المغني لابن قدامة

 [بَابُ صَدَقَةِ الْغَنَمِ]
ِ وَهِيَ وَاجِبَةٌ بِالسُّنَّةِ، وَالْإِجْمَاعِ؛ أَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رَوَى أَنَسٌ، فِي كِتَابِ أَبِي بَكْرٍ، الَّذِي ذَكَرْنَا أَوَّلَهُ، قَالَ: «وَفِي صَدَقَةِ الْغَنَمِ فِي سَائِمَتِهَا، إذَا كَانَتْ أَرْبَعِينَ إلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ، شَاةٌ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ إلَى مِائَتَيْنِ، فَفِيهَا شَاتَانِ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى مِائَتَيْنِ إلَى ثَلَاثِمِائَةٍ، فَفِيهَا ثَلَاثُ شِيَاهٍ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى ثَلَاثِمِائَةٍ، فَفِي كُلِّ مِائَةٍ شَاةٌ، وَإِذَا كَانَتْ سَائِمَةُ الرَّجُلِ نَاقِصَةً مِنْ أَرْبَعِينَ شَاةً وَاحِدَةً، فَلَيْسَ فِيهَا صَدَقَةٌ إلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبُّهَا، وَلَا يُخْرِجُ فِي الصَّدَقَةِ هَرِمَةً، وَلَا ذَاتَ عَوَارٍ، وَلَا تَيْسًا، إلَّا مَا شَاءَ الْمُصَدِّقُ» .
وَاخْتَارَ سِوَى هَذَا كَثِيرٌ، وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهَا. (1714) مَسْأَلَةٌ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ: (وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ أَرْبَعِينَ مِنْ الْغَنَمِ سَائِمَةٍ صَدَقَةٌ، فَإِذَا مَلَكَ أَرْبَعِينَ مِنْ الْغَنَمِ، فَأَسَامَهَا أَكْثَرَ السَّنَةِ، فَفِيهَا شَاةٌ، إلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ، فَإِذَا زَادَتْ وَاحِدَةً، فَفِيهَا شَاتَانِ إلَى مِائَتَيْنِ، فَإِذَا زَادَتْ وَاحِدَةً، فَفِيهَا ثَلَاثُ شِيَاهٍ) وَهَذَا كُلُّهُ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ. قَالَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ: إلَّا الْمَعْلُوفَةَ فِي أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ الْحَوْلِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْخِلَافِ فِيهِ. وَحُكِيَ عَنْ مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ الْفَرْضَ لَا يَتَغَيَّرُ بَعْدَ الْمِائَةِ وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ، حَتَّى تَبْلُغَ مِائَتَيْنِ وَاثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ، لِيَكُونَ مِثْلَيْ مِائَةٍ وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ. وَلَا يَثْبُتُ عَنْهُ.
وَرَوَى سَعِيدٌ، عَنْ خَالِدِ، بْنِ مُغِيرَةَ، عَنْ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مُعَاذٍ، قَالَ: كَانَ إذَا بَلَغَتْ الشِّيَاهُ مِائَتَيْنِ لَمْ يُغَيِّرْهَا، حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ، فَيَأْخُذَ مِنْهَا ثَلَاثَ شِيَاهٍ، فَإِذَا بَلَغَتْ ثَلَاثَمِائَةٍ، لَمْ يُغَيِّرْهَا، حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعِينَ وَثَلَاثَمِائَةٍ، فَيَأْخُذَ مِنْهَا أَرْبَعًا. وَلَفْظُ الْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ دَلِيلٌ عَلَيْهِ، وَالْإِجْمَاعُ عَلَى خِلَافِ هَذَا الْقَوْلِ دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِهِ، وَالشَّعْبِيُّ لَمْ يَلْقَ مُعَاذًا. (1715) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (فَإِذَا زَادَتْ فَفِي كُلِّ مِائَةِ شَاةٍ شَاةٌ) ظَاهِرُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الْفَرْضَ لَا يَتَغَيَّرُ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ وَوَاحِدَةٍ، حَتَّى يَبْلُغَ أَرْبَعَمِائَةٍ، فَيَجِبُ فِي كُلِّ مِائَةٍ شَاةٌ، وَيَكُونُ الْوَقْصُ مَا بَيْنَ الْمِائَتَيْنِ وَوَاحِدَةٍ إلَى أَرْبَعِمِائَةٍ، وَذَلِكَ مِائَةٌ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ. وَهَذَا إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، وَقَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ.
وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهَا إذَا زَادَتْ عَلَى ثَلَاثِمِائَةٍ وَوَاحِدَةٍ، فَفِيهَا أَرْبَعُ شِيَاهٍ، ثُمَّ لَا يَتَغَيَّرُ الْفَرْضُ حَتَّى تَبْلُغَ خَمْسَمِائَةٍ، فَيَكُونُ فِي كُلِّ مِائَةٍ شَاةٌ، وَيَكُونُ الْوَقْصُ الْكَبِيرُ بَيْنَ ثَلَاثِمِائَةٍ وَوَاحِدَةٍ إلَى خَمْسِمِائَةٍ، وَهُوَ أَيْضًا مِائَةٌ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ، وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ. وَحُكِيَ عَنْ النَّخَعِيِّ، وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَعَلَ الثَّلَاثَمِائَةِ حَدًّا لِلْوَقْصِ، وَغَايَةً لَهُ، فَيَجِبُ أَنْ يَتَعَقَّبَهُ تَغَيُّرُ النِّصَابِ، كَالْمِائَتَيْنِ.
وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَإِذَا زَادَتْ، فَفِي كُلِّ مِائَةٍ شَاةٌ» . وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يَجِبَ فِي دُونِ الْمِائَةِ شَيْءٌ، وَفِي كِتَابِ الصَّدَقَاتِ الَّذِي كَانَ عِنْدَ الْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: " فَإِذَا زَادَتْ عَلَى ثَلَاثِمِائَةِ

(2/447)


وَوَاحِدَةٍ، فَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ، حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعَمِائَةِ شَاةٍ، فَفِيهَا أَرْبَعُ شِيَاهٍ ". وَهَذَا نَصٌّ لَا يَجُوزُ خِلَافُهُ إلَّا بِمِثْلِهِ أَوْ أَقْوَى مِنْهُ، وَتَحْدِيدُ النِّصَابِ لِاسْتِقْرَارِ الْفَرِيضَةِ، لَا لِلْغَايَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

[مَسْأَلَةُ لَا يُؤْخَذُ فِي الصَّدَقَةِ تَيْسٌ وَلَا هَرِمَةٌ وَلَا ذَاتُ عَوَارٍ]
(1716) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا يُؤْخَذُ فِي الصَّدَقَةِ تَيْسٌ، وَلَا هَرِمَةٌ، وَلَا ذَاتُ عَوَارٍ) ذَاتُ الْعَوَارِ: الْمَعِيبَةُ. وَهَذِهِ الثَّلَاثُ لَا تُؤْخَذُ لِدَنَاءَتِهَا، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267] . وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَلَا يُخْرَجُ فِي الصَّدَقَةِ هَرِمَةٌ، وَلَا ذَاتُ عَوَارٍ، وَلَا تَيْسٌ، إلَّا مَا شَاءَ الْمُصَدِّقُ» . وَقَدْ قِيلَ: لَا يُؤْخَذُ تَيْسُ الْغَنَمِ، وَهُوَ فَحْلُهَا لِفَضِيلَتِهِ.
وَكَانَ أَبُو عُبَيْدٍ يَرْوِي الْحَدِيثَ: " إلَّا مَا شَاءَ الْمُصَدَّقُ ". بِفَتْحِ الدَّالِ. يَعْنِي صَاحِبَ الْمَالِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْحَدِيثِ رَاجِعًا إلَى التَّيْسِ وَحْدَهُ. وَذَكَرَ الْخَطَّابِيُّ أَنَّ جَمِيعَ الرُّوَاةِ يُخَالِفُونَهُ فِي هَذَا، فَيَرْوُونَهُ: " الْمُصَدِّقُ " بِكَسْرِ الدَّالِ، أَيْ الْعَامِلُ. وَقَالَ: التَّيْسُ لَا يُؤْخَذُ؛ لِنَقْصِهِ، وَفَسَادِ لَحْمِهِ، وَكَوْنِهِ ذَكَرًا، وَعَلَى هَذَا لَا يَأْخُذُ الْمُصَدِّقُ، وَهُوَ السَّاعِي، أَحَدَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، إلَّا أَنْ يَرَى ذَلِكَ، بِأَنْ يَكُونَ جَمِيعُ النِّصَابِ مِنْ جِنْسِهِ فَيَكُونَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ جِنْسِ الْمَالِ فَيَأْخُذَ هَرِمَةً، وَهِيَ الْكَبِيرَةُ مِنْ الْهَرِمَاتِ، وَذَاتَ عَوَارٍ مِنْ أَمْثَالِهَا، وَتَيْسًا مِنْ التُّيُوسِ.
وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ إنَّ رَأَى الْمُصَدِّقُ أَنَّ أَخْذَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ خَيْرٌ لَهُ، وَأَنْفَعُ لِلْفُقَرَاءِ، فَلَهُ أَخْذُهُ؛ لِظَاهِرِ الِاسْتِثْنَاءِ. وَلَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَخْذُ الذَّكَرِ فِي شَيْءٍ مِنْ الزَّكَاةِ، إذَا كَانَ فِي النِّصَابِ إنَاثٌ، فِي غَيْرِ أَتْبِعَةِ الْبَقَرِ وَابْنِ اللَّبُونِ، بَدَلًا عَنْ بِنْتِ مَخَاضٍ إذَا عَدِمَهَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ إخْرَاجُ الذَّكَرِ مِنْ الْغَنَمِ الْإِنَاثِ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ» . وَلَفْظُ الشَّاةِ يَقَعُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَلِأَنَّ الشَّاةَ إذَا أُمِرَ بِهَا مُطْلَقًا، أَجْزَأَ فِيهَا الذَّكَرُ، كَالْأُضْحِيَّةِ وَالْهَدْيِ.
وَلَنَا، أَنَّهُ حَيَوَانٌ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي عَيْنِهِ، فَكَانَتْ الْأُنُوثَةُ مُعْتَبَرَةً فِي فَرْضِهِ، كَالْإِبِلِ، وَالْمُطْلَقُ يَتَقَيَّدُ بِالْقِيَاسِ عَلَى سَائِرِ النُّصُبِ، وَالْأُضْحِيَّةُ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ بِالْمَالِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا. فَإِنْ قِيلَ: فَمَا فَائِدَةُ تَخْصِيصِ التَّيْسِ بِالنَّهْيِ إذَا؟ قُلْنَا: لِأَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ عَنْ الذُّكُورِ أَيْضًا، فَلَوْ مَلَكَ أَرْبَعِينَ ذَكَرًا وَفِيهَا تَيْسٌ مُعَدٌّ لِلضِّرَابِ، لَمْ يَجُزْ أَخْذُهُ؛ إمَّا لِفَضِيلَتِهِ، فَإِنَّهُ لَا يُعَدُّ لِلضِّرَابِ إلَّا أَفْضَلُ الْغَنَمِ وَأَعْظَمُهَا، وَإِمَّا لِدَنَاءَتِهِ وَفَسَادِ لَحْمِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُمْنَعَ مِنْ أَخْذِهِ لِلْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا. وَإِنْ كَانَ النِّصَابُ كُلُّهُ ذُكُورًا، جَازَ إخْرَاجُ الذَّكَرِ فِي الْغَنَمِ وَجْهًا وَاحِدًا، وَفِي الْبَقَرِ فِي أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ، وَفِي الْإِبِلِ وَجْهَانِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ النُّصُبِ الثَّلَاثَةِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَصَّ عَلَى الْأُنْثَى فِي فَرَائِضِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ، وَأَطْلَقَ الشَّاةَ الْوَاجِبَةَ، وَقَالَ فِي الْإِبِلِ «مَنْ لَمْ يَجِدْ بِنْتَ مَخَاضٍ، أَخْرَجَ ابْنَ لَبُونٍ ذَكَرًا» . وَمِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى أَنَّ الْإِبِلَ يَتَغَيَّرُ فَرْضُهَا بِزِيَادَةِ السِّنِّ، فَإِذَا جَوَّزْنَا إخْرَاجَ الذَّكَرِ أَفْضَى إلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْفَرِيضَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ يُخْرِجُ ابْنَ لَبُونٍ عَنْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ، وَيُخْرِجُهُ عَنْ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ، وَهَذَا الْمَعْنَى يَخْتَصُّ الْإِبِلَ.
فَإِنْ قِيلَ: فَالْبَقَرُ أَيْضًا يَأْخُذُ مِنْهَا تَبِيعًا عَنْ ثَلَاثِينَ، وَتَبِيعًا عَنْ أَرْبَعِينَ إذَا كَانَتْ أَتْبِعَةً كُلُّهَا، وَقُلْنَا: تُؤْخَذُ الصَّغِيرَةُ

(2/448)


عَنْ الصِّغَارِ. قُلْنَا: هَذَا يَلْزَمُ مِثْلُهُ فِي إخْرَاجِ الْأُنْثَى، فَلَا فَرْقَ، وَمِنْ جَوَّزَ إخْرَاجَ الذَّكَرِ فِي الْكُلِّ، قَالَ: يَأْخُذُ ابْنَ لَبُونٍ مِنْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ، قِيمَتُهُ دُونَ قِيمَةِ ابْنِ لَبُونٍ يَأْخُذُهُ مِنْ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ، وَيَكُونُ بَيْنَهُمَا فِي الْقِيمَةِ كَمَا بَيْنَهُمَا فِي الْعَدَدِ، وَيَكُونُ الْفَرْضُ بِصِفَةِ الْمَالِ، وَإِذَا اعْتَبَرْنَا الْقِيمَةَ لَمْ يُؤَدِّ إلَى التَّسْوِيَةِ، كَمَا قُلْنَا فِي الْغَنَمِ.

[فَصْلُ إخْرَاج الْمَعِيبَة عَنْ الصِّحَاح فِي صَدَقَة الشياه]
(1717) فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ إخْرَاجُ الْمَعِيبَةِ عَنْ الصِّحَاحِ، وَإِنْ كَثُرَتْ قِيمَتُهَا؛ لِلنَّهْيِ عَنْ أَخْذِهَا، وَلِمَا فِيهِ مِنْ الْإِضْرَارِ بِالْفُقَرَاءِ، وَلِهَذَا يَسْتَحِقُّ رَدَّهَا فِي الْبَيْعِ وَإِنْ كَثُرَتْ قِيمَتُهَا وَإِنْ كَانَ فِي النِّصَابِ صِحَاحٌ وَمِرَاضٌ، أَخْرَجَ صَحِيحَةً، قِيمَتُهَا عَلَى قَدْرِ قِيمَةِ الْمَالَيْنِ، فَإِنْ كَانَ النِّصَابُ كُلُّهُ مِرَاضًا إلَّا مِقْدَارَ الْفَرْضِ، فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ إخْرَاجِهِ، وَبَيْنَ شِرَاءِ مَرِيضَةٍ قَلِيلَةِ الْقِيمَةِ فَيُخْرِجُهَا، وَلَوْ كَانَتْ الصَّحِيحَةُ غَيْرَ الْفَرِيضَةِ بِعَدَدِ الْفَرِيضَةِ، مِثْلُ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ ابْنَتَا لَبُونٍ، وَعِنْدَهُ حِوَارَانِ صَحِيحَانِ، كَانَ عَلَيْهِ شِرَاءُ صَحِيحَتَيْنِ، فَيُخْرِجُهُمَا.
وَإِنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ حِقَّتَانِ وَعِنْدَهُ ابْنَتَا لَبُونٍ صَحِيحَتَانِ، خُيِّرَ بَيْنَ إخْرَاجِهِمَا مَعَ الْجُبْرَانِ، وَبَيْنَ شِرَاءِ حِقَّتَيْنِ صَحِيحَتَيْنِ عَلَى قَدْرِ قِيمَةِ الْمَالِ. وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ جَذَعَتَانِ صَحِيحَتَانِ، فَلَهُ إخْرَاجُهُمَا مَعَ أَخْذِ الْجُبْرَانِ. وَإِنْ كَانَتْ عَلَيْهِ حِقَّتَانِ وَنِصْفُ مَالِهِ صَحِيحٌ وَنِصْفُهُ مَرِيضٌ فَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ لَهُ إخْرَاجُ حِقَّةٍ صَحِيحَةٍ، وَحِقَّةٍ مَرِيضَةٍ؛ لِأَنَّ النِّصْفَ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ إحْدَى الْحِقَّتَيْنِ مَرِيضٌ كُلُّهُ.
وَالصَّحِيحُ فِي الْمَذْهَبِ خِلَافُ هَذَا؛ لِأَنَّ فِي مَالِهِ صَحِيحًا وَمَرِيضًا، فَلَمْ يَمْلِكْ إخْرَاجَ مَرِيضَةٍ، كَمَا لَوْ كَانَ نِصَابًا وَاحِدًا، وَلَمْ يَتَعَيَّنْ النِّصْفُ الَّذِي وَجَبَتْ فِيهِ الْحِقَّةُ فِي الْمِرَاضِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ لِشَرِيكَيْنِ، لَمْ يَتَعَيَّنْ حَقُّ أَحَدِهِمَا فِي الْمِرَاضِ دُونَ الْآخَرِ. وَإِنْ كَانَ النِّصَابُ مِرَاضًا كُلُّهُ، فَالصَّحِيحُ فِي الْمَذْهَبِ جَوَازُ إخْرَاجِ الْفَرْضِ مِنْهُ، وَيَكُونُ وَسَطًا فِي الْقِيمَةِ، وَلَا اعْتِبَارَ بِقِلَّةِ الْعَيْبِ وَكَثْرَتِهِ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ تَأْتِي عَلَى ذَلِكَ.
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَقَالَ مَالِكٌ إنْ كَانَتْ كُلُّهَا جَرْبَاءَ أَخْرَجَ جَرْبَاءَ، وَإِنْ كَانَتْ كُلُّهَا هَتْمَاءَ كُلِّفَ شِرَاءَ صَحِيحَةٍ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لَا تُجْزِئُ إلَّا صَحِيحَةٌ لِأَنَّ أَحْمَدَ قَالَ: لَا يُؤْخَذُ إلَّا مَا يَجُوزُ فِي الْأَضَاحِيِّ، وَلِلنَّهْيِ عَنْ أَخْذِ ذَاتِ الْعَوَارِ، فَعَلَى هَذَا يُكَلَّفُ شِرَاءَ صَحِيحَةٍ بِقَدْرِ قِيمَةِ الْمَرِيضَةِ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ» وَقَالَ «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَسْأَلْكُمْ خَيْرَهُ، وَلَمْ يَأْمُرْكُمْ بِشَرِّهِ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَلِأَنَّ مَبْنَى الزَّكَاةِ عَلَى الْمُوَاسَاةِ، وَتَكْلِيفُ الصَّحِيحَةِ عَنْ الْمِرَاضِ إخْلَالٌ بِالْمُوَاسَاةِ، وَلِهَذَا يَأْخُذُ مِنْ الرَّدِيءِ مِنْ الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ مِنْ جِنْسِهِ، وَيَأْخُذُ مِنْ اللِّئَامِ وَالْهُزَالِ مِنْ الْمَوَاشِي مِنْ جِنْسِهِ، كَذَا هَاهُنَا.

(2/449)


وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِي الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ إخْرَاجِ الْمَعِيبَةِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، أَوْ نَحْمِلُهُ عَلَى مَا إذَا كَانَ فِيهِ صَحِيحٌ، فَإِنَّ الْغَالِبَ الصِّحَّةُ، وَإِنْ كَانَ جَمِيعُ النِّصَابِ مَرِيضًا إلَّا بَعْضَ الْفَرِيضَةِ، أَخْرَجَ الصَّحِيحَةَ، وَتَمَّمَ الْفَرِيضَةَ مِنْ الْمِرَاضِ عَلَى قَدْرِ الْمَالِ، وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، وَالْحُكْمُ فِي الْهَرِمَةِ كَالْحُكْمِ فِي الْمَعِيبَةِ سَوَاءٌ.

[مَسْأَلَة مَا يُجْزِئ فِي الصَّدَقَة]
(1718) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا الرُّبَى، وَلَا الْمَاخِضُ، وَلَا الْأَكُولَةُ) قَالَ أَحْمَدُ: الرُّبَى الَّتِي قَدْ وَضَعَتْ وَهِيَ تُرَبِّي وَلَدَهَا. يَعْنِي قَرِيبَةَ الْعَهْدِ بِالْوِلَادَةِ. تَقُولُ الْعَرَبُ: فِي رُبَابِهَا. كَمَا تَقُولُ: فِي نِفَاسِهَا. قَالَ الشَّاعِرُ:
حُنَيْنَ أُمِّ الْبَوِّ فِي رُبَابِهَا
قَالَ أَحْمَدُ: وَالْمَاخِضُ الَّتِي قَدْ حَانَ وِلَادُهَا، فَإِنْ كَانَ فِي بَطْنِهَا وَلَدٌ لَمْ يَحِنْ وِلَادُهَا، فَهِيَ خِلْفَةٌ وَهَذِهِ الثَّلَاثُ لَا تُؤْخَذُ لِحَقِّ رَبِّ الْمَالِ. قَالَ عُمَرُ لِسَاعِيهِ: لَا تَأْخُذْ الرُّبَى وَلَا الْمَاخِضَ، وَلَا الْأَكُولَةَ، وَلَا فَحْلَ الْغَنَمِ. وَإِنْ تَطَوَّعَ رَبُّ الْمَالِ بِإِخْرَاجِهَا جَازَ أَخْذُهَا، وَلَهُ ثَوَابُ الْفَضْلِ، عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، وَأَنَّهُ مُنِعَ مِنْ أَخْذِ الرَّدِيءِ مِنْ أَجْلِ الْفُقَرَاءِ، وَمِنْ أَخْذِ كَرَائِمِ الْأَمْوَالِ مِنْ أَجْلِ أَرْبَابِهِ، ثَبَتَ أَنَّ الْحَقَّ فِي الْوَسَطِ مِنْ الْمَالِ. قَالَ الزُّهْرِيُّ إذَا جَاءَ الْمُصَدِّقُ قَسَّمَ الشِّيَاهَ أَثْلَاثًا: ثُلُثٌ خِيَارٌ، وَثُلُثٌ أَوْسَاطٌ وَثُلُثٌ شِرَارٌ، وَأَخَذَ الْمُصَدِّقُ مِنْ الْوَسَطِ. وَرُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَقَالَهُ إمَامُنَا، وَذَهَبَ إلَيْهِ. وَالْأَحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَى هَذَا، فَرَوَى أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ، بِإِسْنَادِهِمَا عَنْ سَعْدِ بْنِ دُلَيْمٍ، «قَالَ: كُنْت فِي غَنَمٍ لِي، فَجَاءَنِي رَجُلَانِ عَلَى بَعِيرٍ، فَقَالَا: إنَّا رَسُولَا رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَيْكَ؛ لِتُؤَدِّيَ إلَيْنَا صَدَقَةَ غَنَمِك، قُلْت: وَمَا عَلَيَّ فِيهَا؟ قَالَا: شَاةٌ. فَعَمَدَ إلَى شَاةٍ قَدْ عَرَفَ مَكَانَهَا مُمْتَلِئَةً مَخْضًا وَشَحْمًا، فَأَخْرَجَهَا إلَيْهِمَا. فَقَالَا: هَذِهِ شَافِعٌ، وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نَأْخُذَ شَاةً شَافِعًا» .
وَالشَّافِعُ: الْحَامِلُ؛ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ وَلَدَهَا قَدْ شَفَعَهَا، وَالْمَخْضُ: اللَّبَنُ. «وَقَالَ سُوَيْد بْنُ غَفَلَةَ: سِرْت، أَوْ أَخْبَرَنِي مَنْ سَارَ، مَعَ مُصَدِّقِ رَسُولِ اللَّهِ فَإِذَا فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ لَا نَأْخُذَ مِنْ رَاضِعِ لَبَنٍ. قَالَ: فَكَانَ يَأْتِي الْمِيَاهَ حِينَ تَرِدُ الْغَنَمُ فَيَقُولُ: أَدُّوا صَدَقَاتِ أَمْوَالِكُمْ. قَالَ: فَعَمَدَ رَجُلٌ مِنْهُمْ إلَى نَاقَةٍ كَوْمَاءَ، وَهِيَ الْعَظِيمَةُ

(2/450)


السَّنَامِ، فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ.
وَرَوَى أَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادِهِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «ثَلَاثٌ مَنْ فَعَلَهُنَّ فَقَدْ طَعِمَ طَعْمَ الْإِيمَانِ: مَنْ عَبَدَ اللَّهَ وَحْدَهُ، وَأَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ، وَأَعْطَى زَكَاةَ مَالِهِ طَيِّبَةً بِهَا نَفْسُهُ، رَافِدَةً عَلَيْهِ كُلَّ عَامٍ، وَلَمْ يُعْطِ الْهَرِمَةَ، وَلَا الدَّرِنَةَ، وَلَا الْمَرِيضَةَ، وَلَا الشَّرَطَ اللَّئِيمَةَ، وَلَكِنْ مِنْ وَسَطِ أَمْوَالِكُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَسْأَلْكُمْ خَيْرَهُ، وَلَمْ يَأْمُرْكُمْ بِشَرِّهِ.» رَافِدَةً: يَعْنِي مَعِيبَةً، وَالدَّرِنَةُ: الْجَرْبَاءُ، وَالشَّرَطُ: رَذَالَةُ الْمَالِ.

[مَسْأَلَة لَا زَكَاةَ فِي السِّخَالِ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ]
(1719) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَتُعَدُّ عَلَيْهِمْ السَّخْلَةُ، وَلَا تُؤْخَذُ مِنْهُمْ) السَّخْلَةُ، بِفَتْحِ السِّينِ وَكَسْرِهَا: الصَّغِيرَةُ مِنْ أَوْلَادِ الْمَعْزِ. وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ مَتَى كَانَ عِنْدَهُ نِصَابٌ كَامِلٌ فَنُتِجَتْ مِنْهُ سِخَالٌ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ، وَجَبَتْ الزَّكَاةُ فِي الْجَمِيعِ عِنْدَ تَمَامِ حَوْلِ الْأُمَّهَاتِ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَحُكِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَالنَّخَعِيِّ لَا زَكَاةَ فِي السِّخَالِ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ.
وَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ.» وَلَنَا، مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ لِسَاعِيهِ: اعْتَدَّ عَلَيْهِمْ بِالسَّخْلَةِ، يَرُوحُ بِهَا الرَّاعِي عَلَى يَدَيْهِ، وَلَا تَأْخُذْهَا مِنْهُمْ. وَهُوَ مَذْهَبُ عَلِيٍّ، وَلَا نَعْرِفُ لَهُمَا فِي عَصْرِهِمَا مُخَالِفًا، فَكَانَ إجْمَاعًا، وَلِأَنَّهُ نَمَاءُ نِصَابٍ، فَيَجِبُ أَنْ يُضَمَّ إلَيْهِ فِي الْحَوْلِ، كَأَمْوَالِ التِّجَارَةِ، وَالْخَبَرُ مَخْصُوصٌ بِمَالِ التِّجَارَةِ، فَنَقِيسُ عَلَيْهِ. فَأَمَّا إنْ لَمْ يَكْمُلْ النِّصَابُ إلَّا بِالسِّخَالِ، اُحْتُسِبَ الْحَوْلُ مِنْ حِينِ كَمَلَ النِّصَابُ، فِي الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ.
وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّهُ يُعْتَبَرُ حَوْلُ الْجَمِيعِ مِنْ حِينِ مَلَكَ الْأُمَّهَاتِ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِحَوْلِ الْأُمَّهَاتِ دُونَ السِّخَالِ فِيمَا إذَا كَانَتْ نِصَابًا، وَكَذَلِكَ إذَا لَمْ تَكُنْ نِصَابًا. وَلَنَا، أَنَّهُ لَمْ يَحِلَّ الْحَوْلُ عَلَى نِصَابٍ، فَلَمْ تَجِبْ الزَّكَاةُ فِيهَا، كَمَا لَوْ كَمَلَتْ بِغَيْرِ سِخَالِهَا، أَوْ كَمَالِ التِّجَارَةِ، فَإِنَّهُ لَا تَخْتَلِفُ الرِّوَايَةُ فِيهِ. وَإِنْ نُتِجَتْ السِّخَالُ بَعْدَ الْحَوْلِ، ضُمَّتْ إلَى أُمَّهَاتِهَا فِي الْحَوْلِ الثَّانِي وَحْدَهُ.
وَالْحُكْمُ فِي فِصْلَانِ الْإِبِلِ، وَعُجُولِ الْبَقَرِ، كَالْحُكْمِ فِي السِّخَالِ. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ السَّخْلَةَ لَا تُؤْخَذُ فِي الزَّكَاةِ، لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ قَوْلِ عُمَرَ، وَلِمَا سَنَذْكُرُهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي تَلِي هَذِهِ، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا، إلَّا أَنْ يَكُونَ النِّصَابُ كُلُّهُ صِغَارًا، فَيَجُوزُ أَخْذُ الصَّغِيرَةِ فِي الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ، وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ، بِأَنْ يُبَدِّلَ كِبَارًا بِصِغَارِ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ، أَوْ يَكُونَ عِنْدَهُ نِصَابٌ مِنْ الْكِبَارِ، فَتَوَالَدَ نِصَابٌ

(2/451)


مِنْ الصِّغَارِ، ثُمَّ تَمُوتُ الْأُمَّهَاتُ، وَيَحُولُ الْحَوْلُ عَلَى الصِّغَارِ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لَا يُؤْخَذُ أَيْضًا إلَّا كَبِيرَةٌ تُجْزِئُ فِي الْأُضْحِيَّةِ. وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّمَا حَقُّنَا فِي الْجَذَعَةِ» أَوْ الثَّنِيَّةِ. وَلِأَنَّ زِيَادَةَ السِّنِّ فِي الْمَالِ لَا يَزِيدُ بِهِ الْوَاجِبُ، كَذَلِكَ نُقْصَانُهُ لَا يَنْقُصُ بِهِ. وَلَنَا، قَوْلُ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَاَللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَيْهَا.
فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يُؤَدُّونَ الْعَنَاقَ، وَلِأَنَّهُ مَالٌ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ قِيمَتِهِ، فَيَجِبُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ عَيْنِهِ، كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا فِيهِ كِبَارٌ. وَأَمَّا زِيَادَةُ السِّنِّ فَلَيْسَ تَمْنَعُ الرِّفْقَ بِالْمَالِكِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، كَمَا أَنَّ مَا دُونَ النِّصَابِ عَفْوٌ، وَمَا فَوْقَهُ عَفْوٌ، وَظَاهِرُ قَوْلِ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْفِصْلَانِ وَالْعُجُولِ، كَالْحُكْمِ فِي السِّخَالِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْغَنَمِ، وَيَكُونُ التَّعْدِيلُ بِالْقِيمَةِ مَكَانَ زِيَادَةِ السِّنِّ، كَمَا قُلْنَا فِي إخْرَاجِ الذَّكَرِ مِنْ الذُّكُورِ.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَجُوزَ إخْرَاجُ الْفِصْلَانِ وَالْعُجُولِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ كَيْ لَا يُفْضِيَ إلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْفُرُوضِ، فَإِنَّهُ يُفْضِي إلَى إخْرَاجِ ابْنَةِ الْمَخَاضِ عَنْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ، وَسِتٍّ وَثَلَاثِينَ، وَسِتٍّ وَأَرْبَعِينَ، وَإِحْدَى وَسِتِّينَ، وَيُخْرِجُ ابْنَتَيْ اللَّبُونِ عَنْ سِتٍّ وَسَبْعِينَ، وَإِحْدَى وَتِسْعِينَ، وَمِائَةٍ وَعِشْرِينَ، وَيُفْضِي إلَى الِانْتِقَالِ مِنْ ابْنَةِ اللَّبُونِ الْوَاحِدَةِ مِنْ إحْدَى وَسِتِّينَ، إلَى اثْنَتَيْنِ فِي سِتٍّ وَسَبْعِينَ، مَعَ تَقَارُبِ الْوَقْصِ بَيْنَهُمَا، وَبَيْنَهُمَا فِي الْأَصْلِ أَرْبَعُونَ، وَالْخَبَرُ وَرَدَ فِي السِّخَالِ، فَيَمْتَنِعُ قِيَاسُ الْفِصْلَانِ وَالْعُجُولِ عَلَيْهِمَا؛ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْفَرْقِ.

[فَصْلُ مِلْك نَصَّابًا مِنْ الصِّغَار فِي صَدَقَة الشياه]
(1720) فَصْلٌ: وَإِنْ مَلَكَ نِصَابًا مِنْ الصِّغَارِ، انْعَقَدَ عَلَيْهِ حَوْلُ الزَّكَاةِ مِنْ حِينِ مَلَكَهُ. وَعَنْ أَحْمَدَ لَا يَنْعَقِدُ عَلَيْهِ الْحَوْلُ حَتَّى يَبْلُغَ سِنًّا يُجْزِئُ مِثْلُهُ فِي الزَّكَاةِ. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ الشَّعْبِيِّ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَيْسَ فِي السِّخَالِ زَكَاةٌ.» وَقَالَ: «لَا تَأْخُذْ مِنْ رَاضِعِ لَبَنٍ.» وَلِأَنَّ السِّنَّ مَعْنًى يَتَغَيَّرُ بِهِ الْفَرْضُ، فَكَانَ لِنُقْصَانِهِ تَأْثِيرٌ فِي الزَّكَاةِ، كَالْعَدَدِ.
وَلَنَا، أَنَّ السِّخَالَ تُعَدُّ مَعَ غَيْرِهَا، فَتُعَدُّ مُنْفَرِدَةً، كَالْأُمَّهَاتِ، وَالْخَبَرُ يَرْوِيهِ جَابِرٌ الْجُعْفِيُّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، عَنْ الشَّعْبِيِّ مُرْسَلًا، ثُمَّ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ لَا تَجِبُ فِيهَا قَبْلَ حَوْلِ الْحَوْلِ، وَالْعَدَدُ تَزِيدُ الزَّكَاةُ بِزِيَادَتِهِ، بِخِلَافِ السِّنِّ، فَإِذَا قُلْنَا بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ، فَإِذَا مَاتَتْ الْأُمَّهَاتُ إلَّا وَاحِدَةً، لَمْ يَنْقَطِعْ الْحَوْلُ، وَإِنْ مَاتَتْ كُلُّهَا، انْقَطَعَ الْحَوْلُ.

[مَسْأَلَة مَا يُجْزِئُ فِي صَدَقَةِ الْغَنَمِ]
(1721) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيُؤْخَذُ مِنْ الْمَعْزِ الثَّنِيُّ، وَمِنْ الضَّأْنِ الْجَذَعُ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ فِي صَدَقَةِ الْغَنَمِ إلَّا الْجَذَعُ مِنْ الضَّأْنِ، وَهُوَ مَا لَهُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، وَالثَّنِيُّ مِنْ الْمَعْزِ، وَهُوَ مَا لَهُ سَنَةٌ. فَإِنْ تَطَوَّعَ الْمَالِكُ بِأَفْضَلَ مِنْهُمَا فِي السِّنِّ جَازَ، فَإِنْ كَانَ الْفَرْضُ فِي النِّصَابِ أَخَذَهُ،

(2/452)


وَإِنْ كَانَ كُلُّهُ فَوْقَ الْفَرْضِ خُيِّرَ الْمَالِكُ بَيْنَ دَفْعِ وَاحِدَةٍ مِنْهُ، وَبَيْنَ شِرَاءِ الْفَرْضِ فَيُخْرِجُهُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ: لَا يُجْزِئُ إلَّا الثَّنِيَّةُ مِنْهُمَا جَمِيعًا؛ لِأَنَّهُمَا نَوْعَا جِنْسٍ، فَكَانَ الْفَرْضُ مِنْهُمَا وَاحِدًا، كَأَنْوَاعِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ. وَقَالَ مَالِكٌ تُجْزِئُ الْجَذَعَةُ مِنْهُمَا، لِذَلِكَ، وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا حَقُّنَا فِي الْجَذَعَةِ وَالثَّنِيَّةِ» .
وَلَنَا، عَلَى جَوَازِ إخْرَاجِ الْجَذَعَةِ مِنْ الضَّأْنِ مَعَ هَذَا الْخَبَرِ، «قَوْلُ سَعْدِ بْنِ دُلَيْمٍ: أَتَانِي رَجُلَانِ عَلَى بَعِيرٍ، فَقَالَا: إنَّا رَسُولَا رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَيْكَ؛ لِتُؤَدِّيَ صَدَقَةَ غَنَمِك. قُلْت: فَأَيَّ شَيْءٍ تَأْخُذَانِ؟ قَالَا: عَنَاقَ جَذَعَةٍ أَوْ ثَنِيَّةً.» أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد. وَلَنَا مَا رَوَى مَالِكٌ عَنْ سُوَيْد بْنِ غَفَلَةَ، قَالَ: «أَتَانَا مُصَدِّقُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: أُمِرْنَا أَنْ نَأْخُذَ الْجَذَعَةَ مِنْ الضَّأْنِ، وَالثَّنِيَّةَ مِنْ الْمَعْزِ» .
وَهَذَا صَرِيحٌ، وَفِيهِ بَيَانُ الْمُطْلَقِ فِي الْحَدِيثَيْنِ قَبْلَهُ، وَلِأَنَّ جَذَعَةَ الضَّأْنِ تُجْزِئُ فِي الْأُضْحِيَّةِ، بِخِلَافِ جَذَعَةِ الْمَعْزِ، بِدَلِيلِ «قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَبِي بُرْدَةَ بْنِ نِيَارٍ، فِي جَذَعَةِ الْمَعْزِ: تُجْزِئُكَ، وَلَا تُجْزِئُ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ.» قَالَ إبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ إنَّمَا أَجْزَأَ الْجَذَعُ مِنْ الضَّأْنِ، لِأَنَّهُ يُلَقِّحُ، وَالْمَعْزُ لَا يُلَقِّحُ إلَّا إذَا كَانَ ثَنِيًّا.

