شرح التلقين

فصل في حماية الذّريعة في البيع والسلف
قال الشّيخ رحمه الله: يتعلّق بهذا الفصل خمسة أسئلة منها أن يقال:
1 - ما حكم شراء المبيع ببعض الثّمن؟ 2 - وما حكم شرائه بمثل الثّمن فأكثر منه؟ 3 - وما حكم شراء المبيع ببعض الثّمن وزيادة عليه من غير جنسه؟ 4 - وما حكم شراء كلّ المبيع ببعض الثّمن وزيادة في الثّمن من جنس آخر؟ 5 - وما حكم شراء كلّ المبيع وزيادة عليه؟

فالجواب عن السؤال الأوّل أن يقال: قد قدّمنا أنّ ظاهر بياعات الآجال الّتي منعها مالك وأجازها الشّافعي، الأصل فيها الجواز. لكن مالكا رأى في البياعات أنواعًا إذا قارنت العقد أفسدته. فكلّ عقد ظاهره السلامة من هذه المفسدات، ولكنّه اعتبر فيه إبطان هذه المفسدات وسترها، فإنّه يمنع، أو يمنع منها حماية للذّريعة ومخافة أن يكون المتعاقدان تحيّلا بها على المحرّم. كما قدّمنا الاضطراب في تعليل المنع لما منعناه من بياعات الآجال. وقد تقرّر أنّ الرّبا ممنوع والسلف الّذي يجرّ منفعة ممنوع، ومثّلنا ذلك بالمسائل المتقدّمة، وقد علم أنّ من المحرّمات البيع بشرط السلف. وهذا الفصل يشتمل على مسائل هي كالمثال له فيما يحيى منه. فذكر في المدوّنة إذا باع رجل من رجل عبدين بمائة دينار إلى شهر، ثمّ اشترى البائع أحدهما بخمسين دينارًا أو تسعة وتسعين دينارًا أو بدينار واحد على النقد لذلك، أنّ ذلك لا يجوز، لما يتصوّر فيه من التحيّل بما أظهراه من الفعل الجائز على بيع بشرط السلف. وذلك أنّا قرّرنا أنّ الاعتبار في بياعات الآجال أنّ ما استقرَّ الملك عليه، وما بيع ثمّ ارتجع، فكأنّه

(2/339)


لم يبع. فإذا علم هذا، واحد العبدين الّذي (1) بيع ثمّ ارتجع بالشّراء كأنّه لم يعقد عليه بيْع، بل هو باق على ملك بائعه الأوّل لم يخرج من يده، وإنّما خرج من يده العبد الباقي بيد المشتري الّذي لم يرتجعه بالشَّراء وخمسون دينارًا، ويأخذ عوض ذلك إذا حلّ الأجل مائة دينار. فخمسون منها قضاء عن الخمسين الّتي خرجت من يد البائع، وخمسون منها ثمن العبد الباقي بيد المشتري الّذي لم يرتجع منه. صار هذا محصول أمرهما. فقد تصوّر فيه صورة البيع والسلف لأنّ العبد الباقي فرضنا أنّه مبيع بخمسين تؤخذ عند الأجل، وقارن ذلك خمسون دينارًا أسلفها البائع نقدًا، ثمّ تعود إليه إذا حلّ الأجل. وهما لو صرّحا حين العقد، بأنّه يبيع منه عبدًا بخمسين دينارًا على أن يسلفه خمسين، لمنع ذلك باتّفاق. فإذا ظنّ بهما أنّ هذا قصدهما، وإن لم يصرّحا به، جعل حكمه حكم ما صرّح به من البيع والسلف. لكنّه أغلى فيما ذكره في المدوّنة في هذا التّمثيل لما قال: إنّه اشترى العبد بتسعة وتسعين نقدًا، أو اشتراه بدينار نقدًا، لأجل أنّ هذا التعليل في السلف أو الثّمن تبعد فيه التّهمة، ولا يشبه أن يبيع أحد العبدين بدينار ويسلفه تسعة وتسعين، فإنّ في هذا غبنًا ظاهرًا. وكذلك لا يشبه أن يبيع العبد الّذي أبقاه في ملك المشتري بتسعة وتسعين على أن يسلف المشتري دينارًا واحدًا. لكنّ هذا التّمثيل بهذه المبالغة يصحّ على أصل أشهب المانع من شراء ثوب باعه بأربعين درهمًا إلى أجل ثمّ اشتراه بعشرين دينارًا نقدًا. وإن كانت التّهمة على الصّرف المستأخر في هذا بعيدة. وابن القاسم أجاز هذا، فينبغي على أصله أن يجيز ما ذكرناه من التّمثيل الّذي بالغ فيه في مسئلة العبدين. إلاَّ أن يرى أنّ البيع والسلف يتكرّر القصد إليه والتحيّل عليه بخلاف الصرف المستأخر. فإذا تقرّر منع هذه المسئلة لما تصوّر فيها من صورة البيع والسلف، فإنّ المتعاقدين لو اعترفا أنّهما قصدا ما ظنناه بهما من البيع والسلف لجَرَى مجرى الحكم في هذه المسئلة على حكم من باع بشرط أن يسلف أو يسلف.
لكنّهما ها هنا إذا أنكرا قصدهما لما ظنّ بهما من التحيّل على ما لا يجوز، فإنّ
__________
(1) في النسختين: اللذين، والنص يقتضى ما أثبتناه.

