مواهب
الجليل لشرح مختصر الخليل ط عالم الكتب كتاب الحج
باب في أحكام الحج
فرض الحج، وسنت العمرة مرة
__________
كتاب الحج
ص:(باب فرض الحج وسنة العمرة مرة يعني أن الحج
يجب مرة واحدة في العمر وهذا هو المعروف من
مذهب العلماء لحديث أبي هريرة رضي الله عنه
"خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لنا
"يا أيها الناس إن الله فرض عليكم الحج" فقال
رجل أكل عام يا رسول الله فسكت عنه حتى قالها
ثلاثا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لو
قلت: نعم لوجبت ولما استطعتم" ثم قال "ذروني
ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة
سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم
بأمر فاتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء
فدعوه" 1 رواه مسلم قال ابن عبد السلام: ومن
طريق ابن عباس عند النسائي "لو قلت: نعم لوجبت
ثم إذا لا تسمعون ولا
ـــــــ
1 رواه البخاري في كتاب الاعتصام باب 2. مسلم
في كتاب الحج حديث 412. النسائي في كتاب
المناسك باب 1. ابن ماجة في كتاب المقدمة باب
1. أحمد في مسنده (2/247، 258، 314).
(3/412)
__________
تطيعون ولكنها حجة واحدة" 1 انتهى. قال
الفاكهاني: إنهم لما سألوا عن ذلك نزل قوله
تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ
تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101] والرجل السائل هو
الأقرع بن حابس كذا جاء مبينا في غير هذه
الرواية من طريق النسائي ذكره ابن الحاجب في
مناسكه وحكى غير واحد الإجماع على وجوبه مرة
واحدة في العمر وقال بعض من شذ إنه يجب في كل
سنة وعن بعضهم أنه يجب في كل خمسة أعوام لما
روي أنه عليه الصلاة والسلام قال على كل مسلم
في كل خمسة أعوام أن يأتي بيت الله الحرام قال
ابن العربي في عارضته رواية هذا الحديث حرام
فكيف إثبات حكم به يعني أنه موضوع وقال في
القبس وذكر عن بعض الناس أنه يجب في كل خمسة
أعوام لحديث رووه في ذلك وهو ضعيف انتهى. وهذا
لا يلتفت إليه لشذوذه.
وقال النووي: هذا خلاف الإجماع فقائله محجوج
بإجماع من قبله وعلى تسليم وروده فيحمل على
الاستحباب والتأكد في مثل هذه المدة كما حمل
العلماء الحديث الصحيح الآتي ذكره على ذلك ولا
يجب بعد المرة الأولى إلا أن ينذره أو يريد
دخول مكة فيجب عليه الإحرام بأحد النسكين أو
بهما ويستحب الحج في كل سنة لمن حج الفرض
ويتأكد ذلك في كل خمس سنين لحديث أبي سعيد
الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال " إن الله تعالى يقول إن عبدا
صححت له جسمه ووسعت عليه في المعيشة تمضي عليه
خمسة أعوام لا يمضي إلى المحروم" رواه ابن أبي
شيبة وابن حبان في صحيحه قال ابن فرحون في
مناسكه: قال العلماء هو محمول على الاستحباب
والتأكد في مثل هذه المدة انتهى. وهذا ما لم
يؤد إلى إخلاء البيت عمن يقوم بإحيائه في كل
سنة فإنه يجب إحياؤه في كل سنة فرضا على
الكفاية كما ذكره المصنف في باب الجهاد فإنه
عد فيه زيارة الكعبة في كل سنة من فروض
الكفاية وفي مصنف عبد الرزاق بسنده إلى ابن
عباس لو ترك الناس زيارة هذا البيت عاما واحدا
ما أمطروا وذكره ابن الحاج في مناسكه عن ابن
عباس بلفظ لو ترك الناس زيارة هذا البيت عاما
ما أمطروا وقال التادلي بعد كلام صاحب القبس
المتقدم وهذا ما لم يؤد إلى إخلاء البيت عمن
يقوم بإحيائه في كل سنة وأما إذا خيف إخلاؤه
فإنه يجب فرضا على الكفاية إحياؤه في كل سنة
نص على ذلك النووي في روضته فقال ومن فروض
الكفاية إحياء الكعبة بالحج في كل سنة هكذا
أطلقوا وينبغي أن تكون العمرة كالحج بل
والاعتكاف والصلاة في المسجد الحرام فإن
التعظيم وإحياء البقعة يحصل بكل ذلك.
قلت: ولا يحصل مقصود الحج بما ذكره فإنه يشتمل
على الوقوف والمبيت بمزدلفة ومنى والرمي
وإحياء تلك البقاع بالطاعات وغير ذلك وهذا
الذي قاله لا يبعد قول مثله على أصل
ـــــــ
1 رواه النسائي في كتاب المناسك باب 1.
(3/413)
__________
المذهب فإن عمارات المساجد غيره بالجماعات من
فروض الكفايات فكذلك عمارة الكعبة بالحج
والعمرة وهو أولى انتهى. كلام التادلي وهو
ظاهر والله أعلم. فينبغي لمن حج الفرض أن ينوي
القيام بفرض الكفاية ليحصل له ثواب ذلك وقال
في الإحياء في كتاب النكاح يكره للحاضر بمكة
مقيما أن لا يحج في كل سنة قال والمراد بهذه
الكراهة ترك الأولى والفضيلة انتهى.
قلت: والظاهر أنه موافق لمذهبنا والله أعلم.
تنبيه: تحصل مما تقدم أن الحج على ثلاثة أقسام
فرض عين وفرض كفاية وتطوع قال الزركشي من
الشافعية وهذا الثالث يحتاج إلى تصوير لأن
القاصد للبيت إن كان عليه فرض الإسلام سقط عنه
وكان قائما بفرض الكفاية أيضا ومن لم يكن عليه
فرض الإسلام كان قائما بفرض الكفاية فلا يتصور
لنا حج تطوع قال وصوره بعضهم في العبيد
والصبيان لأن فرض الكفاية لا يتوجه إليهم قال
وهذا فيه التزام السؤال بالنسبة إلى المكلفين
ثم إنه لا يبعد وقوعه فرضا ويسقط بهم فرض
الكفاية عن المكلفين كما في الجهاد وصلاة
الجنازة قال وقيل هنا جهتان جهة تطوع وهي من
حيث إنه ليس عليه فرض العين وجهة فرض الكفاية
من حيث إحياء الكعبة قال وهذا فيه التزام
السؤال لأنه لم يخلص لنا حج تطوع قال ولا يقال
إذا أتى به من يحصل به الإحياء لا يكون فرضا
في حق غيره لأنه لا يقع إلا في زمن واحد وإن
تقدم إحرام بعضهم على بعض لأنهم حكموا بأن ما
كان فرض كفاية لا يختلف الحال فيه بين أن يحصل
في زمن واحد وأزمان كما قالوا في صلاة الجنازة
ورد السلام انتهى. وهذا والله أعلم. إنما يشكل
على مذهبهم في أن من كان عليه فرض الإسلام
وأحرم بنفل ينقلب فرضا وعلى ما يقتضيه كلامه
من أنه إذا خوطب به على جهة الكفاية كان حكمه
مساويا لحكم فرض الإسلام من أنه إذا أحرم بنفل
ينقلب فرض كفاية وأما على مذهبنا في أن من
أحرم بنفل انعقد إحرامه وإن كان عليه الفرض
فيمكن تصويره وذلك أن من حج فرض الإسلام يطلب
بإحياء الكعبة بالحج على جهة الكفاية فإذا قام
بذلك جماعة سقط الطلب بفرض الكفاية عن الباقين
وصاروا مطلوبين به على جهة الندب فمن جاء منهم
بعد ذلك ونوى القيام بفرض الكفاية حصل له ومن
لم ينو إلا التطوع فحجه تطوع بل لو لم يقم
بفرض الكفاية أحد وأحرم الجميع بنية التطوع
انعقد إحرامهم تطوعا ولا يحصل لهم ثواب فرض
الكفاية إلا بنية فتأمله والله أعلم.
وتحصل أيضا أن فرض الإسلام يجب مرة واحدة في
العمر وفرضية ذلك ثابتة بالكتاب والسنة
والإجماع ولا يحتاج للتطويل بها لشهرتها وفيما
تقدم كفاية فمن جحد وجوبه فهو مرتد يستتاب فإن
تاب وإلا قتل ومن تركه بعد الاستطاعة إليه
فقال في الرسالة فالله حسيبه قال الجزولي أي
لا يتعرض له وقال القاضي عياض في قواعده وعظ
وزجر ووبخ انتهى.
(3/414)
__________
وقال بعض العلماء إنه يقتل والله أعلم. وأنكرت
الملحدة الحج وقالت إن فيه التجرد من الثياب
وهو يخالف الحياء وفيه السعي وهو يخالف الوقار
ورمى الجمار لغير مرمى فصاروا إلى أن هذه
الأفعال كلها باطلة إذ لم يعرفوا لها حكمة
وجهلوا أنه ليس من شرط العبد مع المولى أن
يفهم المقصود بجميع ما يأمره به ولا أن يطلع
على فائدة تكليفه وإنما يتعين عليه الامتثال
ويلزمه الانقياد من غير طلب فائدة ولا سؤال عن
مقصود ولهذا كان قوله عليه السلام: لبيك حقا
حقا لبيك تعبدا ورقا انتهى. من القرطبي في
سورة آل عمران والله أعلم. وأما العمرة فهي
سنة مؤكدة مرة في العمر وأطلق المصنف رحمه
الله في قوله: إنها سنة مرة في العمر ولابد من
زيادة كونها مؤكدة كما صرح به غير واحد من أهل
المذهب قال في الرسالة والعمرة سنة مؤكدة مرة
في العمر وقال في النوادر قال مالك: العمرة
سنة واجبة كالوتر لا ينبغي تركها فتأمله
انتهى. وقال ابن الحاج في منسكه: هي أوكد من
الوتر وفي الموطأ قال مالك: العمرة سنة ولا
نعلم أحدا من المسلمين رخص في تركها انتهى.
قال أبو عمر حمل بعضهم قول مالك في الموطأ لا
نعلم من رخص في تركها على أنها فرض وذلك جهل
منه انتهى. وقال ابن الحاج في منسكه: قال
مالك: العمرة سنة مؤكدة وليست بفرض كالحج وهي
أوكد من الوتر وقد قيل إن قوله تعالى:
{وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} بعد قوله:
{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}
[البقرة: 196] كلام مؤتنف وقد قرئت بالرفع
وقيل إنما أمر بإتمامها من دخل فيها وقال ابن
حبيب: وأبو بكر ابن الجهم هي فرض كالحج وبه
قال الشافعي: وبه قال جماعة من أهل المدينة
والمشهور الأول لقوله عليه الصلاة والسلام
الحج جهاد والعمرة تطوع رواه الترمذي وقال
حديث حسن وفي بعض الروايات حسن صحيح ونازعه
النووي في تصحيحه ولأنها نسك غير مؤقت فلا
تكون واجبة كطواف التطوع ولعدم ذكرها في حديث
بني الإسلام على خمس انتهى. وقال ابن حارث عن
ابن حبيب هي فرض على غير أهل مكة وقال الزركشي
من الشافعية كره مالك الاعتمار لأهل مكة
والمجاورين بها وقال يا أهل مكة ليس عليكم
عمرة إنما عمرتكم الطواف بالبيت وهو قول عطاء
وطاوس بخلاف غيرهم فإنها واجبة عليهم انتهى.
قلت: وهو غريب لا يعرف في المذهب عن مالك قال
ابن فرحون في شرح ابن الحاجب وعن عطاء أنه
قال: العمرة واجبة على الناس إلا على أهل مكة
لأنهم يطوفون بالبيت انتهى.
تنبيه: ولا خلاف أنها تجب بالنذر ويجب إتمامها
بعد الشروع فيها والله أعلم. وحكمها بعد المرة
الأولى الاستحباب قال الشيخ أبو الحسن الكبير
في أواخر كتاب الحج الثاني: قال أبو محمد:
والعمرة سنة مؤكدة مرة في العمر وأما أكثر من
مرة فينتفي عنها التأكيد وتبقى بعد ذلك مستحبة
انتهى. ويستحب في كل سنة مرة ويكره تكرارها في
العام الواحد على المشهور وقاله مالك في
المدونة لأنه عليه الصلاة والسلام لم يكررها
في عام واحد مع قدرته على ذلك
(3/415)
__________
وقد كرهه جماعة من السلف وأجاز ذلك مطرف وابن
الماجشون وقال ابن حبيب: لا بأس بها في كل شهر
مرة وقال أبو الحسن وغيره وفرطت عائشة رضي
الله عنها في العمرة سبع سنين ثم قضتها في عام
واحد وروي عن علي رضي الله عنه في كل شهر مرة
وروي عن ابن عمر أنه اعتمر ألف عمرة وحج ستين
حجة وحمل على ألف فرس في سبيل الله وأعتق ألف
رقبة انتهى. وقال سند كره مالك تكررها في
السنة الواحدة تأسيا بالنبي صلى الله عليه
وسلم لأنه ابنة في كل عام مرة وحكى كراهة ذلك
عن كثير من السلف وما روي أن عليا كان يعتمر
كل يوم وأن ابن عمر كان يعتمر في كل يوم من
أيام ابن الزبير فيحتمل أن يكون قضاء عن نذر
أو لوجه رآه كما روي أن عائشة فرطت في العمرة
سبع سنين فقضتها في عام واحد ولو كان مستحبا
لفعله عليه الصلاة والسلام والأئمة بعده أو
ندب إليه على وجه يقطع العذر انتهى. ملخصا
ونقل اللخمي عن مطرف وابن المواز جواز تكرارها
في السنة مرارا واختاره ونصه قال مطرف في كتاب
ابن حبيب لا في السنة مرارا قال أرجو أن لا
يكون به بأس قال اللخمي: ولا أرى أن يمنع أحد
من أن يتقرب إلى الله بشيء من الطاعات ولا من
الازدياد من الخير في موضع لم يأت بالمنع منه
نص انتهى. وكلامه يوهم أن ابن المواز قال ذلك
في الاعتمار مرارا وظاهر كلام ابن المواز أنه
إنما قاله في المرتين فقط قال في التوضيح: ثم
قول ابن الحاجب وفي كراهة تكرار العمرة في
السنة الواحدة قولان المشهور الكراهة وهو مذهب
المدونة والشاذ لمطرف إجازة تكرارها ونحوه
لابن المواز لأنه قال أرجو أن لا يكون بالعمرة
مرتين في سنة بأس وقد اعتمرت عائشة مرتين في
عام واحد وفعله ابن عمر وابن المنكدر وكرهت
عائشة عمرتين في شهر وكرهه القاسم بن محمد
انتهى. وما ذكره صاحب التوضيح عن ابن المواز
هو كذلك في النوادر وهو أولى مما قاله اللخمي
ونص النوادر قال ابن المواز: وكره مالك أن
يعتمر عمرتين في سنة واحدة يريد فإن فعل لزمه
قال محمد وأرجو أن لا يكون به بأس انتهى.
فرع: وعلى المشهور من أنه يكره تكرارها في
السنة الواحدة فلو أحرم بثانية انعقد إحرامه
إجماعا قاله سند وغيره وتقدم ذلك في كلام ابن
المواز حيث قال يريد فإن فعل لزمه وقال في
المدونة والعمرة في السنة إنما هي مرة واحدة
ولو ابنة بعدها لزمته كانت الأولى في أشهر
الحج أم لا أراد الحج من عامه ذلك أم لا
انتهى. تنبيه: قال المصنف في مناسكه وعلى
المشهور من أنه يكره تكرارها في العام الواحد
فأول السنة المحرم فيجوز لمن اعتمر في أواخر
ذي الحجة أن يعتمر في المحرم قاله مالك قال
ابن القاسم: ثم استثقله مالك وقال أحب إلي لمن
أقام بمكة أن لا يعتمر حتى يدخل المحرم أي
لقرب الزمن انتهى. وقوله ثم استثقله أي استثقل
أن يعتمر في أواخر ذي الحجة ثم يعتمر في
المحرم لقرب الزمن أي فلا يفعل إلا واحدة وإذا
كان لا يفعل إلا واحدة فهل الأولى أن تكون
(3/416)
__________
في أواخر ذي الحجة أو المحرم قال أحب إلي لمن
أقام بمكة أن لا يعتمر حتى يدخل المحرم فتضمن
كلام مالك الثاني مسألتين إحداهما استثقال
الإتيان بعمرة في ذي الحجة ثم أخرى في المحرم
والثانية استحباب أن تكون العمرة في المحرم
لمن أقام بمكة وكذلك نقلها التادلي مسألتين
وقال في المواضع المختلف فيها في العمرة
الثالث هل يستحب للحاج أن تكون في المحرم أو
لا قال مالك: أحب إلي أن تكون في المحرم لأن
فعلها في غير أشهر الحج أفضل له وقيل له فعلها
بعد حجه وسبب الخلاف هل ذو الحجة كله من أشهر
الحج أم لا الرابع إذا اعتمر بعد حجه هل له أن
يعتمر أخرى في المحرم عن مالك روايتان انتهى.
فقوله لقرب الزمن تعليل الاستثقال فقط وأما
استحباب كونها في المحرم فلتكون في غير أشهر
الحج على ما قاله التادلي ولا ينبغي أن يفهم
من قول المصنف وعلى المشهور فأول السنة المحرم
الخ أن في أول السنة خلافا هل هو المحرم أو ذو
الحجة إذ ليس في كلامه ما يدل على ذلك ولا في
كلام مالك وإلا لعلل استثقاله العمرة في
المحرم بعد العمرة في ذي الحجة بأن ذلك في سنة
واحدة وهذا إنما علله بقرب الزمن وقال صاحب
الطراز وإذا راعينا العمرة في السنة مرة فهل
هي من الحج إلى الحج أو من المحرم إلى المحرم
واختلف فيه قول مالك قال في الموازية: ولا بأس
أن يعتمر بعد أيام الرمي في آخر ذي الحجة ثم
يعتمر في المحرم عمرة أخرى فيصير في كل سنة
مرة ثم رجع فقال أحب إلي لمن أقام أن لا يعتمر
بعد الحج حتى يدخل المحرم فعلى هذا يعتمر قبل
الحج وبعده ويكون انتهاء العمرة وقت فعل الحج
وعلى الأول إذا اعتمر قبل الحج فلا يعتمر بعده
حتى يدخل المحرم انتهى. وما قاله غير ظاهر
وليس في كلام مالك ما يدل عليه فأول السنة
المحرم على كل حال والله أعلم.
فرع: يستثنى من كراهة تكرار العمرة في السنة
من تكرر دخوله إلى مكة من موضع يجب عليه
الإحرام منه وهو الظاهر ولم أر من صرح به لأنه
إن أحرم بحج فقد أحرم قبل وقته وإن لم يحرم
دخل بغير إحرام والله أعلم.
فرع: قال مالك: ولا بأس أن يعتمر الصرورة قبل
أن يحج انتهى. ويعني بذلك أن من قدم في أشهر
الحج وهو صرورة فلا يتعين أن يحرم بالحج بل
يجوز له أن يعتمر وأما إذا قدم الصرورة قبل
أشهر الحج فالمطلوب منه يومئذ الإحرام بالعمرة
من غير خلاف والله أعلم. فرع: قال في الطراز:
ويجوز لمن دخل مكة معتمرا أن يخرج بعد انقضاء
عمرته وفي كتاب ابن حبيب أحب للمعتمر أن يقيم
لعمرته ثلاثا بمكة وفي الموطأ عن عثمان أنه
كان إذا اعتمر لم يخطط عن راحلته حتى يرجع
والله أعلم. وقول المصنف فرض الحج وسنة العمرة
الموجود في غالب النسخ بالبناء للمفعول ورفع
الحج والعمرة على النيابة للفاعل ونصب مرة على
النيابة على المفعول المطلق والعامل فيه
العمرة ويقدر مثله للحج لأن العمرة والحج
مصدران يقدر كل واحد منهما بأن والفعل والمعنى
فرض بأن يحج مرة وسن أن يعتمر مرة
(3/417)
__________
ولا يصح أن يكون العامل فيه فرض وسنة لأنه
إنما يفيدان الفرض والسنة وقع من الشارع مرة
ولا يفيد المعنى المراد لأن المفعول المطلق
قيد في عامله ويجوز أن ينصب مرة على التمييز
المحول عن النائب عن الفاعل والمعنى فرض المرة
من الحج وسنة العمرة من العمرة ويوجد في بعض
النسخ فرض الحج بفتح الفاء وسكون الراء على
أنه مصدر مرفوع بالابتداء وبرفع سنة بالعطف
عليه وبجر الحج والعمرة بالإضافة ومرة مرفوع
على أنه خبر وعليها شرح البساطي ويتعين حينئذ
أن يكون المصدر بمعنى اسم المفعول أي المفروض
من الحج مرة والمسنون من العمرة مرة والله
أعلم. وإنما أطلت الكلام هنا لأن هذه المسائل
محتاج إليها ولم ينبه الشارح عليها.
ولنشرع في الكلام على اشتقاق الحج والعمرة
ومعناهما لغة وشرعا وما يتعلق بذلك فنقول الحج
في اللغة القصد وقيل القصد المتكرر قال ابن
عبد السلام: الحج في اللغة القصد وقيل بقيد
التكرار انتهى. وكذا قال في التنبيهات أصل
الحج القصد وسميت هذه العبادة حجا لما كانت
قصد موضع مخصوص وقيل الحج مأخوذ من التكرار
والعود مرة بعد أخرى لتكرار الناس عليه كما
قال الله تعالى: {مَثَابَةً لِلنَّاسِ}
[البقرة: 125] أي يرجعون إليه ويثوبون في كل
عام انتهى. وعلى الثاني اقتصر صاحب المقدمات
وصاحب الطراز ونقله القرافي عن الخليل وهو
ظاهر الصحاح لقوله الحج القصد ورجل محجوج أي
مقصود وقد حج بنو فلان فلانا إذا أطالوا
الاختلاف إليه انتهى. والظاهر أنه مستعمل في
اللغة بالوجهين لقول صاحب القاموس الحج القصد
والكف والقدوم وكثرة الاختلاف والتردد وقصد
مكة للنسك ويشهد لذلك حديث مسلم المتقدم إن
الله فرض عليكم الحج فحجوا وقول الرجل أكل عام
يا رسول الله الحديث لأنه يحتمل أن يكون سؤاله
لهذا المعنى ويحتمل أن يكون لمعنى آخر وهو أن
العلماء اختلفوا في الأمر المطلق هل يقتضي
التكرار أو لا يقتضيه أو يتوقف فيما زاد على
مرة على البيان فلا يحكم باقتضائه قال ابن
القصار: وهو عند مالك مقتض للتكرار وخالفه بعض
أصحابنا فيحتمل أن يكون السائل يرى بعض هذه
المذاهب والله أعلم. واختلف في إطلاق الحج على
العبادة المشروعة فقيل حقيقة لغوية وأن الحج
مستعمل في معناه اللغوي الذي هو القصد أو
القصد المتكرر غير أن الشارع اعتبر مع ذلك
أمورا لا بد منها وهذا مذهب القاضي أبي بكر
الباقلاني وقيل إنه حقيقة شرعية نقلها الشارع
من المعنى اللغوي إلى المعنى الشرعي من غير
ملاحظة للمعنى اللغوي وإن صادف أن بين
المعنيين علاقة لأمر اتفاقي وهذا مذهب
المعتزلة وقال به جماعة من الفقهاء وقيل إنه
نقل إلى المعنى الشرعي على سبيل المجاز
لمناسبته للمعنى اللغوي وهذا مذهب الإمام فخر
الدين والمازري وجماعة من الفقهاء قال ابن
ناجي وهو مذهب المحققين من المتأخرين وهذه
الثلاثة الأقوال جارية في الحقائق الشرعية
كالصلاة والصوم والزكاة وغيرها وكلام صاحب
القاموس المتقدم يشهد للأول لأنه جعل قصد مكة
للنسك من جملة معاني الحج في اللغة وعلى القول
الثالث فوجه المناسبة بين
(3/418)
__________
معنى الحج في اللغة وعلى القول بأنه القصد
ظاهر وأما على القول بأن معناه في اللغة القصد
المتكرر فقيل في وجه مناسبة الحج في الشرع له
كون الناس يأتونه في كل سنة قال ابن مشدين
فحكم التكرار باق في كل سنة فرض كفاية على
العموم قال وذهب جماعة من العلماء إلى أنه
واجب على الإمام أن يقيم مناره كل سنة بنفسه
أو بغيره وقيل لأن الناس يعودون إلى البيت بعد
التعريف يوم النحر ثم يعودون إليه لطواف
الوداع وقال التادلي قال في الإكمال لما كان
مقتضى الحج التكرار من حيث الاشتقاق واتفقوا
على أن الحج لا يلزم إلا مرة واحدة كانت
العودة إلى البيت تقتضي كونها في عمرة حتى
يحصل التردد إلى البيت كما اقتضاه الاشتقاق
انتهى. فيتحصل في معنى التكرار فيه ثلاثة
أقوال انتهى. كلام التادلي وقد أشبع القاضي
عياض في الإكمال في أول كتاب الصلاة الكلام في
ذلك والله أعلم. وأما في الشرع فقال التادلي
قال صاحب المحكم هو القصد إلى التوجه إلى
البيت بالأعمال المشروعة فرضا وسنة انتهى.
وقال صاحب المقدمات فحج البيت في الشرع قصده
على ما هو في اللغة إلا أنه قصد على صفة ما في
وقت ما تقترن به أفعال ما انتهى. قال التادلي:
ويرد على الأول كونه لم يذكر الأعمال المشروعة
فيه بل أطلق وعلى الثاني ما فيه من الإجمال
لأن من شرط الحد أن يكون مبينا لذات المحدود
انتهى. وقال ابن عرفة: قال ابن هارون لا يعرف
لأنه ضروري للحكم بوجوبه ضرورة وتصور المحكوم
عليه ضرورة ضروري ويرد بأن شرط الحكم تصوره
بوجه ما والمطلوب معرفة حقيقته وابن عبد
السلام لعسره ويرد بعدم عسر حكم الفقيه بثبوته
ونفيه وصحته وفساده ولازمه إدراك فضله أو
خاصته كذلك ويمكن رسمه بأنه عبادة يلزمها وقوف
بعرفة ليلة عشر ذي الحجة وحده بزيادة وطواف ذي
طهر أخص بالبيت عن يساره سبعا بعد فجر يوم
النحر والسعي من الصفا للمروة ومنها إليها
سبعا بعد طواف كذلك لا يقيد وقته بإحرام في
الجميع انتهى. وقوله ولازمه إدراك فضله أو
خاصته كذلك أي دون عسر وقوله وطواف ذي طهر
بإضافة طواف إلى ذي بمعنى صاحب وقوله أخص أي
من الحدث والخبث وقوله بعد طواف كذلك أي ذي
طهر الخ وقوله لا يقيد وقته يعني أن وقت السعي
ليس بمقيد كوقت طواف الإفاضة ووقت الوقوف بل
يصح السعي في كل وقت كما سيأتي إن شاء الله
تعالى وقوله بإحرام أي مع إحرام والله أعلم.
واعترض عليه بعضهم بأن لزوم الوقوف بعرفة ذاتي
لأنه ركن فلا يصح أن يكون رسما إذ لا يؤتى فيه
بالذاتيات وإن كان اللزوم خارجيا فيلزم بطلان
الحد لأنه مركب من الذاتي والخارجي قال
المشذالي والجواب أنا نلتزم صحة الرسم لأنه
ذكر فيه الجنس البعيد والخاصة قولكم لزوم
الوقوف ذاتي قلنا ممنوع وإنما الذاتي فعل
الوقوف وبين الوقوف وبين المفهومين بون بعيد
ويلزم تركيبه من التصورات والتصديقات لأن
اللزوم من عوارض التصديقات انتهى. فكأنه التزم
بطلان الحد ويمكن تصحيحه بأن يقال عبادة ذات
وقوف بعرفة إلى آخره والله
(3/419)
وفي فوريته
وتراخيه لخوف الفوات خلاف،
__________
أعلم. وقال ابن ناجي: ولما كان ابن هارون حج
أشبه ما قال ولما لم يحج ابن عبد السلام حسن
منه أن يقول لعسره انتهى. وأما ضبطه فقال ابن
فرحون في شرحه الحج بفتح الحاء وكسرها وكذا
الحجة فيها اللغتان وأكثر المسموع فيها الكسر
والقياس الفتح وقال ابن راشد الحج بالكسر
الاسم انتهى. وقال في الصحاح الحج بالكسر
الاسم انتهى. ونحوه في القاموس وقال في
الإكمال الحج بالفتح المصدر وبكسرها وفتحها
معا الاسم وبالكسر أيضا الحجاج انتهى. والعمرة
في اللغة الزيارة يقال اعتمر فلان فلانا أي
زاره قال ابن الحاج: ولذا كان ابن عباس لا يرى
العمرة لأهل مكة لأنهم بها فلا معنى لزيارتهم
إياها انتهى. وقال في الإكمال قال الإمام
المازري والاعتمار في الكلام لزوم الموضع وهي
أيضا الزيارة قال التادلي: وقال آخرون معنى
الاعتمار والعمرة القصد قال الشاعر:
لقد سما ابن معمر حين اعتمر ... فحل أعلى محتد
ومفتخر
أراد حين انتهى. وفي الشرع زيارة البيت على
أنه مخصوص أو تقول: عبادة يلزمها طواف وسعي
فقط مع إحرام وقولنا فقط ليخرج الحج.
فائدة: قال الشيخ زروق في آخر كتاب الحج من
شرح الإرشاد أحكام الحج كثيرة وفروعه غزيرة
والاعتبار بها اليوم قليل لا سيما ببلاد الغرب
لعدم الحاجة إليها وتحقيقها في الغالب يحتاج
لطويل البحث ودقيق النظر وبعض الملابسة في
الفعل فليعذر المتكلم فيه عند تقصيره ولقد
سمعت شيخنا أبا عبد الله القوري رحمه الله
يقول حاكيا عن غيره أن أحكام الحج على مذهب
مالك لا تكاد تنضبط لزمام قال وإنما قد تنضبط
أفعاله وذكر أنها تسعة عشر فعلا والعمرة نصفها
وعندي أن أصولها أقل من ذلك فيما يظهر وقد
جمعتها في أبيات وهي:
أحرم ولب ثم طف واسع وزد ... في عمرة حلقا
وحجا إن ترد
فزر منى وعرفات جمعا ... ومشعرا والجمرات
السبعا
وانحر وقصر وافض ثم ارجع ... للرمي أيام منى
وودع
وكمل الحجة بالزيارة ... متقيا من نفسك
الأمارة
فالسر في التقوى والاستقامة ... وفي اليقين
أكبر الكرامه
ص وفي فوريته وتراخيه لخوف الفوات خلاف". ش:
يعني أنه اختلف في الحج هل هو واجب على الفور
بمعنى أنه إذا وجد سببه وشروطه الآتية وجب على
المكلف المبادرة إليه في أول سنة يمكنه
الإتيان به فيها ويعصى بتأخيره عنها أو هو
واجب على التراخي فلا تجب
(3/420)
__________
المبادرة في أول سنة وإنما تجب عند خوف الفوات
إما لفساد الطريق بعد أمنها أو لخوف ذهاب ماله
أو صحته أو ببلوغه الستين قال البرزلي وغيره:
أو يخاف عجزه في بدنه فيجب حينئذ على الفور
اتفاقا ذكر المصنف في ذلك قولين مشهورين الأول
منهما رواه ابن القصار والعراقيون عن مالك
وشهره صاحب الذخيرة وصاحب العمدة وابن بزيزة
والقول الثاني منهما شهره ابن الفاكهاني في
كتاب الأقضية من شرح الرسالة قال في التوضيح:
والباجي وابن راشد والتلمساني وغيرهم من أنه
المذهب انتهى.
قلت: يعني أن مسائل المذهب تدل عليه وليس
مراده أنهم لم يحكوا خلافه فقد قال ابن رشد في
المقدمات: اختلف في الحج هل هو على الفور أو
التراخي فحكى ابن القصار عن مالك إنه عنده على
الفور ومسائله تدل على خلاف ذلك شهر ذكر
المسائل التي يؤخذ منها التراخي فينبغي نصوصهم
أن المذهب اختلف على قولين مشهورين هل وجوب
الحج على الفور أو التراخي والقائل بهذا القول
الثاني يرى التوسعة مغياة بما تقدم من خوف
الفوات وذلك يختلف باختلاف الناس بالقوة
والضعف وكثرة الأمراض وقلتها وأمن الطريق
وخوفها وحده سحنون بستين سنة قال ويفسق وترد
شهادته إذا زاد عليها قال في التوضيح: قال
صاحب التمهيد ولا أعلم أحدا قال يفسق وترد
شهادته غير سحنون انتهى. زاد ابن الحاج
والتادلي عن صاحب التمهيد وهذا توقيت لا يجب
إلا بتوقيف من يجب له التسليم قال وكل من قال
بالتراخي في هذه المسألة لا يجدي ذلك والحدود
في الشرع لا تؤخذ إلا ممن له أن يشرع وقد احتج
بعض الناس لسحنون بما ورد في الحديث المأثور
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أعمار
أمتي ما بين الستين إلى السبعين وقل من يجاوز
ذلك" 1 وهذا لا حجة فيه لأنه كلام خرج عن
الأغلب أيضا ولا ينبغي أن يقطع بتفسيق من صحت
عدالته ودينه وأمانته بمثل هذا من التأويل
انتهى. والحديث أخرجه الترمذي وابن ماجه وصححه
ابن حبان والحاكم وقال إنه على شرط مسلم وقال
صاحب الطراز إذا قلنا يجب على التراخي فله
تأخير ما لم يخف عجزه عنه كما يقول في
الكفارات ويلزم على هذا إذا اخترمته المنية أن
لا يعصى وهو قول بعض الشافعية وأنه متى يخاف
الفقر والضعف ولم يحج حتى مات أثم وعصى وغير
ممتنع أن يعلق الحكم على غلبة الظن كقوله
تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ
أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً
الْوَصِيَّةُ} [البقرة: 180] وإنما أراد إذا
غلب على ظنه إذا أخره وهو شاب مقتدر وفي نيته
فعله فمات على ذلك الحال كان ذلك عذرا طرأ على
ما يجوز له فعله فلا يأثم بذلك وقال بعضهم
يأثم بكل حال وإنما لصاحب له التأخير بشرط
السلامة كما لصاحب للمعلم وللزوج ضرب الزوجة
بشرط السلامة واختلف هؤلاء متى يعصى فقال
بعضهم يعصى
ـــــــ
1 رواه الترمذي في كتاب الدعوات باب 101. ابن
ماجة في كتاب الزهد باب 27.
(3/421)
__________
بتأخيره عن أول سنة القدرة إذ التأخير عنها
إنما جاز بشرط وقال بعضهم يعصى بتأخيره عن آخر
سنة لم يمكنه الحج بعدها انتهى. ورأى بعضهم
الأول والثاني عائدا على الشافعية كما صرح به
القرافي في ذخيرته ونحو هذا ذكر ابن الحاج عن
القاضي أبي بكر ونصه قال القاضي أبو بكر وإنما
يتعين وجوبه إذا غلب على ظن المكلف فواته
ويجري هذا المجرى إباحة التعزير للإمام ثم قال
فإذا أخر الرجل حجه عن ذلك الوقت الذي يغلب
على ظنه العجز عنه يعد عاصيا وإن اخترمته
المنية قبل أن يغلب على ظنه الفوات فليس بعاص
ومعنى هذا أن يبلغ المكلف المعترك فيغلب على
ظنه أنه إذا أخره في المستأنف توفي قبل أن يحج
أو تكون الطريق آمنة فيخاف فسادها أو يكون ذا
مال فيخال ذهاب ماله بدليل يظهر له على ذلك
كله فإن عجله قبل أن يغلب على ظنه ما ذكرناه
أو يبلغ المعترك فقد أدى فرضه وتعجيله نفله
كالصلاة التي تجب بأول الوقت وجوبا موسعا فإن
عجلها فقد أدى فرضه وتعجيلها نفل انتهى. فلما
ترجح عند المؤلف تجديده بخوف الفوت لابستين
سنة كما قال سحنون: جزم به فقال الخوف الفوات
لكن من خوف الفوات بلوغ الستين كما نقله ابن
الحاج عن القاضي أبي بكر في كلامه المتقدم حيث
قال ومعنى هذا أن يبلغ المكلف المعترك أي
معترك المنايا وهو من ستين إلى سبعين قال
الفاكهاني وتسميها العرب دقاقة الرقاب انتهى.
فحاصله أنه إذا خيف الفوات ببلوغ الستين معترك
المنايا أو بغيره تعين على الفور اتفاقا وإذا
لم يخف الفوات فقولان مشهوران نقل العراقيون
عن مالك أنه عل الفور أو أنه المذهب وشهره
القرافي وابن بزيزة ومصنف الإرشاد وشهر
الفاكهاني في كتاب الأقضية من الرسالة التراخي
وقال في كتاب الحج منها أنه ظاهر المذهب
والباجي وابن رشد والتلمساني وغيرهم من أنه
المذهب وأخذوه من مسائل فأخذه اللخمي من قول
مالك لا تخرج إليه المعتدة من الوفاة قال ابن
عرفة: وهو ضعيف لوجوب العدة فورا إجماعا
انتهى. وأخذه اللخمي أيضا وابن رشد من رواية
ابن نافع يؤخر لإذن الأبوين العام والعام
القابل فإن أذنا له وإلا خرج لأنه لو كان على
الفور تعجل عليهما لأن التأخير معصية قال في
التوضيح: وأجيب عن هذا بوجهين الأول أن هذا
معارض بمثله فقد نقل في النوادر رواية أخرى
بالإعجال عليها الثاني أن طاعة الأبوين لما
كانت واجبة على الفور باتفاق وكان الحج مختلفا
في فوريته قدم المتفق على فوريته ولا يلزم من
التأخير لواجب أقوى منه أن يكون الفور غير
واجب انتهى. وهذا الجواب الثاني لابن بشير
ورده ابن عرفة فقال يرد بقولها إذا بلغ الغلام
فله أن يذهب حيث شاء وسماع القرينين سفر الابن
البالغ بزوجته ولو إلى العراق وترك أبيه شيخا
كبيرا عاجزاعن نزع الشركة من رجله جائز فقبله
ابن رشد وحمله ابن محرز على عدم الحكم به لا
على عدم وجوبه بعيد جدا انتهى. ومسألة المدونة
التي أشار إليها هي في النكاح الأول في أوائله
وسماع القرينين في رسم الصلاة من كتاب المديان
وسيأتي إن شاء الله الكلام على هذه المسألة في
(3/422)
__________
موانع الحج بأتم من هذا وأخذه ابن رشد أيضا من
مسألة الزوجة قال في المقدمات روى أشهب أنه
سئل عمن حلف أن لاتخرج زوجته فأرادت الحج وهي
صرورة أنه يقضي عليه بذلك ولكن ما أدري ما
تعجيل الحنث حلف أمس وتقول أخرج اليوم ولعله
يؤخر ذلك سنة وفي كتاب ابن عبد الحكم أنه يؤخر
ذلك سنة وكذلك يقضي عليه وهذا يدل على أن الحج
عنده على التراخي إذ لو كان عنده على الفور
لما شك في تعجيل الحنث في أول العام بل القياس
أن يحنث في أول العام وإن كان الحج على
التراخي لأن لها أن تعجله وإن لم يجب تعجيله
انتهى. قال في التوضيح: وأجيب بأن مالكا فهم
عنها قصد الإضرار لقوله حلف أمس وتخرج اليوم
وإذا تأملت ذلك وجدت دلالته على الفور أقرب
انتهى. وله نحو ذلك في أواخر سماع أشهب من
كتاب الإيمان بالطلاق من البيان واستدل للقول
بالتراخي بأن فرض الحج نزل سنة ست وأخره النبي
صلى الله عليه وسلم إلى سنة عشر وأجيب بأن
الذي نزل في سنة ست قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا
الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:
196] وهو لا يقتضي الوجوب وإنما فرض الحج
بقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ
الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً}
[آل عمران: 97] وهذه نزلت سنة تسع قال سند:
وقيل سنة عشر وعلى الأول فلعل الوقت كان لا
يتسع بأن نزلت في آخر العام انتهى. بالمعنى
فتأمله والله أعلم.
تنبيهات: الأول: سوى المصنف رحمه الله هنا بين
القولين مع أنه قال في توضيحه الظاهر قول من
شهر الفور وفي كلام ابن الحاجب ميل إليه لأنه
ضعف حجة التراخي ولأن القول بالفور نقله
العراقيون عن مالك والقول بالتراخي إنما أخذ
من مسائل وليس الآخذ منها بقوي انتهى. وقدم في
مناسكه القول بالفورية وعطف عليه الثاني بقيل
فقال والحج واجب مرة على الفور وقيل على
التراخي وقال ابن عبد السلام إذا تأملت
المسائل المأخوذ منها التراخي وجدتها أقرب إلى
دلالتها على الفور انتهى. وقال ابن الفرس في
أحكام القرآن الذي عليه رؤساء المذاهب
والمنصوص عن مالك الفور انتهى. إذا علمت ذلك
فقد ظهر لك أن القول بالفور أرجح ويؤيد ذلك أن
كثيرا من الفروع التي يذكرها المصنف في
الاستطاعة مبنية على القول بالفور فكان ينبغي
للمؤلف أن يقتصر عليه والله أعلم.
الثاني: تقدم أن الحج على الفور على من بلغ
الستين وقد نقل ابن معلى والتادلي عن الباجي
وابن رشد الإجماع على أنه يتعين على الفور على
من بلغها أو كاد وفي حكاية الإجماع نظر ولم
أقف عليه في كلام ابن رشد وتقدم عن سحنون أنه
إذا بلغ الستين يفسق وترد شهادته وقول صاحب
التوضيح عن صاحب التمهيد إنه قال لا أعلم أحدا
قال ذلك غير سحنون.
الثالث: وعلى القول بالفور فلو أخره عن أول
العام عصى ولا يكون قضاء خلافا لابن القصار
نقل ذلك المصنف وابن عرفة وغيرهما وقال في
الشامل: فلو أخره عن أول عام
(3/423)
وصحتهما
بالإسلام
__________
فقضاء وقيل أداء انتهى. وهو مشكل لأنه يوهم أن
ما صدر به هو الراجح وليس كذلك إنما قال به
ابن القصار وفي كلام صاحب الطراز أنه إذا أخره
عن أول سنة إلا مكان لا يسمى قاضيا إجماعا
ونصه في الاحتجاج للقول بالتراخي ولأنه إذا
أخر الحج عن أول سنة الإمكان لا يسمى قاضيا
إجماعا وإن كان قد تعين عليه في تلك السنة
لوجب إذا أخره عنها أن يفوت أداؤه ويسمى قاضيا
كما تقول إذا أفسده إنه يقضيه وأجاب عن هذا
الاستدلال بقوله وأما اسم القضاء فلا عبرة به
لأنه إنما يستعمل فيما يختص وجوبه بوقت بعينه
وهذا لا يختص وإنما يجب وقت إمكانه في الجملة
فهو كوجوب رد المغصوب والعارية لما لم يختص
بوقت كان فعله أول وقت وجوبه كفعله فيما بعده
في تسميته أداء بخلاف الإحرام إذا أوقعته في
وقت معين فإنه قد تعين بوقوعه فإذا أفسد
فسمينا عزمته له قضاء انتهى. وكذلك حكى
الإجماع على ذلك ابن الحاج في مناسكه والله
أعلم. وأما على القول بالتراخي فتقدم عن ابن
الحاج وغيره أنه لو اخترمته المنية قبل أن
يغلب على ظنه الفوات لم يعص وإن أخره بعد أن
غلب على ظنه الفوات عصى.
الرابع: قال سند: إذا وجدت شرائط الحج وجب فإن
كان بينه وبين زمانه وقت واسع كان وجوبه موسعا
فمتى سعى فيه سعى في واجبه وإن مات قبل فوت
وقته سقط عنه وإن لم يخرج حتى فات الحج فقد
استقر الوجوب عليه فإن مات سقط الوجوب بموته
ولا يلزم ورثته ولا ماله إذا لم يوص به وبه
قال أبو حنيفة وقال الشافعي وابن حنبل: إن مات
قبل مضي زمن الحج فلا شيء عليه وإن مات بعد
فذلك في رأس ماله انتهى. الخامس: قال أشهب في
مسألة الزوجة: فإن أرادت الحج وهي صرورة أنه
يقضي عليه بذلك يفهم منه أنه لو لم تكن صرورة
أنه لا يقضي عليه وهو كذلك ولو نذرته وله
منعها قال في التوضيح: في كتاب النذور فيها
وللزوج منع زوجته إذا نذرت المشي كما يمنعها
من التطوع لأنها متعدية عليه انتهى. وانظر
النوادر والله أعلم.. ص: "وصحتهما بإسلام". ش:
يعني أن شرط صحة الحج والعمرة الإسلام فلا
يصحان من غير مسلم وهذا متفق عليه وفهم من
كلام المصنف هنا ومما ذكر في شروط وجوب الحج
أن الإسلام ليس شرطا في وجوبه بناء على أن
الكفار مخاطبون بفروع الشريعة وهذا هو المشهور
صرح بمشهوريته في الذخيرة ونقله عنه في
التوضيح وقال في التنقيح أجمعت الأمة على
خطابهم بالإيمان واختلفوا في خطابهم بالفروع
قال الباجي وظاهر مذهب مالك خطابهم بها خلافا
لجمهور الحنفية وأبي حامد
(3/424)
__________
الإسفراييني انتهى. وقال القرطبي في تفسيره في
سورة آل عمران الكفار عندنا مخاطبون بفروع
الشريعة ولا خلاف فيه في قول مالك انتهى.
والظاهر أن مراد القرطبي نفي الخلاف فيه في
قول مالك نفسه لا بين أصحابه فقد نقل جماعة
فيه الخلاف منهم ابن رشد كما سيأتي وقيل إن
الإسلام شرط في وجوب الحج بناء على أن الكفار
غير مخاطبين بفروع الشريعة قال ابن رشد في شرح
المسألة الثالثة من سماع عبد الملك من كتاب
الجامع: وهو الصحيح من الأقوال وقال في كتاب
الصلاة من المقدمات الظاهر من مذهب مالك أنه
يرى أن الكفار مخاطبون بشرائع الإسلام وحكى في
الزكاة والحج القولين من غير ترجيح وفي كلامه
في الصيام ميل إلى عدم الخطاب وكأنه والله
أعلم يرجح القول بعدم الخطاب من حيث الدليل
ويرجح القول إلى مسائل مذهب مالك والله أعلم.
وإذا قلنا إنه شرط في الوجوب فيكون شرطا في
الصحة أيضا إذ لم يقل أحد إن العبادة تصح من
الكفار وعلى هذا فما ذكره الشارح في الكبير
وفي عليه غيره من حكاية ثلاثة أقوال قول بأنه
شرط في الصحة وقول بأنه شرط في الوجوب وقول
بأنه شرط فيهما يوهم أن الثاني يقول بصحته من
الكافر ولم يقل به أحد وقد قال ابن عرفة في
باب الجمعة: ما هو شرط في الوجوب فهو شرط في
الأداء وإلا أجزأ الفعل قبل وجوبه عنه بعده
ولا ينقض بإجزاء الزكاة قبل الحول بيسير لأنه
بناء على أن ما قارب الشيء مثله وإلا أجزأت
قبله مطلقا اهـ ونص كلامه في الشامل وهل
الإسلام شرط في صحته ورجح أو في وجوبه أو
فيهما خلاف وممن تبعه الشيخ زروق في شرحه فقال
يعني أن الاسلام شرط في صحة الحج والعمرة وقيل
شرط في الوجوب وقيل شرط فيهما انتهى. وكان
الحامل للشيخ بهرام على ذلك أنه وقع في عبارة
أهل المذهب أنه شرط في الوجوب وفي عبارة بعضهم
أنه شرط في الصحة وفي عبارة بعضهم أنه شرط
فيهما فحملها على ظاهرها يظهر ذلك من كلامه في
الشرح الكبير ونصه وقد اختلف في الإسلام هل هو
شرط في الوجوب وإليه ذهب ابن يونس والجزولي
وغيرهما بناء على عدم الخطاب أو من شروط الصحة
وإليه ذهب ابن شاس وصاحب الذخيرة وهو ظاهر ما
في التبصرة وجعله عبد الوهاب في المعونة من
شروط الصحة والوجوب معا وحكى الأولى في
المقدمات ولم يرجح شيئا انتهى. فتأمله وفائدة
الخلاف في خطاب الكفار بفروع الشريعة إنما هي
في تضعيف العذاب فقط وذكر البساطي عن بعضهم أن
لذلك فائدة أخرى وهي وجوب الاستنابة عنه من
ماله إذا أسلم ومات في الحال على القول بأن
الإسلام ليس شرطا في الوجوب وعلى القول بصحة
النيابة في الحج وإنما تجزىء عن الفرض وأما
على القول بأنه شرط وجوب فلا يؤخذ من ماله
شيء.
قلت: وهذا لا يصح لأن الاستنابة عن الميت من
ماله إذا لم يوص بذلك لا تجب عندنا ولو كان
الميت مسلما مستطيعا ولا أعلم في ذلك خلافا
وقد اعترض المصنف على ابن
(3/425)
فيحرم ولي عن
رضيع وجرد قرب الحرم،
__________
الحاجب في كون كلامه يقتضي الخلاف في ذلك
وكذلك ابن عرفة كما سيأتي بيانه إن شاء الله
واعترض البساطي على ما ذكره بأن ذلك يلزم أيضا
على القول بأنه شرط في الوجوب لأنه لما أسلم
تعلق به الوجوب وإن كان لا يستطيع الحج فإنه
يستطيعه بالنيابة وهو ظاهر والأولى رده بما
ذكرناه والله أعلم. وفهم من كلام المصنف أيضا
أنه لا يشترط في صحته غير الإسلام وهو المعروف
وحكى ابن عرفة عن الباجي أن العقل شرط في صحته
أيضا واعترضه بأنه خلاف النص يعني نص المدونة
وجعل ابن الحاج الاستطاعة أيضا من شروط الصحة
ونقله عن التادلي وجعله في الشامل مقابل الأصح
وتبعه الشيخ زروق ونص كلام ابن الحاج في
مناسكه وشروط وجوبه ثلاثة البلوغ والعقل
والحرية ولأدائه شرط واحد وهو الاستطاعة ثم
قال ولا خلاف أن الاستطاعة شرط في أداء الحج
وإنما الخلاف في تعيينها انتهى. وهو كلام غير
ظاهر ولم أره لغيره أعني نفي الخلاف والله
أعلم. وقد بسطت الكلام على ذلك أيضا في شرح
المناسك فمن أحبه فليراجعه والله أعلم.
تنبيه: قال ابن جماعة في منسكه الكبير لو
اعتقد الصبي الكفر لم يكفر عند الشافعية فلو
حج أو اعتمر في تلك الحال فقال أبو القاسم
الروياني لا يصح وقال والده يصح بخلاف الصلاة
ومذهب الثلاثة أن ارتداده ارتداد فلا يصح منه
انتهى. والله أعلم. ص: "فيحرم ولي عن رضيع
وجرد قرب الحرم". ش: يعني فبسبب أنه لا يشترط
في صحة الحج والعمرة إلا الإسلام صح الإحرام
بالحج والعمرة عن الصبي ولو كان رضيعا لأنه
محكوم له بالإسلام وكذلك المجنون المطبق وهذا
هو مذهب المدونة وهو المشهور في المذهب وفي
الموازية لا يحج بالرضيع وأما ابن أربع سنين
أو خمس فنعم قال اللخمي: وعلى قوله هذا فلا
يحج بالمجنون المطبق وكأنه فهم كلام الموازية
على المنع ولذا قال ابن عرفة: وفي صحته يعني
الإحرام لغير المميز قولان لها وللخمي مع
رواية ابن وهب يحج بابن أربع لا برضيع وفي
المجنون قولان لها ولتخريج اللخمي على الصبي
وقول الباجي عدم العقل يمنع صحته خلاف النص
ونقله ابن عبد السلام عن بعض شارحي الموطأ من
المتأخرين تعمية أو قصور انتهى. و قال في
التوضيح: وحمل عياض قوله في الموازية: لا يحج
بالرضيع على كراهة ذلك لا منعه ابن عبد السلام
ووقع في كلام بعض شارحي الموطأ من المتأخرين
أن الحج لا يصح من المجنون نفلا ولا فرضا وهو
خلاف نص المدونة انتهى. كلام التوضيح وكلام
ابن عبد السلام المتقدم ذكره في شرح قول ابن
الحاجب وأما المميز والعبد فعن أنفسهما وإنما
نبهت على هذا
(3/426)
__________
لأن الشيخ في التوضيح نقله في غير هذا الموضع
وقال ابن عبد السلام في شرح قول ابن الحاجب
يجب بالإسلام إلى آخره بعد أن ذكر كلام
الموازية قال الباجي هو على الاستحباب انتهى.
فهذا لبعض من ابن عبد السلام عن الباجي أنه
حمل كلام الموازية على الاستحباب ويعني به أن
ترك الإحرام بالرضيع مستحب والله أعلم. والأصل
في الحج بالصغير ما رواه مالك في الموطأ أنه
صلى الله عليه وسلم مر بامرأة وهي في محفتها
فقيل لها هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم
فأخذت بضبعي صبي كان معها فقالت ألهذا حج يا
رسول الله فقال نعم ولك أجر رواه مسلم في
صحيحه قال في الإكمال ولا خلاف بين أئمة العلم
في جواز الحج بالصبيان إلا قوما من أهل البدع
منعوه ولا يلتفت لقولهم وفعل النبي صلى الله
عليه وسلم لذلك وإجماع الأئمة والصحابة يرد
قولهم وإنما الخلاف للعلماء هل ينعقد عليهم
حكم الحج وفائدة الخلاف إلزامهم من الفدية
والدم والجبر ما يلزم الكبير أم لا فأبو حنيفة
لا يلزمهم شيئا وإنما يتجنب عنده ما يتجنب
المحرم على طريق التعليم والتمرين وسائرهم
يلزمونه ذلك ويرون حكم الحج منعقدا عليه إذا
جعل له النبي صلى الله عليه وسلم حجا وأجمعوا
على أنه لا يجزيه إذا بلغ من الفريضة إلا فرقة
شذت فقالت يجزيه ولم يلتفت العلماء إلى قولها
ثم اختلفوا فيمن أحرم وهو صبي فبلغ قبل عمل
شيء من الحج فقال مالك: لا يرفض إحرامه ويتم
حجه ولا يجزئه عن حجة الإسلام قال وإن استأنف
الإحرام قبل الوقوف بعرفة أجزأه عن حجة
الإسلام وقيل يجزيه إن نوى بإحرامه الأول حجة
الإسلام وقال أبو حنيفة: يلزمه تجديد النية
ورفض الأولى وقال الشافعي: تجزئه ولا يحتاج
إلى تجديد نية وكذلك اختلفوا على هذا في العبد
يحرم ثم يعتق سواء واختلف عن مالك في الرضيع
ومن لا يفقه هل يحج به وحمل أصحابنا قوله:
بالمنع إنما هو على الاستحباب لتركه والكراهة
لفعله لا على التحريم انتهى. كلام صاحب
الإكمال وما ذكره صاحب الإكمال من الإجزاء إذا
أستأنف الإحرام أو نوى بإحرامه الأول الفرض
مخالف لنص المدونة وسيأتي الكلام على ذلك
مستوفى في شرح قول المصنف وشرط وجوبه كوقوعه
فرضا حرية وتكليف وإذا صح الإحرام بالحج
والعمرة من الصبي ولو كان رضيعا ومن المجنون
فيحرم عنها وليهما قرب الحرم وتجديد كل منهما
ينوي الإحرام فقول المصنف قرب الحرم متعلق
بقوله فيحرم والمعنى فيحرم الولي عن الرضيع
قرب الحرم وذلك بأن ينوي أنه أدخله في حرمة
الإحرام وإذا أراد الإحرام به جرده ولو قدم
قوله: قرب الحرم على قوله: وجرد لكان أحسن
وأبين فإن كلامه يوهم أنه متعلق بجرد بل هو
المتبادر فيفهم منه أن الولي يحرم عنه من
الميقات تجريده إلى قرب الحرم وهذا مشكل فإن
مذهب المدونة أنه بمجرد إحرامه يجنب ما يجنبه
الكبير وذلك أن غيرالبالغ ثلاثة أقسام مناهز
ورضيع وبين ذلك ويجوز للولي أن يدخل الجميع
بغير إحرام وأن يحرم بهم من الميقات أو بعده
أو قرب الحرم لكن الأولى أن يؤخر إحرام الرضيع
ومن فوقه ممن لا يجتنب ما ينهى عنه إلى قرب
الحرم وأن يحرم المناهز من
(3/427)
__________
الميقات قال في الأم: قال مالك: والصبيان في
ذلك مختلفون منهم الكبير قد ناهز ومنهم الصغير
ابن سبع سنين وثمان سنين الذي لا يتجنب ما
يؤمر به فلذلك يقرب من الحرم ثم يحرم والذي قد
ناهز فمن الميقات لأنه يدع ما يؤمر بتركه قال
مالك: والصغير الذي لا يتكلم الذي إذا جرده
أبوه يريد بتجريده الإحرام فهو محرم ويجنبه ما
يجتنب الكبير انتهى. وقال ابن أبي زمنين في
اختصار المدونة قال مالك: ومن أراد أن يحج
صبيا صغيرا لا يتكلم فلا يلبي عنه ويجرده إذا
دنى من الحرم وإذا جرده كان محرما ويجنبه ما
يجتنب الكبير ومن كان قد ناهز ويترك ما يؤمر
بتركه فهذا يحرم من الميقات ومن كان منهم ابن
ثمان سنين أو سبع فلا يجتنب ما يؤمر باجتنابه
فهذا أيضا يقرب من الحرم ويجنب ما يجتنب
الكبير انتهى. وقوله ناهز أي قارب البلوغ قال
أبو الحسن الصغير: والمناهز بكسر الهاء
المراهق انتهى. وقال سند قال مالك: والصبيان
في هذا مختلفون منهم الكبير وقد ناهز ومنهم
الصغير ابن ثمان سنين وسبع لا يجتنب ما يؤمر
به فهذا يقرب من الحرم ثم يحرم والذي قد ناهز
فمن الميقات لأنه يدع ما يؤمر بتركه وهذا بين
لأن من لا ينزجر ويقع في محظورات الإحرام لا
يبعد به المسافة بخلاف من ينزجر وجاز تأخير
إحرامه لأن التأخير إنما يؤمر به من يمر
بالميقات وهو مريد للنسك وهذا يختص بمن هو من
أهل الوجوب وذلك البالغ المكلف والصبي ليس من
أهل الوجوب سيما الصغير فإنه لا يتحقق منه
إرادة الإجرام وحكم المجنون في ذلك حكم الصغير
الذي لا تمييز له في جميع أموره قاله ابن
القاسم في الكتاب وأسقط البراذعي ذكره في
تهذيبه وذلك خلل لأنه قد مر حكم المغمى عليه
يحرم به غيره أنه لا يجزئه والصبي يجزئه فلا
بد من ذكر الجنون ليعلم من أي البابين هو وهو
بالصغير أشبه لأن غفلته دائمة كغفلة الصغير
والإغماء مرض يرتقب زواله بالقرب انتهى.
