شرح
التلقين فصل في المعاوضة عن بعض العوض المؤجّل مع
اشتراط تعجيل بعضه وتأخيره
اعلم أنّ مسئلة وقعت في المدوّنة بفرس بيع بعرض مؤجّل، ووقع بعدها مسئلة
لربيعة مثّل بحمار بيع، فجرى على الألسنة في تعريفها ببرذون ابن القاسم
وحمار ربيعة. فأمّا مسئلة البرذون، فإنّ صورتها أنّ رجلًا أسلم برذونًا في
عشرة ثياب إلى أجل، ثمّ استرجع الفرس أو سلعةً غيرَه عوضًا عن خمسة ثياب
على أن عجّلت له الخمسة ثياب الأخرى. فذكر في المدوّنة أنّ ذلك لا يجوز.
واعتلّ بثلاث علل هي: البيع (1) والسلف، والوضيعة على تعجيل، والزّيادة
لأجل حطّ الضّمان. ولكنّه قال: وتدخله المعاوضة على حطّ الضّمان دخولًا
ضعيفًا.
وينبغي أن تعدّ المعاوضة بالفرس أو غيره من السلع على الخمسة ثياب، لا يخلو
أن تُقَرَّ (2) الخمسة الأخرى على أجلها أو يشترط تأخيرها عن أجلها أو
يشترط تعجيلها قبل أجلها.
فأمّا إن اشترط مع هذه المعاوضة على (3) هذه الخمسة إقرار الخمسة على
أجلها، فإنه لا يمنع من ذلك لفقد هذه العلل الّتي علّل بها من بيع وسلف,
لأنّ الخمسة إذا أقرّت على أجلها لم يتصوّر فيها سلف، وكأنّ الخمسة الأخرى
بيعت على إفْرادها (4) بما يجوز أن يكونْ ثمنًا لها، وهو الفرس أو غيره من
__________
(1) (البيع) ساقط في الوطنية.
(2) في الوطنية: إن أبقى.
(3) في نسخة المدينة: عن.
(4) في الوطنية: انفرادها.
(2/360)
السلع، فلم يمنع ذلك، كما لو باع جملة
الثّياب كلّها بالفرس أو غيره من السلع الّتي يجوز أن تؤخذ عن هذه الثّياب،
كما تقدّم بيانه في كتاب السلم. وأمّا إن أخّر الخمسة ثياب الّتي لم يعاوض
منها إلى أجل أبعد من أجلها، فإنّ ذلك ممنوع, لأنّ التأخير للخمسة ثياب بعد
حلولها سلف من مؤخِّرها. ومن له دين وأخّره، فإنّ تأخيره سلف وكابتداء
تعمير ذمّة بدين هي خالية منه. فإذا تحقّق في التأخير السلف وقارن ذلك
المعاوضةَ عن الخمسة الأخرى تصوّر فيه البيع مع السلف، فوجب المنع. وأمّا
إن اشترط تعجيل الخمسة ثياب، فإنّ في المدوّنة لابن القاسم المنع منه، وهو
المشهور من أصل مذهب مالك وأصحابه. وذكر ابن المواز عن ابن القاسم الجواز،
فقال فيمن أسلم ذهبا في عبدين، ثمّ أخذ عبدًا مثل أحد العبدين المسلم فيهما
وعرضا معه: إنّ ذلك جائز. مع كون أحد العبدين لما عُجِّل وعوِّض عن العبد
الآخر بالعرض المدفوع مع العبد تصوّر فيه البيع والسلف.
وسبب الاختلاف في هذا دون ما تقدّم من القسمين الأخيرين أنّ الذّمّة مشغولة
بالعشرة ثياب، ولكن لا يستحقّ قبضها إلاَّ عند حلول الأجل. فمن رأى أنّ ما
في الذّمم من الدّيون الآجلة كالدّيّون الحالة (1) لم يقدّر ها هنا سلفًا
عجّله من عليه الثّياب لمن أسلم إليه على جهة السلف منه له ليقبضه من نفسه
إذا حلّ الأجل، واستحقّ من عجل له الثيّاب قبض الخمسة لمّا حلّ الأجل. ومن
رأى أنّ الدّين المؤجّل لا يقدر أنّه كالحال، فإنّ التّعجيل سلف يؤخذ قضاؤه
إذا حلّ الأجل، ويسقط عن ذمّة المسلم إليه إذا حلّ الأجل، أنّه كوكيلٍ
أجنبيًّ وكّله المتسلّف للخمسة ثياب على قبضها ودفعها عنه لمن له عليه
مثلها.
وقد اعتمد حذّاق الأشياخ على صحّة التّعليل بتقدير البيع والسلف كما
صوّرناهُ لَكَ (2). واستضعف ذلك بعض أشياخي ومال إلى ما في كتاب ابن
الموّاز، فلم يقدر ذلك سلفًا كما قدّره في المدوّنة، إذ لو قدّر سلفًا لوجب
أن لا
__________
(1) في الوطنية: كالدين الحال.
(2) في الوطنية: كما صورنا ذلك.
(2/361)
يكون المسلم إليه أحقّ بالثيّاب الّتي بقيت
عليه من غرماء المسلم (1)، لكون ما في ذمّته كأنَّه باق على من عجّلت له
الثيّاب حتّى يحلّ الأجل، فيقضي ذلك عنه. وهذا الّذي اعتلّ به بعض أشياخي
غير لازم, لأنّه لمّا عجّل هذه الثياب على جهة السلف الحال بها على نفسه
واستحقّ بها ما في ذمّته، وهو حائز لما في ذمّته، فكان أحقّ بذلك من
الغرماء، كما يكون أحد الغرماء أحقّ بما أحيل عليه أو قبضه رهنًا. وهذا
التّعليل بوضعٍ (2) لأجل التّعجيل أو زيادة لأجل إسقاط الضّمان. فإنّ
الشّيخ أبا إسحاق استضعف هذا وقدح فيه بأنّ المعاوضة بالفرس أو سلعة غير
الفرس عن جملة العشرة ثياب لو وقعت قبل الأجل، لم يمنع ولم يعتبر أحد من
أهل المذهب كون السلعة أو الفرس دون قيمة العشرة ثياب أو أكثر من قيمتها،
فكذلك لا تعتبر القيمة في المعاوضة عن الخمسة ثياب، إذ لا فرق بين
المعاوضة، عن كلّ الدّين أو عن بعضه. واستشهد على هذا بأنّ مالكًا رضي الله
تعالى عنه لمّا سئل عمّن له ثياب، فأراد أن يضع من عددها بشرط تعجيل
البقيّة. قال: أنا أدلّك على ما هو خير، خذ بها عرضًا. فأشار ها هنا إلى
أنّ أخذ العرض عن جملة الدّين لا يمنع وإن قصد به المسامحة لأجل التّعجيل.
وهذه الرّواية الّتي اعتمد عليها الشّيخ أبو الحسن (3). وقد وقع لمالك
أيضًا مثلها، فقال فيمن له عشرة دنانير مؤجّلة فأراد الاستعجال بحطيطة منها
فعدلاَ عن ذلك، لمّا لم يجز، إلى أخذ عرض أنّه لا بأس به؛ لأنّهما أخطئا في
القول وأصابا في الفعل. وأنكر بعض الأشياخ هذا الّذي أشار إليه أبو إسحاق
لأجل أنّ الدّين كلّه قد بيع جميعه بعرض، ولم يتعجّل بشيء من جنس الدّين
فتتصوّر فيه مسامحة لأجل التّعجيل أو زيادة لأجل سقوط الضّمان، وها هنا قد
عجّل بعض الدّين (ولم يكن تعجيله لأنّ ما قارن ذلك معاوضة، صحّ
__________
(1) في نسخة المدينة: من غير ما أسلم إليه.
(2) في النسختين: يوضع.
(3) هكذا في النسختين، والنص يقتضي: (أبو إسحاق)
(2/362)
اعتبار قيمة المعاوضة لأجل ما قارنها من
تعجيل بعض الدّين) (1) حسًا ومشاهدة. فإذا تقرّر ما يمنع من هذا وما لا
يمنع بخلاف فيه أو اتّفاق في الحكم أو التّعليل، فإنّه إن وقع هذا على وجه
ممنوعٍ منه فإنّه يجب فسخه وإمضاء السلم على ما كان عليه في العقد الأوّل،
فيردّ الفرس أو السلعة إلى دافع ذلك، وتردّ الثيّاب أيضًا إلى دافعها حتّى
تنقض المعاملة الثّانية بجملتها. فإن فاتت الثّياب أو فات الفرس، ردّ قيمة
ذلك. فإن قيل: فإنّ الثيّاب الخمسة إذا عجّلت كانت سلفًا فاسدًا، والسلف
الصحيح إنّما يَرُدُّ مع ذوات عينه مثلَه، فهكذا ينبغي أن يكون الفاسدُ.