(2/340)


بعض أشياخي رأى أنّ هذه المسئلة تجري على ما تقدّم من أحكام بياعات الآجال الممنوعة من فسخ الأولى والثّانية على مذهب عبد الملك. ويشير إلى إجراء الخلاف فيها على حسب ما قدّمناه من الكلام في فسخ ما منع من بياعات الآجال مع القيام والفوت. وقد اختلف الأشياخ في فسخ العقد في البيع (1) الباقي الّذي لم يرتجعه بائعه. واختلافهم في هذا جار على ما قدّمناه من طريقة بعض أشياخي في إجراء هذه المسئلة على حكم أخواتها الّتي تقدّم ذكرها، وذكر الخلاف فيها. لكن إذا وقع البيع بشرط السلف تصريحًا، فإنّ المشهور من المذهب أنّ السلف إذا أسقطه مشترطه صحّ البيع. فبعض الأشياخ تشير طريقته في هذه المسألة إلى أنّ هذه المسألة الّتي هي ارتجاع أحد العبدين تخالف مسألة اشتراط السلف في حين عقد البيع لأجل إنكار هذين المتعاقدين أن يكونا قصدا إليه. فبمقتضى إنكارهما، أن يكونا قصدا ذلك، أن تكون القيمة في العبد الفائت مطلقًا بالغًا ما بلغت، ولكن يعتبر فيها أن تكون مثل الثّمن فأقلّ فإن كانت أكثر من الثّمن، رجع إلى الثّمن على حسب ما ذكرناه في المدوّنة فيمن اشترط في عقد البيع سلفًا. ومنهم من يوافق على هذا, ولكن سلك في تعليله طريقة أخرى، فيقول: إنّما يعتبر كون القيمة أكثر من الثّمن أو أقلّ إذا كان الثّمن عنها نقدًا. وأمّا إن كان دينًا أو عرضًا، فالقيمة يقضي بها على الإطلاق، والثّمن ها هنا دين. وغير هؤلاء من الأشياخ يرى أنّ الواجب إذا فات هذا العبد أن يحطّ من الثّمن المؤجّل مقدار ما ينوبه منه، ولا يقضي فيه بالقيمة على الإطلاق
منفردًا. وهذا جنوح من هؤلاء إلى اعتبار الثّمن. وقد كنّا قدّمنا الكلام على الواجب في هذا إذا فاتت السلعة، وذكرنا مذهب من فصل فاعتبر كون ما يغرم من القيمة المطلقة أقلّ مِمّا يأخذ عند الأجل أو أكثر.

والجواب عن السؤال الثاني أن يقال: أمّا شراء أحد هذين العبدين بمثل الثّمن فأكثر نقدًا، فإنّه جائز, لأنّا قدّمنا أنّ المعتبر في بياعات الآجال ما خرج من يد البائع خروجًا لم يرتجعه وما يرجع إليه من العوض. فوجدنا بيع العبدين
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: المبيع.

