شرح
التلقين فصل في بياعات
الآجال من جهة الوكالة
اعلم أنّا قرّرنا الوجوه المحرّمة وذكرنا منع البيعة الثّانية إذا تطرّقت
من أجلها التّهمة إلى العقد الأوّل. وهذا إذا باع سلعة هي له ثمّ اشتراها
لنفسه، فإن أراد أن يشتريها لغيره، فهل يجري ذلك مجرى شرائها لنفسه أم لا؟
ذكر في المدوّنة أنّه لا ينبغي لمن باع ثوبًا بمائة دينار إلى أجل أن يشتري
الثّوب لمن ولاّه على شرائه أو لابنه الصغير بثمن أقلّ من الّذي باع به
البيعة لنفسه (1). كما لا يجوز له شراؤها بذلك لنفسه. وكذلك لو وكّله
مشتريها منه على بيعها، فذكر أنّه باعها بأقلّ من الثّمن الأول. وهذا
مبالغة في حماية الذّريعة وهو كتهمة مبنيّة على تهمة, لأنّ المحرّمات قد
عددناها والوقوع فيها من عدد وسائط لا شك في منعها. وإذا خيف أن يوقَع فيها
بوسائط حميت تلك الوسائط على حسب ما تقدّم بيانه. فإذا اشترى ما باعه بمائة
دينار إلى شهر بخمسين دينارًا نقدًا، اتّهم على التحيّل على سلف بزيادة.
وإذا زعم أنّه اشتراه شراء وكالة، اتّهم أيضًا على أنّه لم يصدق في زعمه
أنّه وكيل، وإنّما تحيّل، بإظهاره الوكالة، على الشّراء لنفسه. ولكن هذا
وإن وقع لم يفسخ بخلاف شرائه لنفسه, لأنّ شراءه لنفسه تهمة مبنيّة على
محرّم، وهذه تهمة مبنيّة على تهمة بنيت التّهمة الأولى على محرّم، فضعفت
مرتبة (2) الأخيرة، فلم تبلغ إلى فسخ العقد لأجلها. وكذلك أيضًا لو اشترى
سلعة باعها عبده بثمن إلى أجل، أو اشترى عبده سِلعة باعها
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب إسقاطها.
(2) في نسخة المدينة: مزيَّة.
(2/357)
سيّده بثمن إلى أجل، فإنّ العبد إن كان
يتّجر بمال سيّده فحكم شرائه أو شراء ما باعه سيّده حكم ما باعه سيده ثمّ
اشتراه لنفسه لمّا كان ما في يديه مال لسيّده، وهو كالوكيل عليه. وأمّا إن
كان ما في يد العبد لنفسه فأجازه في المدوّنة ولم يجزه أشهب. فكأنّ أشهب
رأى أنّ قدرة السيّد على انتزاع ما في يد عبده يصير ما في يد العبد كأنّه
من جملة مال السيّد الّذي في يديه، وكأنّه هو البائع والمشتري. ورأى ابن
القاسم أنّ قدرته على أن ينتزع وعلى أن يردّ هذا المال إلى ملكه، لا يصيّر
المال ملكًا له قبل الانتزاع، لا سيما على أصلنا في قولنا: إنّ العبد مالك،
ولهذا أبيح له التسرّي في ماله.
وكذلك ما باعه العامل لمال القراض فيه اختلاف: هل يجوز لربّ المال أن يشتري
ما باعه العامل بثمن إلى أجل بثمن أقلّ منه؟ فمن لم يجز ذلك رأى أنّ المال
لمّا كان باقيًا على ملكه، فكأنّه باع لنفسه واشترى لنفسه. ومن أجاز ذلك
رأى أنّه ممنوع من هذا المال لحقّ العامل فيه، فلا يمكن (1) انتزاعه من
يديه إلاّ إذا استوفى العامل عمله فيه.
وإذا وضح أن هذا كلّه مبنيّ على تهم بنيت على تهم، وذكرنا ما يمنع منه وما
يجب فسخه، فإنّ بعض أشياخي رأى أنّ شراء الأب ما باعه من هذا لابنه الصغير
بثمن أقلّ مِمّا باع به لا يمضي لقوّة التّهمة في ذلك، بخلاف شرائه لأجنبيّ
وَكَّله. كما رأى أشهب أنّ بيعه بوكالة من اشترى منه بثمن إلى أجل فأتاه
بأقلّ منه لا يمضي إذا وكّله مشتري السلعة منه على بيعها قبل قبضها، ورأى
أنّ هذه الوكالة قبل مصير السلعة إلى يد مشتريها الّذي وكّل بائعها على
بيعها تهمة قويّة في التحيّل على سلف بزيادة.
ومِمّا ينخرط في هذا السلك من أتى رجلًا فسأله: هل عنده سلعة، سمّاها له،
يبيعها منه بثمن إلى أجل، فلم يجدها عنده؟ فلمّا مضى عنه اشتراها المسؤول
عنها، ثمّ باعها من السّائل، فإن ذلك غير ممنوع إذا افترقا على غير
__________
(1) في الوطنية: ولا يمكنه.
(2/358)
موعد بأن تباع من السائل. فإن افترقا على
موعد، فإنّ ذلك مكروه، ولكنَّه مع كراهته لا يفسخ فيه البيع لأجل مجرّد
الوعد على الشّراء. وكذلك إن أضاف إلى الوعد بأن يشتريها منه الواعد (1)
بأنّه يربحه فيها إذا اشتراها، فإنّ ذلك أيضًا وإن كره لا يوجب فسخ العقد.
لكن إن افترقا على تسمية الرّبح وإيجابه، فإنّ المذهب ظاهره على قولين في
هذا. وذكر (2) مالك وابن القاسم في المستخرجة فيمن قال لرجل: اشتر سلعة كذا
بعشرة دنانير، وأنا أشتريها منك باثني عشر إلى أجل سماه، أنَّ ذلك ماض على
ما التزماه. وذكر ابن حبيب في هذا أنّه لا يجوز لأنّه من بيع ما ليس عندك،
ولكنّه عبّر عن هذا بأن قال له: اشترها بعشرة نقدًا لنفسك وهي لي باثني عشر
إلى أجل، أنّ ذلك بيع ما ليس عندك. وذكر فيها اختلافًا عن ابن القاسم. وإذا
كان المراد بقوله: أنا أشتريها منك بربح الّذي سمّاه، هو المرادَ بقوله:
وهو لي بكذا وكذا، كان الاختلاف واقعًا في العبارتين على حسب ما ذكرناه.
ولو قال له: اشترها لي بعشرة تنقدها عنّي وهي لي باثني عشر إلى شهر، لكان
فاسدًا لأنّه كوكيل على الشّراء شرط عليه أن يسلفه بربح.
لكن لو قال له: اشترها بعشرة نقدأوهي لي باثني عشر نقدًا، فإنّ ذلك أجازه
في المدوّنة وقدّر أنّ الدّرهمين جُعْل على "تولّيهِ الشّراء" (3). ولو قال
له في هذا: وأنا أشتريها منك باثني عشر إلى شهر، للزمت للآمر العشرة، وجُعل
المِثلِ لَمَّا تصوّر ها هنا في تأخير الرّبح كونه عوضًا عن السلف.
__________
(1) في نسخة المدينة: الموعود.
(2) في نسخة المدينة: فذكر.
(3) في الوطنية: وقدّر أن الدرهمين حصلا تولية للشراء.
(2/359)
|