قيل: لمّا وجب ردّ هذا السلف إذا كانت عينه قائمة، صار من أتلفه كأنّه أتلف
(2) ثوبًا هو على ملك غيره، فيكون على المتلِف ردّ مثله.
وسنبسط هذا إذا تكلّمنا على القرض الفاسد المذكور في كتاب بيوع الآجال.
والّذي مضى عليه أكثر الأشياخ أنّ القيمة تردّ إذا وقع الفوت بالغة ما بلغت
وأنّ المعاملة الثّانية تفسخ على كلّ حال. لكن بعض أشياخي مال إلى أنّ (3)
من قبض هذه الخمسة ثياب على جهة السلف ليقبضها من نفسه مسلفها إذا حلّ
الأجل، يخيّر بين ردّ هذه الخمسة ثياب ليصحّ البيع والمعاملة في الفرس، كما
يصحّ البيع المشترط فيه السلف إذا سقط السلف، أو يمتنع من إسقاط حقّه في
هذا السلف، وتفسخ المعاملة الثّانية على كلّ حال. ولم يتعرّض في القيمة إلى
ما حيكناه عن غيره. وقد كنّا قدّمنا نحن الإشارة إلى العذر عن هذا في مسئلة
من باع عبدين بمائة دينار إلى شهر ثمّ استردّ أحدهما ببعض الثّمن نقدًا.
وإذ لم يُشْعَر بما فعلاه من الفساد حتّى حلّ الأجل، فإنّ الخمسة ثياب
المقبوضة يُتَمسك بها ويطلب الخمسة الباقية في الذّمّة إذ لا فائدة في
إعادتها إلى دافعها وأخذها منه في الحال بحكم ما وجب عليه من قضاء ما عليه
من سلم. لكن لو كان على المسلم غرماء، لم يستحقّ هذه الخمسة ثياب دونهم،
لأجل كونه
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من و.
(2) في نسخة المدينة: صار من أسلفه كأنه أسلف.
(3) في نسخة المدينة: رأى أن.
(2/363)
قابضًا لها, لأنّه قبضها قبضًا فاسدًا قضاء
عن مَالَهُ في الذمّة من مثلها، وأنّ الواجب ردّها إذا لم يحلّ الأجل، فإذا
حلّ وقد شاركه غرماء في الطلب، وجب أن يحاصّهم في ذلك، على ما سنبسط في
كتاب التّفليس إن شاء الله تعالى.
وأمّا المسئلة المعروفة بحمار ربيعة، فإنّ صورتها مثل صورة الفرس الّتي
فرغنا من الكلام عليها. وذلك أنَّه ذكر ربيعة فيمن باع حمارًا بعشرة دنانير
إلى سنة ثمّ استقال المبتاع البائع على أنْ ردّ الحمار وزاده دينارًا، أنّ
ذلك كلّه لا يجوز. وإذا تدبّرت ما قدّمناه من التّعليل في مسئلة الفرس وجدت
البيع والسلف يتصوّر في مسئلة الحمار كما يتصوّر في مسئلة الفرس، لأنّ
محصول مسئلة الفرس أنّه أسلم فرسًا في عشرة ثياب إلى أجل، وأخذ الفرس عوضًا
عن بعض الثّياب المسلم فيها وعجّل له بقيّتها. وكذلك ها هنا أخذ الحمار عن
بعض ثمنه وهي العشرة دنانير وعجّل له بقيّة العشرة، ولا فرق بين أن يكون
ثمن الدّابة، فرسًا كان أو حمارًا، عرضًا أو عينًا، لأنّ المعجّل من هذين
هو السلف، وما سقط من الذّمّة عوضًا عن الدّابّة المرتجعة هو البيع.
ويتصوّر في هذا من التقّسيم الوفاقي والخلافي ما صوّرناه في مسئلة الفرس.
فإنْ ردّ الحمار انتقض الثّمن وأبقى بقيّته إلى أجله، جاز ذلك. وإن أخّر
بقيّة الثّمن إلى أبعد من أجله، كان بيعًا وسلفًا. وإن عجّل بعض الثّمن جرى
على القولين المتقدّمين، هل يكون التّعجيل سلفًا قارنه بيع فيمتنع؟ أو لا
يعدّ سلفًا لكون القصد براءة الذمة وفراغها، فيجوز على ما تقدّم بيانه؟
وكذلك يتصوّر في مسئلة الحمار ما يتصوّر في مسئلة الفرس من وضع بعض الحقّ
على تعجيل بقيّته, لأن الحمار قد يكون يأخذه بائعه بأقلّ من قيمته، فيكون
ما وضع من ثمنه عوضًا لما عجّل له من بقيّة الثّمن. وأمّا ما تقدّم في
مسئلة الفرس من التّعليل الثّالث وهو الزّيادة على حطيطة الضّمان، فلا
تتصوّر ها هنا لكون الثّمن في مسئلة الحمار دنانير، ومن عليه دنانير له أن
يعجّلها قبل أجلها، وإن كره من استحقّها عليه، فإن كان له ذلك، فلا يحتاج
إلى أن يرغب إلى مستحقّ الدّنانير في قبولها منه معجّلة، فيأبى عليه فيزيده
شيئًا ليقبل التّعجيل منه، والثّياب لا يجبر مستحقّها على قبولها إذا
(2/364)
عجّلت له قبل أجلها، فيتصوّر فيها أن يزيده
شيئًا ليقبل منه الثّياب الّتي لم يكن يلزمه قبولها. فقد صارت مسئلة الحمار
ومسئلة الفرس يجريان مجرى واحدًا في التّقسيم والتّعليل، سوى أنّهما
يفترقان في تصوّر المعاوضة على حطّ الضّمان كما بيّناه. فإذا تقرّر هذا
ووقعت هذه الإقالة، فإنّ ذلك يفسخ، ويردّ الحمار والدّينار الّذي أخذ معه
إلى يد المشتري، وتبقى العشرة دنانير في ذمّة المشتري إلى أجلها. فإن فات
الحمار، فاضطرب الأشياخ في الواجب فيه على طريقتين: هل يجري في ذلك من
الخلاف ما جرى في بياعات الآجال إذا فاتت، على حسب ما كنّا ذكرنا من مذاهب
أصحابنا في ذلك أم لا؟ فمنهم من صار إلى أنّ ذلك يجري مجرى بياعات الآجال.
واختار بعضهم فسخ البيعتين جميعًا الأولى وهي بيعه بعشرة دنانير إلى سنَة،
فيفسخ بأن يسقط عن الذّمّة الثّمن الّذي هو العشرة دنانير إلى سنة، وتفسخ
الثّانية بأن يكون الحمار الّذي فات من يد بائعه أوّلًا مصيبته منه لمّا
وجب ردّه عليه بفسخ البيعة الأولى، ويردّ ما أخذ من الذّهب لمّا ارتجع
الحمار، وهي الرّواية المشهورة. أو يعتبر في هذا بفسخ (1) ما كنّا قدّمناه
من كون قيمة السلعة إن كانت أقلّ مِمّا يأخذه البائع إذا حلّ الأجل فسخ
البيعتان (2) جميعًا لئلاّ يكونا قد مكّنا من دفع دنانير في أكثر منها. وإن
كانت القيمة مثل ما يأخذ إذا حلّ الأجل أو أكثر منه، لم تفسخ البيعة
الأولى، كما قدّمناه من مذهب ابن كنانة وسحنون.
ومنهم من أنكر إجراء هذه المسئلة على ما وقع من الخلاف في الآجال، وفرّق
بين هذه وتلك بأنّ ما كنّا حكينا فيه الخلاف في بياعات الآجال إنّما يتصوّر
الفساد إذا ربطنا البيعة الثّانية بالبيعة الأولى، وقرّرنا أن من باع ثوبًا
بمائة دينار إلى أجل شهر ثمّ اشتراه بخمسين نقدًا، أنّ قصدهما كونُ الثّوب
محلَّلًا، وأنّ المائة إنّما ثبتت في الذّمّة إلى شهر عوضًا عن الخمسين
الّتي دفعت نقدًا،
__________
(1) هكذا في النسختين، والأقرب: (بنفس).
(2) هكذا في النسختين.