(2/341)


بمائة دينار إلى سنة، ثمّ اشترى أحدهما بمائة دينار نقدًا أو بمائتي دينار نقدًا لا منفعة له في هذا [حتّى] (1) يتهم على القصد إلى ما لا يجوز لأجلها بل يخسر في هذا. وذلك أنّ العبد الّذي باعه ثمّ ارتجعه كأنَّه لم يبعه ولا خرج من يده، وإنّما استقرّ الأمر على أنّه خرج من يده العبد الباقي في ذمّة المشتري الّذي لم يرتجعه ومائة دينار أو أكثر منها نقدًا، ويأخذ إذا حلّ الأجل مائة دينار. فإنّما يعود إليه عند الأجل من الدّنانير مثل ما خرج من يده أو أقلّ منه، ويزيد على ذلك عبدًا وهو الباقي في يد المشتري. وهذا لا يتّهم فيه أحد. لكن الشيخ أبو إسحاق التّونسي حاول تخريج خلاف في هذا، فقال: إنّ من باع ثوبًا بعشرة دراهم إلى شهر ثمّ اشتراه بثوب نقدأوعشرة دراهم، فإنّ هذا يمنعه عبد الملك, ويجيزه ابن القاسم، لأجل أنّه لا يرى فيه منفعة ولا ربحًا يتحيّل عليه, لأنّ الثّوب المبيع قد رجع إلى بائعه ودفع إلى المشتري ثوبًا آخر وعشرة دراهم يأخذها منه إذا حلّ الأجل، فقد اتّضح ها هنا خسارته لا ربحه. لكن عبد الملك منع هذا وإن لم تكن فيه منفعة ظاهرة، وقدّر أنّ الثّوب الّذي ارتجعه إنّما ارتجعه من معاوضة ثانية وهي في دفع ثوب آخر، وهذه مبايعة قارنها سلف عشرة دراهم يأخذها إذا حلّ الأجل. قال: ولا سيما إن كان الثّوب المدفوع آخرًا أدنى من الثّوب الأوّل.
وأشار بقوله: لا سيما إذا كان أدنى، إلى اتّضاح التّهمة ها هنا. وهذا الّذي أشار إليه قد يكون انفصالًا عمّا لزمه الشيخ أبو إسحاق أن يقول به في المسئلة الّتي ذكرناها, لأنّ ها هنا مبايعة ثانية وهي عرض بعرض، والأعراض تختلف فيها الأغراض، ولا سيما مع اختلاف القيم، فصحّ ها هنا انصراف الغرض إلى التحيّل على البيع والسلف، ومسئلتنا المتقدّمة إنّما ارتجع أحد العبدين بدنانير من جنس الثّمن الّذي له في الذّمّة، والأغراض ها هنا [لا] (2) تتصوّر كما تصوّر في شراء هذا الثّوب بثوب آخر غيره. وابن القاسم قدّر أنّ هذا رجع كأنّه لم يخرج من يده لا بعوض ولا بغير عوض، وإنّما صار محصول أمرهما أنّ البائع
__________
(1) ساقطة من النسختين والنص يقتضيها.
(2) ساقطة من النسختين والنص يقتضيها.

(2/342)