[مَسْأَلَة ضَمَّ أَنْوَاع الْأَجْنَاس بَعْضهَا إلَى بَعْض فِي إيجَاب الزَّكَاة]
(1722) مَسْأَلَةٌ: قَالَ (فَإِنْ كَانَتْ عِشْرِينَ ضَأْنًا، وَعِشْرِينَ مَعْزًا، أَخَذَ مِنْ أَحَدِهِمَا مَا يَكُونُ قِيمَتُهُ نِصْفَ شَاةِ ضَأْنٍ وَنِصْفَ مَعْزٍ) لَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي ضَمِّ أَنْوَاعِ الْأَجْنَاسِ بَعْضِهَا إلَى بَعْضٍ، فِي إيجَابِ الزَّكَاةِ، وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَجْمَعَ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَلَى ضَمَّ الضَّأْنِ إلَى الْمَعْزِ.
إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُ يُخْرِجُ الزَّكَاةَ مِنْ أَيِّ الْأَنْوَاعِ أَحَبَّ، سَوَاءٌ دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى ذَلِكَ، بِأَنْ يَكُونَ الْوَاجِبُ وَاحِدًا، أَوْ لَا يَكُونَ أَحَدُ النَّوْعَيْنِ مُوجِبًا لِوَاحِدٍ، أَوْ لَمْ يَدَّعِ، بِأَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ النَّوْعَيْنِ يَجِبُ فِيهِ فَرِيضَةٌ كَامِلَةٌ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَمَالِكٌ وَإِسْحَاقُ يُخْرِجُ مِنْ أَكْثَرِ الْعَدَدَيْنِ، فَإِنْ اسْتَوَيَا أَخْرَجَ مِنْ أَيِّهِمَا شَاءَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ الْقِيَاسُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مَا يَخُصُّهُ. اخْتَارَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ لِأَنَّهَا أَنْوَاعٌ تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ، فَتَجِبُ زَكَاةُ كُلِّ نَوْعٍ مِنْهُ، كَأَنْوَاعِ الثَّمَرَةِ وَالْحُبُوبِ.
وَلَنَا، أَنَّهُمَا نَوْعَا جِنْسٍ مِنْ الْمَاشِيَةِ، فَجَازَ الْإِخْرَاجُ مِنْ أَيِّهِمَا شَاءَ، كَمَا لَوْ اسْتَوَى الْعَدَدَانِ، وَكَالسِّمَانِ وَالْمَهَازِيلِ، وَمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ يُفْضِي إلَى تَشْقِيصِ الْفَرْضِ، وَقَدْ عَدَلَ إلَى غَيْرِ الْجِنْسِ فِيمَا دُونَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ مِنْ أَجْلِهِ، فَالْعُدُولُ إلَى النَّوْعِ أَوْلَى. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُ يُخْرِجُ مِنْ أَحَدِ النَّوْعَيْنِ مَا قِيمَتُهُ كَقِيمَةِ الْمُخْرَجِ مِنْ النَّوْعَيْنِ، فَإِذَا كَانَ النَّوْعَانِ

(2/453)


سَوَاءً، وَقِيمَةُ الْمُخْرَجِ مِنْ أَحَدِهِمَا اثْنَا عَشَرَ، وَقِيمَةُ الْمُخْرَجِ مِنْ الْآخَرِ خَمْسَةَ عَشَرَ، أَخْرَجَ مِنْ أَحَدِهِمَا مَا قِيمَتُهُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَنِصْفٌ، وَإِنْ كَانَ الثُّلُثُ مَعْزًا، وَالثُّلُثَانِ ضَأْنًا، أَخْرَجَ مَا قِيمَتُهُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ، وَإِنْ كَانَ الثُّلُثُ ضَأْنًا، وَالثُّلُثَانِ مَعْزًا، أَخْرَجَ مَا قِيمَتُهُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ.
وَهَكَذَا لَوْ كَانَ فِي إبِلِهِ عَشْرٌ بَخَاتِيٌّ، وَعَشْرٌ مُهْرِيَّةٌ، وَعَشْرٌ عَرَابِيَّةٌ، وَقِيمَةُ ابْنَةِ الْمَخَاضِ الْبُخْتِيَّةُ ثَلَاثُونَ، وَقِيمَةُ الْمُهْرِيَّةُ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ، وَقِيمَةُ الْعَرَابِيَّةِ اثْنَا عَشَرَ، أَخْرَجَ ابْنَةَ مَخَاضٍ قِيمَتُهَا ثُلُثُ قِيمَةِ ابْنَةِ مَخَاضٍ بُخْتِيَّةٍ، وَهُوَ عَشَرَةٌ، وَثُلُثَ قِيمَةِ مُهْرِيَّةٍ ثَمَانِيَةٌ، وَثُلُثَ قِيمَةِ عَرَابِيَّةٍ أَرْبَعَةٌ، فَصَارَ الْجَمِيعُ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ. وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِي أَنْوَاعِ الْبَقَرِ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي السِّمَانِ مَعَ الْمَهَازِيلِ، وَالْكِرَامِ مَعَ اللِّئَامِ. فَأَمَّا الصِّحَاحُ مَعَ الْمِرَاضِ، وَالذُّكُورُ مَعَ الْإِنَاثِ، وَالْكِبَارُ مَعَ الصِّغَارِ، فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ صَحِيحَةٌ كَبِيرَةٌ أُنْثَى، عَلَى قَدْرِ قِيمَةِ الْمَالَيْنِ، إلَّا أَنْ يَتَطَوَّعَ رَبُّ الْمَالِ بِالْفَضْلِ، وَقَدْ ذُكِرَ هَذَا.

[فَصْلُ أَخْرَجَ عَنْ النِّصَاب مِنْ غَيْر نَوْعه مِمَّا لَيْسَ فِي مَاله مِنْهُ شَيْء]
(1723) فَصْلٌ: فَإِنْ أَخْرَجَ عَنْ النِّصَابِ مِنْ غَيْرِ نَوْعِهِ مِمَّا لَيْسَ فِي مَالِهِ مِنْهُ شَيْءٌ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، يُجْزِئُ؛ لِأَنَّهُ أَخْرَجَ عَنْهُ مِنْ جِنْسِهِ، فَجَازَ، كَمَا لَوْ كَانَ الْمَالُ نَوْعَيْنِ، فَأَخْرَجَ مِنْ أَحَدِهِمَا عَنْهُمَا. وَالثَّانِي، لَا يُجْزِئُ؛ لِأَنَّهُ أَخْرَجَ، مِنْ غَيْرِ نَوْعِ مَالِهِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ أَخْرَجَ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ، وَفَارَقَ مَا إذَا أَخْرَجَ مِنْ أَحَدِ نَوْعَيْ مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ جَازَ فِرَارًا مِنْ تَشْقِيصِ الْفَرْضِ، وَقَدْ جَوَّزَ الشَّارِعُ الْإِخْرَاجَ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ فِي قَلِيلِ الْإِبِلِ وَشَاةِ الْجُبْرَانِ لِذَلِكَ، بِخِلَافِ مَسْأَلَتِنَا.

[مَسْأَلَة الْخُلْطَة فِي السَّائِمَة]
مَسْأَلَةٌ: قَالَ (وَإِنَّ اخْتَلَطَ جَمَاعَةٌ فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ، أَوْ ثَلَاثِينَ مِنْ الْبَقَرِ، أَوْ أَرْبَعِينَ مِنْ الْغَنَمِ، وَكَانَ مَرْعَاهُمْ وَمَسْرَحُهُمْ وَمَبِيتُهُمْ وَمُحْلَبُهُمْ وَفَحْلُهُمْ وَاحِدًا، أُخِذَتْ مِنْهُمْ الصَّدَقَةُ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الْخَلْطَةَ فِي السَّائِمَةِ تَجْعَلُ مَالَ الرَّجُلَيْنِ كَمَالِ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ فِي الزَّكَاةِ، سَوَاءٌ كَانَتْ خُلْطَةَ أَعْيَانٍ، وَهِيَ أَنْ تَكُونَ الْمَاشِيَةُ مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُمَا، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَصِيبٌ مَشَاعٌ، مِثْلُ أَنْ يَرِثَا نِصَابًا أَوْ يَشْتَرِيَاهُ، أَوْ يُوهَبَ لَهُمَا، فَيُبْقِيَاهُ بِحَالِهِ، أَوْ خُلْطَةَ أَوْصَافٍ، وَهِيَ أَنْ يَكُونَ مَالُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُمَيَّزًا، فَخَلَطَاهُ، وَاشْتَرَكَا فِي الْأَوْصَافِ الَّتِي نَذْكُرُهَا، وَسَوَاءٌ تَسَاوَيَا فِي الشَّرِكَةِ، أَوْ اخْتَلَفَا، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ لِرَجِلٍ شَاةٌ، وَلِآخَرَ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ، أَوْ يَكُونَ لِأَرْبَعِينَ رَجُلًا أَرْبَعُونَ شَاةً، لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ شَاةٌ، نَصَّ عَلَيْهِمَا أَحْمَدُ وَهَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَالشَّافِعِيِّ وَاللَّيْثِ وَإِسْحَاقَ وَقَالَ مَالِكٌ إنَّمَا تُؤَثِّرُ الْخُلْطَةُ إذَا كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الشُّرَكَاءِ نِصَابٌ. وَحُكِيَ ذَلِكَ عَنْ الثَّوْرِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا أَثَرَ لَهَا بِحَالٍ؛ لِأَنَّ مِلْكَ كُلِّ وَاحِدٍ دُونَ النِّصَابِ، فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ زَكَاةٌ، كَمَا لَوْ لَمْ يَخْتَلِطْ بِغَيْرِهِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ فِيمَا إذَا اخْتَلَطَا فِي نِصَابَيْنِ، أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَمْلِكُ أَرْبَعِينَ مِنْ الْغَنَمِ، فَوَجَبَتْ عَلَيْهِ شَاةٌ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ» .

(2/454)


وَلَنَا مَا رَوَى الْبُخَارِيُّ، فِي حَدِيثِ أَنَسٍ الَّذِي ذَكَرْنَا أَوَّلَهُ: «لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ، وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ، خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ» وَمَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ، فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ ". وَلَا يَجِيءُ التَّرَاجُعُ إلَّا عَلَى قَوْلِنَا فِي خُلْطَةِ الْأَوْصَافِ. وَقَوْلُهُ: لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ. إنَّمَا يَكُونُ هَذَا إذَا كَانَ لِجَمَاعَةٍ، فَإِنَّ الْوَاحِدَ يَضُمُّ مَالَهُ بَعْضَهُ إلَى بَعْضٍ، وَإِنْ كَانَ فِي أَمَاكِنَ، وَهَكَذَا لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ.
وَلِأَنَّ لِلْخُلْطَةِ تَأْثِيرًا فِي تَخْفِيفِ الْمُؤْنَةِ، فَجَازَ أَنْ تُؤَثِّرَ فِي الزَّكَاةِ كَالسَّوْمِ وَالسَّقْيِ، وَقِيَاسُهُمْ مَعَ مُخَالَفَةِ النَّصِّ غَيْرُ مَسْمُوعٍ. إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ خُلْطَةَ الْأَوْصَافِ يُعْتَبَرُ فِيهَا اشْتِرَاكُهُمْ فِي خَمْسَةِ أَوْصَافٍ: الْمَسْرَحُ، وَالْمَبِيتُ، وَالْمَحْلَبُ، وَالْمَشْرَبُ، وَالْفَحْلُ. قَالَ أَحْمَدُ: الْخَلِيطَانِ أَنْ يَكُونَ رَاعِيهُمَا وَاحِدًا، وَمُرَاحُهُمَا وَاحِدًا، وَشِرْبُهُمَا وَاحِدًا. وَقَدْ ذَكَرَ أَحْمَدُ فِي كَلَامِهِ شَرْطًا سَادِسًا، وَهُوَ الرَّاعِي.
قَالَ الْخِرَقِيِّ: " وَكَانَ مَرْعَاهُمْ وَمَسْرَحُهُمْ وَاحِدًا ". فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالْمَرْعَى الرَّاعِيَ، لِيَكُونَ مُوَافِقًا لِقَوْلِ أَحْمَدَ، وَلِكَوْنِ الْمَرْعَى هُوَ الْمَسْرَحُ. قَالَ ابْنُ حَامِدٍ: الْمَرْعَى وَالْمَسْرَحُ شَرْطٌ وَاحِدٌ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ أَحْمَدُ الْمَسْرَحَ لِيَكُونَ فِيهِ رَاعٍ وَاحِدٌ، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا مَا رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ، فِي " سُنَنِهِ "، بِإِسْنَادِهِ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ، وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ، خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ» وَالْخَلِيطَانِ مَا اجْتَمَعَا فِي الْحَوْضِ وَالْفَحْلِ وَالرَّاعِي " وَرُوِيَ " الْمَرْعَى ".
وَبِنَحْوٍ مِنْ هَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ مَالِكٍ: لَا يُعْتَبَرُ فِي الْخُلْطَةِ إلَّا شَرْطَانِ: الرَّاعِي، وَالْمَرْعَى؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " لَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ ". وَالِاجْتِمَاعُ يَحْصُلُ بِذَلِكَ، وَيُسَمَّى خُلْطَةً، فَاكْتُفِيَ بِهِ. وَلَنَا، قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَالْخَلِيطَانِ: مَا اجْتَمَعَا فِي الْحَوْضِ وَالرَّاعِي وَالْفَحْلِ.» فَإِنَّ قِيلَ: فَلِمَ اعْتَبَرْتُمْ زِيَادَةً عَلَى هَذَا؟ قُلْنَا: هَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى بَقِيَّةِ الشَّرَائِطِ، وَإِلْغَاءٌ لِمَا ذَكَرُوهُ، وَلِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَوْصَافِ تَأْثِيرًا. فَاعْتُبِرَ كَالْمَرْعَى.
إذَا ثَبَتَ هَذَا فَالْمَبِيتُ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ الْمُرَاحُ الَّذِي تَرُوحُ إلَيْهِ الْمَاشِيَةُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} [النحل: 6] . وَالْمَسْرَحُ وَالْمَرْعَى وَاحِدٌ، وَهُوَ الَّذِي تَرْعَى فِيهِ الْمَاشِيَةُ، يُقَالُ: سَرَحَتْ الْغَنَمُ، إذَا مَضَتْ إلَى الْمَرْعَى، وَسَرَحْتهَا، أَيْ بِالتَّخْفِيفِ وَالتَّثْقِيلِ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَحِينَ تَسْرَحُونَ} [النحل: 6] . وَالْمَحْلَبُ: الْمَوْضِعُ الَّذِي تُحْلَبُ فِيهِ الْمَاشِيَةُ، يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا، وَلَا يُفْرِدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِحَلْبِ مَاشِيَتِهِ مَوْضِعًا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ خَلْطَ اللَّبَنِ فِي إنَاءٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمُرْفِقٍ، بَلْ مَشَقَّةٌ، لِمَا فِيهِ مِنْ الْحَاجَةِ إلَى قَسْمِ اللَّبَنِ.
وَمَعْنَى كَوْنِ الْفَحْلِ وَاحِدًا، أَنْ لَا تَكُونَ فُحُولَةُ أَحَدِ الْمَالَيْنِ لَا تَطْرُقُ غَيْرَهُ. وَكَذَلِكَ الرَّاعِي، هُوَ أَنْ لَا يَكُونَ لِكُلِّ مَالٍ رَاعٍ، يَنْفَرِدُ بِرِعَايَتِهِ دُونَ الْآخَرِ.

(2/455)


وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْمُخْتَلِطَانِ مِنْ أَهْلِ الزَّكَاةِ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا ذِمِّيًّا أَوْ مُكَاتَبًا لَمْ يُعْتَدَّ بِخَلْطَتِهِ، وَلَا تُشْتَرَطُ نِيَّةُ الْخُلْطَةِ وَحُكِيَ عَنْ الْقَاضِي، أَنَّهُ اشْتَرَطَهَا. وَلَنَا، قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «وَالْخَلِيطَانِ مَا اجْتَمَعَا فِي الْحَوْضِ وَالرَّاعِي وَالْفَحْلِ» .
وَلِأَنَّ النِّيَّةَ لَا تُؤَثِّرُ فِي الْخُلْطَةِ، فَلَا تُؤَثِّرُ فِي حُكْمِهَا، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْخُلْطَةِ مِنْ الِارْتِفَاقِ يَحْصُلُ بِدُونِهَا، فَلَمْ يَتَغَيَّرْ وُجُودُهَا مَعَهُ، كَمَا لَا تَتَغَيَّرُ نِيَّةُ السَّوْمِ فِي الْإِسَامَةِ، وَلَا نِيَّةُ السَّقْيِ فِي الزَّرْعِ وَالثِّمَارِ، وَلَا نِيَّةُ مُضِيِّ الْحَوْلِ فِيمَا يُشْتَرَطُ الْحَوْلُ فِيهِ.

[فَصْلُ زَكَاة خُلْطَةِ الْأَنْعَام]
(1725) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ بَعْضُ مَالِ الرَّجُلِ مُخْتَلِطًا، وَبَعْضُهُ مُنْفَرِدًا، أَوْ مُخْتَلِطًا مَعَ مَالٍ لِرَجِلٍ آخَرَ، فَقَالَ أَصْحَابُنَا: يَصِيرُ مَالُهُ كُلُّهُ كَالْمُخْتَلِطِ، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ مَالُ الْخُلْطَةِ نِصَابًا، فَإِنْ كَانَ دُونَ النِّصَابِ لَمْ يَثْبُتْ حُكْمُهَا، فَلَوْ كَانَ لِرَجِلٍ سِتُّونَ شَاةً، مِنْهَا عِشْرُونَ مُخْتَلِطَةٌ مَعَ عِشْرِينَ لِرَجِلٍ آخَرَ، وَجَبَ عَلَيْهِمَا شَاةٌ وَاحِدَةٌ، رُبْعُهَا عَلَى صَاحِبِ الْعِشْرِينَ، وَبَاقِيهَا عَلَى صَاحِبِ السِّتِّينَ؛ لِأَنَّنَا لَمَّا ضَمَمْنَا مِلْكَ صَاحِبِ السِّتِّينَ صَارَ صَاحِبُ الْعِشْرِينَ كَالْمُخَالِطِ لِسِتِّينَ، فَيَكُونُ الْجَمِيعُ ثَمَانِينَ، عَلَيْهَا شَاةٌ بِالْحِصَصِ.
وَلَوْ كَانَ لِصَاحِبِ السِّتِّينَ ثَلَاثَةُ خُلَطَاءَ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِعِشْرِينَ، وَجَبَ عَلَى الْجَمِيعِ شَاةٌ، نِصْفُهَا عَلَى صَاحِبِ السِّتِّينَ، وَنِصْفُهَا عَلَى الْخُلَطَاءِ، عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سُدْسُ شَاةٍ. وَلَوْ كَانَ رَجُلَانِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سِتُّونَ، فَخَالَطَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ بِعِشْرِينَ فَقَطْ، وَجَبَ عَلَيْهِمَا شَاةٌ وَاحِدَةٌ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ. فَإِنْ اخْتَلَطَا فِي أَقَلِّ مِنْ ذَلِكَ، لَمْ يَثْبُتْ لَهُمَا حُكْمُ الْخُلْطَةِ، وَوَجَبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاةٌ كَامِلَةٌ. وَإِنْ اخْتَلَطَا فِي أَرْبَعِينَ، لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا عَشَرَةٌ، وَلِلْآخَرِ ثَلَاثُونَ، ثَبَتَ لَهُمَا حُكْمُ الْخُلْطَةِ لِوُجُودِهَا فِي نِصَابٍ كَامِلٍ.

(1726) فَصْلٌ: وَيُعْتَبَرُ اخْتِلَاطُهُمْ فِي جَمِيعِ الْحَوْلِ، فَإِنْ ثَبَتَ لَهُمْ حُكْمُ الِانْفِرَادِ فِي بَعْضِهِ زَكَّوْا زَكَاةَ الْمُنْفَرِدِينَ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ. وَقَالَ مَالِكٌ لَا يُعْتَبَرُ اخْتِلَاطُهُمْ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ، وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ» . يَعْنِي فِي وَقْتِ أَخْذِ الزَّكَاةِ. وَلَنَا، أَنَّ هَذَا مَالٌ ثَبَتَ لَهُ حُكْمُ الِانْفِرَادِ، فَكَانَتْ زَكَاتُهُ زَكَاةَ الْمُنْفَرِدِ، كَمَا لَوْ انْفَرَدَ فِي آخِرِ الْحَوْلِ، وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُجْتَمِعِ فِي جَمِيعِ الْحَوْلِ.
إذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَمَتَى كَانَ لِرَجُلَيْنِ ثَمَانُونَ شَاةً بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ، وَكَانَا مُنْفَرِدَيْنِ، فَاخْتَلَطَا فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ، فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِنْدَ تَمَامِ حَوْلِهِ شَاةٌ، وَفِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ السِّنِينَ يُزَكِّيَانِ زَكَاةَ الْخُلْطَةِ، فَإِنْ اتَّفَقَ

(2/456)


حَوْلَاهُمَا أَخْرَجَا شَاةً عِنْدَ تَمَامِ كُلِّ حَوْلٍ، عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهَا وَإِنْ اخْتَلَفَ حَوْلَاهُمَا فَعَلَى الْأَوَّلِ مِنْهُمَا عِنْدَ تَمَامِ حَوْلِهِ نِصْفُ شَاةٍ، فَإِذَا تَمَّ حَوْلُ الثَّانِي، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ أَخْرَجَهَا مِنْ غَيْرِ الْمَالِ، فَعَلَى الثَّانِي نِصْفُ شَاةٍ أَيْضًا، وَإِنْ أَخْرَجَهَا مِنْ النِّصَابِ نَظَرْت، فَإِنْ أَخْرَجَ الشَّاةَ جَمِيعَهَا عَنْ مِلْكِهِ، فَعَلَى الثَّانِي أَرْبَعُونَ جُزْءًا، مِنْ تِسْعَةٍ وَسَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ شَاةٍ، وَإِنْ أَخْرَجَ نِصْفَ شَاةٍ فَعَلَى الثَّانِي أَرْبَعُونَ جُزْءًا، مِنْ تِسْعَةٍ وَسَبْعِينَ وَنِصْفُ جُزْءٍ مِنْ شَاةٍ.

[فَصْلُ إذَا كَانَ لَأَحَدِهِمَا نِصَابٌ وَلِلْآخَرِ دُونَ النِّصَابِ فَاخْتَلَطَا فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ]
(1727) فَصْلٌ: وَإِنْ ثَبَتَ لَأَحَدِهِمَا حُكْمُ الِانْفِرَادِ دُونَ صَاحِبِهِ، وَيُتَصَوَّرُ ذَلِكَ بِأَنْ يَمْلِكَ رَجُلَانِ نِصَابَيْنِ فَيَخْلِطَاهُمَا، ثُمَّ يَبِيعَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ أَجْنَبِيًّا، أَوْ يَكُونُ لِأَحَدِهِمَا نِصَابٌ مُنْفَرِدٌ، فَيَشْتَرِي آخَرُ نِصَابًا، وَيَخْلِطُهُ بِهِ فِي الْحَالِ، إذَا قُلْنَا: الْيَسِيرُ مَعْفُوٌّ عَنْهُ. فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ عَقِيبَ مِلْكِهَا مُنْفَرِدَةً فِي جُزْءٍ، وَإِنْ قَلَّ، أَوْ يَكُونَ لَأَحَدِهِمَا نِصَابٌ وَلِلْآخَرِ دُونَ النِّصَابِ، فَاخْتَلَطَا فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ، فَإِذَا تَمَّ حَوْلُ الْأَوَّلِ فَعَلَيْهِ شَاةٌ، فَإِذَا تَمَّ حَوْلُ الثَّانِي فَعَلَيْهِ زَكَاةُ الْخُلْطَةِ، عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ.
وَيُزَكِّيَانِ فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ زَكَاةَ الْخُلْطَةِ، كُلَّمَا تَمَّ حَوْلُ أَحَدِهِمَا فَعَلَيْهِ مِنْ زَكَاةِ الْجَمِيعِ بِقَدْرِ مَالِهِ مِنْهُ، فَإِذَا كَانَ الْمَالَانِ جَمِيعًا ثَمَانِينَ شَاةً، فَأَخْرَجَ الْأَوَّلُ مِنْهَا شَاةً، زَكَاةَ الْأَرْبَعِينَ الَّتِي يَمْلِكُهَا، فَعَلَى الثَّانِي أَرْبَعُونَ جُزْءًا، مِنْ تِسْعَةٍ وَسَبْعِينَ جُزْءًا. فَإِنْ أَخْرَجَ الشَّاةَ كُلَّهَا مِنْ مِلْكِهِ، وَحَالَ الْحَوْلُ الثَّانِي، فَعَلَى الْأَوَّلِ نِصْفُ شَاةٍ، زَكَاةَ خُلْطَةِ. فَإِنْ أَخْرَجَهُ وَحْدَهُ، فَعَلَى الثَّانِي تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ جُزْءًا، مِنْ سَبْعَةٍ وَسَبْعِينَ جُزْءًا وَنِصْفُ جُزْءٍ مِنْ شَاةٍ، وَإِنْ تَوَالَدَتْ شَيْئًا حُسِبَ مَعَهَا.

[فَصْلُ كَانَ بَيْنَهُمَا ثَمَانُونَ شَاة مُخْتَلِطَة مَضَى عَلَيْهَا بَعْض الْحَوْل فَتُبَايِعَاهَا]
(1728) فَصْلٌ: وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا ثَمَانُونَ شَاةً مُخْتَلِطَةً، مَضَى عَلَيْهَا بَعْضُ الْحَوْلِ، فَتَبَايَعَاهَا، بَاعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَنَمَهُ صَاحِبَهُ مُخْتَلِطَةً، وَبَعَثَاهَا عَلَى الْخُلْطَةِ، لَمْ يُقْطَعْ حَوْلُهُمَا، وَلَمْ تَزُلْ خُلْطَتُهُمَا. وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ بَعْضَ غَنَمِهِ مِنْ غَيْرِ إفْرَادٍ، قَلَّ الْمَبِيعُ أَوْ كَثُرَ. فَأَمَّا إنْ أَفْرَدَاهَا ثُمَّ تَبَايَعَاهَا ثُمَّ خَلَطَاهَا، وَتَطَاوَلَ زَمَنُ الْإِفْرَادِ، بَطَلَ حُكْمُ الْخُلْطَةِ. وَإِنْ خَلَطَاهَا عَقِيبَ الْبَيْعِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، لَا يَنْقَطِعُ؛ لِأَنَّ هَذَا زَمَنٌ يَسِيرٌ يُعْفَى وَالثَّانِي، يَنْقَطِعُ؛ لِأَنَّ الِانْفِرَادَ قَدْ وُجِدَ فِي بَعْضِ الْحَوْلِ، فَيُزَكِّيَانِ زَكَاةَ الْمُنْفَرِدَيْنِ.
وَإِنْ أَفْرَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ نِصَابٍ وَتَبَايَعَاهُ، لَمْ يَنْقَطِعْ حُكْمُ الْخُلْطَةِ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْإِنْسَانِ يُضَمُّ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ، فَكَأَنَّ الثَّمَانِينَ مُخْتَلِطَةٌ بِحَالِهَا. وَكَذَلِكَ إنْ تَبَايَعَا أَقَلِّ مِنْ النِّصْفِ. وَإِنْ تَبَايَعَا أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ مُنْفَرِدًا، بَطَلَ حُكْمُ الْخُلْطَةِ؛ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِهَا كَوْنَهَا فِي نِصَابٍ، فَمَتَى بَقِيَتْ فِيمَا دُونَ النِّصَابِ صَارَا مُنْفَرِدَيْنِ.

(2/457)


وَقَالَ الْقَاضِي: تَبْطُلُ الْخُلْطَةُ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي الْمَبِيعِ، وَيَصِيرُ مُنْفَرِدًا.
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّ الْمَبِيعَ بِجِنْسِهِ يَنْقَطِعُ حُكْمُ الْحَوْلِ فِيهِ. فَتَنْقَطِعُ الْخُلْطَةُ ضَرُورَةَ انْقِطَاعِ الْحَوْلِ. وَسَنُبَيِّنُ، إنْ شَاءَ اللَّهُ، أَنَّ حُكْمَ الْحَوْلِ لَا يَنْقَطِعُ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ، فَلَا تَنْقَطِعُ الْخُلْطَةُ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ إنَّمَا تَجِبُ فِي الْمُشْتَرَى بِبِنَائِهِ عَلَى حَوْلِ الْمَبِيعِ، فَيَجِبُ أَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ فِي الصِّفَةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا.
فَأَمَّا إنْ كَانَ مَالُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْفَرِدًا، فَخَلَطَاهُ، ثُمَّ تَبَايَعَاهُ، فَعَلَيْهِمَا فِي الْحَوْلِ زَكَاةُ الِانْفِرَادِ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِيهِ بِبِنَائِهِ عَلَى حَوْلِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ مُنْفَرِدٌ فِيهِ. وَلَوْ كَانَ لِرَجِلٍ نِصَابٌ مُنْفَرِدٌ، فَبَاعَهُ بِنِصَابٍ مُخْتَلِطٍ، زَكَّى كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا زَكَاةَ الِانْفِرَادِ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ فِي الثَّانِي تَجِبُ بِبِنَائِهِ عَلَى الْأَوَّلِ، فَهُمَا كَالْمَالِ الْوَاحِدِ الَّذِي حَصَلَ الِانْفِرَادُ فِي أَحَدِ طَرَفَيْهِ فَإِنْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَرْبَعُونَ مُخْتَلِطَةٌ مَعَ مَالٍ آخَرَ، فَتَبَايَعَاهَا، وَبَعَثَاهَا مُخْتَلِطَةً، لَمْ يَبْطُلْ حُكْمُ الْخُلْطَةِ.
وَإِنْ اشْتَرَى أَحَدُهُمَا بِالْأَرْبَعِينَ الْمُخْتَلِطَةِ أَرْبَعِينَ مُنْفَرِدَةً، وَخَلَطَهَا فِي الْحَالِ، احْتَمَلَ أَنْ يُزَكِّيَ زَكَاةَ الْخُلْطَةِ؛ لِأَنَّهُ يَبْنِي حَوْلَهَا عَلَى حَوْلِ مُخْتَلِطَةٍ، وَزَمَنُ الِانْفِرَادِ يَسِيرٌ، فَعُفِيَ عَنْهُ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يُزَكِّيَ زَكَاةَ الْمُنْفَرِدِ، لِوُجُودِ الِانْفِرَادِ فِي بَعْضِ الْحَوْلِ.

[فَصْلُ لِرَجِلٍ أَرْبَعُونَ شَاة وَمَضَى عَلَيْهَا بَعْض الْحَوْل فَبَاعَ بَعْضهَا مُشَاعًا فِي بَعْض الْحَوْل]
(1729) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَ لِرَجِلٍ أَرْبَعُونَ شَاةً، وَمَضَى عَلَيْهَا بَعْضُ الْحَوْلِ، فَبَاعَ بَعْضَهَا مَشَاعًا فِي بَعْضِ الْحَوْلِ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ يَنْقَطِعُ الْحَوْلُ، وَيَسْتَأْنِفَانِ حَوْلًا مِنْ حِينِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ النِّصْفَ الْمُشْتَرَى قَدْ انْقَطَعَ الْحَوْلُ فِيهِ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يَجُزْ فِي حَوْلِ الزَّكَاةِ أَصْلًا، فَلَزِمَ انْقِطَاعُ الْحَوْلِ فِي الْآخَرِ.
وَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ لَا يَنْقَطِعُ الْحَوْلُ فِيمَا بَقِيَ لِلْبَائِعِ؛ لِأَنَّ حُدُوثَ الْخُلْطَةِ لَا يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْحَوْلِ، فَلَا يَمْنَعُ اسْتَدَامَتْهُ، وَلِأَنَّهُ لَوْ خَالَطَ غَيْرَهُ فِي جَمِيعِ الْحَوْلِ، وَجَبَتْ الزَّكَاةُ، فَإِذَا خَالَطَ فِي بَعْضِهِ نَفْسَهُ، وَفِي بَعْضِهِ غَيْرَهُ، كَانَ أَوْلَى بِالْإِيجَابِ، وَإِنَّمَا بَطَلَ حَوْلُ الْمَبِيعَةِ لِانْتِقَالِ الْمِلْكِ فِيهَا، وَإِلَّا فَهَذِهِ الْعِشْرُونَ لَمْ تَزَلْ مُخَالِطَةً لِمَالٍ جَارٍ فِي الزَّكَاةِ، وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِيمَا إذَا عَلَّمَ عَلَى بَعْضِهَا وَبَاعَهُ مُخْتَلِطًا. فَأَمَّا إنْ أَفْرَدَ بَعْضَهَا وَبَاعَهُ، فَخَلَطَهُ الْمُشْتَرِي فِي الْحَالِ بِغَنَمِ الْأَوَّلِ، فَقَالَ ابْنُ حَامِدٍ يَنْقَطِعُ الْحَوْلُ؛ لِثُبُوتِ حُكْمِ الِانْفِرَادِ فِي الْبَعْضِ.
وَقَالَ الْقَاضِي: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ كَمَا لَوْ بَاعَهَا مُخْتَلِطَةً؛ لِأَنَّ هَذَا زَمَنٌ يَسِيرٌ. وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِيمَا إذَا كَانَتْ الْأَرْبَعُونَ لِرَجُلَيْنِ، فَبَاعَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ أَجْنَبِيًّا، فَعَلَى هَذَا إذَا تَمَّ حَوْلُ الْأَوَّلِ فَعَلَيْهِ نِصْفُ شَاةٍ، ثُمَّ إذَا تَمَّ حَوْلُ الثَّانِي نَظَرْنَا فِي الْبَائِعِ، فَإِنْ كَانَ أَخْرَجَ الزَّكَاةَ مِنْ غَيْرِ الْمَالِ فَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ النِّصَابَ نَقَصَ فِي بَعْضِ الْحَوْلِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْفَقِيرُ مُخَالِطًا لَهُمَا بِالنِّصْفِ الَّذِي صَارَ لَهُ، فَلَا يَنْقُصُ النِّصَابُ إذًا، وَيُخْرِجُ الثَّانِي نِصْفَ شَاةٍ. وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ أَخْرَجَ الزَّكَاةَ مِنْ غَيْرِ الْمَالِ، وَقُلْنَا: الزَّكَاةُ تَتَعَلَّقُ بِالذِّمَّةِ. وَجَبَ عَلَى الْمُشْتَرِي نِصْفُ شَاةٍ.
وَإِنْ قُلْنَا تَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ. فَقَالَ الْقَاضِي: يَجِبُ

(2/458)


نِصْفُ شَاةٍ أَيْضًا؛ لِأَنَّ تَعَلُّقَ الزَّكَاةِ بِالْعَيْنِ، لَا بِمَعْنَى أَنَّ الْفُقَرَاءَ مَلَكُوا جُزْءًا مِنْ النِّصَابِ، بَلْ بِمَعْنَى أَنَّهُ تَعَلَّقَ حَقُّهُمْ بِهِ، كَتَعَلُّقِ أَرْشِ الْجِنَايَةِ بِالْجَانِي، فَلَمْ يَمْنَعْ وُجُوبَ الزَّكَاةِ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ لَا شَيْءَ عَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ تَعَلُّقَ الزَّكَاةِ بِالْعَيْنِ نَقَصَ النِّصَابَ. وَهَذَا الصَّحِيحُ؛ فَإِنَّ فَائِدَةَ قَوْلِنَا: الزَّكَاةُ تَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ إنَّمَا تَظْهَرُ فِي مَنْعِ الزَّكَاةِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.
وَعَلَى قِيَاسِ هَذَا، لَوْ كَانَ لِرَجُلَيْنِ نِصَابٌ خُلْطَةٌ، فَبَاعَ أَحَدُهُمَا خَلِيطَهُ فِي بَعْضِ الْحَوْلِ، فَهِيَ عَكْسُ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى فِي الصُّورَةِ، وَمِثْلُهَا فِي الْمَعْنَى؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِي الْأَوَّلِ خَلِيطَ نَفْسِهِ، ثُمَّ صَارَ خَلِيطَ أَجْنَبِيٍّ، وَهَا هُنَا كَانَ خَلِيطَ أَجْنَبِيٍّ، ثُمَّ صَارَ خَلِيطَ نَفْسِهِ. وَمِثْلُهُ لَوْ كَانَ رَجُلَانِ مُتَوَارِثَانِ، لَهُمَا نِصَابُ خُلْطَةٍ، فَمَاتَ أَحَدُهُمَا فِي بَعْضِ الْحَوْلِ، فَوَرِثَهُ صَاحِبُهُ، عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ حَتَّى يَتِمَّ الْحَوْلُ عَلَى الْمَالَيْنِ، مِنْ حِينِ مِلْكِهِ لَهُمَا، إلَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا بِمُفْرَدِهِ يَبْلُغُ نِصَابًا. وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ ابْنِ حَامِدٍ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي النِّصْفِ الَّذِي كَانَ لَهُ خَاصَّةً.