(2/365)
ولم تكن عوضًا عن المائة الّتي أظهر أنّها
ثمن الثوب، فألغينا (1). ولا يتصوّر إلاَّ بربط البيعة الثّانية بالأولى،
وتقدير كون البيعة الأولى كالواقعة بشرط وقوع الثّانية. ومسئلة الحمار بعكس
هذا يتصوّر الفساد فيها في المعاملة الثّانية دون أن تربط إلى بيعة قبلها.
وإن كانت العشرة دنانير سلفًا لا ثمن المبيع، يتصوّر فيها البيع والسلف إذا
أخذ ببعضها سلعة وعجّل بعضها. وأيضًا فإنّه إنّما يتصوّر الفساد في مسئلة
الحمار بشرط أن نقدّر البيعة الأولى صحيحة حتّى يكون الفساد من جهة تعجيل
ثمن قد استقرّ في الذّمّة مؤجّلًا استقرارًا صحيحًا جائزًا. فشتّان ما بين
ما يجب أن يربط بما قبله وبين ما يتصوّر فيه الفساد من غير ربط. وكون
الفساد إنّما تصوّر مع تقديره في البيعة الأولى وبين ما لا يتصوّر الفساد
فيه إلاّ بتقدير صحّة البيعة الأولى. فهي الطّريقة الّتي ذكرناها عن
الأشياخ. وهؤلاء أصحاب هذه الطّريقة مختلفون أيضًا مع اتّفاقهم على منع
إجراء هذه المسئلة على حكم بياعات الآجال. فمنهم من ذهب إلى أنّ الواجب في
الحمار إذا فات ردّ قيمته بالغة ما بلغت، كالقيم في البيوع الفاسدة، وقصر
الفسخ على المعاملة الثّانية. ومنهم من أجراها مجرى البيع والسلف، فاعتبر
في القيمة الأثرين على الثّمن والسلف، أو ينقص عن الثّمن خاصة، أجرى هذه
المسئلة على حكم البيع إذا اشترط فيه السلف.
وقد كنّا نحن قدّمنا اعتذار بعض أشياخي عن هذا بأنّ البيع والسلف ها هنا
إنّما هو مقدّر لا مشترط، والمتعاقدان ينكران أن يكونا أراداه أو عقدا
عليه، فيؤخذان في أحكام القيم بموجب ما يقولان: إنّا عقدنا عليه. (وذكر هذا
الّذي إلى اعتبار الأقلّ والأكثر) (2) في هذه القيمة أنّ الثّمن إذا كان
عرضًا أو دينًا، لم يعتبر فيه، إذا قارنه السلف، الأقلُّ والأكثرُ. لكن
لمّا كان الثّمن في مسئلة الحمار دنانير، ومن حق من عليه دنانير مؤجّلة أن
يعجّلها قبل أجلها، فإن ذلك كالثّمن العين الحال. وذكر أيضًا أنّه إذا
اعتبر ها هنا الأقل والأكثر، فإنّ الثّمن
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: فألغيتا.
(2) هكذا في النسختين، ولعل في الكلام تحريفًا.
(2/366)
الّذي يُسنَد هذا الاعتبار هو العشرة
دنانير كلّها لاعترافهما أنّها جملة الثّمن فيؤخذان باعترافهما, ولا يجعل
الثّمن تسعة كما قرّرنا ذلك لما علّلنا البيع بمنع البيع والسلف، لأجل أنّا
إنّما قرّرنا ثمن الحمار تسعة ليصحّ كون الدّينار سلفًا احتياطًا لحقّ
الباري سبحانه. فهو من ناحية الاحتياط لحقّ الله سبحانه لكون الثّمن تسعة،
ومن ناحية حقّهما في زيادة القيم أو نقصانها لكون الثّمن عشرة على حسب ما
يقولان: إذا (1) تعاقدنا عليه.
وقد ذكر مالك تعليلًا آخر للمنع خارجًا عمّا كنّا قدّمناه. وذلك أنّه قال:
هذا بيع ذهب وسلعة بسلعة وذهب نسيئة. وكأنّه رأى أنّ مشتري الحمار باعه
ودينارًا معه بعشرة دنانير نسيئة، وهذا ممنوع. وهذه العلّة توجب اعتبار
القيمة مطلقة من غير تقييد كالحكم في مسائل الرّبا. فإذا تقرّر هذا،
فلنفرّع عليه أنواع ما يزيده المشتري والبائع. وقد ذكرنا حكم زيادة دينار
في جملة الثّمن، وما قيل فيه من التّعليل.
فإن كانت الزّيادة الّتي زادها المشتري ورِقًا، فإنّ ذلك لا يجوز في
المشهور من المذهب, لأنّ صرف ما في الذّمّة من دنانير مؤجّلة ممنوع, لأنّا
نقدّر أنّ الدّنانير المبيعة بالدّراهم إذا لم يحلّ أجلها، فكأنّه إنّما
عجّل دنانير ليست هي الّتي عليه، وإنّما عجّلها سلفًا ليقبضها من نفسه إذا
حلّ الأجل، فالمصارفة على هذا إنّما وقعت عن دنانير لم يجب قبضها الآن،
وإنّما تجب إلى أجل. وقد كنّا قدّمنا ذكر الخلاف في هذا، وأنّ من أجاز صرف
ما في الذّمّة من الدّنانير المؤجّلة، فإنّه قدّر المؤجّل منها كالحالّ،
وأنّ القصد بالتّعجيل براءةٌ لا السلف الّذي يقبض من نفسه إذا حلّ الأجل،
وأشرنا ها هنا أيضًا في أحد تعاليل هذه المسئلة إلى هذه الطّريقة. لكن لو
كان المعجّل ها هنا الدّرهم والدّرهمان، لاعتبر في ذلك خلاف آخر قدّمنا
ذكره في كتاب الصرف، وهو بيع سلعة معها درهم أو درهمان بدينار إلى أجل.
وأمّا إن زاد المشتري عرضًا، فإن ذلك
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: إنّا.
(2/367)
سائغ، أيّ صنف كان العرض، ويقدّر أنّ بائع
الحمار اشتراه بالدّين الّذي له على المشتري وهو العشرة دنانير، واشترى معه
العرض الّذي زاده المشتري. هذا إذا كانت زيادة المشتري ينقدها، فأمّا إن
كانت مؤجّلة، فإنّا قدّمنا زيادة دينار واحد مؤجّلأوأنّه يتصوّر فيه البيع
والسلف.
وإن كانت الزّيادة المؤجّلة ورقًا أو عرضًا، لم يجز ذلك لكونه فسخ دين في
دين لما يتصوّر فيه من أنّه أخذ الحمار ببعض العشرة دنانير وأخذ عن الباقي
منها دراهم أو عرضًا مضمونًا إلى أجل، فيكون ذلك فسخًا لدين في دين. وينضاف
إلى هذا في الورق صرف مستأخر، هذا حكم زيادة المشتري.
فأمّا زيادة البائع فتجوز على الإطلاق إلاّ وجهًا واحدًا، وهو أن يزيد
البائع من صنف الحمار الّذي باعه زيادة مضمونة إلى أجل. لأنّه يقدّر أنّه
ارتجع حماره بالعشرة دنانير الّتي له على المشتري وبما زاده من عوض (1)
منقوب أو مؤجّل أو دنانير أو دراهم، وشراؤه حمارًا بدين له باعه منه
وبزيادة دنانير أو دراهم أو عرض منقودٍ أو مؤجّل لا مانع يمنع من ذلك. لكن
إذا زاده حمارًا من صنف ما باعه منه مؤجّلًا، صار كأنّه أسلفه حمارًا، وهو
المرتجع منه، على أن يقبضه إيّاه إلى أجل ويحطّ عنه ما له عليه من دين،
فصار كمسلف حمار ليأخذ مثله إلى أجل يشترط أن يسقط عنه دين وهو العشرة
دنانير لأجل السلف، وهذا سلف جرّ منفعة وهو ممنوع. هذا حكم الزّيادة مع كون
الثّمن مؤجّلًا.
وأمّا إن بيع الحمار بعشرة دنانير على النّقد، فإنّ ربيعة ذكر أنّه إن
استقال المبتاع البائع على أن يزيده دينارًا مؤجّلًا، فإن ذلك مكروه أيضًا.
وأنت إذا تأمّلت ما ذكرنا من تفريع المسئلة الأولى، وهي بيع الحمار بثمن
مؤجّل، صرفت علل المسئلة وعلل فروعها في هذا الوجه الآخر الّذي ذكره ربيعة.
وذلك أنّه يتصوّر ها هنا أيضًا فيه أنّه أخذ منه الحمار بتسعة دنانير مِمّا
له عليه على أن يؤخّره بالدّينار العاشر الّذي وجب عليه أن ينقده البائع،
وهذا يتقرّر فيه البيع
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: عرض.