خرج من يده ثوب وعشرة دراهم، ويأخذ إذا حلّ الأجل عشرة دراهم. وابن القاسم قد قدّمنا أنّ من أصله أن يجيز بياعات الآجال إذا اتّضح ارتفاع التّهمة.
وأشهب يمنعها وإن ارتفعت التّهمة. وعبد الملك يجيزها حتّى يتّضح تصوّر التّهمة فيها، على ما قدّمناه عنه في مسئلة المبادلة سكّة بسكّة في بياعات الآجال. وقد ألزم بعض الأشياخ عبد الملك أن يمنع ما اتّفق المذهب على جوازه, لأنّه اعتلّ في منع شراء الثّوب الّذي باعه بعشرة دراهم إلى شهر، ثمّ اشتراه بثوب وعشرة دراهم نقدًا، فإنّ ذلك يتصوّر فيه البيع والسلف على ما قدّمناه. فقال بعض الأشياخ: يلزمه على هذا أن يمنع من شراء هذا الثّوب الّذي باعه بعشرة إلى أجل بعشرة دراهم نقدًا أو بعشرين درهمًا نقدًا, لأنّه يتصوّر أيضًا فيه أن تكون العشرة دراهم الّتي نقدها سلفًا يأخذها إذا حلّ الأجل، والثّوب الّذي ارتجع بعد أن باعه منفعة حصل عليها لأجل هذا السلف. وكذلك لو اشتراه بعشرين نقدًا فإنّه يتصوّر فيه البيع والسلف، فتكون عشرة من العشرين سلفًا، والعشرة الباقية من العشرين ثمن الثّوب الّذي اشتراه. ولم يختلف المذهب في أنّ هذا غير ممنوع لأنّه إنّما منع ما ذكرناه من بياعات الآجال لأجل التّهمة الّتي تتطرّق إلى المتعاقدين من التحيّل على فعل ما لا يجوز في البياعات. ولا يتّهم أحد أن يسلف عشرين ليأخذ عشرة إلى أجل، ولا في أن يسلف عشرين فيأخذ عشرة إلى أجل (1). وإنّما لم يختلف في جواز هذا لأجل ارتفاع التّهمة فيه. وقد تقرّر أنّ العشرة المؤجّلة استقرّت في ذمّة مشتري الثّوب ثمنًا له، فكيف يتصوّر أنّها ثمن للثّوب وإنّما يدفعها عند الأجل بحكم كونها ثمن الثّوب الّذي باعه آخرًا وقد اشتراه أوّلًا؟ ويتصوّر مع هذا أنّه إنّما يدفعها عند الأجل قضاء عن السلف الّذي انتقد (2). فتكون العشرة المؤجّلة إذا دفعت عند الأجل تدفع على أنّها ثمن الثّوب، وعلى أنّها ليست بثمن وإنّما هي قضاء
__________
(1) هكذا (إلى أجل) في النسختين ولعل الصواب: (نقدا).
(2) ابراز للتناقص.

(2/343)


للسلف، وهذا من التناقض الّذي [لا] (1) يصحّ تصوّره. هذا حكم الشراء بعد البيع بمثل الثّمن أو أقلّ منه أو أكثر نقدًا.
وأمّا لو اشترى إلى الأجل نفسه لكان ذلك مقاصة ولا يتصوّر فيه وجه من وجوه حماية الذّريعة.
وأمّا إن اشتراه إلى أبعد من الأجل، فإنّ هذا يمنع منه سواء اشتراه بمثل الثّمن أو أقلّ أو أكثر, لأنّه يتصوّر فيه ما قدّمناه من شراء البائع له بالنّقد من بيع وسلف. لكن الّذي قدّمناه يتصوّر السلف فيه من جهة البائع الأوّل. وإذا اشترى أحد الثّوبين بثمن إلى أبعد من الأجل، كان المسلف ها هنا المشتري الأوّل.
فيكون عند الأجل قد دفع عشرة أو تسعة أو أحد عشر يردّها إليه البائع إذا حلَّ أجل الثّاني. وقد كان أعطاه ثوبًا وهو الباقي عنده فيتصوّر فيه السلف بزيادة والبيع والسلف على حسب ما تقدّم بمثله قبل هذا.

