شرح التلقين

فصل في اعتبار التفاضل في غير العين
قال الشّيخ رحمه الله: يتعلّق بهذا الفصل سؤال واحد، ما حكم التفاضل ها هنا في العروض؟ فالجواب أن يقال: قد قدّمنا أحكام ما يمنع بالتّهمة على سلف بزيادة إذا كان الثّمن عينًا. فأمّا إن كان ليس بعين وهو عروض، مثل أن يبيع منه سلعة بعشرة ثياب مضمونة إلى أجل، ثمّ يشتريها بثياب من جنسها، فإنّ هذا يتصوّر فيه الاثنا عشر قسمًا الّتي صوّرناها في الثّمن إذا كان عينًا، وقد قدّمنا بيانها هناك وذكرنا أنّ الممنوع منها قسمان، وهما أن يبيع سلعة بدراهم إلى أجل ثمّ يشتريها بأقلّ من الثّمن إلى ما قبل الأجل (1)، أو يشتريها بأكثر من الثّمن إلى أبعد من الأجل على ما مضى تفصيله وبيانه. وها هنا يمنع هذان القسمان، ويختلف في قسمين آخرين يضافان إليهما. فإذا باع هذه السلعة بعشرة ثياب مضمونة إلى شهر، ثمّ اشتراها بخمسة ثياب من جنسها نقدًا، فإنّ هذا يمنع لما يتصوّر فيه من سلف بزيادة، مثل ما يتصوّر في العين، ويتّهم على أن يكون قد (2) أسلف خمسة ثياب ليأخذ عشرة. وكذلك إذا اشتراها بخمسة عشر ثوبًا إلى شهرين، فإنّه يتّهم أيضًا على أن يكون المشتري يدفع عند الأجل عشرة ليأخذ خمسة عشر.
وأمّا الوجهان الآخران، وهو أن يشتريها بخمسة عشر ثوبًا نقدًا أو بخمسة ثياب إلى شهرين، فإنّ هذا يتضمّن سلفًا بخسارة لا سلفًا بزيادة، ولا يتّهم أحد
__________
(1) في النسختين: الأقلّ، والنص يقتضي ما أثبتناه.
(2) في النسختين: قصد، والنص يقتضي: قد.

(2/336)


على أن يسلف ليخسر، وإنّما يتّهم أن يسلف ليربح. لكن تتطرّق التّهمة هنا من جهة أخرى وهي ضمان بعوض، فإذا باع السلعة بعشرة ثياب إلى شهر ثمّ اشتراها بخمسة عشر ثوبًا، فقد تطرّقت التّهمة إليهما في أن يكون أسلفه عشرة ثياب وأعطاه خمسة ثياب معها ليضمن له العشرة إلى أجل، وكذلك إذا اشتراها بأقلّ إلى أبعد من الأجل، يتصوّر أيضًا أَن يكون المشتري الأوّل لمّا حلّ الأجل دفع خمسة عشر ثوبًا ليأخذ بعد شهرين عشرة ثياب وتكون الخمسة عوض ضمان العشرة. ولكن التحيّل على ضمان بِجُعْل لا تقوى التّهمة فيه كما تقوى التّهمة على التحيّل على سلف بزيادة. لكن قدّمنا في كتاب السلم، لمّا تكلّمنا على ربا النساء في العروض، اختلاف النّاس فيه، وما وقع في المذهب عندنا من اضطراب فيه، هل يمنع التفاضل في العروض إذا بيعت نسيئة بجنسها لأجل أنّه ربا، والرّبا محرّم في نفسه، وإنّما منع حماية للذريعة لئلاّ يقصد من أسلم ثوبًا في ثوبين من جنسه إلى السلف بزيادة. فمن سلك من أصحابنا طريقة من يرى أنّ التّفاضل في العروض إذا بيعت نسيئة ربا، كالرّبا في العين، منع هذين القسمين ولأجل ما يحصل فيهما من صورة التّفاضل وإجراءِ التّفاضل في الثّياب في بياعات الآجال مجرى العين. ومن منع ذلك حماية للذّريعة لئلاّ يكونا قصدا إلى التحيّل على سلف بزيادة، فإنّ هذه الثّياب إذا بيع بعضها ببعض متفاضلًا تصوّر فيها صورة الرّبا. وإذا كانت ثمنًا للسلعة ثمّ اشتريت تلك السلعة بثياب من جنسها، فإنّ التّفاضل بين الثّياب لم يكن متصوّرًا في عقد واحد، ولكن إنّما يتصوّر لوقوع عقد بعد عقد، وقد قدّمنا أنّ وقوع عقد بعد عقد يوجب كون العقد الثّاني مَطرَق التّهمة إلى العقد الأوّل، فمنع حماية للذّريعة. فالدّنانير والدّراهم لا يتصوّر فيها ضمان بجُعل لبعد التّهمة فيها، فاتّفق المذهب على جواز أن يشتري ثوبًا باعه بعشرة دراهم إلى أجل بعشرين درهمًا نقدًا.
فيتصوّر في الثّياب القصد إلى ضمان بجعل، فهل يحسن أن تحمى الذّريعة في هذا الوجه؟ هذا مِمّا اضطرب فيه المتأخّرون لأنه كحماية مبنيّة على ضمان بجعل لحماية ملحقة بالحماية الأولى. وقد اختلف المتأخّرون فيمن باع ثوبًا بقفيز قمح

(2/337)


إلى شهر، ثمّ اشتراه بقفيزين قمحًا نقدًا، هل يجوز في ذلك ما يجوز في العين باتّفاق لارتفاع التّهمة على التحيّل على سلف بزيادة؟ أم يمنع ذلك لما يتصوّر فيه من ضمان بجعل؟ وأشار بعضهم إلى تخريج هذا على اختلاف في الحماية، هل تكون لها حماية أخرى؟ أم لا يحسن ذلك لئلاّ يتسلسل الأمر ويكثر؟ وبالجملة فإنّ هذا عندي إنّما يعتبر فيه قوّة التّهمة وضعفها. وأمّا السلف بزيادة فتقوى فيه التّهمة فيتّفق عندنا على المنع. وأمّا الضّمان بجعل فتضعف فيه التّهمة، فيحسن فيه الخلاف. فمن بالغ في الاحتياط منع من هذا، ومن لم يبالغ في هذا لم يمنع منه لضعف التّهمة فيه. وقد أشار بعض المتأخّرين إلى أنّ شراء الثّوب المبيع بقفيز قمح إلى أجل بقفيزين نقدًا يجوز على أصل ابن القاسم. كما أجاز لمن باع ثوبًا بأربعين درهمًا إلى أجل أن يشتريه بعشرين دينارًا نقدًا، وإن تصوّر في هذا التحيّل على الصرف المستأخر لأجل ارتفاع التّهمة لكثرة الخسارة في هذا المنقود من الطّعام. ويمنع على أصل أشهب، كما منع شراء هذه الدّراهم بالذهب الّذي ذكرناه وإن ارتفعت التّهمة فيه.

(2/338)