(2/368)
والسلف على حسب ما قدّمناه في المسئلة
الأولى. لكنّ الشيخ أبا محمّد ابن أبي زيد نبّه على ما قد يتعقّب في هذه
المسئلة دون الّتي قبلها. فقال: هذه البيعة الّتي وقعت على النّقد ينبغي
ألاّ يتّهم فيها إلاَّ أهل العينة، كما قيل في بياعات النّقود. لكن هذا
الاعتراض ساقط لأنّ هذه البيعة الثّانية يتصوّر فيها البيع والسلف من تلقاء
نفسها من غير إسنادها إلى البيعة الأولى. وإنّما يتصوّر فيها الوجه الممنوع
وهو البيع والسلف، بشرط أن تكون البيعة الأولى صحيحة ثابتة تكون العشرة
دنانير ثابتة في الذّمّة، فأخّر منها دينارًا يجب أن يقدّمه. وما كنّا
أفضنا في ذكره في بياعات الآجال الممنوعة للوجوه المتقدّمة، فإنّما يتصوّر
الفساد فيها إذا أسندت البيعة الثّانية إلى البيعة الأولى حتّى يسري الفساد
إلى الأولى كما يسري في الثّانية كما تقدّم بيانه ومثاله. فشتّان ما بين
فساد يتصوّر في المسئلة من قِبَل نفسها من غير افتقار إلى إسنادها إلى بيعة
تقدمتها وبين ما لا يتصوّر فساده إلاّ بأن يُبنَى على بيعة تقدمته يسري
إليها الفساد أيضًا. وقد كنّا قدّمنا نحن في أوّل هذا الكتاب هذا الفرق في
مسئلة أخرى، وذكرنا مناقضة ابن الموّاز لابن القاسم في سؤال ينخرط في هذا
السلك. وجوابَ الشَّيخ أبي محمّد بن أبي زيد وغيره عنه. وقد قيّد الشيخ أبو
محمّد بن أبي زيد هذا النّقد عن ربيعة بأنّ المشتري لم ينقد العشرة دنانير.
وتابعه على هذا بعض الأشياخ، فقال: يجوز للمشتري إذا نقد أن يزيد لأنّها
بيعة ثانية لمّا نقد ثمن الأولى.
فأشار إلى إباحة الزّيادة مطلقة.
وأنكر هذا التّقييد بعض المتأخّرين، وقال: قد يتصوّر البيع والسلف وإن (1)
نقد المشتري لأنّه يقدّر فيه أنّه اشترى الحمار بتسعة من الدّنانير الّتي
نقدها على أن أسلفه قابضها الدّينار العاشر ليأخذ منه إلى أجل. فإذا وضح
أيضًا ما نصّ عليه ربيعة من هذا الفرع الواحد الّذي ذكره في بيعة النّقد،
فلنفرّع عليه أيضًا كما فرّعنا في السؤال الّذي قبله.
__________
(1) في نسخة المدينة: قد.
(2/369)
واعلم أنّ الشريعة تمنع ها هنا أن يزيد
دراهم أو عرضًا إلى أجل؛ لأنّه ردّ الحمار ببعض ما وجب عليه أن ينقده،
وبقيت العشرة دنانير الّتي كان وجب عليه نقدها فسخت في "رهم أو عرض إلى
أجل. وأمّا إذا زاد دينارًا وهو من سكّة الثّمن الّذي اشترى به نقدًا، فإنّ
ذلك جائز, لأنّه قضى بعض ما عليه من العشرة، ودفع عن بقيّتها حمارًا. وأمّا
إن كان الدّينار الّذي زاد غير سكّة الثّمن، لم يجز ذلك, لأنّه قضى ما عليه
من العشرة دنانير حمارًا ودينارًا من غير سكّة الثّمن الّذي في ذمّته لم
ينقده. وإن زاد دراهم، فإنّ ذلك يجري على الاختلاف في البيع والصرف, لأنّه
دفع الحمار عن بعض ما عليه من العشرة دنانير دراهم وذلك صرف. فيجوز منه عند
ابن القاسم ما تقاصر عن مقدار الدّينار، ويجوز عند أشهب على الإطلاق.
وأمّا لو كانت الزّيادة من البائع، لكان الحكم فيها كحكم ما قدّمناه من
زيادة في بيعة النّسيئة، فيجوز له أن يزيد ما شاء نقدًا أو مؤجّلًا، إلاّ
أن يزيده من صنف الحمار الّذي ارتجع، فيكون ذلك سلفًا، فيتصوّر فيه ما
بيّناه في المسئلة الّتي قبل هذا.
ومِمّا يلحق بما نحن فيه، وذكره في المدوّنة فيمن باع عبده بعشرة دنانير
على أن يبيع منه الآخر عبده بعشرة دنانير، أنّ ذلك إن كان على جهة المقاصّة
العشرة بالعشرة، جاز ذلك, لأنّ المعتبر بالأفعال الّتي حصل عليها
المتبايعان لا بالألفاظ الّتي تحسن أو لا تحسن. والّذي حصل عليه ها هنا
المتبايعان بيع عبد بعبد، ومقابلته الدّنانير بالدّنانير لا محصول له إذا
لم يخرج مضمون ذلك إلى الفعل. فلو وقع العقد على أن يخرج هذا العشرة مع
العبد وهذا العشرة مع العبد، لكان ذلك ممنوعًا, لأنّ (1) حصل من فعلهما أنّ
أحدهما دفع عبدًا وعشرة دنانير في عبد وعشرة دنانير، وقد تقدّم وجه المنع
من هذا. ولا خفاء في أنّ هذين المتبايعين إن شرطا ألاّ يخرج واحد منهما
الدّنانير، فإنّ ذلك لا يجوز.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: لأنه.
(2/370)
وإن لم يذكر إخراجًا للدّنانير ولا مقاصّة
لها، فإنّ ذلك محمول على الوجه الجائز وهو وجوب المقاصّة. وإنّما كان ذلك
كذلك ولم يحمل هذا العقد على المعنى الآخر الّذي هو الفساد لأجل أنّ الأصل
فيمن له على رجل دين، وللآخر مثله أنّه لا يكلّف واحد منهما إخراج ما عليه،
بل الواجب المقاصّة والمحاسبة بمالك لّ واحد على الآخر، ما لم يمنع من
اتباع هذا الأصل مانع. والمانع ها هنا اختلاف السكك أو اختلاف الآجال. ولو
وقع بيع هذا عبده بعشرة دنانير من سكّة منعوتة على أن يبيع له الآخر عبده
بعشرة دنانير من سكّة أخرى، لحمل هذا على الفساد, لأنّ الّذي يستحقّه
أحدهما على الآخر من هذه الدّنانير خلاف ما يستحقّه صاحبه عليه. وإذا
اختلفت السكك، لم تجب المقاصّة إلاّ بالتّراضي، فإذا لم يصرّحا بالتّراضي
على ذلك، بقيا على مقتضى الأصل.
وهكذا الحكم إذا اختلفت الآجال مثل أن يبيع أحدهما عبده من رجل بعشرة
دنانير إلى شهر على أن يبيعه الآخر عبده بعشرة دنانير إلى شهرين، فإنّ هذا
فاسد, لأنّ المقاصّة لا تجب لكون أحد الدّينين يستحقّ على أحدهما قبلُ،
فيلزمه إخراجه قبل أن يستحقّ على الآخر ما عليه لهذا من دين.
(2/371)
فصل
قال القاضي أبو محمّد عبد الوهاب رحمه الله: والدّين بالدّين ممنوع إذا كان
من الطّرفين. والوضع على التّعجيل ممنوع، وهو أن يكون له عليه كُرّ (1)
حنطة جيّدة إلى أجل سنة فيعطيه قبل الأجل دون صفته، فلا يجوز لأنّه وضع
الصفة الّتي له ليتعجّل له القبض، وما كان خارجًا عن أصل الرّفق والمعروف،
فلا يقاس عليه.
قال الفقيه الإِمام رحمه الله: أمّا هذا الّذي ذكره من منع الدّين بالدّين،
فقد تقدّم ذكره والتّنبيه عليه في أثناء فروع كثيرة تقدّمت في كتاب السلم.
والأصل فيه ما روي عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "أنّه نهى عن الكاليء
بالكاليء" (2) والكاليء هو المؤخَّر. فكأنّه قال نهى عن بيع مؤخّر بمؤخّر.