والجواب عن السؤال الثّالث أن يقال: ذكر في المدوّنة فيمن باع ثوبين بعشرة دراهم إلى شهر، ثمّ اشترى أحد الثّوبين بخمسة دراهم وثوب نقدًا، أنّ ذلك لا يجوز, لأنه بيع وسلف، وفضّة وعرض معجّلة وفضّة مؤجّلة. وهذا الّذي ذكره في المدوّنة هو جار على الأسلوب في المسئلة الّتي تقدّمت وتقدّم ذكر ما تنبني عليه هي وأخواتها من الاعتبار بما خرج من يد البائع، وأنّ ما خرج من يده ثمّ عاد إليه ملغى مطرح. فهذا لمّا خرج من يده الثّوب الّذي ارتجعه ثمّ عاد إليه ألغي حكمه. وتصوّر في هذه المعاملة أنّه باع الثّوب الباقي في يد المشتري والثّوب الّذي دفعه مع الخمسة دراهم المنقودة بعشرة دراهم إلى أجل، فإذا حلّ الشهر دفع المشتري خمسة دراهم منها عوض الثّوبين الحاصلين في يديه من قبل البائع، وهما الباقي في يد المشتري الّذي لم يرتجع والثّوب الآخر الّذي جعلاه عوضًا عن الثّوب المرتجع والخمسة الدّراهم الباقية قضاء عن الخمسة الّتي أسلفها إيّاه لما دفعها مع الثّوب.
__________
(1) ساقطة من النسختين والنص يقتضيها.

(2/344)


وإن شئت صوّرت المسئلة بصورة أخرى، فقدّرت أنّه باع ثوبًا وخمسة دراهم معه بالثّوب الّذي ارتجعه بعد أن باعه بالعشرة دراهم المؤجّلة، فيكون هذا تحيّلًا على بيع عرض ودراهم مؤجّلة. والتّصويران جميعًا لو ثبت القصد إليهما أو إلى أحدهما لاتّضح المنع. فكذلك إذا اتّهما على القصد إليهما.
وقد تقدّم بيان الخلاف في هذه البياعات الّتي منعت لحماية الذّرائع، هل يتسلّط الفسخ على المعاملة في الأولى والثّانية أو على الثّانية خاصة؟ وعلى حسب ما تقدّم بيانه في قيام السلعة أو فواتها. كما تقدّم بيان الوجه الّذي يفيتها لما تقدّم بيان تصوّر البيع والسلف في مسئلة أحد العبدين، وكون القيمة تعتبر فيه كما تعتبر في البيع والسلف، أو يقضى فيه بالقيمة مطلقًا كالبياعات الفاسدة الّتي لم تفسد من ناحية البيع والسلف. وقد قال بعض الأشياخ: إنّ هذه الثلاثة أثواب يختص كلّ واحد منها بحكم غير حكم صاحبه. أمّا (1) أحد الثَّوبين الّذي بقي بيد المشتري لم يرتجع منه، فإنّ البيع فيه نافذ. وأمّا الثّوبان الآخران اللّذان هما الثّوب المرتجع والثّوب المدفوع عوضًا عنه، فإنّهما يفسخ البيع فيهما. لكن هذان الثّوبان وإن تسلّط الفسخ عليهما جميعًا، فإن حكمهما في الفوت وفي القيمة مختلف. فأمّا الثّوب المرتجع، فإنّه لا تفيته حوالة الأسواق على ما قدّمناه من مذهب ابن كنانة وسحنون، وإنّما يفيته التغيُّر الشديد، ويقضى فيه بالقيمة مطلقًا. وأمّا الثّوب الثّالث الّذي هو عوض الثّوب المرتجع، فإنّه تفيته حوالة الأسواق كما تفيت البياعات الفاسدة الّتي فسادها من غير جهة السلف. وكذلك يعتبر في القيمة (2) ما يعتبر في البيع المشترط فيه السلف. وقد قدّمنا نحن ذكر القيمة في مثل هذا وما قاله بعض أشياخي فيه. وأنت إذا عرضت هذا على ما تقدّم علمت منه تخريج هذا الّذي قيل في هذه الثّلاث ثياب، هل يفسخ البيع في الثّلاث ثياب مع كونها لم تفت؟ أو يصح البيع في الثّوب الباقي بناء على فسخ البيعتين جميعًا مع القيام؟ أو باختصاص الفسخ بالبيعة الثّانية لتصحّ الأولى
__________
(1) في النسختين: وأما.
(2) في النسختين (قيمة)، ولعل الصواب ما أثبتناه.