قلت: ولعل مسألة المجنون سقطت من نسخته من
تهذيب البراذعي وإلا فهي موجودة فيما رأيته من
نسخ التهذيب وقال في مختصر الواضحة الصبيان
مختلفون فمن كان كبيرا قد عقل وعرف ما يؤمر به
وينهى عنه فإن أهله يحرمون به من الميقات ثم
قال ومن كان منهم صغيرا لا يتكلم أو كان قد
تكلم إلا أنه لا يعرف ما يؤمر به وينهى عنه
فإن أهله لا يحرمون به من الميقات ولكن يؤخرون
به إلى قرب الحرم ثم يحرمون به ويجردونه من
مخيط الثياب ويكشفون رأسه ويجنبونه ما يجتنب
المحرم من الطيب وغيره إلا أنهم لا يلبون عنه
انتهى. و قال في التوضيح: في شرح قول ابن
الحاجب فيحرم الولي عن الطفل والمجنون بتجريده
ينوي الإحرام لا أن يلبي عنه لا يقال ذكره
التجريد مخالف لقوله في المدونة وإذا حج
بالصبي أبوه وهو لا يجتنب ما يؤمر به مثل ابن
سبع سنين أو ثمانية فلا يجرد حتى يدنو من
الحرم لأنه إنما قال إذا حج ولا دلالة في ذلك
على أنه أحرم به قبل ذلك وهو كقول الجلاب لا
بأس أن يؤخر إحرام الصبي عن الميقات إلى قرب
الحرم انتهى.
(3/428)
__________
قلت: وهكذا لفظ التهذيب وقد تقدم ذلك في لفظ
الأم صريحا قال ابن فرحون في مناسكه: للولي أن
يحج بالصبي ويلبي الطفل الذي يتكلم والذي لا
يتكلم لا يلبي عنه وكيفية إحرام الصبي أن ينوي
الولي إدخاله في الإحرام ولا يلزمه أن يدخله
عند الميقات بل له أن يؤخر إحرامه حتى يدنو من
الحرم وإذا نوى إدخاله في الإحرام جرده من
المخيط فيعقد إحرامه بذلك الفعل انتهى.
تنبيهات: الأول: علم من هذه النصوص أن الصبي
يؤخر إحرامه إلى قرب الحرم ولم أر من قال إنه
يحرم به من الميقات ويؤخر تجريده إلى قرب
الحرم إلا ما وقع في كلام شارح العمدة وابن
بشير في التنبيه وكذلك ما وقع في عبارة ابن
عبد السلام فإنه يوهم ذلك لأنه حكى لفظ
المدونة السابق أعني قوله: وإذا حج بالصبي
أبوه إلى آخره بلفظ قال في المدونة وإذا أحرم
بالصبي أبوه وهو لا يجتنب ما يؤمر به مثل ابن
سبع سنين وثمانية فلا يجرده حتى يدنو من الحرم
قال ابن عبد السلام: فقد يقال إنه يخرج من هذه
أن الإحرام ينعقد بالنية دون أن ينضم إليها
قول ولا فعل فهو خلاف ما يقول المؤلف وغيره
لكن المؤلف جعل من الأفعال التي ينعقد بها
الإحرام مع النية وتقوم مقام التجرد التوجه
على الطريق فبذلك ينعقد إحرام الصبي الصغير
الذي لا يجرد من الميقات انتهى.
قلت: وما ذكره عن المدونة أعني قوله: "وإذا
أحرم بالصبي" لم أر من ذكره بهذا اللفظ إلا
ابن المنير في اختصاره لتهذيب البراذعي ولم
أره في شيء من نسخ التهذيب بهذا اللفظ والذي
رأيته في الأم وفي نسخ التهذيب وفي اختصار ابن
أبي زمنين وابن يونس والشيخ أبي محمد بن أبي
زيد وصاحب الطراز إنما هو بلفظ وإذا حج بالصبي
أبوه كما تقدم وهو الصواب وقد تقدم في نص
المدونة أنه إذا أحرم به يجنبه ما يجتنب
الكبير ونص كلام شارح العمدة في إحرام الصبي
ولا يجاوز الميقات إلا محرما لكن لا يجرد
الطفل الصغير جدا من الميقات للمشقة وخوف
الإضرار به حتى يقارب الحرم ويفدى عنه انتهى.
ونص كلام ابن بشير في التنبيه ومتى يجرد الصبي
من المخيط أما الكبير فكالبالغ وأما الصغير
فإذا خيف عليه أخر تجريده وأفدى عنه انتهى.
فكلامهما أيضا يوهم أنه لا يؤخر إحرامه وهو
خلاف مذهب المدونة كما تقدم وجعل البساطي ما
ذكرته في حل كلام المصنف احتمالا ونقله عن
الشارح ورده وقد علمت أن ما حملنا عليه كلام
المصنف وذكره الشارح احتمالا هو المتعين ونص
كلام البساطي وهذا التجريد مخالف لتجريد
المحرم فإنه إنما يكون قرب الحرم وهو معمول
مجرد وأجاز الشارح أن يكون قيدا في يحرم وجرد
معا ولكن قوله في المدونة: "ولا يجرد إلا قرب
الحرم" دليل على ما قلنا.
فإن قلت: قد قال في الجلاب ولا بأس أن يؤخر
إحرام الصبي عن الميقات إلى قرب
(3/429)
__________
الحرم. قلت: يحمل على تجريده والله أعلم. فعلى
المعنى الأول يؤخر الفعل عن النية وعلى الثاني
لا يؤخر انتهى. فما قاله مخالف لما تقدم فإن
كان وقف على كلام التوضيح وقصد خلافه فالصواب
مع صاحب التوضيح وإن كان لم يقف عليه فهو
معذور وما ذكره عن الشارح هو المتعين وإنما
قاله في الشرح الكبير فقط ونصه وانظر قوله:
قرب الحرم هل يتعلق بقوله فيحرم وبقوله جرد
معا حتى تكون النية من الولي مقرونة بتجريد
الصبي لما علمت أن الإحرام لا ينعقد إلا بنية
مقرونة بقول أو فعل أو يغتفر في حق الصغير ما
لا يغتفر في حق غيره فينوي عنه عند الميقات
ويجرد قرب الحرم وهو ظاهر عبارة الشيخ انتهى.
وأما الصغير والوسط فلم يعرج على ذلك بل في
كلامه في الصغير ما ينافيه وهو أنه قال في شرح
قوله: ومطبق أي فيحرم عنه الولي ويجرده وليس
كالصبي في تأخير تجريده انتهى. ونحوه كلام
الأقفهسي في شرحه وقد تقدم أن حكم المجنون
وحكم الصبي الذي لا يميز وأنه يؤخر إحرامه
وعبارة الشامل أحسن عبارته في الشرح ونصها نوى
ولي عن كرضيع وجرده قرب الحرم انتهى. ولما
اضطربت هذه النقول وغيرها على بعض من عاصر
مشايخنا جعل في المسألة قولين فقال في منسكه
ويجرده قرب الحرم وهل يحرم به عند الميقات أو
عند تجريده قولان انتهى. والله أعلم.
الثاني: علم مما ذكرناه أن إحرام الولي عن
الصبي ليس خاصا بالرضيع وكذا تأخير الإحرام
لقرب الحرم ليس خاصا به كما قد يوهمه كلام
المصنف بل ذلك عام في غير المميز ولكنه رحمه
الله خص الرضيع بالذكر لينبه على أن المشهور
صحة حجه وجوازه خلافا لما ذكره اللخمي عن
الموازية من منع الحج به ولو أتى بالكاف فقال
عن كرضيع لكان أحسن وقال ابن عبد البر في
التمهيد بعد أن ذكر جواز الحج بالصبيان عن
مالك والشافعي وفقهاء الحجاز والثوري وأبي
حنيفة والكوفيين والأوزاعي والليث وغيرهم من
أهل مصر والشام وكل من ذكرناه يستحب الحج
بالصبيان ويأمر به ويستحسنه وعلى ذلك جمهور
العلماء في كل قرن وقالت طائفة لا يحج
بالصبيان وهو قول لا يشتغل به ولا يعرج عليه
انتهى. وقال أبو مهدي اتفقوا على أنه يستحب
لكافل الصبي تمرينه على العبادات حتى تصير له
كالعادات واختلفوا هل يجب ذلك على كافله
واختلف القائلون بالوجوب في وقته ولا خلاف بين
العلماء أن الصبي يثاب على ما يفعله من
الطاعات ويعفى عما يجترحه من السيئات وإن عمده
كالخطأ وقال في مختصر الواضحة ولا تجب فريضة
الحج على الصغير والصغيرة حتى يبلغ الصغير
الحلم والصغيرة الحيض ولكن لا بأس أن يحج بهما
وهو مستحب عمل به رسول الله صلى الله عليه
وسلم انتهى. ثم ذكر عن طلحة بن مصرف قال كان
من أخلاق المسلمين أن يحجوا بأبنائهم
ويعرضونهم لله وعن ابن عباس أيما صبي حج به
أهله أجزأ ذلك عنه وإن أدرك فعليه الحج انتهى.
وهذا الحديث في أبي داود ونصه قال عليه الصلاة
والسلام: "أيما صبي حج به أهله فمات أجزأ عنه
فإن أدرك فعليه الحج وأيما عبد حج به أهله
أجزأ
(3/430)
__________
عنه فإن عتق فعليه الحج"1 انتهى. من الذخيرة
ذكره في باب شروط الحج والله أعلم.
الثالث قال في التوضيح: في شرح كلام ابن
الحاجب السابق وحاصله أنه يدخلهما أي الصبي
والمجنون في الإحرام بالتجريد والتجريد فعل
فيكون كلامه هنا موافقا لما سبق له وأن
الإحرام لا بد في انعقاده من قول وفعل لأن
التجريد فعل انتهى. قلت: وهذا في الذكر وفي
الأنثى يكون الفعل كشف وجهها وكفيها والتوجه
على الطريق والله أعلم.
الرابع: علم من قول المصنف وجرد أن الرضيع
يجرد كما تقدم في لفظ المدونة على اختصار ابن
أبي زمنين وقال البراذعي أيضا وإذا كان لا
يتكلم فلا يلبي عنه أبوه وإذا جرده أبوه يريد
بتجريده الإحرام فهو محرم ويجنبه ما يجنب
الكبير انتهى. وقال القاضي سند.
مسألة: وسئل عن صغير لا يتكلم حج به أبوه لا
يلبي عنه أبوه في قول مالك قال ولكنه يجرده
انتهى. وقال ابن عرفة إثر كلامه المتقدم: وعلى
صحته أي صحة إحرام غير المميز والمجنون يحرم
عنهما وليهما بتجريدهما ناويه ولا يلبي عنهما
انتهى. ولا شك أن غير المميز في كلامه شامل له
وللرضيع مقابلته له بقول الموازية لا يحرم
بالرضيع والله أعلم. وقال ابن الجلاب لا يجرد
الرضيع ونحوه للإحرام وإنما يجرد المتحرك من
الصغار وقبله شارحاه التلمساني والقرافي قال
القرافي: لا يجرد غير المميز لأنه لا يتحقق
منه إرادة الإحرام والمجنون مثله في جميع
أموره انتهى. وكذلك قال الشيخ أبو الحسن: لا
يجرد الرضيع لأن في تجريده تضييعا له لأنه لا
يمسك ما يجعل عليه من الثياب انتهى. ونحوه في
منسك ابن الحاج وهذا كله مخالف لما تقدم عن
المدونة وغيرها فيتحصل في ذلك قولان والله
أعلم.
يشمل قول المصنف ولي الأب والوصي من قبله أو
قبل القاضي ويتنزل منزلة الولي كل من كان
الصبي في كفالته ولو بغير وصية من قريب أو
غيره قاله في الطراز.
السادس: سيأتي أن سفر الولي بالصبي والكافل له
على وجهين جائز وممنوع ففي الوجه الجائز له أن
يحرم به لأنها مصلحة دينية ولا كبير ضرر فيها
على الصبي وكذلك له أن يحرم به لأن التعري
إنما كان قبل فإذا وصل إلى الميقات كان إحرامه
أولى وأفضل وزيادة النفقة على وليه انتهى.
وكلامه في الطراز يقتضي أنه منصوص عليه في
الموازية فإنه قال فإن أحرم به في الوجه
الممنوع فأصاب صيدا ففي الموازية أن ذلك في
مال الأب انتهى. فدل كلامه على أن إحرامه
ينعقد وإلا لما لزمه جزاء الصيد والله أعلم.
السابع تقدم في التنبيه الثاني عن ابن عبد
البر في التمهيد الأمر بالحج بالصبيان والأمر
باستحسانه واستحبابه وأن جمهور العلماء على
ذلك وقال فيه أيضا غير مستنكر أن يكتب
ـــــــ
1 رواه الترمذي في كتاب الحج باب 83.أبو داود
في كتاب المناسك باب 7. ابن ماجة في كتاب
المناسك باب 11.
(3/431)
__________
للصبي درجة وحسنة في الآخرة بصلاته وزكاته
وحجه وسائر أعمال البر التي يعملها ويؤديها
على سنتها تفضلا من الله كما تفضل على الميت
بأن يؤجر بصدقة الحي عنه ألا ترى أنهم أجمعوا
على أمر الصبي بالصلاة إذا عقلها وصلى صلى
الله عليه وسلم بأنس واليتيم وأكثر السلف على
إيجاب الزكاة في أموال اليتامى ويستحيل أن لا
يؤجر على ذلك وكذلك وصاياهم وللذي يقوم بذلك
عنهم أجر لعمري كما للذي يحج بهم أجر فضلا من
الله ونعمة وقد روي عن عمر أنه قال يكتب
للصغير حسناته ولا تكتب عليه سيئاته ولا علمت
له مخالفا ممن يجب اتباع قوله انتهى. وفي
الإكمال قال كثير من العلماء إن الصبي يثاب
على طاعته وتكتب له حسناته دون سيئاته وروي
ذلك عن عمر رضي الله عنه واختلف هل هم مخاطبون
على جهة الندب أو غير مخاطبين وإنما يخاطب
أولياؤهم بحملهم على آداب الشريعة وتمرينهم
عليها وأخذهم بأحكامها في أنفسهم وأموالهم
وهذا هو الصحيح ولا يبعد مع هذا أن يتفضل الله
بإدخار ثواب ما عملوه من ذلك لهم انتهى. وقال
في أوائل المقدمات للصبي حالان لا يعقل فيها
معنى القربة فهو فيها كالبهيمة والمجنون ليس
بمخاطب بعبادة ولا مندوب إلى فعل طاعة وحال
يعقل فيها معنى القربة فاختلف هل هو فيها
مندوب إلى فعل طاعة كالصلاة والصيام والوصية
عند الممات وما أشبه ذلك فقيل إنه مندوب إليه
وقيل إنه ليس بمندوب إلى فعل شيء وإن وليه هو
المخاطب بتعليمه والمأجور على ذلك والصواب
عندي أنهما جميعا مندوبان إلى ذلك مأجوران
عليه قال صلى الله عليه وسلم للمرأة: "ولك
أجر" الحديث المتقدم والله أعلم. وقال ابن
جماعة وعند الأربعة أن الصبي يثاب على طاعته
وتكتب له حسناته كان مميزا أو غير مميز ويروى
ذلك عن عمر رضي الله عنه ونقل بعض العلماء
الإجماع على ذلك ويدل له ما قدمناه في باب
الفضائل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
"جهاد الكبير والصغير الحج والعمرة" وحديث
المرأة التي رفعت صبيا انتهى. من منسكه الكبير
وسيأتي الكلام على ما إذا بلغ الصبي بعد
إحرامه عند قول المؤلف: "وشرط وجوبه" إلى
آخره.
الثامن: قال في المدونة: ولا بأس أن يحرم
بالأصاغر الذكور وفي أرجلهم الخلاخل وفي
أيديهم الأسورة وكره مالك للصبيان الذكور حلي
الذهب انتهى. والكلام على هذا من وجهين الأول
إباحة لبس الحلي لهم وهذا محله عند قول المصنف
وحرم استعمال ذكر محلى والثاني كونه لم يأمرهم
بنزعه عند الإحرام فقال في الطراز لا يختلف
المذهب أن الصبي منع من لباس المخيط ويجتنب ما
يجتنب الكبير وإنما خرج قوله في ذلك مخرج قوله
في مختصر ما ليس بالمختصر لا بأس أن يلبس
المحرم الخاتم فلم يجعله من جنس المخيط ولا في
معناه ومن منع الخاتم للرجال منعه أيضا للصبي
الخلخالين والسوارين انتهى. وقول ابن عرفة وفي
كتاب محمد لا بأس أن يترك عليه مثل القلادة
والسوارين ثم ذكر مسألة المدونة وكلام الشيوخ
في إباحة المحلى لهم ثم قال التونسي يشغل
السوار والخلخال محله خلاف قوله: ينزع الكبير
في إحرامه ما بعنقه من كتب انتهى. وقد رأيت
كلام التونسي في تعليقه فعلم
(3/432)
ومطبق لا مغمى
__________
أن كلامه في المدونة هنا مخالف لمشهور مذهبه
وكذلك كلام الموازية الذي نقله ابن عرفة والله
أعلم. ص: "ومطبق". ش: هو صفة لمحذوف أي وكذا
يحرم الولي عن المجنون المطبق قرب الحرم
ويجرده كما قال في المدونة والمجنون في جميع
أموره كالصبي انتهى. وقال الشارح في الصغير
قوله: ومطبق أي فيحرم عنه الولي ويجرده وليس
كالصبي في تأخير تجريده انتهى. وتبعه الأقفهسي
وهو مخالف لما في المدونة وغيرها ولما قاله
ابن الحاجب والمصنف في التوضيح وغيرهما.
تنبيهان: الأول: قال الشارح والمطبق هو الذي
لا يميز بين السماء والأرض ولا بين الإنسان
والفرس انتهى. قلت: ولا يختص بمن هو في هذه
الحالة والأحسن في تفسيره أن يقال هو الذي لا
يفهم الخطاب ولا يحسن رد الجواب ولو كان يميز
بين الإنسان والفرس كما يأتي في الصبي.
الثاني: قال الشارح في الكبير: واحترز بقوله
ومطبق مما إذا كان يجن أحيانا ويفيق أحيانا
فإنه ينتظر به حال إفاقته فإن علم بالعادة أنه
لا يفيق حتى ينقضي الحج صار كالأول انتهى.
ونحوه في الشامل ونصه والمطبق ومن علم أنه لا
يفيق قبل الفوات كالصغير على المشهور لا
غيرهما كالمغمى انتهى. ونحوه للبساطي وهو ظاهر
والله أعلم. ص: "لا مغمى يعني أن المغمى عليه
لا يحرم عنه وليه يريد ولا غيره فلو أحرم عند
أحد لم يصح إحرامه عنه كما قاله الشارح وغيره
وقد تقدم الفرق بينه وبين المجنون المطبق أن
الإغماء مرض يترقب زواله بالقرب غالبا بخلاف
المجنون فإنه شبيه بالصبي لدوامه وصح الإحرام
عن الصبي لأنه يتبع غيره في أصل الدين والله
أعلم. وسواء أرادوا أن يحرموا عن المغمى عليه
بفريضة أو نافلة وسواء خافوا أن يفوته الحج أم
لا كما يفهم ذلك من كلام صاحب الطراز وكما
يفهم من كلام المدونة قال البراذعي ومن أتى
الميقات وهو مغمى عليه فأحرم عنه أصحابه بحجة
أو عمرة أو قران وتمادوا فإن أفاق وأحرم بمثل
ما أحرموا عنه أو بغيره ثم أدرك فوقف بعرفة مع
الناس أو بعدهم قبل طلوع الفجر من ليلة النحر
أجزأه حجه وأرجو أن لا يكون عليه دم لترك
الميقات وأن يكون معذورا وليس ما أحرموا عنه
أصحابه بشيء وإنما الإحرام ما أحرم به هو
وقوله وإن لم يفق حتى طلع الفجر من ليلة النحر
وقد وقف به أصحابه حجة انتهى. فعلم من
(3/433)
والمميز بإذنه
وإلا فله تحليله ،
__________
هذا أنه لا يصح أن يحرموا عنه لا بفريضة ولا
نافلة أما الفريضة فواضح وأما النافلة فلا
لأنه ذكر العمرة وهي نافلة ولقوله وإن لم يفق
حتى طلع الفجر لم يجزه حجه ولم يقل ويكمل حجه
ويجزىء نافلة فتأمله قال ابن يونس في شرح كلام
المدونة المتقدم: لأن الإحرام هو الاعتقاد
بالقلب للدخول في الحج والعمرة والاعتقادات
النيات ولا ينوب فيها أحد عن أحد والمغمى عليه
لا تصح منه نية ولا تنعقد عليه عبادة لأنه غير
مخاطب بها في حال إغمائه ولا خلاف في ذلك
انتهى. إذا علم ذلك فمن أغمي عليه عند الإحرام
فينتظر فإن لم يفق من إغمائه حتى خرج الوقت
فقد فاته الحج وإن أفاق من إغمائه قبل فوات
وقت الوقوف فلا يخلو إما أن يفيق بعرفة أو
يفيق قبل يوم عرفة فإن أفاق بعرفة أحرم منها
حينئذ فإن كان ذلك بعد الزوال فإنه يلبي ثم
يقطع مكانه على المشهور وقيل يلبي حتى يرمي
جمرة العقبة كما سيأتي وإن أفاق قبل يوم عرفة
قال سند: فإن أمكنه أن يرجع إلى الميقات
فالأحسن له أن يرجع فإن لم يفعل وأحرم من
موضعه أجزأه وهل عليه دم قال ابن القاسم: لا
أحفظ فيه عن مالك شيئا وأرجو ألا يكون عليه
شيء وهو بين فإن دم مجاوزة الميقات إنما يثبت
في حق من يجاوزه مريدا للحج أو للعمرة أو
لدخول مكة على خلاف في الأخير وهذا لم يكن عند
الميقات مريدا أصلا فأشبه المجنون المطبق إذا
جاوز به أهله الميقات ثم عوفي فأفاق وأحرم من
موضعه لا يختلف فيه أنه لا دم عليه انتهى.
وهذا كله فيمن أغمي عليه قبل الإحرام وأما من
أغمي عليه بعد الإحرام فسيأتي الكلام عليه إن
شاء الله عند قول المنصف أو بإغماء قبل الزوال
فتحصل من هذا أن للمغمى عليه قبل الإحرام أربع
حالات الأولى أن لا يفيق أصلا من أول الحج إلى
كماله الثانية أن يفيق في أثناء الحج بعد وقت
الوقوف فهذا فقد فاته الحج في الصورتين
الثالثة أن يفيق بعرفة فهذا محرم حينئذ ويلبي
إلى الزوال إن كانت إفاقته قبل الزوال وإن
كانت إفاقته بعد الزوال فيلبي ثم يقطع في حينه
على المشهور الرابعة أن يفيق قبل عرفة فحكم
هذا ما قاله سند من أنه إن أمكنه أن يرجع إلى
الميقات فيحرم منه فالأحسن له أن يرجع فإن لم
يفعل وأحرم من موضعه أجزاه ولا دم عليه والله
أعلم. ص: "والمميز بإذنه وإلا فله تحليله". ش:
يعني أن الصبي المميز يحرم عن نفسه لكن بإذن
وليه فإن أحرم بغير إذن وليه انعقد إحرامه
وكان للولي تحليله منه وله إجازة فعله وإبقاؤه
على إحرامه بحسب ما يرى من المصلحة فإن كان
يرتجي بلوغه فالأولى تحليله ليحرم بالفرض بعد
بلوغه فإن أحرم بإذنه لم يكن له تحليله قال
الشارح وانظر إذا أراد الرجوع بعد الإذن وقبل
الإحرام هل له ذلك كما في العبد أم لا انتهى.
(3/434)
ولا قضاء بخلاف
العبد،
__________
قلت الظاهر أن له الرجوع كالعبد بل هو أولى لا
سيما إذا كان لمصلحة.
تنبيهات: الأول: فهم من هذا أن إحرامه بغير
إذن وليه منعقد وأن تحليله جائز أما الأول
فقال سند الصبي يصح حجه فإن كان مميزا أذن له
وليه فأحرم وصح إحرامه وإن كان صغيرا أحرم عنه
وليه فيصير الصبي محرما بما ينويه وليه من حج
أو عمرة فإن كان الصبي مميزا فأحرم من غير إذن
وليه فهل ينعقد إحرامه قال مالك في العتبية
والموازية في الرجل المولى عليه يحرم بالحج:
إن ذلك من السفه لا يمضي وظاهر هذا أنه لا
ينعقد وقال أشهب في الموازية: إذا أحرم العبد
فحلله سيده ثم أعتق أو حلل الصبي وليه ثم بلغ
فليحرما الآن بالحج ويجزيهما عن حجة الإسلام
وهذا يقتضي انعقاد إحرامه وإنما للولي النظر
في إمضائه ورده وهو الأظهر لأنه تنعقد صلاته
واختلف في هذا الفرع أصحاب الشافعي انتهى. ولم
يفهم الشيوخ رواية العتبية كما فهمها القاضي
سند كما سيأتي الآن وأما الثاني وهو جواز
التحليل فقال ابن عبد السلام تأمل هل يجوز له
أن يحلله وأي فائدة في تحليل الصبي إذا حصل
هناك بعد أن أحرم إلا أن يخشى من تماديه على
الإحرام أن يدخل على نفسه ما يوجب عليه فدية
أو جزاء فإن صح هذا وجب أن يلحق به السفيه
البالغ انتهى. وقال ابن عرفة: للسيد تحليل ذي
رق أحرم بغير إذنه وشك ابن عبد السلام في جواز
تحليل الصبي والكبير السفيه قصور لقبول الصقلي
والشيخ قول أشهب لو عتق أو بلغ عقب تحليله
سيده أو وليه فأحرم لفرضه أجزأه وسماع ابن
القاسم إحرام المولى عليه سفه لا يمضي وقبله
الشيخ وتعليله ابن رشد بأنه قبل انتهاء الحج
وميقاته بعيد انتهى. والله أعلم.
الثاني: قال البساطي والمميز هو الذي عقل
الصلاة والصيام وقال ابن جماعة الشافعي في
منسكه الكبير حقيقة المميز أنه هو الذي يفهم
الخطاب ويحسن رد الجواب ومقاصد الكلام ولا
ينضبط بسن مخصوص بل يختلف باختلاف الأفهام
انتهى. وهو كلام حسن ونحوه لابن فرحون.
الثالث: لم يبين المصنف من أين يحرم لأن الأصل
في الإحرام أن يكون من الميقات وقد تقدم في
كلام المدونة أنه يحرم من الميقات.
الرابع: هل ينعقد إحرام المميز بإحرام وليه
عنه كما في غبر المميز لم أر فيه نصا
وللشافعية قولان والأصح عندهم الانعقاد
والجاري على المذهب أنه لا ينعقد لأن القاعدة
أن كل فعل يمكن الصبي فعله فلا يفعله الولي
عنه ولا شك أن المميز يمكنه مباشرة الإحرام
فلا يصح أن يفعله الولي عنه فتأمله والله
أعلم. ص: "ولا قضاء بخلاف العبد". ش: يعني أن
(3/435)
وأمره مقدوره
وإلا ناب عنه إن قبلها كطواف لا كتلبية وركوع
،
__________
الصبي إذا أحرم بغير إذن وليه فحلله الولي من
ذلك الإحرام فلا يجب عليه قضاؤه ولا قبل
البلوغ ولا بعده بخلاف العبد فإن عليه قضاء ما
حلله منه سيده في حال الرق إن أذن له السيد في
القضاء وإن لم يأذن فإذا عتق قال في الشامل:
ويقدم حجة القضاء على الفريضة ونصه وعليه
القضاء إذا عتق على المشهور بخلاف الصبي وقدمه
على الفرض خلافا فالأشهب انتهى. وقوله خلافا
فالأشهب راجع لقوله وعليه القضاء لا لقوله
وقدمه وتبع صاحب الشامل في الجزم بتقديم حجة
القضاء على الفرض الشيخ زروق في شرح الإرشاد
فقال وعليه القضاء إذا عتق على المشهور بخلاف
الصبي ويقدمه على الفرض خلافا فالأشهب انتهى.
وكذا جزم ابن الأقطيع في منسكه بأنه يقدم حجة
القضاء على الفرض وهو ظاهر كلام التوضيح
وسيأتي إن شاء الله مزيد بيان لذلك في فصل
الموانع وما ذكره المصنف من وجوب القضاء على
العبد هو قول ابن القاسم وقال أشهب وسحنون: لا
قضاء عليه كالصبي واختاره ابن المواز والتونسي
اللخمي الأول هو المشهور والفرق بين الصبي
والعبد أن الصبي ليس من أهل التكليف بخلاف
العبد والله أعلم. ص: "وأمره مقدوره وإلا ناب
عنه إن قبلها كطواف لا كتلبية وركوع". ش: يعني
أن الولي إذا أحرم عن الصبي فإنه يأمره أن
يأتي من أفعال الحج بما يقدر على فعله وما لا
يقدر على فعله فإنه ينوب عنه في فعله إن قبل
ذلك الفعل النيابة كالطواف والسعي والرمي وإن
لم يقبل النيابة فإنه يسقط عن الصبي كالتلبية
والركوع للإحرام والركوع للطواف وهذا نحو قوله
في التوضيح.
قاعدة: إن كل ما يمكن الصبي فعله بنفسه وما لا
يمكن فعله فإن قبل النيابة فعل عنه وإلا سقط
انتهى. وفيه نظر من وجهه كون فعل الطواف وما
أشبهه يقبل النيابة فإن حقيقة النيابة أن يأتي
النائب بالفعل دون المنوب عنه قال في الصحاح
ناب عني فلان أي قام مقامي وليس الأمر في
الطواف والسعي كذلك بل لا بد أن يطاف به ويسعى
محمولا والأولى أن يقال ضابط ذلك كل ما يمكن
الصبي فعله مستقلا فعله وما لا يمكنه مستقلا
فعل به كالطواف والسعي وما لا يمكنه فعل
مستقلا ولا أن يفعل به فإن قبل النيابة كالرمي
فعل عنه وإلا سقط كالتلبية والركوع على
المشهور فيهما وفي كلام ابن عبد السلام إشارة
إلى ذلك ونصه وبالجملة إن كل ما يمكن أن يفعله
الصبي فلا يفعل عنه وما لا يمكنه فعله مستقلا
ولا أن يفعل به والأصل سقوطه كالتلبية واختلف
في الركوع والأشهر سقوطه لما ثبت أنه لا يصلي
أحد عن أحد وقال حمديس وغيره يركع عنه لأن
ركوع الطواف جزاء من الحج الذي تصح النيابة
فيه انتهى. وبقي عليه التصريح بأن يقول وما لا
يمكنه فعله
(3/436)
__________
مستقلا ولا أن يفعل به وقبل النيابة فعل عنه
كالرمي فإنه لا يمكن من الصبي استقلالا ولا
بمشاركة فيفعل عنه وما لا يقبل النيابة سقط
والله أعلم.
تنبيهات: الأول: ما ذكره من التلبية لا ينوب
عنه فيها هو المشهور قال في الطراز: وإذا كان
الصبي يتكلم فإنه يلقن التلبية وإن كان لا
يتكلم لصغره سقط حكم التلبية في حقه كما يسقط
في حق الأخرس الكبير وإذا سقط وجوبها رأسا سقط
حكم الدم عنها إذا لم يترك واجبا وعلى القول
بأن التلبية ركن كتكبيرة الإحرام يلبي عنه
وليه كما ينوي عنه انتهى. والقول بأن التلبية
كتكبيرة الإحرام لابن حبيب وقال الشارح لا
يلبي عنه لأن التلبية من أعمال الأبدان الصرفة
ولم يعمل أحد عن أحد ولم أر من حكى في ذلك
خلافا قال المصنف في التوضيح والظاهر أنه لا
يتخرج من قول ابن عبد الحكم بجواز الركوع عنه
قول بجواز التلبية عنه بجامع أن كلا منهما
عبادة بدنية معجوز عنها لأن الركوع لما كان
كالجزء من الطواف والطواف يقبل النيابة ناسب
أن بركع عنه بخلاف التلبية انتهى. وفي قوله:
إن الطواف يقبل النيابة نظر تقدم بيانه وتقدم
في كلام ابن الطراز أن يلبي عنه على القول بأن
التلبية ركن وذلك لأن الأركان لا بد من
الإتيان بها وإن كانت من الأعمال البدنية ألا
ترى أن النية من أعمال القلب ومع ذلك ينوب عنه
فيها لأنه لا ينعقد الإحرام إلا بها والظاهر
في توجيه القول بأنه يركع عنه للطواف أن
الطواف لما كان من الأركان وكان الركوع من
واجباته التي لا بد منها ويعيد الطواف لأجلها
إن كان بمكة أو قريبا منها صار كالجزء منه
فأمر بالركوع عنه ووجه المشهور أن الركوع لما
كان ليس شرطا في صحته وإلا لرجع له من بلده
وإذا لم يكن شرطا في صحته سقط اعتباره وعلم من
هذا أنه لا يركع عنه الإحرام بلا خلاف لأن ذلك
من سنن الإحرام اتفاقا وأما القول بأنه يركع
عنه للطواف فلم يذكره صاحب الطراز ولا ابن
عرفة ولم أره في النوادر وذكره ابن يونس وعزاه
لحمديس عن ابن عبد الحكم وهكذا قال المصنف في
التوضيح وعزاه ابن عبد السلام لحمديس وغيره.
الثاني: ذكر ابن فرحون في ألغازه في باب الحج
أن الصغير الذي لا يميز الطهارة ولا يمتثل ما
يؤمر به يشترط في صحة طوافه ستر العورة
وطهارته من الخبث ولا يبطل طوافه بطرو الحدث
الأصغر وليس به سلس.
قلت: هو الصغير الذي لا يميز الطهارة ولا
يمتثل ما أمر به انتهى.
قلت: والظاهر أنه يشترط في طوافه بقية شروط
الطواف من طهارة الحدث وكون البيت عن يساره
والخروج عن الشاذروان لأنهم لما ذكروا هذه
الشروط لم يخصوها بأحد ولقول ابن فرحون ولا
يبطله طرو الحدث فظاهره أنه يطلب أولا
بالطهارة من الحدث ولقوله في
(3/437)
وأحضرهم
المواقف وزيادة النفقة عليه إن خيف ضيعة وإلا
فوليه
__________
الذخيرة: وإن لم يقدر الصبي على الطواف طاف به
من طاف عن نفسه محمولا على سنة الطواف انتهى.
وقال ابن جماعة الشافعي في منسكه الكبير في
الكلام على شروط الطواف قال الشافعية وإذا طاف
الولي بغير المميز فإن كانا غير متوضئين لم
يصح الطواف وكذا إن كان الصبي متوضئا والولي
محدثا وكذلك مذهب المالكية وإن كان الولي
متوضئا والصبي محدثا فوجهان ومذهب مالك أنه
يصح انتهى. وما ذكره عن المالكية في الفرعين
غريب.
الثالث: حكم المجنون المطبق في جميع ما ذكرته
حكم الصبي كما قاله في المدونة ونصه بعد ذكره
الإحرام بالصبي والطواف به والسعي به والرمي
عنه والمجنون في جميع أموره كالصبي انتهى. ص:
"وأحضرهم المواقف". ش: الضمير للرضيع والمطبق
والصبي والمميز يعني أن الولي لا بد أن يحضر
الطفل غير المميز والمجنون والمميز مواقف الحج
والمراد بها عرفة ومزدلفة ومنى لا ينوب عنهم
في ذلك وقال البساطي لما قدم أن ينوب عنهم
فيمن لا يقدرون عليه خاف أن يتوهم من ذلك أنه
لا فائدة في إحضارهم المواقف فأجاب بزوال ذلك
انتهى. وقال الشارح في الصغير الضمير في
إحضارهم عائد على الصبي والمجنون والمغمي إذا
طرأ عليه بعد الإحرام انتهى. وليس بظاهر لأن
من طرأ عليه الإغماء بعد الإحرام لم يتقدم له
ذكر في كلام المؤلف وما ذكرته في تفسير
المواقف يدل له قوله في التوضيح في شرح قول
ابن الحاجب: ويحضره المواقيت فيه نظر لأن
الميقات واحد ولعله يريد المشاعر كعرفة
ومزدلفة ومنى انتهى. وفسر بعضهم المواقف بعرفة
قال وجمعت باعتبار أن كل موضع منها يصح فيه
الوقوف وهذا ليس بظاهر لأنه لا يطلب منه
إحضاره في جميع أجزاء عرفة ومثله تفسير بعضهم
المواقف بعرفة ومزدلفة وقال أقل الجمع اثنان
لأن منى من المواقف أيضا لأن يطلب بها الوقوف
إثر رمي الجمار والله أعلم. ص: "زيادة النفقة
عليه إن خيف ضياعه وإلا فوليه". ش: يعني أن
ولي الصبي إذا خرج به إلى الحج فزادت نفقته في
السفر على نفقته في الحضر كما لو كانت نفقته
في الحضر ربع درهم في اليوم وفي السفر نصف
درهم فالزيادة في مال الصبي إن كان الولي يخاف
عليه الضيعة إذا تركه ولم يستصحبه معه وإن كان
لا يخاف
(3/438)
__________
عليه الضيعة بعده فالزيادة في مال الولي فقوله
وإلا شرط مركب من إن الشرطية ولا النافية ليس
استثناء كما قاله الشارح في الصغير وجملة
الشرط محذوفة وقوله فوليه الفاء دخلت لربط
الجواب بالشرط ووليه مبتدأ حذف خبره أي فوليه
على الزيادة وقال في الكبير أو يكون خبر مبتدأ
محذوف أي وإلا فالزائد على وليه والأول أظهر
انتهى. وهذا ممتنع لما فيه من حذف حرف الجر
وسواء في ذلك الأب والوصي وكل من كان الصبي في
كفالته من أم أو غيرها قال في المدونة وليس
لأم الصبي أو أبيه أو من هو في حجره من وصي أو
غيره أن يخرجه ويحجه وينفق عليه من مال الصبي
إلا أن يخاف من ضيعته بعده أو لا كافل له فله
أن يفعل به ذلك وإلا ضمن له ما أكرى له به
وأنفق عليه إلا قدر ما كان ينفق عليه في مقامه
انتهى.
تنبيهات: الأول: لم يذكر المصنف حكم السفر
بالصبي وقال سند في الطراز السفر في أصله مضرة
بالصبي في بدنه ولما كان مشقة قصر المسافر
وأفطر في رمضان والصبي لا يسلك به وليه إلا
سبيل المصلحة فإن كان السفر مخوفا لشدة حر أو
برد ونحوه لم يجز له أن يخرج به لما فيه من
التغرير به وإن لم يكن مخوفا إلا أنه لا حاجة
به إليه فالأب له أن يحمله معه لماله في صحبته
حيث كان من حسن النظر ولكمال شفقته وله أن
يتركه بعده لما عليه في السفر من المشقة
والكلفة وغير الأب لا يخرج به إذا وجد من
يكفله بعده فإن خاف ضيعته حمله ونفقة الصبي في
ماله إذا سافر لمصلحته لأن سفره مصلحة له في
هذه الحالة وله حينئذ أن يحرم به لأنها مصلحة
دينية لا كبير ضرر فيها على الصبي لأنه مع
وليه انتهى. وقال قبله لا يحج بالصبي إلا وليه
أو وصيه ومن له النظر في ماله لأن ذلك يتعلق
بإنفاق المال فكان أمره لمن له الولاية في
ماله وذلك الأب ووصيه وولي الحاكم ولو كان في
كفالة أحد بغير إيصاء فهل له ذلك يختلف فيه
وقد قال مالك في الصبية من الأعراب تأخذهم
السنة فيضمها الإنسان ويربيها ويريد تزويجها
من أنظر لها منه فعلى هذا إذا كان الصبي تحت
جناح أبيه وخاله وعمه وأخيه وشبه ذلك يجوز له
أن يحج به وهو مذهب الكتان انتهى.
قلت: قوله: يجوز له أن يحج به يعني إذا خاف
عليه الضيعة وأما إن لم يخف عليه الضيعة فلا
يحج به إلا الأب كما تقدم ذلك في كلامه وأما
الأم فقال في الطراز في شرح مسألة أخرى إن كان
الأب حيا فلا تسافر به إلا بإذنه وإن كان ميتا
ولا وصي له فلها أن تسافر به إن خافت ضيعته
بعدها ونص المسألة وشرحها وسئل مالك عن
الوالدة أتكون بمنزلة الوالد قال نعم هذا
يختلف فيه وقد مر ذكره وظاهر الحديث جوازه
للأم لقوله عليه السلام للمرأة ولك أجر ولم
يقل ولوليه ولا شرطه في إحرام الصبي وبه احتج
مالك فإن الذي رفع للنبي صلى الله عليه وسلم
من المحفة إنما رفعته امرأة فقالت ألهذا حج
فقال النبي صلى الله عليه وسلم نعم ولك أجر
ولم تذكر أن معه والده قال فإذا أحرمت أمه عنه
في هذا الحديث وجاز الإحرام فأرى كل من كان
الصبي في حجره يجوز له ما جاز للأم ووجه ذلك
من حيث المعنى هو أن الولد في كفالة أمه فأشبه
ما لو
(3/439)
كجزاء صيد
وفدية بلا ضرورة
__________
كان في حجر وصايتها ولأن للأم أخذ النفقة من
الأب وتصرفها في حق الولد وتنظر في بعض شأنه
فكان نظرها عليه في ذلك جائزا كنظرها في غيره
بما يصلح شأنه إلا أن الأم لا تسافر به إلا
بإذن الأب فإن كان ميتا ولا وصي له فلها أن
تسافر به إن خافت ضيعته بعدها انتهى.
قلت: ظاهر كلامه أنها إن لم تخف عليه الضيعة
لا تسافر به وينبغي أن يكون لها أن تسافر به
وإن لم تخف عليه الضيعة إذا لم يكن له وصي لما
لها عليه من الشفقة كالأب بل هي أعظم وأما لو
كان له وصي فلا تسافر به إلا بإذنه فينظر
الولي للصبي ما هو الأصلح له وزيادة النفقة في
ذلك كله على من يسافر به إذا لم يخف عليه
الضيعة كما تقدم في كلام سند.
قلت: وهذا كله والله أعلم. إذا كان السفر
بعيدا مما تسقط به الحضانة وأما إن كان قريبا
فيجوز للأم أن تخرج به معها من غير إذن الأب
والوصي كما سيأتي في باب الحضانة ولم أره
منصوصا هنا والله أعلم. وأما حكم إحرامه فتقدم
الكلام عليه في التنبيه الثاني في شرح قوله:
"فيحرم ولي عن رضيع"
الثاني: تقدم في لفظ المدونة أن من خرج بالصبي
يضمن له ما أكرى له ولم يفصل في ذلك وقال في
الطراز كراء الدابة على من سافر به إلا قدر
كراء بيته في مدة سفره إن كان مسكنه بالكراء
انتهى. وهو ظاهر وقال بعده ولو كان كراء الصبي
ونفقته في السفر قدر نفقته في الإقامة ضمن
الولي الكراء أدخلته في السفر بدون أجرة
الكراء وعدم حاجته إليه انتهى. وفيه نظر والله
أعلم.
الثالث: قال في الطراز: ولا ضمان على الولي
فيما طرأ في السفر من صنع الله على نفس الصبي
من غير تفريط مثل أن يغرق أو يموت أو يقتل إذ
لا صنع للآدمي في ذلك انتهى. ذكر هذا فيما إذا
سافر به ولم يخف عليه الضيعة والله أعلم. ص:
"كجزاء صيد وفدية بلا ضرورة". ش: هذا الكلام
مشكل فإنه يحتمل أن يكون التشبيه راجعا لقوله
وإلا فوليه فيكون المعنى أن الجزاء والفدية
إذا لم يكن عن ضرورة على الولي مطلقا سواء خيف
على الصبي الضيعة أم لا ولا يفصل في ذلك كما
فصل في زيادة النفقة وعلى هذا حمل الشارح كلام
المصنف في الصغير وكذا الأقفهسي والبساطي وهذا
أحد الأقوال الثلاثة في المسألة وهو ظاهر
قولها في الحج الثالث وإذا حج بالصغير الذي لا
يعقل والده فأصاب صيدا ولبس وتطيب فالجزاء
والفدية على الأب وإن كان للصبي مال وكذلك كل
شيء وجب على الصبي من الدم في الحج فذلك على
والده لأنه أحجه ولا يصوم عنه والده في الجزاء
والفدية ولكن يطعم أو
(3/440)
__________
يهدي انتهى. قال ابن يونس: وحملها بعض أصحابنا
على ظاهرها من أن ذلك على الأب وإن كان خروجه
بالولد نظرا له إذ لا كافل له قال لأنه كان
قادرا على أن يخرج به ولا بحجة فلما أدخله في
الحج كان ما وجب على الصبي من أمور الحج على
من أحجه ثم ذكر عن مالك في الموازية أنه يفصل
في ذلك كالنفقة ثم قال وهذا خلاف ما يتأوله من
ذكرنا وإن كان ما قاله له وجه في القياس لكن
الصواب ما قاله مالك لأن ما يتخوف أن يطرأ
عليه في إحجاجه إياه من الجزاء والفدية أمر
غير متيقن وإحجاجه طاعة وأجر لمن أحجه كما في
الحديث فهذا حج تطوع للصبي وأجر لمن أحجه لا
يترك لأمر قد يكون وقد لا يكون وهذا أصلنا أنه
لا يترك أمر محقق لأمر قد يكون انتهى. ثم ذكر
القول الثالث أن ذلك في مال الصبي مطلقا وتأول
صاحب الطراز المدونة على ما في الموازية ذكر
أبو الحسن الصغير الأقوال الثلاثة ونقل كلام
ابن يونس على وجه يفهم منه أنه رجح القول
الثالث أن ذلك في مال الصبي مطلقا وليس كذلك
لما قد علمت أنه إنما رجح ما في الموازية من
التفصيل كزيادة النفقة وحكى الأقوال الثلاثة
ابن الحاجب وابن عرفة وغيرهما وقد علمت أن
ظاهر المدونة هو القول الأول وإن ذلك واجب على
الأب مطلقا وعزاه ابن عرفة للتونسي عن ثالث
حجها و قال في التوضيح: قال في الكافي هو
الأشهر لكن قيد المصنف هذا القول بأن تكون
الفدية لغير ضرورة ولم يقيده غيره بذلك ومفهوم
كلام المصنف إذا كانت الفدية لضرورة تكون في
مال الصبي وقبله الشارح قال وقال ابن شاس.
قلت: وليس في كلام ابن شاس التصريح بأنها في
مال الصبي فإنه حكى في الفدية وجزاء الصيد
قولين الأول التفصيل كزيادة النفقة وصوبه
والثاني أن ذلك في مال الصبي وعطفه بقيل ثم
قال ولو طيب الولي الصبي فالفدية على الولي
إلا إذا قصد المداواة فيكون كاستعمال الصبي
انتهى. من آخر الباب الثاني فأنت تراه لم يجعل
ذلك في مال الصبي وإنما جعله كاستعمال الصبي
وقد حكى في استعمال الصبي القولين المتقدمين
وإذا حملنا كلام المصنف على القول الأشهر وأن
الفدية في استعمال الصبي الطيب على الولي
فكذلك إذا طيب الولي الصبي ولو كان لضرورة فلا
حاجة إلى تقييد ذلك بقوله بلا ضرورة فتأمله
ويحتمل أن يكون التشبيه في أصل المسألة وأنه
يفصل في ذلك كزيادة النفقة وهو الذي صدر به في
الجواهر واختاره ابن يونس كما تقدم وقال سند
في باب من يولى عليه يصيب صيدا إنه المشهور
وقال ابن عبد السلام إنه المروي عن مالك وحمل
الشارح عليه كلام المصنف في الكبير والوسط لكن
يشكل عليه قوله: بلا ضرورة ولأنه يقتضي أن
الفدية إذا كانت بغير ضرورة يفصل فيها وإن
كانت لضرورة لا يفصل فيها وهو عكس المنقول كما
تقدم عن الجواهر أنها إذا كانت لغير ضرورة
تكون على الولي ولا يفصل فيها وإن كانت لضرورة
تكون كاستعمال الصبي فيفصل والاحتمال الأول
أقرب وأولى ويترك العمل بمفهوم قوله: بلا
ضرورة أو يجعل من باب مفهوم الموافقة لأنه إذا
كانت الفدية التي بلا ضرورة على الولي فأحرى
التي لضرورة فتأمله والفرق
(3/441)
وشرط وجوبه
كوقوعه فرضا حرية وتكليف وقت إحرامه بلا نية
نفل
__________
حينئذ بين زيادة النفقة وجزاء الصيد والفدية
ما ذكره ابن يونس أن الولي كان قادرا على أن
يصحبه من غير إحرام فلما أدخله في الإحرام صار
كأنه هو الذي ألزمه ذلك.
تنبيهات: الأول: لو أصاب صيدا في الحرم فقال
اللخمي: يفصل به كزيادة النفقة ولا تأثير
لكونه أحرم به أم لا ونصه وإن أصاب صيدا قبل
الإحرام في الحرم كان في مال الوصي إذا أخرجه
تعديا وإن أخرجه بوجه جائز كان ما أصاب في مال
الصبي لأنه لو لم يحرم لكان ذلك في ماله فلم
يؤثر الإحرام في ذلك شيئا انتهى. وقال ابن
عرفة والتونسي واللخمي: وجزاء صيد بالحرم دون
إحرامه جناية إن خيف أي فيكون في مال الصبي
وإلا فعلى وليه وقال صاحب الطراز لما ذكر حكم
ما إذا لم يخف عليه الضيعة وزعم بعض المتأخرين
من أصحابنا أنه في هذه الحالة إذا أصاب صيدا
في الحرم كان في مال الذي أخرجه وليس بالبين
لأنها جناية من الصبي كما لو قتل إنسانا أو
دابة في سفره فإنه يضمنها في ماله انتهى. قلت:
وما قاله صاحب الطراز هو الظاهر والله أعلم.
الثاني: لم يذكر المصنف حكم الهدي وذلك لأن
موجب الهدي لا يكون غالبا إلا بتفريط من الولي
فإذا فرط فذلك عليه ويؤخذ ذلك من قوله في
المدونة: "وكل شيء وجب على الصبي من الدم في
الحج فذلك على والده" والله أعلم. ولا مفهوم
لقوله في الحج والعمرة والحج في ذلك سواء.
الثالث: قال المصنف في مناسكه وإذا أفسد حجه
فعليه القضاء والهدي انتهى. وذكره غير واحد
وأصله في الموازية وقال في الطراز بعد أن ذكر
كلام الموازية وخلاف الشافعية فيه أما على قول
أصحابنا فإن أعطينا وطأه حكم الجماع في نقض
الطهارة لم يبعد أن يجب عليه القضاء وإن لم
نعطه حكم الغسل والحدث فلا قضاء فيه انتهى.
وانظر هل يصح منه القضاء في حال صباه للشافعية
في ذلك قولان وذكر ابن جماعة الشافعي في منسكه
الكبير عن المالكية ما يقتضي صحة ذلك فإنه قال
في المحرمات الإحرام في الكلام على جماع الصبي
وعند المالكية أن حجه يفسد بذلك وعليه قضاء
والهدي وأنه إذا بلغ في أثناء القضاء فلا يقع
عن حجه الإسلام انتهى. ولم أر فيه نصا
لأصحابنا والظاهر من إطلاق أهل المذهب وقياسا
على العبد الصحة والله أعلم. ص: "وشرط وجوبه
كوقوعه فرضا حرية وتكليف وقت إحرامه بلا نية
نفل". ش: شروط الحج على ثلاثة أضرب شرط في
الصحة وشرط في الوجوب،
(3/442)
__________
وشرط في وقوعه فرضا فذكر المصنف أولا شرط
الصحة وهو الإسلام فقط وذكر هنا شروط وجوبه
وشروط وقوعه فرضا فقال وشرط وجوبه فرضا إلى
آخره يعني أن شروط وجوب الحج الحرية والتكليف
أي كون الشخص مكلفا وهو العاقل البالغ وشرط
وقوعه فرضا الحرية والتكليف وخلوه عن نية
النفل فيكون شروط وجوبه ثلاثة الحرية والبلوغ
والعقل وشروط وقوعه فرضا أربعة هذه الثلاثة
وخلوه عن نية النفل فلا يجب الحج على عبد ولا
على من فيه شائبة رق من مكاتب ومدبر ومعتق
لأجل وأم ولد ومعتق بعضه ولو كان أكثره ولا
على من ليس ببالغ ولا على مجنون ويصح من
جميعهم إذا كانوا محكوما بإسلامهم ولا يقع
فرضا ممن ذكرنا ولو نووا الفرض وقوله وقت
إحرامه راجع إلى الأخير يعني أن الحرية
والتكليف إنما يعتبران في وقوعه فرضا وقت
الإحرام به فمن كان وقت الإحرام حرا مكلفا صح
إحرامه بالفرض ومن لم يكن حرا أو مكلفا وقت
الإحرام الذي أذن فيه السيد أو الولي فلا يصح
منه الفرض ولو صار من أهل الوجوب بعد ذلك قبل
الوقوف بعرفة فلو أحرم العبد في حال رقه ثم
عتق أو أحرم الصبي قبل بلوغه أو الجارية قبل
بلوغها ثم بلغا فلا ينقلب ذلك الإحرام فرضا
ولا يجزئ عن الفرض ولو رفضوه ونووا الإحرام
بحج بالفرض لم يرتفض وهم باقون على إحرامهم
ولو حصل العتق والبلوغ قبل الوقوف بعرفة هذا
هو المعروف في المذهب وقال الشافعي وابن حنبل:
يجزيهما إذا كان العتق والبلوغ قبل الوقوف
وأما أبو حنيفة فوافقهما في العبد ومنع انعقاد
إحرام الصبي بالكلية وقال في الإكمال اختلف
العلماء فيمن أحرم وهو صبي ثم بلغ قبل عمل شيء
من الحج فقال مالك: لا يرفض إحرامه ويتم حجه
ولا يجزيه عن حجة الإسلام قال وإن استأنف
الإحرام قبل الوقوف بعرفة أجزأه لحجة الإسلام
وقيل يجزئه إن نوى في إحرامه الأول حجة
الإسلام انتهى. وقال المصنف في التوضيح إثر
نقله كلامه ولم أر من وافقه على الإجزاء فيما
إذا استأنف الإحرام وأما إذا نوى بإحرامه
الأول الفرض على أنه يمكن أن يحمل قوله: وإن
استأنف الإحرام على أن يكون مراده إذا لم يكن
محرما فانظره انتهى.
قلت: هذا الحمل بعيد من لفظه وما ذكره القاضي
عياض مخالف لنص المدونة قال فيها ولو أحرم
العبد قبل عتقه والصبي والجارية قبل البلوغ
تمادوا على حجهم ولم يجز لهم أن يجددوا إحراما
ولا تجزيهم عن حجة الإسلام انتهى. ولفظ الطراز
أبين فإنه قال: قال مالك في الصبي يحرم ثم
يبلغ عشية عرفة أو قبلها فيجدد إحراما: إنه لا
يجزئ عن حجة الإسلام وكذلك الجارية انتهى.
وَقَالَ فِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ: قَالَ:
لَوْ أَنَّ غُلَامًا مُرَاهِقًا أَحْرَمَ
بِالْحَجِّ ثُمَّ احْتَلَمَ مَضَى عَلَى
إحْرَامِهِ الْأَوَّلِ وَلَا يُجْزِيهِ عَنْ
حَجَّةِ الْفَرِيضَةِ وَلَا يُجْزِيهِ أَنْ
يُرْدِفَ إحْرَامًا عَلَى إحْرَامِهِ
الْأَوَّلِ انتهى. . وَقَالَ سَنَدٌ فِي
الرَّدِّ عَلَى الشَّافِعِيِّ: لِأَنَّ
إحْرَامَهُ انْعَقَدَ نَفْلًا إجْمَاعًا وَمَا
عُقِدَ نَفْلًا لَا يَنْقَلِبُ فَرْضًا
كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ انتهى. . وَ قال في
التوضيح: قَبْلَ نَقْلِهِ كَلَامَ
الْإِكْمَالِ السَّابِقِ:
(3/443)
__________
إذَا أَحْرَمَ الصَّبِيُّ بِالْحَجِّ وَبَلَغَ
فِي أَثْنَائِهِ لَزِمَهُ أَنْ يَتَمَادَى
عَلَى مَا أَحْرَمَ به وَلَا يَجْزِيهِ عَنْ
فَرْضِهِ ; لِأَنَّهُ إنَّمَا انْعَقَدَ
نَفْلًا وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ , فَقَدْ
ذَكَرَ صَاحِبُ اللُّبَابِ عَنْ مَالِكٍ
عَدَمَ الْإِجْزَاءِ سَوَاءٌ جَدَّدَ
إحْرَامًا أَمْ لَا , وَنَحْوُهُ
لِلتِّلِمْسَانِيِّ وَالْقَرَافِيِّ
وَنَحْوُهُ فِي الِاسْتِذْكَارِ لِقَوْلِهِ:
اُخْتُلِفَ فِي الْمُرَاهِقِ وَالْعَبْدِ
يُحْرِمَانِ بِالْحَجِّ ثُمَّ يَحْتَلِمُ
هَذَا وَيُعْتَقُ هَذَا قَبْلَ الْوُقُوفِ ,
فَقَالَ مَالِكٌ: لَا سَبِيلَ إلَى رَفْضِ
إحْرَامِهَا وَيَتَمَادَيَانِ وَلَا
يُجْزِيهِمَا عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ
ذَكَرَ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي
حَنِيفَةَ ثُمَّ قَالَ: انتهى. بِمَعْنَاهُ ,
وَنَصَّ غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّهُ يَلْزَمُهُمَا
التَّمَادِي وَلَا يَكُونُ لَهُمَا رَفْضٌ ,
ثُمَّ ذَكَرَ كَلَامَ صَاحِبِ الْإِكْمَالِ
الْمُتَقَدِّمِ وَلِابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ فِي
التَّمْهِيدِ مِثْلُ مَالِهِ فِي
الِاسْتِذْكَارِ وَقَالَ الْمَشَذَّالِيُّ فِي
حَاشِيَتِهِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ كَلَامَ
صَاحِبِ الْإِكْمَالِ وَهَذَا النَّقْلُ لَا
يُعْرَفُ لِغَيْرِهِ , انتهى. وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
تنبيهات: الأول: هذا الذي ذكرناه ظاهر إذا
أحرم الصبي بإذن وليه والعبد بإذن سيده أو
أحرما بغير إذن الولي والسيد ثم أجازا فإن
أحرم الصبي بغير إذن وليه والعبد بغير إذن
سيده ولم يعلم الولي ولا السيد بذلك حتى بلغ
الصبي وعتق العبد فلم أر في ذلك نصا صريحا
والذي يظهر من كلامهم أن للولي أن يحلل الصبي
ولو بلغ إذا كان سفيها لأنه سيأتي في كلام
المصنف في فصل الموانع أن للولي أن يحلل
السفيه إذا أحرم بغير إذنه وقاله غير واحد
فيحلله من هذا الإحرام النفل ليحرم بفريضة
الحج وهذا ظاهر وأما إذا بلغ الصبي رشيدا أو
انفك عنه الحجر فالظاهر أنه ليس له تحليله
وكذلك العبد إذا أحرم بغير إذن سيده ثم عتق
فليس لسيده أن يحلله بعد أن عتق ويتمادى على
حجه وعليه حجة الإسلام وهذا يؤخذ من قول ابن
الحاجب ولو تجاوز الميقات العبد أو الصبي
فأعتق أو بلغ أحرم عن فريضته ولو بعرفات
ليلتها ولا دم كما لو أسلم نصراني أما لو كان
أحرم قبلهما بإذن معتبر فلا الضمير في كانعائد
على أحد المتقدمين العبد والصبي وقوله قبلهما
أي قبل البلوغ والعتق قاله في التوضيح ففهم من
قوله: بإذن معتبر أنه لو أحرم بغير إذن أو
بإذن من لا يعتبر إذنه أن للولي أن يحلله
وكلامه هذا بالنسبة إلى الصبي ظاهر لأن للولي
تحليل السفيه وأما بالنسبة إلى العبد فلا لأن
بالعتق ارتفع حكم السيد عنه ويجب عليه التمادي
فتأمله والله أعلم. وانظر مناسك ابن فرحون.
