شرح
التلقين كتاب بيوع الآجال
(2/315)
بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله على سيدنا محمَّد وآله وصحبه وسلم تسليمًا
كتاب بيوع الآجال.
قال الشيخ الإِمام، رضي الله عنه: لما لم يشتمل كتاب التلقين للقاضي أبي
محمَّد، رحمه الله، على تنصيص في مسائل بيوع الآجال المذكورة في المدونة
وغيرها، رأينا أن نملي فيه فصولًا تشتمل على نكت يعتمد عليها ورتبنا ذلك
فصولًا: الفصل الأول يشتمل على أربعة أسئلة، منها أن يقال:
1 - ما معنى حماية الذريعة التي بني عليها مسائل هذا الكتاب؟
2 - وما الدليل على اعتبارها في البيوع؟
3 - وما يجتنب فيها؟
4 - وما تقاسيم أنواع البيع المعتبر فيه؟
فالجواب عن السؤال الأول أن يقال:
أما حقيقة الذريعة عند الفقهاء، فإنها منع ما يجوز لئلا يتطرق به إلى ما لا
يجوز. وأصل هذا عند العرب أن الناقة الشاردة إذا استوحشت نصب لها ما تألفه
من الحيوان لتحن إليه فيمكن حينئذٍ ضبطها، فنقل هذا المعنى إلى ما فسرناه
من مرادهم، لأن ما لا يجوز من البياعات ويحرم العقد عليه قد يتحيل عليه
بإظهار صورة يجوز في الشرع العقد عليها حتى تكون وُصْلة إلى نيل ذلك
المحرم.
(2/317)
والجواب عن السؤال الثاني أن يقال:
اختلف الناس في اعتبار حماية الذريعة في بياعات الآجال، فأثبته مالك وأبو
حنيفة، وأنكره الشافعي تعلقًا منه بقوله تعالى: {وَأَحَلَّ الله الْبَيْعَ
وَحَرَّمَ الرِّبَا} (1). وعموم هذا يقتضي جواز ما منعه مالك وأبو حنيفة في
بياعات الآجال التي بني المنع فيها على حماية الذريعة. وهكذا استدل بعموم
قوله تعالى: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا
أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (2). وهذه البياعات المشار
إليها هي تجارة عن تراض من المتبايعين.
ويستدل أيضًا بأن مالكًا وأبا حنيفة وغيرهما من المانعين لهذه البياعات،
التي يأتي التفصيل عليها، إنما اعتمدوا على تهمة المتبايعين وأن ما أظهراه
من بياعات جائزة وأخبرا أنهما عقدا في الباطن على ما اقتضاه الظاهر لم
يصدقا في خبرهما يقينًا، وقد يظن بهما أنهما تحيلا، بما أظهرا، على عقد بيع
لا يجوز في الشرع، وهذا سوء ظن بالمسلمين وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ
الظَّنِّ إِثْمٌ} (3) والشرع إنما أمر بتحسين الظن بالمسلمين لا بسوء الظن
بهم.
وأما مالك وأبو حنيفة وغيرهما، فإنهم يستدلون بقوله تعالى: {وَلَا
تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْ
وَا بِغَيْرِ عِلْمٍ} (4) فنهى عن سبّ أصنامهم وغيرها مما يعبدونها مما لا
حرمة له لئلا يدعوهم ذلك إلى سب الله سبحانه.
فهذا كالتنبيه على منع الجائز لئلا يكون سببًا في فعل ما لا يجوز.
ويستدلون أيضًا بقوله تعالى: {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ
مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} (5) ومعنى ذلك أن هذا الضرب، وإن كان في
نفسه جائزًا، فإنه نهي
__________
(1) سورة البقرة: 257.
(2) سورة النساء: 29.
(3) سورة الحجرات: 12.
(4) سورة الأنعام: 108.
(5) سورة النور: 31.
(2/318)
عنه لئلا يكون سببًا في تشوّف الرجال إلى
امرأة أجنبية وتلفّتهم إليها.
ويستدلون أيضًا بقوله عليه الصلاة والسلام: "لا تصف المرأة المرأة لزوجها
... " (1) الحديث المخرج في الصحيح. والعلة فيه أن الوصف لمحاسن امرأة
أجنبية يتخوف على من سمعه من الرجال التشوف إليها، وتستنزله الشهوة إليها،
فيوقعه ذلك فيما لا يحل.
ويستدلون أيضًا بأن مجرد البيع إذا وقع على شروطه الشرعية جائز بالإجماع.
والسلف إذا انفرد أيضًا ولم يقصد المسلف منفعة نفسه، بل الرفق بالمسلف
والإحسان إليه، جائز بالإجماع. وإذا اجتمعا ووقعا في بيع بشرط سلف فإن
الشرع ورد بمنع ذلك. وما ذلك إلا لكون السلف إذا قارن البيع تخوّف منه أن
يكون سلفًا بزيادة، فقد يزيد في قيمة السلعة والمراد في الباطن أن تكون تلك
الزيادة على القيمة عوض السلف، والسلف بزيادة محرم باتفاق.
فهذا مفردان يجوزان، وهو البيع أو السلف، فإذا اقترنا مُنعا حماية للذريعة
كما بيناه.
وقد اضطرب المذهب في تعليل المنع فأشار أبو الفرج إلى أن علة المنع اعتياد
كثير من الناس التحيل بهذه البياعات الجائز ظاهرها على العقد على ما لا يحل
مما يُمنعان منه لو أظهراه، ويفسخ عليهما. ومقتضى هذا التعليل أن المعتادين
لفعل الحلال ومن هو من أهل الدين والعدالة بحيث لا يتهم على التحيل على
الحرام لا يُمنعون من هذه البياعات.
وأشار ابن مسلمة إلى أن العلة في ذلك حماية الذريعة، على ما قدمناه، وإذا
كانت العلة هذه وجب، على هذه الطريقة، أن يمنع من هذه البياعات من يتهم ومن
لا يتهم.
ومما يقوي هذه الطريقة، التي هي التعليل بحماية الذريعة، ويكون استدلالًا
أيضًا في أصل المسألة، حديث عائشة لما قالت لها أم محبة، وهي أم
__________
(1) مختصر حديث. انظر نصه في البخاري: الفتح: 11/ 252.