(2/345)


وترتفع الشبهة الّتي أدخلت الفساد؟ وفسخ هذين الثّوبين يصحّح البيع في الثّوب الباقي الّذي على هذه الطّريقة. وكذلك إذا فاتت الثّياب، فقد تقدّم ذكر المذاهب فيها، فتخرّج هذه على ما تقدّم. لكن هذا الّذي وقع ها هنا من تفصيل هذا القائل وتفرقته في الحكم بين الثّوب المرتجع والثّوب المدفوع عوضًا عنه، إنّما وقعت المعاملة الثّانية فيهما بعقد واحد، فلا ينفرد أحدهما بحكم عن صاحبه. وكلّ واحد منهما عقَد على شرط السلف. وإذا بيع ثوب بثوب بشرط السلف، فالفساد من ناحية الشّرط يتصوّر في الثّوبين على وجه واحد. وإذن اختلف الحكم باختلاف محلّ السلف، هل هو من البائع أو من المشتري على ما يأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى. وقد ذكرنا فيما تقدّم ما قاله بعض الأشياخ في مناقضة عبد الملك من إحالة كون الشّيء الواحد يحكم له بحكم عقدين مختلفين، لما بيّناه أنّه لا يمكن أن يكون الثّمن قضاء عن السلف وثمنًا للثّوب. فكذلك الأمر فيما نحن فيه إذا كان الثّوب المرتجع عوضًا عن الثّوب الّذي دفع آخرًا لم يتصوّر افتراق حكم الثّوبين. وينبغي أن يلتفت إلى مقتضى حكم التّعليلين المذكورين في المدوّنة في هذه المسئلة من كون المنع لما يتصوّر من بيع وسلف، وما يتصوّر من بيع عرض وفضّة بفضة مؤجّلة، فإنّ الاقتصار على التّعليل ببيع عرض وفضّة بفضّة مؤجّلة يقتضي إيجاب القيمة مع الفوت مطلقة. والتّعليل بالبيع والسلف يجري على ما ذكر من الخلاف فيه إذا وقع السلف مشترطًا في أصل البيع عند من يذهب إلى أنّ المظنون ها هنا الممنوع لحماية الذّريعة يجري مجرى المشترط من السلف.

والجواب عن السؤال الرّابع أن يقال: إذا باع الرّجل ثوبًا بعشرة دنانير إلى شهر، ثمّ اشتراه منه بخمسة دنانير وثوب من نوعه أو من غير نوعه، فإنّ ذلك ممنوع لما يتصوّر فيه من البيع والسلف على حسب ما صوّرناه مرارًا. وذلك أنّ الثّوب الّذي بيع ثم ارتجع ملغى مطرح كأنّه لم يبع، وحصل من الأمر أنّ البائع يُخرج من يده الآن خمسة دنانير وثوبًا يأخذ عوضًا عن ذلك عشرة دنانير إذا حلّ الأجل. فخمسة من هذه الّتي أخذها لمّا حلّ الأجل قضاء عن الخمسة الّتي

(2/346)