[فَصْل اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا يَرْعَى لَهُ بِشَاةِ مُعِينَة مِنْ النِّصَاب فَحَال الْحَوْل وَلَمْ يُفَرِّدهَا]
(1730) فَصْلٌ: إذَا اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا يَرْعَى لَهُ بِشَاةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنْ النِّصَابِ، فَحَالَ الْحَوْلُ، وَلَمْ يُفْرِدْهَا، فَهُمَا خَلِيطَانِ تَجِبُ عَلَيْهِمَا زَكَاةُ الْخُلْطَةِ. وَإِنْ أَفْرَدَهَا قَبْلَ الْحَوْلِ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمَا، لِنُقْصَانِ النِّصَابِ. وَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ بِشَاةٍ مَوْصُوفَةٍ فِي الذِّمَّةِ، صَحَّ أَيْضًا، فَإِذَا حَالَ الْحَوْلُ، وَلَيْسَ لَهُ مَا يَقْتَضِيه غَيْرُ النِّصَابِ، انْبَنَى عَلَى الدَّيْنِ، هَلْ يَمْنَعُ الزَّكَاةَ فِي الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ؟ وَسَنَذْكُرُهُ فِيمَا بَعْدُ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

[مَسْأَلَة السَّاعِيَ يَأْخُذُ الْفَرْضَ مِنْ مَالِ أَيِّ الْخَلِيطَيْنِ شَاءَ]
(1731) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَتَرَاجَعُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ) قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْخُلَطَاءَ تُؤْخَذُ الصَّدَقَةُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، كَمَا تُؤْخَذُ مِنْ مَالِ الْوَاحِدِ. وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّ السَّاعِيَ يَأْخُذُ الْفَرْضَ مِنْ مَالِ أَيِّ الْخَلِيطَيْنِ شَاءَ، سَوَاءٌ دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى ذَلِكَ، بِأَنْ تَكُونَ الْفَرِيضَةُ عَيْنًا وَاحِدَةً لَا يُمْكِنُ أَخْذُهَا مِنْ الْمَالَيْنِ جَمِيعًا، أَوْ لَا يَجِدَ فَرْضَهُمَا جَمِيعًا إلَّا فِي أَحَدِ الْمَالَيْنِ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ مَالُ أَحَدِهِمَا صِحَاحًا كِبَارًا، وَمَالُ خَلِيطِهِ صِغَارًا أَوْ مِرَاضًا، فَإِنَّهُ تَجِبُ صَحِيحَةٌ كَبِيرَةٌ، أَوْ لَمْ تَدْعُ الْحَاجَةُ إلَى ذَلِكَ، بِأَنْ يَجِدَ فَرْضَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَالَيْنِ فِيهِ.
قَالَ أَحْمَدُ إنَّمَا يَجِيءُ الْمُصَدِّقُ فَيَجِدُ الْمَاشِيَةَ، فَيُصَدِّقُهَا، لَيْسَ يَجِيءُ فَيَقُولُ: أَيُّ شَيْءٍ لَك؟ وَإِنَّمَا يُصَدِّقُ مَا يَجِدُهُ، وَالْخَلِيطُ قَدْ يَنْفَعُ وَقَدْ يَضُرُّ. قَالَ الْهَيْثَمُ بْنُ خَارِجَةَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَنَا رَأَيْت مِسْكِينًا كَانَ لَهُ فِي غَنَمٍ شَاتَانِ، فَجَاءَ الْمُصَدِّقُ فَأَخَذَ إحْدَاهُمَا. وَالْوَجْهُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ، فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بِالسَّوِيَّةِ.»

(2/459)


وَقَوْلُهُ: «لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ، وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ، خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ.» وَهُمَا خَشْيَتَانِ: خَشْيَةُ رَبِّ الْمَالِ مِنْ زِيَادَةِ الصَّدَقَةِ، وَخَشْيَةُ السَّاعِي مِنْ نُقْصَانِهَا.
فَلَيْسَ لِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ أَنْ يَجْمَعُوا أَمْوَالَهُمْ الْمُتَفَرِّقَةَ، الَّتِي كَانَ الْوَاجِبُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا شَاةً، لِيَقِلَّ الْوَاجِبُ فِيهَا، وَلَا أَنْ يُفَرِّقُوا أَمْوَالَهُمْ الْمُجْتَمِعَةَ، الَّتِي كَانَ فِيهَا بِاجْتِمَاعِهَا فَرْضٌ، لِيَسْقُطَ عَنْهَا بِتَفْرِقَتِهَا، وَلَيْسَ لِلسَّاعِي أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ الْخُلَطَاءِ، لِتَكْثُرَ الزَّكَاةُ، وَلَا أَنْ يَجْمَعَهَا إذَا كَانَتْ مُتَفَرِّقَةً لِتَجِبَ الزَّكَاةُ، وَلِأَنَّ الْمَالَيْنِ قَدْ صَارَا كَالْمَالِ الْوَاحِدِ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ، فَكَذَلِكَ فِي إخْرَاجِهَا.
وَمَتَى أَخَذَ السَّاعِي الْفَرْضَ مِنْ مَالِ أَحَدِهِمَا، رَجَعَ عَلَى خَلِيطِهِ بِقَدْرِ قِيمَةِ حِصَّتِهِ مِنْ الْفَرْضِ، فَإِذَا كَانَ لَأَحَدِهِمَا ثُلُثُ الْمَالِ، وَلِلْآخَرِ ثُلُثَاهُ، فَأَخَذَ الْفَرْضَ مِنْ مَالِ صَاحِبِ الثُّلُثِ، رَجَعَ بِثُلُثَيْ قِيمَةِ الْمُخْرَجِ عَلَى صَاحِبِهِ. وَإِنْ أَخَذَهُ مِنْ الْآخَرِ، رَجَعَ عَلَى صَاحِبِ الثُّلُثِ بِثُلُثِ قِيمَةِ الْمُخْرَجِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَرْجُوعِ عَلَيْهِ مَعَ يَمِينِهِ إذَا اخْتَلَفَا، وَعَدِمَتْ الْبَيِّنَةُ؛ لِأَنَّهُ غَارِمٌ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ، كَالْغَاصِبِ إذَا اخْتَلَفَا فِي قِيمَةِ الْمَغْصُوبِ بَعْدَ تَلَفِهِ.

[فَصْل أَخَذَ السَّاعِي أَكْثَرَ مِنْ الْفَرْضِ بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ]
(1732) فَصْلٌ: إذَا أَخَذَ السَّاعِي أَكْثَرَ مِنْ الْفَرْضِ بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ، مِثْلُ أَنْ يَأْخُذَ شَاتَيْنِ مَكَانَ شَاةٍ، أَوْ يَأْخُذَ جَذَعَةً مَكَانَ حِقَّةٍ، لَمْ يَكُنْ لِلْمَأْخُوذِ مِنْهُ الرُّجُوعُ إلَّا بِقَدْرِ الْوَاجِبِ. وَإِنْ كَانَ بِتَأْوِيلٍ سَائِغٍ، مِثْلُ أَنْ يَأْخُذَ الصَّحِيحَةَ عَنْ الْمِرَاضِ، وَالْكَبِيرَةَ عَنْ الصِّغَارِ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِالْحِصَّةِ مِنْهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ، فَإِذَا أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى أَخْذِهِ، وَجَبَ عَلَيْهِ دَفْعُهُ إلَيْهِ، وَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْفَرْضِ الْوَاجِبِ.
وَكَذَلِكَ إذَا أَخَذَ الْقِيمَةَ، رَجَعَ بِمَا يَخُصُّ شَرِيكَهُ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ بِتَأْوِيلٍ.

[فَصْل مِلْك رَجُل أَرْبَعِينَ شَاة فِي الْمُحْرِم وَأَرْبَعِينَ فِي صَفَر وَأَرْبَعِينَ فِي رَبِيع]
(1733) فَصْلٌ: إذَا مَلَكَ رَجُلٌ أَرْبَعِينَ شَاةً فِي الْمُحَرَّمِ، وَأَرْبَعِينَ فِي صَفَرٍ، وَأَرْبَعِينَ فِي رَبِيعٍ، فَعَلَيْهِ فِي الْأَوَّلِ عِنْدَ تَمَامِ حَوْلِهِ شَاةٌ، فَإِذَا تَمَّ حَوْلُ الثَّانِي، فَعَلَى وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا زَكَاةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْجَمِيعَ مِلْكُ وَاحِدٍ، فَلَمْ يَزِدْ فَرْضُهُ عَلَى شَاةٍ وَاحِدَةٍ، كَمَا لَوْ اتَّفَقَتْ أَحْوَالُهُ. وَالثَّانِي، فِيهِ الزَّكَاةُ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ اسْتَقَلَّ بِشَاةٍ، فَيَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الثَّانِي، وَهِيَ نِصْفُ شَاةٍ؛ لِاخْتِلَاطِهَا بِالْأَرْبَعِينَ الْأُولَى مِنْ حِينِ مَلَكَهَا. وَإِذَا تَمَّ حَوْلُ الثَّالِثِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا لَا زَكَاةَ فِيهِ. وَالثَّانِي، فِيهِ الزَّكَاةُ، وَهُوَ ثُلُثُ شَاةٍ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ مُخْتَلِطًا بِالثَّمَانِينَ الْمُتَقَدِّمَةِ.

(2/460)


وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ فِيهِ وَجْهًا ثَالِثًا، وَهُوَ أَنَّهُ يَجِبُ فِي الثَّانِي شَاةٌ كَامِلَةٌ، وَفِي الثَّالِثِ شَاةٌ كَامِلَةٌ لِأَنَّهُ نِصَابٌ كَامِلٌ وَجَبَتْ الزَّكَاةُ فِيهِ بِنَفْسِهِ، فَوَجَبَتْ فِيهِ شَاةٌ كَامِلَةٌ، كَمَا لَوْ انْفَرَدَ. وَهَذَا ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمَالِكُ لِلثَّانِي وَالثَّالِثِ أَجْنَبِيَّيْنِ، مَلَكَاهُمَا مُخْتَلِطَيْنِ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمَا إلَّا زَكَاةُ خُلْطَةٍ، فَإِذَا كَانَ لِمَالِكِ الْأَوَّلِ كَانَ أَوْلَى، فَإِنْ ضَمَّ بَعْضَ مَالِهِ إلَى بَعْضٍ أَوْلَى مِنْ ضَمِّ مِلْكِ الْخَلِيطِ إلَى خَلِيطِهِ.
وَإِنْ مَلَكَ فِي الشَّهْرِ الثَّانِي مَا يُغَيِّرُ الْفَرْضَ، مِثْلُ أَنْ مَلَكَ مِائَةَ شَاةٍ، فَعَلَيْهِ فِيهِ عِنْدَ تَمَامِ حَوْلِهِ شَاةٌ ثَانِيَةٌ، عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ. وَكَذَلِكَ الثَّالِثُ؛ لِأَنَّنَا نَجْعَلُ مِلْكَهُ فِي الْإِيجَابِ، كَمِلْكِهِ لِلْكُلِّ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ، فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ مَلَكَ مِائَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ ثَلَاثُ شِيَاهٍ، عِنْدَ تَمَامِ حَوْلِ كُلِّ مَالٍ شَاةٌ.
وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي، يَجِبُ عَلَيْهِ فِي الشَّهْرِ الثَّانِي حِصَّتُهُ مِنْ فَرْضِ الْمَالَيْنِ مَعًا، وَهُوَ شَاةٌ وَثَلَاثَةُ أَسْبَاعِ شَاةٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ مَلَكَ الْمَالَيْنِ دُفْعَةً وَاحِدَةً، كَانَ عَلَيْهِ فِيهِمَا شَاتَانِ، حِصَّةُ الْمِائَةِ مِنْهَا خَمْسَةُ أَسْبَاعِهِمَا، وَهُوَ شَاةٌ وَثَلَاثَةُ أَسْبَاعِ شَاةٍ، وَعَلَيْهِ فِي الثَّالِثِ شَاةٌ وَرُبْعٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ مَلَكَ الْجَمِيعَ دُفْعَةً وَاحِدَةً، وَهُوَ مِائَتَانِ وَأَرْبَعُونَ شَاةً، لَكَانَ عَلَيْهِ ثَلَاثُ شِيَاهٍ، حِصَّةُ الثَّالِثِ مِنْهُنَّ رُبْعُهُنَّ وَسُدْسُهُنَّ، وَهُوَ شَاةٌ وَرُبْعٌ. وَلَوْ كَانَ الْمَالِكُ لِلْأَمْوَالِ الثَّلَاثَةِ ثَلَاثَةَ أَشْخَاصٍ، وَمَلَكَ الثَّانِي سَائِمَتَهُ مُخْتَلِطَةً بِسَائِمَةِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ مَلَكَ الثَّالِثُ سَائِمَتَهُ مُخْتَلِطَةً بِغَنَمِهِمَا، لَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَى الثَّانِي وَالثَّالِثِ كَالْوَاجِبِ عَلَى الْمَالِكِ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي، لَا غَيْرُ.

[فَصْل مِلْك عِشْرِينَ مِنْ الْإِبِل فِي الْمُحْرِم وَخَمْسًا فِي صَفَر]
(1734) فَصْلٌ: فَإِنْ مَلَكَ عِشْرِينَ مِنْ الْإِبِلِ فِي الْمُحَرَّمِ، وَخَمْسًا فِي صَفَرٍ، فَعَلَيْهِ فِي الْعِشْرِينَ عِنْدَ تَمَامِ حَوْلِهَا، أَرْبَعُ شِيَاهٍ، وَفِي الْخَمْسِ عِنْدَ تَمَامِ حَوْلِهَا خُمْسُ بِنْتِ مَخَاضٍ. عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ. وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّالِثِ، عَلَيْهِ شَاةٌ. وَإِنْ مَلَكَ فِي الْمُحَرَّمِ خَمْسًا وَعِشْرِينَ، وَفِي صَفَرٍ خَمْسًا، فَعَلَيْهِ فِي الْأَوَّلِ عِنْدَ تَمَامِ حَوْلِهِ بِنْتُ مَخَاضٍ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي الْخَمْسِ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ. وَعَلَى الثَّانِي: عَلَيْهِ سُدْسُ بِنْتِ مَخَاضٍ. وَعَلَى الثَّالِثِ عَلَيْهِ فِيهَا شَاةٌ.
فَإِنْ مَلَكَ مَعَ ذَلِكَ فِي رَبِيعٍ شَيْئًا، فَفِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، عَلَيْهِ فِي الْأَوَّلِ عِنْدَ تَمَامِ حَوْلِهِ بِنْتُ مَخَاضٍ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي الْخَمْسِ حَتَّى يَتِمَّ حَوْلُ السِّتِّ، فَيَجِبُ فِيهِمَا رُبْعُ بِنْتِ لَبُونٍ وَنِصْفُ تُسْعِهَا. وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي، عَلَيْهِ فِي الْخَمْسِ سُدْسُ بِنْتِ مَخَاضٍ إذَا تَمَّ حَوْلُهَا، وَفِي السِّتِّ سُدْسُ بِنْتِ لَبُونٍ عِنْدَ تَمَامِ حَوْلِهَا. وَفِي الْوَجْهِ الثَّالِثِ، عَلَيْهِ فِي الْخَمْسِ الثَّانِيَةِ شَاةٌ عِنْدَ تَمَامِ حَوْلِهَا، وَفِي السِّتِّ شَاةٌ عِنْدَ تَمَامِ حَوْلِهَا.

[فَصْل كَانَتْ سَائِمَة الرَّجُل فِي بَلَدَانِ شَتَّى وَبَيْنَهُمَا مَسَافَة لَا تُقَصِّر فِيهَا الصَّلَاة]
(1735) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَتْ سَائِمَةُ الرَّجُلِ فِي بُلْدَانٍ شَتَّى، وَبَيْنَهُمَا مَسَافَةٌ لَا تُقْصَرُ فِيهَا الصَّلَاةُ، أَوْ كَانَتْ مُجْتَمِعَةً، ضُمَّ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ، وَكَانَتْ زَكَاتُهَا كَزَكَاةِ الْمُخْتَلِطَةِ، بِغَيْرِ خِلَافٍ نَعْلَمُهُ. وَإِنْ كَانَ بَيْنَ الْبُلْدَانِ مَسَافَةُ الْقَصْرِ، فَعَنْ أَحْمَدَ فِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا، أَنَّ لِكُلِّ مَالٍ حُكْمَ نَفْسِهِ، يُعْتَبَرُ عَلَى حِدَتِهِ، إنْ كَانَ نِصَابًا فَفِيهِ الزَّكَاةُ، وَإِلَّا فَلَا، وَلَا

(2/461)


يُضَمُّ إلَى الْمَالِ الَّذِي فِي الْبَلَدِ الْآخَرِ. نَصَّ عَلَيْهِ.
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ لَا أَعْلَمُ هَذَا الْقَوْلَ عَنْ غَيْرِ أَحْمَدَ وَاحْتَجَّ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ، وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ، خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ.» وَهَذَا مُفَرَّقٌ فَلَا يُجْمَعُ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا أَثَّرَ اجْتِمَاعُ مَالَيْنِ لِرَجُلَيْنِ، فِي كَوْنِهِمَا كَالْمَالِ الْوَاحِدِ، يَجِبُ أَنْ يُؤَثِّرَ افْتِرَاقُ مَالِ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ، حَتَّى يَجْعَلَهُ كَالْمَالَيْنِ.
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، قَالَ فِي مَنْ لَهُ مِائَةُ شَاةٍ فِي بُلْدَانٍ مُتَفَرِّقَةٍ: لَا يَأْخُذُ الْمُصَدِّقُ مِنْهَا شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ، وَصَاحِبُهَا إذَا ضَبَطَ ذَلِكَ وَعَرَفَهُ أَخْرَجَ هُوَ بِنَفْسِهِ، يَضَعُهَا فِي الْفُقَرَاءِ. رُوِيَ هَذَا عَنْ الْمَيْمُونِيِّ وَحَنْبَلٍ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ زَكَاتَهَا تَجِبُ مَعَ اخْتِلَافِ الْبُلْدَانِ، إلَّا أَنَّ السَّاعِيَ لَا يَأْخُذُهَا؛ لِكَوْنِهِ لَا يَجِدُ نِصَابًا كَامِلًا مُجْتَمِعًا، وَلَا يَعْلَمُ حَقِيقَةَ الْحَالِ فِيهَا، فَأَمَّا الْمَالِكُ الْعَالِمُ بِمِلْكِهِ نِصَابًا كَامِلًا، فَعَلَيْهِ أَدَاءُ الزَّكَاةِ وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي الْخَطَّابِ وَمَذْهَبُ سَائِرِ الْفُقَهَاءِ.
قَالَ مَالِكٌ أَحْسَنُ مَا سَمِعْت فِي مَنْ كَانَ لَهُ غَنَمٌ عَلَى رَاعِيَيْنِ مُتَفَرِّقَيْنِ بِبُلْدَانٍ شَتَّى، أَنَّ ذَلِكَ يُجْمَعُ عَلَى صَاحِبِهِ، فَيُؤَدِّي صَدَقَتَهُ. وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: " فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ ". وَلِأَنَّهُ مِلْكٌ وَاحِدٌ أَشْبَهَ مَا لَوْ كَانَ فِي بُلْدَانٍ مُتَقَارِبَةٍ، أَوْ غَيْرَ السَّائِمَةِ. وَنَحْمِلُ كَلَامَ أَحْمَدَ، فِي الرِّوَايَةِ الْأُولَى، عَلَى أَنَّ الْمُصَدِّقَ لَا يَأْخُذُهَا، وَأَمَّا رَبُّ الْمَالِ فَيُخْرِجُ. فَعَلَى هَذَا يُخْرِجُ الْفَرْضَ فِي أَحَدِ الْبَلَدَيْنِ شَاءَ، لِأَنَّهُ مَوْضِعُ حَاجَةٍ.

[مَسْأَلَة اخْتَلَطُوا فِي غَيْرِ السَّائِمَةِ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَعُرُوض التِّجَارَة وَالزُّرُوع وَالثِّمَار]
(1736) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِنْ اخْتَلَطُوا فِي غَيْرِ هَذَا، أَخَذَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى انْفِرَادِهِ، إذَا كَانَ مَا يَخُصُّهُ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ) وَمَعْنَاهُ أَنَّهُمْ إذَا اخْتَلَطُوا فِي غَيْرِ السَّائِمَةِ، كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَعُرُوضِ التِّجَارَةِ وَالزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ، لَمْ تُؤَثِّرْ خَلَطَتْهُمْ شَيْئًا، وَكَانَ حُكْمُهُمْ حُكْمَ الْمُنْفَرِدِينَ. وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى، أَنَّ شَرِكَةَ الْأَعْيَانِ تُؤَثِّرُ فِي غَيْرِ الْمَاشِيَةِ، فَإِذَا كَانَ بَيْنَهُمْ نِصَابٌ يَشْتَرِكُونَ فِيهِ، فَعَلَيْهِمْ الزَّكَاةُ.
وَهَذَا قَوْلُ إِسْحَاقَ وَالْأَوْزَاعِيِّ فِي الْحَبِّ وَالثَّمَرِ. وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: الْأَوْزَاعِيُّ يَقُولُ فِي الزَّرْعِ، إذَا كَانُوا شُرَكَاءَ فَخَرَجَ لَهُمْ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ، يَقُولُ: فِيهِ الزَّكَاةُ. قَاسَهُ عَلَى الْغَنَمِ، وَلَا يُعْجِبُنِي قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ وَأَمَّا خُلْطَةُ الْأَوْصَافِ، فَلَا مَدْخَلَ لَهَا فِي غَيْرِ الْمَاشِيَةِ بِحَالٍ، لِأَنَّ الِاخْتِلَاطَ لَا يَحْصُلُ. وَخَرَّجَ الْقَاضِي وَجْهًا آخَرَ، أَنَّهَا تُؤَثِّرُ؛ لِأَنَّ الْمَئُونَةَ تَخِفُّ إذَا كَانَ الْمُلَقِّحُ وَاحِدًا، وَالصِّعَادُ، وَالنَّاطُورُ، وَالْجَرِينُ، وَكَذَلِكَ أَمْوَالُ التِّجَارَةِ؛ الدُّكَّانُ وَاحِدٌ، وَالْمَخْزَنُ وَالْمِيزَانُ وَالْبَائِعُ، فَأَشْبَهَ الْمَاشِيَةَ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ عَلَى نَحْوٍ مِمَّا حَكَيْنَا فِي مَذْهَبِنَا. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْخُلْطَةَ لَا تُؤَثِّرُ فِي غَيْرِ الْمَاشِيَةِ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ

(2/462)


- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَالْخَلِيطَانِ مَا اشْتَرَكَا فِي الْحَوْضِ وَالْفَحْلِ وَالرَّاعِي.» فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا لَمْ يُوجَدْ فِيهِ ذَلِكَ لَا يَكُونُ خُلْطَةً مُؤَثِّرَةً، وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ، خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ» .
إنَّمَا يَكُونُ فِي الْمَاشِيَةِ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ تَقِلُّ بِجَمْعِهَا تَارَةً، وَتَكْثُرُ أُخْرَى، وَسَائِرُ الْأَمْوَالِ تَجِبُ فِيهَا فِيمَا زَادَ عَلَى النِّصَابِ بِحِسَابِهِ، فَلَا أَثَرَ لِجَمْعِهَا، وَلِأَنَّ الْخُلْطَةَ فِي الْمَاشِيَةِ تُؤَثِّرُ فِي النَّفْعِ تَارَةً، وَفِي الضَّرَرِ أُخْرَى، وَلَوْ اعْتَبَرْنَاهَا فِي غَيْرِ الْمَاشِيَةِ أَثَّرَتْ ضَرَرًا مَحْضًا بِرَبِّ الْمَالِ، فَلَا يَجُوزُ اعْتِبَارُهَا إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنْ كَانَ لِجَمَاعَةٍ وَقْفٌ أَوْ حَائِطٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمْ، فِيهِ ثَمَرَةٌ أَوْ زَرْعٌ، فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِمْ، إلَّا أَنْ يَحْصُلَ فِي يَدِ بَعْضِهِمْ نِصَابٌ كَامِلٌ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ، وَقَدْ ذَكَرَ الْخِرَقِيِّ هَذَا فِي بَابِ الْوَقْفِ.
وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، إذَا كَانَ الْخَارِجُ نِصَابًا، فَفِيهِ الزَّكَاةُ، وَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ نِصَابًا مِنْ السَّائِمَةِ، فَيَحْتَمِلُ أَنَّ عَلَيْهِمْ الزَّكَاةَ؛ لِاشْتِرَاكِهِمْ فِي مِلْكِ نِصَابٍ تُؤَثِّرُ الْخُلْطَةُ فِيهِ، وَيَنْبَغِي أَنْ تُخْرَجَ الزَّكَاةُ مِنْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ لَا يَجُوزُ نَقْلُ الْمِلْكِ فِيهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا تَجِبَ الزَّكَاةُ فِيهِ؛ لِنَقْصِ الْمِلْكِ فِيهِ، وَكَمَالُهُ مُعْتَبَرٌ فِي إيجَابِ الزَّكَاةِ، بِدَلِيلِ مَالِ الْمُكَاتَبِ.

[فَصْل لَا زَكَاة فِي غَيْر بَهِيمَة الْأَنْعَام مِنْ الْمَاشِيَة]
(1737) فَصْلٌ: وَلَا زَكَاةَ فِي غَيْرِ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ مِنْ الْمَاشِيَةِ، فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْخَيْلِ الزَّكَاةُ، إذَا كَانَتْ ذُكُورًا وَإِنَاثًا، وَإِنْ كَانَتْ ذُكُورًا مُفْرَدَةً، أَوْ إنَاثًا مُفْرَدَةً، فَفِيهَا رِوَايَتَانِ، وَزَكَاتُهَا دِينَارٌ عَنْ كُلِّ فَرَسٍ، أَوْ رُبْعُ عُشْرِ قِيمَتِهَا، وَالْخِيَرَةُ فِي ذَلِكَ إلَى صَاحِبِهَا، أَيَّهُمَا شَاءَ أَخْرَجَ؛ لِمَا رَوَى جَابِرٌ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «فِي الْخَيْلِ السَّائِمَةِ، فِي كُلِّ فَرَسٍ دِينَارٌ» .
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ مِنْ الرَّأْسِ عَشَرَةً، وَمِنْ الْفَرَسِ عَشَرَةً، وَمِنْ الْبِرْذَوْنِ خَمْسَةً. وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ يُطْلَبُ نَمَاؤُهُ مِنْ جِهَةِ السَّوْمِ، أَشْبَهَ النَّعَمَ. وَلَنَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَالَ: لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي فَرَسِهِ وَغُلَامِهِ صَدَقَةٌ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي لَفْظٍ: «لَيْسَ عَلَى الرَّجُلِ فِي فَرَسِهِ وَلَا فِي عَبْدِهِ صَدَقَةٌ.» وَعَنْ عَلِيٍّ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «عَفَوْت لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ.» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ.
وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ. وَرَوَى أَبُو عُبَيْدٍ، فِي " الْغَرِيبِ "، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَيْسَ فِي الْجَبْهَةِ، وَلَا فِي النُّخَّةِ، وَلَا فِي الْكُسْعَةِ صَدَقَةٌ.» وَفَسَّرَ الْجَبْهَةَ بِالْخَيْلِ، وَالنُّخَّةَ بِالرَّقِيقِ، وَالْكُسْعَةَ بِالْحَمِيرِ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: النُّخَّةُ: بِضَمِّ النُّونِ: الْبَقَرُ الْعَوَامِلُ.
وَلِأَنَّ مَا لَا زَكَاةَ فِي ذُكُورِهِ الْمُفْرَدَةِ، وَإِنَاثِهِ الْمُفْرَدَةِ، لَا زَكَاةَ فِيهِمَا إذَا اجْتَمَعَا، كَالْحَمِيرِ. وَلِأَنَّ مَا لَا يُخْرَجُ زَكَاتُهُ مِنْ جِنْسِهِ مِنْ السَّائِمَةِ لَا تَجِبُ فِيهِ، كَسَائِرِ الدَّوَابِّ، وَلِأَنَّ الْخَيْلَ دَوَابُّ، فَلَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهَا، كَسَائِرِ

(2/463)


الدَّوَابِّ، وَلِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، فَلَمْ تَجِبْ زَكَاتُهَا، كَالْوُحُوشِ.
وَحَدِيثُهُمْ يَرْوِيهِ غَوْرَكُ السَّعْدِيُّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَأَمَّا عُمَرُ فَإِنَّمَا أَخَذَ مِنْهُمْ شَيْئًا تَبَرَّعُوا بِهِ، وَسَأَلُوهُ أَخْذَهُ، وَعَوَّضَهُمْ عَنْهُ بِرِزْقِ عَبِيدِهِمْ، فَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ حَارِثَةَ، قَالَ: جَاءَ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ إلَى عُمَرَ فَقَالُوا: إنَّا قَدْ أَصَبْنَا مَالًا وَخَيْلًا وَرَقِيقًا، نُحِبُّ أَنْ يَكُونَ لَنَا فِيهَا زَكَاةٌ وَطَهُورٌ. قَالَ: مَا فَعَلَهُ صَاحِبَايَ قَبْلِي، فَأَفْعَلُهُ فَاسْتَشَارَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِيهِمْ عَلِيٌّ فَقَالَ: هُوَ حَسَنٌ إنْ لَمْ يَكُنْ جِزْيَةً يُؤْخَذُونَ بِهَا مِنْ بَعْدِكَ. قَالَ أَحْمَدُ: فَكَانَ عُمَرُ يَأْخُذُ مِنْهُمْ، ثُمَّ يَرْزُقُ عَبِيدَهُمْ،.
فَصَارَ حَدِيثُ عُمَرَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ مِنْ وُجُوهٍ؛ أَحَدُهَا، قَوْلُهُ: مَا فَعَلَهُ صَاحِبَايَ. يَعْنِي النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبَا بَكْرٍ، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَمَا تَرَكَا فِعْلَهُ. الثَّانِي، أَنَّ عُمَرَ امْتَنَعَ مِنْ أَخْذِهَا، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ الْوَاجِبِ. الثَّالِثُ، قَوْلُ عَلِيٍّ: هُوَ حَسَنٌ إنْ لَمْ يَكُنْ جِزْيَةٌ يُؤْخَذُونَ بِهَا مِنْ بَعْدِكَ.
فَسَمَّى جِزْيَةً إنْ أُخِذُوا بِهَا، وَجَعَلَ حُسْنَهُ مَشْرُوطًا بِعَدَمِ أَخْذِهِمْ بِهِ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَخْذَهُمْ بِذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ. الرَّابِعُ، اسْتِشَارَةُ عُمَرَ أَصْحَابَهُ فِي أَخْذِهِ، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَمَا احْتَاجَ إلَى الِاسْتِشَارَةِ. الْخَامِسُ، أَنَّهُ لَمْ يُشِرْ عَلَيْهِ بِأَخْذِهِ أَحَدٌ سِوَى عَلِيٍّ بِهَذَا الشَّرْطِ الَّذِي ذَكَرَهُ، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَأَشَارُوا بِهِ. السَّادِسُ، أَنَّ عُمَرَ عَوَّضَهُمْ عَنْهُ رِزْقَ عَبِيدِهِمْ، وَالزَّكَاةُ لَا يُؤْخَذُ عَنْهَا عِوَضٌ
وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهَا عَلَى النَّعَمِ؛ لِأَنَّهَا يَكْمُلُ نَمَاؤُهَا، وَيُنْتَفَعُ بِدَرِّهَا وَلَحْمِهَا، وَيُضَحَّى بِجِنْسِهَا، وَتَكُونُ هَدْيًا، وَفِدْيَةً عَنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ، وَتَجِبُ الزَّكَاةُ مِنْ عَيْنِهَا، وَيُعْتَبَرُ كَمَالُ نِصَابِهَا، وَلَا يُعْتَبَرُ قِيمَتُهَا، وَالْخَيْلُ بِخِلَافِ ذَلِكَ.

[مَسْأَلَة الصَّدَقَة لَا تَجِب إلَّا عَلَى أَحْرَار الْمُسْلِمِينَ]
(1738) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَالصَّدَقَةُ لَا تَجِبُ إلَّا عَلَى أَحْرَارِ الْمُسْلِمِينَ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: " إلَّا عَلَى الْأَحْرَارِ الْمُسْلِمِينَ ". وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، وَهُوَ أَنَّ الزَّكَاةَ لَا تَجِبُ إلَّا عَلَى حُرٍّ مُسْلِمٍ تَامِّ الْمِلْكِ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا إلَّا عَنْ عَطَاءٍ وَأَبِي ثَوْرٍ فَإِنَّهُمَا قَالَا: عَلَى الْعَبْدِ زَكَاةُ مَالِهِ. وَلَنَا، أَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ بِتَامِّ الْمِلْكِ، فَلَمْ تَلْزَمْهُ زَكَاةٌ، كَالْمُكَاتَبِ.
فَأَمَّا الْكَافِرُ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ، وَمَتَى صَارَ أَحَدُ هَؤُلَاءِ مِنْ أَهْلِ الزَّكَاةِ، وَهُوَ مَالِكٌ لِلنِّصَابِ، اسْتَقْبَلَ بِهِ حَوْلًا ثُمَّ زَكَّاهُ، فَأَمَّا الْحُرُّ الْمُسْلِمُ إذَا مَلَكَ نِصَابًا خَالِيًا عَنْ دَيْنٍ، فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ عِنْدَ تَمَامِ حَوْلِهِ، سَوَاءٌ كَانَ كَبِيرًا أَوْ صَغِيرًا، أَوْ عَاقِلًا أَوْ مَجْنُونًا.