(2/319)
ولد لزيد بن أرقم: أتعرفين، يا أم
المؤمنين، زيد بن أرقم؟ قالت أم محبة: إني بعت منه عبدًا إلى العطاء
بثمانمائة درهم، ثم اشتريته منه بستمائة درهم. فقالت لها عائشة رضي الله
عنها: بئس ما شريت وبئس ما اشتريت، أبلغي زيدًا أنه قد أبطل جهاده مع رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - إن لم يتب. فقالت لها أم محبة: أرأيت إن تركت
له مائتي درهم وأخذت منه ستمائة؟ فقالت عائشة رضي الله عنها: {فَمَنْ
جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} (1) " (2).
وهذا كالنص منها، رضي الله عنها، على منع هذه المسألة وما في معناها مما
أجازه الشافعي. وقد استدل أصحابنا عليه بهذا الحديث، وذكروا أن إبطال
الجهاد مع عظم شأنه في الشرع وإحباط الأعمال لا يؤخذ قياسًا ولا يؤخذ إلا
توقيفًا من صاحب الشرع، فلولا أن عائشة، رضي الله عنها، سمعت هذا من النبي
- صلى الله عليه وسلم - لَمَا أوردته، إذ لا يمكن هذا بالقياس، ولا يليق
بها، رضي الله عنها، أن تقطع في الشرع بأمر مغيب من غير وحي. فإن قالوا:
ذكر في هذا الخبر أن البيع وقع إلى العطاء، والعطاء أجل مجهول، والبيع إلى
أجل مجهول لا يجوز. قيل: بل هو في حكم المعلوم، على أحد القولين، وما كان
في حكم المعلوم من الآجال جاز أن يكون ميقاتًا لدفع الثمن. مع أنها قالت:
بئس ما شريت. وظاهر هذا أنها ذمت بيعها الأول إلى العطاء وشراءها بعد ذلك
بثمن هو أقل مما باعت، ولا جهالة في الثمن الثاني فيمنع منه، وإنما يمنع
على طريقتنا وهي حماية الذريعة لئلا يتطرق بالحلال إلى الحرام. ومعلوم أن
زيد بن أرقم لا يليق به التعمد إلى التحايُل على الحرام، ولا يظن به ذلك،
لفضله وجلالة قدره في الصحابة، رضي الله عنهم.
ولكن إذا كان علة المنع حماية الذريعة وجب أن يمنع من لا يتهم لئلا يكون
ترك منعه داعية إلى أن يقع فيها من يتهم. وهذا أيضًا يمنع ما قدمناه في
الاحتجاج لمذهب الشافعي من كون الشرع ورد بأن بعض الظن إثم؛ لأن هذا ليس من
جهة تلك الظنون المنهي عنها، وإنما هو احتياط في الدين، وتحفظ على المسلمين
__________
(1) سورة البقرة: 275.
(2) انظر تخريجه والتعليق عليه في الهداية 7: 224 - 228 ح: 1367.
(2/320)
من أن يقعوا في حرام، وذَبٌّ عن قواعد
الشرع، ومثل هذا لا يستنكر ورود الشرع (1).
والجواب عن السؤال الثالث أن يقال: قد تقرر، فيما تقدم من كتاب البيوع، ما
يحل ويحرم، من ذلك تحريم السلف الذي يجر المنفعة، إلى غير ذلك من منع الدين
بالدين وما في معناه. فأنت إذا سئلت عن شيء من مسائل هذا الكتاب، وكان
المبيع ثوبًا مثلًا أو غيره، فاجعل الثوب ملغى كأنه لم يقع فيه عقد أوّلًا
ولا آخرًا، ولا تبدل فيه الملك، واعتبرْ ما خرج من اليد خروجًا مستقرًا
انتقل الملك به، وما عاد إليها، وقابلْ أحدهما بالآخر، فإن وجدت في ذلك
وجهًا محرمًا في الشرع لو (2) أقر (3) بأنهما عقدا عليه لفسخت عقدهما.
فإنك تمنع من هذا البيع لأجل ما قدمناه من وجوب حماية الذريعة وإن لم تجد
ذلك أجزت البياعات. هذه النكتة المعتبرة في هذا الباب.
والجواب عن السؤال الرابع أن يقال: لا تخلو هذه البياعات من أن تكون البيعة
الأولى نقدًا والثانية نقدًا، أو تكون الأولى والثانية مؤجلتين، أو تكون
الأولى مؤجلة والثانية نقدًا، أو تكون الأولى نقدًا والثانية مؤجلة.
فإن كانا جميعًا نقدين، أولى وثانية، فإن ذلك مما لا تقدّر فيه التهم
والتحيل على ما لا يجوز. إلاّ أن يكون المتبايعان من أهل العينة. فإنهما
تتطرق إليهما التهمة لاعتيادهما في هذا التحيل على ما لا يجوز. وكذلك إن
كان أحدهما من أهل العينة والآخر ليس من أهلها فإن التهمة تتطرق إلى هذا
العقد لأجل كون أحدهما ممن يتهم.
فأما كونهما جميعًا يتهمان فما وقع في المذهب في منع أهل العينة فصحيح، على
أصل المذهب.
__________
(1) أي: به.
(2) في الوطنية: أو.
(3) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أقرا.
(2/321)
وأما كون أحدهما من أهل العينة والآخر ليس
من أهلها ففيه نظر، إذا كان الذي ليس من أهل العينة من ظهور الورع والدين
بحيث لا يواطيء الآخر على فعل ما لا يحل. ولعل الذي وقع في المذهب في هذا
المرادُ به من يشكل أمره ويلتبس حاله فتتسلط عليه التهمة من قبل الآخر.
وأما إن كانتا مؤجلتين جميعًا، فإن ذلك يتهم فيه سائر الناس لأن بياعات
النقود يقل فيها الاضطرار إلى التحيل على ما لا يحل، وبياعات الآجال يكثر
ذلك فيها لشدة الحاجة إلى شراء المبيع نسيئة لعدم الأثمان عند مشتريه.
وكذلك إن كانت البيعة الأولى لأجل والثانية نقدًا فإن التهمة تتطرق فيها،
وتحمى الذريعة عمومًا لما قدمناه ...
وأما إن كانت الأولى نقدًا والثانية إلى أجل فإن في ذلك اختلافًا في
المذهب: فمن حمى الذريعة فيه عمومًا جعل الحكم للبيعة الثانية لحاجة الناس
إلى الشراء نسيئة وشدة الضرورة إلى ذلك تسهّل التحيل على فعل الحرام. ومن
لا يتهم الناس عمومًا جعل للثانية المؤجلة حكم الأولى التي هي بيعة نقد.
