شرح
التلقين فصل يشتمل على شراء
أمثال المبيع في بياعات الآجال
قد وضح ما ذكرناه من أحكام ارتجاع المبيع بعينه في بياعات الآجال إذا خيف
منه أن يوقع في أحد المحرّمات الّتي عددناها وذكرنا ما يتعلّق بها من
الفروع. فإن اشترى البائع غير الّذي باع، فلا يخلو أن يكون الّذي اشتراه
جنسًا آخر غير الّذي باعه أو يكون مشبِهًا له. فإن كان جنسًا آخر فلا خفاء
أنّه لا تحمى فيه الذّريعة، ولا يتعلّق البيع الثّاني بالأوّل لاختلاف
الأغراض في الجنسين المتباينين. وإن كان مشبِهًا بالبيع (1) الأوّل، فلا
يخلو أن يكون ممّا لا يعرف بعينه إذا غيب عليه، كالمكيل والموزون، أو يعرف
بعينه مثل أن يبيع رجل من آخر مائة قفيز قمحًا، ثمّ يشتري بعد ذلك منه
قمحًا آخر، فإنّه يتصوّر في ذلك صور كثيرة بحسب ما قدّمناه في مسئلة أوّل
هذا الكتاب. فيتصوّر أن يشتري منه هذا القمح بمثل الثّمن الّذي باع منه
القمح الأوّل أو بأكثر من الثّمن أو بأقلّ منه.
ويمكن في هذه الثّلاثة أقسام أيضًا أن يكون هذا الشراء بثمن يؤخّر إلى ما
قبل الأجل أو إلى الأجل نفسه أو إلى أبعد من الأجل. فإن وقع البيع على هذه
الأقسام الّتي أشرنا إلى تعدادها على الجملة، فإنّ جميع ذلك جائز سوى
وجهين، أحدهما أن يكون القمح المشترى الآخر أكثر من قيل القمح المبيع
أوّلًا. فإن كان أكثر في المكيلة فإنّه يمنع على الإطلاق سواء كان الثّمن
مساويًا للأوّل أو أكثر منه أو أقلّ. فإنّه إذا كان مساويًا للثّمن الأول
حصل من أمرهما أنّ البائع خرج من يده مائة قفيز قمحًا ورجع إليه أكثر منها،
فكأنّه أسلف قمحًا
__________
(1) هكذا ولعل الصواب بالمبيع.
(2/351)
ليأخذ أكثر منه. وإن كان الثّمن أكثر من
الأوّل، تصوّر فيه البيع والسلف. لأنّه خرج من يده مائة قفيز قمحًا وارتجع
مائة قفيز وخمسين ودفع خمسين دينارًا وهي ثمن الخمسين قفيزًا الزّائدة على
المائة الّتي كان باعها. وإن كان الثّمن أقلّ من الثّمن الأوّل يتصوّر فيه
الزيادة في السلف من ناحيتين من ناحية زيادة قيل الثّاني على الأوّل وأنّه
يدفع خمسين دينارًا نقدًا ويأخذ مائة عند حلول الأجل.
ولو كان شراء القمح الثّاني بثمن إلى أبعد من الأجل لأجريت في هذا ما
صوّرناه.
لكن يكون المسلف ها هنا دافع الدنانير لمّا حلّ الأجل، فينظر ما يعود إليه
عند الأجل الثّاني، هل تتصوّر فيه زيادة فيكون سلفًا بزيادة فيمنع، أم لا؟
وهذا اقتصرنا فيه على التّنبيه لأنّ ما تقدّم من المسائل الكثيرة الّتي
مثّلنا بها تلك الأنواع المتقدّمة توضح وجوه العلل المختلفة في هذا الباب.