[مَسْأَلَة وُجُوب الزَّكَاة فِي مَالِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ]
مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَالصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ يُخْرِجُ عَنْهُمَا وَلِيُّهُمَا)

(2/464)


وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِي مَالِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ؛ لِوُجُودِ الشَّرَائِطِ الثَّلَاثِ فِيهِمَا، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ وَالْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ وَجَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وَبِهِ قَالَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَابْنُ سِيرِينَ وَعَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ وَرَبِيعَةُ وَمَالِكٌ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالشَّافِعِيُّ وَالْعَنْبَرِيُّ وَابْنُ عُيَيْنَةَ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو ثَوْرٍ وَيُحْكَى عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهُمْ قَالُوا: تَجِبُ الزَّكَاةُ، وَلَا تُخْرَجُ حَتَّى يَبْلُغَ الصَّبِيُّ، وَيُفِيقَ الْمَعْتُوهُ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ أُحْصِي مَا يَجِبُ فِي مَالِ الْيَتِيمِ مِنْ الزَّكَاةِ، فَإِذَا بَلَغَ أُعْلِمُهُ، فَإِنْ شَاءَ زَكَّى، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يُزَكِّ. وَرُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ إبْرَاهِيمَ وَقَالَ الْحَسَنُ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَأَبُو وَائِلٍ وَالنَّخَعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي أَمْوَالِهِمَا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَجِبُ الْعُشْرُ فِي زُرُوعِهِمَا وَثَمَرَتِهِمَا، وَتَجِبُ صَدَقَةُ الْفِطْرِ عَلَيْهِمَا.
وَاحْتَجَّ فِي نَفْيِ الزَّكَاةِ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ، وَعَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ.» وَبِأَنَّهَا عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ؛ فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِمَا، كَالصَّلَاةِ وَالْحَجِّ. وَلَنَا، مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ وَلِيَ يَتِيمًا لَهُ مَالٌ فَلْيَتَّجِرْ لَهُ، وَلَا يَتْرُكُهُ حَتَّى تَأْكُلَهُ الصَّدَقَةُ.» أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيّ. وَفِي رُوَاتِهِ الْمُثَنَّى بْنُ الصَّبَّاحِ، وَفِيهِ مَقَالٌ، وَرُوِيَ مَوْقُوفًا عَلَى عُمَرَ: " وَإِنَّمَا تَأْكُلُهُ الصَّدَقَةُ بِإِخْرَاجِهَا ".
وَإِنَّمَا يَجُوزُ إخْرَاجُهَا إذَا كَانَتْ وَاجِبَةً؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَبَرَّعَ بِمَالِ الْيَتِيمِ، وَلِأَنَّ مِنْ وَجَبَ الْعُشْرُ فِي زَرْعِهِ وَجَبَ رُبْعُ الْعُشْرِ فِي وَرِقِهِ، كَالْبَالِغِ الْعَاقِلِ، وَيُخَالِفُ الصَّلَاةَ وَالصَّوْمَ، فَإِنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِالْبَدَنِ، وَبِنْيَةُ الصَّبِيِّ ضَعِيفَةٌ عَنْهَا، وَالْمَجْنُونُ لَا يَتَحَقَّقُ مِنْهُ نِيَّتُهَا، وَالزَّكَاةُ حَقٌّ يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ، فَأَشْبَهَ نَفَقَةَ الْأَقَارِبِ وَالزَّوْجَاتِ، وَأُرُوشَ الْجِنَايَات، وَقِيَمَ الْمُتْلَفَاتِ، وَالْحَدِيثُ أُرِيدَ بِهِ رَفْعُ الْإِثْمِ وَالْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ، بِدَلِيلِ وُجُوبِ الْعُشْرِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ، ثُمَّ هُوَ مَخْصُوصٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَالزَّكَاةُ فِي الْمَالِ فِي مَعْنَاهُ، فَنَقِيسُهَا عَلَيْهِ.
إذَا تَقَرَّرَ هَذَا، فَإِنَّ الْوَلِيَّ يُخْرِجُهَا عَنْهُمَا مِنْ مَالِهِمَا؛ لِأَنَّهَا زَكَاةٌ وَاجِبَةٌ، فَوَجَبَ إخْرَاجُهَا، كَزَكَاةِ الْبَالِغِ الْعَاقِلِ، وَالْوَلِيُّ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي أَدَاءِ مَا عَلَيْهِ؛ وَلِأَنَّهَا حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، فَكَانَ عَلَى الْوَلِيِّ أَدَاؤُهُ عَنْهُمَا، كَنَفَقَةِ أَقَارِبِهِ، وَتُعْتَبَرُ نِيَّةُ الْوَلِيِّ فِي الْإِخْرَاجِ، كَمَا تُعْتَبَرُ النِّيَّةُ مِنْ رَبِّ الْمَالِ.

[مَسْأَلَة السَّيِّد يُزَكِّي عَمَّا فِي يَد عَبْده]
(1740) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَالسَّيِّدُ يُزَكِّي عَمَّا فِي يَدِ عَبْدِهِ؛ لِأَنَّهُ مَالِكُهُ) يَعْنِي أَنَّ السَّيِّدَ مَالِكٌ لِمَا فِي يَدِ عَبْدِهِ، وَقَدْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَحْمَدَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فِي زَكَاةِ مَالِ الْعَبْدِ

(2/465)


الَّذِي مَلَّكَهُ إيَّاهُ، فَرُوِيَ عَنْهُ: زَكَاتُهُ عَلَى سَيِّدِهِ. هَذَا مَذْهَبُ سُفْيَانَ وَإِسْحَاقَ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ.
وَرُوِيَ عَنْهُ: لَا زَكَاةَ فِي مَالِهِ؛ لَا عَلَى الْعَبْدِ وَلَا عَلَى سَيِّدِهِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ وَالزُّهْرِيِّ وَقَتَادَةَ وَمَالِكٍ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ كَالْمَذْهَبَيْنِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي مِلْكِ الْعَبْدِ، إذَا مَلَّكَهُ سَيِّدُهُ؛ إحْدَاهُمَا، لَا يَمْلِكُ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَهُوَ اخْتِيَارِيٌّ. وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ هَاهُنَا؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ السَّيِّدَ مَالِكًا لِمَالِ عَبْدِهِ، وَلَوْ كَانَ مَمْلُوكًا لِلْعَبْدِ لَمْ يَكُنْ مَمْلُوكًا لِسَيِّدِهِ، لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ اجْتِمَاعُ مِلْكَيْنِ كَامِلَيْنِ فِي مَالٍ وَاحِدٍ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الْعَبْدَ مَالٌ، فَلَا يَمْلِكُ الْمَالَ كَالْبَهَائِمِ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ زَكَاتُهُ عَلَى سَيِّدِ الْعَبْدِ، لِأَنَّهُ مِلْكٌ لَهُ فِي يَدِ عَبْدِهِ، فَكَانَتْ زَكَاتُهُ عَلَيْهِ، كَالْمَالِ الَّذِي فِي يَدِ الْمُضَارِبِ وَالْوَكِيلِ. وَالثَّانِيَةُ، يَمْلِكُ؛ لِأَنَّهُ آدَمِيٌّ يَمْلِكُ النِّكَاحَ، فَمَلَكَ الْمَالَ، كَالْحُرِّ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ بِالْآدَمِيَّةِ يَتَمَهَّدُ لِلْمِلْكِ، مِنْ قِبَلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْمَالَ لِبَنِي آدَمَ لِيَسْتَعِينُوا بِهِ عَلَى الْقِيَامِ بِوَظَائِفِ الْعِبَادَاتِ، وَأَعْبَاءِ التَّكَالِيفِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى: خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا.
فَبِالْآدَمِيَّةِ يَتَمَهَّدُ لِلْمِلْكِ وَيَصْلُحُ لَهُ، كَمَا يَتَمَهَّدُ لِلتَّكْلِيفِ وَالْعِبَادَةِ، فَعَلَى هَذَا لَا زَكَاةَ عَلَى السَّيِّدِ فِي مَالِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ، وَلَا عَلَى الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ نَاقِصٌ، وَالزَّكَاةُ إنَّمَا تَجِبُ عَلَى تَامِّ الْمِلْكِ. (1741) فَصْلٌ: وَمِنْ بَعْضُهُ حُرٌّ عَلَيْهِ زَكَاةُ مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُهُ بِجُزْئِهِ الْحُرِّ، وَيُورَثُ عَنْهُ، وَمِلْكُهُ كَامِلٌ فِيهِ، فَكَانَتْ زَكَاتُهُ عَلَيْهِ، كَالْحُرِّ الْكَامِلِ. وَالْمُدَبَّرُ وَأُمُّ الْوَلَدِ كَالْقِنِّ؛ لِأَنَّهُ لَا حُرِّيَّةَ فِيهِمَا.

[مَسْأَلَة لَا زَكَاة عَلَى مُكَاتَب]
(1742) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا زَكَاةَ عَلَى مُكَاتَبٍ) فَإِنْ عَجَزَ اسْتَقْبَلَ سَيِّدُهُ بِمَا فِي يَدِهِ مِنْ الْمَالِ حَوْلًا وَزَكَاةً، إنْ كَانَ نِصَابًا، وَإِنْ أَدَّى، وَبَقِيَ فِي يَدِهِ نِصَابٌ لِلزَّكَاةِ، اسْتَقْبَلَ بِهِ حَوْلًا. لَا أَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي أَنَّهُ لَا زَكَاةَ عَلَى الْمُكَاتَبِ؛ وَلَا عَلَى سَيِّدِهِ فِي مَالِهِ؛ إلَّا قَوْلَ أَبِي ثَوْرٍ ذَكَرَ ابْنُ الْمُنْذِرِ نَحْوَ هَذَا. وَاحْتَجَّ أَبُو ثَوْرٍ بِأَنَّ الْحَجْرَ مِنْ السَّيِّدِ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ، كَالْحَجْرِ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالْمَرْهُونِ.
وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ أَوْجَبَ الْعُشْرَ فِي الْخَارِجِ مِنْ أَرْضِهِ، بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ الْعُشْرَ مُؤْنَةُ الْأَرْضِ، وَلَيْسَ بِزَكَاةٍ. وَلَنَا، مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا زَكَاةَ فِي مَالِ الْمُكَاتَبِ.» رَوَاهُ الْفُقَهَاءُ فِي كُتُبِهِمْ، وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ عَلَى طَرِيقِ الْمُوَاسَاةِ، فَلَمْ تَجِبْ فِي مَالِ الْمُكَاتَبِ، كَنَفَقَةِ الْأَقَارِبِ، وَفَارَقَ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ مُنِعَ التَّصَرُّفَ لِنَقْصِ تَصَرُّفِهِ، لَا لِنَقْصِ مِلْكِهِ، وَالْمَرْهُونُ مُنِعَ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ بِعَقْدِهِ، فَلَمْ يَسْقُطْ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَتَى كَانَ مَنْعُ التَّصَرُّفِ فِيهِ لِدَيْنٍ لَا يُمْكِنُ وَفَاؤُهُ مِنْ غَيْرِهِ، فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ.

(2/466)


إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَمَتَى عَجَزَ وَرُدَّ فِي الرِّقِّ، صَارَ مَا كَانَ فِي يَدِهِ مِلْكًا لِسَيِّدِهِ، فَإِنْ كَانَا نِصَابًا، أَوْ يَبْلُغُ بِضَمِّهِ إلَى مَا فِي يَدِهِ نِصَابًا، اسْتَأْنَفَ لَهُ حَوْلًا مِنْ حِينِ مَلَكَهُ، وَزَكَّاهُ، كَالْمُسْتَفَادِ سَوَاءً. وَلَا أَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا فَإِنْ أَدَّى الْمُكَاتَبُ نُجُومَ كِتَابَتِهِ، وَبَقِيَ فِي يَدِهِ نِصَابٌ، فَقَدْ صَارَ حُرًّا كَامِلَ الْمِلْكِ، فَيَسْتَأْنِفُ الْحَوْلَ مِنْ حِينِ عِتْقِهِ، وَيُزَكِّيه إذَا تَمَّ الْحَوْلُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

[مَسْأَلَة لَا زَكَاة فِي مَال حَتَّى يَحُول عَلَيْهِ الْحَوْل]
(1743) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ) وَرَوَى أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مَاجَهْ، فِي " السُّنَنِ " بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ» .
وَهَذَا اللَّفْظُ غَيْرُ مُبْقًى عَلَى عُمُومِهِ، فَإِنَّ الْأَمْوَالَ الزَّكَاتِيَّةَ خَمْسَةٌ: السَّائِمَةُ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، وَالْأَثْمَانُ؛ وَهِيَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ، وَقِيَمُ عُرُوضِ التِّجَارَةِ، وَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ الْحَوْلُ شَرْطٌ فِي وُجُوبِ زَكَاتِهَا. لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا، سِوَى مَا سَنَذْكُرُهُ فِي الْمُسْتَفَادِ. وَالرَّابِعُ: مَا يُكَالُ وَيُدَّخَرُ مِنْ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ، وَالْخَامِسُ: الْمَعْدِنُ. وَهَذَانِ لَا يُعْتَبَرُ لَهُمَا حَوْلٌ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ مَا اُعْتُبِرَ لَهُ الْحَوْلُ وَمَا لَمْ يُعْتَبَرْ لَهُ، أَنَّ مَا اُعْتُبِرَ لَهُ الْحَوْلُ مَرْصَدٌ لِلنَّمَاءِ، فَالْمَاشِيَةُ مُرْصَدَةٌ لِلدَّرِّ وَالنَّسْلِ، وَعُرُوضُ التِّجَارَةِ مُرْصَدَةٌ لِلرِّبْحِ، وَكَذَا الْأَثْمَانُ، فَاعْتُبِرَ لَهُ الْحَوْلُ؛ فَإِنَّهُ مَظِنَّةُ النَّمَاءِ، لِيَكُونَ إخْرَاجُ الزَّكَاةِ مِنْ الرِّبْحِ، فَإِنَّهُ أَسْهَلُ وَأَيْسَرُ، وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ إنَّمَا وَجَبَتْ مُوَاسَاةً، وَلَمْ نَعْتَبِرْ حَقِيقَةَ النَّمَاءِ لِكَثْرَةِ اخْتِلَافِهِ، وَعَدَمِ ضَبْطِهِ، وَلِأَنَّ مَا اُعْتُبِرَتْ مَظِنَّتُهُ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى حَقِيقَتِهِ، كَالْحُكْمِ مَعَ الْأَسْبَابِ، وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ تَتَكَرَّرُ فِي هَذِهِ الْأَمْوَالِ، فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ ضَابِطٍ، كَيْ لَا يُفْضِيَ إلَى تَعَاقُبِ الْوُجُوبِ فِي الزَّمَنِ الْوَاحِدِ مَرَّاتٍ، فَيَنْفَدَ مَالُ الْمَالِكِ.
أَمَّا الزُّرُوعُ وَالثِّمَارُ، فَهِيَ نَمَاءٌ فِي نَفْسِهَا، تَتَكَامَلُ عِنْدَ إخْرَاجِ الزَّكَاةِ مِنْهَا، فَتُؤْخَذُ الزَّكَاةُ مِنْهَا حِينَئِذٍ، ثُمَّ تَعُودُ فِي النَّقْصِ لَا فِي النَّمَاءِ؛ فَلَا تَجِبُ فِيهَا زَكَاةٌ ثَانِيَةٌ، لِعَدَمِ إرْصَادِهَا لِلنَّمَاءِ، وَالْخَارِجُ مِنْ الْمَعْدِنِ مُسْتَفَادٌ خَارِجٌ مِنْ الْأَرْضِ، بِمَنْزِلَةِ الزَّرْعِ وَالثَّمَرِ، إلَّا أَنَّهُ إنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ الْأَثْمَانِ، فَفِيهِ الزَّكَاةُ عِنْدَ كُلِّ حَوْلٍ، لِأَنَّهُ مَظِنَّةٌ لِلنَّمَاءِ، مِنْ حَيْثُ إنَّ الْأَثْمَانَ قِيَمُ الْأَمْوَالِ، وَرَأْسُ مَالِ التِّجَارَاتِ، وَبِهَذَا تَحْصُلُ الْمُضَارَبَةُ وَالشَّرِكَةُ، وَهِيَ مَخْلُوقَةٌ لِذَلِكَ، فَكَانَتْ بِأَصْلِهَا وَخِلْقَتِهَا، كَمَالِ التِّجَارَةِ الْمُعَدِّ لَهَا.
(1744) فَصْلٌ: فَإِنْ اسْتَفَادَ مَالًا مِمَّا يُعْتَبَرُ لَهُ الْحَوْلُ، وَلَا مَالَ لَهُ سِوَاهُ، وَكَانَ نِصَابًا، أَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ مِنْ جِنْسِهِ

(2/467)


لَا يَبْلُغُ نِصَابًا، فَبَلَغَ بِالْمُسْتَفَادِ نِصَابًا، انْعَقَدَ عَلَيْهِ حَوْلُ الزَّكَاةِ مِنْ حِينَئِذٍ، فَإِذَا تَمَّ حَوْلٌ وَجَبَتْ الزَّكَاةُ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ نِصَابٌ، لَمْ يَخْلُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا، أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَفَادُ مِنْ نَمَائِهِ كَرِبْحِ مَالِ التِّجَارَةِ وَنَتَاجِ السَّائِمَةِ، فَهَذَا يَجِبُ ضَمُّهُ إلَى مَا عِنْدَهُ مِنْ أَصْلِهِ، فَيُعْتَبَرُ حَوْلُهُ بِحَوْلِهِ.
لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا؛ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لَهُ مِنْ جِنْسِهِ، فَأَشْبَهَ النَّمَاءَ الْمُتَّصِلَ، وَهُوَ زِيَادَةُ قِيمَةِ عُرُوضِ التِّجَارَةِ، وَيَشْمَلُ الْعَبْدَ وَالْجَارِيَةَ. الثَّانِي، أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَفَادُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ مَا عِنْدَهُ، فَهَذَا لَهُ حُكْمُ نَفْسِهِ، لَا يُضَمُّ إلَى مَا عِنْدَهُ فِي حَوْلٍ وَلَا نِصَابٍ، بَلْ إنْ كَانَ نِصَابًا اسْتَقْبَلَ بِهِ حَوْلًا وَزَكَّاهُ، وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ فِيهِ. وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ.
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَمُعَاوِيَةَ أَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِيهِ حِينَ اسْتَفَادَهُ. قَالَ أَحْمَدُ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ: يُزَكِّيهِ حِينَ يَسْتَفِيدُهُ. وَرَوَى بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُعْطِينَا وَيُزَكِّيه. وَعَنْ الْأَوْزَاعِيِّ فِي مَنْ بَاعَ عَبْدَهُ أَوْ دَارِهِ، أَنَّهُ يُزَكِّي الثَّمَنَ حِينَ يَقَعُ فِي يَدِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ شَهْرٌ يُعْلَمُ، فَيُؤَخِّرَهُ حَتَّى يُزَكِّيَهُ مَعَ مَالِهِ. وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى خِلَافِ هَذَا الْقَوْلِ؛ مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَلَى هَذَا جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، وَالْخِلَافُ فِي ذَلِكَ شُذُوذٌ، وَلَمْ يُعَرِّجْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ، وَلَا قَالَ بِهِ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْفَتْوَى. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ فِي مَنْ بَاعَ دَارِهِ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ إلَى سَنَةٍ، إذَا قَبَضَ الْمَالَ يُزَكِّيهِ. وَإِنَّمَا نَرَى أَنَّ أَحْمَدَ قَالَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ الدَّرَاهِمَ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ، وَصَارَتْ دَيْنًا لَهُ عَلَى الْمُشْتَرِي، فَإِذَا قَبَضَهُ زَكَّاهُ لِلْحَوْلِ الَّذِي مَرَّ عَلَيْهِ فِي مِلْكِهِ، كَسَائِرِ الدُّيُونِ.
وَقَدْ صَرَّحَ بِهَذَا الْمَعْنَى فِي رِوَايَةِ بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، فَقَالَ: إذَا كَرَى دَارًا أَوْ عَبْدًا فِي سَنَةٍ بِأَلْفٍ، فَحَصَلَتْ لَهُ الدَّرَاهِمُ وَقَبَضَهَا، زَكَّاهَا إذَا حَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ، مِنْ حِينِ قَبَضَهَا، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى الْمُكْتَرِي فَمِنْ يَوْمِ وَجَبَتْ لَهُ فِيهَا الزَّكَاةُ. بِمَنْزِلَةِ الدَّيْنِ إذَا وَجَبَ لَهُ عَلَى صَاحِبِهِ، زَكَاةٌ مِنْ يَوْمِ وَجَبَ لَهُ. الْقِسْمُ الثَّالِثُ، أَنْ يَسْتَفِيدَ مَالًا مِنْ جِنْسِ نِصَابٍ عِنْدَهُ، قَدْ انْعَقَدَ عَلَيْهِ حَوْلُ الزَّكَاةِ بِسَبَبٍ مُسْتَقِلٍّ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ أَرْبَعُونَ مِنْ الْغَنَمِ، مَضَى عَلَيْهَا بَعْضُ الْحَوْلِ، فَيَشْتَرِي أَوْ يَتَّهِبُ مِائَةً، فَهَذَا لَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ حَتَّى يَمْضِيَ عَلَيْهِ حَوْلٌ أَيْضًا.
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَضُمُّهُ إلَى مَا عِنْدَهُ فِي الْحَوْلِ، فَيُزَكِّيهِمَا جَمِيعًا عِنْدَ تَمَامِ حَوْلِ الْمَالِ الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ عِوَضًا عَنْ مَالٍ مُزَكًّى؛ لِأَنَّهُ يُضَمُّ إلَى جِنْسِهِ فِي النِّصَابِ، فَوَجَبَ ضَمُّهُ إلَيْهِ فِي الْحَوْلِ كَالنِّتَاجِ، وَلِأَنَّهُ إذَا ضُمَّ

(2/468)


فِي النِّصَابِ وَهُوَ سَبَبٌ، فَضَمُّهُ إلَيْهِ فِي الْحَوْلِ الَّذِي هُوَ شَرْطٌ أَوْلَى.
وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ عِنْدَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ، مَضَى عَلَيْهَا نِصْفُ الْحَوْلِ، فَوَهَبَ لَهُ مِائَةٌ أُخْرَى، فَإِنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِيهَا إذَا تَمَّ حَوْلُهَا، بِغَيْرِ خِلَافٍ، وَلَوْلَا الْمِائَتَانِ مَا وَجَبَ فِيهَا شَيْءٌ، فَإِذَا ضُمَّتْ إلَى الْمِائَتَيْنِ فِي أَصْلِ الْوُجُوبِ فَكَذَلِكَ فِي وَقْتِهِ، وَلِأَنَّ إفْرَادَهُ بِالْحَوْلِ يُفْضِي إلَى تَشْقِيصِ الْوَاجِبِ فِي السَّائِمَةِ، وَاخْتِلَافِ أَوْقَاتِ الْوَاجِبِ، وَالْحَاجَةِ إلَى ضَبْطِ مَوَاقِيتِ التَّمَلُّكِ، وَمَعْرِفَةِ قَدْرِ الْوَاجِبِ فِي كُلِّ جُزْءٍ مَلَكَهُ، وَوُجُوبِ الْقَدْرِ الْيَسِيرِ الَّذِي لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إخْرَاجِهِ، ثُمَّ يَتَكَرَّرُ ذَلِكَ فِي كُلِّ حَوْلٍ وَوَقْتٍ، وَهَذَا حَرَجٌ مَدْفُوعٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] .
وَقَدْ اعْتَبَرَ الشَّرْعُ ذَلِكَ بِإِيجَابِ غَيْرِ الْجِنْسِ فِيمَا دُونَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ مِنْ الْإِبِلِ، وَجَعَلَ الْأَوْقَاصَ فِي السَّائِمَةِ، وَضَمَّ الْأَرْبَاحَ وَالنِّتَاجَ إلَى حَوْلِ أَصْلِهَا مَقْرُونًا بِدَفْعِ هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عِلَّةٌ لِذَلِكَ، فَيَجِبُ تَعْدِيَةُ الْحُكْمِ إلَى مَحَلِّ النِّزَاعِ. وَقَالَ مَالِكٌ كَقَوْلِهِ فِي السَّائِمَةِ؛ دَفْعًا لِلتَّشْقِيصِ فِي الْوَاجِبِ، وَكَقَوْلِنَا فِي الْأَثْمَانِ؛ لِعَدَمِ ذَلِكَ فِيهَا. وَلَنَا، حَدِيثُ عَائِشَةَ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ» .
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: مَنْ اسْتَفَادَ مَالًا، فَلَا زَكَاةَ فِيهِ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ. وَرُوِيَ مَرْفُوعًا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا أَنَّ التِّرْمِذِيَّ قَالَ: الْمَوْقُوفُ أَصَحُّ، وَإِنَّمَا رَفَعَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ أَسْلَمَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ وَعَطَاءٍ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَسَالِمٍ وَالنَّخَعِيِّ أَنَّهُ لَا زَكَاةَ فِي الْمُسْتَفَادِ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ.
وَلِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ أَصْلًا، فَيُعْتَبَرُ فِيهِ الْحَوْلُ شَرْطًا، كَالْمُسْتَفَادِ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ، وَلَا تُشْبِهُ هَذِهِ الْأَمْوَالُ الزُّرُوعَ وَالثِّمَارَ، لِأَنَّهَا تَتَكَامَلُ ثِمَارُهَا دُفْعَةً وَاحِدَةً، وَلِهَذَا لَا تَتَكَرَّرُ الزَّكَاةُ فِيهَا، وَهَذِهِ نَمَاؤُهَا بِنَقْلِهَا، فَاحْتَاجَتْ إلَى الْحَوْلِ.
وَأَمَّا الْأَرْبَاحُ وَالنِّتَاجُ، فَإِنَّمَا ضُمَّتْ إلَى أَصْلِهَا؛ لِأَنَّهَا تَبَعٌ لَهُ، وَمُتَوَلِّدَةٌ مِنْهُ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فِي مَسْأَلَتِنَا، وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ عِلَّةَ ضَمِّهَا، مَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْحَرَجِ، فَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي مَسْأَلَتِنَا؛ لِأَنَّ الْأَرْبَاحَ تَكْثُرُ وَتَتَكَرَّرُ فِي الْأَيَّامِ وَالسَّاعَاتِ، وَيَعْسَرُ ضَبْطُهَا، وَكَذَلِكَ النِّتَاجُ، وَقَدْ يُوجَدُ وَلَا يُشْعَرُ بِهِ، فَالْمَشَقَّةُ فِيهِ أَتَمُّ، لِكَثْرَةِ تَكَرُّرِهِ، بِخِلَافِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ الْمُسْتَقِلَّةِ، فَإِنَّ الْمِيرَاثَ وَالِاغْتِنَامَ وَالِاتِّهَابَ وَنَحْوَ ذَلِكَ يَنْدُرُ وَلَا يَتَكَرَّرُ، فَلَا يَشُقُّ ذَلِكَ فِيهِ، وَإِنْ شَقَّ فَهُوَ دُونَ الْمَشَقَّةِ فِي الْأَرْبَاحِ وَالنِّتَاجِ، فَيَمْتَنِعُ قِيَاسُهُ عَلَيْهِ.
وَالْيُسْرُ فِيمَا ذَكَرْنَا أَكْثَرُ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ التَّأْخِيرِ وَالتَّعْجِيلِ، وَمَا ذَكَرُوهُ

(2/469)


يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ التَّعْجِيلُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ التَّخْيِيرَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ أَيْسَرُ مِنْ تَعْيِينِ أَحَدِهِمَا، لِأَنَّهُ مَعَ التَّخْيِيرِ، فَيَخْتَارُ أَيْسَرَهُمَا عَلَيْهِ، وَأَحَبَّهُمَا إلَيْهِ، وَمَعَ التَّعْيِينِ يَفُوتُهُ ذَلِكَ. وَأَمَّا ضَمُّهُ إلَيْهِ فِي النِّصَابِ، فَلِأَنَّ النِّصَابَ مُعْتَبَرٌ لِحُصُولِ الْغِنَى، وَقَدْ حَصَلَ الْغِنَى بِالنِّصَابِ الْأَوَّلِ، وَالْحَوْلُ مُعْتَبَرٌ، لِاسْتِنْمَاءِ الْمَالِ؛ لِيَحْصُلَ أَدَاءُ الزَّكَاةِ مِنْ الرِّبْحِ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِمُرُورِ الْحَوْلِ عَلَى أَصْلِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ الْحَوْلُ لَهُ.
(1745) فَصْلٌ: وَيُعْتَبَرُ وُجُودُ النِّصَابِ فِي جَمِيعِ الْحَوْلِ، فَإِنْ نَقَصَ الْحَوْلُ نَقْصًا يَسِيرًا، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ ثَبَتَ، أَنَّ نَقْصَ الْحَوْلِ سَاعَةً أَوْ سَاعَتَيْنِ مَعْفُوٌّ عَنْهُ. وَظَاهِرُ كَلَامِ الْقَاضِي، أَنَّ النَّقْصَ الْيَسِيرَ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ يَمْنَعُ؛ لِأَنَّهُ قَالَ فِي مَنْ لَهُ أَرْبَعُونَ شَاةً فَمَاتَتْ مِنْهَا شَاةٌ وَنُتِجَتْ أُخْرَى: إذَا كَانَ النِّتَاجُ وَالْمَوْتُ حَصَلَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ لَمْ تَسْقُطْ الزَّكَاةُ؛ لِأَنَّ النِّصَابَ لَمْ يَنْقُصْ، وَكَذَلِكَ إنْ تَقَدَّمَ النِّتَاجُ الْمَوْتَ، وَإِنْ تَقَدَّمَ الْمَوْتُ النِّتَاجَ سَقَطَتْ الزَّكَاةُ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْحَوْلِ سَقَطَ بِنُقْصَانِ النِّصَابِ.
وَيَحْتَمِلُ أَنَّ كَلَامَ أَبِي بَكْرٍ أَرَادَ بِهِ النَّقْصَ فِي طَرَفِ الْحَوْلِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْقَاضِيَ أَرَادَ بِالْوَقْتِ الْوَاحِدِ الزَّمَنَ الْمُتَقَارِبَ، فَلَا يَكُونُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ اخْتِلَافٌ. وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ النِّصَابَ إذَا كَمَلَ فِي طَرَفَيْ الْحَوْلِ، لَمْ يَضُرَّ نَقْصُهُ فِي وَسَطِهِ. وَلَنَا، أَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ.» يَقْتَضِي مُرُورَ الْحَوْلِ عَلَى جَمِيعِهِ، وَلِأَنَّ مَا اُعْتُبِرَ فِي طَرَفَيْ الْحَوْلِ اُعْتُبِرَ فِي وَسَطِهِ، كَالْمِلِكِ وَالْإِسْلَامِ.
(1746) فَصْلٌ: وَإِذَا ادَّعَى رَبُّ الْمَالِ أَنَّهُ مَا حَالُ الْحَوْلُ عَلَى الْمَالِ، أَوْ لَمْ يَتِمَّ النِّصَابُ إلَّا مُنْذُ شَهْرٍ، أَوْ أَنَّهُ كَانَ فِي يَدِي وَدِيعَةً، وَإِنَّمَا اشْتَرَيْته مِنْ قَرِيبٍ، أَوْ قَالَ: بِعْته فِي الْحَوْلِ، ثُمَّ اشْتَرَيْته. أَوْ رُدَّ عَلَيَّ وَنَحْوَ هَذَا، مِمَّا يَنْفِي وُجُوبَ الزَّكَاةِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مِنْ غَيْرِ يَمِينٍ. قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ: لَا يُسْتَحْلَفُ النَّاسُ عَلَى صَدَقَاتِهِمْ. فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لَا يَسْتَحْلِفُ وُجُوبًا وَلَا اسْتِحْبَابًا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ مِنْ تَجِبُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ يَمِينٍ، كَالصَّلَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ.

[مَسْأَلَة تَقْدِيم الزَّكَاة]
(1747) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَيَجُوزُ تَقْدِمَةُ الزَّكَاةِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ مَتَى وُجِدَ سَبَبُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ، وَهُوَ النِّصَابُ الْكَامِلُ، جَازَ تَقْدِيمُ الزَّكَاةِ. وَبِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالزُّهْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَحُكِيَ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ. وَبِهِ قَالَ رَبِيعَةُ، وَمَالِكٌ وَدَاوُد لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «، أَنَّهُ قَالَ:

(2/470)


لَا تُؤَدَّى زَكَاةٌ قَبْلَ حُلُولِ الْحَوْلِ» .
وَلِأَنَّ الْحَوْلَ أَحَدُ شَرْطَيْ الزَّكَاةِ، فَلَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ كَالنِّصَابِ، وَلِأَنَّ لِلزَّكَاةِ وَقْتًا، فَلَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُهَا عَلَيْهِ، كَالصَّلَاةِ. وَلَنَا، مَا رَوَى عَلِيٌّ، «أَنَّ الْعَبَّاسَ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي تَعْجِيلِ صَدَقَتِهِ قَبْلَ أَنْ تَحِلَّ، فَرَخَّصَ لَهُ فِي ذَلِكَ. وَفِي لَفْظٍ: فِي تَعْجِيلِ الزَّكَاةِ، فَرَخَّصَ لَهُ فِي ذَلِكَ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ شَيْبَةَ: هُوَ أَثْبَتُهَا إسْنَادًا.
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ، عَنْ عَلِيٍّ، «عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنَّهُ قَالَ لِعُمَرَ: إنَّا قَدْ أَخَذْنَا زَكَاةَ الْعَبَّاسِ عَامَ الْأَوَّلِ لِلْعَامِ. وَفِي لَفْظٍ قَالَ: إنَّا كُنَّا تَعَجَّلْنَا صَدَقَةَ الْعَبَّاسِ لِعَامِنَا هَذَا عَامَ أَوَّلَ» . رَوَاهُ سَعِيدٌ عَنْ عَطَاءٍ، وَابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، وَالْحَسَنِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُرْسَلًا،
وَلِأَنَّهُ تَعْجِيلٌ لِمَالٍ وُجِدَ سَبَبُ وُجُوبِهِ قَبْلَ وُجُوبِهِ، فَجَازَ، كَتَعْجِيلِ قَضَاءِ الدَّيْنِ قَبْلَ حُلُولِ أَجَلِهِ، وَأَدَاءِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ بَعْدَ الْحَلِفِ وَقَبْلَ الْحِنْثِ، وَكَفَّارَةِ الْقَتْلِ بَعْدَ الْجَرْحِ قَبْلَ الزَّهُوقِ، وَقَدْ سَلَّمَ مَالِكٌ تَعْجِيلَ الْكَفَّارَةِ، وَفَارَقَ تَقْدِيمَهَا عَلَى النِّصَابِ، لِأَنَّهُ تَقْدِيمٌ لَهَا عَلَى سَبَبِهَا، فَأَشْبَهَ تَقْدِيمَ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْيَمِينِ، وَكَفَّارَةَ الْقَتْلِ عَلَى الْجَرْحِ، وَلِأَنَّهُ قَدْ قَدَّمَهَا عَلَى الشَّرْطَيْنِ، وَهَاهُنَا قَدَّمَهَا عَلَى أَحَدِهِمَا.
وَقَوْلُهُمْ: إنَّ لِلزَّكَاةِ وَقْتًا. قُلْنَا: الْوَقْتُ إذَا دَخَلَ فِي الشَّيْءِ رِفْقًا بِالْإِنْسَانِ، كَانَ لَهُ أَنْ يُعَجِّلَهُ وَيَتْرُكَ الْإِرْفَاقَ بِنَفْسِهِ، كَالدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ، وَكَمَنْ أَدَّى زَكَاةَ مَالِ غَائِبٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى يَقِينٍ مِنْ وُجُوبِهَا، وَمِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ تَالِفًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَأَمَّا الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ فَتَعَبُّدٌ مَحْضٌ، وَالتَّوْقِيتُ فِيهِمَا غَيْرُ مَعْقُولٍ، فَيُجِبْ أَنْ يُقْتَصَرَ عَلَيْهِ.