وقدمنا أن البيعتين إذا كانتا نقدًا فلا يتهم فيهما إلا أهل العينة.
فصل يشتمل على خمسمة أسئلة، منها أن يقال:
1 - ما مثال الزيادة في السلف المعتبرة ها هنا؟
2 - وما مثال ما هو [في] (1) حكم الزيادة؟
3 - وما حكم التهمة على الصرف المستأخر؟
4 - وما حكم التهمة فيما يقتضي التفاضل؟
5 - وما حكم الممنوع من هذا إذا وقع؟
فالجواب عن السؤال الأول أن يقال: إذا باع رجل من رجل ثوبا أو عبدًا، أو
غيرهما مما يعرف بعينه، بثمن من العين إلى أجل، ثم أراد أن يشتريه بائعه
ممن اشتراه منه بثمن من جنس الثمن الذي باع فإنه لا يخلو أن يشتريه بمقدار
ما
__________
(1) زيادة يقتضيها الكلام، ساقطة في النسختين.
(2/322)
باعه به أو بأكثر أو بأقل. ثم هذه الثلاثة
أقسام لا تخلو من أن يكون الشراء بها نقدًا أو إلى أجل. وإذا كان إلى أجل
فلا يخلو الأجل من ثلاثة أقسام أيضًا.
1 - أن يكون الأجل الثاني أقرب من الأجل الأول،
2 - أو يكون الأجل مثله،
3 - أو أكثر منه. فصار جملة الأقسام على التفصيل في العدد اثني عشر قسمًا.
وهي: كون البائع للثوب يشتريه نقدًا بمثل الثمن أو أكثر منه أو أقل أو إلى
أجل أقرب من الأجل الأول فيشتريه أيضًا بمثل الثمن أو أكثر منه أو أقل، أو
إلى الأجل نفسه بمثل الثمن الأول أو أقل أو أكثر أو إلى أبعد من الأجل بمثل
الثمن أيضًا أَو أقل أو أكثر. فجميع هذه الأقسام لا يمنع منها شيء إلا
ثلاثة أقسام، وهي:
1 - أن يشتريها بأقل من الثمن نقدًا،
2 - أو إلى أجل أقرب من الأجل الأول،
3 - أو يشتريها بأكثر من الثمن إلى أبعد من الأجل على غير جهة المقاصة
بالثمنين.
وإذا علمت ما قدمناه من النكتة التي تدور عليها مسائل هذا الكتاب وهي
اعتبار العوض الذي أخذه عما دفع من الثمن أو لأجل يجوز أن يقابل أحدهما
الآخر أم لا. فإذا تدبرت هذا علمت جواز هذه الأقسام كلها إلا ما استثنيناه.
وذلك أنه إذا باع ثوبًا بمائة درهم نقدًا فالثوب إذا باعه ثم استرده بشراء
قُدّر كأنه لم يخرج عن ملكه ولا زال من يده وصار كالمشترط رجوعه إليه حين
باعه فتحصل المعاوضة عن دراهم بدراهم، فإذا اشتراه بائعه بمائة درهم نقدًا
فإنه إنما يأخذ عند حلول الأجل الذي أجلاه في العقد الأول مائة درهم، ومن
أسلف مائة درهم على أن يأخذ مثلها إلى شهر فذلك جائز. وكذلك لو اشتراه
بمائتين لأن من أسلف مائتي درهم وأخذ بعد شهر مائة فقد تضاعف إحسانه
للتأخير بالخسارة والنقص فيما أعطاه وأسلفه. وإذا اشتراه بخمسين نقدًا فإنه
إذا أخذ عند الأجل مائة درهم على حسب ما تعاقدا عليه أوّلًا صار مسلفًا
لخمسين درهمًا على أن يأخذ بها مائة درهم، وهذا سلف بزيادة. وهذا التصوير
الذي صورناه يغنيك عن إعادته في القسم الآخر، وهو أن يشتريه بثمن إلى نصف
شهر؛ لأنه إذا دخل نصف الشهر وطلب البائع الأصل بما اشترى به الثوب الذي
(2/323)
كان باعه فإذا دفع الثمن الذي عقد به لما
حل عليه في نصف الشهر صار ما يأخذه عند تمام الشهر عوضًا عنه فيعتبر فيه ما
قدمناه. وكذلك إذا اشتراه بائعه إلى أجل مثل الأجل الأول فإنه جائز سواء
كان ثمن البيع الثاني مثل ثمن الأول أو أكثر أو أقل لأجل أن أحدهما لا يدفع
إلى الآخر ذهبًا ثم يأخذ بعد حين أكثر منه أو أقل. وإنما الحكم إذا حل
الأجل وتساوى الثمن أن يتقاصا مائة بمائة ويعطي أحدهما الآخر ما أبقته عند
المقاصة إذا زاد أحد الثمنين على الآخر.
وكذلك إذا اشتراه إلى أجل أبعد من الأجل الأول فإنه إنما يمنع منه قسم واحد
وهو أن يشتريه بأكثر من الثمن الأول لأن المشتري أوّلًا يعود إذا حل الأجل
ووزن الثمن سلفًا لما دفع من الثمن فإذا أخذ بعد أجل آخر أكثر منه صار
سلفًا بزيادة كما بيناه، وإن كانا اشترطا المقاصة جاز هذا الذي منعناه
لارتفاع العلة بالمقاصة، لأن المشتري لا يدفع عند الأجل الأول ثمنًا فيأخذ
أكثر منه بعد ذلك، وإنما يحسب ما حل للبائع عليه فيما سيحل له على البائع
ثم يأخذ بعد ذلك من البائع ما فضل عنده.
ولم يتعرض أحد في نصوص الروايات إلى تقدم الانتفاع بالثوب المبيع أو العبد
المبيع ها هنا فيجعل الانتفاع عوضًا للسلف فيمنع من شراء هذا الثوب بمثل
هذا الثمن إلى أبعد من الأجل، لما يتصور فيه من كون المشتري إذا حل الأجل
ودفع مائة درهم ثم يأخذها بعد حين، فمن دفعها إليه أن يكون كالمسلف مائة
درهم يأخذها بعد أجل، ويقدر الانتفاع بالثوب من لباس أو غيره عوضًا من سلفه
هذه المائة، إلى غير ذلك مما يتصور فيه مثل هذا في بعض الأقسام التي
ذكرناها. وقد قال بعض الأشياخ: إن القياس يقتضي منع هذا وما في معناه لما
يتصور فيه من سلف جر منفعة. وسنبسط هذا في الفصل الذي نتكلم فيه فيما تقرر
فيه معنى الزيادة إن شاء الله تعالى.