وكذلك يمنع أن يشتري القمح الثّاني بأقلّ من الثّمن الأوّل على الإطلاق،
لأنّ الثّمن الأوّل إذا أنقد عند المعاملة الثّانية ثمّ أخذ أكثر منه عند
الأجل الأوّل، صار مسلفًا دنانير ليأخذ أكثر منها. ويجري أيضًا في التمثيل
لو كان ثمن الثّاني إلى أبعد من الأجل على ما قدّمناه. لكن من (1) اعتبر
دفع قليل ليؤخذ عنه ما هو أكثر منه. فتلخّص من هذا أنّ جملة ما يمنع وجهان:
1 - أن يكون القمح الثّاني أكثر من القمح الأوّل،
2 - أو يكون ثمن الثّاني أقلّ من الثّمن الأوّل. هذا مع اختلاف الأجلين
حتّى تحصل التّهمة في دفع قمح سلفًا ليؤخذ أكثر منه، أو دنانير سلفًا ليؤخذ
أكثر منها. وأمّا لو كان البيع الثّاني إلى الأجل الأول حتّى يتقاصّا
بالأثمان ولا يدفع أحدهما لصاحبه شيئًا، لم نراع اختلاف مقدار الثّمنين,
لأنّه إذا لم يدفع أحدهما إلى الآخر شيئًا لم تتصوّر التّهمة على سلف قليل
ليأخذ كثيرًا. وإذا اتّفق الأجل لم يراع اختلاف الثّمن إلاَّ فيما صوّرناه
في زيادة المكيلة وكون الزّيادة سلفًا. وقد تصوّر من هذا أنّ الشّراء بمثل
المكيلة فأقلّ بمثل الثّمن فأكثر، لا تهمة فيه على ما اقتضاه التّفصيل
والتّعليل المتقدّم في اعتبار ما ينقد في المعاملة الثّانية أو لا ينقد.
وكذلك نعلم من هذا التّصوير
__________
(1) هكذا في النسختين: لكن من اعتبر. ولعل الصواب: لكن مع اعتبار.
(2/352)
والتّعليل المتقدّم ذكرهما منع شراء قمح أو
أقلّ من القمح الأوّل بثمن هو أقلّ من الثّمن الأوّل, لأنّ البائع إذا باع
مائة قفيز بمائة دينار إلى أجل ثمّ اشترى ثمانين قفيزًا بثمانين دينارًا،
فإنّ العشرين الزّائدة على الثّمانين قفيزًا مبيعة بالعشرين دينارًا الّتي
يأخذها البائع الأوّل إذا حلّ الأجل. وقد أسلف ثمانين دينارًا ليأخذها عند
الأجل، وتقدّر أيضًا الثّمانون قفيزًا قمحًا كسلف ارتجعه.
وأنت إذا اتّبعت ما أصّلناه أوّلًا مع اعتبار ما خرج من يده وما يعود
إليها، وقابلت أحدهما بالآخر، علمت فروع هذا الفصل كلّها لكن وقع اضطراب في
قسم واحد يتعلّق بهذا الفصل، وهو أن يشتري القمح الثّاني بمثل الثّمن
الأوّل، ولكن القمح الثَّاني أقلّ في المكيلة، فإنّ هذا وقع فيه الاضطراب
بين المتأخّرين فيما يضاف إلى المذهب في هذه المسئلة. فأشار بعضهم إلى أنّ
ظاهر كتاب بيوع الآجال من المدوّنة يقتضي المنع منه. وذلك أنّه ذكر في
المدوّنة في هذا السؤال أنّه لا بأس أن يشتري بمثل الثّمن فأكثر إذا كان
مثل المكيلة الّتي باع أوّلًا. وتقييد هذا الجواب يقتضي دليل الخطاب أنّه
إذا باع بمثل الثّمن ما هو أقلّ من المكيلة، فإنّه لا يجوز لاشتراطه أن
يكون القمح الثّاني مثل المكيلة، ودافع عن هذا كثير من الأشياخ ورأوا أنّه
لم يرد بهذا التّقييد إثبات دليل لهذا الخطاب.