[فَصْل تَعْجِيل الزَّكَاة قَبْل مِلْك النِّصَاب]
(1748) فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ تَعْجِيلُ الزَّكَاةِ قَبْلَ مِلْكِ النِّصَابِ، بِغَيْرِ خِلَافٍ عَلِمْنَاهُ. وَلَوْ مَلَكَ بَعْضَ نِصَابٍ، فَعَجَّلَ زَكَاتَهُ، أَوْ زَكَاةَ نِصَابٍ، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ تَعَجَّلَ الْحُكْمَ قَبْلَ سَبَبِهِ. وَإِنْ مَلَكَ نِصَابًا فَعَجَّلَ زَكَاتَهُ وَزَكَاةَ مَا يَسْتَفِيدُهُ، وَمَا يُنْتَجُ مِنْهُ، أَوْ يَرْبَحُهُ فِيهِ، أَجْزَأَهُ عَنْ النِّصَابِ دُونَ الزِّيَادَةِ.
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِمَا هُوَ مَالِكُهُ. وَلَنَا، أَنَّهُ عَجَّلَ زَكَاةَ مَالٍ لَيْسَ فِي مِلْكِهِ، فَلَمْ يَجُزْ كَالنِّصَابِ الْأَوَّلِ، وَلِأَنَّ الزَّائِدَ مِنْ الزَّكَاةِ عَلَى زَكَاةِ النِّصَابِ إنَّمَا سَبَبُهَا الزَّائِدُ فِي الْمِلْكِ، فَقَدْ عَجَّلَ الزَّكَاةَ قَبْلَ وُجُودِ سَبَبِهَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ عَجَّلَ الزَّكَاةَ قَبْلَ مِلْكِ النِّصَابِ. وَقَوْلُهُ: إنَّهُ تَابِعٌ، قُلْنَا: إنَّمَا يَتْبَعُ فِي الْحَوْلِ، فَأَمَّا فِي الْإِيجَابِ فَإِنَّ الْوُجُوبَ ثَبَتَ بِالزِّيَادَةِ، لَا بِالْأَصْلِ، وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يَصِيرُ لَهُ حُكْمٌ بَعْدَ الْوُجُودِ، فَأَمَّا قَبْلَ ظُهُورِهِ فَلَا حُكْمَ لَهُ فِي الزَّكَاةِ.

(2/471)


[فَصْل عَجَّلَ زَكَاة نِصَاب مِنْ الْمَاشِيَة فَتَوَالَدَتْ نَصَّابًا ثُمَّ مَاتَتْ الْأُمَّهَات وَحَال الْحَوْل عَلَى النَّتَاجِ]
(1749) فَصْلٌ: وَإِنْ عَجَّلَ زَكَاةَ نِصَابٍ مِنْ الْمَاشِيَةِ، فَتَوَالَدَتْ نِصَابًا، ثُمَّ مَاتَتْ الْأُمَّهَاتُ وَحَالَ الْحَوْلُ عَلَى النِّتَاجِ، أَجْزَأَ الْمُعَجَّلُ عَنْهَا؛ لِأَنَّهَا دَخَلَتْ فِي حَوْلِ الْأُمَّهَاتِ، وَقَامَتْ مَقَامَهَا، فَأَجْزَأَتْ زَكَاتُهَا عَنْهَا. فَإِذَا كَانَ عِنْدَهُ أَرْبَعُونَ مِنْ الْغَنَمِ، فَعَجَّلَ عَنْهَا شَاةً، ثُمَّ تَوَالَدَتْ أَرْبَعِينَ سَخْلَةً، وَمَاتَتْ الْأُمَّهَاتُ، وَحَالَ الْحَوْلُ عَلَى السِّخَالِ، أَجْزَأَتْ الْمُعَجَّلَةُ عَنْهَا، لِأَنَّهَا كَانَتْ مُجْزِئَةً عَنْهَا وَعَنْ أُمَّهَاتِهَا لَوْ بَقِيَتْ، فَلَأَنْ تُجْزِئَ عَنْ إحْدَاهُمَا أَوْلَى.
وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ ثَلَاثُونَ مِنْ الْبَقَرِ، فَعَجَّلَ عَنْهَا تَبِيعًا، ثُمَّ تَوَالَدَتْ ثَلَاثِينَ عِجْلَةً، وَمَاتَتْ الْأُمَّهَاتُ، وَحَالَ الْحَوْلُ عَلَى الْعُجُولِ، احْتَمَلَ أَنْ يُجْزِئَ عَنْهَا، لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لَهَا فِي الْحَوْلِ. وَاحْتَمَلَ أَنْ لَا يُجْزِئَ عَنْهَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ عَجَّلَ عَنْهَا تَبِيعًا مَعَ بَقَاءِ الْأُمَّهَاتِ لَمْ يُجْزِئْ عَنْهَا، فَلَأَنْ لَا يُجْزِئَ عَنْهَا إذَا كَانَ التَّعْجِيلُ عَنْ غَيْرِهَا أَوْلَى. وَهَكَذَا الْحُكْمُ فِي مِائَةِ شَاةٍ إذَا عَجَّلَ عَنْهَا شَاةً فَتَوَالَدَتْ مِائَةً، ثُمَّ مَاتَتْ الْأُمَّهَاتُ، وَحَالَ الْحَوْلُ عَلَى السِّخَالِ. وَإِنْ تَوَالَدَ نِصْفُهَا، وَمَاتَ نِصْفُ الْأُمَّهَاتِ، وَحَالَ الْحَوْلُ عَلَى الصِّغَارِ وَنِصْفِ الْكِبَارِ، فَإِنْ قُلْنَا بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ، أَجْزَأَ الْمُعَجَّلُ عَنْهُمَا جَمِيعًا.
وَإِنْ قُلْنَا بِالثَّانِي، فَعَلَيْهِ فِي الْخَمْسِينَ سَخْلَةً شَاةٌ؛ لِأَنَّهَا نِصَابٌ لَمْ تُؤَدَّ زَكَاتُهُ. وَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي الْعُجُولِ إذَا كَانَتْ خَمْسَةَ عَشَرَ شَيْءٌ، لِأَنَّهَا لَمْ تَبْلُغْ نِصَابًا، وَإِنَّمَا وَجَبَتْ الزَّكَاةُ فِيهَا بِنَاءً عَلَى أُمَّهَاتِهَا الَّتِي عُجِّلَتْ زَكَاتُهَا. وَإِنْ مَلَكَ ثَلَاثِينَ مِنْ الْبَقَرِ، فَعَجَّلَ مُسِنَّةً زَكَاةً لَهَا وَلِنَتَاجِهَا، فَنُتِجَتْ عَشْرًا، أَجْزَأَتْهُ عَنْ الثَّلَاثِينَ دُونَ الْعَشْرِ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ فِي الْعَشْرَ رُبْعُ مُسِنَّةٍ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تُجْزِئَهُ الْمُسِنَّةُ الْمُعَجَّلَةُ عَنْ الْجَمِيعِ؛ لِأَنَّ الْعَشْرَ تَابِعَةٌ لِلثَّلَاثِينَ فِي الْوُجُوبِ وَالْحَوْلِ فَإِنَّهُ لَوْلَا مِلْكُهُ لِلثَّلَاثِينَ لَمَا وَجَبَ عَلَيْهِ فِي الْعَشْرِ شَيْءٌ.
فَصَارَتْ الزِّيَادَةُ عَلَى النِّصَابِ مُنْقَسِمَةً أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا، مَا لَا يَتْبَعُ فِي وُجُوبٍ وَلَا حَوْلٍ، وَهُوَ الْمُسْتَفَادُ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ، وَلَا يُجْزِئُ تَعْجِيلُ زَكَاتِهِ قَبْلَ وُجُودِهِ، وَكَمَالِ نِصَابِهِ، بِغَيْرِ خِلَافٍ. الثَّانِي، مَا يَتْبَعُ فِي الْوُجُوبِ دُونَ الْحَالِ، وَهُوَ الْمُسْتَفَادُ مِنْ الْجِنْسِ بِسَبَبٍ مُسْتَقِلٍّ، فَلَا يُجْزِئُ تَعْجِيلُ زَكَاتِهِ أَيْضًا قَبْلَ وُجُودِهِ، مَعَ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ. الثَّالِثُ، مَا يَتْبَعُ فِي الْحَوْلِ دُونَ الْوُجُوبِ، كَالنِّتَاجِ وَالرِّبْحِ إذَا بَلَغَ نِصَابًا، فَإِنَّهُ يَتْبَعُ أَصْلَهُ فِي الْحَوْلِ، فَلَا يُجْزِئُ التَّعْجِيلُ عَنْهُ قَبْلَ وُجُودِهِ، كَاَلَّذِي قَبْلَهُ.
الرَّابِعُ، مَا يَتْبَعُ فِي الْوُجُوبِ وَالْحَوْلِ، وَهُوَ الرِّبْحُ وَالنِّتَاجُ إذَا لَمْ يَبْلُغْ نِصَابًا، فَهَذَا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا يُجْزِئُ تَعْجِيلُ زَكَاتِهِ قَبْلَ وُجُودِهِ، كَاَلَّذِي قَبْلَهُ. وَالثَّانِي: يُجْزِئُ؛ لِأَنَّهُ تَابِعٌ لَهُ فِي الْوُجُوبِ وَالْحَوْلِ، فَأَشْبَهَ الْمَوْجُودَ.

(2/472)


[فَصْل تَعْجِيل الزَّكَاة لِأَكْثَر مِنْ حَوْل]
(1750) فَصْلٌ: إذَا عَجَّلَ الزَّكَاةَ لِأَكْثَرَ مِنْ حَوْلٍ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ إحْدَاهُمَا، لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ النَّصَّ لَمْ يَرِدْ بِتَعْجِيلِهَا لِأَكْثَرَ مِنْ حَوْلٍ. وَالثَّانِيَةُ، يَجُوزُ. وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى بَأْسًا أَنْ يُخْرِجَ الرَّجُلُ زَكَاةَ مَالِهِ قَبْلَ حِلِّهَا لِثَلَاثِ سِنِينَ؛ لِأَنَّهُ تَعْجِيلٌ لَهَا بَعْدَ وُجُودِ النِّصَابِ، أَشْبَهَ تَقْدِيمَهَا عَلَى الْحَوْلِ الْوَاحِدِ. وَمَا لَمْ يَرِدْ بِهِ النَّصُّ يُقَاسُ عَلَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ إذَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ، وَلَا نَعْلَمُ لَهُ مَعْنًى سِوَى أَنَّهُ تَقْدِيمٌ لِلْمَالِ الَّذِي وُجِدَ سَبَبُ وُجُوبِهِ عَلَى شَرْطِ وُجُوبِهِ، وَهَذَا مُتَحَقِّقٌ فِي التَّقْدِيمِ فِي الْحَوْلَيْنِ، كَتَحَقُّقِهِ فِي الْحَوْلِ الْوَاحِدِ.
فَعَلَى هَذَا إذَا كَانَ عِنْدَهُ أَكْثَرُ مِنْ النِّصَابِ، فَعَجَّلَ زَكَاتَهُ لِحَوْلَيْنِ، جَازَ. وَإِنْ كَانَ قَدْرُ النِّصَابِ مِثْلَ مَنْ عِنْدَهُ أَرْبَعُونَ شَاةً فَعَجَّلَ شَاتَيْنِ لِحَوْلَيْنِ وَكَانَ الْمُعَجِّلُ مِنْ غَيْرِهِ جَازَ وَإِنْ أَخْرَجَ شَاةً مِنْهُ وَشَاةً مِنْ غَيْرِهِ جَازَ عَنْ الْحَوْلِ الْأَوَّلِ وَلَمْ يَجُزْ عَنْ الثَّانِي لِأَنَّ النِّصَابَ نَقَصَ فَإِنْ كَمَلَ بَعْدَ ذَلِكَ وَصَارَ إخْرَاجُ زَكَاتِهِ وَتَعْجِيلُهُ لَهَا قَبْلَ كَمَالِ نِصَابِهَا وَإِنْ أَخْرَجَ الشَّاتَيْنِ جَمِيعًا مِنْ النِّصَابِ لَمْ تَجُزْ الزَّكَاةُ فِي الْحَوْلِ الْأَوَّلِ إذَا قُلْنَا لَيْسَ لَهُ ارْتِجَاعُ مَا عَجَّلَهُ لِأَنَّهُ كَالتَّالِفِ فَيَكُونُ النِّصَابُ نَاقِصًا فَإِنْ كَمَلَ بَعْدَ ذَلِكَ اُسْتُؤْنِفَ الْحَوْلُ مِنْ حِينِ كَمَلَ النِّصَابُ وَكَانَ مَا عَجَّلَهُ سَابِقًا عَلَى كَمَالِ النِّصَابِ فَلَمْ يَجُزْ عَنْهُ.

[فَصْل عَجَّلَ زَكَاة مَاله فَحَال الْحَوْل وَالنِّصَاب نَاقِص]
(1751) فَصْلٌ وَإِنْ عَجَّلَ زَكَاةَ مَالِهِ فَحَالُ الْحَوْلُ وَالنِّصَابُ نَاقِصٌ مِقْدَارَ مَا عَجَّلَهُ أَجْزَأَتْ عَنْهُ وَيَكُونُ حُكْمُ مَا عَجَّلَهُ حُكْمَ الْمَوْجُودِ فِي مِلْكِهِ يَتِمُّ النِّصَابُ بِهِ فَلَوْ زَادَ مَالُهُ حَتَّى بَلَغَ النِّصَابَ أَوْ زَادَ عَلَيْهِ وَحَالَ الْحَوْلُ أَجْزَأَ الْمُعَجَّلُ عَنْ زَكَاتِهِ لِمَا ذَكَرْنَا.
فَإِنْ نَقَصَ أَكْثَرُ مِمَّا عَجَّلَهُ فَقَدْ خَرَجَ بِذَلِكَ مِنْ كَوْنِهِ سَبَبًا لِلزَّكَاةِ، مِثْلُ مَنْ لَهُ أَرْبَعُونَ شَاةً فَعَجَّلَ شَاةً ثُمَّ تَلِفَتْ أُخْرَى فَقَدْ خَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ سَبَبًا لِلزَّكَاةِ فَإِنْ زَادَ بَعْدَ ذَلِكَ إمَّا بِنَتَاجٍ أَوْ شِرَاءِ مَا يَتِمُّ بِهِ النِّصَابُ اُسْتُؤْنِفَ الْحَوْلُ مِنْ حِينِ كَمَلَ النِّصَابُ وَلَمْ يَجُزْ مَا عَجَّلَهُ عَنْهُ لِمَا ذَكَرْنَا.
وَإِنْ زَادَ بِحَيْثُ يَكُونُ انْضِمَامُهُ إلَى مَا عَجَّلَهُ يَتَغَيَّرُ بِهِ الْفَرْضُ، مِثْلُ مَنْ لَهُ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ فَعَجَّلَ زَكَاتَهَا شَاةً ثُمَّ حَالَ الْحَوْلُ وَقَدْ أُنْتِجَتْ سَخْلَةٌ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ إخْرَاجُ شَاةٍ ثَانِيَةٍ وَبِمَا ذَكَرْنَاهُ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ مَا عَجَّلَهُ فِي حُكْمِ التَّالِفِ فَقَالَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ وَلَا يَكُونُ الْمُخْرَجُ زَكَاةً.
وَقَالَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ زِيَادَةٌ لِأَنَّ مَا عَجَّلَهُ زَالَ مِلْكُهُ عَنْهُ فَلَمْ يُحْسَبْ مِنْ مَالِهِ كَمَا لَوْ تَصَدَّقَ بِهِ تَطَوُّعًا

(2/473)


وَلَنَا أَنَّ هَذَا نِصَابٌ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ بِحَوْلِ الْحَوْلِ فَجَازَ تَعْجِيلُهَا مِنْهُ كَمَا لَوْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ وَلِأَنَّ مَا عَجَّلَهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْجُودِ فِي إجْزَائِهِ عَنْ مَالِهِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْجُودِ فِي تَعَلُّقِ الزَّكَاةِ بِهِ وَلِأَنَّهَا لَوْ لَمْ تُعَجَّلْ كَانَ عَلَيْهِ شَاتَانِ.
فَكَذَلِكَ إذَا عُجِّلَتْ لِأَنَّ التَّعْجِيلَ إنَّمَا كَانَ رِفْقًا بِالْمَسَاكِينِ فَلَا يَصِيرُ سَبَبًا لِنَقْصِ حُقُوقِهِمْ، وَالتَّبَرُّعُ يُخْرِجُ مَا تَبَرَّعَ بِهِ عَنْ حُكْمِ الْمَوْجُودِ فِي مَالِهِ وَهَذَا فِي حُكْمِ الْمَوْجُودِ فِي الْإِجْزَاءِ عَنْ الزَّكَاةِ (1752) فَصْلٌ وَكُلُّ مَوْضِعٍ قُلْنَا لَا يُجْزِئُهُ مَا عَجَّلَهُ عَنْ الزَّكَاةِ فَإِنْ كَانَ دَفَعَهَا إلَى الْفُقَرَاءِ مُطْلَقًا فَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا وَإِنْ كَانَ دَفَعَهَا بِشَرْطِ أَنَّهَا زَكَاةٌ مُعَجَّلَةٌ فَهَلْ لَهُ الرُّجُوعُ عَلَى وَجْهَيْنِ يَأْتِي تَوْجِيهُهُمَا

[فَصْل تَعْجِيل الْعَشْر مِنْ الزَّرْع وَالثَّمَر]
(1753) فَصْلٌ فَأَمَّا تَعْجِيلُ الْعُشْرِ مِنْ الزَّرْعِ وَالثَّمَرِ فَظَاهِرُ كَلَامِ الْقَاضِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ قَالَ كُلُّ مَا تَتَعَلَّقُ الزَّكَاةُ فِيهِ بِسَبَبَيْنِ: حَوْلٌ وَنِصَابٌ جَازَ تَعْجِيلُ زَكَاتِهِ.
فَمَفْهُومُ هَذَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَعْجِيلُ زَكَاةِ غَيْرِهِ لِأَنَّ الزَّكَاةَ مُعَلَّقَةٌ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ وَهُوَ ادِّرَاكُ الزَّرْعِ وَالثَّمَرَةِ فَإِذَا قَدَّمَهَا قَدَّمَهَا قَبْلَ وُجُودِ سَبَبِهَا لَكِنْ إنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الْإِدْرَاكِ وَقَبْلَ يُبْسِ الثَّمَرَةِ وَتَصْفِيَةِ الْحَبِّ جَازَ، وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ يَجُوزُ إخْرَاجُهَا بَعْدَ وُجُودِ الطَّلْعِ وَالْحِصْرِمِ، وَنَبَاتِ الزَّرْعِ.
وَلَا يَجُوزُ قَبْلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ وُجُودَ الزَّرْعِ وَاطِّلَاعَ النَّخِيلِ بِمَنْزِلَةِ النِّصَابِ، وَالْإِدْرَاكُ بِمَنْزِلَةِ حُلُولِ الْحَوْلِ؛ فَجَازَ تَقْدِيمُهَا عَلَيْهِ، وَتَعَلُّقُ الزَّكَاةِ بِالْإِدْرَاكِ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ التَّعْجِيلِ بِدَلِيلِ أَنَّ زَكَاةَ الْفِطْرِ يَتَعَلَّقُ وُجُوبُهَا بِهِلَالِ شَوَّالٍ، وَهُوَ زَمَنُ الْوُجُوبِ. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا قَبْلَ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ يَكُونُ قَبْلَ وُجُودِ سَبَبِهَا.

[فَصْلُ عَجَّلَ زَكَاة مَاله ثُمَّ مَاتَ فَأَرَادَ الْوَارِث الِاحْتِسَاب بِهَا عَنْ زَكَاة حَوْله]
(1754) فَصْلٌ: وَإِنْ عَجَّلَ زَكَاةَ مَالِهِ، ثُمَّ مَاتَ، فَأَرَادَ الْوَارِثُ الِاحْتِسَابَ بِهَا عَنْ زَكَاةِ حَوْلِهِ، لَمْ يَجُزْ. وَذَكَرَ الْقَاضِي وَجْهًا فِي جَوَازِهِ، بِنَاءً عَلَى مَا لَوْ عَجَّلَ زَكَاةَ عَامَيْنِ.
وَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ تَعْجِيلٌ لِلزَّكَاةِ قَبْلَ وُجُودِ سَبَبِهَا، أَشْبَهَ مَا لَوْ عَجَّلَ زَكَاةَ نِصَابٍ لِغَيْرِهِ، ثُمَّ اشْتَرَاهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ سَبَبَ الزَّكَاةِ مِلْكُ النِّصَابِ، وَمِلْكُ الْوَارِثِ حَادِثٌ، وَلَا يَبْنِي الْوَارِثُ عَلَى حَوْلِ الْمَوْرُوثِ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يُخْرِجْ الزَّكَاةَ، وَإِنَّمَا أَخْرَجَهَا غَيْرُهُ عَنْ نَفْسِهِ، وَإِخْرَاجُ الْغَيْرِ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ وِلَايَةٍ وَلَا نِيَابَةٍ لَا يُجْزِئُ وَلَوْ نَوَى، فَكَيْفَ إذَا لَمْ يَنْوِ.
وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا: لَوْ أَخْرَجَ زَكَاتَهُ وَقَالَ: إنْ كَانَ مُوَرِّثِي قَدْ مَاتَ فَهَذِهِ زَكَاةُ مَالِهِ، فَبَانَ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ، لَمْ يَقَعْ الْمَوْقِعُ. وَهَذَا أَبْلَغُ، وَلَا يُشْبِهُ هَذَا تَعْجِيلَ زَكَاةِ الْعَامَيْنِ؛ لِأَنَّهُ عَجَّلَ بَعْدَ وُجُودِ السَّبَبِ، وَأَخْرَجَهَا بِنَفْسِهِ، بِخِلَافِ هَذَا.

(2/474)


فَإِنْ قِيلَ: فَإِنَّهُ لَمَّا مَاتَ الْمُوَرِّثُ قَبْلَ الْحَوْلِ، كَانَ لِلْوَارِثِ ارْتِجَاعُهَا، فَإِذَا لَمْ يَرْتَجِعْهَا احْتَسَبَ بِهَا كَالدَّيْنِ قُلْنَا: فَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَحْتَسِبَ الدَّيْنَ عَنْ زَكَاتِهِ لَمْ يَصِحَّ، وَلَوْ كَانَ لَهُ عِنْدَ رَجُلٍ شَاةٌ مِنْ غَصْبٍ أَوْ قَرْضٍ، فَأَرَادَ أَنْ يَحْسُبَهَا عَنْ زَكَاتِهِ، لَمْ تُجْزِهِ.

[مَسْأَلَةُ إذَا دَفَعَ الزَّكَاةَ الْمُعَجَّلَةَ إلَى مُسْتَحِقِّهَا لَمْ يَخْلُ مِنْ أَرْبَعَة أَقْسَامٍ]
(1755) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَمَنْ قَدَّمَ زَكَاةَ مَالِهِ، فَأَعْطَاهَا لِمُسْتَحِقِّهَا، فَمَاتَ الْمُعْطَى قَبْلَ الْحَوْلِ، أَوْ بَلَغَ الْحَوْلَ وَهُوَ غَنِيٌّ مِنْهَا، أَوْ مِنْ غَيْرِهَا، أَجْزَأَتْ عَنْهُ) . وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا دَفَعَ الزَّكَاةَ الْمُعَجَّلَةَ إلَى مُسْتَحِقِّهَا، لَمْ يَخْلُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا، أَنْ لَا يَتَغَيَّرَ الْحَالُ، فَإِنَّ الْمَدْفُوعَ يَقَعُ مَوْقِعَهُ، وَيُجْزِئُ عَنْ الْمُزَكِّي، وَلَا يَلْزَمُهُ بَدَلُهُ، وَلَا لَهُ اسْتِرْجَاعُهُ، كَمَا لَوْ دَفَعَهَا بَعْدَ وُجُوبِهَا.
الثَّانِي: أَنْ يَتَغَيَّرَ حَالُ الْآخِذِ لَهَا، بِأَنْ يَمُوتَ قَبْلَ الْحَوْلِ، أَوْ يَسْتَغْنِيَ، أَوْ يَرْتَدَّ قَبْلَ الْحَوْلِ. فَهَذَا فِي حُكْمِ الْقِسْمِ الَّذِي قَبْلَهُ، وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يُجْزِئُ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ شَرْطًا لِلزَّكَاةِ إذَا عُدِمَ قَبْلَ الْحَوْلِ لَمْ يَجُزْ، كَمَا لَوْ تَلِفَ الْمَالُ، أَوْ مَاتَ رَبُّهُ. وَلَنَا، أَنَّهُ أَدَّى الزَّكَاةَ إلَى مُسْتَحِقِّهَا، فَلَمْ يَمْنَعُ الْإِجْزَاءَ تَغَيُّرُ حَالِهِ، كَمَا لَوْ اسْتَغْنَى بِهَا، وَلِأَنَّهُ حَقٌّ أَدَّاهُ إلَى مُسْتَحِقِّهِ، فَبَرِئَ مِنْهُ، كَالدَّيْنِ يُعَجِّلُهُ قَبْلَ أَجَلِهِ، وَمَا ذَكَرُوهُ مُنْتَقِضٌ بِمَا إذَا اسْتَغْنَى بِهَا، وَالْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ مَمْنُوعٌ، ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ، فَإِنَّ الْمَالَ إذَا تَلِفَ تَبَيَّنَ عَدَمُ الْوُجُوبِ؛ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَدَّى إلَى غَرِيمِهِ دَرَاهِمَ يَظُنُّهَا عَلَيْهِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهَا لَيْسَتْ عَلَيْهِ، وَكَمَا لَوْ أَدَّى الضَّامِنُ الدَّيْنَ، فَبَانَ أَنَّ الْمَضْمُونَ عَنْهُ قَدْ قَضَاهُ، وَفِي مَسْأَلَتِنَا الْحَقُّ وَاجِبٌ، وَقَدْ أَخَذَهُ مُسْتَحِقُّهُ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ، أَنْ يَتَغَيَّرَ حَالُ رَبِّ الْمَالِ قَبْلَ الْحَوْلِ بِمَوْتِهِ أَوْ رِدَّتِهِ، أَوْ تَلَفِ النِّصَابِ، أَوْ نَقْصِهِ، أَوْ بَيْعِهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا يَرْجِعُ بِهَا عَلَى الْفَقِيرِ، سَوَاءٌ أَعْلَمَهُ أَنَّهَا زَكَاةٌ مُعَجَّلَةٌ أَوْ لَمْ يُعْلِمْهُ.
وَقَالَ الْقَاضِي: وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدِي؛ لِأَنَّهَا وَصَلَتْ إلَى الْفَقِيرِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ ارْتِجَاعُهَا، كَمَا لَوْ لَمْ يُعْلِمْهُ، وَلِأَنَّهَا زَكَاةٌ دُفِعَتْ إلَى مُسْتَحِقِّهَا، فَلَمْ يَجُزْ اسْتِرْجَاعُهَا، كَمَا لَوْ تَغَيَّرَ حَالُ الْفَقِيرِ وَحْدَهُ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ: إنْ كَانَ الدَّافِعُ لَهَا السَّاعِيَ، اسْتَرْجَعَهَا بِكُلِّ حَالٍ، وَإِنْ كَانَ الدَّافِعُ رَبَّ الْمَالِ، وَأَعْلَمَهُ أَنَّهَا زَكَاةٌ مُعَجَّلَةٌ، رَجَعَ بِهَا، وَإِنْ أَطْلَقَ لَمْ يَرْجِعْ بِهَا.
وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ دَفَعَهُ عَمَّا يَسْتَحِقُّهُ الْقَابِضُ فِي الثَّانِي؛ فَإِذَا طَرَأَ مَا يَمْنَعُ الِاسْتِحْقَاقَ، وَجَبَ رَدُّهُ، كَالْأُجْرَةِ إذَا انْهَدَمَتْ الدَّارُ قَبْلَ السُّكْنَى، أَمَّا إذَا لَمْ يُعْلِمْهُ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَطَوُّعًا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هِبَةً، فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي الرُّجُوعِ، فَعَلَى قَوْلِ ابْنِ حَامِدٍ إنْ كَانَتْ الْعَيْنُ بَاقِيَةً لَمْ تَتَغَيَّرْ، أَخَذَهَا، وَإِنْ زَادَتْ زِيَادَةً مُتَّصِلَةً، أَخَذَهَا بِزِيَادَتِهَا؛ لِأَنَّهَا تُمْنَعُ فِي الْفُسُوخِ،

(2/475)


وَإِنْ كَانَتْ مُنْفَصِلَةً، أَخَذَهَا دُونَ زِيَادَتِهَا؛ لِأَنَّهَا حَدَثَتْ فِي مِلْكِ الْفَقِيرِ.
وَإِنْ كَانَتْ نَاقِصَةً، رَجَعَ عَلَى الْفَقِيرِ بِالنَّقْصِ؛ لِأَنَّ الْفَقِيرَ قَدْ مَلَكَهَا بِالنَّقْصِ؛ فَكَانَ نَقْصُهَا عَلَيْهِ، كَالْمَبِيعِ إذَا نَقَصَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، ثُمَّ عَلِمَ عَيْبَهُ. وَإِنْ كَانَتْ تَالِفَةً أَخَذَ قِيمَتَهَا يَوْمَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ مَا زَادَ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ نَقَصَ فَإِنَّمَا هُوَ فِي مِلْكُ الْفَقِيرِ، فَلَمْ يَضْمَنْهُ، كَالصَّدَاقِ يَتْلَفُ فِي يَدِ الْمَرْأَةِ. الْقِسْمُ الرَّابِعُ، أَنْ يَتَغَيَّرَ حَالُهُمَا جَمِيعًا، فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْقِسْمِ الَّذِي قَبْلَهُ سَوَاءٌ.

[فَصْلُ قَالَ رَبّ الْمَال قَدْ أَعْلَمَتْهُ أَنَّهَا زَكَاة مُعَجَّلَة فَلِي الرُّجُوع فَأَنْكَرَ الْآخِذ]
(1756) فَصْلٌ: إذَا قَالَ رَبُّ الْمَالِ: قَدْ أَعْلَمْته أَنَّهَا زَكَاةٌ مُعَجَّلَةٌ، فَلِي الرُّجُوعُ. فَأَنْكَرَ الْآخِذُ. فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْآخِذِ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ وَالْأَصْلُ عَدَمُ الْإِعْلَامِ، وَعَلَيْهِ الْيَمِينُ. وَإِنْ مَاتَ الْآخِذُ، وَاخْتَلَفَ الْمُخْرِجُ وَوَارِثُ الْآخِذِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَارِثِ، وَيَحْلِفُ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَنَّ مُوَرِّثَهُ أَعْلَمَ بِذَلِكَ. فَأَمَّا مَنْ قَالَ بِعَدَمِ الِاسْتِرْجَاعِ، فَلَا يَمِينَ وَلَا غَيْرَهَا.

[فَصْلُ تُسَلِّف الْإِمَام الزَّكَاة فَهَلَكَتْ فِي يَدِهِ]
(1757) فَصْلٌ: إذَا تَسَلَّفَ الْإِمَامُ الزَّكَاةَ، فَهَلَكَتْ فِي يَدِهِ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَكَانَتْ مِنْ ضَمَانِ الْفُقَرَاءِ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَسْأَلَهُ ذَلِكَ رَبُّ الْمَالِ أَوْ الْفُقَرَاءُ أَوْ لَمْ يَسْأَلْهُ أَحَدٌ؛ لِأَنَّ يَدَهُ كَيَدِ الْفُقَرَاءِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنْ تَسَلَّفَهَا مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ ضَمِنَهَا؛ لِأَنَّ الْفُقَرَاءَ رُشَّدٌ، لَا يُوَلَّى عَلَيْهِمْ، فَإِذَا قَبَضَ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ ضَمِنَ، كَالْأَبِ إذَا قَبَضَ لِابْنِهِ الْكَبِيرِ.
وَإِنْ كَانَ بِسُؤَالِهِمْ كَانَ مِنْ ضَمَانِهِمْ؛ لِأَنَّهُ وَكِيلُهُمْ. فَإِذَا كَانَ بِسُؤَالِ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ، لَمْ يُجْزِئْهُمْ الدَّفْعُ، وَكَانَ مِنْ ضَمَانِهِمْ؛ لِأَنَّهُ وَكِيلُهُمْ. وَإِنْ كَانَ بِسُؤَالِهِمْ فَفِيهِ وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا، أَنَّهُ مِنْ ضَمَانِ الْفُقَرَاءِ. وَلَنَا، أَنَّ لِلْإِمَامِ وِلَايَةً عَلَى الْفُقَرَاءِ، بِدَلِيلِ جَوَازِ قَبْضِ الصَّدَقَةِ لَهُمْ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ سَلَفًا وَغَيْرِهِ، فَإِذَا تَلِفَتْ فِي يَدِهِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ، لَمْ يَضْمَنْ، كَوَلِيِّ الْيَتِيمِ إذَا قَبَضَ لَهُ.
وَمَا ذَكَرُوهُ يَبْطُلُ بِمَا إذَا قَبَضَ الصَّدَقَةَ بَعْدَ وُجُوبِهَا، وَفَارَقَ الْأَبَ فِي حَقِّ وَلَدِهِ الْكَبِيرِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الْقَبْضُ لَهُ؛ لِعَدَمِ وِلَايَتِهِ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا يَضْمَنُ مَا قَبَضَهُ لَهُ مِنْ الْحَقِّ بَعْدَ وُجُوبِهِ.