والجواب عن السؤال الثاني أن يقال: قد تقرر أن محض الزيادة المحسوسة في
السلف ممنوعة. وقد يعرض إشك الذي مسائل: هل فيها معنى الزيادة في
(2/324)
السلف أم لا، مثل أن يبيع رجل سلعة بعشرة
دنانير إلى شهر ثم يشتريها ممن اشتراها منه بخمسة دنانير نقدًا، وخمسة
دنانير إلى شهرين، فإن هذا البائع الأول قد خرج من يده الثوب، ثم رجع إليه
ودفع خمسة دنانير، فإذا حلّ الشهر أخذ من المشتري عشرة دنانير بخمسة منها
قضاء عن الخمسة التي أسلفها البائع لما ارتجع ثوبه، وخمسة منها يكون
المشتري مسلفًا لها يأخذها منه بعد شهر آخر.
فتصور من هذا أن الثوب لما بيع ثم ارتجع صار لغ وَا مطرحًا وصار البائع دفع
خمسة سلفًا للمشتري يأخذها منه إذا حل الشهر، ويأخذ منه خمسة أخرى تكون
سلفًا عنده أيضًا إلى شهر عوض السلف الذي أسلفه إياه المشتري. فكأنه إنما
أسلف البائع خمسة دنانير إلى شهر على أن يسلفه المشتري خمسة دنانير أخرى
أيضًا إلى شهر، فقد تساوى مقدار السلف ولم تكن فيه زيادة توجب المنع، لكن
منفعة كل واحد من المتسلفين قد نال مثلها من صاحبه الذي أسلفه أيضًا، فإذا
استوت المنفعة لم يتصور كون أحد المتسلفين أسلف لينتفع، فلم يمنع ذلك عند
ابن القاسم، وكرهه ابن الماجشون واثقًا أن يكون معنى الزيادة حصل ها هنا،
لأن كل واحد منهما ما أسلف إلا لعِوَض وغَرَضٍ له في السلف يعود بمنفعة،
ولولا ذلك ما أسلف، والسلف بشرط أن سلف المسلفة (1) مثل ما أسلف، ظاهر هذا
الشرط يقتضي أن السلف إنما وقع لمنفعة السلف، وسلف يجر منفعة ممنوع.
وكذلك لو اشترى البائع هذه السلعة بأربعة دنانير نقدًا وستة دنانير إلى أجل
شهرين أو اشتراها بستة نقدًا وأربعة دنانير إلى شهرين فإن ذلك جار على
القولين، لأن الأجل إذا حل دفع المشتري عشرة دنانير يكون بعضها، وهي الستة
أو الأربعة، قضاء عما أخذ من البائع وبقيتها سلفًا منه للبائع. لكن لو
اختلف العدد ها هنا فاشتراها البائع بأربعة نقدًا وخمسة إلى شهرين أو بخمسة
نقدًا وأربعة إلى شهرين لمنع ذلك على المذهبين جميعًا؛ لأن الزيادة ها هنا
موجودة لما اختلف العدد، فإذا حل الأجل ودفع المشتري العشرة دنانير التي
اشتراها كانت خمسة منها قضاء عن الأربعة التي أسلفه البائع، فالزيادة في
السلف متصورة على ما بيّناه.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: يُسَلَّف.
(2/325)
ومما ينخرط في هذا السلك أن يكون الثمن
الأول بعضه مؤجلًا وبعضه منتقدًا، مثل أن يبيع رجل سلعة بخمسة دنانير نقدًا
وخمسة إلى أجل، ثم اشتراها البائع بثمن هو مقدار الثمن الأول ولكن البائع
ينقده كله، مثل أن يشتري هذه السلعة التي باعها بخمسة نقدًا وخمسة إلى شهر
بثمن جملته عشرة دنانير فأكثر ينقدها، أو خمسة دنانير فأقل ينقدها أيضًا،
أو ستة دنانير فأكثر إلى تسعة دنانير، فإن شراءه إياها بعشرة دنانير جائز
لا تتصور فيه منفعة وزيادة محسوسة أو مقدرة لأنه دفع عشرة دنانير أو أكثر
منها بخمسة منها قضاء عن الخمسة التي نقده المشتري وخمسة فأكثر نقدها
ليأخذها إلى أجل، فهو قد خسر التأجيل خاصة أو التأجيل والزيادة، ولا يمنع
من سلف جر خسرانًا. وإن اشتراها بخمسة دنانير فأقل فإنه لا يتصور في هذا
تهمة، لأن المشتري نقد أولًا خمسة دنانير فرجعت إليه أو رجع إليه أقل منها
فلم يمنع من ذلك. وإن اشتراها البائع بستة دنانير فأكثر إلى تسعة فلن يمنع
(1)، لأنه يقدر فيه أن الخمسة التي قبضها البائع ردها على مشتريها وزاده
دينارًا أو دينارين أو ثلاثة أو أربعة نقدًا في خمسة دنانير يأخذها منه إلى
أجل، فلا يجوز هذا لأنه زيادة في السلف. ولو اشتراها بستة دنانير نقدًا
وخمسة إلى أجل، فإن ما علق بالأجل من جهة البائع والمشتري لا فساد فيه، لكن
إنما تتصور التهمة بقصد الفساد فيما وقع فيه الانتقاد إلا في أهل العينة
خاصة فيقدر أنه أسلف خمسة لترجع إليه ستة من غير تأجيل، وإذا لم يكن
المتعاقدان من أهل العينة لم يتهما في هذا.
ومما يشكل أيضًا فيه قصد المنفعة في السلف، واختلف فيه قول مالك، فيمن
اشترى دابة بثمن إلى أجل فأصابها عَوَر، أو ما في معناه من العيوب، هل
لبائعها أن يشتريها بأقل من الثمن الذي باعها وينقد الثمن؟ فأجاز ذلك في
أحد قوليه لأجل أنه إذا باعها بمائة إلى شهر، وهي سالمة من العيوب، ثم
اشتراها بخمسين نقدًا، وقد أصابها هزال، فإن الحطيطة ها هنا مصروفة في
الظاهر إلى أنها لأجل العيب الذي حدث لا إلى القصد إلى الزيادة في السلف،
وبخلاف أن
__________
(1) هكذا في النسختين ولعل الصواب فإنه يمنع.