وقول القاضي أبي محمّد ها هنا: (من الطّرفين) تأكيد للبيان، وإلاّ إذا كان
المراد بذكر الدّين ما يؤخر كان مقنعًا قوله: الكالي بالكالي, لأنّ أحدهما
إن كان منقودًا فلا يسمّى دينًا، وإن كان غير منقود وهو في الذّمّة، فإنّه
يسمّى دينًا. ولكن يكون الدّين حالًا ومؤجّلًا، فإن كان حالًا فباعه مِمّن
هو عليه بجنس آخر مؤجّل، فهو فسخ الدّين في الدّين، وذلك من معنى ربا
الجاهليّة الّذي حرّمه الله تعالى في كتابه على حسب ما تقدّم بياننا له من
الاختلاف في تأويل الآية الّتي نزلت في ذلك. وقد كانت الجاهليّة (3) إمّا
أن تقضي وإمّا أن تربى. فإذا حلّ أجل الدّين وهو في المثل عين، فإنّه إذا
أخّره
__________
(1) ساقطة في الوطنية.
(2) في حديث رواه الدارقطني في سننه: 319 - وأخرجه الحاكم 2: 57، والبيهقي
5: 290 وهو ضعيف لوجود موسى بن عبيدة الربذي في سنده، إرواء الغليل: حديث
138: 5/ 220.
(3) هكذا في النسختين ولعله سقط لفظ: تقول.
(2/372)
بزيادة فيه فهذا يحرّم, لأنّ التّأخير
للدّين بعد استحقاق قبضه كسلفه لمن هو عليه. والزّيادة في مقدارٍ عوضَ
التّأخير هي زيادة عوض السلف، وقد علم تحريم سلف جرّ نفعًا. وإن فسخ ذلك في
جنس آخر من دراهم أو عروض، فإنّ التّأخير لا يقع غالبًا إلاّ وقد زاده في
مقدار ما يعطيه بعد الأجل الثّاني على قيمة ما يعطيه له لو عاوضه عن دينه
من غير تأخّر. وهذه الزّيادة في القيمة لأجل التّأخير كسلف جرّ نفعًا.
وينضاف إلى هذا -إذا فَسَخَ ذلك في دراهم- عَقد الصرف على التّأخير، وهو
ممنوع منه.
وكذلك لو كان الدّين الّذي حلّ عروضًا فسخها في عروض أخرى إلى أجل، فإنّه
يزيده في قيمة العروض الثّانية لأجل إنظاره له وتأخيره بدينه. ولو عاوضه عن
دينه المؤجّل قبل أن يحلّ أجله بجنس آخر مؤجّل إلى مثل الأجل الأوّل، فإنّ
هذا يمنع أيضًا لكونه فسخًا لدين في دين. وقد قال بعض أشياخي: ليس هذا
التّحريم بمعلّل, لأنّا صوّرنا في فسخ الدّين الحال في جنس آخر مؤجّل إلى
أنّه يزيده في مقدار الثّاني لأجل تأخيره الأوّل. وها هنا إذا كان الفسخ
قبل حلول الأجل والعرض الثّاني إنّما يؤخذ عند الأجل الأوّل، فإنّه لم
يستحقّ قبض شيء فيقدّر أنّه أخّره لأجل ما زاد في مقدار الثّاني.
ولكن عندي أنّ هذا، وإن لم يتصوّر فيه هذا المعنى، فإنّه يتصوّر فيه بيع
دين بدين، وقد ورد الحديث بالنّهي عنه. لكن قد يعرض في فسخ دين في دين ما
يُشْكِل من ناحية كونه كالدّين أو كالمنقود، مثل أن يحلّ له دين فيأخذ عنه
سكنى دار معَيَّنة إلى أجل معلوم أو ركوب دابّة معيّنة، فإنّ هذا يصحّ أنّه
إذا أخذ فيه سكنى أو ركوبًا مضمونًا في الذّمّة، أنّ ذلك لا يجوز لكون
المضمون من سكنى أو ركوب لا شكّ في تسميته دينًا.
وإن أخذ فيه سكنى دار معيّنة أو ركوب دابّة معيّنة, فها هنا عرض الإشكال:
هل ذلك كالدّين لمّا كان ضمانُ هذه المنافع من صاحب الدّار والدّابّة وهي
لم تقبض منه جملة واحدة فتلحق بأحكام الدّيون الّتي لا يجوز فسخ دين فيها
كما قاله ابن القاسم؟ أو تلحق بالمعيّنات المقبوضة لمّا أسندت هذه المنافع
إلى دار معيّنة ودابّة معيّنة؟ وقد علم أنّه لو أخذ الدّار أو الدّابّة عن
دينه
(2/373)
الّذي حلّ وقبضها على أن ذلك جائز. فكذلك
المنافع المسندة إليها والمأخوذة منها يقدّر أنّ قبض أوّلها كالقبض لآخرها,
لمّا كان لا يتصوّر القبض في هذه المعاني ولا يُقدَر عليه إلاّ على هذه
الصّورة.
وقد وقع في الموّازيّة فيمن استعمل غريمه عملًا قبل حلول أجل دينه بالدّين
الّذي له عليه، أنّه لا خير في ذلك, لأنّه قد يمرض الأجير فيتأخّر العمل
إلى ما بعد حلول الأجل. وحمل بعض أشياخي على المذهب أنّ هذا قول ثالث ليس
بالإجازة على الإطلاق، كما ينسب لأشهب، ولا بالمنع مطلقًا كما ينسب لابن
القاسم لأنّه إنّما علّل بجواز المرض المقتضي أخذ المنافع بعد حلول الأجل،
فدلّ ذلك على أنّه إنّما يمنع ذلك إذا وقع فسخ الدّين في هذه المنافع عن
دين قد حلّ، لكون ما عرض من الإشك الذي كون هذه المنافع كالدّين أوْ لا،
كما بيّناه، فيتصوّر فيها معنى ربا الجاهليّة: تقضي أو تربي. فإذا كان ذلك
قبل الأجل، فلا يتصوّر فيه معنى ربا الجاهليّة كما قدّمناه عن بعض أشياخنا
أنّه يرى فسخ دين في دين قبل حلول الأجل شرعًا غير معلّل. وقد نصّ (1) بعض
المتأخّرين طريقةَ أشهب في الجواز بأن قال: اتفق على جواز اكتراء هذه
المنافع بدين في ذمّة المكتري ولم يقدّر ذلك دينًا بدين فيمنع. فهذا يقتضي
صحّة ما ذهب إليه أشهب من كون هذه المنافع لا تعدّ دينًا. وأشار بعضهم إلى
التّفرقة بين هذين, لأنّ عقد دينين في ذمّتين كانتا خاليتين من الدّين أخفّ
من فسخ دين عمرت الذّمّة به في دين آخر. ألا ترى أنّا لا نسامح بتأخير عوضٍ
أُخذ عن دين في الذّمّة يومًا واحدًا، ويسامح في جواز اشتراط تأخير رأس
المال في السلم اليوم واليومين, لأنّ ما على المسلم والمسلم إليه وقع العقد
عليه، والذّمّتان خاليتان منه. وقد أشار الشيخ أبو إسحاق. إلى أنّ في كتاب
ابن الموّاز ما قد يتناول منه منع شراء هذه المنافع بدين يكون لمشتريها على
رجل آخر، فاختلف فيه أيضأهل يجوز أو يمنع؟ ووقع في كتاب الخيار من المدوّنة
جواز اشتراط
__________
(1) هكذا, ولعلّ الصواب: نَصَرَ.
(2/374)
ذلك بشرط أن يشرع في السكنى. ولعلّنا أن
نبسط هذا في موضعه إن شاء الله تعالى. وأمّا أخذ سلعة غائبة أو أمة بتواضع
أو سلعة على خيار قابضها، فإنّ هذا على القولين المذكورين يمنعه ابن
القاسم، ويرى دخول التّأخير في هذا يلحقه بأحكام الدّيون.
وأمّا ما ذكره من منع ضع وتعجّل، فإنّا قد ذكرناه في مسائل كثيرة تقدّمت في
كتاب السلم وغيره. وقد ذكر عن عمر وعبد الله ابنه، رضي الله عنهما، أنّهما
يمنعان من ضع وتعجّل. وقد صوّر في المنع أنّ الّذي عجّل الدّين قد اشتراه
بما عجّله ليأخذ ذلك من نفسه إذا حلّ الأجل قضاء عمّا أسلفه مِمّا عجّل،
فيكون كسلف بزيادة. وقد قرّرنا قولها بمنع الذّرائع وصوّرنا هذا المعنى في
مسائل تقدّمت.