الثاني: لو أحرم الولي عن المجنون المطبق ثم
أفاق بعد إحرام وليه عنه فالظاهر أن إحرام
الولي يلزمه وليس له أن يرفضه ويجدد إحراما
بالفرض والله أعلم.
الثالث: قال البساطي في شرح كلام المصنف ولا
يجب على صبي ولا مجنون ولا معتوه انتهى.
قلت: إن كان مراده بالمعتوه المجنون وهو الذي
فسره به ابن رشد في أول رسم من سماع ابن
القاسم من كتاب الصلاة فقال المعتوه الذاهب
العقل لا يصح منه نية يعيد من ائتم به أبدا
فلا يصح عطفه عليه وإن كان مراده به ضعيف
العقل كما هو الغالب في استعمالهم فالظاهر أن
الحج لا يسقط عنه.
(3/444)
__________
الرابع: إن قيل: ظاهر الكلام يقتضي أن وقوعه
فرضا لا يستلزم كونه واجبا بأن يقع فرضا , ولم
يكن واجبا لمقارنتكم بينهما بتشبيه أحدهما
بالآخر ; قيل: نعم هو كذلك ; لأنه إذا حصل شرط
وقوعه فرضا وهو الحرية والتكليف لا يكون واجبا
حتى يحصل سبب الوجوب وهو الاستطاعة , فلو كان
حرا مكلفا غير مستطيع وتحمل المشاق والكلف وحج
قبل حصول الاستطاعة سقط عنه الفرض مع أنه أولا
ليس بواجب عليه , سواء قلنا: الاستطاعة عنده
شرط أو سبب ; لأن الشيء لا يجب مع فقد شرط
وجوبه ولا مع فقد سبب وجوبه.
فإن قيل: كيف يجزئ ما ليس بفرض عن الفرض؟
فالجواب: كما قال سند: إنه في الحقيقة لما حصل
بموضع الحج والتمكن منه وجب عليه فأجزأه فعله
ولم يكن عليه قبل , ولا يتحقق أن يجزيه عن فرض
إلا بعد ثبوت الفرض عليه انتهى. . وقال في
التمهيد في شرح الحديث الأول لابن شهاب عن
سليمان بن يسار: الإجماع على أن الفقير إذا
وصل إلى البيت بخدمة الناس أو بالسؤال أو بأي
وجه كان فقد تعين عليه الفرض ووجب عليه الحج ,
وأجاب البساطي بأن الشيء قد يجزي عن الواجب
وإن لم يكن واجبا , كالجمعة لا تجب على المرأة
والعبد وتجزيهما عن الظهر انتهى. قلت: إنما
أجزأت الجمعة عن الظهر ; لأنها بدل منها على
أحد القولين وعلى القول الآخر فلاستقرار وجوب
شيء في الذمة بخلاف مسألتنا , والله أعلم.
الخامس: انظر هل على ما قاله سند أنه لا يتحقق
أن يجزيه عن الفرض إلا بعد ثبوت الفرض عليه ,
ما حكم من كان غير مستطيع وأحرم بالحج من بلده
أو من موضع يتحقق أنه لا يستطيع الحج منه ثم
تكلف بعد ذلك الوصول إلى مكة على وجه يتحقق
أنه لا يوجبه الشرع عليه فهل يجزئه عن الفرض
أم لا ؟ لم أر فيه نصا صريحا وظاهر نصوصهم أنه
يجزئه , قال سند: لما قسم شروط الحج ومنها ما
يمنع فقده الوجوب دون الإجزاء وهو الاستطاعة
انتهى. . وقال القرافي في ذخيرته: وأما عدم
السبب الذي هو الاستطاعة فيمنع الوجوب دون
الإجزاء انتهى. وقال في الجواهر: ولا يشترط
لوقوعه عن حجة الإسلام إلا الإسلام والحرية
والتكليف وهذا ظاهر كلام المصنف هنا وكلام
غيره ويمكن أن تتخرج المسألة على ما ذكره
القرافي في الفرق الثالث والثلاثين وغيره فيما
إذا كان للحكم سبب وشرط فإنه إن تقدم عليهما
لم يعتبر إجماعا وإن تأخر عنهما اعتبر إجماعا
وإن توسط بينهما اختلف فيه كتقديم الكفارة قبل
الحنث الذي هو شرطها بعد الحلف الذي هو سببها
وكإخراج الزكاة بعد جريان سببها الذي هو ملك
النصاب , وقبل وجوب شرطها الذي هو دوران الحول
ونحو ذلك ويختلف التشهير في هذه المسائل بحسب
مدارك أخر , فنقول: كذلك الحج إذا وقع بعد
شروطه وقبل سببه يختلف فيه ويتجه حينئذ القول
بأنه إذا لم تحصل الاستطاعة لم يصح الحج ويكون
معناه أنه لا يسقط الفرض بناء على أحد القولين
ويؤيد هذا أن بعضهم جعل الاستطاعة شرط صحة كما
(3/445)
__________
سيأتي وأن غير المستطيع لا يجزئه حجه عن حجة
الإسلام فيكون القولان في هذه المسألة قول
أكثر الشيوخ: إن الاستطاعة شرط في الوجوب ,
وقول بعضهم: إنها شرط في الصحة , وهذا إنما
يكون في مثل هذه الصورة التي فرضناها وهي أن
يحرم وهو غير مستطيع وأما من كان بموضع غير
مستطيع فتكلف وأتى وما حصل منه الإحرام إلا
بعد وصوله له من موضع يجب عليه الحج منه لكونه
مستطيعا فلا يختلف في وجوبه ولا في صحة حجه
وإجزائه عن الفرض , كما تقدم عن صاحب التمهيد
ولا يقال: يلزم أن نقول بالإجزاء على أحد
القولين فيما إذا حصل السبب وهو الاستطاعة
وفقدت الشروط أعني الحرية والتكليف ; لأنا
نقول: يلزم من عدم الشروط عدم السبب الذي هو
الاستطاعة ; لأن العبد والصبي والمجنون غير
مستطيعين ; لأن المملوك لا تصرف له في نفسه ,
والصبي والمجنون محجور عليهما في التصرف في
أموالهما وقوله بلا نية ونفل يعني به أن من
شرط وقوع الحج فرضا أن يخلو عن نية النفل بأن
ينوي الفرض أو ينوي الحج ولم يعين فرضا ولا
نفلا فإنه ينصرف إلى حجة الإسلام كما قاله سند
, ونصه ولو نوى الحج ولم يعين حجة الإسلام
انصرف مطلقا بنية إلى حجة الإسلام عند الجميع
إذا كان صرورة وذلك لتأثير قربه , وإنما اختلف
الناس إذا نوى النفل هل ينصرف إلى الفرض أو لا
؟ فقال الشافعي: ينصرف إلى الفرض , وكذلك لو
أحرم به عن غيره وهو صرورة , قال: ينصرف إلى
فرض نفسه انتهى.
فتحصل من هذا أنه إذا نوى النفل انعقد ولم
ينقلب فرضا خلافا للشافعي وكره له تقديم النفل
على الفرض قاله الجلاب والتلقين وغيرهما وكذلك
يكره لمن عليه نذر تقديمه على فرض قاله سند في
باب بقية من أحكام الإجارة , ولو قرن النفل مع
الفرض فجعله البساطي بمنزلة من نوى النفل ولم
أره لغيره , ونص كلامه وأما قوله يعني المصنف:
بلا نية نفل , فيظهر أنه قال: أي خال من نية
نفل سواء لم ينو إلا النفل أو قرنه على أن هذا
غير محتاج إليه انتهى. . وهو في عهدة قوله: أو
قرنه , وقوله: غير محتاج إليه ; لأنه إن عنى
به قوله: أو قرنه فظاهر , وإن عنى به قول
المصنف بلا نية نفل فغير مسلم ولا يقال قوله:
بلا نية نفل , يغني عنه ما فهم من قوله وقت
إحرامه وهو أنه إذا أحرم الصبي ثم بلغ أو
العبد ثم عتق فقد انعقد إحرامهما نافلة , ولا
ينقلب فريضة , وكذلك نفل غيرهما ; لأنا نقول:
لا يلزم من عدم انقلاب نفلهما إلى الفرض وعدم
انقلاب نفل غيرهما ; لأن أول أركان الحج وهو
الإحرام حصل منهما وهما ليسا من أهل الفرض
ألبتة , قال ابن عبد السلام: فحال أن ينقلب
النفل فرضا في حق من لا يصح منه الفرض بخلاف
نفل من كان وقت الإحرام من أهل الفرض فقد
يقال: إنه يمكن أن ينقلب فرضا فلذلك نبه عليه
والله أعلم.
السادس: تقدم أن شروط وجوب الحج الحرية
والبلوغ والعقل وأنها أيضا من شرط وقوعه فرضا
, وهذا إذا قلنا: إن المميز عاقل , وأما إن
قلنا: لا عقل إلا للبالغ فيكفي اشتراط العقل
(3/446)
ووجب باستطاعة
__________
عن البلوغ قاله ابن بشير , وقال أيضا: وأما
الحرية فمذهب الجمهور أنها شرط في الوجوب ;
لأن العبيد مستغرقون بحقوق السادات والحج
مشروع بالاستطاعة وهم غير مستطيعين , وقيل في
إسقاطه عنهم: إنهم غير داخلين في الخطاب وقد
اختلف الأصوليون في دخولهم في خطاب الأحرار
والصحيح دخولهم انتهى. . وكون شروط الوجوب
الحرية والبلوغ والعقل هو على ما قاله القرافي
; لأنه لم يجعل الاستطاعة شرطا بل جعلها سببا
وهو ظاهر كلام المؤلف في هذا الكتاب وعلى قول
أكثر المذاهب من أنها شرط ; فنقول: شروط
الوجوب الثلاثة المذكورة والاستطاعة وبعضهم
يزيد تخلية الطريق وإمكان السير وهما داخلان
في فروع: الاستطاعة وأبو حنيفة وابن حنبل
يزيدان شرطا آخر وهو المحرم في حق المرأة وليس
شرطا عندنا وتقدم أيضا أن شرط الصحة هو
الإسلام فقط وهذا هو المشهور وعلى قول الباجي
هو والعقل وعلى ما نقل ابن الحاج وغيره هما
والاستطاعة والله أعلم.. ص: "ووجب باستطاعة".
ش: لما كان الحكم الشرعي يتوقف على وجوب شرطه
وسببه وانتفاء مانعه وفرغ المصنف من بيان شروط
الحج ذكر هنا سببه وسيذكر في آخر الحج موانعه
فقال ووجب باستطاعة يعني أن سبب وجوب الحج
الاستطاعة وأفرادها عن شروط الحج وعدم عطفها
عليها وإدخال الباء الدالة على السببية عليها
يدل على أنه أراد ما ذكرناه وهكذا قال القرافي
في الذخيرة: ونصه قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ
عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ
اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 97]
وترتيب الحكم على الوصف يدل على سببية ذلك
الوصف لذلك الحكم كقولنا زنا فرجم وسرق فقطع
وسها فسجد وقد رتب الله سبحانه الوجوب بحرف
على للاستطاعة فتكون سببا له انتهى. وتبعه
التادلي وابن فحرون في مناسكه وأكثر أهل
المذهب يجعلون الاستطاعة من شروط الوجوب وعلى
ذلك مشى ابن بشير وابن شاس وابن الحاجب
والمصنف في مناسكه وابن عرفة وغيرهم وتقدم عن
بعضهم أنها من شروط الصحة منهم ابن الحاجب
ونقله عنه التادلي بعد ذكره القول الأول وإليه
أشار في الشامل فقال والاستطاعة شرط في وجوبه
لا في صحته على الأصح انتهى. ونقله الشيخ أحمد
زروق ونصه والاستطاعة هي شروط وجوب لا صحة على
الأصح انتهى. ومقابل الأصح هو ما تقدم عن ابن
الحاجب وغيره ونحوه في عبارة التلقين ونصه
وشرط أدائه شيئان الإسلام وإمكان المسير قال
مؤلف طراز التلقين عده إمكان المسير شرط أداء
وهو شرط وجوب إذ هو من لواحق الاستطاعة ووجه
قوله هذا هو أن لا يتصور له حج إلا على وجه
يغرر فيه بنفسه وماله وقد تحققه فيكون حجه على
هذا معصية ولا يكون قربة فلا تبرأ به ذمته
ويكون كحج الكافر قبل إسلامه فيتوجه على هذا
أن يقال هو شرط للأداء وللوجوب انتهى. وقد
تقدم أنه إنما يتصور هذا حيث يقع الإحرام وهو
غير مستطيع،
(3/447)
بإمكان الوصول
بلا مشقة عظمت وأمن على نفس ومال،
__________
وأما لو تكلف حتى صار في الموضع الذي يكون منه
مستطيعا ثم أحرم صح حجه ولا يتصور فيه نزاع
لأنه قد صار واجبا عليه كما تقدم فيتحصل فيها
ثلاثة أقوال أحدها أنها سبب الثاني أنها شرط
في وجوب الحج وهما متقاربان الثالث أنها شرط
في الصحة وهو ضعيف كما بينا في شرح المناسك
وقال البساطي يعني أنه يتحتم الوجوب
بالاستطاعة ولذلك عبر بالفعل انتهى. وفي كلامه
نظر لأنه يقتضي أن الحج يجب بدون الاستطاعة
ويتحتم بوجودها ولا أعلم أحدا يقول بوجوبه
بدون الاستطاعة والله أعلم.
تنبيه: فإذا وجدت شروط وجوب الحج ووجد سبب
الوجوب أعني الاستطاعة فإن كان بينه وبين
زمانه وقت واسع كان وجوبه موسعا ومتى سعى فيه
سعى في واجبه وإن مات قبل فوت وقته سقط عنه
كما إذا طرأ العذر في وقت أداء الصلاة فإن لم
يخرج إلى الحجر حتى فات الحج فقد استقر الوجوب
عليه لكنه إذا مات سقط الوجوب عنه بموته عندنا
ولا يلزم ورثته ولا ماله شيء إذا لم يوص بذلك
قال صاحب الطراز وبه قال أبو حنيفة وقال
الشافعي وأحمد بن حنبل: إن مات قبل مضي زمن
الحج فلا شيء عليه وإن مات بعده فذلك في رأس
ماله انتهى. ص: "بإمكان الوصول بلا مشقة عظمت
وأمن على نفس ومال". ش: لما ذكر أن سبب وجوب
الحج الاستطاعة أخذ يفسرها وذكر أنها إمكان
الوصول إلى مكة بلا مشقة عظمت مع الأمن على
النفس والمال وهذا هو المشهور في المذهب قال
مالك في كتاب محمد وفي سماع أشهب لما سئل عن
قوله تعالى: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ
سَبِيلاً} [آل عمران: 97] ذلك الزاد والراحلة
قال: لا والله ما ذاك إلا طاقة الناس الرجل
يجد الزاد والراحلة ولا يقدر على المسير وآخر
يقدر أن يمشي على رجله ولا صفة في هذا أبين
مما قال الله تعالى: {مَنِ اسْتَطَاعَ
إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 97] وزاد في
كتاب محمد ورب صغير أجلد من كبير ونقل في
المقدمات كلام مالك ثم قال بعده فمن قدر على
الوصول إلى مكة إما راجلا بغير كبير مشقة أو
راكبا بشراء أو كراء فقد وجب عليه الحج انتهى.
ونقله في التوضيح أيضا وقيل الاستطاعة الزاد
والراحلة وهو قول سحنون وابن حبيب قال في
التوضيح: ودليله أي قول سحنون وابن حبيب ما
رواه أبو داود والترمذي أنه صلى الله عليه
وسلم سئل عن الاستطاعة فقال هي الزاد والراحلة
رواه الترمذي وتكلم بعض أهل العلم في رواية من
قبل حفظه وأجيب عنه بأنه خرج مخرج الغالب فلا
مفهوم له أو أنه فهم عن السائل أنه لا قدرة له
إلا بذلك انتهى. قال ابن رشد في سماع أشهب:
وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الزاد
والراحلة معناه في بعيد الدار انتهى. قال في
التوضيح: قال في الجواهر: وتأول أي قول سحنون
وابن حبيب على من بعدت داره انتهى. ويشير بذلك
لتقييد الشيخ أبي محمد قولهما في اعتبار
الراحلة
(3/448)
__________
بالبعيد حيث قال في نوادره يريد الراحلة في
بعيد الدار وقبل المتأخرون تقييده بذلك وذكره
ابن يونس عن سحنون ونصه قال سحنون: الاستطاعة
الزاد والراحلة لبعيد الدار والطريق المسلوك
انتهى. بل حكى سند الإجماع على أن من كان
القصر لا يعتبر في حقه وجود الراحلة ونصه
والدليل على الاعتبار بالقدرة دون الملك أن
التمكن من المشي إلى الحج وهو منه على مسافة
لا تقصر فيها الصلاة لم يعتبر في وجوبه عليه
الراحلة إجماعا وما كان شرطا في الوجوب استوى
فيه كل أحد كالعقل والبلوغ انتهى. وعلى هذا
يقول صاحب الشامل ومن تبعه وثالثها يعتبر
الزاد والراحلة لمن بعد مكانه مشكل لأنه يوهم
أن تقييد الشيخ أبي محمد خلاف وأن التقييد
بالبعيد راجع إلى الزاد والراحلة ولم يذكروه
إلا في الراحلة وأما الزاد فلا بد من اعتباره
قال ابن الحاج عن محمد بن وضاح أنه سمع رجلا
من أهل مكة يقول لابن قنبل المكي: ما
الاستطاعة التي توجب علينا الحج قال خبزة
نتزودها إلى عرفة انتهى.
تنبيهات: الأول: قوله هنا: "بلا مشقة عظمت" هو
معنى قوله: في منسكه من غير مشقة فادحة بالفاء
والدال والحاء المهملتين أي ثقيلة عظيمة من
فدحة الدين إذا أثقله واحترز بذلك من مطلق
المشقة فإن السفر لا يخلو عنها ولذلك رخص فيها
للمسافر بالقصر والفطر وقد قال عليه الصلاة
والسلام: "السفر قطعة من العذاب"1 متفق عليه
وقال سند المشقة على حسب الأحوال فما هان
تحمله لم يؤثر وما صعب أثر انتهى. الثاني: إذا
فسرنا الاستطاعة بإمكان الوصول كما هوالمشهور
دخل في ذلك إمكان المسير وأمن الطريق وإن
فسرناها بالزاد والراحلة قال سند: فهما شرطان
زائدان قال أصحاب الشافعي ومعظم أصحاب أبي
حنيفة هما شرطا وجوب وهو الجاري على أصول
أصحابنا وقول ابن حنبل وبعض الحنفية هما شرطا
أداءها وعلى هذا فعطف المصنف الأمن على النفس
والمال على إمكان الوصول من باب عطف الخاص على
العام لزيادة الاهتمام به.
الثالث: معنى إمكان المسير أن يبقى بينه وبين
الحج زمان يمكنه المسير فيه السير المعتاد لأن
فعل العبادة لا يجب إلا بإمكانه كسائر
العبادات قاله سند قال ابن جماعة الشافعي إثر
نقله كلام سند وقال غيره من المالكية إن كان
يمكنه حمل المشقة في ذلك لزمه الحج انتهى.
قلت: والظاهر أن هذا ليس بخلاف لما قاله سند
لأنه إذا كان يمكنه حمل المشقة وليست عظيمة
فهو مستطيع فيلزمه الحج وإن كانت المشقة عظيمة
فالظاهر أنه لا يقول أحد بوجوب
ـــــــ
1 رواه البخاري في كتاب العمرة باب 19. كتاب
الأطعمة باب 30. مسلم في كتاب الإمارة حديث
179. الدارمي في كتاب الاستئذان باب 40.
الموطأ في كتاب الاستئذان حديث 39. أحمد في
مسنده (2/236، 445، 496).
(3/449)
__________
تحملها وإذا لم يبق بينه وبين زمن الحج زمن
يمكنه فيه المسير فلا يلزمه الحج في هذه السنة
ويكون موسعا عليه فيه إلى الوقت الذي يمكنه
فيه المسير من السنة القابلة فيجب عليه حينئذ
الخروج والله أعلم.
الرابع: قال في الطراز: إذا كانت له طريق
وتعذرت عليه كخوفها من عدو أو غور مائها وشبه
ذلك مما يتعذر معه السفر فإن كانت له طريق
أخرى لم يسقط الوجوب وإن كانت أبعد كما لا
يسقط الوجوب عمن بعدت داره إلا أن يكون في كلا
الطريقين عذر قاطع انتهى. وأصله للخمي ونصه
الحج يجب في البر على الطريق المعتاد من غير
عزم يغرمه لمانع طريق فإن منع من ذلك الطريق
ووجد السبيل من غيره وإن كان أبعد منه لم يسقط
الحج وإن كان أوعر بأمر يدركه فيه مشقة أو كان
مخوفا من سباع أو عدو أو لصوص أو ما أشبه ذلك
لم يلزمه الحج انتهى. ونقله صاحب الشامل ونصه
ويعتبر الأمن على النفس اتفاقا وعلى المال من
لصوص على المشهور أو ما يأخذ ظالم مما يجحف به
أو غير معلوم إن لم يجد طريقا سواه أو كانت
مخوفة أو وعرة تشق وإلا وجب كأخذه ما لا يجحف
على الأظهر إن لم ينكث انتهى. وجعل اللخمي من
العذر أن تكون الطريق الثانية أوعر بأمر يدركه
فيه مشقة يريد المشقة العظيمة كما تقدم.
قلت: وإذا كان له طريقان يمكن سلوك كل منهما
وإحداهما توصل في عام والأخرى في عامين تعين
عليه سلوك القربى على القول بأن الحج على
الفور ويترجح سلوكها على القول بالتراخي كما
سيأتي إن شاء الله للخمي في مسألة سلوك البر
والبحر.
الخامس: السلطان الذي يخاف أنه متى حج اختل
أمر الرعية ويفسد نظامهم من خوف عدو الدين أو
المفسدين من المسلمين ويغلب على الظن وقوع ذلك
فالظاهر أنه غير مستطيع كما يؤخذ ذلك من كلام
ابن رشد الآتي عند قول المصنف وفضل حج على غزو
وسئلت عن ذلك وعن حكم استئجاره من يحج عنه بما
نصه ما قولكم في سلطان عليه حجة الإسلام وخاف
أنه متى حج بنفسه اختل أمر الرعية وفسد نظامهم
واستولى الكفار على بلادهم فهل يجوز له أن
يستأجر من يحج عنه أم لا أو ما الحكم في ذلك
فأجبت إذا تحقق ما ذكر من اختلال أمر الرعية
وفساد نظامهم واستيلاء الكفار على بلادهم بسبب
حج هذا السلطان فلا كلام في سقوط الحج عنه
لأنه غير مستطيع ويصيرالحج في حقه غير واجب
والمشهور في المذهب كراهة هذه الإجارة حينئذ
فيه وصحتها إن وقعت والحالة هذه والله أعلم.
ومقابل المشهور يقول بجوازها ابتداء وأجاب
سيدي أبو القاسم ابن القاضي أبي السعادات بأنه
إن كان لا يرجى له زوال ذلك فحكمه حكم المغصوب
فيجوز له الاستئجار وإن رجى زوال ذلك لم يجز
وهو كالمرجو الصحة ونصه الأصل أن العبادة
البدنية لا يجوز فيها النيابة لكن لما
(3/450)
__________
كان الحج متركبا من عمل بدني وعمل مالي ورد
النص في الحديث الشريف بقبول النيابة فيه في
حق المغصوب وهو كما قال ابن عرفة وغيره: من لا
يرجى ثبوته على الراحلة الباجي كالزمن والهرم
فالسلطان المذكور إن تحقق أن ما خشيه من
اختلال أمور الرعية وصف لا يرجى زواله فهو
كالمغصوب ومشهور المذهب جواز الاستنابة فيه
بمعنى أن له أجر النفقة والدعاء وإن رجى زوال
ما خشيه فلا يجوز فيه الاستنابة كالمريض
المرجو صحته ومن في معناه والحالة هذه ورأيت
بخط القاضي عبد القادر الأنصاري صورة استئجار
ونصه باختصار لما عظم الله حرمة البيت وأوجب
حجه وكان السلطان أبو عبد الله محمد بن نصر
الأنصاري السعدي الخزرجي ممن شطت به الديار
واشتغل بما تعين عليه من الجهاد في ذات الله
فلحق بمن عجز عن زيارة البيت أحب أن يستنيب في
الحج على أحد الأقوال في مذهب مالك رضي الله
عنه وإن كان غير مشهور لما نص عليه بعض
العلماء من أن هذا القول هو الصحيح واستدل له
بما في صحيح مسلم انتهى. ولعل القول الغير
المشهور هو ما مشى عليه مؤلف المختصر من أنه
يكره للعاجز والقول المشهور هو ظاهر كلام ابن
الحاجب حيث قال ولا استنابة للعاجز على
المشهور فإن بعض الشراح أبقاه على ظاهره من
المنع فتأمله وقال الأبي في شرح مسلم في حديث
الخثعمية لما تكلم على الاستطاعة ونقل أن
القادر لا يستنيب اتفاقا وإجماعا وهذا الذي
يفعل اليوم كثير من شراء الحجات ويقولون إنه
على مذهب المخالف هو والله أعلم. إنما يفعل في
حق من تعذر عليه الوصول وفعله الشيخ أبو عبد
الله عام حج فذكر أنه اشترى للخليفة سلطان
إفريقية الأمير أحمد أبي العباس حجة انتهى.
وأجاب سيدي الإمام محمد بن زين الدين القطان
الشافعي إمام مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم
وخطيبه بما نصه الذي رضي به السبكي ونقله
البلقيني عن نص الشافعي أن هذا من الحصر الخاص
وأنه لا يمنع الوجوب ويلزمه الحج ويستنيب من
يحج عنه إن أيس من القدرة على ذلك بنفسه ولم
يتمكن منه لما يحصل من الضرر ويكون كالمغصوب
فإذا زال عذره وقدر على الحج بنفسه وجب عليه
الحج ولا يسقط عنه بفعل النائب لكن مقتضى كلام
النووي والرافعي في باب الإحصار أن المعتمد في
المذهب عدم وجوب الحج عليه ولا يستقر في ذمته
وأن الحصر الخاص يمنع الوجوب فيمتنع الاستئجار
عند اليأس لعدم الوجوب والله أعلم بالصواب.
السادس: قال الشيخ زروق في شرح الوغليسية انظر
هل يجب على أهل الخطوات وإذا فعل هل يجزئه أو
لا بد من اعتبار فعله صلى الله عليه وسلم
انتهى.
قلت: أما الإجزاء فالظاهر أنه لا مانع منه
وأما الوجوب فمحل نظر كما قال والله أعلم.
السابع: شمل قوله: وأمن على نفس إلا من القتل
والأسر والأمن على البضع ولا
(3/451)
إلا لأخذ ظالم
ما قل لا ينكث على الأظهر،
__________
خلاف في اعتبار ذلك وشمل قوله: ومال الأمن على
المال من اللصوص جمع لص مثلث الأول وهو في
الأصل السارق لكن المراد به هنا والله أعلم.
المحارب الذي لا يندفع إلا بالقتال لقوله في
التوضيح لا يشك في اعتبار الأمن على النفس
وأما المال فإن كان من لصوص فكذلك لأنه مؤد
إلى ضياع النفس من غير فائدة انتهى. وقد يطلق
اللص على المحارب وأما السارق الذي يندفع
بالحراسة فلا يسقط به الحج وهو ظاهر وشمل أيضا
كلامه الأمن على المال من المكاس وهو الذي
يأخذ من أموال الناس شيئا مرتبا في الغالب
وأصل المكس في اللغة النقص والظلم ويقال له
العشار لأنه يأخذ العشور في كثير من البلاد
ومنه الرصدي الذي يرقب الناس على المراصد
ليأخذ منهم مالا وهو بفتح الراء مع فتح الصاد
وإسكانها قاله الشيخ زكريا في شرح الروض ولما
كان ما يأخذه المكاس فيه تفصيل نبه على ذلك
بقوله بما سيأتي وما ذكرناه من اعتبار الأمن
على المال من اللصوص هو المعروف وحكى المصنف
في التوضيح عن أبي محمد عبد الصادق في شرح
الرسالة أنه قال: قال مالك فيمن لا يستطيع
الحج من اللصوص: هو عذر بين ثم رجع بعدما أفتى
به زمانا فقال لا ينجي حذر من قدر ويجب عليه
الحج قال ابن المواز: لم يقل ذلك مالك إلا في
مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم وأما غيرها
من الأمصار فهو مخير إن شاء أجاب وإن شاء ترك
وانظر ما وجه التفريق بين المدونة وغيرها وقال
في الشامل: وعلى المال من لصوص على المشهور
انتهى. وكأن مقابل المشهور عنده ما نقله أبو
محمد عبد الصادق وأبو محمد عبد الصادق نقله عن
ابن رشد في كتاب جمل من أصول العلم وذكر ابن
فرحون كلام عبد الصادق وجعله مسألة مستقلة
فيوهم كلامه أنه المذهب وليس كذلك بل تحصيل
المذهب ما ذكره التادلي عن القرافي من التفصيل
بين أن يأخذ ما لا يتحدد أو يتحدد ويجحف فلا
يجب وبين أن يأخذ ما لا يجحف ففي ذلك قولان
كما سيأتي بيانه في القولة التي بعد هذه والله
أعلم. ص: "إلا لأخذ ظالم ما قل لا ينكث على
الأظهر". ش: لما ذكر أنه يعتبر الأمن على
المال استثنى من ذلك ما إذا كان عدم الأمن
عليه إنما هو لأن في الطريق مكاسا يأخذ من
المال شيئا قليلا ولا ينكث بعد أخذه لذلك
القليل فذكر أن في ذلك قولين أظهرهما عدم سقوط
الحج والثاني سقوطه قال في التوضيح: إن كان ما
يأخذه المكاس غير معين أو معينا مجحفا سقط
الوجوب وفي غير المجحف قولان أظهرهما
(3/452)
__________
عدم السقوط وهو قول الأبهري واختاره ابن
العربي وغيره والآخر حكاه ابن القصار عن بعض
الأصحاب انتهى.
تنبيهات: الأول: ظاهر كلامه في التوضيح أنه
إذا كان المكاس يأخذ ما يجحف سقط الحج من غير
خلاف وظاهر ما نقله التادلي عن ابن العربي أنه
يختار عدم السقوط سواء طلب ما يجحف أم لا يجحف
خلاف ما نقله عنه في التوضيح ونصه قال صاحب
السراج فإن طلب منه الظالم في طريق أو في دخول
مكة مالا فقال بعض الناس لا يدخل ولا يعطيه
وليرجع أن يعطيه ولا ينبغي أن يدخل في ذلك
خلاف فإن الرجل بإجماع الأمة يجوز له أن يمنع
عرضه ممن يهتكه بماله وقالوا كل ما وقى به
المرء عرضه فهو صدقة فكذلك ينبغي أن يشتري
دينه ممن يمنعه إياه ولو أن ظالما قال لرجل لا
أمكنك من الوضوء والصلاة إلا بجعل لوجب عليه
أن يعطيه إياه انتهى. وصاحب السراج هو ابن
العربي فظاهر كلامه هذا أنه لم يفرق بين ما
يجحف وما لا يجحف كما نقله صاحب التوضيح وفي
كلام ابن عبد السلام ميل إلى هذا فإنه قال
وتقدم أنه لا يعتبر بقاؤه فقيرا أو أنه يبيع
عروضه وأنه يترك ولده للصدقة وذلك يقتضي أنه
لا يراعي ما يجحف فضلا عما لا يجحف قال المصنف
في التوضيح بعد نقله كلام ابن عبد السلام وقد
يفرق بأن في الإعطاء هنا إعانة للظالم على
ظلمه وبغيه انتهى.
قلت: ويمكن أن يفرق بأن تلك الأمور لا بد منها
ولا يمكنه الوصول إلا بها بخلاف هذه فتأمله
والله أعلم.
الثاني: ظاهر كلام المصنف هنا أن محل الخلاف
إذا كان المأخوذ قليلا وأما إن كان المكاس
يطلب الكثير فإنه يسقط الحج ولو كان ذلك
الكثير لا يجحف بالمأخوذ منه وهو ظاهر كلام
اللخمي أو صريحه وظاهر كلام المصنف في توضيحه
ومناسكه أن محل الخلاف ما لا يجحف ولو كان في
نفسه كثيرا وهو ظاهر كلام القاضي عبد الوهاب
والقرافي وغيرهما قال التادلي: قال القرافي:
يسقط فرض الحج إذا كان في الطريق عدو يطلب
النفس أو من المال ما لا يتحدد أو يتحدد ويجحف
وفي غير المجحف خلاف انتهى. ولا شك في تغاير
العبارتين لأن المجحف وغير المجحف يختلفان
باختلاف الناس فرب شخص يجحف به الدينار وآخر
لا يجحف به العشرة ولهذا قال ابن عرفة: لا
يسقط بعدم اليسير قال وظاهر قول القاضي ولا
بكثير لا يجحف انتهى. قلت: واعتبار المجحف
وغير المجحف هو ظاهر عبارة الأكثر وهو الظاهر
ويمكن أن يقال مراد المصنف بقوله ما قل أن
يكون المأخوذ قليلا بالنسبة إلى المأخوذ منه
ولا يجحف به وإن كان كثيرا في نفسه فيتفق
كلامه في كتبه الثلاثة وقال سند بعد أن ذكر
كلام القاضي عبد الوهاب والذي قاله حسن ونص
كلامه إذا كان المنع إنما هو لمغرم فقال في
(3/453)
__________
المعونة: إذا كان يجحف لم يلزم فاعتبر ما تبلغ
مضرته من ذلك إلى حد لا يحتمل وقال أصحاب أبي
حنيفة والشافعي إذا لم يمكنه المسير إلا بدفع
شيء من ماله لم يجب عليه وقاله من أصحابنا
القاضي أبو عبد الله البصري المعروف بعلعل
والذي قاله القاضي يعني في المعونة حسن فلا
يسقط عن الموسر بانتقاص دينار من ماله وضرر
ذلك يحتمل انتهى. وممن قال بسقوط الحج بغير
المجحف أبو عمران الفاسي فإنه أفتى جماعة مشوا
معه للحج فطلب منهم أعرابي على كل جمل ثمن
درهم بأن يرجعوافرجعوا ذكره الزناتي في شرح
الرسالة ونقله ابن فرحون والتادلي وغيرهما
والله أعلم.
الثالث: قيد المصنف هنا الوجوب بكون الظالم لا
ينكث وأطلق ذلك في مناسكه وما قاله هنا هو
المتعين ويحمل كلامه في مناسكه عليه وقد وقع
ذلك في كلام القاضي عبد الوهاب وغيره واحترز
بذلك مما إذا كان الظالم ينكث قال الشيخ زروق
في شرح هذا المحل من المختصر أو جهل حالة فإنه
لا يختلف في سقوط الحج وسيأتي في كلام البرزلي
عن ابن رشد ما يدل على ما ذكره الشيخ زروق وقد
علم من هذا أن قوله: على الأظهر راجع إلى
قوله: ما قل لا إلى قوله: لا ينكث إذ لا خلاف
في سقوط الحج إذا كان ينكث ولا يؤمن غدره ونبه
على ذلك ابن غازي ولو قدم قوله: لا ينكث على
قوله: ما قل فقال إلا لأخذ ظالم لا ينكث ما قل
على الأظهر لكان أبين.
الرابع: قوله: "على الأظهر" يقتضي أن ابن رشد
هو الذي استظهر هذا القول الذي رجحه وقال ابن
غازي لم أجده له في المقدمات ولا في البيان
ولا في الأجوبة ولا عزاه له ابن عرفة ولا
المصنف في توضيحه ولا في مناسكه وإنما قال في
قول ابن الحاجب وفي سقوطه بغير المجحف قولان
أظهرهما عدم السقوط وهو قول الأبهري واختاره
ابن العربي وغيره انتهى.
قلت: رأيت في أوائل مسائل الحج من البرزلي في
جواب سؤال عزاه لابن رشد ذكر فيه قولين وصدر
بالقول بعدم السقوط ما نصه والأول أولى إن سأل
يسيرا أو علم عدم غدره قياسا على عادم الماء
يلزمه شراؤه إن كان يسيرا لا يجحف به وإن أجحف
لم يلزمه شراؤه انتهى. فلعل المصنف وقف على
هذا الكلام فأشار إليه وقال ابن الفرس في
أحكام القرآن هو قول أكثر أصحاب مالك قال وهو
الأظهر وتقدم أنه اختيار ابن العربي وأن ابن
عبد السلام مال إليه وتقدم عزو مقابله وممن
قال به أبو عمران كما تقدم في الجماعة الذين
أفتاهم بالرجوع لما طلب منهم ثمن دينار على كل
جمل.
الخامس: قال سند: أما ما يأخذه الجند على من
بذرقة الحجيج ليدفعوا عنهم كل يد عادية فقال
الشيخ أبو بكر بن الوليد هي من وجه تشبه سائر
النفقات اللازمة لأن أخذها
(3/454)
__________
للجند جائز إذ لا يلزمهم الخروج معهم فهي أجرة
يصرفونها في الكراع والسلاح وهي من وجه تشبه
الظلم لأن أصل توظيفها خوف قاطع الطريق انتهى.
ونقله ابن جماعة الشافعي في منسكه عن الشيخ
أبي بكر وزاد عليه وقد اتفق على جواز
استئجارهم من يخفرهم من الأعراب واللصوص مع
تجويز الغرر وقال إن أجرة الدليل تجب على
المكلف فلا يسقط بها الفرض انتهى. وقال
البرزلي في أثناء جواب سؤال ابن رشد: ولم يقع
خلاف فيما يأخذه الحافظ من اللصوص إذا قل ووقع
الخلاف فيما يأخذه الظالم لأنه لا يؤمن نكثه
والحافظ ليس بظالم فيما يأخذه إن لم يكن مثلهم
وإنما هو أجير فوجب أن يؤتمن انتهى. وقوله
لأنه لا يؤمن نكثه تعلل لوقوع الخلاف فيه
ومراده أنه يجوز أن ينكث لأنه ظالم ليس له دين
يمنعه وأما لو علم نكثه أو شك فيه فقد تقدم
أنه لا يجب الحج بلا خلاف وتحصل من هذا أن
أجرة الدليل وما يأخذه الجند ومن يحفظ الحجاج
من اللصوص لا يسقط بها الحج والله أعلم.
والبذرقة بفتح الموحدة وسكون الذال المعجمة
ويقال بالمهملة أيضا وفتح الراء وبعدها قاف ثم
هاء تأنيث لفظة عجمية معناها الخفارة قاله في
القاموس ولم يذكرها في الصحاح وقال النووي في
تهذيبه هي الخفير وهو الذي يحفظ الحجاج
ويحرسهم وكأنها تطلق على المعنيين والخفارة
بضم الخاء المعجمة وكسرها وفتحها حكى ذلك صاحب
المحكم ونقله النووي في تهذيبه ولم يحك في
الصحاح والنهاية الفتح واقتصر القاضي عياض في
المشارق على الضم وفسرها بالذمة وكذا صاحب
الصحاح وفسرها في النهاية بالذمام وهو بمعنى
الذمة وقال النووي إنها جعل الخفير والله
أعلم.
السادس: قال الشيخ زروق في شرح الوغليسية قول
القائل الحج ساقط عن أهل المغرب قلة أدب وإن
كان الأمر كذلك والأولى أن يقال الاستطاعة
معدومة في المغرب ومن لا استطاعة له لا حج
عليه ورأيت كتابا في الرد على قائل هذه الكلمة
ومن قالها من العلماء فقصده التقريب إلى فهم
العامة انتهى.
قلت: وقفت على تأليف في الرد على قائل هذه
الكلمة للشيخ أحمد بن محمد اللخمي السبتي
ولعله الذي ذكره الشيخ زروق وأوله سألت أيها
الأخ عن قول من قال الحج ساقط عن أهل المغرب
وذلك مذكور عن بعض من يعزي إلى الفقه من
المتأخرين ويأبى الله والمسلمون سقوط قاعدة من
قواعد الإسلام وركن من أركان الدين وعلم من
أعلام الشريعة عن مكلف ضمه أفق من آفاق الدنيا
أو صقع من أصقاع الأرض وهذا معلوم في الكتاب
والسنة والإجماع وأطال في ذلك وحض في آخر
كلامه على أن أمن الطريق الذي هو من أحكام
الاستطاعة مفقود عندهم والصقع بضم الصاد
المهملة وسكون القاف الناحية ويقال بالسين
واللفظ المذكور حكاه التادلي عن جماعة فحكى عن
المازري أن الشيخ أبا الوليد أفتى بسقوط الحج
عن أهل الأندلس وأن الطرطوشي بضم الطاء الأول
أفتى بأنه حرام على أهل
(3/455)
__________
المغرب وأن من غر وحج سقط فرضه ولكنه آثم بما
ارتكب من الغرر وذكر عن مدخل ابن طلحة أن
السبيل السابلة اسم لا يكاد يوجد ثم ذكر عنه
أنه قال لقيت في الطريق ما اعتقدت أن الحج معه
ساقط عن أهل المغرب بل حرام وذكر عن ابن
العربي أنه رد هذا ونصه وفي تعليق المازري ما
نصه قد علق الله الحج على الاستطاعة وبين
العلماء أن الاستطاعة هي الوصول إلى البيت من
غير مشقة مع الأمن على النفس والمال والتمكن
من إقامة الفرائض وترك التفريط وارتكاب
المناكير وسبب هذه الشروط أن الشيخ أبا الوليد
أفتى بسقوط الحج عن أهل الأندلس وأفتى
الطرطوشي بأنه حرام على أهل المغرب فمن غر وحج
سقط فرضه ولكنه آثم بما ارتكب من الغرر وهذا
قول أئمة المسلمين المقتدى بهم فاعلموه
واعتقدوه وفي مدخل ابن طلحة السبيل السابلة
اسم لا يكاد يوجد له مسمى فلقد دخلت الطريق من
الأندلس إلى إشبيلية ثم الى بجاية وعبرت
الزقاق وتخيلت وجود السبيل ثم خرجت إلى
المهدية فلقيت في بلاد المغرب ما اعتقدت أن
الحج معه ساقط على أهل المغرب بل حرام ثم قال
ولكن الانصراف فيما بين الله وبين العبد أولى
من تقحم هذه المخاطرات ولله الأمر من قبل ومن
بعد وما أصابكم من مصيبة فيما كسبت أيديكم ورد
ابن العربي على هؤلاء فقال العجب ممن يقول
الحج ساقط عن أهل المغرب وهو يسافر من قطر إلى
قطر ويقطع المخاوف ويخرق البحار في مقاصد
دينية ودنيوية والحال واحد في الخوف والأمن
والحلال والحرام وإنفاق المال وإعطائه في
الطريق وغيره لمن لا يرضى انتهى. ما نقله
التادلي ونقله ابن فرحون وقال ابن معلى.
إشارة صوفيه: قال الإمام أبو عبد الله المازري
حين تكلم على هذه المسألة أعني مسألة سقوط فرض
الحج عمن يكره على دفع مال غير مجحف به لظالم
استغرمه إياه ما نصه وقد خاض في هذه المسألة
المتأخرون وأكثروا فيها القول فكل تعلق بمقدار
ما يكثر على سمعه من المسافرين إلى مكة شرفها
الله من تهويل ما يجري على الحجاج قال ولقد
حضرت مجلس شيخنا أبي الحسن اللخمي بصفاقص
وحوله جمع من أهل العلم من تلامذته وهم
يتكلمون على هذه المسألة فأكثروا القول
والتنازع فيها فمن قائل بالإسقاط ومن متوقف
صامت والشيخ رحمه الله لا يتكلم وكان معنا في
المجلس الشيخ أبو الطيب الواعظ وكنا ما
أبصرناه فأدخل رأسه في الحلقة وخاطب الشيخ
اللخمي وقال يا مولاي الشيخ:
إن كان سفك دمي أقصى مرادهم ... فما غلت نظرة
منهم بسفك دمي
فاستحسن اللخمي هذه الإشارة من جهة طرق
المتصوفة لا من جهة التفقه انتهى. ونقله
التادلي قال: وأنشد في السراج:
قالوا توق رجال الحي إن لهم ... عينا عليك إذا
ما نمت لم تنم
فقلت إن دمي أقصى مرادهم ... وما غلت نظرة
منهم بسفك دمي
والله لو علمت نفسي بمن هويت ... جاءت على
رأسها فضلا عن القدم
(3/456)
ولو بلا زاد
وراحلة لذي صنعة تقوم به وقدر على المشي كأعمى
بقائد وإلا اعتبر المعجوز عنه
__________
والله أعلم. ص: "ولو بلا زاد وراحلة لذي صنعة
تقوم به وقدر على المشي كأعمى بقائد وإلا
اعتبر المعجوز عنه منهما". ش: لما ذكر أن
الاستطاعة على المشهور هي إمكان الوصول بلا
مشقة عظيمة مع الأمن على النفس والمال بين أن
ذلك يختلف باختلاف الناس فقد يجب الحج بلا زاد
ولا راحلة إذا كان المكلف له صنعة يعملها في
الطريق وتقوم به بأن يقدر على فعلها وتكون
نافعة بحيث يحصل منها قوته ويكون قادرا على
المشي كالجمال والعكام والخراز والنجار ومن
أشبههم وأشار بلو إلى قول سحنون وابن حبيب
المتقدم وابن أبي سلمة زاد الشيخ زروق وابن
أبي أويس القائلين باشتراط الزاد والراحلة
وتقدم بيان ذلك ثم نبه على أنه لا يشترط أن
يكون المكلف صحيح الأعضاء جميعها فلو كانت به
زمانة في بعض أعضائه وأمكنه الوصول معها إلى
مكة بلا مشقة عظيمة مع الأمن وجب عليه الحج
وذلك كأعمى إذا وجد قائدا يقوده في الطريق ولو
بأجرة إذا قدر عليها وكانت له قدرة على المشي
أو كانت له صنعة يعملها في الطريق أو لا تكون
له صنعة ووجد الزاد ومن يحمله أو كانت له قدرة
على حمل زاده ومثله أقطع اليدين وأشلهما وأقطع
الرجلين وأشلهما والأعرج إذا قدروا على الوصول
وكذلك الأصم بل هو أحرى ولذلك أتى بالكاف في
قوله: كأعمى بقائد قال اللخمي: ومن كانت به
زمانة أو ضرورة نظر أو غيرذ ذلك مما يقدر معها
على الركوب وله مال يكترى به لركوبه ومن يخدمه
لزمه الحج وإن كان صحيحا يقدر على المشي لزمه
الحج إذا كان يقدر على أن يستأجر من يقوده ثم
هو في العيش على ما تقدم وإن كان له مال أو
كان يتكفف انتهى. وقال ابن جماعة مذهب
المالكية وجوب الحج على الأعمى إذا وجد قائدا
ولو بأجرة وقدر على المشي أو وجد المركوب
ومقطوع الرجلين واليدين كغيره إذا وجد من يقوم
بأمره عند الشافعية وهو مقتضى قول المالكية
انتهى. كأنه يشير إلى كلام اللخمي المتقدم
وقوله وإلا اعتبر المعجوز عنه منهما أي وإن لم
يكن الوصول بلا زاد ولا
(3/457)
__________
راحلة فيعتبر ما عجز عنه منهما أي من الزاد
والراحلة في جانب الوجوب ومتى وجد المعجوز عنه
وجب ويحتمل أن يعتبر المعجوز عنه منهما في
جانب السقوط فمتى عجز عن أحدهما سقط وكلامه
شامل لثلاث صور لأنه إما أن يعجز عن الزاد فقط
فيعتبر في حقه وجوده ووجود ما يحمله عليه إن
لم يقدر على حمله أو يعجز عن المشي فيعتبر في
حقه وجود المركوب بكراء أو بشراء أو يعجز
عنهما فيعتبران جميعا قال سند: فإن لم يقدر
على المشي ولم تكن له صنعة اعتبر في حقه وجود
الزاد والراحلة فإذا قدر عليهما ولم يكن به
مرض ولا ضعف يمنعه من الركوب فهذا يجب عليه
وإن لحقته مشقة إلا أن تكون عظيمة لا يمكنه
تحملها مثل أن يشق عليه ركوب القتب والزاملة
فيعتبر في حقه وجود المحمل وإن قدر على المشي
ولم تكن له صنعة تقوم به اعتبر في حقه وجود
الزاد المبلغ إلى مكة أو ما يرد به إلى بلده
على ما يأتي من الخلاف فإن كانت له صنعة إلا
أنها لا تقوم به فإذا وجد من الزاد ما يقوم به
مع صنعته وجب عليه الحج ولو كانت له صنعة تقوم
به ولكنه لا يقدر على المشي اعتبر في حقه وجود
الراحلة انتهى.
تنبيهات: الأول: ظاهر كلام المصنف أن من له
قدرة على المشي يجب عليه الحج وإن لم يكن
المشي من شأنه وعادته وهكذا قال اللخمي وسيأتي
الخلاف فيه في التنبيه الذي بعده
الثاني: يشترط في الصنعة التي يلزمه الخروج
معها أن لا تزري به قال اللخمي: قال القاضي
عبد الوهاب: من قدر على الوصول إلى مكة من غير
تكلف بذلة يخرج بها عن عادته لزمه الحج قال
اللخمي: أما الخروج عن عادته في المشي إذا لم
يكن عادته وشأنه فغير مراعى ولم يزل الناس
والصحابة يعدون ذلك شرفا وإن أراد التكفف
والسؤال فيمن ليس ذلك شأنه فحسن انتهى. وقوله
بذلة متعلق بتكلف وقال ابن عرفة: وفي كون قدرة
غير معتاد المشي عليه استطاعة قولا اللخمي
والباجي مع القاضي انتهى. قلت: وافقهما صاحب
الطراز فإنه ذكر كلام القاضي ثم قال بعده
والذي قاله بين فإن قيل المشي في الحج فضيلة
قلنا نعم غير أنه لا يلزم والقاضي تكلم فيما
يلزم انتهى. وظاهر كلام المصنف هنا وفي مناسكه
اللزوم وإن لم يكن معتادا كما قال اللخمي وأما
كون الصناعة التي يفعلها يعتبر فيها أن لا
تزري به فظاهر وقد قال ابن فرحون في شرح ابن
الحاجب: أما من قدر على أن يؤاجر نفسه وهو حاج
ولا يزري ذلك به فيجب عليه الحج والله أعلم.
الثالث: تقييده هنا الأعمى بوجود القائد
وإدخاله عليه الكاف أحسن من تركه الأمرين في
مناسكه لما بيناه ولكن يحمل كلامه هناك على ما
قاله هنا والله أعلم.
الرابع: إذا قدر أن يمشي بعض الطريق ويركب
البعض ووجد إلى ذلك سبيلا لزمه الحج قاله في
الطراز هو واضح.
(3/458)
__________
الخامس: إذا لم يقدر على الركوب على القتب
والزاملة إلا بمشقة عظيمة اعتبر في حقه وجود
المحمل والقدرة عليه كما تقدم في كلام صاحب
الطراز قال ولو لحقته المشقة العظيمة في ركوب
المحمل أيضا اعتبر في حقه وجود الكنيسة انتهى.
قال ابن جماعة الشافعي والكنيسة كما قال
المطرزي شبه الهودج انتهى. وقال الشيخ زكريا
في شرح الروض وهي أعواد مرتفعة بجوانب المحمل
عليه ستر يدفع الحر والبرد ويسمى في العرف
مجموع ذلك محارة وهي مأخوذة من الكنس وهو
الستر ومنه قوله تعالى: {الْجَوَارِ
الْكُنَّسِ} [التكوير:16] أي المحجوبة انتهى.
السادس: أطلق أهل المذهب في وجوب تحصيل
المركوب بشراء أو غيره ولم يقيدوا ذلك بوجوده
بثمن المثل وأجرة المثل وقيده غيرهم بأن يحصل
ذلك بثمن المثل وأجرة المثل كما نقله ابن
جماعة في منسكه الكبير والظاهر من كلام
أصحابنا أنه إذا طلب منه أكثر من ذلك وكان
قادرا عليه لزمه ذلك والله أعلم. ونص ابن
جماعة وحيث اعتبرنا القدرة على المركوب وما
يتعلق به فالمراد عند غير المالكية أن يملكه
أو يتمكن من تملكه أو استئجاره بثمن المثل أو
أجرة المثل أو زيادة عند الحنابلة كما سيأتي
بيانه إن شاء الله وقال في الزاد وقال
المالكية إنه يحصل ذلك بشراء وأطلقوا ويشترط
أن يكون ما يصرفه في ذلك فاضلا عما يشترط كون
الزاد فاضلا عنه وسيأتي بيانه انتهى. وقال في
الزاد ويشترط عند الثلاثة غير الحنفية أن يكون
فاضلا عن قضاء دين عليه حال أو مؤجل وأطلق
الحنفية اشتراط أن يكون ذلك فاضلا عن الديون
وقال الشافعية والحنابلة إذا كان ماله دينا
يتيسر تحصيله في الحال فهو كالحاصل في يده
وإلا فهو كالمعدوم وهو مقتضى مذهب المالكية
انتهى. وقال ابن فرحون في منسكه فمن قدر على
الوصول إلى مكة إما راجلا أو راكبا بشراء أو
كراء فقد لزمه فرض الحج انتهى.
السابع: قال عبد الحق في التهذيب: رأيت لبعض
أهل العلم أن من تمام الاستطاعة وجود الماء في
كل منهل وذلك أنه لا بد منه لكل أحد فيعتبر
وجوده في كل منهل لا دفعة واحدة كالزاد والفرق
بينه وبين الزاد حيث اعتبر دفعة واحدة هو أن
العادة في الزاد أن يحمل دفعة واحدة لطول
الطريق والماء إنما يحمل في كل منزل وأيضا
لحمل الزاد دفعة لا يشق وفي حمل الماء لطول
الطريق مشقة شديدة ومؤنة كبيرة من قبل أن
الإنسان يحتاج الماء أكثر من الزاد فيشق حمله
فلذلك اعتبر وجوده في كل منزل وهذا الذي ذكره
كلام مستقيم فاعلمه انتهى. ونقله المصنف في
توضيحه بلفظ ونقل عبد الحق عن بعض شيوخه أنه
يعتبر في الاستطاعة وجود الماء في كل منهل
ونقله ابن عرفة بلفظ وصوب عبد الحق قول بعض
العلماء من الاستطاعة وجود الماء في كل منهل
ونقله الجزولي في شرح الرسالة بلفظ من شرط
الحج أنه يجد الماء في كل منهل قاله عبد الحق
وهو تفسير للمذهب ونقله التادلي
(3/459)
منهما وإن بثمن
ولد زناً
__________
والأقفهسي والبرزلي وقبلوه قال البرزلي: قال
شيخنا الإمام يعني ابن عرفة ولهذا لم يحج أكثر
شيوخنا لكون الماء يتعذر غالبا في بعض المناهل
وحكاه في الشامل بقيل وذلك يقتضي تضعيفه وأنه
خلاف المذهب وكلام الجماعة المتقدمين يقتضي
اعتماده وأنه المذهب وهو الظاهر والله أعلم.
والمراد بذلك والله أعلم. وجوده في المناهل
التي جرت العادة بوجود الماء فيها غالبا وجوده
في كل مرحلة فإن ذلك متعذر فتأمله وقال الأبي
في شرح مسلم في حديث الخثعمية لما تكلم على
الاستطاعة قلت: وما ذكر عن بعضهم من الاستطاعة
وجود الماء في كل منزل لا يريد به منزل كل يوم
إنما يريد في كل زمان يحتاج فيه إليه انتهى.
وقوله في كل منزل يعني المنهل كما تقدم في
كلام عبد الحق حيث عبر عنه في أول كلامه
بالمنهل وفي آخره بالمنزل والله أعلم. ص: "وإن
بثمن ولد زنا". ش: يعني أن المعتبر في
الاستطاعة هو إمكان الوصول على التفصيل
المذكور وإن حصل ذلك الإمكان بثمن مملوك
للمكلف وكان ذلك المملوك ولد زنا لأن ثمن ولد
الزنا حلال لمالكه لا شبهة فيه لأنه عبده وإثم
الزنا على أبويه وإنما نبه على هذا لئلا يتوهم
أن كون الولد ناشئا عن الزنا مانع من الحج
بثمنه ولأن كلام ابن رشد الآتي يقتضي أن
المستحب عند مالك أن لا يحج به يعني ممن يملك
غيره كما سيأتي التنبيه على ذلك وأصل هذه
المسألة في الموازية وفي العتبية في رسم
المحرم من سماع ابن القاسم من كتاب الحج وفي
كتاب الجامع أيضا ولفظ الرواية سئل مالك هل
يحج بثمن ولد الزنا قال أليس من أمته ولدته من
زنا قال نعم قال لا بأس بذلك قال ابن رشد:
مذهب مالك أنه يجوز أن يحج بثمن ولد الزنا
وأنه يعتق في الرقاب الواجبة وإن كان
الاستحباب عنده غبر ذلك وروى أشهب عنه في
سماعه من كتاب العتق أنه استحسن أن لا يعتق في
الرقاب الواجبة وقال قال الله سبحانه: {وَلا
تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ}
[البقرة: 267] وإنما منع ذلك من منعه لحديث
أبي هريرة: "ولد الزنا شر الثلاثة" 1 وحديث
"لا يدخل الجنة ولد زانية" وحديث أنه عليه
السلام سئل عن عتقه قال: "لا خير فيه نعلان
يعان بهما أحب إلي من عتق ولد الزنا" 2 وليست
الأحاديث على ظاهرها فإن الأول إنما قاله في
رجل بعينه كان يؤذيه
ـــــــ
1 رواه أبو داود في كتاب العتاق باب 12. أحمد
في مسنده (2/311) (6/109)
2 رواه أحمد في مسنده (6/463).