(2/326)
يشتريها بخمسين نقدًا، وهي سالمة، فإنه
تقوى التهمة أن الحطيطة قصد الزيادة في السلف، وتضعف التهمة إذا حدث بها
العيب لوجود سبب تصرف هذه الحطيطة إليه. ولم يجز ذلك مالك أيضًا في إحدى
الروايتين عنه مبالغة منه في حماية الذريعة لئلا يقال فيما فيه تهمة قوية:
هذا تبعد فيه التهمة. ولهذا اختلف القول أيضًا عندنا فيمن أسلف في فاكهة
لها إبّان انقطعت، فتراضيا على الإقالة فيما بقي منها، فقيل: هذا جائز لأجل
ظهور سبب غير مكتسب وهو انقطاع الثمرة، وقيل لا يجوز مبالغة في الاحتياط
ولإمكان أن يكونا عقدا على ما يعلمان أن بائع الثمرة لا يوفي به وأنه سيرد
بعض الثمن ويأخذه سلفًا عنده.
ومن هذا المعنى أيضًا تعدي البائع على سلعة باعها بثمن إلى أجل فلزمته
القيمة بتعديه عليها، والقيمة أقل من الثمن الذي باعها به. فقيل: للمشتري
أن يغرمه القيمة ويدفع الثمن الذي عليه إذا حل الأجل وإن كان الثمن أكثر من
القيمة، ولا يتهمان ها هنا على القصد إلى سلف بزيادة لما كان هذا الثمن
الذي هو أقل من الثمن لأجل إنما وجب للمشتري في ذمة البائع بسبب لا طواعية
فيه للمشتري ولا اختيار، وإنما أخذ ما هو أقل ودفع بعد حين ما هو أكثر بحكم
الشرع والاضطرار، فبعدت التهمة إلى قصد سلف بزيادة لما لم يشترط المتبايعان
في السبب الذي أوجب أخذ هذا المقدار القليل من الثمن، وقيل: إذا أخذ القيمة
وهي الأقل لا يعطي عند الأجل إلا مثلها، ويسقط عنه من الثمن الذي عليه ما
زاد على مقدار ما أخذ من القيمة مبالغة في الاحتياط وحماية للذريعة، فيمنع
من دفع أكثر مما أخذ لئلا يقعا في سلف بزيادة. ولم يلتفت من قال بهذا
المذهب إلى ضرر البائع وإسقاط بعض الثمن المؤجل الذي عقد البيع عليه ولأجله
سمح بالتأجيل، ورأى أن التعدي لما كان من جهته، وقد تعلق بهذا حق البارئ
سبحانه وهو منع الزيادة في السلف، وحق له وهو استيفاء الثمن الذي إنما باع
نسيئة لأجل ما استوفى من الثمن، وجب أن يسقط حقه ويحمل عليه احتياطًا لحق
الله تعالى، مع كون التهمة تبعد إذا أتلف السلعة تلفًا لم يأخذ فيه عوضًا.
لكنه لو أتلفها ببيع لكانت التهمة تتطرق إليه وإلى المشتري
(2/327)
منه، لكن المذهب على قولين في تعدي البائع
على سلعة بإفاتتها ببيع أو غيره.
ومما قد يشكل ها هنا مما هو في معنى الانتفاع لأجل السلف ما قدمنا الإشارة
إليه من كون أهل المذهب لم يقدّروا في هذا انتفاع المشتري بالسلعة منفعة
تكون عوضًا، لما يتصور في هذه المسألة من التهمة على السلف، مثل أن يشتري
البائع ثوبًا أو عبدًا بثمن إلى أجل بمثل الثمن المؤجل نقدًا أو إلى أجل
أبعد من الأجل، فإنهم أجازوا ذلك مع كون المشتري انتفع بالعبد أو الثوب على
أن يسلف صاحب العبد أو الثوب مائة دينار إذا حل الأجل يأخذها منه بعد حين،
ولم يقدروا أن هذا سلفًا من المشتري أسلفه البائعَ عوض ما انتفع بسلعته،
لكون الانتفاع إنما يقدر مجرد تهمة في أهل العينة خاصة.
وقد أشار ابن المواز إلى هذا فقال: إن الانتفاع قبل العقد الثاني لا يتهم
فيه إلا أهل العينة، لكنه ذكر الانتفاع مطلقًا دون تقييد بانتفاع المثمون.
وقد قال بعض المتأخرين: إن القياس يقتضي منع شراء هذه السلعة بمثل الثمن
إلى أبعد من الأجل لما صوَّرته فيها من تقدير سلف جر منفعة. وأشار إلى أن
أبا الفرج حكى عن عبد الملك منع شراء هذه السلعة بمثل الثمن إلى أبعد من
الأجل. ولم أقف لأبي الفرج في الحاوي لما ذكر هذه المسائل في باب العينة،
على هذا. وإنما ذكر أبو الفرج عن عبد الملك أنه يمنع أن يبيع الرجل سلعة
بثمن إلى أجل ثم يشتريها وسلعة أخرى بذلك الثمن أو بأكثر منه إلى أبعد من
ذلك الأجل. وذكر سلعة أخرى تشترى مع تلك السلعة تخرج المسألة إلى معنى آخر
غير ما نحن فيه.
والجواب عن السؤال الثالث أن يقال: قد قدمنا أن المعتبر في مسائل هذا
الكتاب قوة التهمة على التحيل على ما لا يحل، وقد علم أن الصرف المستأخر
محرم. فإذا باع منه ثوبًا بمائة درهم إلى أجل، ثم اشتراه البائع بدنانير
نقدًا، فإن الثوب لما بيع ثم رد بعد البيع صار كالمطّرح الملغى، وصار محصول
أمرهما على ما قدمناه مرارًا: أن بائع الثوب الأول قد رجع إليه ثوبه وأخرج
دنانير نقدًا ليأخذ عوضها دراهم إلى أجل، وهما لو صرحا بأنهما إنما تعاقدا
على ذلك لم يجز، فكذلك إذا لم يصرحا ولكنهما اتهما أن يكونا أرادا ذلك،
فإنهما يمنعان
(2/328)
منه. لكن لا يخلو أن تكون الدنانير
المنقودة أكثر من قيمة الدراهم المؤجلة بأمر بيّن للتفاوت، مثل أن يشتري
الثوب بمائة دينار وقد باعه بمائة درهم، فإن هذا يتضح فيه ضعف التهمة؛ لأن
دافع الدنانير يخسر خسارة بينة، وينضاف إلى ذلك التأجيل فيما يخسر فيه
خسارة بينة بمثل هذا، غير أن ابن القاسم [أجاز] (1)، إذا علم من ناحية
القيمة التي تصورناها أو ما في معناها مما هو دونها مما يرفع التهمة: أن
دافع الدنانير لا يمكن أن يكون قصد المتاجرة في الصرف المستأخر.