(2/375)
فصل
ذكر القاضي أبو محمّد عبد الوهّاب الممنوعات الرّاجعة إلى صفة العقد، فذكر
أنّ منها: البيع والسلف.
قال الفقيه الإِمام رحمه الله: يتعلّق بهذا الفصل أربعة أسئلة منها أن
يقال:
1 - ما الدّليل على منع البيع والسلف؟ 2 - وهل يصحّ العقد إذا سقط السلف؟ 3
- وهل يصحّ إسقاطه بعد قبضه؟ 4 - وما الواجب فيه بعد فوت المبيع؟
فالجواب عن السؤال الأوّل أن يقال: روي عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -
أنّه نهى عن البيع والسلف (1). واختار بعض أشياخي في توجيه المنع أن ذلك من
معاني حماية الذّرائع، وذلك أنّه قد تقرّر أنّ بيع الذّهب بالذّهب لا يجوز
(2). ومن أقرض مائة دينار على أن يأخذ مثلها بعد سنة، فإنّ هذا المعنى
يتصوّر فيه حقيقة البيع لأنّه باع مائة ينقدها بمائة يأخذها بعد سنة. لكن
إنّما (3) ندَبَ الشّرع إلى مكارم الأخلاق وحضّ على اصطناع المعروف ورفق
المسلمين بعضهم ببعض، اقتضت المصلحة في المحافظة على هذا الّذي ندب إليه،
منعَ السلف بزيادة، لأنّا لو أبحنا الزّيادة فيه، لكنّا سددنا باب الارتفاق
وما دُعينا إليه من مكارم الأخلاق. وقد علم أنّ البيع إذا انفرد، جاز
باتّفاق. وإذا انفرد السلف على وجه المعروف والرّفق، جاز أيضًا باتّفاق.
فإذا اجتمعا منعا، وما ذلك إلاّ أنّ المبيع المقارن للسلف قد يزيد في قيمته
ويرغب فيه مشتريه لأجل ما يتسلّفه (4) البائع،
__________
(1) هو جزء من حديث رواه بالمعنى عن أصحاب السنن والطيالسي وأحمد والحاكم
والبيهقي ونصه: لا يحل بيع وسلف الهداية ج 7: 231 حديث 137.
(2) أي: إلا مثْلا بمثل مناجزة.
(3) هكذا في النسختين ولعل الصواب كمَّا.
(4) هكذا ولعل الصواب من.
(2/376)
فتصير الزّيادة الّتي زادها على قيمته عوض
السلف، والسلف بزيادة ممنوع.
وسلك بعض أشياخي في وجه المنع مسلكًا آخر، فقال: قد تقرّر أن الرّبا ممنوع،
والبيع إذا قارنه سلف يوقع في الرِّبا الممنوع إمّا ربا النّسا وإمّا ربا
الفضل. ويتصوّر هذا بأنّ من باع عبدًا بمائة دينار على أن أسلف المشتري
خمسين دينارًا فأخذها إلى سنة، فإنّه قد أخرج من يده عبدًا ومعه خمسون
دينارًا، ويأخذ عوضًا عن ذلك ما يدفعه المشتري من الثّمن نقدًا وما يدفعه
عند قضاء السلف، فيحصل في هذا ربا النّسا، وربا الفضل إذا قدّرنا اختلاف
مقدار ما يقع من المقابلة بين الذهبين لاختلاف التّقويم في السلعة على حسب
ما تقدّم في أحكام الرّبا لمّا تكلّمنا على وجه المنع من بيع سلعة وذهب
بذهب. وعلى هذا الأسلوب يتصوّر لك الرّبا إذا كان السلف دراهم، أو كان
طعامًا يحرم فيه الرّبا. وإن كان طعامًا لا يحرم فيه الرّبا، تصوّر فيه ربا
النّسا، لكن لو كان ما لا ربا فيه لا في النّقد ولا في النّسا، لكان هذا
يمنع عندنا على أصلنا في منع بيع ثوب نقدا بثوبين من جنسه إلى أجل. لأنّا
نرى أنّ التّماثل ها هنا يجعل الزّيادة عوض السلف، فإذا باع منه عبدًا
بمائة دينار على أن أسلفه ثوبًا، فإنّه يتصوّر ها هنا ربا النّسا في مقابلة
الثّوب بالثّوب على حسب ما قدّمناه في كتاب السلم. وذكرنا هناك أنّ
الشّافعي لا يمنع من سلم ثوب في ثوبين مثله. ولا يقدّر في أمثال هذه العروض
ربا النّسا. فهو لا يمنع مثل هذا على مقتضى أصله، ونحن نمنعه لأجل ما
استدللنا به فيما تقدّم على منع سلم ثوب في ثوبين ولعموم الخبر أنّه نهى
عليه السلام عن البيع والسلف (1).
والجواب عن السؤال الثّاني أن يقال: قد ذكرنا في كتابنا المُعلِم اختلاف من
تقدّم من الأئمّة في بيع وشرط. وذكرنا الحكاية الّتي رويت عنهم في هذا وما
احتجّ به كلّ واحد لمذهبه (2).
__________
(1) تقدم تخريجه قريبًا.
(2) المعلم: 2: 208 من باب الشروط في البيع.
(2/377)
واعلم أنّ البيع المؤثّر في صحّته شرط
يقارنه في المذهب فيه اضطراب كثير. وذكر أهل المذهب فيه فروعًا كثيرة يكثر
تعدادها. ووقعت أجوبة للأئمّة من أصحاب مالك عنها مختلفة. فدعا ذلك شيخنا
الفقيه أبا الحسن المعروف باللّخميّ صاحب التّبصرة إلى أن قال: فيه ثمانية
أقوال. واشتدّ نكير شيخي الآخر أبو محمّد عبد الحميد عليه هذا الإكثار من
الخلاف حتّى أملى عليه في ذلك إملاء بيّن فيه ضعف التّاريخ (1) الّتي عوّل
عليها شيخنا أبو الحسن، مع كونه لم يتصوّر له هذا العدد من الأقوال في وجوه
مختلفة لا يصحّ أن تكون عن وجه واحد فيه ثمانية أقوال. وكان يرى أنّ
الأجوبة عن هذه المسائل إنما اختلفت لاختلاف معاني الشروط المفسدة لها.
فما قيل فيه: إنّ البيع صحيح والشرط باطل، فإنّما ذلك لأنّ الشرط وإن كان
مبنيًّا عنه، فإنّه لم يؤثر في الثّمن ولا في المثمون جهالة ولا غررًا، ولا
فائدة فيه لمشترطه. فكأنّه لمّا لم يتعلّق به حقّ الله تعالى ولا منفعة
لِمشترطهِ ظاهرة، أُسقِط وصحّ البيع.
وإذا كان الشّرط يتضمّن غررًا في الثّمن أو المثمون ومخاطرة، فسد البيع ولو
أسقط الشرط. لأنّ الشّرط إذا أسقط، فإنّما سقط بهذا الإسقاط حقّ صاحب الشرط
وبقي حقّ الله سبحانه في نهيه عن الغرر في البيوع. مثل أن يبيع أمة عليّة
بشرط البراءة من حملها، فإنّ البيع يفسد ولو أسقط هذا الشرط لكون الغرر قد
استقرّ في هذا العقد, لأنّ الجارية العليّة لو تحقّق مشتريها أنّ بها حملا،
ما رضي أن يدفع من ثمنها عشر ما دفع، كما أنّ البائع لو علم براءتها من
العمل لم يبعها إلاّ بأكثر مِمّا باعها به، فإسقاط عيب العمل إن ظهر لا
يرفع ما استقرّ من هذا الغرر الّذي حصل في الثّمن. وإذا قيل فيمن باع أمة
عليّة بشرط ترك المواضعة إنّ البيع لا يفسد وتجب المواضعة، فإنّه لا يرى
أنّ هذا الشّرط يقتضي في الثّمن من الغرر ما اقتضاه شرط المتبرّي من العمل
في الجارية الرائعة.
__________
(1) هكذا في النسختين، ولعل الصواب: التخاريج.
(2/378)
وعلى هذه الأساليب كان شيخنا رحمه الله
يجري هذه المسائل الّتي اختلفت الأجوبة عنها.
وقد أشار الشّيخ أبو إسحاق إلى هذه الطّريقة في اعتذاره عن كون البيع الّذي
قارنه السلف يصحّ إذا أسقط الشّرط، بأنّ الثّمن ها هنا والمثمون قد قيل:
إنّهما سالمان من الغرر، وإنّما الفساد في السلف، وهو أمر خارج عنهما.