(3/460)
__________
وبذلك فسرته عائشة رضي الله عنها لما بلغها ما
حدث به أبو هريرة وقالت رحم الله أبا هريرة
أساء سمعا فأساء إجابة وقد سئل ابن عمر عن ذلك
فقال بل هو خير الثلاثة قد أعتقه عمر ولو كان
خبيثا ما فعل وهو كما قال لأنه لا يؤخذ بما
اقترفه أبواه وقد قيل في معناه إنه حدث عن شر
الثلاثة أبواه والشيطان لا أنه في نفسه شر
والأول أولى لأنه مروي عن عائشة وأما الحديث
الثاني فالمعنى في ذلك من كثر منه الزنا حتى
نسب إليه كما ينسب إلى الشيء من كثر منه حتى
يقال للمتحققين بالدنيا العاملين لها أبناء
الدنيا ولمن أكثر من السفر ابن السبيل وعلى
هذا يحمل الحديث الثالث انتهى. مختصرا.
تنبيهات: الأول: لفظ الرواية يقتضي أنه يجوز
الحج بثمن ولد الزنا لا أنه يجب وهذا إذا كان
معه غيره وأما إذا لم يكن معه إلا ذلك وجب
عليه أن يحج به كما اقتضاه كلام المصنف وهو
الظاهر وقال البساطي لو ترك يعني المصنف خشونة
هذا اللفظ في مثل الحج لكان أحسن اهـ والظاهر
أن ما قاله المؤلف هو الأحسن والله أعلم.
الثاني: قول ابن رشد: "وإن كان الاستحباب عنده
غير ذلك" يحتمل أن يكون راجعا إلى عتقه وإلى
الحج بثمنه ولا مانع من ذلك ولكنه يحمل على من
يملك غيره كما ذكرنا ولم أر من ذكر ذلك في
الحج غيره ويحتمل أن يكون راجعا إلى عتقه لأنه
الذي يليه فتأمله.
الثالث: قول ابن رشد أيضا: "وإنما منع ذلك من
منعه" يقتضي أن بعض العلماء منع من عتقه ونحوه
للقاضي عبد الوهاب وليس هذا القول في المذهب
بل ولا هو المعتمد من غيره قال ابن رشد في
أواخر سماع أشهب من كتاب العتق: وأما ولد
الزنا فعتقه جائز في الكفارة بإجماع من مالك
وأصحابه وقال القاضي عبد الوهاب في شرح
الرسالة: هو قولنا وقول فقهاء الأمصار وحكى عن
قوم منع ذلك انتهى.
الرابع: حديث ولد الزنا أنه شر الثلاثة رواه
أبو داود وتأوله الخطابي بما ذكر ابن رشد عن
عائشة رضي الله عنها وقال عبد الوهاب: إن
المراد به أن أبويه كل منهما ينسب إلى أبوين
وهو لا ينسب إلى أب وقيل في تأويله إنه شر
الثلاثة إذا عمل بعمل أبويه وقال السهيلي
والمراد أنه إذا أعلمته أمه أنه ولد زنا أو
علم ذلك بقرينة حال وجب عليه أن يكف عن
الميراث من نسب أبيه ولا يطلع على عوراتهم
وإلا كان شر الثلاثة قال وقد تأول الحديث على
وجوه هذا أقربها إلى الصواب وفي آخر كتاب
الزنا من النوادر عن ابن مسعود إنما قيل شرهم
في الدنيا ولو كان شرهم عند الله ما انتظر
بأمه أن تضع وقال عمر أكرموا ولد الزنا
وأحسنوا إليه وقال أيضا أعتقوا أولاد الزنا
وأحسنوا إليهم واستوصوا بهم وقال ابن عباس وهو
عبد من عبيد الله إن أحسن جوزي وإن أساء عوقب
وقال الشعبي ولد الزنا خير الثلاثة إذا اتقى
الله فقيل له إنه قيل إنه شر الثلاثة قال هذا
شيء قاله كعب لو كان شر الثلاثة لم ينتظر بأمه
(3/461)
أو ما يباع على
المفلس
__________
ولادته وحديث لا يدخل الجنة ولد زنية رواه
النسائي وابن حبان وأبو نعيم في الحلية وأعله
الدارقطني فإن مجاهد لم يسمع من أبي هريرة
وزعم ابن طاهر وابن الجوزي أنه موضوع قال
الحافظ السخاوي وليس بجيد قال وقال شيخنا يعني
ابن حجر قد فسره العلماء على تقدير صحته بأن
معناه إذا عمل بعمل أبويه واتفقوا على أنه لا
يحمل على ظاهره وقيل المراد من يواظب عليه كما
يقال للشهود بنو صحف وللشجعان بنو الحرب
ولأولاد المسلمين بنو الإسلام والحديث الثالث
رواه ابن ماجه في كتاب العتق من سننه من حديث
ميمونة بنت سعد مولاة رسول الله صلى الله عليه
وسلم ولفظه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم
سئل عن ولد الزنا فقال "نعالان أجاهد فيهما
خير من أن أعتق ولد الزنا" وأخرج عبد الرزاق
في مصنفه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه
كان يقول لأن أحمل على نعلين في سبيل الله أحب
إلي من أن أعتق ولد الزنا وقوله في الحديث ولد
زنية هو بكسر الزاي وفتحها ويقال أيضا ولد
لغية بلام الجر وفتح الغين المعجمة وكسرها
وولد فعل ماض ويقال في ضده ولد شره بكسر الراء
وفتحها.
الخامس: قال في الشامل: وقيل بثمن كلب يشير به
لقول سحنون في الكلب أبيعه وأحج بثمنه وهذا
على القول بجواز بيعه وقد شهره بعضهم لكن الذي
مشى عليه المصنف في باب البيع أنه لا يجوز
بيعه وهو المشهور والمعلوم وعليه فلو بيع فروى
أشهب يفسخ إلا أن يطول وحكى ابن عبد الحكم
يفسخ وإن طال وصدر في الشامل بالأول وعطف
الثاني بقيل فعلى أنه لا يفسخ مع الطول إذا
باعه وطال الأمر لزمه أن يحج بثمنه ولو قتله
شخص وجبت عليه قيمته وكانت حلالا لمالكه ويجب
عليه أن يحج بها إن كان فيها كفاية أو كمل بها
ما عنده وهذا كله في الكلب المأذون في اتخاذه
وأما غيره فلا خلاف في عدم جواز بيعه وأنه لا
يحل ثمنه وأنه لا قيمة على من قتله والله
أعلم. ص: "أو ما يباع على المفلس". ش: هذا
مفرع على القول بالفور ويعني أنه ليس من شروط
الاستطاعة أن يكون عنده من الدنانير أو
الدراهم ما يصرفه في حجة بل يلزمه أن يبيع من
عروضه ما يبيع القاضي على المفلس من ربع وعقار
وماشية وخيل ودواب وسلاح ومصحف وكتب العلم وفي
كلام صاحب الطراز إشارة إلى أنه يلزمه بيعها
وإن كان محتاجا إليها وسيأتي كلامه في شرح
قوله: أو بافتقاره ويؤخذ ذلك من كلام المصنف
أن كتب العلم تباع على الفلس ولو كان محتاجا
إليها ويباع
(3/462)
أو بافتقاره أو
ترك ولده للصدقة إن لم يخش هلاكاً،
__________
عليه أيضا ثياب جمعته إن كثرت قيمتها وكان في
ثمنها ما يحج به أو ما يكمل ما يحج به والمفلس
اسم مفعول من أفلس القاضي الغريم يفلسه تفليسا
إذا حكم بفلسه قال في المقدمات والتفليس العدم
والتفليس خلع الرجل من ماله لغرمائه والمفلس
المحكوم عليه بحكم المفلس انتهى. والله أعلم.
ص: "أو بافتقاره أو ترك ولده للصدقة إن لم يخش
هلاكا". ش: يعني أنه إذا كان مع المكلف ما
يكفيه لسفره لكن إذا سافر وحج يبقى فقيرا لا
شيء له قال في التوضيح: المشهور الوجوب من غير
نظر إلى ما يؤل إليه أمره انتهى. وكذلك إذا
كان له أولاد ومعه ما ينفقه عليهم فإذا حج لم
يبق لهم شيء بأن يتركهم في الصدقة يأكلون منها
فإنه يجب عليه الحج ويتركهم للصدقة أنه يصدق
عليه أنه مستطيع إلا أن يخشى الهلاك على نفسه
أو على أولاده فإنه يسقط عنه حينئذ الفرض
فقوله إن لم يخش هلاكا راجع للمسألتين معا
وأصل المسألة في سماع محمد بن خالد من كتاب
الحج ونصه سأل ابن القاسم مالكا عن الرجل تكون
له القرية ليس له غيرها أيبيعها في حجة
الإسلام ويترك أولاده لا شيء لهم يعيشون به
فقال نعم ذلك عليه ويترك ولده في الصدقة قال
محمد بن رشد وهذا كما قال من أن الرجل يلزمه
أن يبيع ضيعته في الحج لأن الله أوجب عليه أن
يبيع من ماله في الحج ما يبيعه عليه السلطان
في الدين وأما قوله: ويترك ولده في الصدقة
فمعناه إذا أمن عليهم الضيعة ولم يخش عليهم
الهلاك إن تركهم لأن الله تعالى أوجب عليه
نفقتهم في ماله كما أوجب عليهم الحج فيه فهما
حقان لله تعينا عليه في ماله فإذا ضاق عنهما
ولم يحمل إلا أحدهما وجب عليه أن يبدأ بنفقة
الولد لئلا يهلكوا لأن خشية الهلاك عليهم تسقط
عنه فرض الحج كما لو خشي الهلاك على نفسه وهذا
على القول بأنه على الفور وأما على القول بأنه
على التراخي بلا إشكال في تبدئة نفقة الولد
فإن قيل لم قيدوا تقيد الحج على نفقة الولد
بأن لا يخشى عليهم الهلاك وفي التفليس يؤخذ
جميع ماله ولا يترك لنفقة أولاده إلا ما
يعيشون به الأيام اليسيرة وإن خشي عليهم
الضيعة والهلاك فالجواب إن الفرق بينهما أن
المال في الفلس مال الغرماء والغرماء لا
يلزمونه من نفقة أولاد إلا ما يلزم جميع
المسلمين من المواساة وفي الحج المال ماله وهو
يلزمه نفقة أولاده من ماله فافترقا وهذا بين
وحكم نفقة الأبوين حكم نفقة الابن انتهى. وقال
اللخمي: وقد قيل فيمن له أولاد يخرج ويتركهم
وإن تكففوا يريد ما لم يخش عليهم الموت وأرى
أن يقيم معهم وفي خروجه عنهم إذا كانوا يضيعون
حرجا والحج ساقط
(3/463)
__________
انتهى. وإلى تقييد اللخمي وابن رشد قول مالك
رضي الله عنه أشار المصنف بقوله إن لم يخش
هلاكا و قال ابن الحاجب: لا يعتبر بقاؤه فقيرا
وقيل ما لم يؤد إلى ضياعه أو ضياع من يقوت
ونحوه قول المصنف في مناسكه ولا يشترط أن يبقى
له شيء بعدما استطاع به على المشهور وقيل ما
لم يؤد إلى ضياعه أو ضياع من يقوت وإذا حملنا
الضياع وفي كلام ابن الحاجب والمصنف في مناسكه
على الهلاك فيكون كلامهما مخالفا لما قيد به
اللخمي وابن رشد قول مالك لأنهما جعلاه خلافا
وعلى هذا حمل ابن عرفة كلام ابن الحاجب واعترض
عليه فقال وسمع يحيى يجب بيعه قرية لا يملك
غيرها لحجه ويترك ولده للصدقة ابن رشد إن أمن
ضيعتهم ونقل ابن الحاجب لا يعتبر ضياعه أو
ضياع من يقوت لا نعرفه انتهى. قلت: ويمكن أن
يفسر الضياع في كلام ابن الحاجب والمصنف في
مناسكه بالتكفف ولو لم يخش الهلاك على نفسه
ولا على أولاده فيكون القول المحكي بقيل في
كلامهما هو اختيار اللخمي الذي أشار إليه
بقوله وأرى أن يقيم معهم إلى آخره لكن يبقى
القول الأول في كلامهما محتاجا إلى التقييد
بما قيده به اللخمي وابن رشد وعزا ابن عرفة
المسألة لسماع يحيى ولم أرها إلا في سماع محمد
بن خالد وعزا المصنف في التوضيح القول المشهور
لأبي القاسم وقد علمت أنه قول مالك والله
أعلم.
تنبيهات: الأول: هذا على القول بأن الحج على
الفور كما تقدم في كلام ابن رشد وهكذا قال
صاحب الطراز قال وأما على القول بالتراخي
فيعتبر ما ينفقه في ذهابه وعوده وما ينفقه على
من يخلفه ممن تلزمه نفقته إلا أن تكون له حرفة
توصله وتعود به فيعتبر ما يخلفه لنفقة أهله
وسيأتي كلامه برمته في التنبيه الذي بعده.
الثاني: تقدم في كلام ابن رشد أن حكم نفقة
الأبوين حكم نفقة الولد وأما نفقة الزوجة فقال
اللخمي: وصاحب البيان وصاحب الطراز إن قلنا
الحج على التراخي فلا يجب عليه حتى يجد ما
يتركه لها وإن قلنا إنه على الفور فيجب عليه
الحج وإن شاءت صبرت وإن شاءت طلقت نفسها ولفظ
اللخمي وإن كانت له زوجة وله من المال كفاف
وحجة فإن خلف منه نفقتها لم يبلغه الباقي وإن
لم يخلف النفقة قامت بالطلاق فإنه يحج وعلى
القول الآخر يمهل حتى يجد انتهى. ولفظ صاحب
البيان في رسم تأخير صلاة العشاء من سماع ابن
القاسم من كتاب الحج ولو كانت له زوجة فهو إن
ترك عندها نفقة لم يبق له ما يحج به وإن خرج
ولم يترك لها نفقة طلقت نفسها عليه يجري ذلك
على القولين هل هو على الفور أو التراخي ولفظ
صاحب الطراز في أول كتاب الحج الأول إن كان
عنده من تلزمه نفقته وقلنا الحج على التراخي
اعتبر قدرته على ما ينفقه في ذهابه وعوده وما
ينفق على مخلفيه في غيبته هذا إن لم تكن له
حرفة في سفره فإن كانت له حرفة توصله وتعود به
اعتبر ما يترك لنفقة أهله فإن النفقة من حقوق
الآدميين وهم أحوج إليها وقال عليه السلام كفى
بالمرء إثما
(3/464)
__________
أن يضيع من يقوت هذا على قولنا إن فريضة الحج
على التراخي فيكون حق الولد والزوجة تقدما
عليه كما يقدم على الكفارة وإن قلنا على الفور
كان أولى من النفقة لأن نفقة الزوجة لم تتعين
إن شاءت صبرت وإن شاءت فارقت ونفقة الأقارب
مواساة تجب في الفضلة فلا يترك لها ما تعين
فعله قال ابن القاسم في العتبية فيمن لا يملك
إلا قرية وله ولد قال: يبيعها لحج الفريضة
ويدع ولده في الصدقة انتهى. قلت: وهذا والله
أعلم. ما لم يخش العنت من مفارقتها بأن يقع في
الزنا معها أو مع غيرها فيقدم نفقتها كما
سيأتي في التنبيه الذي بعده وعزا بيع القرية
التي لا يملك غيرها لابن القاسم كما فعل صاحب
التوضيح وقد تقدم أنه لمالك والله أعلم.
الثالث: من عنده ما يكفيه للحج أو للزواج فعلى
القول بالفور يجب عليه أن يقدم الحج ويحرم
عليه تأخيره إلا أن يخشى على نفسه العنت
فيتزوج ويؤخر الحج وإن لم يخف العنت وقدم
التزويج أثم والنكاح صحيح بلا خلاف ولا يؤخذ
من المرأة الصداق قال في رسم تأخير صلاة
العشاء من سماع ابن القاسم من كتاب الحج وسئل
عن الرجل يكون عنده ما يتزوج به أيتزوج أو يحج
قال بل يحج قال ابن رشد: وهذا كما قال لأن
التزويج وإن كان مندوبا إليه فالحج آكد عليه
منه وهذا على القول بأنه على التراخي وأما على
الفور فهو الواجب عليه دون التزويج فليس له أن
يتزوج ويؤخر الحج فإن فعل كان آثما ولم يفسخ
النكاح ولا يؤخذ من الزوجة الصداق إلا أن يخشى
على نفسه العنت إن لم يتزوج فله أن يتزوج
ويؤخر الحج حتى يجد ما يحج به من الزاد وشراء
راحلة أو كرائها إن كان ممن لا يقدر على المشي
على مذهب مالك انتهى. ونقله ابن عرفة باختصار
مجحف وفي البراذعي في آخر كتاب الحج الثاني
وينبغي للأعزب يفيد مالا أن يحج به قبل أن
ينكح انتهى. وكذلك اختصرها ابن يونس وابن أبي
زيد بلفظ ينبغي وقال القاضي سند وسئل مالك عن
الرجل يكون عزبا فيفيد ما يكون كفاف الحج أو
التزويج بأيهما يبدأ قال يحج ولا يتزوج وكذلك
اختصرها التونسي وقال اللخمي: قال مالك: إنه
يبدأ بالحج ولم يبين هل ذلك واجب أو مستحب
فعلى قوله: إنه على الفور يكون واجبا وعلى
القول إنه على التراخي يكون مستحبا ولا أعلمهم
يختلفون بعد القول إنه على الفور إن قدم
التزويج أنه ماض ولا يرد المال من الزوجة
انتهى. وقال سند أيضا في شرح مسألة الحج في
باب تبدئة الحج على غيره وجملة ذلك أن من قدر
على الحج وهو صرورة فلا ينبغي أن يؤخر ذلك إذا
قلنا على التراخي وعلى القول بالفور يحرم
التأخير ما لم يخف العنت فيبدأ بالتزويج فإذا
لم يخش العنت فنكح فنكاحه صحيح ولا ينزع
الصداق من الزوجة وذلك بمثابة ما لو تصدق
بالمال أو اشترى به عبدا فأعتقه فإن الصدقة
ماضية والبيع والعتق لوقوع العقد على شرائطه
ويجرح في باب الحج انتهى. ويريد والله أعلم.
بقوله ويجرح في باب الحج أن ذلك جرحة في
شهادته لأنه فعل محرما فقد صرح في
(3/465)
__________
المدخل بأنه لا يجوز التصدق بالمال الذي حصلت
به الاستطاعة قال وأما التوفير والجمع ليصير
مستطيعا فلا يجب وقاله غيره هذا حكم الرجل
وقال صاحب الطراز وأما المرأة فإن قلنا للزوج
منعها فمتى قدرت على الحج وعرض لها النكاح فلا
تنكح حتى تحج فإن نكحت قبله فالنكاح صحيح لأنه
عقد صدر من أهله في محله على شرائطه وإن قلنا
لا يملك الزوج منعها من الحج فلا يكره لها
النكاح انتهى. قلت: والمشهور أنه ليس له منعها
من الفريضة.
الرابع: إذا خشي العنت لم يجز له تزوج الأمة
ليستبقي ما يحج به لأن الأمة لا تنكح مع
استطاعة الطول للحرة.
الخامس: لو كانت له دار يسكنها وخادم يحتاج
إليها لأفضل فيهما عن كفايته وإذا باعهما وجد
مسكنا وخادما يكتريهما ويفضل له ما يحج به قال
صاحب الطراز فعليه في ظاهر المذهب الحج على
القول بالفور لأنه يجد السبيل إليه فوجب عليه
كما لو كان بيده مال تتعلق به حاجته على
الدوام أو كان حاكما وعنده كتب لا يستغني عنها
انتهى. يعني فيجب عليه بيع ذلك ليحج به ولو
كان يجد ببعض ثمن الدار أو الخادم دارا أو
خادما دونهما لوجب عليه الحج من باب أولى.
السادس: لو كان ثمن الدار أو الخادم قدر كفاية
الحج ولا يجد ما يكتري به لأهله دارا ولا
خادما كان الحكم في ذلك على ما تقدم في النفقة
فيجري ذلك على الخلاف في فورية الحج وتراخيه
قال في الطراز: فإن قلنا الحج على الفور لم
ينظر لذلك كما لا ينظر لنفقة الأهل وإن قلنا
على التراخي لم يجب ذلك عليه لأنه لما عجز عن
الحقين كان حق الآدمي في ماله أولى من حق الحج
كما تقول لو كان عليه دين الكفارة انتهى.
السابع: من كان له دراهم يتسبب بها ويأكل من
ربحها فحكمها حكم القرية التي ليس له غيرها
قاله في الطراز يعني فيلزمه الحج بذلك إلا أن
يخشى الهلاك على نفسه أو على أولاده.
الثامن: قال سند: فلو كانت له بضاعة لا يحسن
إلا التقلب فيها وربحها بقدر كفايته أو ضيعة
غلتها بقدر كفايته فهل يجب عليه بيع ذلك وصرفه
في الحج أو لا لأن في ذلك ضرراً غير محتمل
فإنه قد يرجع فقيرا وقد لا يحسن إلا الاكتساب
فيحتاج إلى التصدق وذلة السؤال وذلك فوق ضرر
المشي وبه قال أبو حنيفة وجنح إليه بعض
الشافعية والأول أبين فإنه يجد الزاد والراحلة
ويقدر على الحج في هذه الحالة فوجب عليه
انتهى. ويقيد ذلك أيضا بما إذا لم يخش الهلاك
على نفسه أو على أولاده وهذه الفروع داخلة تحت
قول المصنف أو بافتقاره".
(3/466)
__________
التاسع: إذا كان عليه دين فقضاؤه مقدم على
الحج بلا خلاف بخلاف دين أبيه فإنه يقدم الحج
عليه سواء قلنا الحج على الفور أو على التراخي
وسواء كان الدين مؤجلا أو حالا قاله في الطراز
ونصه ولو كان عليه دين وبيده مال فالدين أحق
بماله من الحج قاله في الموازية قيل له فإن
كان على أبيه دين أيقضي دين أبيه أم يحج قال
بل يحج وهذا ببين فإن الحج دين عليه قلنا
بالفور أو بالتراخي ودين أبيه ليس عليه حالا
ولا مؤجلا ففعل ما يجب عليه أولى من فعل ما لا
يجب عليه انتهى.
العاشر: لو كان الدين الذي عليه من ديون
الزكاة وهو يستغرق ما بيده فهل يحج به أو يؤخر
دين الزكاة أو يصرف ذلك في الزكاة ويسقط عنه
دين الحج لم أر فيه نصا والظاهر أنه يجب عليه
أن يؤدي دين الزكاة ويسقط عنه الحج لأنه واجب
أداؤه على الفور اتفاقا وإجماعا والمتفق عليه
أو المجمع عليه مقدم على المختلف فيه ولأن دين
الزكاة يسقط الزكاة الحاضرة على المشهور ولا
شك أن الزكاة الحاضرة مقدمة على الحج فيقدم
دين الزكاة على الحج من باب أولى أما لو كان
عليه دين كفارات أو هدايا فالظاهر أن الحج
مقدم على ذلك لأن هذه على التراخي والراجح في
الحج أنه على الفور وأن لها بدلا وهو الصيام
فيرجع إليه ورأيت في مسائل سئل عنها القابسي
فيمن حلف بصدقة ربع وحنث وعليه الحج قال إن
كان حين حنثه لا يملك غيره فالذي أرى أن يؤخذ
من ثمن الربع تصدق به انتهى. ولو نذر صدقة ما
بيده من المال أو كان إخراج ثلثه من ماله ينقص
ما بيده حتى لا يبقى معه ما يقدر به على الحج
فالظاهر أنه لا يلزمه لأنه نذر معصية لأنه
سيأتي أنه لا يجوز له نظير بالمال الذي صار به
مستطيعا وكذا لو كان ماله كله شيئا معينا كعبد
أو دار ونذر نظير بذلك فالظاهر أنه لا يلزمه
لأنه نذر معصية ولو حلف ليتصدقن بذلك المال
فإن كانت يمينه بالله فليكفر عنها بغير الصوم
إن كان الباقي بعد الكفارة يمكنه الحج به وإلا
فليكفر بالصوم وإن كانت يمينه بالطلاق فالظاهر
على القول بالفور أنه يجب عليه أن يحج ولو أدى
لوقوع الطلاق إلا أن يخشى العنت على نفسه كما
تقدم ويتردد النظر في ذلك على القول بالتراخي
إن لم يخش العنت وهذا كله لم أر فيه نصا
فليتأمل والله الموفق للصواب.
الحادي عشر: إذا وجد ما يحج به فلا يجوز له أن
يتصدق به قاله في المدخل وكذلك لا يجوز له أن
يعتق به رقبة فإن فعل فالعتق ماض والصدقة
ماضية لوقوع العقد على شرائطه إلا أن ذلك جرحة
في شهادته كما تقدم في كلام صاحب الطراز في
التنبيه الثالث وتقدم الكلام على حكم من يتصدق
من ماله بقدر ما يسقط عنه الحج بأبسط من هذا
عند قول المصنف في باب الصوم وفطر بسفر قصر
فراجعه والله أعلم.
الثاني عشر: من أجر نفسه سنة ثم أراد أن يحج
فيها فللمستأجر منعه ولو قيل بالفور ولا يمنعه
من الصلاة لأنه لا كبير ضرر فيها عليه قاله في
الطراز في باب إحرام من يولي عليه.
(3/467)
لا بدين أو
عطية
__________
الثالث عشر قولهم في هذه الفروع المتقدمة هذا
على القول بأن الحج على الفور يريدون أو في
محل يتفق عليه فيه على الفورية كما إذا خيف
عليه الفوات وهو ظاهر وقاله الشيخ زروق في هذا
المحل والله أعلم. ص: "لا بدين أو عطية". ش:
يعني أن من لا يمكنه الوصول إلى مكة إلا بأن
يستدين مالا في ذمته ولا جهة وفاء له فإن الحج
لا يجب عليه لعدم استطاعته وهذا متفق عليه
وأما من له جهة وفاء فهو مستطيع إذا كان في
تلك الجهة ما يمكنه به الوصول إلى مكة وقدر
على بيع ذلك أما إذا كان ماله في بلد بعيد لا
يمكنه الوصول إليه فلا يلزمه أن يستدين الآن
كما يفهم من كلام صاحب المدخل وقوله أو عطية
يعني به أنه إذا أعطي له مال يمكنه به الوصول
إلى مكة على جهة الصدقة أو الهبة فلا يقبله
ويحج به لأن الحج ساقط وظاهر كلام صاحب الطراز
أنه متفق عليه أيضا لما في ذلك من تحمل المنة
وظاهر كلام البساطي أن في ذلك خلافا ولم أقف
عليه إلا في مسألة الولد كما ستقف عليه إن شاء
الله.
تنبيهات: الأول: قال صاحب الطراز إذا لم يكن
له مال فبذل له ذلك ليحج لم يلزمه قبوله عند
الجميع إلا أن يكون الباذل ولده لما فيه من
تحمل مشقة المنة وإن بذل له قرضا لم يلزمه
أيضا لأنه يرجع عليه دينا ويملك ذمته به وإن
الدين أيضا يمنع وجوب الحج انتهى. وقال
القرطبي في تفسير سورة آل عمران وأصله لابن
العربي ونقله عنه الزهري في شرح القواعد
الإسلامية فلو وهب رجل لأبيه مالا فقد قال
الشافعي: يلزمه القبول لأن الرجل من كسبه ولا
منة عليه في ذلك وقال مالك وأبو حنيفة: لا
يلزمه قبوله لأن فيه سقوط حرمة الأبوة إذ قد
يقال قد جزاه وقد وفاه والله أعلم. انتهى. وما
قاله صاحب الطراز أظهر وقد قال ابن رشد في أول
رسم من سماع ابن القاسم من كتاب طلاق السنة في
شرح قول مالك: لا يكره السلطان المرء على أن
يحج أباه ولا على إنكاحه هذا على القول بأن
الحج على التراخي ويأتي على القول بأن الحج
على الفور أنه يلزمه ذلك كما يلزمه أن يشتري
له ماء لغسله ووضوئه إذ لا يسعه أن يؤخر ذلك
من أمر دينه انتهى. وقد علمت أن القول الراجح
أن الحج واجب على الفور فيلزم حينئذ الولد أن
يحج أباه ويجب على الوالد القبول وظاهر إطلاق
كلام المصنف موافق لما قاله ابن العربي
والقرطبي وقال البساطي أما الدين فإذا لم يكن
له جهة وفاء ولا يرجو ما يوفي به فلا شك وأما
غير ذلك ففيه خلاف ولو كان الدين لغير الحج
وقدر على الوفاء فقال مالك فيه: لا بأس أن يحج
وأما العطية فلأن فيها تحمل منة وانظر إذا كان
ممن له عادة بالإعطاء انتهى. قلت: إن أراد
بقوله ممن له عادة
(3/468)
__________
بالإعطاء مسألة: الولد فقد علم حكمه وإن أراد
غيره فنصوص المذهب صريحة في أنه لا يجب عليه
القبول والله أعلم.
الثاني: إذا قلنا لا يجب عليه الحج الدين إذا
لم يكن له جهة وفاء فهل يباح له ذلك قال في
الشامل: لا باستعطاء ودين لا وفاء له عنده
وروي إباحته انتهى. فظاهره أن القول الراجح
عدم إباحته وذلك يحتمل الكراهة والتحريم وكذلك
كلام المصنف في مناسكه يقتضي التحريم والكراهة
فإنه قال وبعض الناس يسمع أن الحج واجب فيذهب
ويتسلف ولا جهة وفاء له وهو فعل قبيح لأنه
يشغل ذمته وكانت بريئة انتهى. والقبيح هو
الفعل المنهي عنه شرعا سواء كان حراما أو
مكروها وقوله في الشامل: "وروي إباحته" يقتضي
أن فيه قولا بالإباحة ولم أقف عليه والمنع
ظاهر إذا لم يعلم من يقترض منه بأنه لا جهة
وفاء له وأما إذا أعلمه بذلك ورضي بإقراضه
فالظاهر عدم المنع ولكنه خلاف الأولى لأنه
يشغل ذمته وكانت بريئة والله أعلم.
الثالث: إذا كان الشخص له صنعة يمكنه أن يحصل
منها ما يصير به بعد مدة مستطيعا بأن يجمع
منها كل يوم ما يفضل عن قوته وحاجته فلا يجب
عليه ذلك وله أن يتصدق بما يفضل عن قوته
وحاجته قال صاحب المدخل ليس على المكلف أن
يحتال في تحصيل شيء لم يجب عليه لأن السلامة
غالبا في براءة الذمة وذمته الآن بريئة فلا
يشغلها بشيء لم يتحقق براءتها فيه ولا ينافي
ذلك أن يكون المكلف في نفسه يحب الحج وينويه
ويختاره لأن من شأن المسلم أن يختار طاعة ربه
ويحبها لكن يقيد محبته بامتثال الأمر فيها ولم
يأمره الشرع بأن يوفر ويحتال ويتسبب في وجوب
ذلك عليه بخلاف ما إذا وجب عليه بشرطه فلا
يجوز له تركه فإن تركه والحالة هذه فهو عاص
وإذا وجب عليه الحج فلا يجوز أن يتصدق بما
ينفقه فيه ويحتج بأنه لم يجب عليه لأن الصدقة
هو بها متطوع والحج فرض عليه والتطوع لا يسد
مسد الواجب وإنما الذي لا يجب عليه التوفير
والاحتيال في تحصيل ما يجب به انتهى. وقال
المصنف في مناسكه بعد كلامه المتقدم وقريب منه
من يذهب إلى بعض الناس ليحج به معه لأن ذمته
كانت بريئة فيدخل نفسه فيما ليس واجبا عليه
ويتحمل المنة وأقبح من ذلك أن بعضهم يطلب من
الظلمة الذين يتعين هجرانهم فيكون ذلك سببا
لطغيانهم من يقتدون به يعاملهم بهذه المعاملة
قال في المدخل ويطلب من فضلات أوساخهم من
دنياهم القذرة المحرمة وقد يغلب على بعضهم
الجهل فتسول له نفسه أنه في طاعة وهيهات أن
يطاع الله بمال حرام قال في المدخل أو يغره
غيره بأنه على طاعة وخير وهو على العكس تعوذ
بالله من الخذلان وأقبح من ذلك الوقوف على
أبوابهم وبعض من يطلب منهم يعدهم بالدعاء في
الأماكن الشريفة وبعضهم قد اتخذ ذلك دكانا
يجبي منهم بداة كما تقدم وعودة بأن يهدي لهم
وهو يطلب منهم بلسان الحال وبعضهم لا قدرة له
على الاجتماع بمن تقدم ذكرهم لتعذر وصوله
إليهم فيتشفعوا عندهم بمن يرجو أن يسمعوا منه
ويرجعوا إلى قوله: وينتهي الشافع على
(3/469)
__________
من يشفع له عندهم إذ ذلك بأنه من أهل الخير
والصلاح يتعطفوا بالدفع إليه فيأكلون الدنيا
بالدين وذلك مذموم في الشرع الشريف انتهى.
كلامه في المناسك وهو مختصر من كلام صاحب
المدخل.
وذكر في المدخل حكايات عن بعض الصالحين في
معنى ذلك منها أنه قال سمعت سيدي أبا محمد
يعني ابن جمرة نفعني الله ببركاته وبعلومه
والمسلمين يحكى أن شابا من المغاربة جاء إلى
الحج فلما وصل إلى هذه البلاد فرغ ما بيده
وكان يحسن الخياطة فجاء إلى خياط وجلس يخيط
عنده بالأجرة وكان على دين وخير وكان جندي
يأتي إلى الدكان فيقعد عندهم فيتكلمون وهو لا
يتكلم معهم بل مقبل على ما هو بصدده فحصل له
فيه حسن ظن فلما أن جاء أوان خروج الركب إلى
الحج سأله الجندي لم لا تحج قال ليس لي شيء
أحج به فجاءه الجندي بأربعمائة درهم وقال خذ
هذه فحج بها فرفع الشاب رأسه إليه وقال له كنت
أظنك من العقلاء فقال وما رأيت من عدم عقلي
فقال له أن أقول لك كنت في بلدي بين أهلي فرض
الله علي الحج فلما أن وصلت إلى هذه المواضع
أسقطه عني لعدم استطاعتي جئت أنت بدراهمك تريد
أن توجب علي شيئا أسقطه الله عني وذلك لا
أفعله أو كما قال وقد كان أيضا بعض المغاربة
أيضا جاء إلى هذا البلاد ففرغ ما بيده فبقي
يعمل بالقربة على ظهره وكان يحصل له كل يوم
خمسة دراهم وأقل وأكثر فيأكل منها بنصف درهم
ويتصدق بالباقي وكان له مال ببلده فجاء بعض
معارفه من أهل بلده فسألوه أن يمضي معهم إلى
الحجاز فأبى عليهم فسألوه عن سبب امتناعه فقال
لهم إن الله لم يفرض علي الحج إلا لعدم قدرتي
على الزاد وما أحتاجه في الحج فقالوا له خذ
منا ما تختار فقال لم يجب علي ذلك ولم أندب
إليه فقالوا له نحن نقرضك إلى أن ترجع إلى
بلدك فقال ومن يضمن لي الحياة حتى تأخذوا
قرضكم فقالوا له نحن نجعلك في حل منه فقال لهم
لا يجب علي ذلك ولا أندب إليه فقالوا له فوفر
مما تحصله كل يوم ما تجب به وترجع إلى بلادك
ومالك فقال لهم تفوتني حسنات معجلة لشيء لم
يجب علي الآن ولا أدري هل أعيش إلى ذلك الزمان
أم لا أو كما قال وقد منع سيدي أبو محمد بعض
من ينتمي إليه من حجة الفريضة بمال يأخذه قرضا
من بعض أهل بلده مع رغبة صاحب المال في ذلك
وتلهفه عليه وصبره إلى أن يأخذه من مال
المقترض في بلدهم بعد رجوعهم وعلل الشيخ رحمه
الله ذلك بوجهين أحدهما عمارة الذمة بشيء لا
يدري هل يفي به أم لا إن كان قرضا والثاني
المنة فيه وإن أخذه على جهة الهبة ففيه المنة
أكثر فقال بعض أصحاب سيدي الشيخ له إن صاحب
المال لا يمن بل يمن الله بذلك فقال إن لم يمن
هو يمن أهله وأقاربه في بلده فقالوا له قد لا
يرجع هو للبلد يعني المقترض فقال الشيخ تقع
المنة على أهله وأقاربه فإن لم يقع ذلك منهم
فقد تقع من أهل البلد فيقولون فلان حجج فلانا
وفي ذلك من المنة ما فيه بشيء لا يجب عليه ولا
يندب إليه أو كما قال هذا فعلهم في الحجة
الأولى فما بالك بهم في
(3/470)
أو سؤال مطلقاً
__________
التطوع وهذا حال القوم الذين ينظرون في خلاص
ذممهم ويفكرون في ذلك انتهى. والظاهر من حال
من ذكر أن له مالا ببلده أنه كان لا يمكنه
بيعه ولا التوكيل في ذلك والإتيان به وإلا لو
قدر على ذلك للزمه والله أعلم. ص: "أو سؤال
مطلقا". ش: يعني أن الحج لا يجب على من لا
يمكنه الوصول إلى مكة إلا بالسؤال وقوله مطلقا
أي سواء كانت عادته السؤال ببلده أو لم تكن
وسواء كانت العادة إعطاءه أو لم تكن أما إذا
لم تكن عادته السؤال فلا خلاف أنه لا يجب عليه
الحج وسواء كانت العادة إعطاءه أم لا وكذلك
إذا كانت عادته السؤال ولم تكن العادة إعطاءه
ففي هذه الثلاث صور لا إشكال في سقوط الحج ولا
في منعه إذا لم تكن العادة إعطاءه سواء كانت
عادته السؤال أم لا لأنه من الإلقاء بنفسه إلى
التهلكة وأما إذا كانت العادة إعطاءه ولم تكن
عادته السؤال فيختلف في خروجه على قولين
الإباحة والكراهة نقلهما ابن رشد في سماع أشهب
والأرجح منهما الكراهة كما سيأتي ونقلهما
المصنف في التوضيح وابن عرفة وغيرهما وأما
الصورة الرابعة وهي ما إذا كانت عادته في بلده
السؤال ومنه عيشه والعادة إعطاءه فقال المصنف
في توضيحه ومنسكه إن ظاهر المذهب إنه لا يجب
عليه الحج ويكره له الخروج وجزم به هنا وقال
في الشامل: إنه المشهور وأقر في شروحه كلام
المؤلف على إطلاقه وكذلك زروق ولم ينبه عليه
ابن غازي.
قلت: ونصوص أهل المذهب التي وقفت عليها مصرحة
بخلاف ذلك وأن الحج واجب على من عادته السؤال
إذا كانت العادة إعطاءه قال القاضي عبد الوهاب
في التلقين: فإن وجد الراحلة وعدم الزاد لم
يلزمه إلا أن تكون عادته السؤال انتهى. وله
نحوه في المعونة وقال أبو إسحاق التونسي في
أول كتاب الحج ومن شأنه في موضعه السؤال هو
يقدر على المشي والسؤال في طريقه كما يسأل في
بلده ولا يتعذر عليه فعليه فرض الحج لأنه
مستطيع والقدر الذي يتسبب به في بلده غير
معدوم في الطريق انتهى. وقال ابن الحاج في
منسكه: وإن كانت المسألة عادته لزمه الحج
انتهى. وقال صاحب الطراز أصحابنا يقولون إذا
كان ذلك معيشته في أهله كان استطاعة في حقه
ووجه أن من لا يقدر على حرفة من المساكين
فالسؤال في حقه خفيف لأجل حاجته فإذا كان في
أهله يسأل فسواء في حقه قطن أو ظعن ويلتحق ذلك
بسائر الحرف التي تكتسب بها المعيشة انتهى.
قال ابن رشد في شرح المسألة الخامسة من سماع
أشهب من كتاب الحج: وإن كان ممن يقدر على
المشي من غير مشقة تفدحه وما يعيش به في بلده
لا يتعذر عليه في طريقه من صناعة لا يعدمها أو
سؤال لا يتعذر عليه فالحج واجب عليه
(3/471)
__________
انتهى. وقال ابن جماعة التونسي ويلزم السائل
الفقير إذا كانت العادة إعطاءه انتهى. وقال
الزهري في شرحه للقواعد الإسلامية إن كان
يستطيع المشي وعيشه في المقام لا يتعذر عليه
في السفر أو كان عيشه بالتكفف وكان في رفقة لا
يخشى الضيعة فيها وجب ذلك عليه انتهى. وقال
ابن بشير وهل يجب على المتسول أما إذا كانت
عادته لا تختلف في وطنه وفي الطريق فيجب عليه
إذا علم أنه يجد من يعطيه وحكى اللخمي قولين
وهما منزلان على حالين فمن تساوت حاله لزمه
كما قلنا ومن افتقر إلى ذلك من أجل الخروج لم
يلزمه انتهى. قلت: كلام اللخمي يدل على أن
القولين إنما هما فيمن ليس عادته السؤال فإنه
قال في أول كلامه وإن كان يستطيع المشي وعيشه
في المقام من صناعة ولا يتعذر عليه عملها في
السفر والعيش منها أو كان شأنه التكفف وكان
سفره في رفقة وجماعة لا يخشى الضيعة معهم وجب
عليه الحج مع عدم الجميع يعني الزاد والمركب
ثم قال لما ذكر قول القاضي عبد الوهاب من قدر
على الوصول إلى البيت بغير تكلف بذلة يخرج بها
عن عادته لزمه ذلك الشيخ أما الخروج عن عادته
في المشي فغير مراعى وإن أراد السؤال والتكفف
فيمن ليس شأنه فهو حسن واختلف فيمن يخرج يسأل
الناس فقال مالك في مختصر ابن عبد الحكم: لا
بأس بذلك وقال أيضا لا أرى للذي لا يجد ما
ينفق أن يخرج للحج ولا للغزو ويسأل الناس يريد
فيمن كان عيشه في المقام من غير مسألة انتهى.
وقال ابن عسكر في عمدته ويلزم معه معتاد المشي
والسؤال إذا وجد من يعطيه انتهى. وقال ابن
جماعة الشافعي في منسكه الكبير ومذهب مالك أن
من كانت عادته السؤال في بلده وإن سأل في
الطريق أعطي لا يعتبر في حقه القدرة على الزاد
ويلزمه الحج بخلاف من لا يسأل الناس في بلده
وإن كان إذا سأل في الطريق أعطي انتهى. فهؤلاء
كلهم لم يحكوا في وجوب الحج في هذه الصورة
خلافا وأما ابن شاس فذكر في ذلك قولين صدر
بالوجوب وعطف الثاني عليه بقيل ونصه ويجب على
المتسول إذا كانت تلك عادته وغلب على ظنه أنه
يجد ما يعطيه وقيل لا يجب انتهى. ومثله
للقرطبي في تفسيره وأنكر ابن عرفة حكاية القول
الثاني وسيأتي لفظه وتبع ابن شاس على التصدير
بالوجوب وحكاية مقابلة بقيل ابن جزي في
قوانينه والقرافي والتادلي وابن عطاء الله
وذكر ابن الحاجب القولين من غير ترجيح وقبلهما
ابن عبد السلام والمصنف في التوضيح وابن فرحون
وصاحب الشامل ومن بعدهم ورجحوا القول بالسقوط
وبعضهم صرح بتشهيره وكذلك شراح المختصر وقد
عامت أن نصوص المذهب المتقدمة كلها مصرحة بأن
المذهب خلاف ذلك.
فإن قلت: قد قال المصنف في التوضيح وابن عبد
السلام في شرح قول ابن الحاجب وفي السائل إن
كانت العادة إعطاءه قولان ما نصه القولان
روايتان روى ابن القاسم السقوط وزاد فيها
الكراهة وهو ظاهر المذهب وأظهر من جهة المعنى
وروى ابن وهب الوجوب قلت:
(3/472)
__________
ما ذكراه عن ابن القاسم وابن وهب ذكره صاحب
النوادر وغيره لكنه لم يصرح بأن ذلك فيمن كانت
عادته السؤال ونصه ومن رواية ابن وهب ومختصر
ابن عبد الحكم قيل فيمن يسأل ذاهبا وجائيا ولا
نفقة عنده قال لا بأس بذلك قيل له فإن مات في
الطريق قال حسابه على الله قال في رواية ابن
القاسم عنه ولا أرى للذين لا يجدون ما ينفقون
أن يخرجوا إلى الحج والغزو ويسألون الناس وهم
لا يقوون إلا بما يسألون وإني لأكره ذلك لقول
الله تعالى: {وَلا عَلَى الَّذِينَ لا
يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة: 91] حرج
انتهى. بلفظه فليس في الرواية أن ذلك فيمن
كانت عادته السؤال بل الرواية مجملة وفسرها
الشيوخ بأن ذلك فيمن لم تكن عادته السؤال في
بلده كما تقدم في كلام اللخمي حيث قال إثر
كلام مالك في مختصر ابن عبد الحكم لا أرى للذي
لا يجد ما ينفق أن يخرج للحج ولا للغزو ويسأل
الناس يريد فيمن كان في المقام من غير مسألة
ولما ذكر الشيخ أبو الحسن الصغير الرواية
المذكورة ذكر بعدها تفسير اللخمي وقال ابن رشد
بعد كلامه المتقدم وإن كان عيشه من غير السؤال
وهو يقدر أن يتوصل إلى مكة بالسؤال فلا اختلاف
في أن ذلك لا يجب عليه واختلف هل يباح له أو
يكره فقيل إن ذلك مباح وهو قول مالك في رواية
ابن عبد الحكم وقيل إن ذلك مكروه وهو قوله في
سماع ابن القاسم من كتاب البضائع والوكالات
انتهى. فجعل القولين اللذين أشار إليهما ابن
عبد السلام والمصنف في التوضيح فيمن ليس عادته
السؤال وقبله ابن عرفة ونصه وقدرة سائل بالحضر
على سؤال كفايته بالسفر استطاعة ولا يجب على
فقير غير سائل بالحضر قادر على سؤال كفايته في
السفر ابن رشد إتفاقا وفي كراهته وإباحته
روايتا ابن عبد الحكم وابن القاسم وإليه يرجع
قول اللخمي اختلف فيمن يخرج يسأل فروى ابن عبد
الحكم لا بأس به وقال أيضا لا أرى لمن لا يجد
ما ينفق خروجه لحج أو غزو ويسأل الناس اللخمي
يريد فيمن كان في مقامه لا يسأل ونقل ابن شاس
سقوطه عن معتاد السؤال ظانا وجود من يعطيه لا
أعرفه انتهى. كلام ابن عرفة بلفظه وظاهر كلامه
في التوضيح أن القولين اللذين ذكرهما ابن رشد
غير القولين اللذين ذكرهما ابن الحاجب وليس
كذلك كما علم مما تقدم إذا علمت ذلك فقد ظهر
لك صحة ما ذكرته من أن نصوص المذهب مصرحة بأن
الحج واجب في هذه الصورة وجميع من تقدم ذكره
من شيوخ المذهب وأعيان الحفاظ لنصوصه الذين لم
ينقلوا في لزوم الحج خلافا فهموا رواية ابن
القاسم على أنها فيمن ليست عادته السؤال وإلا
فمن البعيد عادة أنهم لم يطلعوا عليها أو
اطلعوا عليها وفهموا أنها فيمن عادته السؤال
وجزموا بخلافها ولم ينبهوا عليها ومن البعيد
عادة أيضا أن ابن عبد السلام والمصنف اطلعا
على النصوص المتقدمة وفيها الرواية على خلاف
ذلك ولم ينبها على ذلك وذلك ظاهر لمن تأمل
وأنصف والله الموفق.
تنبيه: حيث حرم الخروج لكون العادة عدم
الإعطاء فقال صاحب المدخل يتعين على
(3/473)
واعتبر ما يرد
به إن خشي ضياعاً
__________
من علم بحالهم إعانتهم بما تيسر في الوقت ولو
بالشربة والشربتين واللقمة واللقمتين ويعرفهم
أن ما ارتكبوا محرم عليهم لا يجوز لهم أن
يعودوا لمثله وقال النووي في مناسكه إنه
يواسيهم ولا يوبخهم في خروجهم بلا زاد ولا
راحلة ونص كلام صاحب المدخل إثر كلامه المتقدم
في شرح قوله: لا بدين أو عطية وبعضهم لا يصل
إليهم يعني الظلمة بنفسه ولا يقدر على التوصل
إليهم بغيره فيخرج بغير زاد ولا مركوب فتطرأ
عليه أمور عديدة كان عنها في غنى منها عدم
القدرة على أداء الصلاة وهو متعد في ذلك ومنها
عدم القدرة والوقوع في المشقة والتعب وتكليف
الناس القيام بقوته وسقيه وربما آل أمره إلى
الموت وهو الغالب فتجدهم في أثناء الطريق طرحى
ميتين بعد أن خالفوا أمر الله تعالى في حق
أنفسهم فمن علم بحالهم من أهل الركب في إثمهم
وكذلك يأثم كل من أعانهم بشيء لا يكفيهم في
أول أمرهم أو سعى لهم فيه إلا أن يعلم أن غيره
يعينهم بشيء تتم به كفايتهم في الذهاب والعود
فلا بأس إذن فإن لم يعلم ذلك حرم عليه الإعطاء
لهم لأن ذلك سبب لدخولهم فيما لا قدرة لهم
عليه من العطش والجوع والتعب والإفضاء إلى
الموت وهو الغالب فيكون شريكا لهم فيما وقع
بهم وفيما يقع من بعضهم من التسخط والضجر
والسب وهذا بخلاف ما إذا كانوا في الطريق على
هذه الحال فإنه يتعين على من علم بحالتهم
إعانتهم بما تيسر في الوقت ولو بالشربة
والشربتين واللقمة واللقمتين ويعرفهم أن ما
ارتكبوا محرم عليهم لا يجوز لهم أن يعودوا
لمثله انتهى. والله أعلم. ص: "واعتبر ما يرد
به إن خشي ضياعا". ش: لما قدم أولا أن المعتبر
في الاستطاعة إمكان الوصول خشي أن يتوهم أنه
لا يعتبر ما يرد به فقال ويعني أنه يعتبر في
الاستطاعة ما يوصل المكلف إلى مكة وما يرد به
إن خشي على نفسه الضياع في مكة واعتبر ما يرد
به ومراده ما يرد به إلى أقرب المواضع مما
يمكنه التمعش فيه كذا قال اللخمي وساقه على
أنه المذهب واقتصر عليه ابن عرفة وصدر به في
الشامل وقال الشيخ زروق في شرح الإرشاد وفي
اعتبار ما يرد به مشهورها لأقرب الأماكن التي
يرتجى فيها معاشه انتهى. ونص كلام اللخمي
المراعى في الزاد والمركوب مايبلغ دون الرجوع
إلا أن يعلم أنه إن بقي هناك ضاع وخشي على
نفسه فيراعى ما يبلغه ويرجع به إلى أقرب
المواضع مما يمكنه التمعش فيه انتهى. وعلى ما
قاله اللخمي حمل الشارح كلام المصنف ولا
يستقيم حمل كلامه على ما حكاه ابن معلى عن بعض
المتأخرين من اعتبار الذهاب والرجوع إلى بلده
وقال المصنف في مناسكه إنه الظاهر لأنه صاحب
هذا القول لم يشترط خوف الضياع فلما اشترطه
المصنف
(3/474)
والبحر كالبر
إلا أن يغلب عطبه أو يضيع ركن صلاة لكميد،
__________
علم أنه إنما أراد كلام اللخمي وما ذكره ابن
معلى عن بعض المتأخرين قاله التلمساني في شرح
الجلاب وعلل ذلك بأن على الإنسان حرجا عظيما
في إلزامه المقام بغير بلده ولعله هو الذي
أشار إليه ابن معلى وقبل القرافي في شرح
الجلاب كلام التلمساني وقال الجزولي في شرح
الرسالة إنه المشهور وظاهر الرسالة أن المعتبر
ما يوصله إلى مكة فقط ونقل الشيخ زروق قولا
وقال إنه ظاهر إطلاق الرسالة ونصه إثر قول
المصنف واعتبر ما يرد به يعني إلى محل يأمن
الضياع فيه قاله اللخمي وحكى ابن معلى قولا
باعتبار ما يرده مطلقا واختاره التلمساني وقيل
لا يعتبر أصلا وهو ظاهر الرسالة وغيرها انتهى.
قلت: ولم أر من ذكر هذا القول ولا من أبقى
الرسالة على ظاهرها إلا ما يفهم من كلام
الشارح في الوسط فإنه قال مذهب الرسالة أن
الاستطاعة القوة على الوصول إلى مكة فقط من
غير نظر إلى عود وأما في الكبير فقال ظاهر
الرسالة أن المعتبر الوصول فقط.
تنبيه: علم مما تقدم أنه إذا أمكنه المقام في
مكة بحرفة أو تسبب فلا يعتبر ما يرد به لكن لا
بد أن تكون الحرفة لا تزري به كما تقدم في
الحرف التي يلزمه الخروج معها وهذا ظاهر والله
أعلم. ص: "والبحر كالبر إلا أن يغلب عطبه أو
يضيع ركن صلاة لكميد". ش: لما ذكر أن المعتبر
في الاستطاعة إمكان الوصول خشي أن يتوهم أن
ذلك خاص بالبر فقال والبحر كالبر يعني أن
البحر طريق إلى الحج كالبر فيجب سلوكه إذا
تعين ولم يكن ثم طريق سواه كمن يكون في جزيرة
أو من تعذر عليه سلوك البر لخوف ونحوه وإن لم
يتعين سلوكه فيخير في سلوكه وفي سلوك البر على
تفصيل يأتي إن شاء الله وهو الذي مشى عليه
المصنف هو المشهور قاله سند وقال الباجي إنه
ظاهر المذهب وروى ابن القاسم عن مالك كراهة
الحج فيه إلا لمن لا يجد طريقا سواه كأهل
الجزر الذين لا يجدون طريقا غيره ونقله في
النوادر عن المجموعة وقال في البيان في رسم
سلف من سماع ابن القاسم وقد قيل إن فرض الحج
ساقط على من لا يقدر على الوصول إلى مكة إلا
على البحر لقوله تعالى: {يَأْتُوكَ رِجَالاً
وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} [الحج: 27] إذا لم
يذكر إلا هاتين الصفتين وهو قول شاذ ودليل
ضعيف لأن مكة ليست داخلة في البحر فلا يصل
إليها أحد إلا راجلا أو راكبا ركب البحر في
طريقه أو لم يركب انتهى. وذكر في الموازية
قوله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ
بِالْحَجِّ} [الحج: 27] الآية قال ما أسمع
للبحر ذكرا وهذا القول الثالث نقله ابن الحاج
عن ابن شعبان ونصه رأيت في جواب للشيخ
(3/475)
__________
أبي عمران الفاسي رحمه الله قال رأيت لابن
شعبان أنه قال ليس على أهل الجزائر حج واستدل
بقوله تعالى: {يَأْتُوكَ رِجَالاً} [الحج: 27]
الآية وذكر لي عن الشيخ أبي محمد عبد الصادق
نحو ذلك وكان شيخنا أحمد بن محمد رزق يستدل
على سقوط فرض الحج إذا كان السير إليه في
البحر بما روي عن مالك أن أمر راكب البحر في
الثلث ومن شرط الحج السبيل السابلة وليس مع
الغرر أمن سبيل أخبرنا بذلك عنه صاحبنا محمد
بن رشد رحمه الله انتهى. قال التادلي إثر نقله
هذا الكلام: وقد يقال إنما جعل مالك أمره في
الثلث إذا ركبه في حال ارتجاجه وركوبه في هذه
الحالة حرام بالإجماع حكاه ابن معلى عن صاحب
الإكمال وإما ركوبه في حال هدنته فهو محل
النزاع وجواب مالك لم يتناوله وقد نص ابن بشير
في النكاح الثاني على إلحاق راكب البحر
بالمريض إذا ركبه في حال ارتجاجه فقيد الحالة
التي يحكم فيها بأن أمر راكب البحر في ثلثه
بحالة بحالة الارتجاج فاعلمه انتهى. وما قاله
التادلي واضح لا شك فيه.
تنبيه: نقل التادلي عن القرافي ما نصه قال
سند: قال مالك: لا يحج في البحر إلا مثل أهل
الأندلس الذين لا يجدون البر وهذا يدل على أن
من له مندوحة لا يجوز له أن يحج فيه انتهى.
وهذا الذي نقله القرافي عن سند هو القول
الثاني القائل بالكراهة المتقدم لكنه لم ينقل
كلام القاضي سند جميعه ونصه وكره أن يحج أحد
في البحر إلا مثل أهل الأندلس الذي لا يجد منه
بدا انتهى. فتحصل من ذلك ثلاثة أقوال الأول
المشهور وجوب الحج لمن تعين عليه بشروطه وجواز
ذلك لمن لم يتعين عليه الثاني سقوط الحج عمن
لا يمكنه الحج إلا من البحر الاثلث كراهة
السفر فيه إلا لمن لا يجد طريقا سواه ودليل
الأول قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي
يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ}
[يونس: 22] ويبعد أن يمن الله على عباده بما
حظره عليهم ولم يبحه لهم وحديث أنس في الصحيح
أنه صلى الله عليه وسلم نام عند أم حرام ثم
استيقظ وهو يضحك فقالت ما يضحكك يا رسول الله
فقال "أناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل
الله يركبون ثبج هذا البحر ملوكا على الأسرة
أو مثل الملوك على الأسرة" الحديث وما رواه
أبو داود عن عبد الله بن عمرو أنه عليه الصلاة
والسلام قال: "لا يركب البحر إلا حاج أو معتمر
أو غاز في سبيل الله" 1 ثم ذكر المصنف أنه
يشترط في كون البحر طريقا إلى الحج أن لا يغلب
العطب فيه وأن لا يؤدي إلى تضييع ركن من أركان
الصلاة لأجل ميد أو ما أشبهه كزحام وضيق أما
الشرط الأول وهو أن لا يغلب العطب فيه فظاهر
لأن من شرط الاستطاعة الأمن على النفس والمال
فإذا غلب العطب فيه حرم ركوبه قال في التوضيح:
فيحرم ركوبه إذا عرض الخوف على النفس أو الدين
وقاله ابن عبد السلام وقد تقدم عن صاحب
الإكمال حكاية
ـــــــ
1 رواه أبو داود في كتاب الجهاد باب 9.
الدارمي في كتاب الجهاد باب 28.
(3/476)
__________
الإجماع على ذلك وقد يقال إن هذا الشرط مستغنى
عنه بما تقدم من اشتراط الأمن على النفس
والمال في الاستطاعة خصوصا إذا جعلنا التشبيه
في قولنا كالبر راجعا لجميع ما تقدم في المسير
من البر من اشتراط أن لا تلحقه مشقة عظيمة وأن
يأمن على نفسه وماله من اللصوص وأصحاب المكوس
على التفصيل المتقدم في البر فيكون التشبيه
راجعا لذلك كله إلا أن يقال التشبيه أفاد
اشتراط الأمن من اللصوص وأصحاب المكوس وهذا
الكلام أفاد اشتراط الأمن من البحر نفسه أو
يقال التشبيه إنما هو في كونه طريقا يجب سلوكه
فقط وأفاد هذا الكلام بيان شروط ركوبه أو يقال
لعل المصنف إنما نبه على هذا الشرط وإن فهم
مما تقدم لمزيد الاعتناء به لأنه إذا فقد فقد
حرم السفر حينئذ في البحر والله أعلم. وغلبة
العطب فيه بأمور منها ركوبه في غير إبانه وعند
هيجانه قال ابن معلى.