فقيل لهم: إن دافعتم عن هذا كون هذا الخطاب لم يرد به أنّ المسكوت عنه
بخلاف المنطوق به، فإنّ في المدوّنة في كتاب السلم منع من باع طعامًا أن
يقتضي من ثمنه مكيلة هي أقلّ من المكيلة الّتي باع أوّلًا، مثل أن يبيع
مائة قفيز قمحًا بمائة دينار إلى شهر، فإذا حلّ الأجل أخذ عوض الثّمن خمسين
قفيزًا ثمنًا للمائة قفيز المبيعة أوّلًا. وبيع القمح بالقمح متفاضلًا
نسيئة لا يجوز. وقد تصوّر هذا في هذه المسئلة، فانفصلوا عن هذا بأنّ من
اقتضى من ثمن طعام باعه طعامًا، فإنّه يجري مجرى الإقالة. وقد أخلى الذْمّة
من الثّمن بهذه المعاملة الثّانية وسقط بها الثّمن الأوّل. فلمّا سقط من
الذّمّة وجرى ذلك مجرى الإقالة الّتي هي حلّ العقد، صار ثمن المائة قفيز
المبيعة أوّلًا خمسين قفيزأوهي الّتي أخذت أخيرًا.
والمسئلة الّتي نحن في بيانها لم تُحَلَّ البيعة
(2/353)
الأولى، وشراء البائع الأوّل خمسين قفيزًا
من الّذي اشترى منه القمح الأوّل لا يسقط الثّمن الأوّل عن ذمّته، ولا يحل
العقدَ الأوّل بل تبقى ذمّة المشتري عامرة متبوعة بالمائة دينار الّتي
تعاقدا عليها أوّلًا. ولا يصحّ كون الخمسين قفيزًا ثمنًا للمائة قفيز ها
هنا مع كون ثمن المائة قفيز باقية في الذّمّة لم يسقط عنها، فيكون لها
ثمنان: المائة دينار والخمسون قفيزًا، والّذي اقتضى الخمسين قفيزًا من ثمن
الطّعام الأوّل قد أسقط الثّمن الأوّل، فصحّ تقدير كون هذه الخمسين قفيزًا
ثمنًا للمائة قفيز الّتي بيعت أوّلًا.
فإذا وضح حكم بيع الإنسان طعامًا ثمّ يشتري مِمّن اشتراه منه طعامًا يمكن
أن يكون هذا الطّعامَ بعينه، فلنتكلّم على ما يعلم أنّه ليس هو عين المبيع
الأوّل، مثل أن يبيع منه ثيابًا ويشتري منه أمثالها، فإنّ في هذا قولين
أجازه في المدوّنة ومنعه سحنون وابن الموّاز. وكأن هذه المسئلة واسطة بين
طرفين أحدهما أن يشتري جنسًا آخر غير المبيع الأوّل ممّا تَبَاعدُ فيه
الأغراض، فإنّ هذا واضح كون البيعة الثّانية لا تعلّق لها بالبيعة الأولى،
لاتّضاح اختلاف الأغراض وتباين المقاصد، فتحمل البيعة الثّانية على أنّ
سببها اختلاف الغرض ما بين البيعة الأولى والثّانية لا على التحيّل على ما
لا يحلّ من أمثال ما قدّمناه، فلا يمنع.
وإذا كان المبيع ثانيًا هو بعينه المبيع الأوّل، أو شكّ هل هو الأوّل أو
غيره؟ منع ذلك رجاء عذر ارتجاع نفس المبيع مع تقارب الأغراض، فحسنت ها هنا
حماية الذريعة، وكون السبب في المعاملة الثّانية التحيّل على ما لا يجوز.