(1758) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ إخْرَاجُ الزَّكَاةِ إلَّا بِنِيَّةٍ) . إلَّا أَنْ يَأْخُذَهَا الْإِمَامُ مِنْهُ قَهْرًا. مَذْهَبُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ النِّيَّةَ شَرْطٌ فِي أَدَاءِ الزَّكَاةِ، إلَّا مَا حُكِيَ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَا تَجِبُ لَهَا النِّيَّةُ، لِأَنَّهَا دَيْنٌ فَلَا تَجِبُ لَهَا النِّيَّةُ، كَسَائِرِ الدُّيُونِ، وَلِهَذَا يُخْرِجُهَا وَلِيُّ الْيَتِيمِ، وَيَأْخُذُهَا السُّلْطَانُ مِنْ الْمُمْتَنِعِ.
وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» وَأَدَاؤُهَا عَمَلٌ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَتَنَوَّعُ إلَى فَرْضٍ

(2/476)


وَنَفْلٍ، فَافْتَقَرَتْ إلَى النِّيَّةِ كَالصَّلَاةِ، وَتُفَارِقُ قَضَاءَ الدَّيْنِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِعِبَادَةٍ، وَلِهَذَا يَسْقُطُ بِإِسْقَاطِ مُسْتَحِقِّهِ، وَوَلِيُّ الصَّبِيِّ وَالسُّلْطَانُ يَنُوبَانِ عِنْدَ الْحَاجَةِ. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ النِّيَّةَ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهَا زَكَاتُهُ، أَوْ زَكَاةُ مَنْ يُخْرِجُ عَنْهُ. كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، وَمَحَلُّهَا الْقَلْبُ؛ لِأَنَّ مَحَلَّ الِاعْتِقَادَاتِ كُلِّهَا الْقَلْبُ.
(1759) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ تَقْدِيمُ النِّيَّةِ عَلَى الْأَدَاءِ بِالزَّمَنِ الْيَسِيرِ، كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ؛ وَلِأَنَّ هَذِهِ تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِيهَا، فَاعْتِبَارُ مُقَارَنَةِ النِّيَّةِ لِلْإِخْرَاجِ يُؤَدِّي إلَى التَّغْرِيرِ بِمَالِهِ، فَإِنْ دَفَعَ الزَّكَاةَ إلَى وَكِيلِهِ، وَنَوَى هُوَ دُونَ الْوَكِيلِ، جَازَ إذَا لَمْ تَتَقَدَّمْ نِيَّتُهُ الدَّفْعَ بِزَمَنِ طَوِيلٍ. وَإِنْ تَقَدَّمَتْ بِزَمَنٍ طَوِيلٍ لَمْ يَجُزْ، إلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ نَوَى حَالَ الدَّفْعِ إلَى الْوَكِيلِ، وَنَوَى الْوَكِيلُ عِنْدَ الدَّفْعِ إلَى الْمُسْتَحِقِّ، وَلَوْ نَوَى الْوَكِيلُ وَلَمْ يَنْوِ الْمُوَكِّلُ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ يَتَعَلَّقُ بِهِ، وَالْإِجْزَاءُ يَقَعُ عَنْهُ.
وَإِنْ دَفَعَهَا إلَى الْإِمَامِ نَاوِيًا وَلَمْ يَنْوِ الْإِمَامُ حَالَ دَفْعِهَا إلَى الْفُقَرَاءِ، جَازَ، وَإِنْ طَالَ؛ لِأَنَّهُ وَكِيلُ الْفُقَرَاءِ. وَلَوْ تَصَدَّقَ الْإِنْسَانُ بِجَمِيعِ مَالِهِ تَطَوُّعًا وَلَمْ يَنْوِ بِهِ الزَّكَاةَ، لَمْ يُجْزِئْهُ. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ: يُجْزِئُهُ اسْتِحْبَابًا وَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْوِ بِهِ الْفَرْضَ، فَلَمْ يُجْزِئْهُ، كَمَا لَوْ تَصَدَّقَ بِبَعْضِهِ، وَكَمَا لَوْ صَلَّى مِائَةَ رَكْعَةٍ وَلَمْ يَنْوِ الْفَرْضَ بِهَا.
(1760) فَصْلٌ: وَلَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ غَائِبٌ فَشَكَّ فِي سَلَامَتِهِ، جَازَ لَهُ إخْرَاجُ الزَّكَاةِ عَنْهُ، وَكَانَتْ نِيَّةُ الْإِخْرَاجِ صَحِيحَةً؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاؤُهُ. فَإِنْ نَوَى إنْ كَانَ مَالِي سَالِمًا فَهَذِهِ زَكَاتُهُ، وَإِنْ كَانَ تَالِفًا فَهِيَ تَطَوُّعٌ. فَبَانَ سَالِمًا، أَجْزَأَتْ نِيَّتُهُ؛ لِأَنَّهُ أَخْلَصَ النِّيَّةَ لِلْفَرْضِ، ثُمَّ رَتَّبَ عَلَيْهَا النَّفَلَ، وَهَذَا حُكْمُهَا كَمَا لَوْ لَمْ يَقُلْهُ، فَإِذَا قَالَهُ لَمْ يَضُرَّ.
وَلَوْ قَالَ: هَذَا زَكَاةُ مَالِي الْغَائِبِ أَوْ الْحَاضِرِ. صَحَّ؛ لِأَنَّ التَّعْيِينَ لَيْسَ بِشَرْطٍ، بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ لَهُ أَرْبَعُونَ دِينَارًا إذَا أَخْرَجَ نِصْفَ دِينَارٍ عَنْهَا، صَحَّ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يَقَعُ عَنْ عِشْرِينَ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ. وَإِنْ قَالَ: هَذَا زَكَاةُ مَالِي الْغَائِبِ أَوْ تَطَوُّعٌ. لَمْ يُجْزِئْهُ ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ لِأَنَّهُ لَمْ يُخْلِصْ النِّيَّةَ لِلْفَرْضِ.
أَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَ: أُصَلِّي فَرْضًا أَوْ تَطَوُّعًا. وَإِنْ قَالَ: هَذَا زَكَاةُ مَالِي الْغَائِبِ إنْ كَانَ سَالِمًا وَإِلَّا فَهُوَ زَكَاةُ مَالِي الْحَاضِرِ. أَجْزَأَهُ عَنْ السَّالِمِ مِنْهُمَا. وَإِنْ كَانَا سَالِمَيْنِ فَعَنْ أَحَدِهِمَا، لِأَنَّ التَّعْيِينَ لَيْسَ بِشَرْطٍ. وَإِنْ قَالَ: زَكَاةُ مَالِي الْغَائِبِ. وَأَطْلَقَ، فَبَانَ تَالِفًا، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَصْرِفَهُ إلَى زَكَاةِ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ عَيَّنَهُ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا عَنْ كَفَّارَةٍ عَيَّنَهَا فَلَمْ يَقَعْ عَنْهَا، لَمْ يَكُنْ لَهُ صَرْفُهُ إلَى كَفَّارَةٍ أُخْرَى.

(2/477)


هَذَا التَّفْرِيعُ فِيمَا إذَا كَانَتْ الْمُعَيَّنَةَ مِمَّا لَا يَمْنَعُ إخْرَاجَ زَكَاتِهِ فِي بَلَدِ رَبِّ الْمَالِ؛ إمَّا لِقُرْبِهِ، أَوْ لِكَوْنِ الْبَلَدِ لَا يُوجَدُ فِيهِ أَهْلُ السَّهْمَانِ، أَوْ عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي تَقُولُ بِإِخْرَاجِهَا فِي بَلَدٍ بَعِيدٍ مِنْ بَلَدِ الْمَالِ. وَإِنْ كَانَ لَهُ مُوَرِّثٌ غَائِبٌ فَقَالَ: إنْ كَانَ مُوَرِّثِي قَدْ مَاتَ، فَهَذِهِ زَكَاةُ مَالِهِ الَّذِي وَرِثْته مِنْهُ، فَبَانَ مَيِّتًا، لَمْ يُجْزِئْهُ مَا أَخْرَجَ؛ لِأَنَّهُ يَبْنِي عَلَى غَيْرِ أَصْلٍ، فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ لَيْلَةَ الشَّكِّ: إنْ كَانَ غَدًا مِنْ رَمَضَانَ فَهُوَ فَرْضِي، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَهُوَ نَفْلٌ.

[مَسْأَلَةُ نِيَّة الزَّكَاة]
(1761) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (إلَّا أَنْ يَأْخُذَهَا الْإِمَامُ مِنْهُ قَهْرًا) . مُقْتَضَى كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، أَنَّ الْإِنْسَانَ مَتَى دَفَعَ زَكَاتَهُ طَوْعًا لَمْ تُجْزِئْهُ إلَّا بِنِيَّةٍ، سَوَاءٌ دَفَعَهَا إلَى الْإِمَامِ أَوْ غَيْرِهِ، وَإِنْ أَخَذَهَا الْإِمَامُ مِنْهُ قَهْرًا، أَجْزَأَتْ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ؛ لِأَنَّ تَعَذُّرَ النِّيَّةِ فِي حَقِّهِ أَسْقَطَ وُجُوبَهَا عَنْهُ كَالصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ. وَقَالَ الْقَاضِي: مَتَى أَخَذَهَا الْإِمَامُ أَجْزَأَتْ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ، سَوَاءٌ أَخَذَهَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا.
وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ أَخْذَ الْإِمَامِ بِمَنْزِلَةِ الْقَسْمِ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ، فَلَمْ يَحْتَجْ إلَى نِيَّةٍ، وَلِأَنَّ لِلْإِمَامِ وِلَايَةً فِي أَخْذِهَا، وَلِذَلِكَ يَأْخُذُهَا مِنْ الْمُمْتَنِعِ اتِّفَاقًا وَلَوْ لَمْ يُجْزِئْهُ لَمَّا أَخَذَهَا، أَوْ لَأَخَذَهَا ثَانِيًا وَثَالِثًا حَتَّى يَنْفَدَ مَالُهُ؛ لِأَنَّ أَخْذَهَا إنْ كَانَ لِإِجْزَائِهَا فَلَا يَحْصُلُ الْإِجْزَاءُ بِدُونِ النِّيَّةِ، وَإِنْ كَانَ لِوُجُوبِهَا فَالْوُجُوبِ بَاقٍ بَعْدَ أَخْذِهَا.
وَاخْتَارَ أَبُو الْخَطَّابِ وَابْنُ عَقِيلٍ: أَنَّهَا لَا تُجْزِئُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى إلَّا بِنِيَّةِ رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ إمَّا وَكِيلُهُ، وَإِمَّا وَكِيلُ الْفُقَرَاءِ، أَوْ وَكِيلُهُمَا مَعًا، وَأَيَّ ذَلِكَ كَانَ فَلَا تُجْزِئُ نِيَّتُهُ عَنْ نِيَّةِ رَبِّ الْمَالِ، وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ تَجِبُ لَهَا النِّيَّةُ، فَلَا تُجْزِئُ عَمَّنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ، إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النِّيَّةِ كَالصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا أُخِذَتْ مِنْهُ مَعَ عَدَمِ الْإِجْزَاءِ حِرَاسَةً لِلْعِلْمِ الظَّاهِرِ كَالصَّلَاةِ يُجْبَرُ عَلَيْهَا لِيَأْتِيَ بِصُورَتِهَا، وَلَوْ صَلَّى بِغَيْرِ نِيَّةٍ لَمْ يُجْزِئْهُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: وَمَعْنَى قَوْلِ الْفُقَهَاءِ: يُجْزِئُ عَنْهُ. أَيْ فِي الظَّاهِرِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يُطَالَبُ بِأَدَائِهَا ثَانِيًا، كَمَا قُلْنَا فِي الْإِسْلَامِ، فَإِنَّ الْمُرْتَدَّ يُطَالَبُ بِالشَّهَادَةِ، فَمَتَى أَتَى بِهَا حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ ظَاهِرًا، وَمَتَى لَمْ يَكُنْ مُعْتَقِدًا صِحَّةَ مَا يَلْفِظُ بِهِ، لَمْ يَصِحَّ إسْلَامُهُ بَاطِنًا. قَالَ: وَقَوْلُ أَصْحَابِنَا: لَا تُقْبَلُ تَوْبَةُ الزِّنْدِيقِ.
مَعْنَاهُ: لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْقَتْلُ الَّذِي تَوَجَّهَ عَلَيْهِ؛ لِعَدَمِ عِلْمِنَا بِحَقِيقَةِ تَوْبَتِهِ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ أَنَّهُ أَظْهَرَ إيمَانَهُ، وَقَدْ كَانَ دَهْرَهُ يُظْهِرُ إيمَانَهُ، وَيَسْتُرُ كُفْرَهُ، فَأَمَّا عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنَّهَا تَصِحُّ إذَا عُلِمَ مِنْهُ حَقِيقَةُ الْإِنَابَةِ، وَصِدْقُ التَّوْبَةِ، وَاعْتِقَادُ الْحَقِّ وَمَنْ نَصَرَ قَوْلَ الْخِرَقِيِّ، قَالَ: إنَّ لِلْإِمَامِ وِلَايَةً عَلَى الْمُمْتَنِعِ، فَقَامَتْ نِيَّتُهُ مَقَامَ نِيَّتِهِ، كَوَلِيِّ الْيَتِيمِ وَالْمَجْنُونِ، وَفَارَقَ الصَّلَاةَ؛ فَإِنَّ النِّيَابَةَ فِيهَا لَا تَصِحُّ، فَلَا بُدَّ مِنْ نِيَّةِ فَاعِلِهَا.
وَقَوْلُهُ: لَا يَخْلُو مِنْ كَوْنِهِ وَكِيلًا لَهُ، أَوْ وَكِيلًا لِلْفُقَرَاءِ، أَوْ لَهُمَا. قُلْنَا: بَلْ هُوَ وَالٍ عَلَى الْمَالِكِ، وَأَمَّا

(2/478)


إلْحَاقُ الزَّكَاةِ بِالْقِسْمَةِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، فَإِنَّ الْقِسْمَةَ لَيْسَتْ عِبَادَةً، وَلَا يُعْتَبَرُ لَهَا نِيَّةٌ، بِخِلَافِ الزَّكَاةِ.

[فَصْلُ تَوَلَّى الْمُزَكَّى تَفْرِقَة الزَّكَاة]
(1762) فَصْلٌ: وَيُسْتَحَبُّ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَلِيَ تَفْرِقَةَ الزَّكَاةِ بِنَفْسِهِ؛ لِيَكُونَ عَلَى يَقِينٍ مِنْ وُصُولِهَا إلَى مُسْتَحِقِّهَا، سَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ أَوْ الْبَاطِنَةِ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: أَعْجَبُ إلَى أَنْ يُخْرِجَهَا، وَإِنْ دَفَعَهَا إلَى السُّلْطَانِ. فَهُوَ جَائِزٌ.
وَقَالَ الْحَسَنُ وَمَكْحُولٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ يَضَعُهَا رَبُّ الْمَالِ فِي مَوْضِعِهَا. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ احْلِفْ لَهُمْ، وَأَكْذِبْهُمْ، وَلَا تُعْطِهِمْ شَيْئًا، إذَا لَمْ يَضَعُوهَا مَوَاضِعَهَا، وَقَالَ لَا تُعْطِهِمْ: وَقَالَ عَطَاءٌ: أَعْطِهِمْ. إذَا وَضَعُوهَا مَوَاضِعَهَا. فَمَفْهُومُهُ أَنَّهُ لَا يُعْطِيهِمْ إذَا لَمْ يَكُونُوا كَذَلِكَ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ إذَا رَأَيْت الْوُلَاةَ لَا يَعْدِلُونَ، فَضَعْهَا فِي أَهْلِ الْحَاجَةِ مِنْ أَهْلِهَا: وَقَالَ إبْرَاهِيمُ ضَعُوهَا فِي مَوَاضِعِهَا، وَإِنْ أَخَذَهَا السُّلْطَانُ أَجْزَأَك. وَقَالَ سَعِيدٌ: أَنْبَأَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ مُهَاجِرٍ أَبِي الْحَسَنِ قَالَ: أَتَيْت أَبَا وَائِلٍ وَأَبَا بُرْدَةَ بِالزَّكَاةِ وَهُمَا عَلَى بَيْتِ الْمَالِ، فَأَخَذَاهَا، ثُمَّ جِئْت مَرَّةً أُخْرَى، فَرَأَيْت أَبَا وَائِلٍ وَحْدَهُ. فَقَالَ لِي: رُدَّهَا فَضَعْهَا مَوَاضِعَهَا.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: أَمَّا صَدَقَةُ الْأَرْضِ فَيُعْجِبُنِي دَفْعُهَا إلَى السُّلْطَانِ. وَأَمَّا زَكَاةُ الْأَمْوَالِ كَالْمَوَاشِي، فَلَا بَأْسَ أَنْ يَضَعَهَا فِي الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ. فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ اسْتَحَبَّ دَفْعَ الْعُشْرِ خَاصَّةً إلَى الْأَئِمَّةِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعُشْرَ قَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ إلَى أَنَّهُ مَئُونَةُ الْأَرْضِ، فَهُوَ كَالْخَرَاجِ يَتَوَلَّاهُ الْأَئِمَّةُ، بِخِلَافِ سَائِرِ الزَّكَاةِ. وَاَلَّذِي رَأَيْت فِي " الْجَامِعِ " قَالَ: أَمَّا صَدَقَةُ الْفِطْرِ، فَيُعْجِبُنِي دَفْعُهَا إلَى السُّلْطَانِ.
ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ قِيلَ لِابْنِ عُمَرَ إنَّهُمْ يُقَلِّدُونَ بِهَا الْكِلَابَ، وَيَشْرَبُونَ بِهَا الْخُمُورَ؟ ، قَالَ: ادْفَعْهَا إلَيْهِمْ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى وَأَبُو الْخَطَّابِ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَى الْإِمَامِ الْعَادِلِ أَفْضَلُ. وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ.
وَمِمَّنْ قَالَ: يَدْفَعُهَا إلَى الْإِمَامِ؛ الشَّعْبِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ وَأَبُو رَزِينٍ، وَالْأَوْزَاعِيُّ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ أَعْلَمُ بِمَصَارِفِهَا، وَدَفْعُهَا إلَيْهِ يُبَرِّئُهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَدَفْعُهَا إلَى الْفَقِيرِ لَا يُبَرِّئُهُ بَاطِنًا، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُسْتَحِقٍّ لَهَا، وَلِأَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ الْخِلَافِ، وَتَزُولُ عَنْهُ التُّهْمَةُ.
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَدْفَعُ زَكَاتَهُ إلَى مِنْ جَاءَهُ مِنْ سُعَاةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، أَوْ نَجْدَةَ الْحَرُورِيِّ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، قَالَ: أَتَيْت سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ فَقُلْت: عِنْدِي مَالٌ، وَأُرِيدُ أَنْ أُخْرِجَ زَكَاتَهُ، وَهَؤُلَاءِ الْقَوْمُ عَلَى مَا تَرَى، فَمَا تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: ادْفَعْهَا إلَيْهِمْ. فَأَتَيْت ابْنَ عُمَرَ، فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، فَأَتَيْت أَبَا هُرَيْرَةَ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، فَأَتَيْت أَبَا سَعِيدٍ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ. وَيُرْوَى نَحْوُهُ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو عُبَيْدٍ: لَا يُفَرِّقُ الْأَمْوَالَ الظَّاهِرَةَ إلَّا الْإِمَامُ؛ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى

(2/479)


{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] .
وَلِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ، طَالَبَهُمْ بِالزَّكَاةِ، وَقَاتَلَهُمْ عَلَيْهَا، وَقَالَ: لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَيْهَا. وَوَافَقَهُ الصَّحَابَةُ عَلَى هَذَا، وَلِأَنَّ مَا لِلْإِمَامِ قَبْضُهُ بِحُكْمِ الْوِلَايَةِ، لَا يَجُوزُ دَفْعُهُ إلَى الْمُوَلَّى عَلَيْهِ، كَوَلِيِّ الْيَتِيمِ. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ كَالْمَذْهَبَيْنِ. وَلَنَا، عَلَى جَوَازِ دَفْعِهَا بِنَفْسِهِ أَنَّهُ دَفَعَ الْحَقَّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ الْجَائِزِ تَصَرُّفُهُ.
فَأَجْزَأهُ، كَمَا لَوْ دَفَعَ الدَّيْنَ إلَى غَرِيمِهِ، وَكَزَكَاةِ الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ، وَلِأَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيْ الزَّكَاةِ، فَأَشْبَهَ النَّوْعَ الْآخَرَ، وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلْإِمَامِ أَخْذَهَا. وَلَا خِلَافَ فِيهِ، وَمُطَالَبَةُ أَبِي بَكْرٍ لَهُمْ بِهَا، لِكَوْنِهِمْ لَمْ يُؤَدُّوهَا إلَى أَهْلِهَا، وَلَوْ أَدَّوْهَا إلَى أَهْلِهَا لَمْ يُقَاتِلْهُمْ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُخْتَلَفٌ فِي إجْزَائِهِ، فَلَا تَجُوزُ الْمُقَاتَلَةُ مِنْ أَجْلِهِ، وَإِنَّمَا يُطَالِبُ الْإِمَامُ بِحُكْمِ الْوِلَايَةِ وَالنِّيَابَةِ عَنْ مُسْتَحِقِّيهَا، فَإِذَا دَفَعَهَا إلَيْهِمْ جَازَ؛ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ رُشْدٍ، فَجَازَ الدَّفْعُ إلَيْهِمْ، بِخِلَافِ الْيَتِيمِ.
وَأَمَّا وَجْهُ فَضِيلَةِ دَفْعِهَا بِنَفْسِهِ، فَلِأَنَّهُ إيصَالُ الْحَقِّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ، مَعَ تَوْفِيرِ أَجْرِ الْعِمَالَةِ، وَصِيَانَةِ حَقِّهِمْ، عَنْ خَطَرِ الْخِيَانَةِ، وَمُبَاشَرَةِ تَفْرِيجِ كُرْبَةِ مُسْتَحِقِّهَا، وَإِغْنَائِهِ بِهَا، مَعَ إعْطَائِهَا لِلْأَوْلَى بِهَا؛ مِنْ مَحَاوِيجِ أَقَارِبِهِ، وَذَوِي رَحِمِهِ، وَصِلَةِ رَحِمِهِ بِهَا، فَكَانَ أَفْضَلَ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ آخِذُهَا مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ. فَإِنْ قِيلَ: فَالْكَلَامُ فِي الْإِمَامِ الْعَادِلِ، إذْ الْخِيَانَةُ مَأْمُونَةٌ فِي حَقِّهِ. قُلْنَا: الْإِمَامُ لَا يَتَوَلَّى ذَلِكَ بِنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا يُفَوِّضُهُ إلَى نُوَّابِهِ، فَلَا تُؤْمَنُ مِنْهُمْ الْخِيَانَةُ، ثُمَّ رُبَّمَا لَا يَصِلُ إلَى الْمُسْتَحِقِّ الَّذِي قَدْ عَلِمَهُ الْمَالِكُ مِنْ أَهْلِهِ وَجِيرَانِهِ شَيْءٌ مِنْهَا، وَهُمْ أَحَقُّ النَّاسِ بِصِلَتِهِ وَصَدَقَتِهِ وَمُوَاسَاتِهِ.
وَقَوْلُهُمْ: إنَّ أَخْذَ الْإِمَامِ يُبَرِّئُهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا. قُلْنَا: يَبْطُلُ هَذَا بِدَفْعِهَا إلَى غَيْرِ الْعَادِلِ؛ فَإِنَّهُ يُبَرِّئُهُ أَيْضًا، وَقَدْ سَلَّمُوا أَنَّهُ لَيْسَ بِأَفْضَلَ، ثُمَّ إنَّ الْبَرَاءَةَ الظَّاهِرَةَ تَكْفِي. وَقَوْلُهُمْ: إنَّهُ تَزُولُ بِهِ التُّهْمَةُ. قُلْنَا: مَتَى أَظْهَرَهَا زَالَتْ التُّهْمَةُ، سَوَاءٌ أَخْرَجَهَا بِنَفْسِهِ، أَوْ دَفَعَهَا إلَى الْإِمَامِ، وَلَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ أَنَّ دَفْعَهَا إلَى الْإِمَامِ، سَوَاءٌ كَانَ عَادِلًا أَوْ غَيْرَ عَادِلٍ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ أَوْ الْبَاطِنَةِ، وَيَبْرَأُ بِدَفْعِهَا سَوَاءٌ تَلِفَتْ فِي يَدِ الْإِمَامِ أَوْ لَمْ تَتْلَفْ، أَوْ صَرَفَهَا فِي مَصَارِفِهَا أَوْ لَمْ يَصْرِفْهَا؛ لِمَا ذَكَرْنَا عَنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَلِأَنَّ الْإِمَامَ نَائِبٌ عَنْهُمْ شَرْعًا فَبَرِئَ بِدَفْعِهَا إلَيْهِ، كَوَلِيِّ الْيَتِيمِ إذَا قَبَضَهَا لَهُ، وَلَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ أَيْضًا فِي أَنَّ صَاحِبَ الْمَالِ يَجُوزُ أَنْ يُفَرِّقَهَا بِنَفْسِهِ.

(2/480)


[فَصْلُ أَخَذَ الْخَوَارِج وَالْبُغَاة الزَّكَاة]
(1763) فَصْلٌ: إذَا أَخَذَ الْخَوَارِجُ وَالْبُغَاةُ الزَّكَاةَ، أَجْزَأَتْ عَنْ صَاحِبِهَا. وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ، فِي الْخَوَارِجِ، أَنَّهُ يُجْزِئُ. وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ أَخَذَهَا مِنْ السَّلَاطِينِ، أَجْزَأَتْ عَنْ صَاحِبِهَا، سَوَاءٌ عَدَلَ فِيهَا أَوْ جَارَ، وَسَوَاءٌ أَخَذَهَا قَهْرًا أَوْ دَفَعَهَا إلَيْهِ اخْتِيَارًا. قَالَ أَبُو صَالِحٍ: سَأَلْت سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ وَابْنَ عُمَرَ وَجَابِرًا وَأَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَبَا هُرَيْرَةَ فَقُلْت: هَذَا السُّلْطَانُ يَصْنَعُ مَا تَرَوْنَ، أَفَأَدْفَعُ إلَيْهِمْ زَكَاتِي؟ فَقَالُوا كُلُّهُمْ: نَعَمْ
وَقَالَ إبْرَاهِيمُ يُجْزِئُ عَنْك مَا أَخَذَ مِنْك الْعَشَّارُونَ. وَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ أَنَّهُ دَفَعَ صَدَقَتَهُ إلَى نَجْدَةَ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ مُصَدِّقِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَمُصَدِّقِ نَجْدَةَ، فَقَالَ: إلَى أَيِّهِمَا دَفَعْت أَجْزَأَ عَنْك. وَبِهَذَا قَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ فِيمَا غُلِبُوا عَلَيْهِ. وَقَالُوا: إذَا مَرَّ عَلَى الْخَوَارِجِ فَعَشَّرُوهُ، لَا يُجْزِئُ عَنْ زَكَاتِهِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي الْخَوَارِجِ يَأْخُذُونَ الزَّكَاةَ: عَلَى مَنْ أَخَذُوا مِنْهُ الْإِعَادَةَ؛ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِأَئِمَّةٍ، فَأَشْبَهُوا قُطَّاعَ الطَّرِيقِ.
وَلَنَا، قَوْلُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ فِي عَصْرِهِمْ عَلِمْنَاهُ، فَيَكُونُ إجْمَاعًا وَلِأَنَّهُ دَفَعَهَا إلَى أَهْلِ الْوِلَايَةِ، فَأَشْبَهَ دَفْعَهَا إلَى أَهْلِ الْبَغْيِ.

[فَصْلُ دُعَاء دَافِع الزَّكَاة وَدُعَاء الْآخِذ لَهَا]
(1764) فَصْلٌ: وَإِذَا دَفَعَ الزَّكَاةَ اُسْتُحِبَّ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا مَغْنَمًا وَلَا تَجْعَلْهَا مَغْرَمًا، وَيَحْمَدُ اللَّهَ عَلَى التَّوْفِيقِ لِأَدَائِهَا. فَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا أَعْطَيْتُمْ الزَّكَاةَ فَلَا تَنْسَوْا ثَوَابَهَا أَنْ تَقُولُوا: اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا مَغْنَمًا، وَلَا تَجْعَلْهَا مَغْرَمًا» . أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَيُسْتَحَبُّ لِلْآخِذِ أَنْ يَدْعُوَ لِصَاحِبِهَا فَيَقُولَ آجَرَك اللَّهُ فِيمَا أَعْطَيْت، وَبَارَكَ لَك فِيمَا أَنْقَقْت، وَجَعَلَهُ لَك طَهُورًا.
وَإِنْ كَانَ الدَّفْعُ إلَى السَّاعِي، أَوْ الْإِمَامِ شَكَرَهُ وَدَعَا لَهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة: 103] . «قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى: كَانَ أَبِي مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ، وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا أَتَاهُ قَوْمٌ بِصَدَقَتِهِمْ، قَالَ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ فُلَانٍ. فَأَتَاهُ أَبِي بِصَدَقَتِهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَالصَّلَاةُ هَاهُنَا الدُّعَاءُ وَالتَّبْرِيكُ وَلَيْسَ هَذَا بِوَاجِبٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ بَعَثَ مُعَاذًا إلَى الْيَمَنِ، قَالَ: «أَعْلِمْهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ، فَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. فَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالدُّعَاءِ. وَلِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَجِبُ عَلَى الْفَقِيرِ الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ، فَالنَّائِبُ أَوْلَى.

(2/481)


[فَصْلُ دَفَعَ الزَّكَاة إلَى الْكَبِير وَالصَّغِير]
(1765) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَى الْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ، سَوَاءٌ أَكَلَ الطَّعَامَ أَوْ لَمْ يَأْكُلْ. قَالَ أَحْمَدُ يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ زَكَاتَهُ فِي أَجْرِ رَضَاعِ لَقِيطِ غَيْرِهِ، هُوَ فَقِيرٌ مِنْ الْفُقَرَاءِ. وَعَنْهُ: لَا يَجُوزُ دَفْعُهَا إلَّا إلَى مَنْ أَكَلَ الطَّعَامَ. قَالَ الْمَرُّوذِيُّ: كَانَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ لَا يَرَى أَنْ يُعْطَى الصَّغِيرُ مِنْ الزَّكَاةِ، إلَّا أَنْ يَطْعَمَ الطَّعَامَ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّهُ فَقِيرٌ، فَجَازَ الدَّفْعُ إلَيْهِ، كَاَلَّذِي طَعِمَ، وَلِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى الزَّكَاةِ لِأَجْرِ رَضَاعِهِ وَكِسْوَتِهِ وَسَائِرِ حَوَائِجِهِ، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ النُّصُوصِ، وَيَدْفَعُ الزَّكَاةَ إلَى وَلِيِّهِ؛ لِأَنَّهُ يَقْبِضُ حُقُوقَهُ، وَهَذَا مِنْ حُقُوقِهِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ دَفَعَهَا إلَى مَنْ يُعْنَى بِأَمْرِهِ، وَيَقُومُ بِهِ مِنْ أُمِّهِ أَوْ غَيْرِهَا. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَكَذَلِكَ الْمَجْنُونُ، قَالَ هَارُونُ الْحَمَّالُ: قُلْت لِأَحْمَدَ فَكَيْفَ يُصْنَعُ بِالصِّغَارِ؟ قَالَ: يُعْطَى أَوْلِيَاؤُهُمْ. فَقُلْت: لَيْسَ لَهُمْ وَلِيٌّ، قَالَ: فَيُعْطَى مَنْ يُعْنَى بِأَمْرِهِمْ مِنْ الْكِبَارِ فَرَخَّصَ فِي ذَلِكَ. وَقَالَ مُهَنَّا: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يُعْطَى مِنْ الزَّكَاةِ الْمَجْنُونُ، وَالذَّاهِبُ عَقْلُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْت: مَنْ يَقْبِضُهَا لَهُ؟ قَالَ: وَلِيُّهُ. قُلْت: لَيْسَ لَهُ وَلِيٌّ؟ قَالَ الَّذِي يَقُومُ عَلَيْهِ. وَإِنْ دَفَعَهَا إلَى الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ، فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ.
قَالَ الْمَرُّوذِيُّ قُلْت لِأَحْمَدَ يُعْطَى غُلَامٌ يَتِيمٌ مِنْ الزَّكَاةِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْت: فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يُضَيِّعَهُ. قَالَ: يَدْفَعُهُ إلَى مَنْ يَقُومُ بِأَمْرِهِ. وَقَدْ رَوَى الدَّارَقُطْنِيّ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ، قَالَ: «بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِينَا سَاعِيًا، فَأَخَذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِنَا فَرَدَّهَا فِي فُقَرَائِنَا» وَكُنْت غُلَامًا يَتِيمًا لَا مَالَ لِي، فَأَعْطَانِي قَلُوصًا.

[فَصْلُ دَفَعَ الزَّكَاة إلَى مِنْ يَظُنّهُ فَقِيرًا]
(1766) فَصْلٌ: وَإِذَا دَفَعَ الزَّكَاةَ إلَى مَنْ يَظُنُّهُ فَقِيرًا، لَمْ يَحْتَجْ إلَى إعْلَامِهِ أَنَّهَا زَكَاةٌ. قَالَ الْحَسَنُ أَتُرِيدُ أَنْ تُقْرِعَهُ، لَا تُخْبِرْهُ؟ وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ: قُلْت لِأَحْمَدَ: يَدْفَعُ الرَّجُلُ الزَّكَاةَ إلَى الرَّجُلِ، فَيَقُولُ: هَذَا مِنْ الزَّكَاةِ. أَوْ يَسْكُتُ؟ قَالَ: وَلِمَ يُبَكِّتْهُ بِهَذَا الْقَوْلِ؟ يُعْطِيه وَيَسْكُتُ، وَمَا حَاجَتُهُ إلَى أَنْ يُقْرِعَهُ؟ .

[مَسْأَلَةُ لَا يُعْطَى مِنْ الصَّدَقَة الْمَفْرُوضَة لِلْوَالِدَيْنِ]
(1767) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا يُعْطَى مِنْ الصَّدَقَةِ الْمَفْرُوضَةِ لِلْوَالِدَيْنِ، وَإِنْ عَلَوْا، وَلَا لِلْوَلَدِ، وَإِنْ سَفَلَ) قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الزَّكَاةَ لَا يَجُوزُ دَفْعُهَا إلَى الْوَالِدَيْنِ، فِي الْحَالِ الَّتِي يُجْبَرُ الدَّافِعُ إلَيْهِمْ عَلَى النَّفَقَةِ عَلَيْهِمْ، وَلِأَنَّ دَفْعَ زَكَاتِهِ إلَيْهِمْ تُغْنِيهِمْ عَنْ نَفَقَتِهِ، وَتُسْقِطُهَا عَنْهُ، وَيَعُودُ نَفْعُهَا إلَيْهِ، فَكَأَنَّهُ دَفَعَهَا إلَى نَفْسِهِ، فَلَمْ تَجُزْ، كَمَا لَوْ قَضَى بِهَا دَيْنَهُ، وَقَوْلُ الْخِرَقِيِّ " لِلْوَالِدَيْنِ " يَعْنِي الْأَبَ وَالْأُمَّ.
وَقَوْلُهُ: " وَإِنْ عَلَوْا " يَعْنِي آبَاءَهُمَا وَأُمَّهَاتِهِمَا، وَإِنْ ارْتَفَعَتْ دَرَجَتُهُمْ مِنْ الدَّافِعِ، كَأَبَوَيْ الْأَبِ، وَأَبَوَيْ

(2/482)


الْأُمِّ، وَأَبَوَيْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ عَلَتْ دَرَجَتُهُمْ، مَنْ يَرِثُ مِنْهُمْ وَمَنْ لَا يَرِثُ. وَقَوْلُهُ: " وَالْوَلَدُ وَإِنْ سَفَلَ " يَعْنِي وَإِنْ نَزَلَتْ دَرَجَتُهُ مِنْ أَوْلَادِهِ الْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ، الْوَارِثِ وَغَيْرِ الْوَارِثِ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فَقَالَ: لَا يُعْطِي الْوَالِدَيْنِ مِنْ الزَّكَاةِ، وَلَا الْوَلَدَ وَلَا وَلَدَ الْوَلَدِ، وَلَا الْجَدَّ وَلَا الْجَدَّةَ وَلَا وَلَدَ الْبِنْتِ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ» يَعْنِي الْحَسَنَ، فَجَعَلَهُ ابْنَهُ وَلِأَنَّهُ مِنْ عَمُودَيْ نَسَبِهِ، فَأَشْبَهَ الْوَارِثَ، وَلِأَنَّ بَيْنَهُمَا قَرَابَةً جُزْئِيَّةً وَبَعْضِيَّةً، بِخِلَافِ غَيْرِهَا.