تنبيه: يجب على من أراد السفر في البحر أن لا
يركب الغرر المتفق وهو ركوبه في غير إبانه
ووقت هيجانه حكى الاتفاق على ذلك القاضي في
إكماله فإن قلت: فعين لنا هذا الوقت حتى
نجتنبه قلت: قد نص بعض العلماء على أنه يرجع
في ذلك لأهل الخبرة بهذا الشأن فإن قالوا إن
الغالب فيه العطب امتنع ركوبه وقد نص الداودي
على أن من ركب البحر عند سقوط الثريا بريء من
الله تعالى ومنها كون ذلك البحر مخوفا تندر
السلامة فيه قال في التوضيح: قال القاضي أبو
الحسن إن كان البحر مأمونا يكثر سلوكه للتجار
وغيرهم فإنه لا يسقط فرض الحج وإن كان بحرا
مخوفا تندر السلامة منه ولا يكثر ركوب الناس
له فإن ذلك يسقط فرض الحج انتهى. ومنها خوف
عدو الدين أو المفسدين من المسلمين والله
أعلم.
تنبيه: تلخص من النصوص المتقدمة أنه إذا غلب
العطب في الطريق حرم الخروج وقال البرزلي: سئل
اللخمي فيمن خرج حاجا في طريق مخوفة على غرر
ويغلب على ظنه أنه لا يسلم هل هو من الإلقاء
باليد إلى التهلكة أو هو مأجور بسبب قصده إلى
فريضة الحج والتقرب فالنقل إن كان قد حج أم
ليس بمأجور ولا مأثوم فأجاب الحج مع هذه الصفة
من الغرر ساقط وتحامله بعد ذلك لا يسلم فيه من
الإثم قال البرزلي: هذا بين على ما حكى ابن
رشد من شرط جواز تغيير المنكر أن لا يخاف على
نفسه وأما ما اختاره عز الدين من أنه جائز ولو
خاف على نفسه لأن كثيرا ممن رأيته فعل ذلك
وسلم فحمل الأمر على الغالب فكذلك يكون هنا
إذا صلحت نيته وهذا إذا كان يعلم أنه يؤدي
فرائض الصلاة وتوابعها انتهى. فتأمله والله
أعلم. وأما الشرط الثاني أعني قوله: أو يضيع
ركن صلاة لكميد فمعناه أن شرط ركوب البحر للحج
فأحرى لغيره أن يعلم الراكب أنه يوفي بصلاته
في أوقاتها من غير أن يضيع شيأ من فروضها وهذا
أيضا ليس الموطأ بالبحر بل هو شرط في وجوب
الحج مطلقا قال في المدخل قال علماؤنا: إذا
علم المكلف أنه تفوته صلاة واحدة إذا خرج إلى
الحج فقد سقط
(3/477)
__________
الحج وقال في موضع آخر إن الحج إذا لم يمكن
إلا بإخراج الصلاة عن وقتها وشبهه فهو ساقط
انتهى.
وقال البرزلي ناقلا عن المازري في أثناء جوابه
عن سؤال ما نصه: إن كان يقع في ترك الصلوات
حتى تخرج أوقاتها أو يأتي ببدل منها في وقتها
ولم يوقعه في ذلك إلا السفر للحج فإن هذا
السفر لا يجوز وقد سقط عنه فرض الحج انتهى.
ولعله سقط منه قبل قوله: أو يأتي ببدل منها أو
يترك بعض أركانها أو نحو ذلك والله أعلم. ونقل
التادلي عن المازري أن الاستطاعة هي الوصول
إلى البيت من غير مشقة مع الأمن على النفس
والمال والتمكن من إقامة الفرائض وترك التفريط
وترك المناكير انتهى. وقال ابن المنير في
منسكه اعلم أن تضييعه لصلاة واحدة سيئة عظيمة
لا توفيها حسنات الحج بل الفاضل عليه لأن
الصلاة أهم فإن كانت عادته الميد ولو عن صلاة
واحدة بركوب البحر أو الدابة ترك الحج بل يحرم
عليه الحج إذا لم يتوصل إليه إلا بترك الصلاة
ثم قال ولا يقصر في الاستبراء ويجب عليه من
الاحتراز ما يجب في الحضر انتهى. وقال إبراهيم
بن هلال في منسكه وبالجملة فلتكن الصلاة التي
هي عماد الدين أهم أموره فليستعد لها ثيابا
طاهرة يجدها إذا تنجس ثوبه لأن السفر مظنة
إعواز الماء وهذا إذا كان واجدا وبعض القافلين
لا يستعد إلا للذة لطيفة فيحمل لذائذ الأطعمة
ويصلي بالتيمم وبالنجاسة ولتفريط الحاج في
الصلاة وتأخيرهم إياها عن أوقاتها يقول أهل
العلم فيهم إنهم عصاة وقد أخذ من قول مالك لا
يجوز ركوب البحر للحج إذا أدى لتعطيل الصلاة
أنه متى خيف تعطيلها في البر أنه لا يجوز
السفر إلى الحج فقد سئل المازري عن حكم الحج
في زمنه فأجاب بأنه متى وجد السبيل ولم يخف
على نفسه وماله وأمن أن يفتن عن دينه وأن يقع
في منكرات أو إسقاط واجبات من صلوات أو غيرها
فإنه لا يسقط وجوبه قال وإن كان يقع في ترك
صلوات حتى يخرج أوقاتها ولم يوقعه في ذلك إلا
السفر للحج فهذا السفر لا يجوز ويسقط عنه فرض
الحج قال وإن كان إنما يرى منكرات ويسمعها
فهذا باب واسع انتهى. ونكر المصنف ركنا ليشمل
جميع أركان الصلاة وأدخل الكاف على كميد ليدخل
الزحام والضيق وكثرة النجاسات وغير ذلك وهذا
هو المشهور ومال الباجي إلى ركوب البحر وإن
أدى إلى تضييع بعض أحكام الصلاة لما وقع
الاتفاق عليه من ركوبه للجهاد وفرق بأن المراد
من الجهاد أن تكون كلمة الله هي العليا
والقيام بها أشرف من القيام بالصلاة لأن عدم
القيام بالتوحيد كفر وعدم القيام بالصلاة ليس
بكفر على المعروف وبضدها تتبين الأشياء والحج
مع الصلاة بالعكس إذ هي أفضل وما ذكره في
الجهاد فهو محمول على ما إذا تعين وأما إذا لم
يتعين فبعيد أن يقال بركوبه وإن أدى لتضييع
بعض أحكام الصلاة انتهى.
ولم يبين الباجي ما الذي يستخف تضييعه وذكر
اللخمي الخلاف فيما إذا كان لا يقدر على
الصلاة إلا جالسا أو لا يستطيع أن يسجد إلا
على ظهر أخيه ونصه والحج في
(3/478)
__________
البحر واجب على كل من في الجزائر مثل صقلية
والأندلس لأنها بحار مارجة إذا كان الراكب
يوفي بصلاته ولا يعطلها ولا ينقص فروضها فإن
كان يعرض له ميد يمنعه من الصلاة لم يلزمه أن
يأتي بفرض ليسقط فروضا ويختلف إذا كان يأتي
بصلاته جالسا أو لا يجد موضعا لسجوده لضيق
الموضع فقال مالك: إذا لم يستطع الركوع
والسجود إلا على ظهر أخيه فلا يركبه أيركب حيث
لا يصلى ويل لمن ترك الصلاة وقال أشهب فيمن لا
يستطيع السجود إلا على ظهر أخيه يوم الجمعة:
إنه يجزئه وهذا هو المعروف إذا كان يأتي
بالبدل وإن كان دون الأول في الرتبة أن ذلك
جائز كالذي يسافر حيث لا يجد الماء وينتقل
للتيمم فخرج على قول أشهب في الجمعة بالإجزاء
لزوم الحج مع ذلك وقاس منع ركوبه حيث يصلي
جالسا على قول مالك في منع ركوبه حيث يسجد على
ظهر أخيه فساوى بين ترك القيام والسجود على
ظهر أخيه وقبل ابن عرفة كلامه فقال وفي كونه
مع الصلاة جالسا أو السجود على ظهر أخيه مسقطا
أو لإسماع أشهب وتخريج اللخمي على قول أشهب في
الجمعة بصحة جمعة من سجد على ظهر أخيه وإباحة
سفر ينقل للتيمم انتهى. فعز السماع أشهب سقوط
الحج بصلاته جالسا وليس ذلك في سماع أشهب نصا
ولكنه تبع اللخمي في مساواته بين الصلاة جالسا
والسجود على ظهر أخيه وتبع اللخمي على
المساواة بينهما ابن فرحون في شرح ابن الحاجب
وهو الذي يفهم من عموم كلام المصنف وكلام
البرزلي وصرح بذلك ابن أبي جمرة في شرح
الأحاديث التي اختصرها من صحيح البخاري فقال
إذا علم شخص من نفسه أنه يميد حتى يؤل أمره
إلى تعطيل الصلاة أو الخلل بشيء منها فلا يجوز
له ركوبه وهو مذهب مالك إذا لم يمكنه القيام
لأجل خوف الغرق أو الاطلاع على محرم فإن لم
يدخل على هذه الأشياء وحصل له شيء منعه من
القيام فهذا يجوز له أن يصلي قاعدا انتهى.
وقال الشيخ إبراهيم بن هلال في منسكه: وأما
الذي يميد حتى يمنعه الصلاة فقال مالك: لا
يركب حيث لا يصلي وإن كان يصلي جالسا فإن
اللخمي خرج في ذلك قولين الجواز والمنع بكذا
الجواز انتهى. وسماع أشهب الذي ذكره ابن عرفة
هو كلام مالك الذي تقدم في كلام اللخمي فإنه
في سماع أشهب من كتاب الصلاة وصرح ابن رشد في
شرح هذه المسألة بأنه إذا ركبه وكان يسجد على
ظهر أخيه أنه يعيد أبدا وانظر إذا أداه ذلك
للصلاة جالسا ومقتضى كلام اللخمي السابق أنه
مثل الذي يسجد على ظهر أخيه وهو قول مالك وهو
مقتضى إطلاق المصنف وكلام البرزلي وما قاله
ابن أبي جمرة ولم يرتض صاحب الطراز مساواة
اللخمي بين صلاته جالسا وسجوده على ظهر أخيه
ونصه ويختلف إذا كان يتعذر عليه السجود لزحام
الناس فذكر كلام مالك وقول أشهب في الجمعة
والتخريج عليه ثم قال وخرج بعض متأخري أصحابنا
إذا لم يقدر على القيام وقدر على الجلوس على
هذا الاختلاف
(3/479)
__________
وليس بصحيح فإن السجود آكد ولهذا يسقط القيام
في النفل وفي حق المسبوق بخلاف الركوع والسجود
فالقيام يترخص بتركه في حال والسجود لا يترك
إلا بتحقق الضرورة في كل حال نعم إن كان يتصرع
فلا يتمسك جالسا فهو كتركه السجود لأن الشرع
لم يرخص في ذلك إلا عند تحقق الضرورة بخلاف
الجلوس انتهى. فكأنه يقول إذا قلنا بسقوط الحج
لأجل السجود في قول مالك فلا يصح أن يقيس عليه
السقوط بصلاته جالسا ونقل القرافي في كلام سند
باختصاره ونقله عنه التادلي وفهم منه عكس
المقصود لأنه قال عقبه وقد يقال وإن كان
السجود آكد فقد ترخص فيه فلان يترخص في القيام
أولى لكونه دونه انتهى. والموجب لذلك
الاختصار.
وقال ابن بشير: إنه يختلف فيه على الخلاف في
القياس على الرخص على ما سيأتي إن شاء الله في
كلامه وقول اللخمي في كتاب الصلاة ويكره ركوب
البحر إذا كان لا يقدر على الصلاة إلا جالسا
انتهى. فعلى هذا لا يسقط فرض الحج بذلك لكنه
خلاف ما مشى عليه المؤلف لكونه قال ركن صلاة
فأطلق في ذلك وإطلاقه موافق لما نسبه اللخمي
في كتاب الحج لمالك وقبله ابن عرفة كما تقدم
بيانه فتحصل من هذا أنه إذا كان ركوب البحر
يؤدي إلى الإخلال بالسجود فإنه لا يركبه ويسقط
عنه الحج وإن ركبه وصلى أعاد أبدا هذا هو
المنصوص وإن أداه إلى الصلاة جالسا فمقتضى
إطلاق المصنف وإطلاق البرزلي وما قاله ابن أبي
جمرة وقياس اللخمي وابن عرفة وابن فرحون ذلك
على السجود على ظهر أخيه أنه كذلك ومقتضى كلام
اللخمي وكلام صاحب الطراز أن ذلك لا يسقط وجوب
الحج ولا يعيد الصلاة وفي المدونة والعتبية
ومن لم يستطع القيام في السفينة يصلي جالسا
وسيأتي كلاهما في التنبيه الأول والله أعلم.
تنبيهات: الأول: ركوب البحر على ثلاثة أقسام
كما صرح به اللخمي وابن بشير وابن معلى وغيرهم
جائز في حق من يعلم من نفسه أنه لا يميد ولا
يضيع الصلاة وممنوع في حق من يعلم من نفسه
تضييع الصلاة ومكروه في حق من يشك في ذلك قال
ابن بشير في كتاب الصلاة فصل وركوب البحر
للإسفار مباح على الجملة ما لم يعرض عارض يمنع
من ركوبه ومن العوارض الإخلال بالصلاة للميد
فمن علم من حاله أنه يميد حتى تفوته الصلاة في
أوقاتها أو لا يقدر على أدائها جملة فإن
المنصوص من المذهب أنه لا ينبغي له ركوبه ولا
إلى حج أو جهاد وهذا لأنه يطلب فرضا فيضيع
فروضا آكد منه وإن كان يقدر على الأداء بإخلال
فرض من فروض الصلاة والانتقال عنه إلى بدل كمن
يعلم أنه لا يصلي قائما هذا إن وجد عنه مندوحة
لم يركب وإن لم يجد فقد يختلف فيه على الخلاف
في القياس على الرخص فمن قال به أجاز ركوبه
كماله أن ينتقل عن طهارة الماء إلى التراب في
السفر في المفازات وإن حمله على ذلك مجرد طلب
الدنيا ومن منع القياس عليها منعه إذا أدى
للإخلال
(3/480)
__________
ببعض الفروض وإن شك في أمره هل يسلم من الميد
أم لا فقد قالوا يكره له الركوب ولا يمنع لأن
الأصل السلامة والقدرة على الأداء انتهى.
وقوله: "كماله أن ينتقل عن طهارة الماء إلى
التراب في السفر" قال ابن ناجي في شرح
المدونة: وقد يفرق بينهما بأن الطهارة شرط
والقيام ركن طاعة خارج والركن داخل وفيه نظر
انظره في كتاب الصلاة الثاني وقوله فيما إذا
علم أنه يميد لا ينبغي فيه مسامحة بل لا يجوز
كما سيأتي وقال ابن معلى لا يخلو راكب البحر
إما أن يعلم أنه يميد بحيث لا يصلي فيمنع أو
لا فيجوز أو يشك فقولان الجواز والكراهة قال
بعض المتأخرين والأظهر الكراهة ثم ذكر كلام
ابن بشير فيما إذا كان يصلي قاعدا وقال إثره
قال بعض حذاق المتأخرين أما لو صلى مضطجعا فلا
قياس لأن الاضطجاع بدل عن القعود الذي هو بدل
عن القيام انتهى. وقال البرزلي في مسائل ابن
قداح: من غلب على ظنه أنه يميد في البحر لم
يجز له السفر فيه البرزلي معناه أنه يؤدي إلى
ترك الصلاة أو سقوط بعض أركانها انتهى. وقال
اللخمي في كتاب الصلاة: قال مالك: يكره ركوب
البحر لما يدخل على الإنسان من نقص في صلاته
وغير ذلك الشيخ يعني نفسه ركوب البحر على
ثلاثة أوجه جائز إذا كان يعلم من شأنه أنه
يأتي بفرضه قائما ولا يميد ومكروه إذا لم
تتقدم له عادة بركوبه ولا يعلم إذا ركبه هل
يميد فتبطل صلاته أم لا ولا يقال إنه ممنوع
لأن الغالب السلامة وممنوع إذا كان يعلم من
نفسه أنه يميد ولا يقدر على أداء الصلاة أو
كان لا يقدر على أدائها لكثرة الركاب أو لا
يقدر على السجود قال مالك في سماع أشهب: إذا
لم يقدر أو يسجد إلا على ظهر أخيه فلا يركب
لحج ولا لعمرة أيركب حيث لا يصلي ويل لمن ترك
الصلاة ويكره إذا كان لا يقدر على الصلاة إلا
جالسا.
وقال في المبسوط: من أراد ركوب البحر وقت صلاة
الظهر فأراد أن يجمع الظهر والعصر قبل أن يركب
قائما لما يعلم من شدة البحر وأنه لا يصلي فيه
قائما قال يجمعهما في البر قائما أحب إلي من
أن يصليها في وقتها قاعدا وقا في العتبية: إذا
لم يقدروا على القيام قعدوا ولا بأس أن يؤمهم
أحدهم ويحمل قوله في هذين السؤالين على ما
يفعله من ركب أو عزم على ركوبه ليس على ما
يختاره لهم من الركوب أو الترك انتهى. وما
ذكره عن المبسوط يوافق ما قاله أنه يكره ركوبه
لمن لا يقدر أن يصلي فيه إلا جالسا وأما ما
ذكره عن العتبية فيمكن أنه بعد الوقوع والنزول
فلا يدل على الحكم ابتداء وهو في رسم سلعة
سماها من سماع ابن القاسم من كتاب الصلاة ونصه
وسئل عن الصلاة قائما أو قاعدا قال بل قائما
فإن لم يستطيعوا فقعودا قيل ويؤمهم قعودا قال
نعم إذا لم يستطيعوا أن يقوموا قال القاضي:
وهو كما قاله لأن القيام في الصلاة من فروضها
فلا يجوز أن يصلي جالسا من
(3/481)
__________
يستطيع القيام فإن لم يستطيعوا كانوا كالمرضى
وجاز أن يؤمهم الإمام قعودا وهو قاعد انتهى.
وفي سماع عبد الملك: وسأل وأنا أسمع عن القوم
في المركب يصلون جلوسا وهم يقدرون على القيام
قال يعيدون في الوقت وبعده وإن لم يقدروا فلا
بأس أن يؤمهم إمامهم وهم جلوس قال القاضي وهذا
صحيح لأن القيام فرض فمن تركه مع القدرة فلا
صلاة له انتهى. وقال ابن بشير وإن أمكن من كان
في السفينة الخروج إلى الشاطىء خرج إليه فإن
أدى الصلاة في السفينة على الإكمال لأن الصلاة
بالشاطىء أقرب إلى الخشوع وآمن من طريان
المفسد فإن صلى في السفينة وأكمل أجزأته صلاته
وإن أخل بفرض مع القدرة على الخروج بطلت صلاته
وإن لم يقدر صحت انتهى. وقال في كتاب الصلاة
الثاني من المدونة ومن صلى في السفينة وهو
قادر على الخروج منها أجزأه وأحب إلي أن يخرج
منها وإن قدر على القيام فلا يصلي الفريضة
فيها قاعدا قال ابن ناجي مفهومه من لم يقدر
على القيام صلى جالسا المغربي ونحوه في
العتبية ثم وقال في المدونة ويدورون إلى
القبلة كلما دارت السفينة فإن لم يقدروا
أجزأتهم صلاتهم انتهى. قال ابن رشد في شرح
المسألة المتقدمة في كلام اللخمي عن سماع
أشهب: وهذا كما قال لأن السجود من فرائض
الصلاة فإذا علم أنه لا يقدر في السفينة أن
يسجد إلا على ظهر أخيه فلا ينبغي له ركوبها في
حج ولا عمرة فإن فعل وصلى وسجد على ظهر أخيه
أعاد أبدا على قوله لأنه جعل ذلك كترك الصلاة
وهو الذي يأتي على مذهب ابن القاسم في الذي
يقدح الماء من عينه فيصلي إيماء أنه يعيد أبدا
وقال أشهب: لا إعادة عليه وكذا نقول في الذي
لا يقدر على الزحام أن يسجد إلا على ظهر أخيه
أنه لا يعيد إلا في الوقت وذلك أن الفرض انتقل
عنه إلى الإيماء من أجل الزحام فكان كالمريض
لا يستطيع السجود فرفع إلى جبهته شيئا فسجد
عليه أن ذلك يجزئه وهو عند مالك خلاف المريض
يعيد أبدا إن لم يسجد إلا على ظهر أخيه أو
إيماء فإن كان مع الإمام فإن لم يقدر على
السجود إلا إيماء أو على ظهر أخيه حتى قام
الإمام سجد ما لم يعقد الإمام عليه الركعة
التي تليها وإن كان ذلك في الركعة الأخيرة سجد
ما لم يسلم الإمام أو ما لم يطل الأمر بعد
سلامه على الاختلاف في سلام الإمام هل هو كعقد
ركعة أم لا انتهى.
الثاني: علم من النصوص المذكورة حكم ركوبه
ابتداء على التفصيل المتقدم ومن أثناء الكلام
حكم ركوبه بعد الوقوع مجملا وتحصيله أنه إذا
ركب البحر فهو مطلوب بالصلاة فيه على أي حال
قدر عليها في الأقسام الثلاثة ثم يختلف الحكم
في إعادته بعد ذلك فيما إذا أخل ببعض الأركان
ففي القسم الأول الجائز وهو من علم من نفسه
السلامة لا شي عليه إذا طرأ عليه شيء منعه من
أداء الصلاة على وجهها ولا يشك في عدم إعادته
وهذا ظاهر والظاهر أن حكم القسم الثالث
المكروه وهو من شك في أمره كذلك لأنه لم يقدم
على الإخلال بالصلاة ولا شيء منها وعليه يحمل
ما تقدم عن المدونة والعتبية أنهم إذا لم
يقدروا
(3/482)
__________
على القيام في السفينة قعدوا وما تقدم في كلام
ابن بشير أن من صلى في السفينة وأخل بفرض مع
قدرته على الخروج إلى البر بطلت صلاته وإن كان
لا يقدر صحت وأما القسم الممنوع وهو من يعلم
من نفسه تضييع الصلاة فقد تقدم بيان حكمه وأنه
يعيد أبدا والله أعلم.
الثالث: من كان يعلم من نفسه أنه إذا ركب
البحر حصل له ميد يغيب عقله منه ويغمى عليه
فيترك الصلاة بالكلية فلا خلاف في عدم جواز
ركوبه ومن كان بهذه المثابة فخروجه للحج إنما
هو شهوة نفسانية بل نزغة شيطانية قال البرزلي:
ولقد حكى شيخنا أبو محمد الشبيبي عن طالب من
المغاربة أنه يقال اختصم شياطين المشرق
والمغرب أيهم أكثر غواية فقال شياطين المشرق
لشياطين المغرب نحن أشد منكم غواية لأنا نحمل
المرء على المعاصي وارتكاب المحظورات في
مقامات الأنبياء عليهم السلام فقال شياطين
المغرب نحن أشد لأنا نجد الرجل في أهله وولده
يؤدي الفرائض من الصلاة والزكاة وغير ذلك وهو
في راحة وملائكته معه كذلك من قلة التبعات
فإذا قال القوال في التشويق إلى أرض الحجاز
ننخسه بسكين فيبكي ونحمله على الخروج فيخرج
فمن يوم يخرج نحمله على ترك الفرائض وارتكاب
المحظورات من يوم خروجه إلى يوم دخوله إلى
أهله فخسر في نفسه وماله ودينه في شرق الأرض
وغربها فسلم شياطين المشرق لشياطين المغرب شدة
الغواية قال البرزلي: وقد شاهدت في سفري للحج
بعض هذا انتهى. نسأل الله العافية وانظر إذا
حصل له ميد حتى غاب عن عقله بالكلية وخرج وقت
الصلاة وهو غائب العقل هل تسقط عنه الصلاة أم
لا والظاهر أنه يجري على ما تقدم ففي الوجه
الجائز والمكروه لا قضاء عليه وفي الممنوع
يقضي الصلاة وإن خرج وقتها قياسا على السكران
بجامع أن كل واحد منهما أدخل على نفسه شيئا
يؤدي إلى ترك الصلاة إلا أن يكون الإغماء لمرض
غير الميد فتسقط عنه الصلاة والله أعلم.
الرابع: إذا ركبه في الوجه الممنوع فهل يطلب
بالرجوع لم أر فيه نصا والظاهر أنه يطلب
بالنزول منه من أي موضع أمكنه النزول والله
أعلم.
الخامس: قال اللخمي: يترجح البر الموصل من
عامه على البحر المباح الموصل في عام آخر على
القول بالتراخي ويتعين على القول بالفور فإن
تساويا جرى على أيهما أحب انتهى. بالمعنى
ونقله ابن عرفة والتادلي والبرزلي وغيرهم قال
البرزلي إثره: والظاهر رجحان البر بكونه أكثر
نفقة ولمرجوحية ركوب البحر من حيث الجملة
انتهى. ويفهم من كلام اللخمي أنه لو كان البحر
أسرع تعين على القول بالفور.
السادس: قال ابن معلى ينبغي للمرء أن لا يقدم
على ما يتساهل فيه الناس من السفر مع الكفرة
فإنه دائر بين التحريم والكراهة وما ذكره ابن
العربي في أحكامه من إباحة السفر معهم لمجرد
التجارة خلاف المذهب انتهى. قال البرزلي: جرت
العادة عندنا اليوم بالسفر في
(3/483)
__________
مراكب النصارى وربما يكون الاستيلاء لهم وربما
قدروا فكان شيخنا الإمام ابن عرفة يحكي أنه
كالتجارة إلى أرض الحرب وفيها يعني التجارة
إلى أرض الحرب ما ذكره المتقدمون من تشديد
الكراهة وهل هي جرحة أم لا قال والصواب اليوم
أنه خلاف في حال فإن كان أمير تونس قويا يخاف
منه النصارى إذا غدروا أو أساؤوا العشرة فهو
خفيف وإلا كان خطرا وفي عرضة أخرى قال الصواب
أنه خطر ورأيت بعض أهل العلم والفضل سافر معهم
ورآها ضرورة لتعذر طريق البر قال البرزلي: كان
يذكر عن القباب أحد فقهاء فاس وابن إدريس أحد
فقهاء بجاية واشتهر عنهم أنهم من أهل العلم
والفضل سافر معهم وعندي أن هذا من تقابل
الضررين فينفي الأصغر للأكبر كما قال عليه
السلام فينظر ما يترتب من المفاسد في ركوبه
وما يحصل من المنافع الأخروية والدنيوية فكلما
عظم المكروه واعتبر ومتى قل انتفى ثم قال عن
المازري الذي تقدمت أجوبتي إذا كانت أحكام أهل
الكفر جارية على من يدخل بلادهم من المسلمين
فإن السفر لا يحل انتهى. وقال الشيخ إبراهيم
بن هلال في منسكه إثر كلامه المتقدم ومن هذا
المعنى ما جرت به العادة الآن من السفر في
مراكب النصارى على حالهم من كونهم يقدرون
أحيانا فكان الشيخ ابن عرفة يقول إنه كالتجارة
إلى أرض الحرب ثم قال أيضا إن كان أمير
إفريقية يخاف النصارى منه إذا غدروا أو أساؤوا
عشرة فهو خفيف وإلا كان خطرا.
قلت: وللشيخ أبي العباس أحمد القباب في نوازله
ما نصه وأما مركب يكون الحكم فيه للنصارى
فيجري الأمر فيه على ما شهر من الخلاف
والتفصيل في السفر لأرض العدو قال وأكثر
الشيوخ على النظر فيما ينال منه فإن كان يؤدي
إلى أن يكره على سجود لصنم أو إذلال للإسلام
لم يجز وإلإكراه قال وهذا القدر لم تجربه
العادة في مراكبهم لكني رأيت النجاسة فيها لا
يتأتى منها التحفظ أصلا وأما شرب الخمر فليس
رؤية ذلك فيهم منكراً وأما كشف العورة فإن كان
يكشف عورته ولا يتأتى الركوب إلا بذلك لم يجز
ركوبه وإن كان يخشى رؤية عورة غيره فقال عندي
أنه يمكنه التحفظ من ذلك غالبا وإن وقع بصره
على شيء منها بغير قصده لم يضره انتهى. وقال
القلشاني في شرح قول الرسالة وتكره التجارة
إلى أرض الحرب وبلاد السودان الكراهة قيل على
ظاهرها وقيل على التحريم وفي المدونة وشدد
مالك الكراهة في التجارة إلى بلد الحرب يجري
أحكام الكفر عليهم قال عياض إن تحقق جرى أحكام
المشركين عليهم حرم ويختلف إذا لم يتحقق هل
يحرم أو يكره قاله شيخنا أبو مهدي الغبريني
وعليه السفر معهم في مراكبهم يجري على هذا
التفصيل قال عياض وتأول الشيوخ ما وقع له من
جواز شهادة التجارة إلى بلاد الحرب فقيل معناه
تابوا وقيل غلبتهم الريح وقوله بلاد السودان
أي الكفار منهم انتهى.
السابع: قول المصنف أو يضيع يصح أن يقرأ بفتح
أوله والتخفيف فيكون ثلاثيا من
(3/484)
والمرأة كالرجل
إلا في بعيد مشي وركوب بحر إلا أن تختص بمكان،
__________
ضاع يضيع ويرفع ركن على الفاعلية أو بضم أوله
وتشديد ثالثه فيكون رباعيا من ضيع يضيع وبنصب
ركن صلاة على المفعولية والله أعلم. ص:
"والمرأة كالرجل إلا في بعيد مشى وركوب بحر
إلا أن تخص بمكان". ش: يعني أن حكم المرأة
كحكم الرجل في جميع ما تقدم من وجوب الحج
عليها مرة في العمر وسنية العمرة كذلك وفي
فورية الحج وتراخيه وشروط صحته وشروط وجوبه
وغير ذلك لدخولها في عموم قوله تعالى:
{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ}
[آل عمران: 97] وقوله عليه السلام: "بني
الإسلام على خمس" الحديث إلا أنها لضعفها
وعجزها اعتبر الشرع في حقها شروطا أشار المصنف
إليها بقوله إلا في بعيد مشى إلى آخره أي فلا
يجب عليها الحج ماشية من المكان البعيد لخوف
عجزها وليست كالرجل الذي يجب عليه المشي ولا
يجب عليها أن تحج في البر لخوف الانكشاف بل
يكره لها الخروج في الصورتين قاله في التوضيح
ولم يبين المصنف حد القرب الذي يلزمها المشي
منه و قال في التوضيح: مثل مكة وما حولها ونصه
المنقول عن مالك في الموازية كراهة المشي لهن
قال لأنهن عورة في مشيهن إلا المكان القريب
مثل مكة وما حولها انتهى. ومثله في النوادر
ناقلا له عن محمد عن أصبغ ولفظه بعد أن ذكر
حكم الرجال وليس للنساء في المشي على ذلك وإن
قوين لأنهن عورة في مشيهن إلا المكان القريب
مثل أهل مكة وما حولها وما قرب منها إذا أطقن
المشي انتهى. وذكره في المقدمات وقال في آخره
حكاه ابن المواز عن أصبغ وقال اللخمي: مثل مكة
من المدينة ونصه قال مالك في كتاب محمد: لا
أرى عليها مشيا وإن قويت عليه لأن مشيهن عورة
إلا أن يكون المكان القريب مثل مكة من المدينة
انتهى.
قلت: والظاهر أنه يختلف باختلاف الأشخاص فنساء
البادية لسن كنساء الحاضرة وفهم منه أنه إذا
كان المكان قريبا وقوين على ذلك يرى عليهن
المشي كما يفهم من كلام المصنف وليس في كلام
الموازية لفظ الكراهة ولعل المصنف فهمها من
قوله لأن مشيهن عورة وإنما لم يكن حراما لأنا
لم نتحقق فيه انكشاف العورة لكن الغالب عليهن
الضعف والعجز فيؤل بها الحال إلى التعب المؤدي
إلى انكشاف العورة والله أعلم. وما ذكره
المصنف
(3/485)
__________
من عدم لزومها المشي من المكان البعيد هو
المنصوص كما تقدم بيانه والقول بلزوم المشي
لها ولو كان المكان بعيدا قال في التوضيح:
خرجه اللخمي من مسألة المشي من قول مالك في
المدونة في الحانث والحانثة والمشي على الرجال
والنساء سواء انتهى. قال في تبصرته لأن الوفاء
بحجة الفريضة آكد من النذر انتهى. قال في
التوضيح: وقد يفرق بين ذلك بأنها لو كلفت
بالمشي في الحج لزم منه عموم الفتنة والحرج
بخلاف النذر فإنها صورة نادرة وقد ألزمت نفسها
ذلك بيمينها ألا ترى أن الإنسان إذا لم يكن
عنده إلا قوت يوم الفطر لا يلزمه إخراجه في
زكاة الفطر ولو نذر إخراجه لزمه انتهى. وظاهر
كلام المؤلف أنه لا يجب عليها المشي من المكان
البعيد ولو كانت متجالة وهو كذلك على إطلاق
كلام مالك المتقدم وقال في الإكمال لا خلاف في
وجوب الحج على المرأة كالرجل إذا استطاعت وأن
حكمها حكمه في الاستطاعة على اختلاف العلماء
فيها إلا أن الحج لا يلزمها إذا قدرت على
المشي عندنا بخلاف الرجل لأن مشيها عورة إلا
فيما قرب من مكة انتهى. فظاهره أيضا الإطلاق
وقال اللخمي بعد أن ذكر التخريج على قول مالك
في المدونة وذكر بعده كلام مالك في كتاب محمد
ما نصه: وهذا يحسن في المرأة الرائعة والجسيمة
ومن ينظر لمثله عند مشيها وأما المتجالة ومن
لا يؤبه بها من النساء فيجب عليها كالرجل
انتهى. فيكون قوله: هذا ثالثا وكذا جعله ابن
عرفة فقال وفي كون مشيها من بعد كالرجل أو
عورة ثالثها إن كانت غير جسيمة ورائعة للخمي
عن قوله فيها نذر المشي عليهما سواء ورواية
محمد واللخمي ورد ابن محرز الأولين للثالث
انتهى. فيكون وفاقا وكذا قال البساطي يحتمل
الوفاق ثم قال ابن عرفة: قلت: أخذ اللخمي منها
خلاف رواية محمد هو مناقضتها ابن الكاتب بها
ويرد إلى أن معناها المشي الواجب عليهما سواء
أي في إكماله والعود لتلافيه وغير ذلك لأن
مشيهما سواء في الوجوب فلفظ عليهما متعلق بنذر
لا بسواء انتهى. وحاصل كلامه أنهما سواء فيما
وجب عليهما فكأنه يقول إن المشي في النذر يجب
عليهما فهما فيه سواء وليس الحكم كذلك في الحج
بل يفرق بين الحج والنذر ولم يذكر فرقا فليس
في كلامه ما يرد على اللخمي لأن اللخمي لم
يأخذ الوجوب من قوله: والمشي على الرجال
والنساء سواء وإنما أخذه من إيجابه المشي
عليها في النذر فقال الفرض أولى فما يحسن الرد
عليه إلا بالفرق بين الحج والنذر والفرق الذي
تقدم عن التوضيح حسن وما ذكره المصنف من عدم
ركوبها البحر وما قلناه من أن يكره هو قول
مالك المنصوص له قال في التوضيح: المنقول عن
مالك في الموازية كراهة سفر النساء في البحر
وفي المجموعة والعتبية نهى مالك عن حج النساء
في البحر انتهى. ونص كلامه في الموازية على ما
نقل اللخمي وأما حجها في البحر فقال مالك في
كتاب محمد: مالها وللبحر البحر هو شديد
والمرأة عورة وأخاف أن تنكشف وترك ذلك أحب إلي
قال الشيخ يعني نفسه وقد وردت السنة بجواز
ركوب النساء في البحر في حديث أم حرام فركوب
النساء في البحر جائز إذا كانت في سرير أو ما
أشبه ذلك مما تستتر فيه وتستغني فيه
(3/486)
__________
عن مخالطة الرجال وعند حاجة الإنسان وإن كان
على غير ذلك لم يجز ومنعت انتهى. قال ابن
الحاجب: وفي ركوبها البحر قولان تبعا لابن شاس
ويختلف في إلزامها الحج مع عدم المحرم وإذا
وجدت رفقة مأمونة ومع الحاجة إلى البحر أو
المشي انتهى. ولم يعز ابن عبد السلام ولا
المصنف ولا ابن فرحون القول الثاني لأحد ولا
ذكروا من ذكره إنما قال في التوضيح: وأخذ
القول بجواز ركوبهن البحر مما ورد في السنة
بجواز ركوبهن البحر في الجهاد ثم قال ويجاب
عنه بما تقدم انتهى. ويشير إلى الفرق المتقدم
عند قوله: ومال الباجي إلى ركوب البحر وإن أدى
إلى تضييع بعض أركان الصلاة انظر شرح قول
المصنف أو يضيع ركن صلاة وقال ابن فرحون بعد
ذكره كلام الموازية المتقدم وقيل لا يمنع
والخلاف في حال انتهى. والموجود في المسألة
إنما هو قول مالك المتقدم وقول اللخمي وابن
رشد الذي أخذاه من الحديث المتقدم ولذا قال
ابن عرفة: وفي كون المرأة فيه كالرجل وسقوطه
به عنها قولا اللخمي وسماع ابن القاسم مع
روايته في المجموعة انتهى.
تنبيهات: الأول: قال في التوضيح: بعد كلام
مالك في الموازية والعتبية: وأشار اللخمي إلى
أن هذا إنما يحسن في الشابة ومن يؤبه بها وأما
المتجالة ومن لا يؤبه بها فهي كالرجل انتهى.
وما ذكره عن اللخمي لم أره هنا وإنما ذكره في
المشي البعيد كما تقدم نقله عنه هناك.
الثاني: قال في التوضيح: إثر كلامه المتقدم
وقيد عياض ما وقع لمالك بما صغر من السفر لعدم
الأمن حينئذ من انكشاف عوراتهن لاسيما عند
قضاء الحاجة قال وركوبهن فيما كبر من السفن
وحيث يخصصن بأماكن يستترن فيها جائز انتهى.
الثالث: ظاهر كلام المصنف هنا وفي المناسك
أنهن إذا خصصن بأماكن وجب عليهن الحج وصرح
بذلك البساطي في شرحه وكذلك الأقفهسي أيضا في
شرحه قائلا فإنها تصير كالرجال في الوجوب
وعدمه انتهى. ونص كلام المصنف في مناسكه
والمرأة كالرجل إلا في المشي من المكان البعيد
وركوب البحر فاختلف في إلزامها على قولين
وظاهر المذهب عدم اللزوم فيها قال عياض إلا في
المراكب الكبيرة التي يخصصن فيها بأماكن
انتهى. فمفهوم كلامه هذا أو صريحه موافق لما
في المختصر وشرحه عليه البساطي والأقفهسي
والذي في كلام عياض المتقدم في كلام التوضيح
في التنبيه الذي قبل هذا إنما هو انتفاء
الكراهة حينئذ فقط من جواز الركوب وما نقله
عنه هو في الإكمال في كتاب الجهاد في شرح حديث
أم حرام ونصه وركوبهن فيما كبر من السفن وحيث
يخصصن بأماكن يستترن فيها جائز انتهى. وفي
كلام الشارح الصغير إشارة إلى ذلك حيث قال بعد
ذكره كلام القاضي عياض وإليه أشار بقوله إلا
أن تخص بمكان أي فتنتفي الكراهة انتهى. ولعل
المصنف فهم الوجوب من كلام القاضي حيث جعل
ركوبهن حينئذ جائزا لأنه إذا كان جائزا صار
البحر طريقا لهن يجب سلوكها فوجب عليهن الحج
فتأمله.
(3/487)
وزيادة محرم أو
زوج لها كرفقة أمنت بفرض،
__________
الرابع هذه الحال التي ذكر القاضي عياض أنه
يجوز لهن ركوب البحر فيها جعلها اللخمي وابن
رشد هي محل الكراهة قال في رسم سلف من سماع
ابن القاسم من كتاب الحج سأل مالك عن حج
النساء في البحر فكره ذلك وقال لا أحبه وعابه
عيبا شديدا قال ابن رشد: إنما كرهه من ناحية
الستر مخافة أن ينكشفن لأنهن عورة وهذا إذا كن
في معزل عن الرجال لا يخالطنهم عند حاجة
الإنسان وفي سعة يقدرون على الصلاة وأما إن لم
يكن في معزل عن الرجال أو كن في ضيق يمنعهن من
إقامة الصلاة على وجهها فلا يحل لهن أن يحججن
ثم قال وفي دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم
لأم حرام أن يجعلها منهم لسؤالها إياه دليل
على جواز ركوبه للنساء وذلك على الصفة الجائزة
انتهى. وكلام اللخمي تقدم ذكره قبل التنبيهات.
الخامس: رأيت في شرح ابن الحاجب لابن فرحون
عزو كلام الموازية المتقدم للمدونة وكأنه سهو
من الناقل والله أعلم.
السادس: قال في الشامل في المكروهات وركوبها
البحر وهل إن كانت متجالة أو ما لم تخص بمكان
بسفينة عظيمة تأويلان انتهى. فأطلق التأويل
على غير كلام المدونة وكان التأويل عنده ليس
خاصاً بالمدونة ويسقط من قوله: إن كانت متجالة
وتبع في ذلك كلام التوضيح وقد علمت أن اللخمي
لم يذكر المتجالة في هذا وإنما ذكرها في المشي
البعيد كما تقدم بيانه والله أعلم. ص: "وزيادة
محرم أو زوج كرفقة أمنت بفرض". ش: يعني ويشترط
في وجوب الحج على المرأة أيضا وجود زوج أو
محرم فإن لم يكن لها محرم ولا زوج فيجب عليها
الخروج للحج في الفرض في رفقة مأمونة والأصل
في هذا ما ورد في الحديث الصحيح وروى مالك في
جامع الموطأ عن أبي هريرة أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال: "لا يحل لامرأة تؤمن
بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة يوم وليلة إلا
مع ذي محرم منها" 1 ورواه البخاري ومسلم
بروايات مختلفة وقوله صلى الله عليه وسلم تؤمن
بالله واليوم الآخر على جهة التغليظ يريد أن
ـــــــ
1 رواه البخاري في كتاب التقصير باب 4. مسلم
في كتاب الحج حديث 413، 424. الدارمي في كتاب
الاستئذان باب 46. الترمذي في كتاب الرضاع باب
10. ابن ماجة في كتاب المناسك باب 7. الموطأ
في كتاب الاستئذان حديث 37. أحمد في مسنده
(1/222، 346) (2/13، 19، 182، 251، 304).
(3/488)
__________
مخالفة هذا ليس من أفعال من يؤمن بالله ويخاف
عقابه في الآخرة قال الباجي والعلة في منعها
من السفر من غير ذي محرم كونها عورة يجب عليها
التستر ويحرم عليها التبرج حيث الرجال مخافة
الفضيحة والاختلاط عن التقييد بحدود الشريعة.
تنبيه: قال في التوضيح: وقاس العلماء الزوج
على المحرم بطريق الأول انتهى.
قلت: وفي كلامه هذا نظر لأنه ورد النص على
الزوج في الصحيحين قال في التوضيح: والمحرم
يشمل النسب والرضاع والصهر لكن كره مالك سفرها
مع ربيبها أما لفساد الزمان لضعف مدرك التحريم
عند بعضهم وعلى هذا فيلحق به محارم محرم الصهر
والرضاع وأما لما بينهما من العداوة فسفرها
معه تعريض لضيعتها وهذا هو الظاهر وقد صرح ابن
الجلاب وصاحب التلقين بجواز سفر المرأة مع
محرمها من الرضاع في باب الرضاع انتهى. وتأمل
قول المصنف مدرك التحريم قال ابن عبد السلام:
أما لفساد الزمان فلا تقوى الحرمة إذا كان
التحريم طارئا انتهى. وما ذكره عن مالك يفهم
منه أنه كرهه مطلقا وليس كذلك إنما كرهه إذا
كان أبوه قد طلقها وتزوجت بعده ونصه في رسم
حلف ليرفعن من سماع ابن القاسم من كتاب النكاح
وسئل مالك عن سفر الرجل بامرأة أبيه أتراه ذا
محرم فقال قال الله سبحانه: {أُمَّهَاتُكُمْ
وَبَنَاتُكُمْ} [النساء: 23] فأتم الآية وقال
هؤلاء ذو المحرم فأما الرجل يكون أبوه قد طلق
المرأة وتزوجت أزواجا يريد أن يسافر معها فلا
أحب ذلك قال ابن القاسم: وما يعجبني أن يسافر
بها فارقها أبوه أو لم يفارقها وإنما كان هذا
من مالك حجة ولم أره يعجبه ابن رشد احتجاج
مالك بالآية يدل على أنه حمل قوله صلى الله
عليه وسلم: "لا تسافر امرأة مسيرة يوم وليلة
إلا مع ذي محرم منها" 1 على عمومه في جميع
المحارم من نسب أو رضاع وكراهيته أن يسافر بها
إذا كان أبوه قد طلقها وتزوجت الأزواج استحسان
مخافة الفتنة عليه إذ ليست في تلك الحال زوجة
لأبيه وكره ابن القاسم أن يسافر بها فارقها
أبوه أو لم يفارقها لاحتمال أن يكون أراد
النبي صلى الله عليه وسلم ذوي محارمها من
النسب دون الصهر فقول مالك في حمل الحديث على
ظاهره من العموم أظهر وقول ابن القاسم أحوط
انتهى. وما فهمه ابن القاسم عن مالك يوافق
إطلاق المصنف وفي رسم الحج من سماع أشهب من
كتاب الحج ما نصه وسمعته سئل أتخرج المرأة
تريد الحج مع ختنها فقال تخرج في جماعة الناس
ابن رشد ظاهر قوله أنه لم ير أنه أن تخرج مع
ختنها لأنه ليس من ذوي محارمها إذا كانت له
حلالا قبل أن يتزوج ابنتها ومثل هذا في سماع
ابن القاسم من كتاب النكاح من كراهيته السفر
للرجل مع زوجة أبيه أو ابنه وحمل مالك رحمه
الله الحديث المتقدم على السفر المباح
والمندوب إليه دون الواجب بدليل إجماعهم على
أن المرأة إذا أسلمت في بلد الحرب لزمها
ـــــــ
1 المصدر نفسه في الصفحة السابقة.
(3/489)
__________
الخروج منها إلى بلد الإسلام وإن لم يكن معها
ذو محرم خلافا لأهل العراق في قولهم إن فرض
الحج يسقط عنها بعدم المحرم وقول مالك أصح
لأنه يخصص من عموم الحديث الهجرة من بلد الحرب
بالاجماع وحج الفريضة بالقياس على الإجماع
انتهى. وقال التلمساني في شرح جامع الجلاب
وأما سفر الحج فإنها تسافر مع جماعة النساء
إذا لم يكن لها محرم قال الأبهري لأنها لو
أسلمت في دار الحرب لوجب عليها أن تخرج مع غير
ذي محرم إلى دار الإسلام وكذا إذا أسرت
وأمكنها أن تهرب منهم يلزمها أن تخرج مع غير
ذي محرم فكذلك يلزمها أن تؤدي كل فرض عليها
إذا لم يكن لها ذو محرم من حج أو غيره انتهى.
ونقله القرافي في شرحه أيضا وذكر ابن عرفة في
الزنا على القول بتغريب المرأة إن لم يكن لها
ولي تخرج في جماعة رجال ونساء كحج الفرض وإلى
هذا أشار المصنف بقوله كرفقة أمنت بفرض أي فإن
لم يكن لها محرم ولا زوج فيجب عليها الخروج
للحج الفرض في رفقه مأمونة لكن ظاهر كلام
المصنف يقتضي أن المطلوب في حقها وجود زوج أو
محرم أو رفقة مأمونة فمن وجد من الثلاثة خرجت
معه وظاهر النقول التي وقفت عليها أنها إنما
تخرج مع الرفقة المأمونة عند عدم الزوج
والمحرم أو امتناعهما قال مالك في الموطأ في
الصرورة من النساء التي لم تحج قط إنها إن لم
يكن ذو محرم يخرج معها أو كان لها فلم يستطع
أن يخرج معها أنها لا تترك فريضة الله عليها
في الحج ولتخرج في جماعة من النساء انتهى. و
قال ابن الحاجب: فإن أبى أو لم يكن فرفقة
مأمونة انتهى. ونحوه في المدونة والرسالة
وغيرهما وسيأتي كلام المدونة.
تنبيهات: الأول: إذا امتنع الزوج أو المحرم من
الخروج معها إلا بأجرة فهل يلزمها ذلك أو تخرج
مع الرفقة المأمونة لم أر فيه نصا وقال ابن
جماعة الشافعي في منسكه الكبير إن مقتضى مذهب
المالكية أن الأجرة تلزمها.
قلت: أما مع عدم الرفقة المأمونة فلا شك في
لزوم ذلك لها وأما مع وجود الرفقة المأمونة
فظاهر النصوص لزوم ذلك لها أيضا لأنهم لم
يجيزوا لها الخروج مع الرفقة المأمونة إلا عند
امتناعه من الخروج وحيث طلب الأجرة وكانت
قادرة عليها فلا يصدق عليه إنه امتنع وفي كلام
ابن رشد في رسم إن خرجت مع سماع عيسى من كتاب
الصدقات والهبات إنه يجوز للزوج والمحرم أخذ
الأجرة على الخروج معها والله أعلم.
الثاني: تقدم أن المحرم يشمل المحرم من النسب
والرضاع والصهر واختلف في عبدها فقيل إنه محرم
وقال ابن القطان إنه الصحيح وقيل ليس بمحرم
ورجحه ابن الفرات وهو الظاهر وقيل إن كان وغدا
وعزاه ابن القطان لمالك وابن عبد الحكم وابن
القصار قال ابن فرحون: واختلف هل يكون عبدها
محرما يخلو بها ويسافر معها فيه قولان وعلى
القول بالجواز فهل يشترط أن يكون وغدا وبه قال
مالك أو لا يشترط ذلك ذهب القاضي إسماعيل
وغيره إلى
(3/490)
__________
جواز ذلك قال ابن القطان وهو الصحيح وذهب ابن
القصار وابن عبد الحكم إلى المنع من ذلك
وللشافعية القولان قال الأسفرايني والصحيح
المنع انتهى. من كتاب النظر في أحكام النظر
لابن القطان انتهى. كلام ابن فرحون من شرحه
وذكره في مناسكه أيضا وما ذكره عن ابن القطان
هو في الباب الثاني منه وقال في النوادر وكره
عمر بن عبد العزيز أن يخرج بها عبدها قيل له
إنه أخوها من الرضاعة فلم ير بذلك بأسا انتهى.
وقال ابن الفرات وقد سئل ابن جماعة الشافعي عن
مذهب مالك في العبد هل هو من ذوي المحارم
فيجوز للمرأة النظر له أم لا كذا رأيته في
ورقة بخطه ومراده والله أعلم. عبدها ولم أر
جوابا في الورقة والجواب لا لأنهم صرحوا بأنه
يجوز للعبد أن ينظر من سيدته ما يراه ذو
المحارم إلا أن يكون له منظر فيكره أن يرى ما
عدا وجهها ولها أن تؤاكله إن كان وغدا دينا
يؤمن منه التلذذ بها بخلاف الشاب الذي لا يؤمن
فهذا لا يقتضي أنه يتنزل منزلة المحرم في أنه
يسافر بها وقد تقدم أن مالكا كره السفر مع
ربيبها فما بالك بعبدها الذي يحل لها عند زوال
ملكها عنه فهو بمنزلة من حرم بصفة كأخت الزوجة
وعمتها وخالتها وقد ذكر الفاكهاني المالكي في
شرح عدة الأحكام ضابطا في المحرم الذي يجوز
معه سفر المرأة والخلوة عن الشافعية وهو كل من
حرم عليه نكاح المرأة لحرمته على التأبيد بسبب
مباح فعلى التأبيد احتراز من عبد الزوجة
وعمتها وخالتها وقولهم بسبب مباح احتراز من أم
الموطوءة بشبهة فإنها ليست محرما فإن وطء
الشبهة لا يوصف بالإباحة وقوله لحرمتها احتراز
من الملاعنة فإن تحريمها ليس لحرمتها بل تغليظ
قال الفاكهاني ولا أعلم ما يخالف ذلك عندنا
انتهى. وقد نقل الباجي في المنتقى عن القاضي
أبي محمد أنه قال ليس عبدها من ذوي محارمها
الذي يجوز لها السفر معه لأن حرمتها منه لا
تدوم لأنه يمكن أن تعتقه في سفرها فيحل له
تزويجها بعد أن قدم الباجي تفسير المحرم في
جامع المنتقى بمن تأبد تحريمها على المرء.
الثالث: قال ابن فرحون: وأما الكافل فإنه لا
يخلو بمكفولته ويسافر معها لأنه كالأب لها من
الطراز لابن عات نقله من كتاب الاستغناء لابن
عبد الغفور وحكاه ابن عيشون انتهى. من مناسكه
ونحوه في شرحه وقال في باب الحضانة إن للوصي
والولي غير المحرمين أن يسافر بالصبية إذا لم
يكن لها أهل تخلف عندهم وكانا مؤمنين ويختلف
فيه إذا كان للصبية أهل وهو مأمون وله أهل
والله أعلم. وانظر من أرسلت معه أمة لشخص هل
يجوز له أن يصحبها معه أم لا والظاهر أنه يجوز
له ذلك إذا أمن من أن يقع في الخلوة المحرمة
قال اللخمي في أول كتاب الوديعة: ولا تودع
المحرم لغير ذي محرم إلا أن يكون مأمونا له
أهل لقول النبي صلى الله عليه وسلم "لا يخلون
رجل بامرأة ليس بينه وبينها محرم" وأجاز مالك
لمن ادعى أمة أنه إذا أقام شاهدا أو أقام خطا
ووضع القيمة أن يسافر بها إذا كان مأمونا
ومنعه أصبغ والمنع أصوب للحديث لا يخلون ولأن
الخوف عليها من المدعي أشد لأنه يقول هي أمتي
وحلال لي فهو
(3/491)
__________
يستبيحها إذا غاب عليها انتهى. وفي ابن سلمون
ووثائق الجزيزي أن الجارية لا تدفع عليه حتى
يثبت أنه مأمون عليه أو يأتي بأمين يتوجه بها
معه فيستأجره هو والله أعلم.
الرابع: ما ذكره المصنف من السفر مع الرفقة
المأمونة هو قول مالك وهو المشهور قال في
التوضيح: ونقل ابن بشير وابن بزيزة في هذه
المسألة ثلاثة أقوال قيل لا تسافر إلا بأحدهما
للحديث كانت صرورة أم لا وقيل تسافر مع الرفقة
مطلقا والمشهور تسافر في الفريضة خاصة ثم قال
ونقل صاحب الإكمال الاتفاق على المنع في غير
الفريضة وقال ابن عبد الحكم: لا تخرج مع رجال
ليسوا منها بمحرم وهل مراده على الانفراد دون
النساء فيكون وفاقا لما تقدم انتهى. وحمل سند
قول ابن عبد الحكم على الكراهة انتهى. كلام
التوضيح وما ذكره عن سند وهو كذلك لكن بعيد إن
تأوله على ما تأوله عليه القاضي ونصه إذا ثبتت
أن المحرم معتبر فهل تخرج مع ثقات الرجال قال
ابن عبد الحكم: إلى آخره وقوله عندنا محمول
على رجال لا امرأة معهم فيكره لها الخروج معهم
لما فيه من دعاء الحاجة إلى مخالطتها لهم
وكشفها عليهم في بعض المآرب فإن كان معهم نسوة
ترتفق بهن وتستند إليهن لم يكره ذلك انتهى.
فحمل سند وعياض قول ابن عبد الحكم على الوفاق
وحمله اللخمي على الخلاف واختاره قال ابن
عرفة: اللخمي قول ابن عبد الحكم لا تخرج مع
رجال دونه أحسن من قول مالك رجال أو نساء لا
بأس بهم انتهى. ونقل الثلاثة الأقوال المتقدمة
الشيخ بهرام في الكبير عن الفاكهاني في شرح
الرسالة لا بزوج أو محرم وهو كذلك فيما كان
على مسافة يوم وليلة فأكثر وسواء كانت شابة أو
متجالة قيد القليل.
الخامس: حكم سفرها الواجب جميعه حكم سفره لحج
الفريضة في الخروج مع الرفقة المأمونة قال
القاضي عبد الوهاب وغيره: وتقدم في كلام ابن
رشد والتلمساني عن الأبهري إشارة إلى ذلك وذلك
كسفرها لحجة النذر والقضاء وكل سفر يجب عليها
وفي قول المصنف بفرض إشارة إلى ذلك فعبارته
أحسن من قول صاحب الرسالة إلا في حج الفريضة
خاصة.
السادس: فهم من قول المصنف بفرض أن سفرها في
التطوع لا يجوز إلا بزوج أو محرم وهو كذلك
فيما كان على مسافة يوم وليلة فأكثر وسواء
كانت شابة أو متجالة وقيد ذلك الباجي بالعدد
القليل ونصه هذا عندي في الانفراد والعدد
اليسير فأما في القوافل العظيمة فهي عندي
كالبلاد يصح فيها سفرها دون نساء وذوي محارم
انتهى. ونقله عنه في الإكمال وقبله ولم يذكر
خلافه وذكره الزناتي في شرح الرسالة على أنه
المذهب فيقيد به كلام المصنف وغيره ونص كلام
الزناتي إذا كانت في رفقة مأمونة ذات عدد وعدد
أو جيش مأمون من الغلبة والمحلة العظيمة فلا
خلاف في جواز سفرها من غير ذي محرم في جميع
(3/492)
__________
الأسفار الواجب منها والمندوب والمباح من قول
مالك وغيره إذ لا فرق بين ما تقدم ذكره وبين
البلد هكذا ذكره القابسي انتهى.
السابع: قوله: يعرض في موضع الحال من المرأة
المفهومة من السياق فهو متعلق بمحذوف وقال
الشيخ بهرام إنه متعلق بقوله أمنت واحترز بذلك
عما إذا كانت لرفقة غير مأمونة أو مأمونة وهي
متطوعة بالحج فلا يباح لها ذلك انتهى. من
الشرح الكبير وقوله أو مأمونة وهي متطوعة
مخالف لما تقدم إلا أن يحمل على العدد اليسير
وقال البساطي قوله: بفرض متعلق بالتشبيه لما
فيه من معنى الفعل أي ويشبه المحرم رفقة أمنت
في فرض وقول الشارح متعلق بأمنت لا معنى له
انتهى. فتأمله.