فكان ذلك بخلاف ما فسد لأجل ما وقع من الغرر في ثمنه أو مثمونه. ولكن تعقب
هذا الاعتذار بأنّ الانتفاع بالسلف هو بعض الثّمن، فأشبه من باع سلعة بمائة
دينار وعبد آبق، فإنّ هذا البيع لا يصحّ، ولو أسقط العبد الآبق، لمّا كان
بعضَ الثّمن، فكذلك السلف هو بعض الثّمن. بخلاف لو وَقع الثّمن إلى موت زيد
فرضي المشتري بتعجيله، فإنّ ذلك لا يصحّح البيع لمّا كان الغَرَر في نفس
الثّمن، وهو تعليقه بأجل مجهول، ووقع العقد على غرر. فهذا التّشبيه للسلف
بالعبد الآبق ليس بالواضح. والعبد الآبق إذا قارن الثّمن الّذي هو
الدّنانير، فإنّ الدّنانير حصل فيها تخاطر بين المتبايعين, لأنّ الآبق لو
تحقّق باذله سلامته، لم يرض بتلك الدّنانير بل بأكثر منها. ولو تحقّق عطبه،
لم يبذل باذل الدّنانير إلاّ أقلّ مِمّا بذل. فإسقاط الآبق محا عينه ولم
يمح أثره الّذي في الدّنانير. والانتفاع بالسلف وإن كان ممنوحًا، فإنّه لم
يؤثّر غررًا في الثّمن الّذي قارنه. فإذا أُسقِط، بقي الثّمن سالمًا من
الغرر. لكن لو كان عوض الآبق خمرًا، لكان إسقاطه لا يبقي غررًا في
الدّنانير الّتي هي بعض الثّمن. لكن هذا يلتفت فيه إلى ما كنّا قدّمنا
الكلام عليه من حكم صفقة جمعت حرامًا وحلالًا، وقد بسطناه هنالك، وهو مِمّا
يصرف في هذه المسئلة. وقد قيل في المذهب فيمن تزوّج بمائة دينار وعبد آبق:
إنّ الآبق إذا أسقط صحّ النّكاح. فأنت ترى كيف أجرى صاحب هذا المذهب الآبق
مجرى السلف المقارن للبياعات، ولكنّه إنّما ذكر ذلك في النّكاحات، والنّكاح
يسامح في عقده من الغرر بما لا يسامح به في البيوع.
فإذا تقرّر هذا، فاعلم أنّ المذهب على قولين في البيع إذا قارنه سلف،
(2/379)
هل يصحّ البيع إذا أسقط السلف أم لا؟
والأشهر من المذهب أنّ البيع يصحّ إذا أسقط السلف. وقيل: بل يفسخ البيع ولو
أسقط السلف، وإليه ذهب محمّد بن عبد الحكم. وذكر الأبهري أن بعض المدنيين
رواه عن مالك قال: وهو القياس. وقد أشرنا إلى سبب هذا الاختلاف وأنّ المذهب
المشهور بني على أنّ الفساد في غير الثّمن والمثمون. فإذا أزيل الفساد وبقي
الثّمن والمثمون سالمين من مقارنته، صحّ العقد. وإنّ المذهب الآخر بني على
القياس على أكثر البياعات الفاسدة وأنّ الفساد في البيع والسلف قد يتصوّر
في الثّمن، على حسب ما ذكرناه وذكرنا ما قيل فيه. وهذه المسئلة قد تتعلّق
باختلاف أهل الأصول في النّهي، هل يدلّ على فساد المنهيّ عنه أم لا؟ وقد
ذكرنا أنّ النبيّ عليه السلام نهى عن البيع والسلف كما قدّمناه، والنّهي
يدلّ على فساد المنهيّ عنه وردّه.
وقد قال أيضًا في الحديث: "من أحدث في ديننا ما ليس منه، فهو ردّ" (1)،
والمردود لا يمضي. وإذا قيل: إنّ النّهي لا يدلّ على فساد المنهيّ عنه نظر
في المسئلة من جهة أخرى، وهي: هل حصل الإخلال بشرط من شروط صحّة البيع
وانعقاده أم لا؟ والتُفِت حينئذٍ إلى كون هذا الفساد خارجًا عن الثّمن
والمثمون أو مرتبطًا بهما. كما ينظر أيضًا فيمن باع جارية على أن يتّخذها
أمّ ولد، هل يقتضي النّهي فساد المنهيّ عنه فيفسخ البيع، ولو أسقط هذا
الشّرط الّذي هو اتّخاذها أمّ ولد، أو يصحّ البيع بإسقاط هذا الشرط منفصلًا
عن الثّمن والمثمون، لم يحدث فيهما غررًا. واختيار كثير من الأشياخ كون
الشّرط إذا سقط، لا يصحّ البيع والسلف وما في معناه من الشّروط، لكون العقد
وقع على الفساد وهو ثمن واحد لا يتبعّض ولا يتعدّد. فالفساد إذا دخله أثَّر
في كلّية العقد وجملته وسرى ذلك إلى الثّمن والمثمون وصيّرهما فاسدين في
أنفسهما. لأنّ السلف إذا كان من المشتري، فهو بعض الثّمن، وإن كان من
البائع فهو بعض المبيع، وفساد بعض الثّمن أو بعض المثمون يفسد جميعه.
__________
(1) اتفق عليه الشيخان، ولفظ البخاري "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو
رد" اللؤلؤ والمرجان: حديث 1120.
(2/380)
وقد أشار القاضي إسماعيل إلى إنكار
الاحتجاج على صحّة البيع إذا أسقط شرط السلف بإسقاط خمر وقع العقد عليه مع
ثوب. وقال: إنّما يكون وزان مسئلة البيع والسلف أن يكون بائع الثّوب شرط
على مشتريه أنّه إن شاء طلبه مع الثّمن الّذي اتّفقا عليه من الخمر بأمر
سمّياه، وإن شاء لم يطلبه.
وتنازع المتأخّرون في هذا الّذي قاله إسماعيل القاضي. ونحن قد نبّهناك فيما
أشرنا إليه من طرق الاستدل الذي هذه المسئلة في كلامنا على هذا السؤال
الثّاني والّذي قبله ما يعلم منه حقيقة ما قاله إسماعيل القاضي.
والجواب عن السؤال الثّالث أن يقال: إذا تقرّر أنّ المشهور من المذهب في
البيع والسلف أنّ إسقاط مشترط السلف لِمَا اشترطه منه يصحّح البيع. وقد
اختلف أصحاب هذا المذهب فيه إذا قبض السلف، هل يؤثّر إسقاطه رفع فسخ البيع
أم لا؟ فذكر أصبغ في أصوله عن ابن القاسم أنّ قبض السلف لا يمنع من تأثير
إسقاطه، وأن السلف إذا أسقطه قابضه وأعاده على دافعه، صحّ البيع، وهذا ظاهر
المدونة وذهب ابن حبيب وسحنون إلى أنّ إسقاط السلف بعد قبضه لا يؤثّر (1)،
ولا يصحّ البيع الفاسد لأنّ الرّبا قد تمّ بقبضه والانتفاع به، وإذا حصل
وجود المعنى المفسد للبيع، لم يتصوّر رفع ما قد وجد، بخلاف إسقاط السلف قبل
قبضه فإنّه لا يرفع ها هنا سوى حكم النّطق باشتراطه، ولم يحصل وجود الفعل
الممنوع وهو الانتفاعَ بهذا السلف. وهكذا ظاهر المذهب أنّه لا يؤثّر إسقاطه
إذا وقع هذا الإسقاط بعد أن فاتت السلعة في يد مشتريها, لأنّها إذا فاتت في
يد مشتريها لزمته قيمتها وصارت القيمة دينًا عليه، فإسقاط شرط السلف لا
يرجع إلى إمضاء عين المبيع وتصحيحه لما سقط الشرط حتّى يصير إسقاط هذا
الشرط كإسناد عقد صحيح على عين موجودة قائمة في حقّ من أسقطه. وإسقاطه بعد
ذوات السلعة ووجوب القيمة إنّما يرجع إلى زيادة في هذه القيمة أو نقص، وذلك
خارج عن تصحيح نفس العقود في الأعيان القائمة. لكن
__________
(1) أي في رفع فساد البيع.