[فَصْلُ دَفَعَ الزَّكَاة لِمَنْ لَا يَرِث مِنْ الْأَقَارِبِ]
(1768) فَصْلٌ: فَأَمَّا سَائِرُ الْأَقَارِبِ، فَمَنْ لَا يُوَرَّثُ مِنْهُمْ يَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَيْهِ، سَوَاءٌ كَانَ انْتِفَاءُ الْإِرْثِ لِانْتِفَاءِ سَبَبِهِ، لِكَوْنِهِ بَعِيدَ الْقَرَابَةِ مِمَّنْ لَمْ يُسَمِّ اللَّهُ تَعَالَى وَلَا رَسُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ مِيرَاثًا، أَوْ كَانَ لِمَانِعٍ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ مَحْجُوبًا عَنْ الْمِيرَاثِ، كَالْأَخِ الْمَحْجُوبِ بِالِابْنِ أَوْ الْأَبِ، وَالْعَمِّ الْمَحْجُوبِ بِالْأَخِ وَابْنِهِ وَإِنْ نَزَلَ، فَيَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ؛ إلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا قَرَابَةَ جُزْئِيَّةً بَيْنِهِمَا وَلَا مِيرَاثَ، فَأَشْبَهَا الْأَجَانِبَ.
وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا مِيرَاثٌ كَالْأَخَوَيْنِ اللَّذَيْنِ يَرِثُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْآخَرَ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ إحْدَاهُمَا: يَجُوزُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَفْعُ زَكَاتِهِ إلَى الْآخَرِ، وَهِيَ الظَّاهِرَةُ عَنْهُ، رَوَاهَا عَنْهُ الْجَمَاعَةُ، قَالَ فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ، وَإِسْحَاقَ بْنِ مَنْصُورٍ، وَقَدْ سَأَلَهُ: يُعْطِي الْأَخَ وَالْأُخْتَ وَالْخَالَةَ مِنْ الزَّكَاةِ؟ قَالَ: يُعْطِي كُلَّ الْقَرَابَةِ إلَّا الْأَبَوَيْنِ وَالْوَلَدَ. وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ.
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ هُوَ الْقَوْلُ عِنْدِي؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الصَّدَقَةُ عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ، وَهِيَ لِذِي الرَّحِمِ اثْنَانِ؛ صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ» فَلَمْ يَشْتَرِطْ نَافِلَةً وَلَا فَرِيضَةً، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْوَارِثِ وَغَيْرِهِ.
وَلِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَمُودَيْ نَسَبِهِ، فَأَشْبَهَ الْأَجْنَبِيَّ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، لَا يَجُوزُ دَفْعُهَا إلَى الْمَوْرُوثِ. وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ لِقَوْلِهِ: وَلَا لِمَنْ تَلْزَمُهُ مُؤْنَتُهُ " وَعَلَى الْوَارِثِ مُؤْنَةُ الْمَوْرُوثِ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ مُؤْنَتُهُ، فَيُغْنِيه بِزَكَاتِهِ عَنْ مُؤْنَتِهِ، وَيَعُودُ نَفْعُ زَكَاتِهِ إلَيْهِ، فَلَمْ يَجُزْ، كَدَفْعِهَا إلَى وَالِدِهِ، أَوْ قَضَاءِ دَيْنِهِ بِهَا.
وَالْحَدِيثُ يَحْتَمِلُ صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ، فَيُحْمَلُ عَلَيْهَا. فَعَلَى هَذَا إنْ كَانَ أَحَدُهُمَا يَرِثُ الْآخَرَ، وَلَا يَرِثُهُ الْآخَرُ، كَالْعَمَّةِ مَعَ ابْنِ أَخِيهَا، وَالْعَتِيقِ مَعَ مُعْتِقِهِ، فَعَلَى الْوَارِثِ مِنْهُمَا نَفَقَةُ مُوَرِّثِهِ، وَلَيْسَ لَهُ دَفْعُ زَكَاتِهِ إلَيْهِ، وَلَيْسَ عَلَى الْمَوْرُوثِ مِنْهُمَا نَفَقَةُ وَارِثِهِ، وَلَا يُمْنَعُ مِنْ دَفْعِ زَكَاتِهِ إلَيْهِ، لِانْتِفَاءِ الْمُقْتَضِي لِلْمَنْعِ. وَلَوْ كَانَ الْأَخَوَانِ لَأَحَدِهِمَا ابْنٌ، وَالْآخَرِ لَا وَلَدَ لَهُ، فَعَلَى أَبِي الِابْنِ نَفَقَةُ أَخِيهِ، وَلَيْسَ لَهُ دَفْعُ زَكَاتِهِ إلَيْهِ، وَلِلَّذِي لَا وَلَدَ لَهُ، لَهُ دَفْعُ زَكَاتِهِ إلَى أَخِيهِ، وَلَا يَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ؛ لِأَنَّهُ مَحْجُوبٌ عَنْ مِيرَاثِهِ. وَنَحْوُ هَذَا قَوْلُ الثَّوْرِيِّ فَأَمَّا ذَوُو الْأَرْحَامِ فِي الْحَالِ الَّتِي يَرِثُونَ فِيهَا، فَيَجُوزُ دَفْعُهَا إلَيْهِمْ، فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ؛ لِأَنَّ قَرَابَتَهُمْ ضَعِيفَةٌ، لَا يَرِثُ بِهَا مَعَ عَصَبَةٍ، وَلَا ذِي فَرْضٍ،

(2/483)


غَيْرَ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ، فَلَمْ تَمْنَعْ دَفْعَ الزَّكَاةِ كَقَرَابَةِ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ مَالَهُ يَصِيرُ إلَيْهِمْ، إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ.

[مَسْأَلَةُ مِنْ لَا تُعْطِي لَهُمْ الصَّدَقَة]
(1769) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا لِلزَّوْجِ، وَلَا لِلزَّوْجَةِ) أَمَّا الزَّوْجَةُ فَلَا يَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَيْهَا إجْمَاعًا. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ لَا يُعْطِي زَوْجَتَهُ مِنْ الزَّكَاةِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ نَفَقَتَهَا وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ، فَتَسْتَغْنِي بِهَا عَنْ أَخْذِ الزَّكَاةِ، فَلَمْ يَجُزْ دَفْعُهَا إلَيْهَا، كَمَا لَوْ دَفَعَهَا إلَيْهَا عَلَى سَبِيلِ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا. وَأَمَّا الزَّوْجُ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا، لَا يَجُوزُ دَفْعُهَا إلَيْهِ.
وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ، فَلَمْ يَجُزْ لِلْآخَرِ دَفْعُ زَكَاتِهِ إلَيْهِ كَالْآخَرِ، وَلِأَنَّهَا تَنْتَفِعُ بِدَفْعِهَا إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا، تَمَكَّنَ بِأَخْذِ الزَّكَاةِ مِنْ الْإِنْفَاقِ، فَيَلْزَمُهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَاجِزًا، وَلَكِنَّهُ أَيْسَرِ بِهَا، لَزِمَتْهُ نَفَقَةُ الْمُوسِرِينَ، فَتَنْتَفِعُ بِهَا فِي الْحَالَيْنِ، فَلَمْ يَجُزْ لَهَا ذَلِكَ، كَمَا لَوْ دَفَعَتْهَا فِي أُجْرَةِ دَارٍ، أَوْ نَفَقَةِ رَقِيقِهَا أَوْ بَهَائِمِهَا.
فَإِنْ قِيلَ: فَيُلْزَمُ عَلَى هَذَا الْغَرِيمَ؛ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ دَفْعُ زَكَاتِهِ إلَى غَرِيمِهِ، وَيُلْزَمُ الْآخِذَ بِذَلِكَ وَفَاءُ دَيْنِهِ؛ فَيَنْتَفِعُ الدَّافِعُ بِدَفْعِهَا إلَيْهِ. قُلْنَا: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا، أَنَّ حَقَّ الزَّوْجَةِ فِي النَّفَقَةِ آكَدُ مِنْ حَقِّ الْغَرِيمِ، بِدَلِيلِ أَنَّ نَفَقَةَ الْمَرْأَةِ مُقَدَّمَةٌ فِي مَالِ الْمُفْلِسِ عَلَى أَدَاءِ دَيْنِهِ، وَأَنَّهَا تَمْلِكُ أَخْذَهَا مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ، إذَا امْتَنَعَ مِنْ أَدَائِهَا، وَالثَّانِي أَنَّ الْمَرْأَةَ تَنْبَسِطُ فِي مَالِ زَوْجِهَا بِحُكْمِ الْعَادَةِ، وَيُعَدُّ مَالُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَالًا لِلْآخَرِ، وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي عَبْدٍ سَرَقَ مِرْآةَ امْرَأَةِ سَيِّدِهِ: عَبْدُكُمْ سَرَقَ مَالَكُمْ. وَلَمْ يَقْطَعْهُ
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَكَذَلِكَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ، بِخِلَافِ الْغَرِيمِ مَعَ غَرِيمِهِ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، يَجُوزُ لَهَا دَفْعُ زَكَاتِهَا إلَى زَوْجِهَا. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَطَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ «لِأَنَّ زَيْنَبَ امْرَأَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَتْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إنَّك أَمَرْت الْيَوْمَ بِالصَّدَقَةِ، وَكَانَ عِنْدِي حُلِيٌّ لِي، فَأَرَدْت أَنَّ أَتَصَدَّقْ بِهِ، فَزَعَمَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّهُ هُوَ وَوَلَدَهُ أَحَقُّ مَنْ تَصَدَّقْت عَلَيْهِمْ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَدَقَ ابْنُ مَسْعُودٍ، زَوْجُك وَوَلَدُك أَحَقُّ مَنْ تَصَدَّقْت بِهِ عَلَيْهِمْ.» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَرُوِيَ «أَنَّ امْرَأَةَ عَبْدِ اللَّهِ سَأَلْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَنِي أَخٍ لَهَا أَيْتَامٍ فِي حِجْرِهَا، أَفَتُعْطِيهِمْ زَكَاتَهَا؟ قَالَ: نَعَمْ»
وَرَوَى الْجُوزَجَانِيُّ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: «أَتَتْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امْرَأَةٌ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ عَلَيَّ نَذْرًا أَنْ أَتَصَدَّقَ بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا، وَإِنَّ لِي زَوْجًا فَقِيرًا، أَفَيُجْزِئُ عَنِّي أَنْ

(2/484)


أُعْطِيَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، لَك كِفْلَانِ مِنْ الْأَجْرِ.» وَلِأَنَّهُ لَا تَجِبُ نَفَقَتُهُ، فَلَا يُمْنَعُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَيْهِ، كَالْأَجْنَبِيِّ، وَيُفَارِقُ الزَّوْجَةَ، فَإِنَّ نَفَقَتَهَا وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ جَوَازُ الدَّفْعِ لِدُخُولِ الزَّوْجِ فِي عُمُومِ الْأَصْنَافِ الْمُسَمَّيْنَ فِي الزَّكَاةِ، وَلَيْسَ فِي الْمَنْعِ نَصٌّ وَلَا إجْمَاعٌ.
وَقِيَاسُهُ عَلَى مِنْ ثَبَتَ الْمَنْعُ فِي حَقِّهِ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِوُضُوحِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا، فَيَبْقَى جَوَازُ الدَّفْعِ ثَابِتًا، وَالِاسْتِدْلَالُ بِهَذَا أَقْوَى مِنْ الِاسْتِدْلَالِ بِالنُّصُوصِ، لِضَعْفِ دَلَالَتِهَا؛ فَإِنَّ الْحَدِيثَ الْأَوَّلَ فِي صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ، لِقَوْلِهَا: أَرَدْت أَنْ أَتَصَدَّقَ بِحُلِيٍّ لِي. وَلَا تَجِبُ الصَّدَقَةُ بِالْحِلِّي، وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «زَوْجُك وَوَلَدُك أَحَقُّ مَنْ تَصَدَّقْت بِهِ عَلَيْهِمْ.» وَالْوَلَدُ لَا تُدْفَعُ إلَيْهِ الزَّكَاةُ. وَالْحَدِيثُ الثَّانِي، لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الزَّوْجِ، وَذِكْرُ الزَّكَاةِ فِيهِ غَيْرُ مَحْفُوظٍ.
قَالَ أَحْمَدُ مَنْ ذَكَرَ الزَّكَاةَ فَهُوَ عِنْدِي غَيْرُ مَحْفُوظٍ، إنَّمَا ذَاكَ صَدَقَةٌ مِنْ غَيْرِ الزَّكَاةِ، كَذَا قَالَ الْأَعْمَشُ فَأَمَّا الْحَدِيثُ الْآخَرُ فَهُوَ مُرْسَلٌ، وَهُوَ فِي النَّذْرِ.

(1770) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ فِي عَائِلَتِهِ مِنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِ كَيَتِيمِ أَجْنَبِيٍّ، فَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ دَفْعُ زَكَاتِهِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِدَفْعِهَا إلَيْهِ، لِإِغْنَائِهِ بِهَا عَنْ مُؤْنَتِهِ. وَالصَّحِيحُ، إنْ شَاءَ اللَّهُ، جَوَازُ دَفْعِهَا إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي أَصْنَافِ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلزَّكَاةِ، وَلَمْ يَرِدْ فِي مَنْعِهِ نَصٌّ وَلَا إجْمَاعٌ وَلَا قِيَاسٌ صَحِيحٌ، فَلَا يَجُوزُ إخْرَاجُهُ مِنْ عُمُومِ النَّصِّ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، وَإِنْ تَوَهَّمَ أَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِدَفْعِهَا إلَيْهِ، قُلْنَا: قَدْ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ، فَإِنَّهُ يَصْرِفُهَا فِي مَصَالِحِهِ الَّتِي لَا يَقُومُ بِهَا الدَّافِعُ، وَإِنْ قَدَّرَ الِانْتِفَاعَ فَإِنَّهُ نَفْعٌ لَا يَسْقُطُ بِهِ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، وَلَا يُجْتَلَبُ بِهِ مَالٌ إلَيْهِ، فَلَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ الدَّفْعَ، كَمَا لَوْ كَانَ يَصِلُهُ تَبَرُّعًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مِنْ عَائِلَتِهِ.

[فَصْلُ لَيْسَ لِمَخْرَجِ الزَّكَاة شِرَاؤُهَا مِمَّنْ صَارَتْ إلَيْهِ]
(1771) فَصْلٌ: وَلَيْسَ لِمُخْرِجِ الزَّكَاةِ شِرَاؤُهَا مِمَّنْ صَارَتْ إلَيْهِ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ وَمَالِكٍ قَالَ أَصْحَابُ مَالِكٍ: فَإِنْ اشْتَرَاهَا لَمْ يُنْقَضْ الْبَيْعُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ: يَجُوزُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ، إلَّا لِخَمْسَةٍ؛ رَجُلٍ ابْتَاعَهَا بِمَالِهِ»
وَرَوَى سَعِيدٌ، فِي " سُنَنِهِ «أَنَّ رَجُلًا تَصَدَّقَ عَلَى أُمِّهِ

(2/485)


بِصَدَقَةٍ ثُمَّ مَاتَتْ، فَسَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: قَدْ قَبِلَ اللَّهُ صَدَقَتَك، وَرَدَّهَا إلَيْكَ الْمِيرَاثُ.» وَهَذَا فِي مَعْنَى شِرَائِهَا. وَلِأَنَّ مَا صَحَّ أَنْ يُمْلَكَ إرْثًا، صَحَّ أَنْ يُمْلَكَ ابْتِيَاعًا، كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ. وَلَنَا، مَا رَوَى عُمَرُ، «أَنَّهُ قَالَ: حَمَلْت عَلَى فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَأَضَاعَهُ الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ، وَظَنَنْت أَنَّهُ بَائِعُهُ بِرُخْصٍ، فَأَرَدْت أَنْ أَشْتَرِيَهُ، فَسَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: لَا تَبْتَعْهُ، وَلَا تَعُدْ فِي صَدَقَتِك وَلَوْ أَعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ؛ فَإِنَّ الْعَائِدَ فِي صَدَقَتِهِ كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
فَإِنْ قِيلَ: يَحْتَمِلُ أَنَّهَا كَانَتْ حَبِيسًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمَنَعَهُ لِذَلِكَ. قُلْنَا: لَوْ كَانَتْ حَبِيسًا لَمَا بَاعَهَا الَّذِي هِيَ فِي يَدِهِ، وَلَا هَمَّ عُمَرُ بِشِرَائِهَا، بَلْ كَانَ يُنْكِرُ عَلَى الْبَائِعِ وَيَمْنَعُهُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُقِرُّ عَلَى مُنْكَرٍ، فَكَيْفَ يَفْعَلُهُ، وَيُعِينُ عَلَيْهِ. وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا أَنْكَرَ بَيْعَهَا، إنَّمَا أَنْكَرَ عَلَى عُمَرَ الشِّرَاءَ، مُعَلِّلًا بِكَوْنِهِ عَائِدًا فِي الصَّدَقَةِ.
الثَّانِي، أَنَّنَا نَحْتَجُّ بِعُمُومِ اللَّفْظِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى خُصُوصِ السَّبَبِ، فَإِنَّ النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تَعُدْ فِي صَدَقَتِك» أَيْ بِالشِّرَاءِ فَإِنَّ الْعَائِدَ فِي صَدَقَتِهِ كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ. وَالْأَخْذُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ أَوْلَى مِنْ التَّمَسُّكِ بِخُصُوصِ السَّبَبِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَإِنَّ اللَّفْظَ لَا يَتَنَاوَلُ الشِّرَاءَ فَإِنَّ الْعَوْدَ فِي الصَّدَقَةِ ارْتِجَاعُهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَفَسْخٌ لِلْعَقْدِ، كَالْعَوْدِ فِي الْهِبَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ.» وَلَوْ وَهَبَ إنْسَانًا شَيْئًا، ثُمَّ اشْتَرَاهُ مِنْهُ، جَازَ. قُلْنَا: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَكَرَ ذَلِكَ جَوَابًا لِعُمَرَ حِينَ سَأَلَهُ عَنْ شِرَاءِ الْفَرَسِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ اللَّفْظُ مُتَنَاوِلًا لِلشِّرَاءِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ مُجِيبًا لَهُ، وَلَا يَجُوزُ إخْرَاجُ خُصُوصِ السَّبَبِ مِنْ عُمُومِ اللَّفْظِ؛ لِئَلَّا يَخْلُوَ السُّؤَالُ عَنْ الْجَوَابِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ قَالَ: إذَا جَاءَ الْمُصَدِّقُ فَادْفَعْ إلَيْهِ صَدَقَتَك، وَلَا تَشْتَرِهَا، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: ابْتَعْهَا فَأَقُولُ: إنَّمَا هِيَ لِلَّهِ.
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: لَا تَشْتَرِ طَهُورَ مَالِكَ. وَلِأَنَّ فِي شِرَائِهِ لَهَا وَسِيلَةً إلَى اسْتِرْجَاعِ شَيْءٍ مِنْهَا؛ لِأَنَّ الْفَقِيرَ يَسْتَحْيِ مِنْهُ، فَلَا يُمَاكِسُهُ فِي ثَمَنِهَا، وَرُبَّمَا رَخَّصَهَا لَهُ طَمَعًا فِي أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ صَدَقَةً أُخْرَى، وَرُبَّمَا عَلِمَ أَنَّهُ إنْ لَمْ يَبِعْهُ إيَّاهَا اسْتَرْجَعَهَا مِنْهُ أَوْ تَوَهَّمَ ذَلِكَ، وَمَا هَذَا سَبِيلُهُ يَنْبَغِي أَنْ يُجْتَنَبَ، كَمَا لَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ يَبِيعَهُ إيَّاهَا. وَهُوَ أَيْضًا ذَرِيعَةٌ إلَى إخْرَاجِ الْقِيمَةِ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ ذَلِكَ.
أَمَّا حَدِيثُهُمْ فَنَقُولُ بِهِ، وَأَنَّهَا تَرْجِعُ إلَيْهِ بِالْمِيرَاثِ وَلَيْسَ هَذَا مَحَلَّ النِّزَاعِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ كُلُّ الْعُلَمَاء يَقُولُونَ: إذَا رَجَعَتْ إلَيْهِ بِالْمِيرَاثِ طَابَتْ لَهُ، إلَّا ابْنَ عُمَرَ وَالْحَسَنَ بْنَ حَيٍّ. وَلَيْسَ الْبَيْعُ فِي مَعْنَى الْمِيرَاثِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ ثَبَتَ بِالْمِيرَاثِ حُكْمًا بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، وَلَيْسَ

(2/486)


بِوَسِيلَةٍ إلَى شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا، وَالْحَدِيثُ الْآخَرُ مُرْسَلٌ، وَهُوَ عَامٌّ، وَحَدِيثُنَا خَاصٌّ صَحِيحٌ، فَالْعَمَلُ بِهِ أَوْلَى مِنْ كُلِّ وَجْهٍ.
(1772) فَصْلٌ: فَإِنْ دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى شِرَاءِ صَدَقَتِهِ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ الْفَرْضُ جُزْءًا مِنْ حَيَوَانٍ لَا يُمْكِنُ الْفَقِيرَ الِانْتِفَاعُ بِعَيْنِهِ، وَلَا يَجِدُ مِنْ يَشْتَرِيه سِوَى الْمَالِكِ لِبَاقِيهِ، وَلَوْ اشْتَرَاهُ غَيْرُهُ لَتَضَرَّرَ الْمَالِكُ بِسُوءِ الْمُشَارَكَةِ، أَوْ إذَا كَانَ الْوَاجِبُ فِي ثَمَرَةِ النَّخْلِ وَالْكَرْمِ عِنَبًا وَرُطَبًا، فَاحْتَاجَ السَّاعِي إلَى بَيْعِهَا قَبْلَ الْجِذَاذِ، فَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهَا مِنْ رَبِّ الْمَالِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَكَذَلِكَ يَجِيءُ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى، وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى شِرَائِهِ لَهَا؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ الشِّرَاءِ فِي مَحَلِّ الْوِفَاقِ إنَّمَا كَانَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْفَقِيرِ، وَالضَّرَرُ عَلَيْهِ فِي مَنْعِ الْبَيْعِ هَاهُنَا أَعْظَمُ، فَدَفْعُهُ بِجَوَازِ الْبَيْعِ أَوْلَى.

[فَصْلُ دَفَعَ الزَّكَاة إلَى الْغَرِيم]
(1773) فَصْلٌ: قَالَ مُهَنَّا: سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ رَجُلٍ لَهُ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ بِرَهْنٍ وَلَيْسَ عِنْدَهُ قَضَاؤُهُ، وَلِهَذَا الرَّجُلِ زَكَاةُ مَالٍ يُرِيدُ أَنْ يُفَرِّقَهَا عَلَى الْمَسَاكِينِ، فَيَدْفَعُ إلَيْهِ رَهْنَهُ وَيَقُولُ لَهُ: الدَّيْنُ الَّذِي لِي عَلَيْك هُوَ لَك. وَيَحْسُبُهُ مِنْ زَكَاةِ مَالِهِ.
قَالَ: لَا يُجْزِئُهُ ذَلِكَ. فَقُلْت لَهُ: فَيَدْفَعُ إلَيْهِ مِنْ زَكَاتَهُ، فَإِنْ رَدَّهُ إلَيْهِ قَضَاءً مِمَّا لَهُ، أَخْذُهُ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَقِيلَ لَهُ: فَإِنْ أَعْطَاهُ، ثُمَّ رَدَّهُ إلَيْهِ؟ قَالَ: إذَا كَانَ بِحِيلَةٍ فَلَا يُعْجِبُنِي. قِيلَ لَهُ: فَإِنْ اسْتَقْرَضَ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ دَرَاهِمَ، فَقَضَاهُ إيَّاهَا ثُمَّ رَدَّهَا عَلَيْهِ، وَحَسَبَهَا مِنْ الزَّكَاةِ؟ فَقَالَ: إذَا أَرَادَ بِهَا إحْيَاءَ مَالِهِ فَلَا يَجُوزُ فَحَصَلَ مِنْ كَلَامِهِ أَنَّ دَفْعَ الزَّكَاةِ إلَى الْغَرِيمِ جَائِزٌ، سَوَاءٌ دَفَعَهَا ابْتِدَاءً، أَوْ اسْتَوْفَى حَقَّهُ ثُمَّ دَفَعَ مَا اسْتَوْفَاهُ إلَيْهِ، إلَّا أَنَّهُ مَتَى قَصَدَ بِالدَّفْعِ إحْيَاءَ مَالِهِ، أَوْ اسْتِيفَاءَ دَيْنِهِ، لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ لَحِقِّ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَا يَجُوزُ صَرْفُهَا إلَى نَفْعِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحْتَسِبَ الدَّيْنَ الَّذِي لَهُ مِنْ الزَّكَاةِ قَبْلَ قَبْضِهِ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِأَدَائِهَا وَإِيتَائِهَا، وَهَذَا إسْقَاطٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

[مَسْأَلَةُ زَكَاة الْأَمْوَال لَا تُعْطَى لِكَافِرِ وَلَا لِمَمْلُوكِ]
(1774) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا لِكَافِرٍ، وَلَا لِمَمْلُوكٍ) لَا نَعْلَمُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا فِي أَنَّ زَكَاةَ الْأَمْوَالِ لَا تُعْطَى لِكَافِرٍ وَلَا لِمَمْلُوكٍ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَجْمَعَ كُلُّ مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الذِّمِّيَّ لَا يُعْطَى مِنْ زَكَاةِ الْأَمْوَالِ شَيْئًا.
«وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِمُعَاذٍ: أَعْلِمْهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ، وَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ» . فَخَصَّهُمْ بِصَرْفِهَا إلَى فُقَرَائِهِمْ، كَمَا خَصَّهُمْ بِوُجُوبِهَا عَلَى أَغْنِيَائِهِمْ. وَأَمَّا الْمَمْلُوكُ فَلَا يَمْلِكُهَا بِدَفْعِهَا إلَيْهِ، وَمَا يُعْطَاهُ فَهُوَ لِسَيِّدِهِ، فَكَأَنَّهُ دَفَعَهَا إلَى سَيِّدِهِ، وَلِأَنَّ الْعَبْدَ يَجِبُ عَلَى سَيِّدِهِ نَفَقَتُهُ، فَهُوَ غَنِيٌّ بِغِنَاهُ.

(2/487)


[مَسْأَلَةُ لِلْعَامِلِ أَنْ يَأْخُذ عِمَالَته مِنْ الزَّكَاة سَوَاء كَانَ حُرًّا أَوْ عَبْدًا]
(1775) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (إلَّا أَنْ يَكُونُوا مِنْ الْعَامِلِينَ عَلَيْهَا، فَيُعْطَوْنَ بِحَقِّ مَا عَمِلُوا) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْعَامِلِ أَنْ يَأْخُذَ عِمَالَتَهُ مِنْ الزَّكَاةِ، سَوَاءٌ كَانَ حُرًّا أَوْ عَبْدًا. وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كَافِرًا، وَهَذِهِ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} [التوبة: 60] وَهَذَا لَفْظٌ عَامٌّ يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ عَامِلٍ عَلَى أَيِّ صِفَةٍ كَانَ.
وَلِأَنَّ مَا يَأْخُذُ عَلَى الْعِمَالَةِ أُجْرَةُ عَمَلِهِ، فَلَمْ يُمْنَعْ مِنْ أَخْذِهِ كَسَائِرِ الْإِجَارَاتِ. وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى، لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ كَافِرًا؛ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الْعَامِلِ أَنْ يَكُونَ أَمِينًا، وَالْكُفْرُ يُنَافِي الْأَمَانَةَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَنِيًّا، وَذَا قَرَابَةٍ لِرَبِّ الْمَالِ. وَقَوْلُهُ: " بِحَقِّ مَا عَمِلُوا " يَعْنِي يُعْطِيهِمْ بِقَدْرِ أُجْرَتِهِمْ وَالْإِمَامُ مُخَيَّرٌ إذَا بَعَثَ عَامِلًا؛ إنْ شَاءَ اسْتَأْجَرَهُ إجَارَةً صَحِيحَةً، وَيَدْفَعُ إلَيْهِ مَا سَمَّى لَهُ، وَإِنْ شَاءَ بَعَثَهُ بِغَيْرِ إجَارَةٍ، وَيَدْفَعُ إلَيْهِ أَجْرَ مِثْلِهِ.
وَهَذَا كَانَ الْمَعْرُوفَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ لَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّهُ قَاطَعَ أَحَدًا مِنْ الْعُمَّالِ عَلَى أَجْرٍ، وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد، بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ السَّاعِدِيِّ، قَالَ: «اسْتَعْمَلَنِي عُمَرُ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا فَرَغْت مِنْهَا وَأَدَّيْتهَا إلَيْهِ، أَمَرَ لِي بِعِمَالَةٍ فَقُلْت، إنَّمَا عَمِلْت لِلَّهِ وَأَجْرِي عَلَى اللَّهِ. قَالَ: خُذْ مَا أُعْطِيتَ، فَإِنِّي قَدْ عَمِلْت عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَمِلَنِي، فَقُلْت مِثْلَ قَوْلِك، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إذَا أُعْطِيتَ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ أَنْ تَسْأَلَهُ فَكُلْ وَتَصَدَّقْ»
(1776) فَصْلٌ: وَيُعْطِي مِنْهَا أَجْرَ الْحَاسِبِ وَالْكَاتِبِ وَالْحَاشِرِ وَالْخَازِنِ وَالْحَافِظِ وَالرَّاعِي وَنَحْوِهِمْ. فَكُلُّهُمْ مَعْدُودُونَ مِنْ الْعَامِلِينَ، وَيَدْفَعُ إلَيْهِمْ مِنْ حِصَّةِ الْعَامِلِينَ عَلَيْهَا، فَأَمَّا أَجْرُ الْوَزَّانِ وَالْكَيَّالِ لِيَقْبِضَ السَّاعِي الزَّكَاةَ فَعَلَى رَبِّ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ مُؤْنَةِ دَفْعِ الزَّكَاةِ.

[فَصْلٌ لَا يُعْطَى الْكَافِر مِنْ الزَّكَاة إلَّا لِكَوْنِهِ مُؤَلَّفًا]
(1777) فَصْلٌ: وَلَا يُعْطَى الْكَافِرُ مِنْ الزَّكَاةِ، إلَّا لِكَوْنِهِ مُؤَلَّفًا، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ الْإِنْسَانُ ذَا قَرَابَتِهِ مِنْ الزَّكَاةِ؛ لِكَوْنِهِ غَازِيًا، أَوْ مُؤَلَّفًا، أَوْ غَارِمًا فِي إصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، أَوْ عَامِلًا، وَلَا يُعْطِي لِغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ، إلَّا لِخَمْسَةٍ: لِغَازٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ لِعَامِلٍ عَلَيْهَا، أَوْ لِغَارِمٍ، أَوْ رَجُلٍ ابْتَاعَهَا بِمَالِهِ، أَوْ لِرَجُلٍ كَانَ لَهُ جَارٌ مِسْكِينٌ، فَتَصَدَّقَ عَلَى الْمِسْكِينِ، فَأَهْدَى الْمِسْكِينُ إلَى الْغَنِيِّ»
وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

(2/488)


[فَصْلُ اُجْتُمِعَ فِي وَاحِد أَسْبَاب تَقْتَضِي أَخَذَ الزَّكَاة بِهَا]
(1778) فَصْلٌ: وَإِنْ اجْتَمَعَ فِي وَاحِدٍ أَسْبَابٌ تَقْتَضِي الْأَخْذَ بِهَا، جَازَ أَنْ يُعْطَى بِهَا، فَالْعَامِلُ الْفَقِيرُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ عِمَالَتَهُ، فَإِنْ لَمْ تُغْنِهِ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَا يَتِمُّ بِهِ غِنَاهُ، فَإِنْ كَانَ غَازِيًا فَلَهُ أَخْذُ مَا يَكْفِيه لِغَزْوِهِ، وَإِنْ كَانَ غَارِمًا أَخَذَ مَا يَقْضِي بِهِ غُرْمَهُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَسْبَابِ يَثْبُتُ حُكْمُهُ بِانْفِرَادِهِ، فَوُجُودِ غَيْرِهِ لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ حُكْمِهِ، كَمَا لَمْ يَمْنَعْ وُجُودَهُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ قَالَ: إذَا كَانَ لَهُ مِائَتَانِ وَعَلَيْهِ مِثْلُهَا، لَا يُعْطَى مِنْ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّ الْمُغْنِيَ خَمْسُونَ دِرْهَمًا.
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي الدَّفْعِ إلَى الْغَارِمِ أَنْ يَكُونَ فَقِيرًا فَإِذَا أُعْطِيَ لِأَجْلِ الْغُرْمِ وَجَبَ صَرْفُهُ إلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ، وَإِنْ أُعْطِيَ لِلْفَقِيرِ جَازَ أَنْ يَقْضِيَ بِهِ دَيْنَهُ.

[مَسْأَلَةُ بَنِي هَاشِم لَا تَحِلّ لَهُمْ الصَّدَقَة الْمَفْرُوضَة]
مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا لِبَنِي هَاشِمٍ) لَا نَعْلَمُ خِلَافًا فِي أَنَّ بَنِي هَاشِمٍ لَا تَحِلُّ لَهُمْ الصَّدَقَةُ الْمَفْرُوضَةُ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَنْبَغِي لِآلِ مُحَمَّدٍ، إنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ.» أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: «أَخَذَ الْحَسَنُ تَمْرَةً مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كِخْ كِخْ. لِيَطْرَحَهَا، وَقَالَ: أَمَا شَعَرْت أَنَّا لَا نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

[مَسْأَلَةُ مَوَالِي بَنِي هَاشِم وَهُمْ مِنْ أَعْتَقَهُمْ هَاشِمِيّ لَا يُعْطُونَ مِنْ الزَّكَاة]
(1780) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا لِمَوَالِيهِمْ) يَعْنِي أَنَّ مَوَالِيَ بَنِي هَاشِمٍ، وَهُمْ مَنْ أَعْتَقَهُمْ هَاشِمِيٌّ، لَا يُعْطَوْنَ مِنْ الزَّكَاةِ. وَقَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ: يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِقَرَابَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يُمْنَعُوا الصَّدَقَةَ كَسَائِرِ النَّاسِ، وَلِأَنَّهُمْ لَمْ يُعَوَّضُوا عَنْهَا بِخُمُسِ الْخُمُسِ، فَإِنَّهُمْ لَا يُعْطَوْنَ مِنْهُ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُحَرِّمُوهَا كَسَائِرِ النَّاسِ. وَلَنَا، مَا رَوَى أَبُو رَافِعٍ، «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ رَجُلًا مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَقَالَ لِأَبِي رَافِعٍ: اصْحَبْنِي كَيْمَا تُصِيبَ مِنْهَا. فَقَالَ: لَا حَتَّى آتِيَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَسْأَلَهُ. فَانْطَلَقَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَأَلَهُ. فَقَالَ: إنَّا لَا تَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ، وَإِنَّ مَوَالِيَ الْقَوْمِ مِنْهُمْ» . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيُّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَلِأَنَّهُمْ مِمَّنْ يَرِثُهُمْ بَنُو هَاشِمٍ بِالتَّعْصِيبِ، فَلَمْ يَجُزْ دَفْعُ الصَّدَقَةِ إلَيْهِمْ كَبَنِي هَاشِمٍ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّهُمْ لَيْسُوا بِقَرَابَةٍ. قُلْنَا: هُمْ بِمَنْزِلَةِ الْقَرَابَةِ، بِدَلِيلِ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ.» وَقَوْلُهُ: «مَوَالِي الْقَوْمِ مِنْهُمْ.» وَثَبَتَ فِيهِمْ حُكْمُ الْقَرَابَةِ مِنْ الْإِرْثِ وَالْعَقْلِ وَالنَّفَقَةِ، فَلَا يَمْتَنِعُ ثُبُوتُ حُكْمِ تَحْرِيمِ الصَّدَقَةِ فِيهِمْ.