الثامن: قول المصنف: "وزيادة محرم أو زوج" لو
قال عوضه: "واستصحاب محرم أو زوج" لكان أولى
لإيهام لفظ الزيادة بخلاف قول ابن الحاجب
والمرأة كالرجل وزيادة استصحاب زوج أو ذي محرم
لأنه صدر به المستثنيات فكان أمكن قال ابن
غازي وهو ظاهر والله أعلم.
التاسع: هل يشترط في المحرم البلوغ أو يكفي
فيه التمييز ووجود الكفاية لم أر فيه نصا
والظاهر أنه يكفي في ذلك وجود الكفاية
وللشافعية في ذلك خلاف والله أعلم.
العاشر: في صحيح مسلم في أثناء حديث أنه قام
رجل فقال يا رسول الله إن امرأتي خرجت حاجة
وإني اكتتبت في غزوة كذا فقال انطلق فحج مع
امرأتك قال القاضي فيه وجوب الحج على النساء
وإلزام أزواجهن عدم تركهن وندبهم إلى الخروج
معهن وإن ذلك أفضل من خروجه إلى الغزو لأن
المعونة على أداء الفريضة مؤكدة وقد تكون
فريضة في بعض الوجوه انتهى. والظاهر أنه سقط
منه قبل قوله مؤكدة لفظ سنة والله أعلم.
والظاهر أيضا ندب المحرم إلى الخروج مع محرمه
كالزوج والله أعلم.
الحادي عشر: اختلف رواة الحديث في مدة السفر
الممنوع فروي يوم وليلة فوق ثلاث وروي مسيرة
ثلاث وروي يومين وروي مسيرة ليلة وروي مسيرة
يوم وروي لا تسافر امرأة إلا مع ذي محرم وهذه
كلها في مسلم وروي بريدا عند أبي داود والبريد
مسيرة نصف يوم قال في التوضيح: وقد حملوا هذا
الاختلاف على حسب اختلاف السائلين واختلاف
المواطن فإن ذلك معلق بأقل ما يقع عليه اسم
السفر انتهى. ونقله ابن فرحون قال النووي: قال
البيهقي: كأنه صلى الله عليه وسلم سئل عن
امرأة تسافر ثلاثا بغير محرم فقال لا وسئل عن
سفرها يومين بغير محرم فقال لا وسئل عن سفرها
يوما فقال لا وكذلك البريد فأدى كل ما سمعه
وما جاء مختلفا عن راو واحد فسمعه في مواطن
وكله صحيح وليس في هذا كله تحديد لأقل ما يقع
عليه اسم السفر ولم يرد صلى الله عليه وسلم
تحديدا أقل ما يسمى سفرا فالحاصل أن كل ما
يسمى
(3/493)
__________
سفرا نهى عنه المرأة بغير زوج ومحرم سواء كان
ثلاثة أيام أو يومين أو يوما أو بريداً أو غير
ذلك كرواية ابن عباس المطلقة وهي إحدى روايات
مسلم لا تسافر امرأة إلا مع ذي محرم وهذا
يتناول جميع ما يسمى سفرا والله أعلم. انتهى.
من شرح مسلم في كتاب الحج وقال في الإكمال وقد
يمكن أن يلفق بينها بأن اليوم المذكور مفرد أو
الليلة المذكورة مفردة بمعنى الليلة واليوم
المجموعين لأن الليل من اليوم واليوم من الليل
ويكون ذكره يومين مدة مغيبها في هذا السفر في
السير والرجوع فأشار مرة لمدة السفر ومرة لمدة
المغيب وهكذا ذكر الثلاث فقد يكون اليوم الوسط
الذي بين السفر والرجوع الذي تقضي فيه حاجتها
فتتفق على هذا الأحاديث وقد يكون هذا كله
تمثيلا لأقل الأعداد للواحد إذ الواحد أول
العدد وأقله الاثنان أول الكثرة وأقلها
والثلاث أول الجمع فكأنه أشار إلى مثل هذا في
قلة الزمن لا يحل لها السفر فيه مع غير ذي
محرم فكيف بما زاد ولهذا قال في الحديث الآخر:
"ثلاثة أيام فصاعدا" انتهى.
وقال القاضي عبد الوهاب في شرح قول الرسالة:
ولا ينبغي أن تسافر المرأة مع غير ذي محرم
منها سفر يوم وليلة والفرق بين ما دون اليوم
والليلة وبينهما هو أنها لو منعت من السفر
والسير في الأرض جملة إلا مع ذي محرم لشق ذلك
عليها وضاق وأدى إلى فوات أكثر حوائجها وكأن
الكثير ممنوعة منه فاحتيج إلى مدة عملا للفرق
بين القليل والكثير فوجدنا اليوم أو الليلة
أول حد ضرب لتغير هيئة من هيآت السفر وهي
القصر والفطر والصلاة على الراحلة فاعتبر سفر
المرأة به انتهى. وقال الجزولي ولا ينبغي أي
لا يجوز وانظر قوله: يوم وليلة هل له مفهوم
وأنه إذا كان أقل يجوز أن تسافر مع غير ذي
محرم فيكون معارضا لقوله ولا يخلو رجل وامرأة
ليست منه بمحرم إلى آخره أم لا مفهوم له قال
الفقيه أبو عمر إنما تكلم هنا على الجماعة
فقال لا يجوز أن تسافر مع الجماعة أكثر من يوم
وليلة ويجوز أن تسافر معهم أقل من ذلك وأما مع
الواحد فلا يجوز مطلقا ثم قال قال أبو عمر بن
عبد البر ورد في الباب أحاديث مختلفة فذكرها
ثم قال اختلاف الجواب على اختلاف السؤال
والصحيح أن لا تسافر معه يعني غير المحرم أصلا
قال عبد الوهاب: أما أقل من يوم وليلة فيجوز
أن تسافر مع غير ذي محرم منها ثم قال وهذا
الذي قاله عبد الوهاب إذا كانوا جماعة وأما مع
الواحد فلا انتهى. وقال الشيخ يوسف بن عمرو
الزناتي كلام عبد الوهاب المتقدم فتحصل من
سفرها أقل من يوم وليلة قولان والظاهر ما قاله
في التوضيح وغيره والله أعلم.
الثاني عشر: قال في التوضيح: قوله عليه الصلاة
والسلام: "لا يحل لامرأة" نكرة في سياق النفي
فتعم وهو قول الجمهور وقال بعض أصحابنا تخرج
منه المتجالة لأنها كالرجل ورد بأن الخلوة بها
ممنوعة انتهى. وقال ابن فرحون قول المؤلف
المرأة تدخل فيه الشابة والمتجالة وهو قول
الجمهور وقال ابن راشد إن كانت متجالة أو ممن
لا يؤبه به لم تمنع من الخروج يريد بخلاف
الشابة ثم نقل كلام التوضيح وما ذكر في
التوضيح من الرد غير ظاهر لأنه
(3/494)
__________
ينتقض بما إذا سافرت مع من ترتفع معه الخلوة
وأما حيث الخلوة فذلك ممنوع بلا إشكال وقال
النووي في شرح مسلم قال القاضي قال الباجي هذا
عندي في الشابة وأما الكبيرة غير المشتهاة
فتسافر حيث شاءت في كل الأسفار بلا زوج ولا
محرم وهذا الذي قاله الباجي لا يوافق عليه لأن
المرأة مظنة الطمع فيها ومظنة الشهوة ولو كانت
كبيرة وقد قالوا لكل ساقطة لاقطة ويجتمع في
الأسفار من سفل الناس وسقطهم من لا يرتفع عن
الفاحشة بالعجوز لغلبة شهوته وقلة دينه انتهى.
وما ذكره عن الباجي إنما نقله في الإكمال عن
غيره فإنه ذكر عن الباجي الفرع المتقدم في
التنبيه السادس وهو كون القوافل العظيمة
كالبلد ثم ذكر هذا عن غيره فقال وقال غيره
وهذا إلى آخره والله أعلم.
الثالث عشر: قال في باب العدة إذا خرجت مع
زوجها لحج الفريضة فمات أو طلقها في ثلاثة
أيام أو نحوها إنها ترجع إن وجدت ثقة ذا محرم
أو ناسا لا بأس بهم وإن بعدت أو كانت أحرمت أو
أحرمت بعد الطلاق أو الموت وسواء أحرمت بفرض
أو نفل أو لم تجد رفقة ترجع معهم فإنها تمضي
ولا شك أن حكم المحرم كذلك إلا أنها لا ترجع
في الثلاثة الأيام إذا كانت الرفقة مأمونة
والله أعلم.
الرابع عشر: قالوا أيضا في باب العدة إذا خرجت
مع زوجها لحج تطوع أو لغزو أو رباط أو غير ذلك
فمات عنها في الطريق إنها ترجع لتتم عدتها
ببيتها إن علمت أنها تصل قبل انقضاء عدتها إن
وجدت ذا محرم أو رفقة مأمونة وإلا تمادت مع
رفقتها وقياسه في المحرم إذا مات عنها أنها إن
لم تجد محرما ولا رفقة مأمونة أن تمضي مع
فقتها بلا إشكال وإن وجدت المحرم أن ترجع معه
وإن وجدت رفقة مأمونة والتي هي فيها أيضا
مأمونة فلا يخلو إما أن يكون ما مضى من سفرها
أكثر مما بقي أو بالعكس ففي الأولى تمضي مع
رفقتها بلا إشكال وفي الثانية محل نظر والظاهر
الرجوع ارتكابا بالأخف الضررين إلا أن يكون
هناك ما يعارضه والله أعلم.
الخامس عشر: إذا قلنا تسافر مع الرفقة
المأمونة فالظاهر أن لها أن تعود معها أيضا
بعد قضاء فرضها وكذلك لو سافرت مع محرم ثم مات
بعد أداء فرضها فالظاهر أن لها أن تعود مع
الرفقة المأمونة لأن في إلزامها الإقامة بغير
بلدها مشقة عظيمة لا سيما في بلد الحجاز والله
أعلم.
السادس عشر: يستثنى ما تقدم ما إذا وجد الرجل
المرأة في مفازة ومقطعة وخشي عليها الهلاك
فإنه يجب عليه أن يصحبها معه وأن يرافقها وإن
أدى إلى الخلوة بها لكن يحترس جهده والأصل في
ذلك قضية السيدة عائشة رضي الله عنها في حديث
الإفك قال القاضي عياض في الإكمال فيه حسن
الأدب في المعاملة والمعاشرة مع النساء
الأجانب لا سيما في الخلوة بهن عند الضرورة
كما فعل صفوان من تركه مكالمة عائشة وسؤالها
وأنه لم يزد على الاسترجاع وتقديم مركبها
وإعراضه بعد ذلك حتى ركبت ثم تقدمه يقود بها
وفيه إغاثة الملهوف وعون الضعيف وإكرام من له
قدر كما فعل صفوان في ذلك كله والله أعلم.
(3/495)
وفي الاكتفاء
بنساء أو رجال أو بالمجوع تردد
__________
السابع عشر: الظاهر أن يكفي في المحرم أن يكون
معها في رفقة ولا يشترط أن تكون هي وإياه
مترافقين فلو كان في أول الرفقة وهي في آخرها
أو بالعكس بحيث إنها إذا احتاجت إليه أمكنها
الوصول بسرعة كفى ذلك والله أعلم.
الثامن عشر: الخنثى إذا كان واضحا فحكمه حكم
الصنف الذي لحق به وإن كان مشكلا فقال ابن
عرفة في كتاب النكاح في بعض التعاليق: يحتاط
في الحج لا يحج إلا مع ذي محرم لا مع جماعة
الرجال فقط.
قلت: إلا أن يكون جواريه أو ذوات محارمه
انتهى. وانظر هذا الذي نقله عن بعض التعاليق
وأقره كأنه المذهب والظاهر أن ما قاله خاص بحج
التطوع أما حج الفرض فالظاهر أنه يكفي خروجه
مع جماعة الرجال والنساء إلا على القول الذي
يشترط في الرفقة مجموع الصنفين والله أعلم.
وقد طال الكلام بنا وخرجنا عن المقصود فلنرجع
إلى كلام المؤلف. ص: "وفي الاكتفاء بنساء أو
رجال أو بالمجموع تردد". ش: لما ذكر أن المرأة
تخرج مع الرفقة المأمونة أخذ يفسرها ويذكر
الاختلاف فيها وأشار بالتردد لاختلاف الشيوخ
في نقل كلام المدونة فاختصرها البراذعي بلفظ
فإن أبى المحرم أو لم يكن لها ولي ووجدت من
تخرج معه من رجال أو نساء مأمونين فلتخرج. قال
أبو الحسن الصغير: وكذا اختصرها ابن يونس
بالألف واختصرها ابن أبي زمنين بالواو ولفظه
قال مالك: وإذا أرادت المرأة الحج وليس لها
ولي فلتخرج مع من تثق به من الرجال والنساء
وكذا اختصرها سند ونصه قال مالك في المرأة تحج
بلا ولي: إذا كانت مع جماعة رجال ونساء لا بأس
بحالهم فلا أرى بأسا أن تحج معهم قال وإن كان
لها ولي فأبى أن يحج معها فلا أرى بأسا أن
تخرج مع مثل من ذكرت لك انتهى. قال الشيخ أبو
الحسن: وهو كذلك في الأمهات بغير الفاء في
قوله: ونساء كذا نقلها القرافي ونصه قال مالك
في الكتاب: تحج بلا ولي مع رجال مرضيين وإن
امتنع وليها وقال تخرج مع المرأة الواحدة
المأمونة إذا ثبت أن المحرم ليس بشرط فهل تخرج
مع الرجال الثقات قال سند: منعه ابن عبد الحكم
قال وهو محمول على الكراهة انتهى. قال البساطي
اختلف الشيوخ هل الواو على حالها فلا بد من
المجموع أو هي للجمع الذي يقصد به الحكم على
أحد النوعين انتهى. وقال في الإكمال جعل أبو
حنيفة المحرم من جملة الاستطاعة إلا أن تكون
دون
(3/496)
وصح بالحرام
وعصى
__________
مكة بثلاث ليال وذهب مالك والشافعي وجماعة إلى
أنه ليس بشرط ويلزمها الحج دونه لكن الشافعي
في أحد قوليه يشترط أن يكون معها نساء ولو
كانت واحدة تقية مسلمة وهو ظاهر قول مالك على
اختلاف في تأويل قوله: تخرج مع رجال ونساء هل
بمجموع ذلك أم في جماعة من أحد الجنسين وأكثر
ما نقله عند أصحابنا اشتراط النساء وقال ابن
عبد الحكم: لا تخرج مع رجال ليسوا منها بمحرم
ولعل مراده على الانفراد دون النساء فيكون
وفاقا لما تقدم عندنا وتأول صاحب الطراز قول
ابن عبد الحكم على ما تأوله عليه القاضي عياض
وحمله على الكراهة وحمله اللخمي على الخلاف
وأنه يقول لا تخرج إلا مع زوج أو محرم
واختاره.
تنبيهات: الأول: تحصل من كلام القاضي عياض
ثلاثة أقوال أحدها اشتراط المجموع الثاني
الاكتفاء بأحد الجنسين الثالث اشتراط النساء
سواء كن وحدهن أو مع رجال وهو ظاهر الموطأ كما
تقدم وظاهر كلام القاضي عياض أن المرأة
الواحدة تكفي في ذلك وهو ظاهر كلام صاحب
الذخيرة وأما كلام المصنف فلا يفهم منه إلا
قولان الاكتفاء بأحد الجنسين واشتراط المجموع
ولذلك كرر الباء في قوله: أو بالمجموع ويظهر
من كلام صاحب الإكمال أن هذه تأويلات على
المدونة فكان الأليق بقاعدة المصنف أن يقول
تأويلان والله أعلم.
الثاني: يؤيد القول بالاكتفاء بأحد الجنسين في
كون البراذعي وابن يونس اختصرا المدونة بأو
كما تقدم في كلامهما وتبعهما على ذلك ابن
المنير في مختصره الذي اختصر فيه التهذيب قال
في مختصر الواضحة فإن لم يكن ذو محرم فمع
جماعة نساء صوالح فإن لم تجد ذا محرم ولا
جماعة من النساء جاز لها أن تخرج مع جماعة من
الحاج شابة كانت أو عجوزا وعليها حفظ نفسها
ودينها وهذا في حج الفريضة انتهى.
الثالث: لو ترك المؤلف قوله: أو بالمجموع لكان
أحسن لإيهام كلامه أنه داخل في التردد ولا
تردد فيه ولو قال وفي الاكتفاء بنساء أو رجال
تردد أو وهل رجال أو نساء أو المجموع تردد
لكان أحسن ويكون ضمير هي راجعا إلى الرفقة
المتقدمة وفي كلام البساطي إشارة إلى ذلك
والله أعلم. ص: "وصح بالحرام وعصى". ش: يعني
أن الحج يصح بالمال الحرام ولكنه عاص في تصرفه
في المال الحرام قال سند: إذا غصب مالا وحج به
ضمنه وأجزأه حجه وهو قول الجمهور انتهى. ونقله
القرافي وغيره نعم من حج بمال حرام فحجه غير
مقبول كما صرح به غير واحد من العلماء كما
ستقف عليه إن شاء الله وذلك لفقدان شرط القبول
لقوله تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ
مِنَ الْمُتَّقِينَ} ولا منافاة بين الحكم
بالصحة وعدم القبول لأن أثر القبول
(3/497)
__________
في ترتب الثواب وأثر الصحة في سقوط الطلب
والله أعلم. وقوله الحرام يشمل جميع أنواعه
الغصب والتعدي والسرقة والنهب وغير ذلك وإنما
قال صح ولم يقل سقط ليشمل كلامه النفل والفرض
فإن الحكم بالصحة يشملهما والسقوط خاص بالفرض
وجاز اجتماع الصحة والعصيان لانفكاك الجهة لأن
الحج أفعال بدنية وإنما يطلب المال ليتوصل به
إليه فإذا فعله لم يقدح فيه ما تقدمه من
التوصل إليه كمن خرج مغررا بنفسه راكبا
للمخاوف وحج فإنه يجزئه وهذا قول مالك وهو
مذهب الجمهور وقال ابن حنبل لا يجزئه لأنه سبب
غير مشروع وهو جار على أصله في الصلاة في
الدار المغصوبة وذكر ابن فرحون في منسكه رواية
عن مالك بعدم الإجزاء كقول الإمام أحمد وسيأتي
كلامه.
ونقل سيدي الشيخ أحمد زروق في شرح هذا المحل
من المختصر عن ابن العربي رواية ببطلان الصلاة
في ذلك كمذهب الإمام أحمد وظاهر كلامه أن
الرواية المذكورة في المذهب وقال التادلي بعد
أن ذكر كلام سند المتقدم عن القرافي في شرح
الرسالة لعبد الصادق ونقله من كتاب جمل من
أصول العلم لابن رشد قال وسألته عمن حج بمال
حرام أترى أن ذلك مجزىء ويغرم المال لأصحابه
قال أما في مذهبنا فلا يجزئه ذلك وأما في قول
الشافعي فذلك جائز ويرد المال ويطيب له حجه
وقول الشافعي هذا أقرب إلى مذهب مالك بن أنس
انتهى. ونقله ابن فرحون في مناسكه وقال قلت:
ورأيت في بعض الكتب ولم يحضرني الآن عن مالك
عدم الإجزاء وأنه وقف في المسجد الحرام ونادى
أيها الناس من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني
فأنا مالك بن أنس من حج بمال حرام فليس له حج
أو كلام هذا معناه انتهى. فظاهر هذه الرواية
عدم الإجزاء كقول الإمام أحمد وحملها على عدم
القبول بعيد وفي مناسك ابن معلى قال العلماء
يجب على مريد الحج أن يحرص أن تكون نفقته
حلالا لا شبهة فيها لقوله تعالى:
{وَتَزَوَّدُوا} [البقرة: 197) الآية وقوله:
{إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ
الْمُتَّقِينَ} [المائدة27] ولا تيمموا الخبيث
منه تنفقون ولقوله عليه السلام: "إن الله
تعالى طيب لا يقبل إلا الطيب" 1 الحديث
المشهور في مسلم قال القرطبي في شرح هذا
الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: "يطيل السفر
أشعث أغبر" يفيد أنه سفر الحج لأن الصفتين
المذكورتين غالبا لا يكونان إلا فيه قالوا فلو
حج بمال حرام فحجه صحيح عند مالك والشافعي
وأبي حنيفة وقال ابن حنبل لا يجزئه وحجه باطل.
تنبيه: قال بعض الفضلاء المنفق من غير حل في
حجه جدير بعدم القبول وإن سقط الفرض كما قاله
الأئمة الثلاثة قال بعض المحققين من العلماء
المتقدمين أما عدم القبول
ـــــــ
1 رواه مسلم في كتاب الزكاة حديث 65. الترمذي
في كتاب تفسير سورة البقرة باب 36. الدارمي في
كتاب الرقاق باب 9. أحمد في مسنده (2/328).
(3/498)
__________
فلاقتران العمل بالمعصية وفقدان الشرط وهو
التقوى قال الله تعالى {إنما يتقبل الله من
المتقين} وأما صحة العبادة في نفسها فلوجود
شروطها وأركانها قال ولا تناقض في ذلك لأن أثر
عدم القبول يظهر في سقوط الثواب والعياذ بالله
وأثر الصحة يظهر في سقوط الفرض عنه وإبراء
الذمة منه.
قلت: وقد أشار جماعة من العلماء إلى عدم
القبول منهم القشيري والغزالي والقرافي
والقرطبي والنووي ونقله الغزالي عن ابن عباس
وكفى به حجة وقال في آخر كلامه آكل الحرام
مطرود محروم لا يوفق لعبادة وإن اتفق له فعل
خير فهو مردود عليه غير مقبول منه وذكر
القرطبي في شرح مسلم أن الصديق رضي الله عنه
شرب جرعة من لبن فيه شبهة وهو لا يعلم ثم لما
علم استقاءها فأجهده ذلك فقيل له أكل ذلك في
شربة لبن فقال والله لو لم تخرج إلا بنفسي
لأخرجتها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول: "كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به" 1
قلت: وإذا كانت الحال هذه فسبيل المرء أن يتقي
الله في سره وعلانيته ويحافظ على شروط قبول
عبادته وقد قال بعض العلماء إن أعمال الجوارح
في الطاعات مع إهمال شروطها ضحكة للشيطان
لكثرة التعب وعدم النفع وقد روي: "من حج من
غير حل فقال لبيك قال الله له لا لبيك ولا
سعديك" 2 انتهى. وهذا الحديث ذكره ابن جماعة
في منسكه الكبير بروايات مختلفة قال روي عن
سيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"إذا حج الرجل بالمال الحرام فقال لبيك اللهم
لبيك قال الله تعالى لا لبيك ولا سعديك حتى
ترد ما في يديك" 3 وفي رواية: "لا لبيك ولا
سعديك وحجك مردود عليك" وفي رواية من خرج يؤم
هذا البيت بكسب حرام شخص في غير طاعة الله
فإذا بعث راحلته فقال لبيك اللهم لبيك ناداه
مناد من السماء لا لبيك ولا سعديك كسبك حرام
وراحلتك حرام وثيابك حرام وزادك حرام ارجع
مأزورا غير مأجور وأبشر بما يسؤوك وإذا خرج
الرجل حاجا بمال حلال وبعث راحلته قال لبيك
اللهم لبيك ناداه مناد من السماء لبيك وسعديك
أجبت بما تحب راحلتك حلال وثيابك حلال وزادك
حلال ارجع مبرورا غير مأزور واستأنف العمل
أخرج هذه الرواية الأخيرة أبو ذر.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "ردد
أنق من حرام يعدل عند الله سبعين حجة"
وأنشدوا:
إذا حججت بمال أصله سحت ... فما حججت ولكن حجت
العير
لا يقبل الله إلا كل طيبة ... ما كل من حج بيت
الله مبرور
ـــــــ
1 رواه الدارمي في كتاب الرقاق باب 60.
2 رواه البخاري في كتاب الحج باب 34. مسلم في
كتاب الحج حديث 362. كتاب الزهد حديث 74. أبو
داود في كتاب الصلاة باب 81. ابن ماجة في كتاب
اللباس باب 19. الدارمي في كتاب المقدمة باب
17. أحمد في مسنده (3/138، 292).
3 رواه الدارمي في كتاب الرقاق باب 60.
(3/499)
__________
وقيل إن هذين البيتين لأحمد بن حنبل. وقيل:
إنهما لغيره ويروى أنه لما مرض عبد الله بن
عامر بن كريز مرضه الذي مات فيه أرسل إلى ناس
من الصحابة وفيهم عبد الله بن عمر رضي الله
عنهم فقال إنه قد نزل بي ما ترون فقالوا كنت
تعطي السائل وتصل الرحم وحفرت الآبار في
الفلوات لابن السبيل وبنيت الحوض بعرفات فما
تشك في نجاتك وعبد الله بن عمر ساكت فلما أبطأ
عليه قال يا أبا عبد الرحمن ألا تتكلم فقال
عبد الله إذا طابت المكسبة زكت النفقة وسترد
فتعلم انتهى. من الباب الثاني وقال فيه وما
أغبن من بذل نفسه وماله على صورة قصد الله
تعالى وقصده فيه غيره فيبوء بالحرمان وغضب
الرحمن انتهى. والروايتان الأوليان أخرجهما
الحافظ أبو الفرج في مثير الغرام إلى زيارة
البيت الحرام قال ولكن بلفظ بمال من غير حله
في الرواية الأولى وبلفظ هذا مردود عليك في
الثانية وقوله: "يؤم" أي يقصد قوله شخص شخوص
المسافر خروجه من منزل والسحت بضم الحاء
وإسكانها قال في القاموس الحرام وما خبث من
المكاسب وقد نظم الشيخ أبو عبد الله محمد بن
رشيد البغدادي في قصيدته التي في المناسك
المسماة بالذهبية معنى هذا الحديث فقال:
وحج بمال من حلال عرفته ... وإياك والمال
الحرام وإياه
فمن كان بالمال الحرام حجه ... فعن حجه والله
ما كان أغناه
إذا هو لبى الله كان جوابه ... من الله لا
لبيك حج رددناه
كذاك روينا في الحديث مسطرا ... وما جاء في
كتب الحديث سطرناه
قال ابن عطاء الله في مناسكه: وإنما أتى على
الكثير من الناس في عدم قبول عبادتهم وعدم
استجابة دعواتهم لعدم تصفية أقواتهم عن الحرم
والشبهات انتهى. وقال النووي فإن حج بمال حرام
أو بشبهة فحجه صحيح ولكنه ليس بمبرور انتهى.
واعترض عليه بأن المبرور هو الذي لا يخالطه
مأثم ومن وقع في الشبهات لم يتحقق وقوعه في
الإثم وقد حمل العلماء قوله صلى الله عليه
وسلم: "ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام" على
وجهين قال الفاكهاني في شرع عمدة الأحكام
أحدهما أن من تعاطى الشبهات وداوم عليه أفضت
به إلى الوقوع في الحرام والثاني أن من تعاطى
الشبهات وقع في الحرام في نفس الأمر وإن كان
لا يشعر بها فمنع من تعاطى الشبهات لذلك
انتهى. ونحوه في شرح الأربعين فمن تعاطى ما
فيه شبهة لا يحرم فإنه آثم إلا على القول بأن
الشبهات حرام وقيل إنها حلال وصوب القرطبي في
المفهم القول بالكراهة انتهى. من شرح الأربعين
للفاكهاني ولأنهم عدوا من الشبهات ما اختلف
فيه العلماء كما صرح به الفاكهاني والزناتي
وغيرهم وابن ناجي ومن ارتكب ما اختلف فيه
العلماء لا نقول فيه إثم فكان الأولى أن يقول
فإن حج بشبهة خيف عليه أن لا يكون حجه مبرورا
وقد اختلف العلماء في الحلال هل هو ما علم
أصله أو ما جهل أصله ورجح جماعة كثيرون الثاني
منهم الشيخ الفاكهاني وأبو علي الجسائي ذكره
في شرح الأربعين ولا سيما في هذا الزمان
(3/500)
__________
والله أعلم. وقال المصنف في منسكه ثم ينظر في
أمر الزاد وما ينفقه فيكون من أطيب جهة لأن
الحلال يعين على الطاعة ويكسل عن المعصية وكان
السلف رضي الله عنهم يتركون سبعين بابا من
الحلال مخافة الوقوع في الحرام وهذا وهم
متلبسون بغير الحج فما بالك بالحج انتهى. وقال
صلى الله عليه وسلم "من أكل الحلال أطاع الله
شاء أو أبى ومن أكل الحرام عصى الله شاء أو
أبى" ذكره في المدخل وقال عليه السلام طلب
الحلال فريضة وقال عليه السلام من أمسى وانيا
من طلب الحلال بات مغفورا له وقوله وانيا من
قولهم ونا إذا تعب وعن عائشة رضي الله عنها
أنها قالت يا رسول الله من المؤمن قال الذي
إذا أصبح سأل من أين قرصه وإذا أمسى سأل من
أين قرصه قالت يا رسول الله لو علم الناس
لتكلفوه قال وقد علموا ذلك ولكنهم غشموا
المعيشة غشما أي تعسفوا تعسفا وقال ابن عبدوس
عماد الدين وقوامه طيب المطعم فمن طاب كسبه
زكا عمله ومن لم يصحح في طيب مكسبه خيف عليه
أن لا تقبل صلاته وصيامه وحجه وجهاده وجميع
عمله لأن الله تعالى يقول: {إِنَّمَا
يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}
[المائدة: من الآية27] انتهى.
تنبيهات: الأول: قال ابن معلى قال الغزالي من
خرج لحج واجب بمال فيه شبهة فليجتهد أن يكون
قوته من الطيب فإن لم يقدر فمن وقت الإحرام
إلى التحلل فإن لم يقدر فليجتهد يوم عرفة لئلا
يكون قيامه بين يدي الله تعالى ودعاؤه في وقت
مطعمه فيه حرام وملبسه حرام فإنا وإن جوزنا
هذا للحاجة فهو نوع ضرورة فإن لم يقدر فليلزم
قلبه الخوف والغم لما هو مضطر إليه من تناول
ما ليس بطيب فعساه ينظر إليه بعين الرحمة
ويتجاوز عنه بسبب حزنه وخوفه وكراهته انتهى.
ونقله التادلي وقال قبله وجدت بخط الشيخ
الصالح أبي إسحاق إبراهيم بن يحيى المعروف
بابن الأمين من تلامذة ابن رشد على ظهر شرحه
لكتاب الموطأ ما نصه قال أحمد بن خالد قال ابن
وضاح يستحب لمن حج بمال فيه شيء أن ينفقه في
سفره وما يريد من حوائجه وليتحر أطيب ما يجد
فينفقه من حين يحرم بالحج فيما يأكل ويلبس من
ثياب إحرامه وشبه هذا ورأيته يستحب هذا
ويعجبني أن يعمل به وحكي عن بعض السلف انتهى.
ونقله ابن فرحون جميعه قال وذكره بعض السلف
انتهى. والله أعلم.
الثاني: إذا عجز عن المال الحلال السالم من
الشبهة والحرام فقال صاحب المدخل فليقترض مالا
حلالا يحج به فإن الله تعالى طيب لا يقبل إلا
طيبا انتهى. وفي منسك ابن جماعة الكبير وإن
اقترض للحج مالا حلالا في ذمته وله وفاء به
ورضي المقرض فلا بأس به انتهى. فهذا لا بد منه
أعني رضا المقرض ومع ذلك فهو ورع في حجه غير
ورع في قضاء دينه كمن يقترض مالا حلالا لينفقه
ويقضيه من مال فيه شبهة وقد ذكر البرزلي طرفا
من هذه المسألة في كتاب الغصب فانظره والله
أعلم.
الثالث: كما طلب منه أن يكون المال الذي يحج
به خالصا من الحرام والشبهة كذلك
(3/501)
ـــــــ
هو مطلوب بإخلاص النية لله تعالى بل هو أهم
فلا يخرج ليقال إنه حاج أو ليفطم أو ليعطى
الفتوحات فإن هذا كله رياء والرياء حرام
بالإجماع قال ابن جماعة في منسكه الكبير وأهم
ما يهتم به قاصد الحج إخلاصه لله وحده فعن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا
جمع الله الناس ليوم لا ريب فيه نادى مناد من
كان أشرك في عمل عمله الله أحدا فليطلب ثوابه
من عند غير الله فإن الله تعالى أغنى الشركاء
عن الشرك" 1 وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: "قال الله تعالى أنا أغنى
الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه غيري
تركته وشركه" 2 انتهى. وقال في كتاب الحج من
الإحياء وليجعل عزمه خالصا لوجه الله عز وجل
بعيدا عن شوائب الرياء والسمعة وليتحقق أنه لا
يقبل من قصده وعمله إلا الخلاص فإن من أفحش
الفواحش أن يقصد بيت الملك وحرمته والمقصود
غيره فليصحح مع نفسه العزم وتصحيحه بإخلاصه
وإخلاصه باجتناب كل ما فيه رياء أو سمعة
وليحذر أن يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير
انتهى. واستحبوا له أيضا أن تكون يده فارغة من
التجارة ليكون قلبه مشغولا بما هو بصدده فقط
إلا أن ذلك لا يقدح في صحة حجه ولا يأثم به
قال القرطبي في تفسير قوله تعالى: {لَيْسَ
عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً
مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] الآية دليل على
جواز التجارة في الحج للحاج مع أداء العبادات
وإن القصد إلى ذلك لا يكون شركا ولا يخرج به
المكلف عن رسم الإخلاص المفترض عليه خلافا
للفراء أما الحج دون تجارة فهو أفضل لعروها عن
شوائب الدنيا وتعلق القلب بغيرها انتهى. وقال
التادلي قال صاحب السراج قال العلماء لا تعارض
التجارة نية الحج لقوله تعالى: {لَيْسَ
عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} [البقرة: 198] الآية
قالوا يعني في مواسم الحج انتهى. وقال ابن
معلى قال الشيخ يحيى النووي وغيره من العلماء
رضي الله عنهم يستحب لمريد الحج أن تكون يده
فارغة من مال التجارة ذاهبا وراجعا لأن ذلك
يشغل القلب قال فإن اتجر لم يؤثر ذلك في صحة
حجه.
قلت: إطلاق الشيخ استحباب ترك التجارة في سفر
الحج وتعليله بشغل القلب ينبغي أن يكون مقيدا
من حين إحرامه إلى آخر حجه لأن الاشتغال بها
حينئذ مبدد للخاطر ومصرف عن المطلوب من
الإقبال بالظاهر والباطن وأما في ابتداء السفر
فلا وجه لاستحباب تركه إذ ليس له ما يشغله
التجارة عنه إلا أن يقال هو وإن اشتغل بها في
ابتداء سفره فقد يكون ذلك سببا لكساد سلعته
وعدم نفادها في الموضع الذي يقصده فيمتنع بسبب
ذلك من المبادرة إلى الحج أو لا يسعه الوقت
لمحاولة بيعها فيقطعه عن مقصوده وهذا يقع
كثيرا سمعت بعض الناس يقول خرجت للحج فلما
دخلت تونس أشار علي بعض الناس بشراء سلعة
أحملها للإسكندرية ففعلت فدخلتها في سابع
عشرين من رمضان فضاق الوقت عن بيعها فعزمت على
ـــــــ
1 رواه مسلم في كتاب الزهد حديث 46.
2 رواه مسلم في كتاب الزهد حديث 46.
(3/502)
__________
القعود إلى سنة أخرى فقيض الله لي مسلفا فخرجت
في الحين قلت: فإذا كانت سببا لذلك فالجزم
تركها أو يقال وجه استحبابه إخلاص النية
للعبادة حتى لا يشوبها شيء من أعمال الدنيا
وهو الظاهر من كلامه لأنه استحب تركها ذاهبا
وراجعا انتهى. كلام ابن المعلى وقد اعترض على
الشيخ يحيى النووي في قوله راجعا إذا لم تكن
معه في الذهاب ولم تشغله ثم قال وقوله فإن
اتجر إلى آخره يريد بشرط أن يخلص للحج النية
وتكون التجارة بحكم التبعية لا بالعكس وقد
بالغ أيضا في مسألة الإخلاص في النية وحكم
العبادة إذا كان البعث عليها أغراضا دنيوية
وحرره غاية التحرير الإمام القرطبي في شرح
قوله صلى الله عليه وسلم: "من قاتل لتكون كلمة
الله هي العليا" 1 الحديث فقال يفهم منه
اشتراط الإخلاص في الجهاد وكذلك هو شرط في
جميع العبادات لقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا
إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ
الدِّينَ} [البينة: 5] والإخلاص مصدر أخلصت
العسل إذا صفيته من شوائب كدره فالمخلص في
عبادته هو الذي يخلصها من شوائب الشرك والرياء
وذلك لا يتأتى له إلا بأن يكون الباعث له على
عملها قصد التقرب إلى الله تعالى وابتغاء ما
عنده فأما إذا كان الباعث عليها غير ذلك من
أغراض الدنيا فلا تكون عبادة بل تكون مصيبة
موبقة لصاحبها فإما كفر وهو الشرك الأكبر وإما
رياء وهو الشرك الأصغر ومصير صاحبه إلى النار
كما جاء في حديث أبي هريرة في الثلاثة
المذكورين فيه.
قلت: الحديث المشار إليه في مسلم ونصه عنه رضي
الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول: "إن أول الناس يقضي عليه يوم
القيامة رجل استشهد في سبيل الله فأتي به
فعرفه الله نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال
قاتلت فيك حتى استشهدت قال كذبت ولكن قاتلت
ليقال فلان جريء فقد قيل ثم أمر به فسحب على
وجهه حتى ألقي في النار ورجل تعلم العلم وعلمه
وقرأ القرآن فأتى به فعرفه نعمه فعرفها قال
فما عملت لي فيه قال تعلمت العلم وعلمته وقرأت
فيك قال كذبت ولكنك تعلمت العلم وعلمته وقرأت
القرآن ليقال هو قاريء فقد قيل ثم أمر به فسحب
على وجهه حتى ألقي في النار ورجل وسع الله
عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأتي به فعرفه
نعمه فعرفها قال فما فعلت فيها قال ما تركت من
سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك قال
كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل ثم أمر
به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار" 2 قال
الإمام المذكور هذا إذا كان الباعث على تلك
العبادة الغرض الدنيوي وحده بحيث لو فقد ذلك
الغرض لترك العمل وأما لو انبعث للعبادة
بمجموع الباعثين باعث الدين وباعث الدنيا فإن
كان باعث الدنيا أقوى أو مساويا لحق بالقسم
الأول في الحكم
ـــــــ
1 رواه مسلم في كتاب الإمارة حديث 149. أبو
داود في كتاب الجهاد باب 24.
2 رواه مسلم في كتاب الإمارة حديث 152.
النسائي في كتاب الجهاد باب 22. أحمد في مسنده
(2/322) (3/81).
(3/503)
__________
بإبطال العمل عند أئمة هذا الشأن وعليه يدل
قوله عليه السلام حكاية عن الله تعالى: "من
عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه" فأما
لوكان باعث الدين أقوى فقد حكم المحاسبي
بإبطال ذلك العمل متمكسا بالحديث المتقدم وما
في معناه وخالفه الجمهور وقالوا بصحة العمل
وهو المفهوم من فروع مالك رضي الله عنه ويستدل
على هذا بقوله صلى الله عليه وسلم: "إن من خير
معاش الناس رجلا ممسكا فرسه في سبيل الله" 1
فجعل الجهاد مما يصح أن يتخذ للمعاش ومن ضرورة
ذلك أن يكون مقصودا لكن لما كان باعث الدين
الأقوى كان ذلك الغرض ملغى فيكون معفوا عنه
كما إذا توضأ قاصدا رفع الحدث والتبرد فأما لو
انفرد باعث الدين ومعناه ثم عرض باعث الدنيا
في أثناء العمل فأولى بالصحة انتهى. كلامه
رحمه الله انتهى. كلام ابن معلى والقرطبي الذي
ذكره هو الإمام المحدث أبو العباس أحمد بن عمر
بن إبراهيم مات سنة ست وخسمين وستمائة
والقرطبي المتقدم صاحب التفسير هو العلامة أبو
عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرج مات
سنة إحدى وسبعين وسبعامئة والله أعلم.
وللقرافي في قواعده كلام يخالف ما ذكره ابن
معلى رأيت أن أذكره بكماله كما ذكرت الأول
لتتم الفائدة ويحيط النظار بها علما ونصه
الفرق الثاني والعشرون والمائة بين قاعدة
الرياء في العبادة وبين قاعدة التشريك فيها
اعلم أن الرياء شرك وتشريك مع الله تعالى في
طاعته وهو موجب للمعصية والإثم والبطلان في
تلك العبادات كما نص عليه المحاسبي وغيره
ويعضده ما في الحديث الصحيح خرج مسلم وغيره أن
الله تعالى يقول: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك
فمن عمل عملا أشرك فيه غيري تركته له أو تركته
لشريكي" 2 فهذا ظاهر في عدم الاعتداد بذلك
العمل عند الله تعالى وكذلك قوله تعالى:
{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ
مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] يدل
على أن غير المخلص لله تعالى غير مأمور به وما
هو غير مأمور لا يجزئ عن المأمور به فلا يعتد
بهذه العبادة وهو المطلوب وتحقيق هذه القاعدة
وسرها وضابطها أن يعمل العمل المأمور به
المتقرب به إلى الله تعالى ويقصد به وجه الله
تعالى وأن يعظمه الناس أو بعضهم فيصل إليه
نفعهم أو يندفع به ضررهم فهذا هو قاعدة أحد
مسمي الرياء والقسم الآخر أن يعمل العمل لا
يريد به وجه الله ألبتة بل الناس فقط ويسمى
هذا القسم رياء الإخلاص والأول رياء الشرك
وأغراض الرياء ثلاثة التعظيم وجلب المصالح
ودفع المضار الدنيوية والأخيران يتفرعان على
الأول فإنه إذا عظم انجلبت إليه المصالح
واندفعت عنه المفاسد فهو الغرض الكلي في
الحقيقة وأما مطلق التشريك كمن يجاهد لتحصيل
ـــــــ
1 رواه مسلم في كتاب الإمارة حديث 125.
الترمذي في كتاب فضائل الجهاد باب 18. ابن
ماجة في كتاب الفتن باب 13. الدارمي في كتاب
الجهاد باب 6. أحمد في مسنده (1/237).
2 رواه مسلم في كتاب الزهد حديث 46.
(3/504)
__________
طاعة الله بالجهاد وليحصل له المال من الغنيمة
فهذا لايضره ولا يحرم عليه بالإجماع لأن الله
جعل له هذا في هذه العبادة ففرق بين جهاده
ليقول الناس هذا شجاع أو ليعظمه الإمام فيكثر
عطاءه من بيت المال هذا ونحوه رياء حرام وبين
أن يجاهد لتحصيل السبايا والكراع والسلاح من
جهة أموال العدو مع أنه قد شرك لا يقال لهذا
رياء بسبب أن الرياء أن يعمل ليراه غير الله
من خلقه والرؤية لا تصح إلا من الخلق فمن لا
يرى ولا يبصر ولا يقال في العمل بالنسبة إليه
رياء والمال المأخوذ في الغنيمة ونحوه لا يقال
إنه يرى ويبصر فلا يصدق على هذه الأغراض لفظ
الرياء لعدم الرؤية فيها.
وكذلك من حج وشرك في حجه غرض المتجر ويكون جل
مقصوده أو كله السفر للتجارة خاصة ويكون الحج
إما مقصودا مع ذلك أو غير مقصود ويقع تابعا
اتفاقا فهذا أيضا لا يقدح في صحة الحج ولا
يوجب إثما ولا معصية وكذلك من صام ليصح جسده
أو ليحصل له زوال مرض من الأمراض التي ينافيها
الصوم ويكون التداوي هو مقصوده أو بعض مقصوده
والصوم مقصود مع ذلك وأوقع الصوم مع هذه
المقاصد لا يقدح في صومه بل أمر بها صاحب
الشرع في قوله: "يا معشر الشباب من استطاع
منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه
بالصوم فإنه له وجاء" 1 أي قاطع فأمر صلى الله
عليه وسلم بالصوم لهذا الغرض ولو كان ذلك
قادحا لما يأمر به صلى الله عليه وسلم في
العبادة إلا معها ومن ذلك أن يجدد وضوء ليحصل
له التبرد أو التنظف وجميع هذه الأغراض لا
يدخل فيها تعظيم الخلق بل هي لتشريك أمور من
المصالح ليس لها إدراك ولا تصلح للإدراك ولا
للتعظيم وذلك لا يقدح في العبادات فظهر الفرق
بين قاعدة الرياء في العبادات وبين قاعدة
التشريك فيها غرض آخر غير الخلق مع أن الجميع
تشريك نعم لا يمنع أن هذه الأغراض المخالطة
للعبادة قد تنقص الأجر وأن العبادة إذا تجردت
عنها زاد الأجر وعظم الثواب أما الإثم
والبطلان فلا سبيل إليه ومن جهته حصل الفرق لا
من جهة كثرة الثواب وقلته انتهى.
وظاهر كلامه أن التشريك بجميع وجوهه لا يحرم
وليس كذلك لأن الإخلاص فرض ومن كان الباعث
الأقوى عليه باعث النفس لم يخلص وظاهر كلامه
أيضا أن مطلق الرياء ولو قل يحبط العمل ويصير
لا ثواب له أصلا وفيه نظر.
وانظر أول كتاب الجهاد من البيان وقد حرر
الكلام في ذلك حجة الإسلام أبو حامد الغزالي
في كتاب الإخلاص من رفع المنجيات وكتاب الرياء
من المهلكات وفي المنهاج.
ـــــــ
1 رواه البخاري في كتاب الصوم باب 10. كتاب
النكاح باب 2، 3، 19. مسلم في كتاب النكاح
حديث 1، 3. أبو داود في كتاب النكاح باب 1.
ابن ماجة في كتاب النكاح باب 1. النسائي في
كتاب الصيام باب 43. الدارمي في كتاب النكاح
باب 2. أحمد في مسنده (1/378، 424).
(3/505)
__________
وحاصله أن العمل لأجل حظ النفس داخل في الرياء
عار عن الإخلاص كمن صام ليستنفع بالحمية ومن
يعتق عبدا ليخلص من مؤنته أو يغزو ليمارس
الحرب ونحو ذلك قال وليس الاعتبار بلفظ الرياء
واشتقاقه من الرؤيا وسميت هذه الإرادة الفاسدة
رياء لأنها أكثر ما تقع من قبل رؤية الناس
قاله في المنهاج وتلخيص الحكم في ذلك العمل
إذا كان خالصا لله فهو سبب الثواب وإن كان
خالصا للرياء أو لحظ النفس فهو سبب العقاب لا
لأن طلب الدنيا حرام ولكن طلبها بأعمال الدين
حرام لما فيه من الرياء وتغيير العبادة عن
وضعها وإن اختلط القصدان فإن كان الباعث
الديني مساويا للباعث النفسي تقاوما وتساقطا
وصار العمل لا له ولا عليه وإن كان الباعث
النفسي أقوى وأغلب فليس العمل بنافع بل هو مضر
نعم هو أخف من العمل المتجرد لحظ الدنيا وإن
كان الباعث الديني أقوى فله ثواب بقدر ما فضل
من قوة الباعث الديني لقوله تعالى: {فَمَنْ
يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ
وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً
يَرَهُ} [الزلزلة: 7،8] وقوله: {إِنَّ اللَّهَ
لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء: 40]
وليس من خرج بنية التجارة والحج من أمثلة هذه
المسألة لأنه إذا سلم من قصد الرياء فإنما
يحمله على الإحرام ومباشرة المناسب الباعث
الديني لأنه كان يمكنه أن يحضر الحج ويتجر من
غير إحرام نعم لو كان كل من أحرم بالحج يعطى
له مال لأمكن أن يفرض من صور المسألة ويصير
كمن خرج للجهاد بنية الغنيمة وإعلاء كلمة
الإسلام فيأتي فيه التفضيل وأما سفره من بلده
إلى مكة فيدخله التفصيل.
وقد قال حجة الإسلام في الكتاب المذكور
الإجماع على أن من خرج حاجا ومعه تجارة صح حجه
وأثيب عليه وقد امتزج به حظ من حظوظ النفس نعم
يمكن أن يقال إنما يثاب على أعمال الحج عند
انتهائه إلى مكة وتجارته غير موقوفة عليه فهو
خالص وإنما المشترك طول المسافة ولكن الصواب
أن يقال مهما كان الحج هو المحرك الأصلي وغرض
التجارة كالمعين والتابع فلا ينفك نفس السفر
عن ثواب وما عندي أن الغزاة لا يدركون في
أنفسهم تفرقة بين غزو الكفار في جهة تكثر فيها
الغنائم وبين جهة لا غنيمة فيها ويبعد أن يقال
إدراك هذه التفرقة يحبط بالكلية ثواب جهادهم
بل العدل أن يقال إذا كان الباعث الأصلي
والمزعج القوي هو إعلاء كلمة الله وإنما
الرغبة في الغنيمة على سبيل التبع فلا يحبط به
الثواب نعم لا يساوي ثوابه ثواب من لا يلتفت
إلى الغنيمة أصلا فإن هذا الالتفات نقصان لا
محالة وقال بعده ويبعد أن يقال من كان داعيته
الدينية تزعجه إلى الغزو وإن لم تكن غنيمة
وقدر على غزو طائفتين من الكفار إحداهما غنية
والأخرى فقيرة فمال إلى جهة الأغنياء لإعلاء
كلمة الله وللغنيمة أنه لا ثواب له على عزوه
ألبتة ونعوذ بالله أن يكون الأمر كذلك فإن هذا
حرج في الدين ومدخل لليأس على المسلمين لأن
أمثال هذه الشوائب التابعة قد لا ينفك الإنسان
عنها إلا على الندور فيكون تأثير هذا في نقصان
الثواب وأما أن يكون في إحباطه فلا. نعم
(3/506)
وفضل على غزو
إلالخوف،
__________
الإنسان فيه على خطر عظيم لأنه ربما يظن أن
الباعث الأقوى وهو قصد التقرب ويكون الأغلب
على سره الحظ النفسي وذلك مما يخفى غاية
الخفاء انتهى. والله أعلم. ص: "وفضل حج على
غزو إلا لخوف". ش: يعني أن الحج أفضل من الغزو
إلا أن يكون خوف فلا يكون أفضل هذا جل كلامه
وفي المسألة تفصيل وأصل هذه المسألة في
الموازية وفي رسم يوصي من سماع عيسى من كتاب
الصدقات والهبات من العتبية ونصها سئل مالك عن
الغزو والحج أيهما أحب إليك قال الحج إلا أن
يكون سنة خوف قيل فالحج والصدقة قال الحج إلا
أن تكون سنة مجاعة قيل له فالصدقة والعتق قال
الصدقة قال ابن رشد: قوله: إن الحج أحب إلي من
الغزو إلا أن يكون خوف معناه في حج التطوع لمن
قد حج الفريضة إنما قال ذلك لقول النبي صلى
الله عليه وسلم " العمرة إلى العمرة كفارة لما
بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة"
ولأن الجهاد وإن كان فيه أجر عظيم إذا لم يكن
خوف قد لا يفي أجره فيه بما عليه من السيئات
عند الموازنة فلا يستوجب به الجنة كالحج وأما
الغزو مع الخوف فلا شك أنه أفضل من الحج
التطوع والله أعلم. لأن الغازي مع الخوف قد
باع نفسه من الله عز وجل فاستوجب به الجنة
والبشرى من الله بالفوز العظيم قال الله
تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ} [التوبة: 111]
الآية وإنما قال إن الحج أحب إليه من الصدقة
إلا أن تكون سنة مجاعة لأنه إذا كانت سنة
مجاعة كانت المواساة عليه بالصدقة واجبة فإذا
لم يواس الرجل في سنة مجاعة من ماله بالقدر
الذي يجب عليه بالمواساة في الجملة فقد أثم
وقدر ذلك لا يعلمه حقيقة فالتوقي من الإثم
بالإكثار من الصدقة أولى من التطوع بالحج الذي
لا يأثم بتركه وإنما قال إن الصدقة أفضل من
العتق لما جاء في الحديث الصحيح من أن ميمونة
بنت الحارث أعتقت وليدة لها ولم تستأذن النبي
صلى الله عليه وسلم فلما كان يومها الذي يدور
عليها فيه قالت أشعرت يا رسول الله أني أعتقت
وليدتي قال أو فعلت قالت نعم قال أما إنك لو
أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك وهذا نص من
النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك برفع مؤنة
الاستدلال عليه بالظواهر وبالله التوفيق
انتهى.
وللمسألة أربع صور: حج التطوع مع الغزو التطوع
في غير سنة الخوف وحج الفرض مع الغزو التطوع
في غير سنة الخوف أيضا وحج الفرض مع الغزو
والتطوع في سنة الخوف وحج التطوع مع الغزو وفي
سنة الخوف أيضا وفهم من كلام ابن رشد حكم
الثلاث الأول ثنتان بالمنطوق وواحدة
بالأحرورية أما الأولى فقد صرح بحكمها وأن
التطوع بالحج أفضل من التطوع بالغزو وهذا هو
الراجح وهو قول مالك وروى ابن وهب تطوع الجهاد
(3/507)
__________
أفضل من تطوع الحج قال ابن عرفة في أوائل
الجهاد: ابن سحنون وروى ابن وهب تطوع الجهاد
أفضل من تطوع الحج انتهى. وبهذه الرواية أفتى
ابن رشد في نوازله كما سيأتي ويؤخذ حكم الصورة
الثانية بالأحروية على المشهور وهو تقديم الحج
على الجهاد ندباً على القول بالتراخي ووجوبا
على القول بالفور وعلى مقابل المشهور أعني
رواية ابن وهب المتقدمة تجري على الخلاف في
الحج هل هو على الفور فيقدم أو على التراخي
فيكون تقديمه كالنفل فيقدم عليه الجهاد ندباً
في غير حق حماة الدين والقائمين به وجوبا في
حقهم لأن الجهاد صار فرضا عليهم بتعينهم له
فهو أولى من تقديم الحج إلا من بلغ المعترك
فيتعين عليه الحج لأن الحج فرض عين بالأصالة
والجهاد إنما صار فرضا عليهما بتعينهم له
والله أعلم. وسيأتي كلام ابن رشد وحكم الثالثة
تقديم الجهاد كما تقدم وأما الرابعة فإن قلت:
الحج على التراخي فيقدم الجهاد وإن قلنا إنه
على الفور نظر إلى كثرة الخوف المتوقع وقلته
هذا ما ظهر لي فيها ولم أر فيها نصا إلا أنه
يؤخذ من مفهوم قوله وأما الغزو مع الخوف فلا
شك أنه أفضل من حج التطوع وأن الفرض بخلاف ذلك
ويؤخذ من كلامه في الأجوبة إجراؤها على
القولين في فورية الحج وتراخيه فعلى الفور
يقدم الحج وعلى التراخي يؤخر وهو إن كان لم
يذكر الخوف لكنه معلوم لأن بلاد الأندلس كانت
إذ ذاك فيها الخوف.
وهذا كله فيما إذا لم يجب الجهاد على الأعيان
بأن يفجأ العدو مدينة قوم فإن وجب فلا شك في
تقديمه كما سيأتي في كلام ابن رشد في الأجوبة
ونصه جوابك رضي الله عنك فيمن لم يحج من أهل
الأندلس في وقتنا هذا هل الحج أفضل له أم
الجهاد وكيف إن كان قد حج الفريضة فأجاب فرض
الحج ساقط عن أهل الأندلس في وقتنا هذا لعدم
الاستطاعة التي جعلها الله شرطا في الوجوب لأن
الاستطاعة القدرة على الوصول مع الأمن على
النفس والمال وذلك معدوم في هذا الزمان وإذا
سقط فرض الحج لهذه العلة صار نفلا مكروها
لتقحم الغرر فيه فبان بما ذكرناه أن الجهاد
الذي لا تحصى فضائله في القرآن والسنة
المتواترة والآثار أفضل منه وأن ذلك أبين من
أن يحتاج فيه إلى السؤال عنه وموضع السؤال
إنما هو فيمن قد حج الفريضة والسبيل مأمونة هل
الحج أفضل أم الجهاد والذي أقول به إن الجهاد
له أفضل لما ورد فيه من الفضل العظيم وأما من
لم يحج الفريضة والسبيل مأمونة فيتخرج ذلك على
الخلاف في الحج هل هو على الفور أو على
التراخي وهذا إذا سقط فرض الجهاد عن الأعيان
لقيام من قام به وأما في المكان الذي يتعين
فيه على الأعيان فهو أفضل من حج الفريضة قولا
واحدا للاختلاف فيه هل هو على الفور أو على
التراخي وبالله التوفيق.
وسئل عن أهل العداوة هل هم كأهل الأندلس فقال:
سبيلهم سبيل أهل الأندلس إذا كانوا لا يصلون
إلى مكة إلا بخوف على أنفسهم أو أموالهم وإن
كانوا لا يخافون على أنفسهم ولا على أموالهم
فالجهاد لهم عندي أفضل من تعجيل الحج إذا قد
قيل إنه على التراخي وهو
(3/508)
__________
الصحيح من مذهب مالك رحمه الله الذي تدل عليه
مسائله وهذا في غير من عدا من يقوم بفرض
الجهاد وأما من يقوم به من حماة المسلمين
وأجنادهم فالجهاد هو الواجب عليهم إذ لا يتعين
تعجيل الحج منهم إلا على من بلغ المعترك لأن
الواجب على التراخي له حالة يتعين فيها وهو أن
يغلب على ظن المكلف أنه يفوت بتأخيره والحد في
ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "معترك
أمتي ما بين الستين إلى السبعين" 1 انتهى.
ونقله ابن عرفة مختصرا في أوائل الجهاد وقال
قلت: في قوله: نفلا مكروها نظر لأن النفل من
أقسام المندوب وهو والمكروه ضدان والشيء لا
يجامع الأخص من ضده في موضوع واحد إلا أن يريد
نفلا باعتبار أصله مكروها باعتبار عارضه كقسم
المكروه من النكاح مع أن مطلق النكاح مندوب
إليه انتهى. وهذا هو المراد ولكن في قوله:
مكروها نظر لأنه حينئذ ممنوع لا مكروه كما
تقدم والله أعلم. وقال ابن عرفة في قوله: من
أدى فرضه فجهاده أفضل قلت: هو نقل الشيخ عن
رواية ابن وهب انتهى. كما تقدم التنبيه عليه
وتقدم أيضا التنبيه على قوله: ومن لم يؤد فرضه
يخرج على القولين في فور الحج وتراخيه فإن ذلك
على رواية ابن وهب التي أفتى بها لا على
المشهور وقوله وإن تعين الجهاد على الأعيان
فهو أفضل من حج الفريضة قولا واحدا بل يتعين
حينئذ الجهاد وترك الحج ارتكابا لأخف الضررين
فلا يجوز له الخروج وقوله وهذا في غير من عدا
من يقوم بفرض الجهاد الخ كأنه تأكد في حق
هؤلاء لكونهم عينوا له فصار واجبا عليهم بخلاف
غيرهم فمن لم يحج فالجهاد أفضل له من تقدم
الحج وقوله إلا من بلغ المعترك أي فيتعين عليه
الخروج للحج وترك الجهاد وهذا كله على ما
اختاره من أنه على التراخي ومن أن تطوع الجهاد
مقدم على تطوع الحج وكلامه هنا يؤيد ما تقدمت
الفتيا به عند قول المصنف وأمن على نفس ومال
في سلطان يخاف إذا حج أن يستولي الكفار على
بلاده ويخاف أن يفسد أمر الراعية فإنه إذا
تحقق ذلك سقط عنه الفرض والحاصل أن من لم توجد
في حقه الاستطاعة فاشتغاله بالجهاد أولى
وخروجه للحج مكروه بل هو ممنوع ومن وجدت في
حقه الاستطاعة فإن وجب الجهاد على الأعيان قدم
على الحج الفرض وقول ابن رشد هو أفضل من الحج
الفرض يريد والله أعلم. أنه المتعين الذي لا
يجب سواه وإن لم يجب الجهاد على الأعيان فلا
يخلوا لشخص إما أن يكون قد حج أولا فمن حج فلا
يخلو إما أن يكون في سنة خوف أم لا فإن كانت
سنة خوف فالجهاد أولى اتفاقا وإن لم تكن سنة
خوف فالحج أولى على المشهور والجهاد أولى على
رواية ابن رشد وفتوى ابن وهب.