ومنع ذلك أشهب مبالغة في الاحتياط، ولأنه قد يكون لدافع الدنانير في هذا
أغراض خفية قصد بها المتاجرة والمكايسة في الصرف المستأخر، كحماية الحماية.
وكما تجعل للحرام حماية يحيى بها جانبه فيجب أن يبالغ في هذه الحماية وتحمى
أيضًا حتى لا يسري الأمر إلى هتك حرمة الحرام، فيقول قائل: هذا لا تهمة
فيه، ويقول آخر: هذا فيه التهمة. ويتخرج على قول آخر ستراه في السؤال الذي
هو جواز هذا وإن (2) كانت الدنانير مثل قيمة الدراهم وتحققنا أن الدافع
الدنانيرَ لم يربح بل خسر الصبر والتأجيل.
والجواب عن السؤال الرابع أن يقال: قد علم أن المبادلة سكة بسكة منها ما
يجوز ومنها ما يمنع، على ما تقدم بيان ذلك في كتاب الصرف لما تكلمنا على
أحكام أخذ السكك بعضها عن بعض وأحكام المراطلة، فإذا باع منه ثوبًا بمائة
دينار إلى أجل، وكانت الدنانير بسكة، ثم أراد أن يشتري هذا الثوب ممن باعه
منه بدنانير هي مثل مقدار الدنانير الأولى لكنها من سكة أخرى، فإنه قد
اختلف في هذا عندنا: فقال في المدونة، فيمن باع ثوبًا بمائة درهم محمدية
إلى أجل ثم اشتراه بمائة درهم يزيدية إلى الأجل بعينه: إن ذلك لا يجوز.
واختلفت طريقة الأشياخ في علة المنع، هل هي كون الذمتين مشغولتين بسكتين
مختلفتين فيمنع ذلك؛ لأنه باع ذهبًا نسيئة بذهب مخالف له نسيئة، والتبايع
بذهبين مختلفين نسيئة لا يحل. فعلى طريقة هؤلاء يمنع ذلك ولو كانت السكة
التي
__________
(1) لفظة يقتضيها النص، ساقطة من النسختين.
(2) هكذا في النسختين ولعل الصواب، إن كانت.
(2/329)
اشترى بها البائع الأول هي خيرًا من السكة
التي باع ثوبه بها لما تصوّر في ذلك من بيع بذهب آخر مخالف له إلى أجل.
فيمنع هؤلاء المسألة سواء كان بيع هذا الثوب بمحمدية إلى أجل ثم اشتراه
بيزيدية إلى أجل، وإن كانت اليزيدية أدنى من ناحية السكة وإن تساوت في
المقدار وفي الوزن مع المحمدية لما قدمناه من التعليل.
وسلك بعض الأشياخ طريقة أخرى في التعليل لما في المدونة فقال: إنما منع ذلك
لأن اليزيدية دون المحمدية، وقد قدمنا أن من باع ثوبًا بدراهم ثم اشتراه
بأقل من تلك الدراهم أنه يمنع لأجل ما في ذلك من التحيل على الربح في
السلف. فهؤلاء يجيزون أن يبيع هذا الثوب بمائة درهم يزيدية إلى شهر ثم
يشتريه بمائة محمدية إلى شهر لأنه إنما اشترى البائع الأول بثمن هو أكثر
مما باع، وقد قدمنا أن هذين المتبايعين يتهمان على قصد التحيل على الربح في
السلف لا على الخسارة فيه.
وقد وقع لابن القاسم وعبد الملك في هذا الأصل اعتبار نفي التهمة بأن لا
يتصور في المسألة ربح في السلف فأجازا أن يبيع بسكة إلى أجل ثم يشتري
السلعة بسكّة ينقدها هي مثل السكّة التي باع بها أو أعلى منها؛ لأنه إذا
باع بأعلى منها خسر فضل زيادة السكّة التي دفع والتأجيل. وإذا كانت السكّة
التي اشترى بها مثل الأولى، فلا ربح له وإن ساوتها في القيمة. وإذا لم
يتصوّر الرّبح فلا وجه للمنع. ولو كانت السكة التي يشتري بها البائع الأوّل
لها فضل على تلك بزيادة عدد، لكن لتلك التي باع بها فضيلة تساوي فضيلة ما
اشترى به، فإنّ ذلك يجوز لارتفاع التهمة.
واعلم أنّ مدار هذه المسئلة والتي قبلها على النّظر في الباب حماية لهذه
الحماية التي بني عليها مسائل هذا الكتاب. فمن رأى أنّ الأصل تحليل كلّ بيع
لقوله تعالى: {وَأَحَلَّ الله الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} (1)، فإذا
ضعفت التهمة أو أشكلت أُبقيتْ المسئلة على هذا الأصل الشرعي، قال بالجواز
في مثل هذه المعاني.
__________
(1) سورة البقرة: 275.
(2/330)
ومن بالغ في الاحتياط وجعل للحماية حماية
بني هذا الأصل على محاذرته.
والجواب عن السؤال الخامس أن يقال: قد تقرّر ما يمنع من بياعات الآجال إذا
وقعت بالعين، ثمّ اشترى البائع ما باعه بأقلّ أو أكثر على ما اقتضاه
التفصيل الذي قدّمناه. فإن وقع هذا الممنوع، فإنّه يجب فيه الفسخ، وهاهنا
بيعتان واحدة بعد أخرى. فأمّا البيعة الأخيرة، فإنّها تفسخ إذا كانت السلعة
قائمة لم تفت من غير خلاف منصوص في المذهب. لكن بعض أشياخي أشار إلى أن ابن
عبدوس لا يوجب الفسخ وردّ السلعة من يد مشتريها الأخير الذي كان هو البائع
الأول.
والذي كان ينقله غيره عن هذا المذهب الّذي حكاه ابن عبدوس عن غيره أنّه
إنّما منع من ردّ السلعة من يد قابضها وهو المشتري الأخير بشرط أن تفوت.