(2/381)
الشّيخ أبا إسحاق أشار إلى إشك الذي صحّة
إسقاط هذا الشرط بعد فوات فوت المبيع إذا كان السلف لم يقبض وقال: انظر في
ذلك. لكن قد وقع في شرح ابن مزين عن ابن نافع فيمن قارض وشرط في القراض
شرطًا فاسدًا، أنّ إسقاط الشّرط إنّما يؤثّر ويصحّ القراض بإسقاطه ما لم
يقع العمل بالقراض. فإذا وقع (1) عمل العامل بالمال، لم يؤثّر إسقاط
الشّرط. ورأى بعض أشياخي أنّ هذا يشير إلى أنّ إسقاط السلف المشترط في
البيع لا يؤثّر إذا فاتت السلعة وإن كان السلف لم يقبض. وهذا الّذي قاله من
هذا وتأوّله لا وجه له, لأنّ القراض لا يلزم بالقول المجرّد في أحد القولين
عندنا. فإذا وقع إسقاط الشّرط من مشترطه قبل العمل بالقراض، (صار إسقاطه
كاستئناف عقد صحيح في حقّ نفسه، وبقي الآخر على خياره في حلّه، ولو كان
القراض صحيحًا لم يقارنه شرط. فإذا وقع العمل بالقراض) (2)، لم يؤثّر إسقاط
الشّرط لأنّ إسقاطه وقع بعد فوات المبيع.
ويمكن أن يكون بني هذا الجواب على مذهب من يرى أنّ إسقاط الشّرط قبل العمل
في السلف المقارن للبيع لا يؤثّر بل يفسخ البيع على كلّ حال. وإنّما فرّق
ها هنا في القراض بين إسقاط الشّرط قبل العمل وبعده، لأجل ما ذكرناه من
إثبات الخيار لربّ المال والعامل في حلّ القراض قبل أن يعمل به. فإذا أمكن
هذا، لم يكن ما استقرأه من هذه الرّواية موثوقًا به، إلاَّ أن يثبت أنّ
مذهب ابن نافع، لمّا قال هذا، كونُ القراض يلزم بالعقد، فيكون لِمَا
استقرأه وجه.
والجواب عن السؤال الرّابع أن يقال: إذا وقع البيع بشرط السلف وفاتت السلعة
في يد المشتري بحوالة السوق أو غيرها مِمّا يفيت البيع الفاسد، فإنّ المذهب
اختلف في ذلك. فقيل: الواجب في ذلك القيمة، قلّت أو كثرت، كما تجب في أكثر
البياعات الفاسدة. وهكذا قال سحنون: إذا قبض السلف وامتنع إسقاطه قبل قبضه
وفاتت السلعة، فإنّ القيمة فيه بالغة ما بلغت. وهكذا حكى غيره عن ابن
القاسم أيضًا إيجابَ القيمة مطلقًا, لأنّ الواجب في البيع الفاسد ردّ
__________
(1) في الوطنية: فإذا عمل العامل بالمال.
(2) في ما بين القوسين ساقط في الوطنية.
(2/382)
عين المبيع، فإذا استحال ردّه لعدمه، أو ما
هو في حكم العدم، رُدّت قيمته على الإطلاق بدلًا من عينه. والّذي في
المدوّنة أنّ القيمة الواجبة يلتفت فيها إلى زيادتها على ما رضي به
المسْلِف.
فإن كان السلف من المشتري: اشترى سلعة بمائة على أن أسلف خمسين، فإنّ
للبائع الأكثر من الثّمن أو القيمة. فإن كانت القيمة مائتين أو أكثر أخذها.
وإن كانت القيمة أقلّ من مائة دينار، لم ينقص المشتري من ذلك لأنّه رضي
بمائة دينار ثمنًا معها خمسون دينارًا يدفعها سلفًا، فإذا قضينا عليه
بالثّمن وهو المائة، وأسقطنا عنه ما هو كبعض الثّمن، وهو ما التزم من سلف،
فإنّه قد أحسن إليه في هذا إذا قضينا عليه بالقيمة ما لم ينقص من الثّمن.
وإن كان السلف من البائع، كان له الأقلّ من الثّمن أو القيمة، فإن كانت
القيمة خمسين أو ستّين دينارًا، لم يلزم المشتري أكثر من ذلك لأنّها عوض
العين الّتي وجب عليه ردّها لفساد العقد. وإن كانت القيمة مائتين، لم يلزم
المشتري إلاّ المائة الّتي هي الثّمن لأنّ البائع رضي أن يأخذ مائة على أن
يسلف خمسين. فإذا أسقطنا عنه السلف، فكأنّا أسقطنا عنه بعض الثّمن وأحسن
إليه بذلك، فلا يزاد عليه.
والتفت أصبغ إلى هذه الطريقة، ولكنّه رأى أنّ القيمة إذا زادت على المائة
الّتي هي الثّمن، والخمسين الّتي هي السلف، المشترطة على المشتري، فإنّه لا
يقضى للبائع بأكثر من مائة وخمسين. ويقال له أيضًا: أنت رضيت بالمائة
تملكها ملكًا مؤبّدًا وبمنفعة خمسين الّتي هي السلف، فإذا ملكناك هذا السلف
ملكًا مؤبّدًا لا تردّه أبدًا، فقد أحسن إليك، فلا تزاد على مائة وخمسين
شيئًا، وإن زادت قيمة السلعة على ذلك.
وطرْد مذهب أصبغ إذا كان السلف من جهة البائع، أن يكون على المشتري القيمة
ما لم تنقص عن خمسين دينارًا. لأنّه أيضًا يقال له: أنت رضيت بأن تدفع مائة
دينار ثمنًا، فيردّ قابضها إليك منها خمسين دينارًا سلفًا تتّجر بها
(2/383)
سنة ثمّ تعيدها إليه، والخمسون الباقية هي
الثّمن الّذي نقدته لا ترجع إليك، والخمسون الأخرى الّتي قبضتها لتردّها
بعد سنة نحن قد أسقطنا ردّها عنك، فأحسنا إليك بإسقاط ردّها إلى البائع،
فلا يُنقَص البائع من الخمسين الّتي رضيت بها، وهي أيضًا كبعض الثّمن.
ومذهب ابن القاسم ما حكيناه عنه من أنّ الواجب على المشتري الأقلّ من
القيمة أو الثّمن. فإن كانت القيمة ثلاثين أو أربعين دينارًا، لم يقض عليه
بأكثر من ذلك. ولا يعتبر ما اعتبره أصبغ في السلف. كما لم يعتبر ذلك أيضًا
فيما نصّ أصبغ على اعتباره إذا كان السلف من جهة المشترى.
وقد أشار الشّيخ أبو إسحاق إلى مناقضة ابن القاسم، فقال: قد جعل ابن القاسم
على المشتري وزن الثّمن إذا كان هو المسلف وكانت القيمة أقلّ منه لكون
المشتري رضي بالمائة ويزيد على رضاه بذلك سلف خمسين. فإذا كانت القيمة أقلّ
مِمّا رضي به وهو مائة، فإنّه لا ينقص من الثّمن شيئًا لرضاه به.
فكذلك أيضًا يجب أيضًا أن لا يزاد البائع على مائة وخمسين إذا زادت القيمة
على ذلك لكونه رضي بمائة وبخمسين سلفًا. فإذا أمضيناها له ملكًا مؤبّدًا مع
المائة، لم يكن له مقال في الزّيادة. وذكر أن لا فرق بين حجّة البائع على
المشتري في أن لا يحطّ من الثّمن الّذي رضي به شيئًا إذا نقصت القيمة عنه،
وبين حجّة المشتري على البائع أن لا يزيد على المائة وخمسين شيئًا لرضاه
بهما.
وهذا الّذي قرّره كالمتناقض من قول ابن القاسم الانفصال عنه عندي: أنّ
المائة دينار الّتي رضي بها المشتري رضي كونها ثمنًا، فلا يحطّ مِمّا رضي
به شيئًا. ونحن إذا ألزمناه ذلك، لم تغيّر صفة الثّمن الّذي وقع التّعاقد
عليه في المائة دينار لأنّها كانت مائتين. فإنّه يقول: إنّما استقرّ البيع
بمائة دينار ولمنفعة خمسين دينارًا سنة، والانتفاع بها سنة كعرض، والعروض
تختلف الأغراض فيها، وقد يكون التّجر بها سنة له فيها غرض لا يوجد إذا جعلت
له ملكًا، فتعتبر
(2/384)
الأغراض. والأثمان لمّا وقع فيما قاله في
زيادة القيمة على الثّمن لم يلتفت إلى ما وقع التّراضي به من كون المائة
ثمنًا والخمسين سلفًا. وأمّا رضي المشتري بمائة دينار، فإنّا إذا ألزمناه
إيّاها، ألزمناه اعتبار ما رضي به من غير تغيير فيه.
فإذا اعتبرنا المائة وخمسين، صرفًا ألزمنا البائع رضاه بالمائة وخمسين بعد
تغيير عليه في عرضه.
(2/385)
|