وهذا والله أعلم. في حق غير المتعين للجهاد
لأن أولئك الجهاد فرض عليهم فهو المتعين عليهم
وهذا لم يصرح به ابن رشد ولكنه يؤخذ بالأحروية
مما سيقوله في القسم الآتي وأما من لم يحج فلا
يخلو أيضا من أن تكون سنة خوف أم لا فإن لم
تكن سنة خوف فعلى المشهور
ـــــــ
1 رواه الترمذي في كتاب الدعوات باب 101. ابن
ماجة في كتاب الزهد باب 27. بلفظ "أعمار
أمتي...".
(3/509)
__________
لا إشكال في تقديم حج الفريضة وجوبا على القول
بالفورية وندبا على القول بالتراخي سواء كان
من القائمين بالجهاد أو من غيرهم وعلى رواية
ابن وهب وفتوى ابن رشد ينظر فإن قلنا على
الفور قدمه سواء كان من القائمين بالجهاد أم
لا وإن قلنا بالتراخي قدم الجهاد ندباً إن كان
من غير القائمين بالجهاد ووجوبا إن كان منهم
إلا من بلغ المعترك فيتعين عليه الحج وإن كانت
سنة خوف فصرح في الرواية بتقديم الجهاد على
الحج لكن حمله ابن رشد على حج التطوع كما تقدم
ومفهومه أن الفرض بخلاف ذلك وكلامه في الأجوبة
يقتضي أن ذلك يتخرج على الخلاف في فورية الحج
وتراخيه أعني قوله: وأما من لم يحج الفرض
والسبيل مأمونة الخ لأن فرض المسألة مع وجود
الخوف كما كان حال أهل الأندلس في زمانه فعلى
اختياره أنه على التراخي وإن تطوع الجهاد يقدم
عليه ولا شك في تقديم الجهاد وعلى القول
بالفور وإن تطوع الحج مقدم على تطوع الجهاد
فالظاهر تقديم الحج ويؤخذ من مفهوم كلام ابن
رشد كما تقدم التنبيه عليه ويتردد النظر فيما
إذا قلنا إنه على التراخي وقلنا إنه مقدم على
تطوع الجهاد والظاهر أنه ينظر إلى أخف الضررين
فيرتكب والله أعلم. وقول القرافي في الفرق
التاسع والمائة قال مالك: الحج أفضل من الغزو
لأن الغزو فرض كفاية والحج فرض عين قد يوهم أن
مراد مالك بالحج المفضل حج الفريضة وليس كذلك
كما تقدم في كلام ابن رشد والله علم.
وأما مسألة الصدقة فقد نص في الرواية على
تقديم الحج عليها في غير سنة المجاعة وحمله
ابن رشد على حج التطوع فأحرى الفريضة وتقدم في
كلام صاحب المدخل أنه لا يجوز له أن يتصدق بما
يحج به وهو ظاهر وأما في سنة المجاعة فتقدم
الصدقة على حج التطوع ويفهم منه أنها لا تقدم
على الحج الفرض وهو كذلك على القول بالفور
وعلى القول بالتراخي فتقدم عليه وهذا ما لم
تتعين المواساة بأن يجد محتاجا يجب عليه
مواساته بالقدر الذي يصرفه في حجه فيقدم ذلك
على الحج لوجوبه فورا من غير خلاف والحج مختلف
فيه وقد روي أن عبد الله بن المبارك رحمه الله
تعالى دخل الكوفة وهو يريد الحج فإذا بامرأة
جالسة على مزبلة تنتف بطة فوقع في نفسه أنها
ميتة فوقف وقال يا هذه أميتة أم مذبوحة فقالت
ميتة وأنا أريد أن آكلها وعيالي فقال إن الله
قد حرم أكل الميتة وأنت في هذا البلد فقالت يا
هذا انصرف عني فلم يزل يراجعها الكلام حتى عرف
منزلها ثم انصرف فجعل على بغل نفقة وكسوة
وزادا وجاء فطرق الباب ففتحت فنزل عن البغل
وضربه فدخل البيت ثم قال للمرأة هذا البغل وما
عليه من النفقة والكسوة والزاد لكم ثم أقام
حتى جاء الحج فجاءه قوم يهنئونه بالحج فقال ما
حججت السنة فقال له بعضهم سبحان الله ألم
أودعك نفقتي ونحن ذاهبون إلى عرفات وقال الآخر
ألم تسقني في موضع كذا وكذا وقال الآخر ألم
تشتر لي كذا وكذا فقال ما أدري ما تقولون أما
أنا فلم أحج العام فلما كان من الليل أتى في
منامه فقيل له يا عبد الله بن المبارك قد قبل
الله صدقتك وإنه بعث ملكا على صورتك فحج عنك.
(3/510)
__________
انتهى من مناسك ابن جماعة وقوله الصدقة أفضل
من العتق ظاهر وسيأتي في كفارة الأيمان عن ابن
العربي أن الأفضل من الخصال الثلاثة ما تدعو
الحاجة إليه فالطعام في الغلاء والعتق في
الرخاء فتأمل هل يأتي مثله هنا والله أعلم.
فرع: قال القرافي: الصلاة أفضل من الحج وسيأتي
كلامه بكماله وهذا الفرض لا شك فيه أن صلاة
واحدة فريضة أفضل من الحج الفرض والتطوع لأنه
إذا خيف فواتها سقط وجوبه وأما النافلة فلا
يمكن أن يقال من صلى ركعتين أفضل ممن حج حجة
تطوع ولا أظن أن أحدا من المسلمين يقوله بل لو
فرض أن شخصا خرج لحج التطوع واشتغل آخر
بالنوافل من حين خروجه إلى الحج إلى فراغه منه
لكان الحج أفضل كما سيأتي في الكلام على الصوم
وأما الحج والصوم فلم أر في ذلك نصا أعني في
كون أحدهما أفضل من الآخر وذلك إذا كان شخص
يكثر الصوم وإذا سافر لا يسطيع الصوم والظاهر
أن الحج أفضل لأنه أفضل من الجهاد الذي جعل
صلى الله عليه وسلم عدله الصيام الذي لا إفطار
فيه والقيام الذي لا فتور فيه مدة خروج
المجاهد ورجوعه كما رواه مالك والبخاري ومسلم
وغيرهم ولفظ الموطأ عن أبي هريرة رضي الله عنه
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مثل
المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم
الدائم الذي لا يفتر من صلاة ولا صيام حتى
يرجع" 1 انتهى. وقال الزركشي من الشافعية أفضل
العبادات الحج لأنه يشتمل على المال والبدن
وأيضا فإنا دعينا إليه في الأصلاب كالإيمان
والإيمان أفضل الأعمال فكذلك الحج انتهى. وذكر
المحب الطبري في القربى أنه اختلف في أفضل
الأعمال بعد الإيمان والجهاد على ثلاثة أقوال
قال المحب أحدها الصلاة لقول صلى الله عليه
وسلم: "واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة" 2
وقوله: "الصلاة خير موضوع" .
الثاني الصوم أفضل لقوله صلى الله عليه وسلم
في الصوم لا مثل له الصوم لي وأنا أجزي به
والثالث الحج انتهى.
فرع: قال القرافي: أفضل أركان الحج الطواف
لأنه مشتمل على الصلاة وهو في نفسه شبيه بها
والصلاة أفضل من الحج فيكون أفضل الأركان فإن
قيل قوله صلى الله عليه وسلم: "الحج عرفة" يدل
على أفضلية الوقوف على سائر الأركان لأن
تقديره معظم الحج وقوف عرفة لعدم انحصاره أي
الحج فيه بالإجماع قلنا بل مقدر غير ذلك وهو
إدراك الحج عرفة وهو مجمع عليه انتهى.
فرع: قال في المدونة قال ابن القاسم: والطواف
للغرباء أحب إلي من الصلاة ولم يكن مالك يجيب
في مثل هذا وفي الرسالة والتنفل بالركوع لأهل
مكة أحب إلينا من الطواف والطواف للغرباء أحب
إلينا من الركوع لقلة وجود ذلك لهم وهذا لمالك
في الموازية قال
ـــــــ
1 رواه البخاري في كتاب الجهاد باب 2. مسلم في
كتاب الإمارة حديث 110. النسائي في كتاب
الجهاد باب 1. ابن ماجة في كتاب الجهاد باب 1.
الموطأ في كتاب الجهاد حديث 1.
2 رواه ابن ماجة في كتاب الطهارة باب 4.
الدارمي في كتاب الوضوء باب 2. الموطأ في كتاب
الطهارة حديث 36. أحمد في مسنده (5/277، 280،
282).
(3/511)
__________
القاضي عبد الوهاب في شرح الرسالة فذكر رحمه
الله العلة في الفرق بينهما وهي أن أهل مكة
مقيمون فلا يتعذر عليهم الطواف أي وقت أرادوه
فكان التنفل بالصلاة أفضل لأنها في الأصل أفضل
من الطواف والغرباء بخلاف ذلك لأنهم يرجعون
لأوطانهم فلا يتمكنون من الطواف فكان الطواف
أفضل لأنه يخاف فواته انتهى. وقال الشيخ يوسف
بن عمر وهذا في الموسم لئلا يزاحموا الغرباء
في الطواف والغرباء من ليس بمكة انتهى. وقال
ابن ناجي قال الفاكهاني تعليله بقلة وجود ذلك
للغرباء فيه نظر لأن التنفل بالصلاة أفضل من
التنفل بالطواف ولذا كانت الصلاة لأهل مكة
أفضل من الطواف وإذا كان كذلك فينبغي أن لا
يفرق بين الغرباء وأهل مكة إذا المحافظة على
الأفضل أولى من المحافظة على المفضول لا سيما
على القول بمساواة النفل للفرض في الفضل
انتهى. فحاصله أن التنفل بالصلاة أفضل من
التنفل بالطواف وإن ورد في بعض الأحاديث ما
يقتضي خلاف ذلك وقال به بعض العلماء كما ذكره
المحب الطبري في القرى وغيره ولكن ينبغي
للإنسان أن يخلي نفسه من الطواف في كل يوم فقد
قيل من الحرمان أن يقيم الإنسان بمكة يمضي
عليه يوم بلا طواف.
وقد ورد فيه فضل كبير فعن ابن عمر رضي الله
عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول: "من طاف بهذا البيت يحصيه كتب له بكل
خطوة حسنة ومحيت عنه سيئة ورفعت له درجة وكان
له عدل رقبة" أخرجه الترمذي وحسنه ومعنى يحصيه
أن يتحفظ فيه لئلا يغلط قاله في شفاء الغرام
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال قال
النبي صلى الله عليه وسلم: "من طاف بالبيت
سبعا وصلى خلف المقام ركعتين وشرب من ماء زمزم
غفر الله له ذنوبه كلها بالغة ما بلغت" أخرجه
أبو سعيد الجندي ذكره في القرى وفيه أيضا عن
ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم من طاف بالبيت خمسين مرة
خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه أخرجه الترمذي
وقال حديث غريب قال البخاري وإنما يروى عن ابن
عباس والمراد والله أعلم. خمسون أسبوعا يدل
عليه ما روي عن سعيد بن جبير قال من حج البيت
وطاف خمسين أسبوعا كان كما ولدته أمه وكذا روي
وعن ابن عباس ومثله لا يكون إلا موقوفا وجاء
الحديث أيضا خمسين أسبوعا مكان مرة وهذه
الرواية في معجم الطبراني ومصنف عبد الرزاق
ففيها لمن قال إن المراد بالمرة الشوط قال أهل
العلم وليس المراد أن يأتي بها متوالية بل
المراد أن توجد في صحيفة حسناته ولو في عمره
كله وعن ابن عباس أيضا قال قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم " ينزل كل يوم وليلة على هذا
البيت عشرون ومائة رحمة ستون منها للطائفين
وأربعون للعاكفين حول البيت وعشرون للناظرين"
للبيت وفي رواية "ينزل الله على هذا المسجد
مسجد مكة كل يوم وقال فيه وأربعون للمصلين"
ولا مضادة بين الروايتين لجواز أن يريد بمسجد
مكة البيت لقوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ
شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144]
ويحتمل أن قسمة الرحمات بينهم وجهين الأول أن
تكون على الرؤوس من غير نظر إلى قلة
(3/512)
__________
عمل ولا إلى كثرته ويكون لمن كثر عمله ثوابا
من غير هذا الوجه والثاني وهو الأظهر أن يكون
القسم بينهم على قدر الأعمال ويحتمل أيضا أن
يكون لكل طائف ستون أو الستون لجميعهم والله
أعلم. قاله في القربى. وقد ذكر ابن جماعة رحمه
الله ونقله عنه صاحب شفاء الغرام أن صاحب
القرى ذكر أن بعض أهل العلم ذكر أن تعدد
الطواف سبع مراتب الأولى خمسون أسبوعا في
اليوم والليلة للحديث المتقدم الثانية أحد
وعشرون فقد قيل سبع أسابيع بعمرة وورد ثلاث
عمر بحجة الثالثة أربعة عشر فقد ورد عمرتان
بحجة وهذا في غير رمضان لأن العمرة فيه كحجة
الرابعة اثنا عشر أسبوعا خمسة بالنهار وسبعة
بالليل وروي أنه طواف آدم وفعله ابن عمر رضي
الله عنهما الخامسة سبع أسابيع السادسة ثلاثة
أسابيع السابعة أسبوع واحد والله أعلم. وأما
الطواف والعمرة فنص المحب الطبري على اشتغاله
بالطواف أفضل من اشتغاله بالعمرة وبه قيد قول
الشافعية بأنه يستحب الإكثار منها بأن لا
يشغله ذلك عن الطواف ولا يضعفه بحيث يقطعه عن
الإكثار منه وعلل ذلك بأن شغل قدر وقت العمرة
بالطواف أفضل من شغله بها انتهى. والله تعالى
أعلم ويستحب لأهل مكة والمقيمين فيها أن
يتركوا الطواف أيام الموسم توسعة على الحجاج
وقد قال في المدخل بعد أن ذكر صفة ما يفعل من
أحرم بالحج وإنه يطوف طواف القدوم ثم يسعى ما
نصه فإن كان آفاقيا يستحب له أن يكثر الطواف
بالبيت ليلا ونهارا لا يستثنى منه مذهب مالك
إلا وقتان بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس وبعد
العصر حتى تغرب فإنه لا ينبغي لأحد أن يطوف في
هذين الوقتين إلا لحاجة تدعوه للطواف في ذلك
الوقت لأن من سنة الطواف أن يأتي عقبه بركعتين
ويجوز له أن يطوف طوافا واحدا في كل واحد
منهما ويؤخر الركوع له إلى بعد طلوع الشمس أو
مغيبها وله أن يتصرف في حوائجه وضروراته فإذا
فرع: رجع إلى الطواف فإن تعب صلى ركعتين وجلس
في موضع مصلاه تجاه الكعبة فحصل له النظر إلى
الكعبة وهو عبادة لقوله عليه السلام النظر إلى
البيت عبادة ويحصل له استغفار الملائكة إذا
ذهب تعبه قام وشرع في الطواف يفعل ذلك إلى
اليوم وهذا بخلاف أهل مكة فإن المستحب لهم أن
يكثروا من التنفل بالصلاة.
والفرق بينهما أن الآفاقي هذه العبادة معدومة
عنده فيبغتها بخلاف أهل مكة فإنها متيسرة ثم
عليهم طول سنتهم فلا حاجة تدعوهم إلى مزاحمة
الناس في الموسم انتهى. وقد انجر الكلام إلى
مسألتين إحداهما أن المحرم بالحج إذا طاف طواف
القدوم وسعى هل يطلب الطواف والإكثار منه قبل
الخروج إلى عرفة أم لا والثانية في بيان
الأوقات التي يباح فيها الطواف أو يكره أو
يمنع والأليق بالثانية أن يكون الكلام عليها
عند قول المصنف وركوعه للطواف بعد الغروب قبل
تنفله وأما الأولى فنذكرها ها هنا حيث جرى
ذكرها في كلام صاحب المدخل وإن كان قول المصنف
بعد هذا وكثرة شرب ماء زمزم ونقله أيضا مناسبا
(3/513)
وركوب
__________
لذكرها عنده فنقول الذي ينقله أكثر أهل المذهب
أن المحرم بحج إذا فرغ من طواف القدوم والسعي
فهو مطلوب بكثرة الطواف كما تقدم في كلام صاحب
المدخل وقال ابن الحاج في مناسكه: ثم يعود إلى
التنبيه بعد فراغه من السعي بين الصفا والمروة
يبقى على حاله من إحرامه متصرفا في حوائجه
مجتنبا لما أمر به في إحرامه وليكثر من الطواف
في الليل والنهار بلا رمل ولا سعي بين الصفا
لكل أسبوع ركعتين خلف المقام فإنه يستحب كثرة
الطواف مع كثرة الذكر انتهى. وقال أيضا في
مختصر الواضحة في ترجمة العمل في الطواف فإذا
فرغت من السعي بين الصفا والمروة فارجع إلى
المسجد الحرام وأكثر من الطواف ما كنت مقيما
بمكة ومن الصلاة في المسجد الحرام الفريضة
والنافلة انتهى. وهذا صريح في استحباب كثرة
طواف له وهو المعروف من المذهب وهو أيضا ظاهر
في كلام المصنف في مناسكه لقوله في آخر فصل
السعي ثم تعاود التلبية بعد السعي كما تقدم
ولتكثر من الطواف في مقامك الخ والله أعلم. ص:
"وركوب". ش: يعني أن الركوب في الحج على الإبل
والدواب لمن قدر عليه أفضل من المشي لأنه فعله
صلى الله عليه وسلم ولأنه أقرب إلى الشكر قال
في النوادر قال مالك: الحج على الإبل والدواب
أحب إلي من المشي لمن يجد ما يتحمل به انتهى.
وقال القرطبي لا خلاف في جواز الركوب والمشي
واختلف في الأفضل منهما فذهب مالك والشافعي في
آخرين إلى أن الركوب أفضل وذهب غيرهم إلى أن
المشي أفضل ولا خلاف أن الركوب في الموقف
بعرفة أفضل واختلفوا في الطواف والسعي فالركوب
عند مالك في المناسك كلها أفضل للاقتداء
بالنبي صلى الله عليه وسلم انتهى. وكلامه
الأخير يوهم أن الركوب عند مالك في الطواف
والسعي أفضل وليس كذلك بل المشي فيهما عنده من
السنن المؤكدة ومن واجبات الحج الذي يجب بتركه
دم والله أعلم. وقال المؤلف في مناسكه والركوب
لمن قدر عليه أفضل على المعروف لأنه فعله صلى
الله عليه وسلم ولأنه أقرب إلى الشكر انتهى.
تنبيهات: الأول: ظاهر إطلاقات أصحابنا أن
الركوب أفضل ولو كان الحج من مكة وهو صريح
كلام القرطبي من تفسيره المتقدم ذكره.
الثاني: ما ذكرناه من ركوبه صلى الله عليه
وسلم هو المعروف ولا يلتفت إلى تصحيح الحاكم
حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه صلى
الله عليه وسلم حج هو وأصحابه مشاة من المدينة
إلى مكة لأن المعروف أنه صلى الله عليه وسلم
لم يحج بيت الله الحرام بعد الهجرة إلا حجة
الوداع وكان صلى الله عليه وسلم راكبا فيها
بلا شك قاله ابن جماعة.
الثالث: اختار اللخمي وصاحب الطراز تفضيل
المشي على الركوب للآثار الواردة في
(3/514)
__________
ذلك وأجابا عن ركوبه صلى الله عليه وسلم بأنه
لو مشي ما وسع أحدا الركوب وبأنه صلى الله
عليه وسلم أسن فلم يكن من أهل المشي وليظهر
للناس فيقتدون به ولهذا طاف على بعيره ونص
كلام صاحب الطراز ذهب بعض الناس إلى أن الحج
أفضل راكبا منه ماشيا لأن النبي صلى الله عليه
وسلم فعله هذا غير صحيح لاتفاق الكافة على أن
من نذره راكبا وحج ماشيا أنه يجزئه ولو نذره
ماشيا ما وسعه أن يحجه إلا ماشيا إذا كان
يطيقه فلو كان راكبا أفضل ما أمر بالمشي بل
كان يندب إلى الركوب وفي البخاري عنه صلى الله
عليه وسلم: "ما أغبرت قدما عبد في سبيل الله
فتمسه النار" 1 وقال ابن عباس وددت أني حججت
ماشيا وفعله الحسن بن علي وجماعة من السلف أما
النبي صلى الله عليه وسلم ففعل ذلك لوجوه منها
أنه كان يقصد التخفيف على الأمة ولو مشي ما
ركب أحد ممن حج معه ومنها أنه كان يقتدى به في
فعله وكان يظهر للناس على بعيره ويلحظونه
ولهذا طاف على بعيره وإن كان ذلك ممنوعا لغيره
ومنها أنه لم يكن من أهل المشي فكان فيه في
حقه أكبر مشقة وقد كان النبي صلى الله عليه
وسلم يتنفل جالسا لمشقة القيام فكيف بالمشي
انتهى. ونحوه للخمي قال أرى أن أمشي أفضل
لقوله عليه السلام ما أغبرت قدما عبد الحديث
فدخل فيه المشي للحج والمساجد والغزو لأن كل
ذلك من سبيل الله وقد روي عنه عليه السلام إنه
خرج لجنازة ماشيا ورجع راكبا وفي الترمذي عن
علي من السنة أن يخرج للعيدين ماشيا وقال
مالك: يستحب المشي للعيدين وقال فيمن خرج
للاستسقاء يخرج ماشيا متواضعاً غير مظهر لزينة
وكل هذه طاعات يستحب للعبد أن يأتي مولاه
متذللا ماشيا وقد ريء بعض الصالحين بمكة فقيل
له أراكبا جئت قال ما حق العبد العاصي الهارب
بأن يرجع إلى مولاه راكبا ولو أمكنني لجئت على
رأسي.
وأما حجه عليه السلام فلأنه قد كان يحب ما خف
على أمته وقد كان أسن فكان أكثر صلاته بالليل
جالسا انتهى. وقد وردت أحاديث كثيرة في فضل
المشي فروى ابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كأني
أنظر إلى موسى بن عمران منهبطا من ثنية هرشي
ماشيا" وروى ابن ماجة عن ابن عباس أن الأنبياء
صلوات الله عليهم كانوا يدخلون الحرم مشاة
حفاة ويطوفون بالبيت ويقضون المناسك حفاة مشاة
ويروى أن آدم عليه السلام حج على رجله سبعين
حجة أخره الأزرقي وعن ابن عباس أن آدم عليه
السلام حج أربعين حجة من الهند على رجليه قيل
المجاهد أفلا كان يركب قال وأي شيء كان يحمله
أخرجه ابن الجوزي وعن مجاهد أن إبراهيم
وإسماعيل عليهما السلام حجا ماشيين رواه
البيهقي وذكر الأزرقي إن ذا القرنين حج ماشيا
وعن ابن عباس ما آسى على شيء على أني لم أحج
ماشيا رواه البيهقي وروي عنه أيضا أنه مرض
فجمع أهله وبنيه فقال لهم يا بني إني سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "من حج
ماشيا من مكة حتى يرجع إليها كتب له بكل خطوة
ـــــــ
1 رواه البخاري في كتاب الجهاد باب 16.
(3/515)
ومقتب
__________
سبعمائة حسنة من حسنات الحرم فقال بعضهم وما
حسنات الحرم قال كل حسنة بمائة ألف حسنة قال
ابن جماعة ورواه الحاكم وصحح إسناده ويروى أن
الملائكة تعتنق المشاة وتصافح الركبان وقد قال
بعضهم قدم المشاة على الركبان في الآية ليزيل
مكابدة مشقة المشي والعناء بفرح التقديم
والاجتباء انتهى. جميع ذلك من مناسك ابن
جماعة.
الرابع: قال في المدخل والمستحب أن يسعى على
رجليه وكذلك في جميع المشاعر إلا الوقوف بعرفة
ورمي جمرة العقبة فإن الركوب فيهما أفضل وقد
كان ابن عباس يمشي المناسك كلها والمشاعر
والنجائب تقاد إلى جانبه وقد نقل في تفسير
الحج المبرور أنه إطعام الطعام ولين الكلام
والمشي في المناسك والمشاعر أشد استحبابا وهي
من مكة إلى منى ثم إلى عرفات ثم إلى مزدلفة ثم
إلى منى ثم إلى مكة ثم إلى منى ثم إلى المحصب
ثم إلى مكة لطواف الوداع انتهى. وفي قوله:
"المستحب أن يسعى على رجليه" نظرا لأن المشي
في السعي سنة يجب في تركه الدم لا مستحب كما
تقدم بيانه إثر كلام القرطبي وكما سيأتي إن
شاء الله وكذلك أيضا ما ذكره عن ابن عباس فيه
نظر إنما هو عن الحسن بن علي لا ابن عباس كما
تقدم والله أعلم.
الخامس: قال ابن جماعة في منسكه الكبير في باب
العمرة إن المشي فيها كالمشي في الحج فيأتي
فيه ما تقدم من الخلاف قال وسئل بعض العلماء
عن العمرة لمن هو بمكة هل المشي فيها أفضل أم
يكتري حمارا بدرهم قال إن كان وزن الدرهم أشد
عليه فالكراء أفضل من المشي وإن كان المشي أشد
عليه كالأغنياء فالمشي له أفضل انتهى.
السادس: قال في المدخل في فصل التاجر من إقليم
إلى إقليم وينبغي له أن يجعل لسفره مركوبا
جيدا يأمن عليه خشية أن ينقطع في أثناء سفره
فكذلك الحج والله أعلم. ص: "ومقتب". ش: أي
وفضل المقتب على المحمل يريد لمن قدر عليه كما
قال في منسكه ونصه والمقتب أفضل من المحمل لمن
قدر عليه لموافقته عليه السلام ولإراحة الدابة
انتهى. وقال ابن فرحون والحج على القتب أفضل
من المحمل اقتداء برسول الله صلى الله عليه
وسلم وأصحابه وكرهوا الهوادج والمحامل إلا
لعذر أو ضرورة وليست الرياسة وارتفاع المنزلة
عذرا في ترك السنة انتهى. وقد اتفق على ذلك
جميعه من استحب الركوب قال في المدخل والتنظف
في الحج أولى ما يفعله المكلف لأنها السنة
الماضية انتهى. اللهم إلا أن يكون له عذر
فيركب في المحمل وإن كان بدعة لكن لا بأس به
عند الضرورة وأرباب الضرورات لهم أحكام تخصهم
وإنما كان بدعة لأن
(3/516)
__________
النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يفعلوا
ذلك وأول من أحدثه الحجاج ابن يوسف فركب الناس
سنته وكأن العلماء في وقته يتركونها ويكرهون
الركوب فيها قال الإمام أبو طالب مكي رحمه
الله في كتابه وأخاف أن بعض ما يكون من تفاوت
الإبل يكون ذلك سببه ثقل ما تحمله ولعله عدل
أربعة أنفس وزيادة مع طول المشقة وقلة المطعم
وقال ابن مجاهد كان ابن عمر إذا نظر إلى ما
أحدث الحجاج من الزي والمحامل يقول الحاج قليل
والركب كثير انتهى. وعن إسحاق بن سعيد عن أبيه
قال صدرت مع ابن عمر رضي الله عنهما يوم الصدر
فمرت بنا رفقة يمانية رحالهم الأدم فقال عبد
الله بن عمر من اختار أن ينظر إلى أشبه رفقة
وردت الحج العام برسول الله صلى الله عليه
وسلم وأصحابه إذ قدموا في حجة الوداع فلينظر
إلى هذه الرفقة رواه البيهقي انتهى. من منسك
ابن جماعة ذكره في فضل حج الماشي وفيه في
الباب الرابع ويستحب الحج على الرحل والمقتب
دون المحمل لمن قوي على ذلك ولم يشق عليه
اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو
أشبه بالتواضع والمسكنة ولا يليق بالحاج غير
ذلك وعن أنس رضي الله عنه قال حج النبي صلى
الله عليه وسلم على رحل رث وقطيفة تساوي أربعة
دراهم أو تسوي ثم قال صلى الله عليه وسلم:
"اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعة" رواه ابن
ماجة وبعث النبي صلى الله عليه وسلم مع عائشة
أخاها عبد الرحمن رضي الله عنهما فأعمرها من
التنعيم وحملها على قتب رواه البخاري تعليقا
بصيغة الجزم ويروى "أفضل الحج الشعث التفل"1
واختلف علماء السلف في كراهة ركوب المحمل لغير
حاجة فقال بعضهم لا بأس به وأكثرهم على
الكراهة لما فيه من زي المتكبرين والمترفهين
وقال طاوس حج الأبرار على الرحال وقيل أول من
اتخذ المحامل الحجاج وعنه قال كنت جالسا عند
جابر بن عبد الله إذ مرت بنا رفقة من أهل
اليمن قد أحقبوا بالماء والحطب قال جابر رضي
الله عنه ما رأيت رفقة أشبهتنا مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم من هؤلاء رواه عبد الرزاق
انتهى. وفي الترمذي عنه عليه السلام وسئل عن
الحاج فقال الشعث التفل انتهى.
تنبيه: والمقتب بالتشديد اسم مفعول من باب
التفعل كذا في النسخ التي وقفت عليها ولم أقف
من كلام أهل اللغة على استعمال قتب بالتشديد
بل الذي في الصحاح والقاموس أقتب بالهمز
بالبعير من باب الإفعال وقياسه أن يقال مقتب
بالتخفيف كمكرم اسم مفعول من باب الإفعال ولعل
المصنف وقف عليه وعلى كل حال فهو على حذف مضاف
أي وفضل ركوب على مقتب والمقتب سواء كان
بالتشديد أو بالتخفيف هو الذي جعل له قتب
والقتب بفتح القاف والمثناة الفوقية رحل صغير
على قدر السنام قاله في الصحاح والمحمل قال في
القاموس كمجلس واحد محامل الحاج وكسفر جل
علاقة السيف انتهى. ورأيت في نسخة حاشية
الصحاح عن السيد أن محمل الحاج بكسر الميم
الأولى
ـــــــ
1 رواه الترمذي في كتاب تفسير سورة آل عمران
باب 6. ابن ماجة في كتاب المناسك باب 6.
(3/517)
وتطوع وليه عنه
بغيره كصدقة ودعاء ،
__________
وفتح الثانية والله أعلم. ص: "وتطوع وليه عنه
بغيره كصدقة ودعاء". ش: أي وفضل تطوع ولي
الميت عنه بغير الحج كصدقة عنه والعتق عنه
والإهداء عنه والدعاء له على تطوعه عنه بالحج
وأتى بالكاف ليدخل ما تقدم من العتق والإهداء
كما قال في المدونة لأنها في كتاب الحج الثاني
ومن مات وهو صرورة ولم يوص أن يحج عنه أحد
فأراد أن يتطوع عنه بذلك ولد أو والد أو زوجة
أو أجنبي فليتطوع عنه بغير هذا يهدي عنه أو
يتصدق أو يعتق انتهى. وقوله وهو صرورة نبه به
على أن غير الصرورة أولى بأن لا يحج عنه وقال
ابن يونس: قال مالك: لا ينبغي لأحد أن يحج عن
حي زمن أو غيره ولا أن يتطوع به عن ميت صرورة
كان أو لا وليتطوع عنه بغير ذلك أحب إلي أن
يهدي عنه أو يتصدق أو يعتق انتهى. قال في
التوضيح: وإنما كانت هذه الأشياء أولى لوصولها
إلى الميت من غير خلاف بخلاف الحج انتهى. وقال
الشارح في الكبير والدعاء جار مجرى الصدقة
انتهى. وقال ابن فرحون في شرحه على ابن الحاجب
لأن ثواب هذه الأشياء يصل إلى الميت وثواب
الحج هو للحاج وإنما للمحجوج عنه بركة الدعاء
وثواب المساعدة وعلى المباشرة بما تصرف من حال
المحجوج عنه انتهى. ثم قال في التوضيح.
فائدة: من العبادات ما لا يقبل النيابة
بالإجماع كالإيمان بالله تعالى ومنها ما
يقبلها إجماعا كالدعاء والصدقة ورد الديون
والودائع واختلف في الصوم والحج والمذهب أنهما
لا يقبلان النيابة وكذلك القراءة لا تصل على
المذهب حكاه القرافي في قواعده والشيخ ابن أبي
جمرة وهو المشهور من مذهب الشافعية ذكره
النووي في الأذكار ومذهب أحمد وصول القراءة
ومذهب مالك كراهة القراءة على القبور نقله
سيدي ابن أبي جمرة في شرح مختصر البخاري قال
لأنا مأمورون بالتفكر فيما قيل لهم وماذا لقوا
ونحن مكلفون بالتدبر في القرآن فآل الأمر إلى
إسقاط أحد العملين انتهى. وقال ابن فرحون في
شرحه اختلف في الصوم والحج والمشهور أنهما لا
يقبلان النيابة من الحي والعاجز وأما القادر
فلا يقبلان اتفاقا فإن أوصى بالحج ومات نفذت
وصيته على المشهور وأما الصلاة فلا تقبل
النيابة وفي التقريب على التهذيب وقال ابن عبد
الحكم: يجوز أن يستأجر عن الميت من يصلي عنه
ما فاته من الصلوات ذكره في باب الحج انتهى.
وقال أبو الفرج البغدادي في الحاوي لو صلى أنس
عن غيره بمعنى أنه يشركه في ثواب صلاته جاز
ذلك ذكره في الحج وأما الوصية بأن يقرأ على
قبره بأجرة فتنفذ وصيته كالاستئجار على الحج
قال أبو عبد الله بن عات وهو رأي شيوخنا بخلاف
ما لو أوصت بمال لم يصلي عنها أو يصوم والوصية
بذلك في الثلث ذكره ابن سهل في الوصايا في
مسألة جامعة لوجوه من الوصايا وفي التقريب على
التهذيب في باب الإجارة
(3/518)
__________
ذكر قولين في الإجارة على الحج قال وكذلك من
استأجر قارئا يقرأ عنه في صحة ذلك قولان
انتهى. وقوله والوصية بذلك في الثلث يعني
الوصية بالحج وبأن يقرأ على القبر بأجرة ولا
يريد الوصية لمن يصلي عنه أو يصوم فإن ذلك غير
نافذ والله أعلم. وصرح المازري في شرح التلقين
في أول كتاب الوكالة لما أن تكلم على الأشياء
التي لا تجوز فيها الوكالة أن الصوم لا يقبل
النيابة لا عن الحي ولا عن الميت ولم يذكر
خلافا ونصه وأما الصوم فلأنه لا تصح النيابة
فيه مع الحياة وأما مع الموت فعندنا أنه لا
يصوم أحد عن أحد حيا كان أو ميتا وقد ورد في
الصحيح في الحديث المشهور " من مات وعليه صوم
صام عنه وليه" والمخالف أخذ بهذا على حسب ما
ذكرناه في كتابنا المعلم وبه أخذ الشافعي في
أحد قوله انتهى. فتحصل من هذا أن الصلاة لا
تقبل النيابة على المعروف من هذا المذهب خلافا
لما ذكره صاحب التقريب عن ابن عبد الحكم وذكره
أبو الفرج في الحاوي وكذلك الصيام على المذهب
كما قال في التوضيح: أو على المشهور من المذهب
كما قال ابن فرحون فلا تنفذ الوصية بالاستئجار
عليهما ولا أعلم في ذلك خلافا بخلاف الحج
فتنفذ الوصية به على المشهور وكذلك الاستئجار
على القراءة على القبر تنفذ الوصية بذلك على
المشهور والله أعلم.
تنبيه: لا يفهم من كلام المصنف هنا حكم التطوع
عن الميت بالحج ما هو وحكمه الكراهة كما صرح
به في المدونة وصاحب الطراز وغيره ويؤخذ من
قول المصنف بعد هذا ومنع استنابة صحيح في فرض
وإلا كره وقول المصنف عنه وليه أعم من أن يكون
المتطوع عنه حيا أو ميتا وهو كذلك قال في
الطراز: وكما يكره عن الميت فهو عن الحي أشد
ويصح عن الميت وإن لم يستنبه أحد وكذلك عندنا
في الحي إن وقع ولا يكون في الفرض بوجه انتهى.
وقال قبله والكلام هنا إنما هو في الكراهة
والجواز وإن أحرم عن الميت حكم الجميع بانعقاد
إحرامه انتهى.
مسألة: قال في كتاب كنز الراغبين العفاة في
الرمز إلى المولد والوفاة ولم أقف على اسم
مؤلفه ولكنه متأخر جدا فإنه كان ينقل عن
الشيوخ الذين أدركتهم كالشيخ زكريا والشيخ
كمال الدين بن حمزة الدمشقي قال ما نصه وأجاز
بعض المتأخرين كالسبكي والبارزي وبعض
المتقدمين من الحنابلة كابن عقيل تبعا لعلي بن
الموفق وكان في طبقة الجنيد وكأبي العباس محمد
ابن إسحاق السراج من المتقدمين إهداء ثواب
القرآن له صلى الله عليه وسلم الذي هو تحصيل
الحاصل مع كلام السبكي الذي سقناه قريبا وابن
عبد السلام مع ما يأتي من كلام المانعين وقال
الزركشي في شرح المنهاج كان بعض من أدركناه
يمنع منه لأنه لا يتجرأ على الجناب الرفيع إلى
آخره لفظه قال الزركشي وكذلك اختلفوا في
الدعاء له بالرحمة وإن كان معنى الصلاة لما في
الصلاة من معنى التعظيم بخلاف الرحمة المجردة
وقال ابن قاضي شهبة في شرحه كان شيخ تاج الدين
القروي يمنع منه إلى آخر كلامه ثم قال ابن
قاضي شبهة وهو المختار والأدب
(3/519)
__________
مع الكبار من الأدب والدين وإعمال الأمة من
الواجبات والمندوبات في صحيفته صلى الله عليه
وسلم وذكر ابن الحاج الحنبلي في اختيارات ابن
تيمية أن إهداء القرب له صلى الله عليه وسلم
وهي أعم من القرآن وغيره لا يستحب بل هو بدعة
وأنه الصواب المقطوع به ونقل عن ابن مفلح في
فروعه أنه قال لم يكن من عادة السلف إهداء
الثواب إلى موتى المسلمين بل كانوا يدعون لهم
فلا ينبغي الخروج لهم ولم يره من له أجر
العامل كالنبي صلى الله عليه وسلم ومعلم الخير
بخلاف والد الشخص فإن له أجرا كأجر الولد لأن
العامل يثاب على إهدائه فيكون له أيضا مثله
كما في الحديث الصحيح " إذا مات ابن آدم انقطع
عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به
أو ولد صالح يدعو له" قال وأقدم من بلغنا أنه
فعل ذلك علي بن الموفق وأنه كان أقدم من
الجنيد وأدرك الإمام أحمد وطبقته وعاصره وعاش
بعده وأصحابنا إنما قالوا إنه في طبقة الجنيد.
وسئل الشيخ عماد الدين بن العطار تلميذ النووي
رحمهما الله هل تجوز قراءة القرآن وإهداء
الثواب إليه صلى الله عليه وسلم وهل فيه أثر
فأجاب بما هذا لفظه أما قراءة القرآن العزيز
فمن أفضل القربات وأما إهداؤه للنبي صلى الله
عليه وسلم فلم ينقل فيه أثر ممن يعتد به بل
ينبغي أن يمنع منه لما فيه من التهجم عليه
فيما لم يأذن فيه مع أن ثواب التلاوة حاصل له
بأصل شرعه صلى الله عليه أعمال أمته في ميزانه
وقد أمرنا الله بالصلاة عليه وحث صلى الله
عليه وسلم على ذلك وأمرنا بسؤال الوسيلة
والسؤال بجاهه فينبغي أن يتوقف على ذلك مع أن
هدية الأدنى للأعلى لا تكون إلا بالإذن انتهى.
كلامه قال صاحبنا الشيخ شمس الدين السخاوي
تلميذ شيخنا قاضي القضاة ابن حجر في مناقبه
التي أفردها أنه سئل عمن قرأ شيئا من القرآن
وقال في دعائه اللهم اجعل ثواب ما قرأته زيادة
في شرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجاب
هذا مخترع من متأخري القراء لا أعلم لهم سلفا
فيه وقال الشيخ زين الدين عبد الرحمن الكردي
في كتاب النصيحة وقع السؤال عن جواز اهداء
القرآن للنبي صلى الله عليه وسلم والجواب أن
ذلك شيء لم يرو عن السلف فعله ونحن بهم نقتدي
وبذلك نهتدي ثم توسع في هذه المسألة وليته
اقتصر على كلامه الأول ولكنه قال وأجاب بعضهم
بجوازه بل باستحبابه قياسا على ما كان يهدى
إليه في حياته من الدنيا وكما طلب الدعاء من
عمر وحث الأمة على الدعاء بالوسيلة عند الآذان
وعلى الصلاة عليه ثم قال وإن لم تفعل ذلك فقد
اتبعت وإن فعلت فقد قيل به وقال الشيخ زين
العابدين خطاب هذه المسألة لا توجد في كلام
المتقدمين من أئمتنا وأكثر المتأخرين منع من
ذلك.
وقال الشيخ نجم الدين القاضي ابن عجلون: قد
توسع الناس في ذلك وتصرفوا عنه بعبارات
متقاربة في المعنى كقولهم في صحيفته صلى الله
عليه وسلم أو نقدمها إلى حضرته أو زيادة في
شرفه وقد تقترن بذلك هيئات تخل بالأدب معه صلى
الله عليه وسلم وما ألجأهم إلى ارتكاب ذلك مع
أن جميع حسنات الأمة في صحيفته وقد قال صلى
الله عليه وسلم: "دع ما يريبك إلى ما لا
يريبك" قال الذي ينبغي ترك ذلك والاشتغال بما
لا ريب فيه كالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم
وسؤال الوسيلة وغير ذلك من
(3/520)
وإجارة ضمان
على بلاغ،
__________
أعمال البر المأثورة في الشرع فإنها بحمد الله
كثيرة وفيها ما يغني عن الابتداع في الدين
والوقوع في الأمور المختلف فيها وقال الشيخ
كمال الدين بن حمزة الحسني الشافعي ابن أخت
الشيخ نجم الدين المذكور وقد سئل عن شخص عارض
ما أفتى به خاله المشار إليه أن ذلك يجوز
إهداء الثواب على الوجه المذكور بدعة ولا خلاف
فيه وإنما الخلاف بين العلماء في أنه من البدع
الجائزة أم لا وحيث كان الأمر كذلك اتجه ما
أفتى به شيخنا الشيخ نجم الدين المشار إليه
فإن من القواعد المقررة أن درأ المفاسد أولى
من جلب المصالح فإذا دار الأمر بين المنع
والجواز فالأحوط الترك ومن ثم قال الصوفية إذا
خطر لك أمر فزنه بالشرع فإن شككت فيه هل هو
مأمور به أو منهي عنه فأمسك عنه انتهى.
ثم قال صاحب الكتاب والمشهور من مذهب إمامنا
الشافعي وشيخه مالك والأكثرين كما قاله النووي
في فتاويه وفي شرح مسلم أنه لا يصل ثواب
القراءة للميت قال بعض المفتيين فإهداء من لا
يعتقد الوصول عبث مكروه ثم تكلم على إهداء
القراءة للميت وذكر كلام النووي في شرح مسلم
وفي الأذكار ثم ذكر عن الشيخ بهاء الدين
الحواري بضم الحاء المهملة وتشديد الواو
المفتوحة وكسر الراء منسوب إلى قربة حوران كما
ضبطناه وآخرها راء مفتوحة مهملة وياء مقصورة
أنه سئل عمن يقرأ الفاتحة عقب السماع مرات
لجماعة وآخرا لكل يسألها له صلى الله عليه
وسلم فقال المشهور من مذهب الشافعي أن ثواب
القراءة لا يصل إلى الميت قال وهو محمول على
ما إذا نوى القاريء بقراءته أن تكون عن الميت
وأما النفع فينتفع الميت بأن يدعو له عقبها أو
يسأل جعل أجره له أو يطلق على المختار عند
النووي وغيره لنزول الرحمة على القارىء ثم
تنشر ولهذا تصح الإجارة على القراءة عند القبر
لحصول النفع بها ولا يقال كما قال ابن عبد
السلام: إنه تصرف في الثواب غير مأذون فيه لأن
التصرف الممنوع ما يكون بصيغة جعلته له أو
أهديته له أما الدعاء بجعل ثوابه له فليس
تصرفا بسؤال لنقل الثواب إليه ولا منع فيه
وأما إهداء الثواب لرسول الله صلى الله عليه
وسلم فكان الشيخ تاج الدين الفزاري يمنع منه
ثم ذكر كلام الزركشي والقاضي تقي الدين ابن
شهبة ثم قال وجوزه بعض المتأخرين وهو السبكي
ثم قال وأما سؤال الفاتحة له فينبغي أن يمنع
منه جزما لما لا يخفى انتهى. كلامه فهؤلاء
الجماعة كلهم قالوا بالمنع من هذا وذكروا
تعليله ودليله حتى من أفتى من الشافعية
بالجواز وفصل وحصل وما بقي بعد هذا شيء والله
الهادي الموفق انتهى. كلام صاحب المولد وكلام
ابن السبكي وابن عبد السلام الذي أشار إليه في
أول كلامه يعني به ما ذكراه من أن أعمال أمته
صلى الله عليه وسلم كلها في صحيفته والله
أعلم. ص: "وإجاره ضمان على بلاغ". ش: يعني أن
الاستئجار
(3/521)
__________
للحج على وجه الضمان أفضل من الاستئجار على
وجه البلاغ وسيأتي تفسير ذلك إن شاء الله قال
في الذخيرة: قال سند: اتفق مالك والأئمة على
الأرزاق في الحج وأما الإجارة بأجرة معلومة
فقال بها مالك والشافعي ومنعها أبو حنيفة وابن
حنبل انتهى. والرزقة هو أن يدفع للحاج شيئا
يستعين به على حجه عن الميت من غير عقد إجارة
في ذمته وسواء كان قدر كفايته أم لا وقال في
غنية الفقير في حج الأجير وقد فرق الأصحاب بين
الرزق والإجارة بأن الرزق هو أن ينظر إلى قدر
كفايته فيدفعه إليه وذلك يزيد وينقص لكثرة
عياله وقلتهم وأما الإجارة فهو شيء مقدور قصر
عن كفايته أو زاد انتهى. ولفظ سند في الطراز
الذي اتفقت الأمة على صحته أن يكون ذلك رزقة
لا أجرة صححه الكافة مالك وأبو حنيفة والشافعي
وأحمد وغيرهم وأما عقد الإجارة بأجرة معلومة
فصححه مالك والشافعي ومنعه أبو حنيفة وابن
حنبل ودليلنا أنه عمل تدخله النيابة فجاز
الأجرة عليه وأما الاستئجار بالنفقة فمنعه
الشافعي وزعم أنها أجرة مجهولة ونقول لا فرق
بين ذلك وبين الرزقة وكاستئجار الظئر بمؤنتها
إذا ثبت ذلك فالمعاوضة في الحج على ثلاثة أضرب
حج بأجرة معلومة وحج بنفقة ما بلغت وتسمى أجرة
على البلاغ وحج بأجرة على وجه الجعالة وهو أن
يلزم نفسه شيئا ولكن إن حج كان له من الأجرة
كذا وهي من وجه البلاغ انتهى. مختصرا.
قلت: فالوجه الأول وهو الحج بأجرة معلومة هو
الذي سماه المصنف إجارة ضمان وفي أثناء كلام
صاحب الطراز بعد ذلك أنه على وجهين تارة يكون
معينا في عين الأجير قال مثل أن يقول استأجرتك
لتحج عني بكذا قال وإن قال علي أن تحج عني
بنفسك كان تأكيدا وإضافة الفعل إليه تكفي في
ذلك انتهى. وتارة يكون مضمونا في ذمته قال مثل
أن يقول من يأخذ كذا في حجة أو من يضمن لي حجة
بكذا ولم يعين لفعلها أحدا وقال أبو الحسن
الصغير قال بعض المتأخرين المعاوضة في الحج
على وجهين معين ومضمون والمعين على وجهين
إجارة وبلاغ والبلاغ على وجهين بلاغ في الحج
وهو الجعل ولا شيء له إلا بتمامها وبلاغ
النفقة والمضمون على وجهين ضمان بالسنة وهو
كونها غير معينة إذا فاتته هذه السنة يأتي في
معينة وضمان بالنسبة إلى الأجير فإذا مات
استؤجر من ماله من يحج انتهى. وهو يشير إلى ما
تقدم إلا أن قوله: ضمان بالنسبة يوهم أنه قسم
مستقل وليس كذلك بل كل قسم من الإجارة بأجرة
معينة سواء كان في عين الأجير أو في ذمته ومن
إجارة البلاغ ومن الجعالة ينقسم بالنسبة إلى
السنة وهو أن تكون معينة وإلى معينة في السنة
وقوله معين مراده به تعيين الأجير ومراده
بالأجرة التي جعلها قسم المعين الإجارة
المضمونة.فالقسم الأول في كلامه من المضمون هو
ما أشار إليه المؤلف بقوله وَعَلَى عَامٍّ
مُطْلَقٍ وَالثَّانِي هُوَ الَّذِي أَشَارَ
إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: قَامَ وَارِثُهُ
مَقَامَهُ فِيمَنْ يَأْخُذُهُ فِي حَجِّهِ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فَاَلَّذِي يَتَحَصَّلُ مِنْ كَلَامِ
الشُّيُوخِ فِي تَقْسِيمِ الْمُعَامَلَةِ
عَلَى الْحَجِّ أَنَّ الْمُعَامَلَةَ عَلَى
الْحَجِّ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ:
الْأَوَّلُ اسْتِئْجَارٌ بِأُجْرَةٍ
مَعْلُومَةٍ تُدْفَعُ لِلْأَجِيرِ وَيَكُونُ
ضَمَانُهَا مِنْهُ وَعَلَيْهِ جَمِيعُ
(3/522)
__________
مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَالْفَضْلُ لَهُ
وَالنُّقْصَانُ عَلَيْهِ وَيَكُونُ الْحَجُّ
مُتَعَلِّقًا بِعَيْنِ الْأَجِيرِ ,
وَالثَّانِي الِاسْتِئْجَارُ عَلَى الْحَجِّ
بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ
وَيَكُونُ الْحَجُّ فِي ذِمَّةِ الْأَجِيرِ ,
وَالثَّالِثُ الِاسْتِئْجَارُ بِالنَّفَقَةِ
وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْبَلَاغِ وَسَيَأْتِي
تَفْسِيرُهُ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ ,
وَالرَّابِعُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى وَجْهِ
الْجَعَالَةِ فَالْقِسْمَانِ الْأَوَّلَانِ
يُسَمِّيهِمَا الْمُصَنِّفُ إجَارَةَ ضَمَانٍ
وَذَكَرَ الْقِسْمَ الثَّانِي أَيْضًا فِي
قَوْلِهِ: وَقَامَ وَارِثُهُ مَقَامَهُ
فِيمَنْ يَأْخُذُ فِي حَجِّهِ , وَالْقِسْمُ
الثَّالِثُ أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ:
وَالْبَلَاغُ إعْطَاءُ مَا يُنْفِقُهُ إلَخْ ,
وَالرَّابِعُ أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ
وَعَلَى الْجَعَالَةِ وَفِي الْوَجْهِ
الثَّانِي خِلَافٌ وَاَلَّذِي يُفْهَمُ مِنْ
كَلَامِ الْمُصَنِّفِ الْجَوَازُ وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ. وَوَجْهُ تَسْمِيَةِ الْقِسْمَيْنِ
الْأَوَّلَيْنِ بِالضَّمَانِ أَنَّ الْأَجِيرَ
لَزِمَهُ الْحَجُّ بِذَلِكَ الْعِوَضِ دُونَ
زِيَادَةٍ عَلَيْهِ وَلَا رَدٍّ مِنْهُ قَالَ
ابْنُ عَرَفَةَ: وَالنِّيَابَةُ بِعِوَضٍ
مَعْلُومٍ بِذَاتِهِ أُجْرَةٌ إنْ كَانَتْ
عَنْ مُطْلَقِ الْعَمَلِ وَجُعْلٌ إنْ كَانَتْ
عَنْ تَمَامِهِ وَبَلَاغٌ إنْ كَانَتْ
بِقَدْرِ نَفَقَتِهِ وَفِيهَا الْإِجَارَةُ
أَنْ يَسْتَأْجِرَهُ بِكَذَا وَكَذَا
دِينَارًا عَلَى أَنْ يَحُجَّ عَنْ فُلَانٍ
لَهُ مَا زَادَ وَعَلَيْهِ مَا نَقَصَ
وَالْبَلَاغُ خُذْ هَذِهِ الدَّنَانِيرَ
فَحُجَّ بِهَا عَنْهُ عَلَى أَنَّ عَلَيْنَا
مَا نَقَصَ عَنْ الْبَلَاغِ أَوْ يَحُجَّ
مِنْهَا عَنْهُ وَالنَّاسُ يَعْرِفُونَ كَيْفَ
يَأْخُذُونَ إنْ أَخَذُوا عَلَى الْبَلَاغِ
فَبَلَاغٌ وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَنَّهُمْ
ضَمِنُوا الْحَجَّ فَقَدْ ضَمِنُوهُ.
قلت: يُرِيدُ بِالضَّمَانِ لُزُومَهُ الْحَجُّ
بِذَلِكَ الْعِوَضِ دُونَ زِيَادَةٍ عَلَيْهِ
وَلَا رَدٍّ مِنْهُ انتهى. وَقَالَ فِي
الْمُتَيْطِيَّةِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ
الِاسْتِئْجَارَ عَلَى الْحَجِّ يَعْنِي
بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ فِي غَيْرِ الْأَجِيرِ
وَالْبَلَاغُ هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ
الْمَذْهَبِ وَيَبْقَى وَجْهَانِ ذَكَرَهُمَا
بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَهُمَا الْحَجُّ
الْمَضْمُونُ وَالْجُعْلُ فِي الْحَجِّ ثُمَّ
قَالَ: قَالَ أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ: سَمِعْت
أَهْلَ الْعِلْمِ يَقُولُونَ: إنَّهُ لَا
يَقُومُ مِنْ الْكِتَابِ إلَّا الْوَجْهَانِ
الْأَوَّلَانِ وَكَانَ ابْنُ لُبَابَةَ
يُخَالِفُ فِي ذَلِكَ وَيَقُولُ: إنَّ
قَوْلَهُ فِي الْمُدَوَّنَةِ: إنْ أَخَذُوا
الْمَالَ عَلَى أَنَّهُمْ قَدْ ضَمِنُوا
الْحَجَّ فَقَدْ ضَمِنُوهُ أَنَّهُ وَجْهٌ
ثَالِثٌ مِنْ أَنَّ الْحَجَّ اسْتِئْجَارٌ
وَبَلَاغٌ وَمَضْمُونٌ وَيَقُولُ فِي الَّذِي
يَأْخُذُ عَلَى الْحَجَّةِ الْمَضْمُونَةِ:
إنَّهُ إذَا مَاتَ قَبْلَ إكْمَالِهَا أَنَّهُ
يَرُدُّ جَمِيعَ الْمَالِ وَلَا يَحْتَسِبُ
بِقَدْرِ مَا قَطَعَ مِنْ الطَّرِيقِ
وَقَالَهُ أَيُّوبُ بْنُ سُلَيْمَانَ
وَمُحَمَّدُ بْنُ وَلِيدٍ وَغَيْرُهُمَا
وَنَحْوُهُ فِي أَقْضِيَةِ ابْنِ زِيَادٍ
وَبِهِ كَانَ يَقُولُ ابْنُ زَرْبٍ قَالَ
ابْنُ الْهِنْدِيِّ وَمِنْ عَيْبِ هَذِهِ
الْمَقَالَةِ إنْ لَمْ يَكْفُلْ ذَهَبَ
عَنَاؤُهُ بَاطِلًا وَإِنَّمَا وَقَعَ فِي
الْكِتَابِ الْمَضْمُونُ عَلَى
الِاسْتِئْجَارِ مِنْ جِهَةِ أَنْ يَكُونَ
لِلْمُسْتَأْجَرِ مَا زَادَ وَعَلَيْهِ مَا
نَقَصَ فَهُوَ الَّذِي أَرَادَ بِأَنَّهُمْ
ضَمِنُوا الْحَجَّ ثُمَّ قَالَ: وَالْحَجُّ
الْمَضْمُونُ لَا يَكُونُ الْمُوصَى لَهُ
إلَّا غَيْرَ مُعَيَّنٍ وَهُوَ أَحْوَطُ
لِلْمَيِّتِ إنْ كَانَ أَوْصَى بِهَا وَإِنْ
لَمْ يُوصِ بِهَا فَلَا يَتَعَدَّى قوله: مِنْ
اسْتِئْجَارٍ أَوْ بَلَاغٍ هَذَا هُوَ
الْمُسْتَحْسَنُ فِي ذَلِكَ وَذَكَرَ ابْنُ
الْعَطَّارِ عَنْ بَعْضِ قُضَاةِ قُرْطُبَةَ
أَنَّهُ كَانَ لَا يَدْفَعُ الْمَالَ إلَّا
عَلَى أَنَّهَا مَضْمُونَةٌ وَإِنْ كَانَ
الْمَيِّتُ أَوْصَى بِالِاسْتِئْجَارِ
وَقَالَهُ ابْنُ زَرْبٍ قَالَ ابْنُ
الْعَطَّارِ وَهَذَا عِنْدِي نَقْضٌ لِعَهْدِ
الْمُوصِي وَمُخَالِفٌ لِوَصِيَّتِهِ إلَّا
أَنْ يُوصِيَ بِأَنْ تَكُونَ مَضْمُونَةً
فَيُوقَفُ عِنْدَ عَهْدِهِ ثُمَّ قَالَ
وَهَذِهِ الْحَجَّةُ إنْ تَوَلَّاهَا قَابِضُ
الدَّنَانِيرِ بِنَفْسِهِ أَوْ اسْتَنَابَ
فِيهَا غَيْرَهُ سَوَاءٌ وَإِنْ مَاتَ وَلَمْ
يُوَفِّهَا اُسْتُؤْجِرَ مِنْ مَالِهِ عَلَى
تَمَامِهَا انتهى. وَهَذَا يُؤْخَذُ مِنْ
قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: وَقَامَ وَارِثُهُ
مَقَامَهُ فِيمَنْ يَأْخُذُهُ فِي حَجَّةٍ
وَأَمَّا كَوْنُهُ يَسْتَنِيبُ فِي حَيَاتِهِ
فَإِنَّهُ
(3/523)
فالمضمونة
كغيره،
__________
سَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ:
وَلَزِمَهُ الْحَجُّ بِنَفْسِهِ أَنَّ مَا
ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هُوَ الْمَشْهُورُ
وَأَنَّ مُقَابِلَهُ يَقُولُ لَهُ
الِاسْتِئْجَارُ وَإِنَّ ابْنَ عَبْدِ
السَّلَامِ قَالَ: إنَّ مَحِلَّ الْخِلَافِ
مَا لَمْ تَقُمْ قَرِينَةٌ عَلَى التَّعْيِينِ
أَوْ عَلَى عَدَمِهِ فإن قامت قرينة تدل على
التعيين عمل عليها والقرينة هنا دالة على عدم
التعيين حيث جعلوها مضمونة بل ذلك صريح في عدم
التعيين فتأمله والله أعلم. وذكر الجزائري في
وثائقه الخلاف في المضمون وذكره أيضا الجزولي
في شرح يوسف بن عمرو في كلامه في النوادر
إشارة إلى صحته وسيأتي لفظه في قوله:
فالمضمونة كغيرها". فرع: قال سند في باب بقية
من أحكام الإجارة الإجارة المعينة: ينبغي أن
يتصل فيها العمل بالعقد ولا يجوز تراخيها عنه
كما في سائر الإجارات المعقودة على رحمة رجل
بعينه في شهر بعينه فما جاز في ذلك جاز هنا
وما امتنع ههنا فإن كانت الإجارة في أرض
الحجاز فالأحسن أن تكون في أشهر الحج فيشرع في
الحج عقب العقد وإن كانت في بلاد قاصية جازت
في كل وقت يخرج فيه إلى الحج وإن تراخى الخروج
الأيام انتظر في تجهيزه ولو استأجره ليحج
ماشيا في العام الثاني وكانت المشاة تخرج لذلك
اليوم جاز لأنه شرع في الإجارة من وقته وهذا
في الإجارة المعينة أما المضمونة فيجوز تقديم
عقدها على فعلها سنين وهو كالسلم فإنه لا يقبض
إلى سنين انتهى. ونحوه للمتيطي ونصه وقولنا في
النص مع تقديم النقد وأخذ في التجهيز هو
الصواب لما روي عن مالك أن تقديم النقد مع
تأخير الشروع في العمل لا يجوز فإن كان
الاستئجار في غير إبان الخروج إلى الحج يجب
النقد على الشرط وجاز على التطوع انتهى. والله
أعلم. ص: "والمضمونة كغيره". ش: يحتمل أن يكون
مراده أن إجارة الضمان إلا أن قلنا إنها أفضل
من إجارة البلاغ فهي كغيرها في الكراهة ويكون
كقوله في النوادر بعد أن ذكر إجارة البلاغ
وهذه والإجارة في الكراهة سواء وأحب إلينا أن
يؤاجر الإنسان نفسه بشيء مسمى لأنه إذا مات
قبل أن يبلغ كان ضامنا لذلك يريد محمد ضامنا
للمال ويحاسب بما سار ويؤخذ من تركته ما بقي
فكان هذا أحوط من البلاغ وليس يعني أن يؤاجر
من ماله غيره لأنه شرط عليه أن يحج بنفسه
فانفسخ ذلك بموته إلا أن تكون الحجة إنما جعلت
في ذمته انتهى. بلفظه ويساعد هذا أنه وقع في
بعض النسخ والمضمونة كغيرها وعلى النسخة
الأولى فأعاد الضمير مذكرا باعتبار النوع أي
كالنوع الآخر ويحتمل أن يريد ما قاله الشارح
أن الإجارة المضمونة على الحج كالإجارة على
غيرالحج في الضمان وعدمه فيكون
(3/524)
وتعينت في
الإطلاق كميقات الميت،
__________
الفضل له والنقصان عليه وهذا لفظ الشرح الصغير
ويشير لذلك بقوله في الجواهر وقسم هو إجارة
بعوض تكون ثمنا للمنافع كالإجارات كلها فيكون
العوض ملكا للمستأجر فإن عجز عن كفايته لزمه
إتمامه من ماله وما بقي كان له انتهى.