وأمّا إذا فاتت السلعة في يد مشتريها الأخير الّذي هو البائع الأوّل فإنّ
المعروف من المذهب فسخ البيعة الثّانية، إلاّ ابن مسلمة فإنّه أمضاها على
ما هي عليه، ورأى أن الفسخ احتياطًا (1) مخافة أن يكونا أبطنا فسادًا خلاف
ما أظهراه من الصحّة. والتّهمة في هذا لا تجري مجرى اليقين. وقد ذهب إلى
جواز البياعات الّتي منعناها. فحسن عند ابن مسلمة الفسخ إذا كانت السلعة
قائمة بعينها احتياطًا. فإذا فاتت مضت هذه البيعة مراعاة للخلاف في أصل
جوازها ولما يقتضيه الفسخ من غرامة قيمة، فيلحق الضّرر لأجل غرامة هذه
القيمة.
وأمّا البيعة الأولى، فالمعروف من المذهب فسخها أيضًا مع الثانية إذا فاتت
السلعة، وقد قال ابن الماجشون: تفسخ البيعتان سواء كانت السلعة قائمة أو
فائتة. وقال ابن القاسم: تفسخ البيعة الثّانية خاصة إلاّ أن تفوت السلعة
فتفسخ البيعتان. وذكر ابن أبي زمنين في هذا تفصيلًا فاعتبر القيمة الواجبة
على البائع الأوّل الّذي قبض السلعة في البيعة الثّانية، فإن كانت قيمتها
الواجبة عليه أقلّ من الثّمن المؤصّل، فسخت البيعتان جميعًا، لأنّا إنّما
منعنا هذه البياعات
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: احتياطٌ.
(2/331)
لما تضمّنته من التّهمة على سلف بزيادة.
فإذا كان هذا المشتري الأخير وهو البائع الأول تلزمه قيمة السلعة، وهي خمسة
دراهم، وقد باعها بعشرة دراهم إلى أجل عدنا إلى الوقوع فيما منه هربنا،
وألزمناه أن يدفع الآن خمسة دراهم ينقدها وهي قيمة السلعة الّتي فاتت عنده
ويأخذ من صاحبه عشرة دراهم إلى أجل، وهذه صورة السلف بزيادة. فإذا كان
الفسخ يختص بالبيعة الثّانية وهو يتضمّن دفع قليل في كثير، على حسب ما
صوّرناه، وجب أن يُعدل عن هذا إلى فسخ البيعتين جميعًا.
فإذا كانت القيمة الواجبة على قابض السلعة، وهو المشتري الأخير، عشرين
درهمًا، وجب أن يختص الفسخ بالبيعة الثانية فترد السلعة من يد هذا الّذي
قبضها آخرًا. فإذا لم يقدر على ردّها لفواتها ووجب ردّ قيمتها وكانت قيمتها
عشرين درهمًا، غرمنا قابضها الّذي هو المشتري الآخر عشرين درهمًا عوض
عينها، ويحاسبه المشتري الأوّل من هذه العشرين درهمًا بالخمسة دراهم الّتي
قبض منه ثمن السلعة الّتي ردّها إليه.
فتلخص من هذا أنّ المذهب مع قيام السلعة لم يختلف في فسخ البيعة الأخيرة
إلاّ على طريقة ما حكيناه عن بعض أشياخنا. ومع الفوات تفسخ البيعة الأخيرة
إلاَّ على مذهب ابن مسلمة. وأمّا الأولى فثلاثة أقوال:
1 - الفسخ على الإطلاق،
2 - والإمضاء على الإطلاق،
3 - والتّفصيل الّذي حكيناه. فإن تضمّن اختصاص الفسخ بالبيعة الثانية دفْعَ
قليل في كثير سرى الفسخ إلى الأول، وإن لم يتضمّن ذلك اختصّ الفسخ
بالثّانية، على ما حكيناه عن ابن أبي زمنين.
وأضافه ابن أبي زمنين إلى ابن القاسم.
وطريقة أصحاب هذا التفصيل: أنّ القيمة إذا تضمّنت دفع قليل في كثير قضي
بهذه القيمة، لكن لا يأخذ غارمها من المشتري الأوّل عند حلول الأجل أكثر من
القيمة الّتي غرم، ويسقط الزّائد على المشتري الأوّل. لأنّا إن (1) لم
__________
(1) النص يقتضي إثبات: إنْ، وهي ساقطة في النسختين.
(2/332)
نسقط عنه، عادت المسئلة إلى الأصل الممنوع،
وهو دفع قليل في كثير. وهذا إن تحقّق فيه صورة الفسخ الثّانية لأجل أنّا
غرمنا قابض السلعة قيمتها، فإن إبطال ما زاد على القيمة عن المشتري إذا حلّ
الأجل، يقتضي أيضًا فسخ العقد الأوّل. لكن أصحاب هذه الطّريقة رأوا أنّ
السلعة لمّا قبضها المشتري الآخر الّذي هو البائع الأوّل وجب في مقتضى
القياس أن لا تنزع من يده، لأنهما إن لم يبطنا فسادًا، فالبيعة الأولى
والثّانية صحيحتان، ولا معنى لفسخ العقد الصحيح.
وإن أبطنا فسادًا وقصدا دفع قليل في كثير، فلا بيع بينهما، فيجب أن تبقى
السلعة في يد بائعها الأوّل كأنّه لم يبعها. ولهذا مال بعض أشياخي إلى
اختيار إبقائها (1) في يده مع قيام السلعة، فإذا فاتت وكانت القيمة الّتي
تلزمه أقلّ مِمّا باع به وأغرمناه إيّاها، صار ما زاد عليها من الثّمن
المؤجّل إذا أسقطناه ذهبت علة الفساد وارتفع ما صوّرناه من التّهمة، فكان
إصلاح العقد بإذهاب هذه الزّيادة خاصة، ويبقى العقد على ما هو عليه أولى من
التعرّض إلى فسخ العقدين. لكنّا إذا سلكنا هذا المسلك، فأغرمنا البائع قيمة
السلعة وهي خمسة دراهم، ولم تعد عليه هذه الخمسة دراهم إلاّ بعد أجل، صار
مظلومًا بإسقاط حقّه بالزّيادة، فقدّم هؤلاء حقّ الله تعالى في إصلاح هذا
العقد بإسقاط الزّيادة على حقّ المشتري الآخر في إسقاط ما استحقّه من زيادة
بحكم الثّمن. وتكاد هذه المسئلة تلاحظ بياعات الشّروط. وفيها الخلاف
المشهور: هل يصحّ البيع بإسقاط الشرط، وإن كان فيه حقّ لمشترطه تقدمة لحقّ
الله سبحانه على حقّ هذا المشترط أو يفسد العقد كلّه، إذ لا يتبعّض العقد
الواحد؟ وهكذا يعتلّ من خص الفسخ بالبيعة الثانية بأنّها هي الّتي أدخلت
الفساد وأوقعت التّهمة، فإذا فسخناها خاصة ارتفعت الشّبهة من العقد الأوّل.
