فإذا كان التعاوض
بما فيه الربا منع لأجل الشك في الربا، ومنع أيضًا لأجل الغرر والتدافع
الذي هو المزابنة، وكل واحد من المتعاقدين يقدّر أنه غبن صاحبه. وهذا من
الغرر والتخاطر. فإن كان هذا التعاوض مما لا ربا فيه منع أيضًا لأجل
التخاطر والغرر، حتى يتبين الفضل في أحد العوضين فيرتفع الخطر والغرر ها
هنا عند تبين الفضل يكون أحدهما أكثر من الآخر. فإذا كان التعاوض بجنسين
مختلفين انتقلت الأغراض إلى اختلاف منافع الأعْواض فلم يقع التخاطر. فإذا
كان العوضان من جنس واحد لم ينصرف الغرض إلا إلى القلة والكثرة. وقد قال في
المدونة في آخر كتاب السلم الشاك: كل شيء لا يجوز أن يباع منهما (3) مجهول
بمجهول ولا مجهول بمعلوم حتى يتبين الفضل، ولو كان ذلك ترابًا. وقد عارض
بعض الأشياخ هذا الذي وقع ها هنا فقال: إن بيع، ما فيه الربا محرم، يجوز
إذا كان مما يكال. وهذا المنصوص عليه في المذهب، وإنما كان ذلك كذلك لأجل
أن الميزان قد يتعذر في كثير من الأماكن فتدعو
__________
(1) الموطأ: 2/ 148 - 149.
(2) هكذا في جميع النسخ، ولعل الصواب: تتحقق.
(3) هكذا، ولعل الصواب: منه.
(2/312)
الضرورة إلى العدول عنه إلى غيره، وما ذلك
إلا بأن يتحرى أن يكون الشيئان يتقابلان في الوزن، وأما المكيال فلا يتعذر
وجوده أو وجود ما ينوب (1)، ولو أن يكتال (2) أحدهما أو بجفنة فالعدول عن
المساواة (لا من يشاهد إلى التحرز غررًا) (3). من غير ضرورة تدعو إليه.
ولكن هذا إنما يجوز في القليل لا الكثير، لأنه لا يضبطه التحري ضبطًا يوثق
به. ويشترط أيضًا في جواز القليل أن يكون المتعاقدان بحيث يتعذر عليهما
الميزان حتى يضطر إلى التحري. لكن ذكر في كتاب السلم من المدونة أنه أجاز
السلم في اللحم تحريًا، وقد بينّا هناك معنى هذا التَحري، والسلم إنما يقبض
إلى أجل يتأخر عن العقد، ولا يعلم المتعاقدان حينئذٍ هل يتعذر الميزان عند
حلول الأجل أم لا، إلا أن يريد إذا أمكن تصوره عند الأجل سومح باشتراط
العدول عنه حين العقد، لأجل هذه الضرورة التي تُتَرقَّبُ. ومن الناس من
أبقى هذه المسألة على ظاهرها وقال: لا يجوز الاقتصار على التحري إذا تبايعا
ما يجوز فيه الربا، لأنهما لا يتحفّظان في التحري لاعتقادهما أنه لا إثم
عليهما (4) في التفاضل. ولم يتكلم ها هنا إلا على ما يجوز التفاضل فيه،
ويتكلم في إباحة التحري فيما يوزن من لحم أو خبز فيما فيه الربا، فلا تعارض
بين الجوابين، وهذا ضعيف لأنهما يؤمران بالتحري ها هنا، لئلا يقعا في الغرر
الذي نهى عنه بطاعتهما للأمر باجتناب الغرر لإطاعتهما للأمر باجتناب الربا.
ومن الأشياخ من قال: لم يقصد بهذه المسألة التي ذكرها في آخر كتاب السلم
الثالث منع بيع مجهول بمجهول إذا تحريا ذلك كما يجب، وإنما يتكلم على بيع
الجزاف بالجزاف لم يقصدا فيه إلى تحري المساواة. وقد ذكرنا أن المزابنة
والغرر إنما يتصور بتجانس العوضين، وإذا اختلفا انصرفت الأغراض لاختلاف
الأعواض، على حسب ما بيناه، وقد حكموا ببيع المصنوع بالأصل
__________
(1) أي: عنه.
(2) بياض بمقدار كلمة.
(3) كلام غير واضح.
(4) بياض بمقدار كلمة.
(2/313)
الذي صنع منه، بأنهما جنسان إذا كان
المصنوع لا يمكن أن يعود إلى أصله، كبيع غزل بثوب منسوج، فإن ذلك يجوز، وإن
لم يتبين الفضل، إلا أن يكون الثوب من خزّ فلا يباع بخز، لأن ثوب الخز قد
ينفش فيرجع خزًا كما كان، وإذا كان المصنوع يعود إلى أصله اعتبر فيه تبين
الفضل، وجرت فيه أحكام المزابنة، كبيع طست نحاس، لأنه قد يسبك الطست فيعود
نحاسًا كما كان. وأجاز في المدونة بيع المصنوع بالمصنوع وإن تجانس أصلاهما
وأمكن أن يعودا لأصلهما، كطست من نحاس بمنارة من نحاس، ورأى أن المقصود
اختلاف الصنائع، وكذلك العُروض المختلفة.
وأجاز في المدونة التفاضل ما بين الفلوس والنحاس، وإن كان النحاس أصلًا
للفلوس، ولم يُجْر النحاس مجرى التبر الذي يصنع منه الدنانير، لكون الربا
في الدنانير محرمًا باتفاق، والربا في الفلوس غير متفق عليه على ما سنبينه
في كتاب الصرف إن شاء الله.
وأما القسمة إذا وقعت بالتحري تجري على ما قلناه، ويتضح هذا فيها إذا قيل:
إنها بيع من البيوع. ويتكلم على هذا في موضعه إن شاء الله، ونذكر الخلاف
فيه: هل القسمة بيع من البيوع أو تمييز الحقوق؟ وبالله التوفيق.
(2/314)
|