فهذان طريقان واضحان على أصل المذهب. فإذا باع ثيابًا ثمّ اشترى مثلها،
فإنّه يعلم أنّ البيع الثّاني ليس هو الأوّل فيجري مجرى شراء جنس آخر،
فيجوز. ومن حيث كون المنافع والأغراض متقاربة يحسن أن يجري هذا الثّاني
مجرى ارتجاع الأوّل بعينه. فلأجل هذا وقع الخلاف في هذا. وقد علّل في
المدوّنة بأن الثيّاب من استهلكها يغرم قيمتها. ومن استهلك الطّعام غرم
مثله، ليشير إلى ما قدّمناه من أنّ غرامة القيمة تشعر يكون الشّيء بعينه
كأنّه جنس آخر،
(2/354)
فلهذا لم يقض بمثله. وقد ناقض ابن الموّاز
ابن القاسم في مذهبه في الثّياب بأن قال: إنّه يمنع من أسلم ثيابًا في
حيوان أن يقبل (1) المسلم إليه على ثياب أكثر منها عددًا. ويرى ذلك سلفًا
بزيادة، فأجراه ها هنا مجرى العين والطّعام على التّهمة على سلف بزيادة
فينبغي أن يجري مجرى الطّعام أيضًا في منع شراء أكثر من الثّياب. وانفصل عن
هذا الشّيخ أبو محمّد بن أبي زيد بأنّ هذا المقيل من هذا السلم لما أقال
منه انحل العقد بالإقالة وبطل ما في الذّمّة مِمّا هو ثمن الثياب، فإذا بطل
ما في الذّمّة حصل من الأمر أنّه أخرج من يده ثيابًا وأعاد إليه مثلها
بزيادة، فحسن ها هنا أن يتّهما على سلف بزيادة لمّا صارت الثّياب المزيد في
عددها هي عوض الثّياب الّتي أسلمت في الحيوان، وثمن الثّياب الّتي أسلمت قد
بطل بالإقالة. وأمّا إذا باع ثيابًا ثمّ اشترى أكثر منها مِمّن باع الثّياب
أوّلًا منه، فإنّ البيع الأوّل لم يبطل، وثمن الثيّاب الأولى باق في ذمّة
مشتريها على حسب ما كان عليه، والثياب الثانية قد اشتراها بثمن آخر بعده،
وحين شرائها لم يبطل الثمن الأوّل، فتعدّ الثياب الثّانية ثمنًا للثّياب
الأولى لما بطل ثمن الأولى. وها هنا ثمن الأولى باق على ما هو عليه. وهذه
الثياب مع ما زيد عليها قد أخذ ثمنها، فلا يصحّ أن يجعل ما انتقد ثمنًا
لها، ويكون مع هذا ثمنًا أيضًا للثّياب الأوّل، فيكون لها ثمنان اثنان،
وهذا واضح. وقد كنّا قدّمنا هذا الفرق عن بعض الأشياخ المتقدّمين لنا، قيل
لهم: يلزم ابن القاسم أن يمنع بائع الطّعام أن يشتري أقلّ من المكيل بمثل
الثّمن، كما مَنَع أن يقتضي من ثمن الطّعام طعامًا أقلّ منه.
وذكرنا عنه ما دفعوا به هذه المعارضة والإلزام، وهو مثل هذا الّذي سبقهم
إليه الشيخ أبو محمّد ابن أبي زيد رحمه الله على ما نبّهناك عليه من سبب
الخلاف في شراء ثياب أمثال الثّياب المبيعة أوْ لاَ يجرى حكم من باع قمحًا
سمراء ثمّ اشترى قمحًا محمولة، هل يجوز ذلك لمّا علم أنّ القمح الثّاني ليس
هو عين الأوّل أو أن يمنع؟ وإن كان الّذي اشتراه محمولة أو شعرًا، يكون ما
اشترى وما
__________
(1) هكذا في النسختين ولعل الصواب: يقيل.
(2/355)
باع بعدُ نوعًا واحدًا لتقارب الأغراض فيه،
ولو اشترى مثل القمح الأوّل قبل أن يغيب مشتري القمح عليه، فإنّ بعض
الأشياخ أجاز ذلك لما تيقّنا أنّ القمح المشترى ليس هو عين الأوّل، بخلاف
شراء ما شكّ فيه لأجل الغيبة، هل هو الأوّل أم غيره؟ وتردّد فيه الشيخ أبو
إسحاق لمّا كان ما اشتراه سمراء والّذي باعه سمراء. فكأنّه ارتجع طعامه
بعينه. وهو إذا ارتجعه بعينه، تطرّقت إليه التّهمة.
والّذي نبّهناك عليه من التّعليل للخلاف يشير إلى حكم هذا الوجه وسبب تردّد
الشيخ أبي إسحاق فيه.
(2/356)
|