أو يقال: إنّ المنع مبنيّ على أنهما قصدا دفع قليل عن كثير، ولا يتصوّر ها
هنا إلاّ بارتباط أحد العقدين بالآخر، وإذا ارتبط أحدهما بالآخر، صارا في
معنى العقد الواحد، والعقد الواحد لا يتبعّض، بل يفسخ جميعه. فهذه النّكتة
الّتي يدور عليها هذا الخلاف
__________
(1) في النسختين: إلغائها. والنص يقتضي ما أثبتناه.
(2/333)
مطلقًا ومفصّلًا. وقد نقلنا عن المذهب فسخ
البيعتين جميعًا نقلًا مطلقًا. وقيد النّقل في بعض الرّوايات أنّ الفسخ
تسلط على البيعتين جميعًا إلاّ أن يظهر أنهما لم يقصدا العينة، مثل أن
يجدها في السوق تباع فيشتريها، فإنّ الفسخ يختصّ بالبيعة الأخيرة. وهذا لا
يستقرّ على القاعدة التي قدّمناها، لأن التّهمة إذا تحقّق ارتفاعها اقتضى
الحال إمضاء البيعتين جميعًا، وإذا لم يتحقّق، فسخت الثّانية، لأنّ بفسخها
ترتفع التّهمة، أو تفسخ البيعتان جميعًا لما بينهما من الارتباط كما
قدّمناه. لكن من قيّد هذه الرّواية بما قدّمناه، رأى فسخ البيعتين. فإذا
تبيّن ارتفاع التهمة، حسن الاحتياط بقصر الفسخ على الثّانية خاصّة. وإذا لم
يتبيّن، فسخ البيعتان جميعًا لأنّهما في معنى العقد الواحد.
فإذا تقرّر حكم الفسخ مع الفوت فما المفيت ها هنا؟ أمّا ذهاب عينها أو
تغيّرها في نفسها، فإنّه يفيتها من غير خلاف على حسب ما يأتي بيانه في
تغيّر الأعيان. وأمّا بقاء عينها على حالتها لكن أسواقها اختلفت، فقد اضطرب
المذهب فيه. فقيل: إنّه فوت. وقيل: ليس بفوت. وحكى ابن عبدوس أنّ رجلًا سأل
سحنونًا عن فوت هذه السلعة، فقال له: لا تفيتها حوالة الأسواق، بل تغيّرُها
أو ذهابُ عينها. فإذا تغيّرت في نفسها حتّى وجبت القيمة، هل هي أقل من
الثقن فتسقط الزّيادة الّتي زاد الثمن على هذه القيمة؟ أو هي أكثر فيغرم
القيمة على الإطلاق على حسب ما قدّمناه من التفسير الّذي ذكرناه؟ فقال له
السائل: هكذا سمعنا عن ابن كنانة. قال ابن عبدوس: قال لنا سحنون: أُرْوُوها
عن الشيخ ابن كنانة. وسبب هذا الاضطراب الذي نقلناه عن المذهب: أنّا قرّرنا
(1) أنّ هذه العقود زُورٌ وأنّ المِلك لم ينتقل، اقتضى هذا كون تغير
الأسواق لا يفيتها. وإن لم نقدّر أن هذه التّهمة تجري مجرى اليقين، وإنّما
المنع حماية والفسخ مبالغة في الاحتياط لهذه الحماية، وجب أن تفيتها حوالة
الأسواق.
وسنوضّح هذا الأصل عند كلامنا على الاختلاف في حوالة الأسواق في مثل هذه
المعاني إن شاء الله تعالى.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: أنّا إن قدرنا.
(2/334)
وقد يجري أيضًا على هذا الأسلوب ما اضطرب
فيه الأشياخ في هذه السلعة إذا باعها مالكها بعشرة دراهم إلى شهر، ثمّ
اشتراها بخمسة دراهم إلى شهر، ثمّ أراد أن يعجّل هذه الخمسة دراهم، فإنّ من
الأشياخ من أجاز ذلك لأنّ أصل العقد الأوّل والعقد الثاني وقع على الجواز
لا تهمة تتطرّق إليه. فإذا تطوّع مشتريها بخمسة دراهم إلى الأجل بأن ينقد
هذه الخمسة دراهم، لم يمنع من ذلك لسلامة العقدين في الأصل من تطرّق
التّهمة إليهما. واستشهد هؤلاء بما نصّ عليه أهل المذهب من منع شراء سلعة
غائبة أو سلعة على الخيار بشرط نقد الثّمن. فإذا تعاقدا عليها من غير شرط
تعجيل، فإنّ من عليه الثمن لا يمنع من أن يتطوّع بنقده لمّا لم (1) يكن
مشترطًا في أصل العقد.
ومن الأشياخ من يمنع هذا ورأى أنّ الصورة الّتي منعنا من العقد عليها إذا
أظهراه عاد إليها بعد العقد، وأن التّهمة تجري في هذا مجرى اليقين في
كونهما قصدا إلى سلف بزيادة، وقد تصوّر هذا ها هنا فيما تطوّع به هذا
المتطوّع بالتّعجيل، فوجب أن يمنع. ومن لم يجر هذا مجرى اليقين وإنّما منعه
احتياطًا، رأى أنّ البيع الأوّل ماض لو انفرد، باتّفاق، والبيع الثّاني هو
سبب تطرّق التهمة، فحسن منعه. والتطوّع بالنقد فعل ثالث، فلا يحسن أن تمتدّ
التّهم إلى هذه الأفعال كلّها مع تعدّدها وتباين أوقاتها. وقد كنّا قدّمنا
الإشارة إلى اضطراب المذهب في حماية الحماية. وهذه المسئلة ربّما خُرِّجَتْ
عليه.
__________
(1) (لم) ساقطة من النسختين، والنص يقتضيها.
(2/335)
|