كانت مع الثّوب، والثّوب الّذي مع الخمسة مبيع بالخمسة الباقية من العشرة.
فهذا لو اشترط لمنع لكونه بيعًا وسلفًا، فكذلك إذا اتّهما على القصد إليه. فإذا وقع هذا فإن كان الثّوبان لم يفوتا فإنّ البيعتين فيهما تفسخ على قول عبد الملك، فيردّ الثّوب والخمسة المقارنة له إلى يد دافعها، ويبقى في يده الثّوب الّذي باعه أوّلًا، وتسقط العشرة دنانير كلّها لأنّها ثمن الثّوب المبيع أوّلًا وهو قد رجع إلى يد بائعه. وعلى مذهب ابن القاسم يردّ الثّوب والخمسة المقارنة له إلى دافعها ويردّ الثّوب المبيع أوّلًا إلى يد مشتريه لتصحّ البيعة الأولى. فإن وقع الفوت، فإنّ الثّوب المقارن للخمسة دنانير يقضى بقيمته مطلقًا لكون العقد فيه فاسدًا. وهو وإن تصوّر في العقد عليه البيع والسلف، فقد قدّمنا العذر عن هذا بأنّ المتعاقدين منكران أن يكونا قصدا البيع والسلف، فقضي في القيمة عليهما بمقتضى إنكارهما ومقتضى كون القيمة مطلقة. وأمّا الثّوب الآخر فإنّه إذا فات أيضًا وجب فسخ البيعتين جميعًا كما قدّمناه عن عبد الملك وابن القاسم. وإذا وجب الفسخ للبيعتين جميعًا، فإنّ الثّوب المقارن للخمسة قد أوجبنا ردّ قيمته. وقيمته إذا ردّت، فكأنّ عينه ردّت. والثوّب المبيع أوّلًا إذا فات وقد ارتجعه بائعه، فقد فات في يده بعد أن صار إليه قبل أن يفوت. وإذا فات في يديه كانت مصيبته منه، وانفسخ البيع فيه وهو في يده، فينحطّ عن المشتري ثمنه الّذي عقد به البيع فيه؛ لما قدّمناه في شراء البائع أحد الثّوبين اللّذين باعهما بثمن إلى أجل ثمّ اشتراهما بثوب وخمسة دراهم, لأنّ الثّوب الباقي في يد المشتري الّذي لم يرتجع من يديه، يمضي البيع فيه بحصّة من العشرة الّتي بيع بها هو وصاحبه، ويبقى ما زاد على ما يختص به ثمنًا للثّوب الّذي باعه ثمّ ارتجعه وفات في يديه ووجب فسخ العقد فيه، فيسقط عن مشتريه الأوّل، لكنّه فات في يد من باعه منه بيعًا فاسدًا.

والجواب عن السؤال الخامس أن يقال: إذا باع منه ثوبًا بعشرة دنانير إلى شهر ثمّ اشتراه وثوبًا آخر معه بدنانير، فإنّه لا يخلو أن تكون هذه الدّنانير الّتي اشترى بها هذين الثّوبين، الأول والثّاني، مثلَ الثّمن الأول أو أقلّ أو أكثر. ثمّ

(2/347)


لا تخلو هذه الأقسام من أن تكون وقع العقد بها إلى ما قبل الأجل الأوّل أو إلى الأجل نفسه أو إلى أبعد من الأجل.
فإن كان العقد بها إلى قبل الأجل الأوّل، فإنّه يمنع جميعها. لكن طريقة المنع تختلف. فإن كان هذا العقد الثّاني مثل الثّمن الأوّل، فأقلّ منه، فإنّ علّة المنع ما تصوّر في هذا من سلف بزيادة. فإن كان الشّراء بعشرة وكذا كان البيع الأوّل، فإنّ الثّوب المبيع أوّلًا المرتجع آخرًا كأنّه لم يبع. وإنّما استقر الملك للمشتري على الثّوب الثّاني لما أعطاه عشرة نقدًا يأخذها بعد شهر. فيكون ذلك منه سلفًا والمنفعة في هذا السلف الثّوب الّذي أخذه لمّا أسلف العشرة المنقودة.
وكذلك إذا اشتراهما بخمسة، فإنّه أسلف خمسة ليأخذ إذا حلّ الأجل عشرة، فتكون المنفعة في السلف الثّوب والخمسة الّتي يأخذها عند الأجل. فإذا اشتراه بخمسة عشر، كان الزّائد على العشرة ثمنًا للثّوب الّذي أخذه آخرًا والعشرة المقارنة له سلف منه يأخذها إذا حلّ الأجل.
وأمّا إن كان هذا العقد الثّاني بثمن يحلّ عند حلول الأجل الأوّل، فإنّ ذلك جائز سواء كان بمثل الثّمن أو أكثر أو أقل لأنّ المقاصّة تجب لاتّحاد الأجلين، فلا يكون أحدهما دفع لصاحبه ما يكون سلفًا عنده. وأمّا إن كان هذا العقد الثّاني بثمن إلى أبعد من الأجل، فإنّه يمنع إذا كان بأكثر من الثّمن، ويجوز إذا كان بمثل الثّمن أو أقلّ منه لأنّ المشتري الأوّل يعود ها هنا هو المسلف لمّا كان هو الّذي يخرج ذهبه أوّلًا لمّا حل الأجل. فإذا أخرج عشرة لمّا حلّ الأجل وأخذ بعد شهر آخر عشرة، وقد كان دفع ثوبًا فيما قبل، صار السلف وخسر الثّوب الّذي كان دفعه. وإن اشترى بأقلّ من عشرة، فقد خسر أيضًا الثّوب وما انتقص من العشرة. وإن كان اشتراه بأكثر من عشرة، فإنّه يكون سلفًا بزيادة لكونه يدفع عند الأجل عشرة ويأخذ بعد شهر آخر خمسة عشر، وقد كان أخذ قبل ذلك ثوبًا، وهذا سلف بزيادة فوجب أن يمنع.