تنبيه: إذا وقعت الإجارة في الحج لزمت وإن
كانت مكروهة قال في النوادر ومن استؤجر ليحج
عن ميت ثم بدا له لما بلغه في ذلك من الكراهة
قال ابن القاسم: الإجارة تلزمه انتهى. وقال
اللخمي: قال ابن القاسم: فإن أجر نفسه ثم أراد
نقض الإجارة لما بلغه أن لا يحج أحد عن أحد لم
يكن ذلك له انتهى. ص: "وتعينت في الإطلاق". ش:
يعني أن الإجارة المضمونة تتعين في إطلاق
الموصي فإذا أوصى الميت أن يحج عنه ولم يبين
هل ذلك على الضمان أو على البلاغ فتتعين
المضمونة قال في المتيطية بعد أن ذكر صفة ما
يكتب في البلاغ وقولنا فيه أمن ذلك كان من
عهدة المتوفي صواب فإن لم يكن من الموصي عهدة
فلا يكون للناظر أن يفعله لأنه تغرير بالمال
انتهى. وعلى هذا شرحه الشارح في الكبير
والأوسط والبساطي وظاهر كلامه في الصغير أن
الوصي إذا لم يبين في عقد الإجارة هل هي ضمان
أو بلاغ تعينت المضمونة وهو ظاهر كلام
الأقفهسي وابن الفرات وهذا ليس بصحيح فإنه لا
بد في بيان عقد الإجارة من بيان الأجرة ما هي
هل النفقة أو شيء مسمى فتأمله والله أعلم.
تنبيه: تقدم أن المضمونة نوعان نوع في عين
لأجير ونوع في ذمته وأن في الثاني خلافا وأن
الذي يفهم من كلام المصنف الجواز فإن عين
الموصي أحدهما تعين وإن لم يعين فالأحوط أن
يدفع على أن الحج مضمون في الذمة كما يفهم من
كلام المتيطي المتقدم بل تقدم عنه أنه نقل عن
بعض قضاة قرطبة أنه كان لا يدفع المال إلا على
أنها مضمونة وإن أوصى الميت بالاستئجار في عين
الأجير وإن ابن زرب قال به فتأمله والله أعلم.
ص: "كميقات الميت". ش: يعني أن من استؤجر على
أن يحج عن ميت من بلد ذلك الميت فإنه يتعين
عليه أن يحرم من ميقات الميت وإن لم يشترط
عليه ذلك في العقد يريد وكذلك لو
(3/525)
وله بالحساب إن
مات ولو بمكة،
__________
استأجر أن يحج عن الميت من بلد غير بلد الميت
فإنه يتعين عليه الإحرام من ميقات ذلك البلد
قال اللخمي: قال ابن القاسم: ويحرم من ميقات
الميت وإن لم يشترطوا ذلك عليه وقال أشهب في
كتاب محمد: يحجون عنه من الموضع الذي أوصى
يريد إذا كان بغير بلده قال محمد بن الحكم إذا
كان من أهل مصر فمات بخراسان وأوصى بالحج عنه
حج عنه من خراسان وهذا أحسن وإنما يحج من بلد
الميت إذا مات إلا أن لا يحج من يستأجر بتلك
الوصية من موضع وصى به انتهى. كلام اللخمي
وقال في الطراز المستأجر في الحج لا يخلو إما
أن يشترط عليه موضعا يحرم منه أو لا يشترط فإن
لم يشترط فالمذهب أن العقد صحيح ثم ذكر عن
الشافعية في ذلك خلافا ثم قال ووجه ما قلنا أن
الإحرام له عرف شرعي وهو ميقاته فينصرف إليه
وإن لم يذكر ثم قال فإذا أطلق هل يجب الإحرام
من نفس الميقات أو من موضع لا يكون فيه نقص
الميقات حتى يجب فيه دم فقول ابن القاسم في
الكتاب فيمن اعتمر عن نفسه من الميقات ثم حج
عن الميت من مكة لا يجزئه عن الميت مبني على
صرف الإطلاق إلى نفس الميت ووجهه بين فإن
الإطلاق يقتضيه وفي الأسدية أنه إن حج من مكة
يجزئه إلا أن يشترط عليه من أفق من الآفاق
وقال ابن القاسم في العتبية وسواء شرطوا عليه
الإحرام من ذي الحليفة أو لم يشترطوا لأن من
استؤجر عن ميت فعليه أن يحرم من ميقات الميت
انتهى. يريد إذا استؤجر من بلد الميت وإلا
فإنما عليه أن يحرم من ميقات البلد الذي
استؤجر منه والمسألة في العتبية في أول رسم من
سماع ابن القاسم قال فيها إن من دفع إليه مال
ليحج به عن ميت فليحرم من ميقات الموضع الذي
يحرم منه وقبله ابن رشد فلو قال المصنف كميقات
محل العقد كان أشمل وأبين وسيأتي في شرح قوله:
ولا يجوز اشتراط كهدي تمتع عليه من كلام صاحب
الطراز ما يدل على ذلك ويأتي الكلام على ما
إذا خالف ذلك عند قول المصنف أو خالف ميقاتا
شرط وعند قوله: وهل يفسخ أن اعتمر لنفسه في
المعين وقول الشارح إن كلام المصنف يقتضي أن
من حج عن مصري فإنه يلزمه الإحرام من الجحفة
ولو أوصى بذلك وهو في اليمن بعيد وكلامه يقتضي
أنه فهمه من كلام اللخمي السابق والظاهر أنه
ليس فيه ما يدل على ذلك فتأمله والله أعلم.
فرع: قال في النوادر ومن كتاب ابن المواز قال
مالك في رجل بمكة أراد أن يحج عن رجل فليحرم
من ميقات الرجل: أحب إلي وإن أحرم من مكة
أجزأه انتهى. ونقله ابن عرفة. ص: "وله بالحساب
إن مات ولو بمكة". ش: يعني أن الأجير على الحج
إذا مات فله من الأجر بحساب ما سار من سهولة
الطريق وصعوبتها وأمنها وخوفها لا بمجرد قطع
المسافة فقد يكون
(3/526)
أو صد والبقاء
لقابل،
__________
ربع المسافة يساوي نصف الكراء فيقال بكم يحج
مثله في زمن الإجارة من الموضع الذي خرج منه
وبكم يحج مثله من المكان الذي مات فيه في زمن
وصوله إليه فانقص الأقرب عن الأبعد فله بحسابه
من الأجرة قلت: أو كثرت مثلا الحج من موضع
خروجه بعشرة ومن موضع موته بثمانية فيرد أربعة
أخماس الأجرة قاله في الطراز وكذا الحكم فيما
إذا صد وسواء بلغ مكة أو مات قبلها هذا هو
المشهور في المذهب وقال ابن حبيب: إذا مات بعد
دخول مكة فله الأجرة كاملة وضعف قاله في
التوضيح وإليه أشار بقوله: "ولو بمكة" فإن كان
الأجير لم يأخذ من الأجرة شيأ فلورثته أن
يأخذوا بحساب ما سار وإن كان قد قبض جميع
الأجرة فله منها بحساب ما سار وما فضل عن ذلك
يرجع به في تركته ويؤخذ منها وسواء كانت
الأجرة باقية بعينها أو تلفت وسواء كان تلفها
بسببه أو بغير سببه وهذا في الإجارة بأجرة
معلومة في عين الأجيرة وأما إذا كان الحج
بأجرة معلومة وكان مضمونا فسيأتي أنه إذا مات
يقوم وارثه مقامه في ذلك ولكن ليس ذلك بلازم
للورثة بل يؤخذ من تركته أجرة حجه قاله
المتيطي وسند وسيأتي عند قول المصنف وقام
وارثه مقامه وأما في البلاغ فله بقدر ما أنفق
وليس له في الجعالة شيء
(3/527)
__________
والله أعلم. ص: "أو صد والبقاء لقابل". ش:
يعني وكذلك يكون للأجير بحساب ما سار إذا صدق
في أثناء الطريق واعلم أن الأجير إذا صد لا
يخلو إما أن يكون بأجرة معلومة أو على البلاغ
أو على الجعالة فإن كان بأجرة معلومة فلا يخلو
أيضا أن يستأجر ليحج في عام معين أو لم يعين
العام فإن لم يعين العام فله فسخ الإجارة
للعذر سواء أحرم أو لم يحرم وله بحساب ما سار
وله البقاء إلى قابل أو يتحلل ثم يقضيه
والأجرة في ذلك هي المسمى لا تزيد ولا تنقص
وإن كان العام معينا فله الفسخ إذا خشي الفوات
سواء أحرم أيضا أو لم يحرم وله من الأجرة بقدر
ما عمل فإن فاته الحج في تلك السنة لم يكن له
شيء فيما فعله بعد ذلك أقام على إحرامه أو
تحلل بعمرة ثم قضاه قاله في الطراز ونحوه
للخمي وهذا أحد القولين اللذين ذكرهما ابن
الحاجب في قوله: فلو أراد بقاء إجارته إلى
العام الثاني محرما أو متحللا فقولان قال في
التوضيح: هما للمتأخرين فيمن رأى أنه لما تعذر
الحج في هذا العام انفسخت فصار له دين في ذمته
يأخذ عنه منافع مؤخرة منع لأنه فسخ دين في دين
ومن رأى أن هذا النوع أخف من الإجارات
الحقيقية ولم يقدر الانفساخ لأنه إنما قبض
الأجرة على الحج وقد صار الأمر إليه جاز
واختار ابن أبي زيد الجواز انتهى. وقال في شرح
العمد فلو مات أو صد كان له بحساب ما عمل ورجع
عليه أو على تركته بالباقي يستأجر به من حيث
انتهى. عمله لحصول النيابة إلى ذلك الموضع فإن
لم يجدوا أو لم يوف عاد ميراثا فإن أحصر وأراد
المقام على إحرامه لقابل أو تحلل وأراد بقاء
الإجارة إلى قابل فهل له ذلك قولان الجواز
لأنه إبقاء دين في ذمته والمنع لأنه فسخ دين
في دين انتهى. وقال ابن فرحون إثر كلام ابن
الحاجب المتقدم في كلامه إجمال لأنه لم يبين
هل وقعت الإجارة على عام معين أو على أو على
البلاغ قال ابن راشد:
(3/528)
__________
والظاهر أنه أراد الأجير بأجرة معينة على عام
بعينه إذا صد وأصابه مرض أو أخطأ العدد لأن
الإجارة تنفسخ وله من الأجرة بقدر ما بلغ فإن
أراد أن يبقى على إجارته وقد تحلل من إحرامه
أو بقي محرما فللمتأخرين قولان أحدهما أن ذلك
غير جائز لأنه فسخ دين في دين والآخر الجواز
لأنهما لم يعملا على ذلك وقد سئل ابن أبي زيد
عن ذلك فأجازه وقال لا ينتهي إلى ما قيل لكم
إنه فسخ دين في دين إذا لم يعملا عليه لكن لو
تحاكما وجبت المحاسبة ووجه من قال إنه فسخ دين
في دين أنه لما تعذر الحج في هذا العام انفسخت
الإجارة فصارت له دينا في ذمته يؤخذ عنه منافع
مؤخرة والقائل بالجواز ويرى هذا النوع أخف من
الإجارات الحقيقية ولا يقدر الانفساخ لأنه
إنما قبض الأجرة على الحج وقد صار الأمر إليه
قال ابن راشد ولو كانت الإجارة على عام غير
معين فقد تقدم أن الإجارة لا تنفسخ إذا كان
الصبر لقابل لايشق عليه فإن شق عليه فهو
بالخيار وجعل ابن عبد السلام وصاحب التوضيح
فرض هذه المسألة في الحج المضمون لا على عام
بعينه والصواب ما قاله ابن راشد لمساعدة النقل
له وما عللا به القول الأول يوضح أنها إجارة
على عام بعينه انتهى. وعلم منه ترجيح القول
بالجواز.
قلت: وعليه شيء مشى المؤلف فأطلق في قوله:
والبقاء لقابل ولم يقيده بكون العام غير معين
إلا أنه إذا كان العام غير معين كان الخيار
للأجير وإذا كان العام معينا لم يكن له البقاء
إلا باتفاق الأجير والمؤجر ومن طلب منهما
الفسخ قضى له به كما تقدم في كلام ابن فرحون
وأما في إجارة البلاغ فله النفقة إلى المكان
الذي صد فيه وله النفقة في رجوعه منه فإن حصر
بعدما أحرم واستمر على إحرامه بعد الحصر
وإمكان التحلل قال سند: فلا نفقة له ذلك بعد
إمكان التحلل لأنهم لم يرضوا بذلك ولا اقتضاه
العقد ولا يوجبه لكن إن حج من عامه كانت له
الأجرة على ما اتفقوا عليه وإن بقي حتى فاته
الحج وقد كان أحرم وسار إلى البيت وقد زال
الحصر ليتحلل بالعمرة فلا نفقة له في ذلك فإن
تحلل وبقي بمكة حتى حج من قابل أو بقي على
إحرامه لقابل فلا شيء له إن كانت الإجارة على
عامه الأول بعينه وإن كانت على مطلق الحج من
غير تعيين عام بعينه فهذا يسقط من نفقته ويوم
أمكنه أن يتحلل فإن سار إلى مكة بنية البقاء
إلى قابل فله نفقة سيره ولا نفقة له في مقامه
بمكة حتى يأتي الوقت الذي أمكنه فيه التحلل من
العام الأول ويذهب بعد ذلك قدر ما سار فيه إلى
مكة فيكون له النفقة فيما بعد ذلك فإن سار إلى
مكة بنية أنه يتحلل فلا نفقة له في سيره لأنه
إنما سار لمنفعة نفسه لما تأخر تحلله عن موضع
الحصر فإذا كان من قابل خرج إلى الموضع الذي
تحلل منه بالعمرة وهو الموضع الذي أحصر فيه
فيحرم منه بالحج والأحسن أن يحرم من الميقات
إن كان أبعد منه ونفقته فيما زاد على الموضع
الذي أحصر فيه إلى الميقات في ماله لأنها
زيادة خارجة عن العقد وإنما وقعت بحكم العبادة
لا بحكم الإجارة وكذلك إن خرج قبل الوقت الذي
كان له أن يتحلل فيه تكون نفقته في ماله إلى
ذلك الوقت وله النفقة في رجوعه محرما انتهى.
مختصرا وأما إن أخذ المال على الجعالة ثم أحصر
فإن تحلل فلا
(3/529)
واستؤجر من
الانتهاء ولا يجوز اشتراط كهدي تمتع عليه،
__________
شيء له فإن تمادى وحج من عامه فله الجعل وإن
أقام إلى قابل ولم يشترط عليه حج عامه فهو على
عقده وإن شرط عليه فقد سقط العقد قاله في
الطراز والله أعلم.
قلت: وعلى القول الذي مشى عليه المصنف واختاره
ابن أبي زيد ينبغي أن يجزئه والله أعلم. ص:
"واستؤجر من الانتهاء". ش: يعني أن الأجير إذا
مات في الطريق قبل إكمال حجه أو صد عن الوصول
إلى مكة وقلنا إن له من الأجرة بحسب ما سار في
الصورتين فإن وصى الميت أو ورثته يستأجرون من
يحج عن الميت من الموضع الذي وصل إليه الأجير
الأول ولا يلزمهم أن يستأجروا من يحج عن الميت
من أول المسافة والله أعلم. ص: "ولا يجوز
اشتراط كهدي تمتع عليه". ش: يعني أن الأجير
إذا استؤجر على أن يحج متمتعا أو قارنا فإن دم
التمتع والقران على الذي أستأجره ولا يجوز أن
يشترط الهدي على الأجير لأنه في حكم مبيع
مجهول صفته ضم إلى الإجارة قال في الطراز: ومن
أذن له في التمتع فتمتع فإن الهدي على
المستأجر ولو تمتع من غير إذن وقلنا يجزيه كان
الهدي عليه دون المستأجر لأنه تعمد سبب إيجابه
ولم يستند إلى إذن ثم قال:
فرع: فلو شرط على الأجير دم التمتع وشبهه فهذا
في حكم مبيع ضم إلى الإجارة فإن لم تضبط صفته
وأجله لم يجز انتهى. فهذا مراد المصنف وأتى
بالكاف ليدخل هدي القران ويقيد عدم الجواز بما
إذا لم تضبط صفة الهدي وأجله فإن ضبط ذلك جاز
على المشهور من جواز اجتماع البيع والإجارة
وفي كلام الشارح إشارة إلى ذلك فإنه قال إنما
امتنع ذلك لأن الهدي مجهول الجنس والصفة
والثمن عند الإطلاق وذلك يؤدي إلى الجهالة في
الأجرة انتهى.
تنبيه: قال الشارح نبه بقوله: "كهدي تمتع" على
أن هدي القران وجزاء الصيد وفدية الأذى كذلك
انتهى.
قلت: وهذا لا يصح في جزاء الصيد وفدية الأذى
فإن ذلك على الأجير اشترط عليه أو لم يشترط
إذا كانت الإجارة مضمونة وإن كانت الإجارة على
البلاغ فإن تعمد سبب ذلك كان عليه وإن كانت
لضرورة أو خطأ كان في المال كما يذكره المصنف
في صفة
(3/530)
وصح إن لم يعين
العام وتعين الأول
__________
البلاغ وقال في المدونة ومن حج عن ميت فترك من
المناسك شيئا يجب فيه الدم فإن كانت الحجة إن
كانت عن نفسه أجزأت فهي تجزئ عن الميت وكل ما
لم يتعمده من ذلك أو فعله لضرورة فوجب عليه
هدي أو أغمي عليه أيام منى حتى رمى عنه غيره
أو أصابه أذى فتلزمه الفدية كانت الفدية
والهدي في مال الميت وهذا كله في البلاغ وما
وجب عليه من ذلك لتعمده فهو في ماله فأما إن
أخذ المال على الإجارة فكل ما لزمه بتعمد أو
خطأ فهو في ماله انتهى. ونقله اللخمي وغيره
وقد نبه الشارح على ذلك في الكبير فقال بعد أن
ذكر نحو ما تقدم وهذا واضح إلا أنه متى حمل
على هذا خالف ظاهر ما في المدونة ثم قال فإذا
كان لازما له في الأصل فلا يضره الاشتراط
انتهى.
قلت: فالصواب أن يحمل على ما ذكرناه من هدي
التمتع والقران المأذون فيهما فقط وجعل
البساطي الضمير في عليه عائدا إلى المستأجر
بكسر الجيم وهو بعيد لا يساعده اللفظ والكلام
والله أعلم.
تنبيه: في كلام المدونة المتقدم فائدة وهي أنه
إذا حصل في حج النائب نقص يوجب الهدي لا يضر
ذلك في إجزاء الحج ويستثنى من هذا مسألة وهي
ما إذا جاوز الميقات فقد ذكر صاحب الطراز في
الإجزاء خلافا تأتي إن شاء الله الإشارة إليه
وقال بعد ذلك من استؤجر على الحج فإنما عليه
حجة صحيحة وما جاز في حجة الإسلام والنذر
وأجزأ هنا إلا أنه يجب فيه مراعاة المسافة
والإحرام من الميقات لأن العقد يوجبه وإن أخل
به وجب الاختلاف فيه فإذا أحرم من الميقات فما
عليه بعده إلا لخروج من الإحرام بأعمال الحج
على وجه الصحة وسواء فعل ما يوجب عليه دما أو
لم يفعل لأن الدم يجبر الخلل إلا في إفساد
الحج فإن جامع في الحج فأفسده قال ابن القاسم
في الموازية: ترد النفقة ويتم ما هو فيه ويحج
ثانيا للفساد من ماله ويهدي ثم يحج عن الميت
بتلك النفقة إن شاء الورثة وإن شاؤوا آجروا
غيره وقاله أشهب انتهى. ويأتي إن شاء الله
تعالى بقية كلام صاحب الطراز على مسألة إفساد
الأجير الحج عند قول المصنف وفسخت إن عين
العام وقال ابن رشد في سماع ابن أبي زيد من
كتاب الحج فيمن أخذ المال على البلاغ وأفسد
حجه بإصابة أهله لأنه يغرم المال ولا يجوز أن
يحج عن الميت بما عليه من المال لأنه فسخ دين
في دين فالواجب أن يؤخذ منه المال فإذا أخذ
منه دفع إليه أو إلى غيره إما على الإجارة
وإما على البلاغ انتهى. وقوله بإصابة أهله لا
مفهوم له وكذلك لو أفسده بالإنزال وقوله دفع
المال إليه يعني بعد إتمامه الفاسد وقضائه
والله أعلم. ص: "وصحت إن لم يعين العام وتعين
الأول". ش: يعني أن الإجارة تصح وإن لم يعين
في العقد العام الذي يحج فيه الأجير وقيل لا
تصح الإجارة للجهالة قال في التوضيح: والأول
أظهر كما في سائر عقود الإجارة إذا وقعت مطلقة
فإنها تصح وتحمل على أقرب زمن يمكن وقوع الفعل
فيه ابن شاس والقولان للمتأخرين
(3/531)
وعلى عام مطلق،
وعلى الجعالة،
__________
انتهى فإذا صححت الإجارة معه عدم تعيين العام
الذي يحج فيه الأجير فإنه يعين عليه أن يحج في
أول عام يمكنه الحج فيه فإن لم يحج في أول سنة
لزمه الحج فيما بعدها قال في البيان ونقله في
التوضيح. ص: "وعلى عام مطلق". ش: ليس هذا
بتكرار مع قوله: وصحت إن لم يعين العام لأن
معناه أن الإجارة تصح وإن لم يعين العام الذي
يحج فيه ويتعين الأول ومعنى قوله: وعلى عام
مطلق أنه يصح أن يستأجر على أن يحج عنه حجة في
أي عام شاء وعلى هذا حمله البساطي وقال
التادلي قال ابن رشد: ذكر ابن العطار أنه لا
تصح الإجارة إلا بتعيين السنة وقوله خطأ لأن
المنصوص في سماع أبي زيد من كتاب الحج أنه
يجوز أن يستأجر على حجة مقاطعة في غير سنة
بعينها ثم ذكر التادلي عن ابن بشير ما نصه
وأما من استؤجر على أن يحج من عام لا بعينه
فإن الإجارة ثابتة انتهى. وقال ابن بشير لما
تكلم على حكم مخالفة الأجير إن خالف الأجير
فحج عن نفسه وقد استؤجر على حجه في عام بعينه
فسخت الإجارة وكذلك لو دفع إليه من غير شرط
أما إن استؤجر على الحج في عام لا بعينه فإن
الإجارة ثابتة ويؤمر بحجة أخرى عمن استأجره
انتهى. فجعل الإجارة على ثلاثة أقسام فتأمله
وقال أبو الحسن الصغير في تقديم الإجارة
والمضمون على وجهين ضمان بالسنة وهو كونها
بغير معينة إذا فاتته هذه السنة يأتي في سنة
غير معينة وضمان بالنسبة إلى الأجير فإذا مات
استؤجر من ماله من يحج انتهى. وكلام ابن رشد
الذي ذكر التادلي هو في أول رسم من سماع ابن
القاسم من كتاب الحج ولكنه لما تكلم على
المسألة في سماع أبي زيد وقال ما نصه ومعناه
أن يستأجر على حجة ولا يسمى أي سنة ويكون عليه
الحج على الحلول فإذا أفسدها في أول سنة أو
حصر بعد أو خطا عدد حتى فاته الحج كان عليه
قضاؤها في السنة التي بعدها انتهى. فظاهر كلام
ابن رشد هذا أنه راجع لمعنى قوله: وصحت إن لم
يعين العام فلا يكون قسما ثالثا وهو خلاف ما
يفهم من كلام ابن بشير المتقدم ومن كلام
التادلي وإذا مشينا على ما ذكره ابن رشد فيمكن
أن يحمل قول المصنف على عام مطلق على ما ذكره
المتيطي من أنه يستأجر على أن يحج في سنة كذا
ويفسخ له في قضائه في عام بعد ذلك فانظره
وحمله الشارح في الكبير على أنه معطوف على
قوله: على عام مطلق وفصل تعيين العام الذي يحج
فيه على عام مطلق وفيه بعد وكأنه حمل ذلك
فرارا من التكرار والله أعلم. ص: "وعلى
الجعالة". ش: قال في المتيطية: ولا يجوز دفع
الجعل
(3/532)
وحج على ما فهم
وجنى إن وفى دينه ومشى والبلاغ إعطاء ما ينفقه
بدءاً وعوداً بالعرف
__________
بشرط إلى المجعول له وإن تطوع الجاعل بدفعه من
غير شرط جاز انتهى. وهذا جار على حكم الجعل
والله أعلم. ص: "وحج على ما فهم وجنى إن وفي
دينه ومشى". ش: هذه المسألة ذكرها في
السليمانية ونصها على ما في تبصرة اللخمي قال
لا يتعين لمن أخذ الحجة أن يركب من الجمال
والدواب إلى ما كان الميت يركب مثله لأنه كذلك
أراد أن يوصي ولا يقضي به دينه ويسأل الناس
وهذه خيانة وإنما أراد الميت أن يحج عنه بماله
والعادة اليوم خلاف ذلك وهو أن يصنع به ما أحب
ويحج ماشيا وكيفما تيسر له انتهى. وساقها
المصنف في التوضيح في إجارة الضمان فإنه قال
في شرح قول ابن الحاجب وهي قسمان قسم بمعين
فيملك قوله: فيملك أي يضمنه ويكون الفضل له
والنقصان عليه وليس المراد بقوله يملك أي إنه
يفعل به كل ما أراد قال مالك في السليمانية
وذكر ما تقدم ونحوه في مناسكه ومقتضى كلامه في
المتيطية أن ذلك في إجارة البلاغ وذلك ظاهر
كلام اللخمي فإنه ساقها إثر الكلام على إجارة
البلوغ وقوله وهذه خيانة الذي رأيته في تبصرة
اللخمي وغيرها بالخاء المعجمة وكلام المصنف
هنا يدل على أنه بالجيم والمسألة مشكلة فإن
كانت الإجارة وقعت على الضمان فالظاهر أنه لا
يرجع عليه بشيء وإنما يقال فيها إنها خيانة
وإن كانت الإجارة وقعت على البلاغ فالظاهر أنه
يعطي من المال قدر نفقة مثله وأجرة ركوبه
ويؤخذ منه الباقي فتأمله والله أعلم. ص:
"والبلاغ إعطاء ما ينفقه بدأ وعوداً بالعرف".
ش: قوله: إعطاء ما ينفقه بدأ وعوداً فيه إشارة
إلى ما قال سند أن من أخذ نفقة ليحتج على
البلاغ ومن شرط صحة ذلك أن يأخذ من النفقة ما
يكفيه غالبا ذاهبا وراجعا فإن أخذ أقل مما
يكفيه على أن ينفق من عنده ثم يرجع به كان
سلفا وإجارة انتهى. وقال ابن عسكر في شرح
العمدة معنى إجارة البلاغ أن المستأجر يلزمه
تبليغ الأجير ذهابا وإيابا بقدر كفايته من
موضع ابتداء سفره حتى يعود إليه ويلزمه العمل
على ذلك ويكون حكمه في الدفع إليه حكم الوكيل
في أنه لا يجوز له صرف شيء ما هو بصدده من
الحج والعمرة وما تلف بغير شرط لم يضمنه ولا
يكون له حبس ما فضل وقال في الإرشاد الثاني
مضمونة وفيها يتعين قدر الإجارة وصفة الحجة
(3/533)
وفي هدي وفدية
لم يتعمد موجبهما ورجع عليه بالسرف واستمر إن
فرغ
__________
وموضع الابتداء قال الشيخ زروق في شرحه وإنما
يتعين ما ذكر لأنها كسائر الإجارات يلزم في
عقدها من معرفة الوجه المعمول عليه والمعمول
به ما يلزم في كل أجرة ويصح عقدها كالجعل فلا
شيء له إلا بتمام العمل فإن لم يعين الأجرة
لزمت أجرة المثل وإن لم يذكر صفة الحج لزمه
الإفراد على المشهور لأنه الأصل وقيل القران
لأنه جامع للحج والعمرة وإن لم يعين الابتداء
فمن محله إن لم تكن قرينة تصرفه لغيره انتهى.
فرع: قال في شرح العمدة الفرق بين البلاغ
والضمان أن أجير البلاغ يملك التصرف في المال
على وجه مخصوص والأجير على الضمان رقبة المال
ولذلك يكون الفضل له والتلف منه وقوله بالعرف
هذا بعد الوقوع وأما أولا فينبغي له أن يعين
النفقة قال اللخمي: وإن كانت الإجارة بنفقته
جاز وينبغي أن يبينها قبل العقد فإن لم يفعل
مضى وينفق نفقة مثله قال محمد ينفق ما لا بد
منه مثل الكعك والخل والزيت واللحم المرة بعد
المرة والثياب والوطاء والخفاف. ص: "وفي هدي
وفدية لم يتعمد موجبهما". ش: هو محمول على عدم
التعمد حتى يثبت تعمده للجناية قاله في الطراز
ونصه أما من أخذ نفقة ليحج منها فيرد ما فضل
فهذا يعتبر فيه قصده وتعمده للجناية وما عدا
ذلك يكون في المال لأن الإحرام أوجب ذلك عليه
في النفقة بتوابعه فيكون ما يلزمه الهدي
مندرجا تحت النفقة حتى يثبت تعمد الجناية
فيكون في خالص ماله وذلك بمثابة من أذن له في
التمتع فتمتع فإن الهدي يكون على المستأجر ولو
تمتع من غير إذن وقلنا يجزيه كان الهدي عليه
ولم يستند إلى إذن انتهى. ص: "واستمر إن فرغ".
ش: يعني أن الأجيرعلى البلاغ إذا فرغت منه
النفقة في المؤن والأكرية فإنه يستمر على
المضي إلى مكة وإكمال حجته ولا يرجع وسواء كان
فراغه قبل الإحرام أو بعده كما صرح به سند
ونقله عنه في التوضيح وقبله قال فيه ونفقته
عليهم لأن العقد باق وأحكامه باقية قال سند:
وقوله في الشامل: "ولو أحرم بعد فراغ المال
فلا شيء له" مخالف لما ذكرناه بل لقوله هو في
تعريف البلاغ ونوع يدفع له ما ينفق منه ذهابا
وإيابا
(3/534)
أو أخرم ومرض
وإن ضاعت قبله رجع
__________
بالعرف ويغرم السرف ويرد ما فضل ويرجع بما زاد
انتهى. ص: "أو أحرم ومرض". ش: يعني أن الأجير
على البلاغ إذا أحرم ثم مرض فإنه يستمر على
عمله وله نفقته ما أقام مريضا قال سند: له
نفقته التي كانت تجب له في حال الصحة لأن مطلق
العقد إنما ينصرف للغالب والمتعاهد كما في
نفقة الأجير ونفقة الدابة انتهى. ومقتضى كلامه
أنه يؤخذ قدر ما كان يصرفه في الصحة في أكله
فإن احتاج إلى أزيد من ذلك لدواء ونحوه كان
ذلك في ماله وصرح بذلك فيما إذا مرض قبل
الإحرام فإنه قال إذا مرض الأجير قبل أن يحرم
وكان على الانفاق فله نفقته ذاهبا وراجعا بقدر
نفقة الصحيح وما زاد ففي ماله انتهى. وفهم من
كلام صاحب الطراز أنه إذا مرض قبل أن يحرم حتى
فاته الحج أنه يرجع وهو كذلك فله النفقة في
إقامته مريضا ورجوعه فإن تمادى إلى مكة فلا
شيء عليه له في تماديه قاله اللخمي ونقله أبو
الحسن. ص: "وإن ضاعت قبله رجع". ش: يعني وإن
ضاعت النفقة قبل الإحرام فإنه يؤمر بأن يرجع
من الموضع الذي ضاعت فيه النفقة وهذا إذا لم
يكن بينهم شرط قال سند: وإذا تلف المال قبل أن
يحرم فإن كان بينهم شرط عمل به وإن لم يكن
بينهم شرط فالقياس أنه لا يرجع إلا أن ابن
القاسم قال يرجع لأنه رأى أن المال لما تعين
صار كأنه محل العقد انتهى. وله النفقة في
رجوعه قال اللخمي: إلا أن تكون الإجارة على أن
نفقته في الثلث فيرجع في باقيه فإن كان
المدفوع إليه أولا جميع الثلث وعليه راضون فلا
شيء عليهم انتهى. ونقله في التوضيح.
فرع: فإن تمادى على الذهاب بعد ضياع النفقة
فنفقته على نفسه في ذهابه ورجوعه إلى المكان
الذي ذهبت فيه النفقة قال في التوضيح: واختلف
فيما ينفقه في رجوعه من موضع
(3/535)
وإلا فنفقته
على آجره إلا أن يوصي بالبلاغ ففي بقية ثلثه
ولو قسم وأجزأ إن قدم على عام
__________
ذهابها على روايتين إحداهما أنه على المستأجر
و بها أخذ ابن القاسم والثانية أنها على
الأجير و بها أخذ ابن يونس والأول أحسن.
فرع: والقول قول الأجير في ضياع النفقة مع
يمينه لأنه يتعذر عليه الإشهاد في الضياع ولا
يعرف إلا بقوله وسواء أظهر ذلك في مكانه أو
بعد رجوعه قاله في الطراز والله أعلم. ص: "إلا
أن يوصي بالبلاغ ففي بقية ثلثه ولو قسم". ش:
قال في الطراز: فإن لم يبق للميت ثلث فذلك على
العاقد من وصي أو غيره قال فإن الوالد له في
العقد هذا جيمع ما أوصى به الميت لا شيء لك
غيره فيما زادت نفقتك ولا ترد شيئا إن فضل
فهذه أجرة معلومة وليست من هذا الباب وإن
قالوا إن فضل شيء رددته وإن زدت شيئا لم ترجع
فإن كان المال من القلة بحيث يعلم أنه لا
يكتفي فهذا رجل متبرع بالزائد وفعل معروفا
وكذا إن كان يقطع بكفايته وإن كان مشكلا فهو
غرر يسير لا ينفسخ بمثله العقد لأن الوارث إذا
لم يزد عليه شيء لا يؤخذ منه شيء مما وقع من
جهته مقامرة ولا يرجع يعني الأجير إذا ضاعت
منه النفقة في هذه الوجوه بشيء إلا أنه لا
يلزمه الذهاب إذا ذهبت النفقة قبل إحرامه
انتهى. ونحوه في المتيطية والإرشاد. ص: "وأجزأ
إن قدم على عام الشرط". ش: هذا الفرع نقله
المتيطي ونقله ابن فرحون عن ابن راشد فعزوه
لابن راشد قصور ونص المتيطية وإذا أتى بالحجة
في موسم قبله ولم يفسخ له الوصي فقال بعض
العلماء إنه يجزيه لأنه من باب تعجيل دين يجبر
ربه على اقتضائه مع أنه لا فائدة في تعيين
الموسم إلا إرادة التوسعة عليه انتهى. ثم قال
في عقد الوثيقة استأجر فلان إلى أن قال في
موسم كذا ثم قال وفسخ له في الناظر أن يكون
يوفي الحج المذكور في موسم قبل الموسم الذي
وقته له ثم قال وقولنا يأتي بالحجة في موسم
سنة كذا هو الصواب لأن الإجارة مفترقة إلى
أجله بخلاف الجعل وقولنا بعد ذلك إن الوصي فسخ
له في أنه قضى الحجة قبل ذلك فهو وفاء له حسن
ولا
(3/536)
الشرط أو ترك
الزيارة ورجع بقسطها أو خالف إفراداً لغيره إن
لم يشترطه الميت وإلا فلا كتمتع بقران أو عكسه
أو هما بإفراد
__________
يجوز له أن يفسخ له قضاء الحجة بعد ذلك لأنه
من فسخ الدين بالدين وقاله القاضي ابن زرب
وابن الهندي وابن العطار وغيرهم وأجاز ذلك ابن
أبي زمنين وعقد بذلك عقدا وقال أدركت أكثر
شيوخنا بالأندلس يجيزون ذلك وحكاه ابن حارث في
كتاب الشروط من سلمة بن فضل وأنه عقد به عقدا
انتهى. ص: "أو ترك الزيادة ورجع بقسطها". ش:
وكذا لو شرط عليه العمرة بعد الحج فتركها رجع
عليه بقسط ذلك من الإجارة قاله في المتيطية
ونصه وقولنا إن عليه الحج بعد العمرة والقصد
إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم هو الأفضل
فإن ترك مع ذلك العمرة أو القصد حط له من
الأجرة بقدر ما يرى انتهى. ص: "أو خالف
إفراداً لغيره إن لم يشترط الميت". ش: قوله:
لغيره أن لتمتع أو قران وما ذكره من الإجزاء
هو أحد القولين.
فرع: قال سند: إذا قلنا يجزيه فالهدي على
المستأجر لأنه تعمد سبب ذلك كدم الجزاء
والفدية وله جميع الأجرة ولا يزاد فيها
لزيادته نسكا وإن قلنا لا يجزيه فلا شيء عليه
من الأجرة ويقع ذلك نافلة للمستأجر انتهى.
والمستأجر بفتح الجيم في الموضعين والله أعلم.
ص: "وإلا فلا". ش: أي وإن اشترط الميت فلا
يجزئه وشمل كلامه الصورتين المتقدمتين وهما أن
يخالف الإفراد إلى التمتع أو إلى القران قال
ابن عبد السلام: والحاصل أنه إذا خالف شرط
الميت لم يجزئه وتنفسخ الإجارة إذا خالفه إلى
القران وسواء كان العام معينا أو غير معين وإن
خالفه إلى تمتع لم تنفسخ وأعاد إن لم يكن
العام معينا انتهى. ونحوه في التوضيح. ص:
"كتمتع بقران أو عسكه أو هما بإفراد". ش: هذه
أربع صور نص سند على عدم الإجزاء فيها الأولى
أن يشترط عليه التمتع فيأتي بالقران الثانية
عكسها أن يشترط عليه القران فيأتي بالتمتع.
(3/537)
أو ميقاتا شرط,
__________
الثالثة أن يشترط عليه القران فيفرد الرابعة
أن يشترط عليه التمتع فيفرد وذكرها في التوضيح
إلا إذا خالف التمتع إلى الإفراد ونقلها
القرافي عن سند ونقلها عن القرافي التادلي
وظاهر كلامهم سواء كان ذلك بوصية الميت أم لا
كما هو مقتضى كلام المصنف وزاد سند فيما إذا
خالف التمتع إلى الإفراد أنه لا يجزئه أن
يعتمر بعد الحج قال لأن الشرط لا يتناوله ثم
قال فإن قيل الإفراد عندكم فوق التمتع قلنا
الأجرة متعلقة بشرط الإجارة ولا ينظر إلى غيره
ألا ترى أنه لو استؤجر على العمرة فحج لم
يجزئه وإن كان لا يختلف أن الحج أفضل من
العمرة انتهى. وقال ابن عرفة: قول القرافي:
"إن أفرد أو قرن من شرط تمتعه كمن حج عن عمرة"
لا أعرفه قلت: قد تقدم أنه نص عليه صاحب
الطراز.
تنبيه: صرح صاحب الطراز بأن من استؤجر على شيء
يخالف ما استؤجر عليه أن يقع عن نفسه وإن كان
نواه عن غيره كذا قال في شرح مسألة من أخذ
مالا ليحج به عن ميت فقرن ينوي العمرة عن نفسه
والظاهر أن أراده أنه يقع عن نفسه نافلة كما
صرح به في مسألة ما إذا خالف الإفراد إلى
التمتع وقد تقدم. ص: "أو ميقات شرط". ش: يعني
أنه إذا شرط عليه الإحرام من ميقات فأحرم من
غيره أنه لا يجزئه ويشير بذلك إلى ما قاله
صاحب الطراز ونصه ولو شرط عليه أن يحرم من ذات
عرق فمضى من طريق اليمن وأحرم من يلملم أو
قالوا له من ذي الحليفة فمر هو من ذات عرق
فظاهر المذهب أنه لا يجزئه ويرد المال في الحج
المعين إن فات انتهى. ونقله القرافي في
الذخيرة والمصنف في التوضيح ويدخل في كلام
المصنف أيضا ما إذا شرطوا عليه الإحرام من
الميقات فتعداه وأحرم بعد مجاوزته وقد ذكر في
الطراز عن مالك في الموازية أنه قال عليه أن
يبدل لهم الحجة بتعديه وخرج فيه قولا بالإجزاء
من مسألة من اعتمر عن نفسه ثم حج عن الميت من
مكة وقال إذا شرط عليه أن يحرم من الميقات فإن
أحرم قبله فلا شيء عليه لأنه زاد وإن جاوز
الميقات ثم رجع فأحرم منه فلا شيء عليه وإن
أحرم بعد ما جاوزه فهل يجزئه ذلك يختلف فيه
على ما مر شرحه انتهى.
تنبيه: انظر مفهوم قول المصنف شرط فإنه يقتضي
أنه لو لم يشترط عليه ميقات معين ولكن قلنا
يتعين ميقات الميت فخالفه أو تعداه أنه يجزئه
وكلام صاحب الطراز يقتضي أن في الإجزاء خلافا
وكذلك ظاهر كلام المصنف في التوضيح في شرح
مسألة من اعتمر عن نفسه ثم حج عن الميت من مكة
لكن الجاري على الراجح في المسألة المذكورة
أنه لا يجزئه وأن الإجزاء إنما يتأتى على
القول المرجوح في المسألة المذكورة فتأمله وقد
تقدم من كلام صاحب
(3/538)
وفسخت إن عين
العام أو عدم :
__________
الطراز في هذا المعنى شيء عند قول المصنف ولا
يجوز اشتراط كهدي تمتع عليه. ص: "وفسخت إن عين
العام وعدم". ش: يعني أن الإجارة تنفسخ إذا
كان العام الذي استؤجر على أن يحج فيه معينا
مثل أن يستأجر على أن يحج في عام كذا وكذا
وعدم الحج فيه بأن لم يحج الأجير فيه أو فاته
الحج بأحد أوجه الفوات أو أتى به على وجه لا
يجزئه كما إذا أفسده وكما في التي لا يجزئ
فيها فعل الأجير أما إذا ترك الأجير الحجمن
غير عذر وكان العام معينا فقد صرح في الطراز
بأن الورثة يخيرون في فسخ الإجارة والصبر إلى
عام آخر كمن أسلم في الشيء إلى إبان معلوم
ففات الإبان فإن المبتاع يخير في الفسخ والصبر
إلى إبان آخر قال وكذا إذا كانت الإجارة
مضمومة خير الورثة لما وقع من الجناية فإنه
خرج هذه المسألة على مسألة ما إذا أفسد الأجير
الحج وقال فيما إذا أفسد الأجير الحج إنه يجب
عليه إتمام الفاسد ويقضيه من ماله ويهدي ثم
يحج عن الميت إن شاء الورثة وإن شاؤوا آجروا
غيره قاله ابن القاسم في الموازية وقاله أشهب
ثم قال قوله: لا يجزئه عن الميت متفق عليه إلا
ما يروي عن المازري وذكره حرام قال إذا تعرض
الأجير قبل أن يحزم وكان على الإنفاق فله
نفقته ذاهبا وراجعا بقدر نفقته الصحيح وما زاد
في ماله ثم رده بما يطول ثم قال وإذا لم يجز
عن الميت وجب أن يكون لفاعله وإذا ثبت ذلك فقد
أفسد حجا وجب عنه فوجب عليه قضاؤه ثم ذكر ما
تقم في توجيه تخيير الورثة فيما إذا كانت
الإجارة معينة أو مضمونة وفي سماع أبي زيد من
العتبية ما ظاهره خلاف هذا فليتأمل ثم قال في
الطراز: وللمستأجر أن يسترد النفقة ويبقى على
الإجارة حتى يقضي هذا حجه الفاسد وأما من فاته
الحج بفرض أو غيره فقد نص اللخمي على أن له من
الأجرة بحسب ما سار وتنفسخ الأجرة فيما بقي
إذا استؤجر على عام بعينه وهذا على أحد
القولين والجاري على ما اختاره ابن أبي زيد
ومشى عليه المصنف أن عليه البقاء إلى قابل كما
تقدم عند قوله: والبقاء لقابل وأما إذا فعل
الأجير ما لا يجزئ كما في هذه الصور السبع
أعني قوله: وإلا فلا كتمتع بقران إلى قوله:
ميقاتا شرط فقد نص في التوضيح على أنه إذا شرط
عليه الإفراد بوصية الميت فقرن أو تمتع أنه لا
يجزئه وتنفسخ الإجارة في العام المعين وكذلك
نص على أنه إذا خالف الميقات المشترط تنفسخ
الإجارة في العام المعين والظاهر أن حكم بقية
الصور كذلك لأن العلة في ذلك واحدة وهذا على
القول الذي ذكره اللخمي وصاحب الطراز وأما على
القول الذي اختاره
(3/539)
كغيره وقرن أو
صرفه لنفسه وأعاد إن تمتع ،
__________
ابن زيد ومشى عليه المصنف في قوله: وله البقاء
إلى قابل فالظاهر أن الجاري عليه أن الإجارة
لا تنفسخ فيكون له البقاء إلى قابل ويمكن أن
يراد بالفسخ ما ذكره صاحب الطراز فيما إذا فسد
حجه وهو أن الورثة بالخيار في الفسخ والبقاء
إلى قابل والله أعلم. ص: "كغيره أو قرن أو
صرفه لنفسه وأعاد إن تمتع". ش: لما ذكره أن
مفهوم قوله: إن عين العام أنه إذا لم يعين
العام لم تنفسخ الإجارة في جميع الصور السبع
وليس الحكم كذلك نفي ذلك بقوله كغيره يعني أو
قرن كغير المعين إذا خالف إلى القران والمعنى
أنه كما تنفسخ الإجارة إذا كان العام معينا في
الصور المذكورة كذلك تنفسخ الإجارة إذا لم يكن
معينا ولكنه خالف إلى القران وذلك في صورتين
الأولى إذا شرط عليه الإفراد بوصية الميت فقرن
الثانية إذا شرط عليه التمتع فقرن أما الأولى
فقد نص في التوضيح على أن الإجارة تنفسخ فيها
فإنه قال إذا شرط عليه الإفراد بوصية الميت
فخالفه بقران انفسخت الإجارة سواء كان العام
معينا أم لا وإن خالفه بتمتع لم تنفسخ وأعاد
إذا كان غير معين انتهى. وأما الثانية فلم أر
من صرح بذلك فيها ولكن الظاهر أن حكمها وحكم
الأولى سواء وأما قوله: أو صرفه لنفسه فمعناه
أنه إذا أحرم بالحج عن الميت ثم صرفه لنفسه
فإن الإجارة تنفسخ وظاهره سواء كان العام
معينا أم لا ولم أر من صرح به والظاهر أنه
كذلك والذي في الطراز في آخر باب النيابة إذا
أحرم الأجير عن الميت ثم بدا له فصرف إحرامه
لنفسه عن حجه عن نفسه ولا عن حج الإجارة لأنه
قصد بالعمل نفسه دون المستأجر فلا يستحق أجرة
في عمل لم يقصد به عمل الإجارة انتهى. وحمل
الشيخ بهرام كلام المصنف على من حج من نفسه
وكان العام معينا بعيد من اللفظ جدا والله
أعلم. وأما قوله: وأعاد إن تمتع فيعني به أنه
إذا خالف ما اشترط عليه إلى التمتع كان غير
معين فإن الإجارة لا تنفسخ ويعيد الحج في عام
آخر وذلك شامل لصورتين الأولى أن يشترط عليه
الإفراد بوصية الميت فيخالف إلى التمتع وقد
تقدم في كلام التوضيح أن الإجارة لا تنفسخ
وأنه يعيد إذا كان غير معين والثانية أن يشترط
عليه القران فيتمتع ولم أر من صرح فيها بذلك
والظاهر أن حكمهما سواء قال في التوضيح: وفرق
بين القارن والمتمتع بأن عداء القارن خفي لأنه
في النية فلا يؤمن عودته فلهذا لا يمكن من
الإعادة وعداء المتمتع ظاهر فلهذا مكن من
العود قال وفيه نظر لأنا لو راعينا أمر النية
لم تجز هذه الإجارة لاحتمال أن يحرم عن نفسه
ثم ذكر فرقين ضعيفين جدا.
(3/540)
وهل تنفسخ إن
اعتمر عن نفسه في المعين أو إلا أن يرجع
للميقات فيحرم عن الميت فيجزيه تأويلان .
__________
قلت: وفي كلام صاحب الطراز إشارة إلى الفرق
الذي ذكرناه ويحتمل أن يكون قوله: وفسخت راجع
إلى هذه المسائل السبع التي ذكر أن حج الأجير
فيها لا يجزئ فأراد أن يبين ما يفعل فيها من
الحكم بعد الإجزاء فذكر أنه إذا كان العام
معينا وعدم فيه الحج انفسخت الإجارة وأما إذا
كان غير معين فتنفسخ إذا خالف للقران لا
للتمتع فإن قلت: ما فائدة قوله: وعدم قلت:
لعله يشير والله أعلم. إلى أن الفسخ إنما هو
حيث فات أن يؤتي بالحج على الوجه المشترط إما
بفوات وقته أو بتلبسه أو بالإحرام على وجه لا
يخلو منه إلا بعد فوات الحج كما إذا شرط عليه
الإفراد بوصية الميت فقرن أو شرط عليه التمتع
فقرن أو شرط عليه القران أو التمتع فأفرد أو
خالف الميقات المشترط وأحرم من غيره فأما إذا
شرط الإفراد فأتى بعمرة في أشهر الحج ليحج
بعدها ويكون متمتعا فقيل له هذا لا يجزئه فعاد
إلى البلد الذي خرج منها وحج منها بالإفراد
فيجزئه وهذا ظاهر وكذا لو شرط عليه القران
فتمتع فتأمله وذكر ابن غازي في كلام المصنف
احتمالين آخرين واستظهر أحدهما على الآخر
وعندي أن الأمر بالعكس إذا قرن كغيره وقرن
بالواو والذي يظهر من سياق كلام ابن غازي أنه
بـ "أو" وأنه مسألة مستقلة والله أعلم. ص:
"وهل يفسخ إن اعتمر لنفسه في المعين أو إلا أن
يرجع للميقات فيحرم عن الميت فيجزئه تأويلان".
ش: لما ذكر حكم ما إذا شرط عليه الإفراد فتمتع
وجعل جميع ذلك عن الميت ذكر هنا حكم ما إذا
اعتمر عن نفسه ثم حج عن الميت وسواء كانت
عمرته عن نفسه في أشهر الحج أو في غيرها فإن
المسألة مفروضة في المدونة وفي سماع ابن
القاسم وفي كلام الأصحاب فيمن أخذ مالا يحج به
عن ميت من بعض الآفاق فاعتمر عن نفسه ثم حج عن
الميت من مكة فقال في المدونة لم يجزه عن
الميت وعليه أن يحج حجة أخرى كما استؤجر
واختلف الشراح في تأويلها فذكر المصنف في ذلك
تأويلين أحدهما أن ذلك لا يجزئه سواء أحرم
بالحج من مكة أو رجع إلى الميقات فأحرم منه
وأرى أنه لا يجزئه إلا أن يحج عن الميت من
الموضع الذي استؤجر منه وهذا تأويل بعض شيوخ
ابن يونس والثاني أنه إذا رجع إلى الميقات
وأحرم منه بالحج عن الميت أجزأه
(3/541)
__________
وهذا تأويل ابن يونس وارتضاه صاحب الطراز وأبو
إسحاق فتحصل من هذا أنه إذا رجع إلى الموضع
الذي استؤجر منه أجزأه على كلا التأويلين بل
لا خلاف في ذلك كما يفهم من كلام صاحب الطراز
وإن أحرم من مكة لم يجزه على كلا التأويلين بل
لا خلاف قول آخر أنه يجزئه إلا أن يشترطوا
عليه أن يحرم من الميقات قال في التوضيح:
واستبعده صاحب البيان وإن رجع إلى الميقات فهو
محل التأويلين.
تنبيه: إذا قلنا يجزئه وكانت العمرة في أشهر
الحج فالصحيح أنه متمتع كما سيأتي عند قول
المصنف وفي شرط كونها عن واحد تردد قال صاحب
الطراز ودم المتعة عليه من ماله لأنه تعمد ذلك
قال وظاهر المذهب أنه لا يرجع عليه بشيء يعني
لما أدخل في ذلك من نقص التمتع وكأنه يشير إلى
ما ذكره في التوضيح عن التونسي أنه لو قيل
يرجع عليه بمقدار ما نقص ما بعد وإن قلنا لا
يجزئه فتنفسخ الإجارة في العام المعين ولا
تنفسخ في غير المعين وعليه أن يأتي بحجة أخرى
قاله في التوضيح وابن عبد السلام وسند وغيرهم
وإلى هذا أشار بقوله في المعين فإن مفهومه أنه
إذا كان العام غير معين لا تنفسخ الإجارة وإن
قلنا لا يجزئه بل يعيد ذلك في سنة أخرى وقاله
في التوضيح وأصله في المدونة.
قلت: فينبغي لمن أخذ مالا يحج به عن ميت من
بعض الآفاق أن لا يأتي إلى مكة إلا في أشهر
الحج فإن جاء قبل أشهر الحج فالأولى أن يحرم
بعمرة عن الميت ثم يرجع إلى الميقات فيحرم عن
الميت بالحج والله أعلم. فرع: وأما لو قرن
ينوي العمرة عن نفسه ويحج عن الميت فقال ابن
عبد السلام والمنصوص عدم الإجزاء واختلف هل
يمكن من الإعادة أو تنفسخ الإجارة انتهى.
ونقله ابن فرحون.
قلت: والظاهر أن هذا الخلاف فيما إذا لم يكن
العام معينا وأما في العام المعين فتنفسخ
والجاري على العلة المتقدمة يعني قولهم إن
عداء القارن خفي الفسخ مطلقا ومن كلام صاحب
الطراز ما يدل لذلك فتأمله والله أعلم.
فرع: قال سند: فلو استأذنهم في القران بالعمرة
لنفسه فأذنوا له لم يصرفه شيء لأنه وفاهم بما
عاهدهم عليه وهل يصح ذلك فالظاهر أنه لا يصح
لأنه اشتراك في طواف واحد وسعي واحد وذلك غير
جائز وقال أشهب في مدونته في رجل حج عن رجل
واعتمر عن آخر وقد أمره بذلك: إن دم القران
على المعتمر فرأى أن الشرع لما صحح إحرام
العمرة وإردافه على الحج فقد تحقق الإحرامان
حال الاجتماع كما يتحققان حال الانفراد فإذا
جازت الإجارة على كل منهما منفردا جازت عليه
مجتمعا انتهى. وإذا استأذنهم في التمتع بعمرة
له فلا إشكال في صحة ذلك والله أعلم.
(تم الجزء الثالث ويليه الجزء الرابع أوله:
"ومنع استنابة صحيح في فرض الخ").
(3/542)
|