(2/348)


فصل آخر
هذا الفصل يشتمل على بيان ما يحيى من الذّريعة في بياعات الآجال إذا تصوّر فيها التّعامل على دين بدين. وذلك مثل أن يبيع رجل من رجل ثوبًا بعشرة دنانير إلى شهر، ثمّ يشتري منه ذلك الثّوب بسلعة مضمونة عليه إلى شهر أو أكثر منه. فإنّ هذا يمنع لأنّه يتصوّر فيه الدّين بالدّين. وذلك أنّ الثّوب الّذي باعه ثمّ ارتجعه، قد قدّمنا مرارًا أنّه يعدّ أنه ملغى كأنّه لم يقع فيه بيع. وإذا عددناه كذلك، فقد حصل من أمرهما أنّ ذمّة المشتري عمرت بعشرة دنانير إلى أجل وعوّضها السلعة المضمونة إلى أجل الآخر.
فيكون ذلك سَلَمًا شرط فيه تأخير رأس المال إلى أجل بعيد. وذلك أنّ السلعة المضمونة في الذّمّة إلى أجل مثل آجال السلم صار ثمنها العشرة دنانير المؤجّلة شهرًا. فمنع ذلك لكونه ديْنًا بديْن. ولو كان الثّوب لمّا بيع بالعشرة دنانير كان أجلها يومين أو ثلاثة، جاز شراء الثّوب المبيع أوّلًا بسلعة مضمونة إلى أجل, لأنّ ثمنها وهو العشرة دنانير إنّما يتأخّرون به يومين أو ثلاثة، وتأخير رأس مال السلم هذا المقدار غير ممنوع كما قدّمناه في كتاب السلم. لكن لو اشترى هذا الثّوب الّذي باعه أوّلًا بعشرة دنانير إلى أجل بثوبين أو ثلاثة من جنسه مضمونة إلى أجل، فإنّ هذا ممّا تردّد فيه الشيخ أبو إسحاق، هل يجوز إذا كان أجل الدّنانير يحلّ بعد يومين أو ثلاثة لكون الثّياب المضمونة صارت سلفًا تأخّر رأس ماله وهو العشرة دنانير اليومين والثّلاثة، أو يمنع ذلك أخذا في هذا العقد بظاهر مقتضى العقد الثّاني، ومقتضاه أنّه اشترى ثوبًا بثوبين من جنسه إلى أجل، وسلَم ثوبٍ في ثوبين من جنسه لا يجوز بمقتضى بياعات الآجال. وكون الثّوب المبيع المرتجع كأنّه لم يبع يقتضي الجواز بشرط أن يكون رأس المال لا يتأخّر أجلًا بعيدًا. أو يعرض في هذه

(2/349)


المسئلة عن حكم بياعات الآجال لمَّا تصوّر في السلعة الثّانية صورة توجب حماية الذّريعة الممنوع منها وهي سَلَمُ الشيء في مثله. وقد قدّمنا الكلام على ما يضارع هذا الّذي نحن فيه لمّا ذكرنا حكم من باع سلعة بثياب مضمونة في الذّمّة إلى أجل، ثمّ اشترى تلك السلعة بثياب من جنسها بعدها. وذكرنا تفصيل القول في ذلك وبناء المسئلة على ما وقع من الاضطراب في علّة منع سلم الشّيء في مثله. وبيّنا ذلك هناك بيانًا شافيًا يغني عن إعادته ها هنا.

(2/350)