(2/489)


[فَصْلُ بَنُو الْمُطَّلِبِ هَلْ لَهُمْ الْأَخْذُ مِنْ الزَّكَاة]
(1781) فَصْلٌ: فَأَمَّا بَنُو الْمُطَّلِبِ، فَهَلْ لَهُمْ الْأَخْذُ مِنْ الزَّكَاةِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا لَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ. نَقَلَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ وَغَيْرُهُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّا وَبَنُو الْمُطَّلِبِ لَمْ نَفْتَرِقْ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إسْلَامٍ، إنَّمَا نَحْنُ وَهُمْ شَيْءٌ وَاحِدٌ» . وَفِي لَفْظٍ رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي " مُسْنَدِهِ ":: «إنَّمَا بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ» . وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ.
وَلِأَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ مِنْ خُمْسِ الْخُمْسِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ الْأَخْذُ كَبَنِي هَاشِمٍ، وَقَدْ أَكَّدَ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَّلَ مَنْعَهُمْ الصَّدَقَةَ بِاسْتِغْنَائِهِمْ عَنْهَا بِخُمْسِ الْخُمْسِ، فَقَالَ: «أَلَيْسَ فِي خُمْسِ الْخُمْسِ مَا يُغْنِيكُمْ؟» . وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، لَهُمْ الْأَخْذُ مِنْهَا. وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُمْ دَخَلُوا فِي عُمُومِ قَوْله تَعَالَى {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] . الْآيَةُ.
لَكِنْ خَرَجَ بَنُو هَاشِمٍ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَنْبَغِي لِآلِ مُحَمَّدٍ» ، فَيَجِبُ أَنْ يَخْتَصَّ الْمَنْعُ بِهِمْ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ بَنِي الْمُطَّلِبِ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ؛ لِأَنَّ بَنِي هَاشِمٍ أَقْرَبُ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَشْرَفُ، وَهُمْ آلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ وَمُشَارَكَةُ بَنِي الْمُطَّلِبِ لَهُمْ فِي خُمْسِ الْخُمْسِ مَا اسْتَحَقُّوهُ بِمُجَرَّدِ الْقَرَابَةِ، بِدَلِيلِ أَنَّ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَبَنِي نَوْفَلٍ يُسَاوُونَهُمْ فِي الْقَرَابَةِ، وَلَمْ يُعْطَوْا شَيْئًا، وَإِنَّمَا شَارَكُوهُمْ بِالنُّصْرَةِ، أَوْ بِهِمَا جَمِيعًا، وَالنُّصْرَةُ لَا تَقْتَضِي مَنْعَ الزَّكَاةِ.
(1782) فَصْلُ وَرَوَى الْخَلَّالُ، بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، أَنَّ خَالِدَ بْنَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بَعَثَ إلَى عَائِشَةَ سُفْرَةً مِنْ الصَّدَقَةِ. فَرَدَّتْهَا، وَقَالَتْ: إنَّا آلِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا تَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِهَا عَلَى أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
(1783) فَصْلٌ: وَظَاهِرُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ هَاهُنَا، أَنَّ ذَوِي الْقُرْبَى يُمْنَعُونَ الصَّدَقَةَ، وَإِنْ كَانُوا عَامِلِينَ، وَذَكَرَ فِي بَابِ قَسْمِ الْفَيْءِ وَالصَّدَقَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى إبَاحَةِ الْأَخْذِ لَهُمْ عِمَالَةً. وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا؛ لِأَنَّ مَا يَأْخُذُونَهُ أَجْرٌ، فَجَازَ لَهُمْ أَخْذُهُ، كَالْحَمَّالِ وَصَاحِبِ الْمَخْزَنِ إذَا أَجَرَهُمْ مَخْزَنَهُ. وَلَنَا، حَدِيثُ أَبِي رَافِعٍ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ، وَمَا رَوَى مُسْلِمٌ بِإِسْنَادِهِ، «أَنَّهُ اجْتَمَعَ رَبِيعَةُ بْنُ الْحَارِثِ،

(2/490)


وَالْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَقَالَا: وَاَللَّهِ لَوْ بَعَثْنَا هَذَيْنِ الْغُلَامَيْنِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَلَّمَاهُ، فَأَمَّرَهُمَا عَلَى هَذِهِ الصَّدَقَاتِ، فَأَدَّيَا مَا يُؤَدِّي النَّاسُ، وَأَصَابَا مَا يُصِيبُ النَّاسُ؟ فَبَيْنَمَا هُمَا فِي ذَلِكَ إذْ جَاءَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَوَقَفَ عَلَيْهِمَا، فَذَكَرَا لَهُ ذَلِكَ، قَالَ عَلِيٌّ: لَا تَفْعَلَا. فَوَاَللَّهِ مَا هُوَ بِفَاعِلٍ فَانْتَحَاهُ رَبِيعَةُ بْنُ الْحَارِثِ فَقَالَ: وَاَللَّهِ مَا تَصْنَعُ هَذَا إلَّا نَفَاسَةً مِنْك عَلَيْنَا. قَالَ: فَأَلْقَى عَلِيٌّ رِدَاءَهُ، ثُمَّ اضْطَجَعَ، ثُمَّ قَالَ: أَنَا أَبُو الْحَسَنِ. وَاَللَّهِ لَا أَرِيمُ مَكَانِي حَتَّى يَرْجِعَ إلَيْكُمَا ابْنَاكُمَا بِخَبَرِ مَا بَعَثْتُمَا بِهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَذَكَرَ الْحَدِيثَ إلَى أَنْ قَالَ: فَأَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْتَ أَبُو النَّاسِ، وَأَوْصَلُ النَّاسِ، وَقَدْ بَلَغْنَا النِّكَاحَ، فَجِئْنَا لِتُؤَمِّرَنَا عَلَى بَعْضِ هَذِهِ الصَّدَقَاتِ، فَنُؤَدِّيَ إلَيْك كَمَا يُؤَدِّي النَّاسُ، وَنُصِيبَ كَمَا يُصِيبُونَ. فَسَكَتَ طَوِيلًا ثُمَّ قَالَ: إنَّ هَذِهِ الصَّدَقَةَ لَا تَنْبَغِي لِآلِ مُحَمَّدٍ، إنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ. وَفِي لَفْظٍ أَنَّهُ قَالَ: إنَّ الصَّدَقَةَ إنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ، وَإِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِمُحَمَّدٍ وَلَا لِآلِ مُحَمَّدٍ» .
(1784) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ لِذَوِي الْقُرْبَى الْأَخْذُ مِنْ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ.
قَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ: إنَّمَا لَا يُعْطَوْنَ مِنْ الصَّدَقَةِ الْمَفْرُوضَةِ، فَأَمَّا التَّطَوُّعِ، فَلَا. وَعَنْ أَحْمَدَ، رِوَايَةٌ أُخْرَى: أَنَّهُمْ يُمْنَعُونَ صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ أَيْضًا؛ لِعُمُومِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إنَّا لَا تَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ» . وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْمَعْرُوفُ كُلُّهُ صَدَقَةٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة: 45] . وَقَالَ تَعَالَى {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 280] . وَلَا خِلَافَ فِي إبَاحَةِ الْمَعْرُوفِ إلَى الْهَاشِمِيِّ، وَالْعَفْوِ عَنْهُ وَإِنْظَارِهِ. وَقَالَ إخْوَةُ يُوسُفَ: {وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا} [يوسف: 88] . وَالْخَبَرُ أُرِيدَ بِهِ صَدَقَةُ الْفَرْضِ؛ لِأَنَّ الطَّلَبَ كَانَ لَهَا، وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ تَعُودُ إلَى الْمَعْهُودِ. وَرَوَى جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ يَشْرَبُ مِنْ سِقَايَاتٍ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ. فَقُلْت لَهُ: أَتَشْرَبُ مِنْ الصَّدَقَةِ؟ فَقَالَ: إنَّمَا حُرِّمَتْ عَلَيْنَا الصَّدَقَةُ الْمَفْرُوضَةُ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَأْخُذُوا مِنْ الْوَصَايَا لِلْفُقَرَاءِ، وَمِنْ النُّذُورِ؛ لِأَنَّهُمَا تَطَوُّعٌ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ وَصَّى لَهُمْ.

(2/491)


وَفِي الْكَفَّارَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا، يَجُوزُ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِزَكَاةٍ وَلَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ، فَأَشْبَهَتْ صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ. وَالثَّانِي، لَا يَجُوزُ لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ أَشْبَهَتْ الزَّكَاةَ.

(1785) فَصْلٌ: وَكُلُّ مَنْ حُرِمَ صَدَقَةَ الْفَرْضِ مِنْ الْأَغْنِيَاءِ وَقَرَابَةِ الْمُتَصَدِّقِ وَالْكَافِرِ وَغَيْرِهِمْ، يَجُوزُ دَفْعُ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ إلَيْهِمْ، وَلَهُمْ أَخْذُهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8] . وَلَمْ يَكُنْ الْأَسِيرُ يَوْمَئِذٍ إلَّا كَافِرًا، وَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قَالَتْ: «قَدِمْتُ عَلَى أُمِّي وَهِيَ مُشْرِكَةٌ، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّ أُمِّي قَدِمَتْ عَلَيَّ وَهِيَ رَاغِبَةٌ، أَفَأَصِلُهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، صِلِي أُمَّك» . وَكَسَا عُمَرُ أَخًا لَهُ حُلَّةً كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْطَاهُ إيَّاهَا.
وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا أَنْفَقَ الْمُسْلِمُ عَلَى أَهْلِهِ، وَهُوَ يَحْتَسِبُهَا، فَهِيَ لَهُ صَدَقَةٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِسَعْدٍ: «إنَّ نَفَقَتَك عَلَى أَهْلِك صَدَقَةٌ، وَإِنَّ مَا تَأْكُلُ امْرَأَتُك صَدَقَةٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

[فَصْلُ حُرْمَة الصَّدَقَة عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ]
(1786) فَصْلٌ: فَأَمَّا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَالظَّاهِرُ أَنَّ الصَّدَقَةَ جَمِيعَهَا كَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ، فَرْضَهَا وَنَفْلَهَا؛ لِأَنَّ اجْتِنَابَهَا كَانَ مِنْ دَلَائِلِ نُبُوَّتِهِ وَعَلَامَاتِهَا، فَلَمْ يَكُنْ لِيُخِلَّ بِذَلِكَ، وَفِي حَدِيثِ إسْلَامِ سَلْمَانِ الْفَارِسِيِّ، أَنَّ الَّذِي أَخْبَرَهُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَوَصَفَهُ، قَالَ: «إنَّهُ يَأْكُلُ الْهَدِيَّةَ، وَلَا يَأْكُلُ الصَّدَقَةَ» .
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا أُتِيَ بِطَعَامٍ سَأَلَ عَنْهُ؟ فَإِنْ قِيلَ صَدَقَةٌ. قَالَ لِأَصْحَابِهِ: كُلُوا. وَلَمْ يَأْكُلْ، وَإِنْ قِيلَ: هَدِيَّةٌ ضَرَبَ بِيَدِهِ، فَأَكَلَ مَعَهُمْ.» أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ. «وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي لَحْمٍ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ: هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ، وَهُوَ لَنَا هَدِيَّةٌ» ، وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إنِّي لَأَنْقَلِبُ إلَى أَهْلِي، فَأَجِدُ التَّمْرَةَ سَاقِطَةً عَلَى فِرَاشِي فِي بَيْتِي، فَأَرْفَعُهَا لِآكُلَهَا، ثُمَّ أَخْشَى أَنْ تَكُونَ صَدَقَةً، فَأُلْقِيهَا» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ: «إنَّا لَا تَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ» . وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ أَشْرَفَ الْخَلْقِ، وَكَانَ لَهُ مِنْ الْمَغَانِمِ خُمْسُ الْخُمْسِ وَالصَّفِيُّ، فَحُرِمَ نَوْعَيْ الصَّدَقَةِ فَرْضَهَا وَنَفْلَهَا، وَآلُهُ دُونَهُ فِي

(2/492)


الشَّرَفِ، وَلَهُمْ خُمْسُ الْخُمْسِ وَحْدَهُ، فَحُرِمُوا أَحَدَ نَوْعَيْهَا، وَهُوَ الْفَرْضُ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ لَمْ تَكُنْ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ.
قَالَ الْمَيْمُونِيُّ: سَمِعْت أَحْمَدَ يَقُولُ: الصَّدَقَةُ لَا تَحِلُّ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَهْلِ بَيْتِهِ؛ صَدَقَةُ الْفِطْرِ، وَزَكَاةُ الْأَمْوَالِ، وَالصَّدَقَةُ يَصْرِفُهَا الرَّجُلُ عَلَى مُحْتَاجٍ يُرِيدُ بِهَا وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى، فَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ فَلَا، أَلَيْسَ يُقَالُ: كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ؟ وَقَدْ كَانَ يُهْدَى لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَسْتَقْرِضُ، فَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ جِنْسِ الصَّدَقَةِ عَلَى وَجْهِ الْحَاجَةِ.
وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى إبَاحَةِ الصَّدَقَةِ لَهُ، إنَّمَا أَرَادَ أَنَّ مَا لَيْسَ مِنْ صَدَقَةِ الْأَمْوَالِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، كَالْقَرْضِ وَالْهَدِيَّةِ وَفِعْلِ الْمَعْرُوفِ، غَيْرُ مُحَرَّمٍ عَلَيْهِ، لَكِنَّ فِيهِ دَلَالَةً عَلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ آلِهِ فِي تَحْرِيمِ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ عَلَيْهِمْ، لِقَوْلِهِ بِأَنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى الْمُحْتَاجِ يُرِيدُ بِهَا وَجْهَ اللَّهِ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمَا. وَهَذَا هُوَ صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ، فَصَارَتْ الرِّوَايَتَانِ فِي تَحْرِيمِ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ عَلَى آلِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

[مَسْأَلَةُ لَا يُعْطَى مِنْ سَهْم الْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين غَنِيّ]
مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا لِغَنِيٍّ، وَهُوَ الَّذِي يَمْلِكُ خَمْسِينَ دِرْهَمًا، أَوْ قِيمَتَهَا مِنْ الذَّهَبِ) . يَعْنِي لَا يُعْطَى مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ غَنِيٌّ، وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَهَا لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَالْغَنِيُّ غَيْرُ دَاخِلٍ فِيهِمْ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمُعَاذٍ: «أَعْلِمْهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ، فَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ. وَقَالَ: لَا حَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ، وَلَا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ. وَقَالَ: لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ، وَلَا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ» . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ
وَلِأَنَّ أَخْذَ الْغَنِيِّ مِنْهَا يَمْنَعُ وُصُولَهَا إلَى أَهْلِهَا، وَيُخِلُّ بِحِكْمَةِ وُجُوبِهَا، وَهُوَ إغْنَاءُ الْفُقَرَاءِ بِهَا. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْغِنَى الْمَانِعِ مِنْ أَخْذِهَا. وَنُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ فِيهِ رِوَايَتَانِ: أَظْهَرُهُمَا، أَنَّهُ مِلْكُ خَمْسِينَ دِرْهَمًا، أَوْ قِيمَتِهَا مِنْ الذَّهَبِ، أَوْ وُجُودُ مَا تَحْصُلُ بِهِ الْكِفَايَةُ عَلَى الدَّوَامِ؛ مِنْ كَسْبٍ، أَوْ تِجَارَةٍ، أَوْ عَقَارٍ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ.
وَلَوْ مَلَكَ مِنْ الْعُرُوضِ، أَوْ الْحُبُوبِ أَوْ السَّائِمَةِ، أَوْ الْعَقَارِ، مَا لَا تَحْصُلُ بِهِ الْكِفَايَةُ، لَمْ يَكُنْ غَنِيًّا، وَإِنْ مَلَكَ نِصَابًا، هَذَا الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَإِسْحَاقَ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ، أَنَّهُمَا قَالَا: لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِمَنْ لَهُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا، أَوْ عَدْلُهَا، أَوْ قِيمَتُهَا مِنْ الذَّهَبِ.
وَذَلِكَ لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ سَأَلَ وَلَهُ مَا يُغْنِيهِ جَاءَتْ مَسْأَلَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خُمُوشًا، أَوْ خُدُوشًا، أَوْ

(2/493)


كُدُوحًا فِي وَجْهِهِ. فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الْغِنَى؟ قَالَ خَمْسُونَ دِرْهَمًا، أَوْ قِيمَتُهَا مِنْ الذَّهَبِ.» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا يَرْوِيهِ حَكِيمُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَكَانَ شُعْبَةُ لَا يَرْوِي عَنْهُ، وَلَيْسَ بِقَوِيٍّ فِي الْحَدِيثِ. قُلْنَا: قَدْ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ لِسُفْيَانَ: حِفْظِي أَنَّ شُعْبَةَ لَا يَرْوِي عَنْ حَكِيمِ بْنِ جُبَيْرٍ.
فَقَالَ سُفْيَانُ: حَدَّثَنَاهُ زُبَيْدٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ. وَقَدْ قَالَ عَلِيٌّ وَعَبْدُ اللَّهِ مِثْلَ ذَلِكَ. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، أَنَّ الْغِنَى مَا تَحْصُلُ بِهِ الْكِفَايَةُ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُحْتَاجًا حَرُمَتْ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ، وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ شَيْئًا، وَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا حَلَّتْ لَهُ الصَّدَقَةُ، وَإِنْ مَلَكَ نِصَابًا، وَالْأَثْمَانُ وَغَيْرُهَا فِي هَذَا سَوَاءٌ.
وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي الْخَطَّابِ وَابْنِ شِهَابٍ الْعُكْبَرِيِّ وَقَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِقَبِيصَةَ بْنِ الْمُخَارِقِ «لَا تَحِلُّ الْمَسْأَلَةُ إلَّا لِأَحَدِ ثَلَاثَةٍ: رَجُلٌ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ حَتَّى يَقُولَ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَا مِنْ قَوْمِهِ: قَدْ أَصَابَتْ فُلَانًا فَاقَةٌ، فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ، أَوْ سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
فَمَدَّ إبَاحَةَ الْمَسْأَلَةِ إلَى وُجُودِ إصَابَةِ الْقِوَامِ أَوْ السِّدَادِ، وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ هِيَ الْفَقْرُ، وَالْغِنَى ضِدُّهَا، فَمَنْ كَانَ مُحْتَاجًا فَهُوَ فَقِيرٌ يَدْخُلُ فِي عُمُومِ النَّصِّ، وَمَنْ اسْتَغْنَى دَخَلَ فِي عُمُومِ النُّصُوصِ الْمُحَرِّمَةِ، وَالْحَدِيثُ الْأَوَّلُ فِيهِ ضَعْفٌ، ثُمَّ يَجُوزُ أَنْ تَحْرُمَ الْمَسْأَلَةُ وَلَا يَحْرُمُ أَخْذُ الصَّدَقَةِ إذَا جَاءَتْهُ مِنْ غَيْرِ الْمَسْأَلَةِ، فَإِنَّ الْمَذْكُورَ فِيهِ تَحْرِيمُ الْمَسْأَلَةِ، فَنَقْتَصِرُ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَأَبُو عُبَيْدٍ: الْغِنَى مِلْكُ أُوقِيَّةٍ، وَهِيَ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا؛ لِمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ سَأَلَ وَلَهُ قِيمَةُ أُوقِيَّةٍ فَقَدْ أَلْحَفَ» . وَكَانَتْ الْأُوقِيَّةُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: الْغِنَى الْمُوجِبُ لِلزَّكَاةِ هُوَ الْمَانِعُ مِنْ أَخْذِهَا، وَهُوَ مِلْكُ نِصَابٍ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، مِنْ الْأَثْمَانِ، أَوْ الْعُرُوضِ الْمُعَدَّةِ لِلتِّجَارَةِ، أَوْ السَّائِمَةِ، أَوْ غَيْرِهَا «؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمُعَاذٍ: أَعْلِمْهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ، فَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ» ، فَجَعَلَ الْأَغْنِيَاءَ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِمْ الزَّكَاةُ، فَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ غَنِيٌّ، وَمَنْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ لَيْسَ بِغَنِيٍّ، فَيَكُونُ فَقِيرًا، فَتُدْفَعُ الزَّكَاةُ إلَيْهِ؛ لِقَوْلِهِ: " فَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ ".
وَلِأَنَّ الْمُوجِبَ لِلزَّكَاةِ غِنًى، وَالْأَصْلُ عَدَمُ الِاشْتِرَاكِ، وَلِأَنَّ مَنْ لَا نِصَابَ لَهُ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ فَلَا يُمْنَعُ مِنْهَا، كَمَنْ يَمْلِكُ دُونَ الْخَمْسِينَ، وَلَا لَهُ مَا يَكْفِيه. فَيَحْصُلُ الْخِلَافُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فِي أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: أَحَدُهَا، أَنَّ الْغِنَى الْمَانِعَ مِنْ الزَّكَاةِ غَيْرُ الْمُوجِبِ لَهَا عِنْدَنَا. وَدَلِيلُ ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ،

(2/494)


وَهُوَ أَخَصُّ مِنْ حَدِيثِهِمْ.
فَيَجِبُ تَقْدِيمُهُ، وَلِأَنَّ حَدِيثَهُمْ دَلَّ عَلَى الْغِنَى الْمُوجِبِ، وَحَدِيثُنَا دَلَّ عَلَى الْغِنَى الْمَانِعِ، وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَهُمَا. فَيَجِبُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا. وَقَوْلُهُمْ: الْأَصْلُ عَدَمُ الِاشْتِرَاكِ. قُلْنَا: قَدْ قَامَ دَلِيلُهُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ، فَيَجِبُ الْأَخْذُ بِهِ. الثَّانِي، أَنَّ مَنْ لَهُ مَا يَكْفِيه مِنْ مَالٍ غَيْرِ زَكَائِيٍّ، أَوْ مِنْ مَكْسَبِهِ، أَوْ أُجْرَةِ عَقَارَاتٍ أَوْ غَيْرِهِ، لَيْسَ لَهُ الْأَخْذُ مِنْ الزَّكَاةِ.
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: إنَّ دَفَعَ الزَّكَاةَ إلَيْهِ فَهُوَ قَبِيحٌ، وَأَرْجُو أَنْ يُجْزِئَهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَسَائِرُ أَصْحَابِهِ: يَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِغَنِيٍّ، لِمَا ذَكَرُوهُ فِي حُجَّتِهِمْ. وَلَنَا، مَا رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، حَدَّثَنَا يُحْيِي بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ، «عَنْ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُمَا أَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَأَلَاهُ الصَّدَقَةَ، فَصَعَّدَ فِيهِمَا الْبَصَرَ، فَرَآهُمَا جَلْدَيْنِ، فَقَالَ: إنْ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا، وَلَا حَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ، وَلَا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ» . قَالَ أَحْمَدُ: مَا أَجْوَدَهُ مِنْ حَدِيثٍ. وَقَالَ: هُوَ أَحْسَنُهَا إسْنَادًا وَرَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ، وَلَا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. إلَّا أَنَّ أَحْمَدَ قَالَ: لَا أَعْلَمُ فِيهِ شَيْئًا يَصِحُّ. قِيلَ: فَحَدِيثُ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؟ قَالَ: سَالِمٌ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وَلِأَنَّ لَهُ مَا يُغْنِيه عَنْ الزَّكَاةِ. فَلَمْ يَجُزْ الدَّفْعُ إلَيْهِ، كَمَالِكِ النِّصَابِ. الثَّالِثُ، أَنَّ مَنْ مَلَكَ نِصَابًا زَكَائِيًّا، لَا تَتِمُّ بِهِ الْكِفَايَةُ مِنْ غَيْرِ الْأَثْمَانِ، فَلَهُ الْأَخْذُ مِنْ الزَّكَاةِ. قَالَ الْمَيْمُونِيُّ: ذَاكَرْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ فَقُلْت: قَدْ يَكُونُ لِلرَّجُلِ الْإِبِلُ وَالْغَنَمُ تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ، وَهُوَ فَقِيرٌ وَيَكُونُ لَهُ أَرْبَعُونَ شَاةً، وَتَكُونُ لَهُمْ الضَّيْعَةُ لَا تَكْفِيه، فَيُعْطَى مِنْ الصَّدَقَةِ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَذَكَرَ قَوْلَ عُمَرَ أَعْطُوهُمْ، وَإِنْ رَاحَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ الْإِبِلِ كَذَا وَكَذَا.
قُلْت: فَهَذَا قَدْرٌ مِنْ الْعَدَدِ أَوْ الْوَقْتِ؟ قَالَ: لَمْ أَسْمَعْهُ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَكَمِ: إذَا كَانَ لَهُ عَقَارٌ يَشْغَلُهُ أَوْ ضَيْعَةٌ تُسَاوِي عَشَرَةَ آلَافٍ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ لَا تُقِيمُهُ، يَأْخُذُ مِنْ الزَّكَاةِ. وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا إذَا مَلَكَ نِصَابًا زَكَائِيًّا؛ لِأَنَّهُ تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ، فَلَمْ تَجِبْ لَهُ لِلْخَبَرِ. وَلَنَا، أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ مَا يُغْنِيه، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى كَسْبِ مَا يَكْفِيه، فَجَازَ لَهُ الْأَخْذُ مِنْ الزَّكَاةِ كَمَا لَوْ كَانَ مَا يَمْلِكُ لَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَلِأَنَّ الْفَقْرَ عِبَارَةٌ عَنْ الْحَاجَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ} [فاطر: 15] .
أَيْ: الْمُحْتَاجُونَ إلَيْهِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:

(2/495)


فَيَا رَبِّ إنِّي مُؤْمِنٌ بِك عَابِدٌ

مُقِرٌّ بِزَلَّاتِي إلَيْك فَقِيرُ
وَقَالَ آخَرُ:
وَإِنِّي إلَى مَعْرُوفِهَا لَفَقِيرُ
وَهَذَا مُحْتَاجٌ، فَيَكُونُ فَقِيرًا غَيْرَ غَنِيٍّ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَا يَمْلِكُهُ لَا زَكَاةَ فِيهِ لَكَانَ فَقِيرًا، وَلَا فَرْقَ فِي دَفْعِ الْحَاجَةِ بَيْنَ الْمَالَيْنِ، وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الَّذِينَ لَهُمْ سَفِينَةٌ فِي الْبَحْرِ مَسَاكِينَ، فَقَالَ تَعَالَى {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف: 79]
وَقَدْ بَيَّنَّا بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْغِنَى يَخْتَلِفُ مُسَمَّاهُ، فَيَقَعُ عَلَى مَا يُوجِبُ الزَّكَاةَ، وَعَلَى مَا يَمْنَعُ مِنْهَا، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِ أَحَدِهِمَا وُجُودُ الْآخَرِ، وَلَا مِنْ عَدَمِهِ عَدَمُهُ، فَمَنْ قَالَ: إنَّ الْغِنَى هُوَ الْكِفَايَةُ. سَوَّى بَيْنَ الْأَثْمَانِ وَغَيْرِهَا، وَجَوَّزَ الْأَخْذَ لِكُلِّ مَنْ لَا كِفَايَةَ لَهُ، وَإِنْ مَلَكَ نُصُبًا مِنْ جَمِيعِ الْأَمْوَالِ.
وَمَنْ قَالَ بِالرِّوَايَةِ الْأُخْرَى، فَرَّقَ بَيْنَ الْأَثْمَانِ وَغَيْرِهَا؛ لِخَبَرِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَلِأَنَّ الْأَثْمَانَ آلَةُ الْإِنْفَاقِ الْمُعَدَّةُ لَهُ دُونَ غَيْرِهَا، فَجَوَّزَ الْأَخْذَ لِمَنْ لَا يَمْلِكُ خَمْسِينَ دِرْهَمًا، أَوْ قِيمَتَهَا مِنْ الذَّهَبِ، وَلَا مَا تَحْصُلُ بِهِ الْكِفَايَةُ، مِنْ مَكْسَبٍ، أَوْ أُجْرَةٍ أَوْ عَقَارٍ، أَوْ غَيْرِهِ، أَوْ نَمَاءِ سَائِمَةٍ أَوْ غَيْرِهَا.
وَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ مُعَدٌّ لِلْإِنْفَاقِ مِنْ غَيْرِ الْأَثْمَانِ، فَيَنْبَغِي أَنْ تُعْتَبَرَ الْكِفَايَةُ بِهِ فِي حَوْلٍ كَامِلٍ؛ لِأَنَّ الْحَوْلَ يَتَكَرَّرُ وُجُوبُ الزَّكَاةِ بِتَكَرُّرِهِ، فَيَأْخُذُ مِنْهَا كُلَّ حَوْلِ مَا يَكْفِيه إلَى مِثْلِهِ، وَيُعْتَبَرُ وُجُودُ الْكِفَايَةِ لَهُ وَلِعَائِلَتِهِ وَمَنْ يَمُونُهُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَقْصُودٌ دَفْعُ حَاجَتِهِ، فَيُعْتَبَرُ لَهُ مَا يُعْتَبَرُ لِلْمُنْفَرِدِ.
وَإِنْ كَانَ لَهُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا، جَازَ أَنْ يَأْخُذَ لِعَائِلَتِهِ حَتَّى يَصِيرَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ خَمْسُونَ. قَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد، فِي مَنْ يُعْطِي الزَّكَاةَ وَلَهُ عِيَالٌ: يُعْطَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ عِيَالِهِ خَمْسِينَ خَمْسِينَ. وَهَذَا لِأَنَّ الدَّفْعَ إنَّمَا هُوَ إلَى الْعِيَالِ؛ وَهَذَا نَائِبٌ عَنْهُمْ فِي الْأَخْذِ.

(1788) فَصْلٌ: وَإِذَا كَانَ لِلْمَرْأَةِ الْفَقِيرَةِ زَوْجٌ مُوسِرٌ يُنْفِقُ عَلَيْهَا، لَمْ يَجُزْ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْكِفَايَةَ حَاصِلَةٌ لَهَا بِمَا يَصِلُهَا مِنْ نَفَقَتِهَا الْوَاجِبَةِ، فَأَشْبَهَتْ مَنْ لَهُ عَقَارٌ يَسْتَغْنِي بِأُجْرَتِهِ. وَإِنْ لَمْ يُنْفِقْ عَلَيْهَا، وَتَعَذَّرَ ذَلِكَ، جَازَ الدَّفْعُ إلَيْهَا، كَمَا لَوْ تَعَطَّلَتْ مَنْفَعَةُ الْعَقَارِ. وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى هَذَا.

[مَسْأَلَةُ مَصَارِف الزَّكَاة]
(1789) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا يُعْطَى إلَّا فِي الثَّمَانِيَةِ الْأَصْنَافِ الَّتِي سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى) يَعْنِي قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [التوبة: 60] وَقَدْ ذَكَرَهُمْ الْخِرَقِيِّ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، فَنُؤَخِّرُ شَرْحَهُمْ إلَيْهِ.
وَقَدْ رَوَى زِيَادُ بْنُ الْحَارِثِ الصُّدَائِيُّ. قَالَ: «أَتَيْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبَايَعْتُهُ. قَالَ: فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ:

(2/496)


أَعْطِنِي مِنْ الصَّدَقَةِ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّ اللَّهَ لَمْ يَرْضَ بِحُكْمِ نَبِيٍّ وَلَا غَيْرِهِ فِي الصَّدَقَاتِ، حَتَّى حَكَمَ فِيهَا هُوَ، فَجَزَّأَهَا ثَمَانِيَةَ أَجْزَاءٍ، فَإِنْ كُنْت مِنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ أَعْطَيْتُكَ حَقَّكَ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
وَأَحْكَامُهُمْ كُلُّهَا بَاقِيَةٌ. وَبِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ وَالزُّهْرِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: انْقَطَعَ سَهْمُ الْمُؤَلَّفَةِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ أَعَزَّ اللَّهُ تَعَالَى الْإِسْلَامَ وَأَغْنَاهُ عَنْ أَنْ يَتَأَلَّفَ عَلَيْهِ رِجَالٌ، فَلَا يُعْطَى مُشْرِكٌ تَالِفًا بِحَالٍ.
قَالُوا: وَقَدْ رُوِيَ هَذَا عَنْ عُمَرَ. وَلَنَا، كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى الْمُؤَلَّفَةَ فِي الْأَصْنَافِ الَّذِينَ سَمَّى الصَّدَقَةَ لَهُمْ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَمَ فِيهَا، فَجَزَّأَهَا ثَمَانِيَةَ أَجْزَاءٍ. وَكَانَ يُعْطِي الْمُؤَلَّفَةَ كَثِيرًا، فِي أَخْبَارٍ مَشْهُورَةٍ، وَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى مَاتَ» ، وَلَا يَجُوزُ تَرْكُ كِتَابِ اللَّهِ وَسَنَةِ رَسُولِهِ إلَّا بِنَسْخٍ، وَالنَّسْخُ لَا يَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ.
ثُمَّ إنَّ النَّسْخَ إنَّمَا يَكُونُ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لِأَنَّ النَّسْخَ إنَّمَا يَكُونُ بِنَصٍّ، وَلَا يَكُونُ النَّصُّ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَانْقِرَاضِ زَمَنِ الْوَحْيِ، ثُمَّ إنَّ الْقُرْآنَ لَا يُنْسَخُ إلَّا بِقُرْآنٍ، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ نَسْخٌ كَذَلِكَ وَلَا فِي السُّنَّةِ، فَكَيْفَ يُتْرَكُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ بِمُجَرَّدِ الْآرَاءِ وَالتَّحَكُّمِ، أَوْ بِقَوْلِ صَحَابِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ، عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ حُجَّةً يُتْرَكُ لَهَا قِيَاسٌ، فَكَيْفَ يَتْرُكُونَ بِهِ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، قَالَ الزُّهْرِيُّ: لَا أَعْلَمُ شَيْئًا نَسَخَ حُكْمَ الْمُؤَلَّفَةِ.
عَلَى أَنَّ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ الْمَعْنَى لَا خِلَافَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَإِنَّ الْغِنَى عَنْهُمْ لَا يُوجِبُ رَفْعَ حُكْمِهِمْ، وَإِنَّمَا يَمْنَعُ عَطِيَّتَهُمْ حَالَ الْغِنَى عَنْهُمْ، فَمَتَى دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى إعْطَائِهِمْ أُعْطُوا، فَكَذَلِكَ جَمِيعُ الْأَصْنَافِ، إذَا عُدِمَ مِنْهُمْ صِنْفٌ فِي بَعْضِ الزَّمَانِ، سَقَطَ حُكْمُهُ فِي ذَلِكَ الزَّمَنِ خَاصَّةً، فَإِذَا وُجِدَ عَادَ حُكْمُهُ، كَذَا هُنَا.

[فَصْلُ صَرْف الزَّكَاة إلَى غَيْر مَنْ ذَكَر اللَّهَ تَعَالَى]
(1790) فَصْلٌ: وَلَا يَجُوزُ صَرْفُ الزَّكَاةِ إلَى غَيْرِ مَنْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى، مِنْ بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ وَالْقَنَاطِرِ وَالسِّقَايَاتِ وَإِصْلَاحِ الطُّرُقَاتِ، وَسَدِّ الْبُثُوقِ، وَتَكْفِينِ الْمَوْتَى، وَالتَّوْسِعَةِ عَلَى الْأَضْيَافِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ مِنْ الْقُرْبِ الَّتِي لَمْ يَذْكُرْهَا اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَالَ أَنَسٌ وَالْحَسَنُ: مَا أَعْطَيْت فِي الْجُسُورِ وَالطُّرُقِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مَاضِيَةٌ.

(2/497)


وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] . " وَإِنَّمَا " لِلْحَصْرِ وَالْإِثْبَاتِ، تُثْبِتُ الْمَذْكُورَ، وَتَنْفِي مَا عَدَاهُ، وَالْخَبَرُ الْمَذْكُورُ.
قَالَ أَبُو دَاوُد: سَمِعْت أَحْمَدَ، وَسُئِلَ: يُكَفَّنُ الْمَيِّتُ مِنْ الزَّكَاةِ؟ قَالَ: لَا، وَلَا يُقْضَى مِنْ الزَّكَاةِ دَيْنُ الْمَيِّتِ. وَإِنَّمَا لَمْ يَجُزْ دَفْعُهَا فِي قَضَاءِ دَيْنِ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّ الْغَارِمَ هُوَ الْمَيِّتُ وَلَا يُمْكِنُ الدَّفْعُ إلَيْهِ، وَإِنْ دَفَعَهَا إلَى غَرِيمِهِ صَارَ الدَّفْعُ إلَى الْغَرِيمِ لَا إلَى الْغَارِمِ. وَقَالَ أَيْضًا: يُقْضَى مِنْ الزَّكَاةِ دَيْنُ الْحَيِّ، وَلَا يُقْضَى مِنْهَا دَيْنُ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَا يَكُونُ غَارِمًا. قِيلَ: فَإِنَّمَا يُعْطِي أَهْلُهُ.
قَالَ: إنْ كَانَتْ عَلَى أَهْلِهِ فَنِعْمَ.

[فَصْلُ إذَا أَعْطَى الزَّكَاة لِمَنْ يَظُنّهُ فَقِيرًا فَبَانَ غَنِيًّا]
(1791) فَصْلٌ: وَإِذَا أَعْطَى مَنْ يَظُنُّهُ فَقِيرًا فَبَانَ غَنِيًّا. فَعَنْ أَحْمَدَ فِيهِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا، يُجْزِئُهُ. اخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ. وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ «؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْطَى الرَّجُلَيْنِ الْجَلْدَيْنِ، وَقَالَ: إنْ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا مِنْهَا، وَلَا حَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ، وَلَا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ» .
وَقَالَ لِلرَّجُلِ الَّذِي سَأَلَهُ الصَّدَقَةَ «إنْ كُنْت مِنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ أَعْطَيْتُكَ حَقَّكَ» . وَلَوْ اعْتَبَرَ حَقِيقَةَ الْغِنَى لَمَا اكْتَفَى بِقَوْلِهِمْ. وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «قَالَ رَجُلٌ لَأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ، فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ، فَوَضَعَهَا فِي يَدِ غَنِيٍّ، فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ: تَصَدَّقَ عَلَى غَنِيٍّ فَأُتِيَ فَقِيلَ لَهُ: أَمَّا صَدَقَتُك فَقَدْ قُبِلَتْ، لَعَلَّ الْغَنِيَّ أَنْ يَعْتَبِرَ فَيُنْفِقَ مِمَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ، لَا يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّهُ دَفَعَ الْوَاجِبَ إلَى غَيْرِ مُسْتَحِقِّهِ، فَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ عُهْدَتِهِ، كَمَا لَوْ دَفَعَهَا إلَى كَافِرٍ، أَوْ ذِي قَرَابَتِهِ، وَكَدُيُونِ الْآدَمِيِّينَ. وَهَذَا قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ وَأَبِي يُوسُفَ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ كَالرِّوَايَتَيْنِ.
فَأَمَّا إنْ بَانَ الْآخِذُ عَبْدًا، أَوْ كَافِرًا، أَوْ هَاشِمِيًّا، أَوْ قَرَابَةً لِلْمُعْطِي مِمَّنْ لَا يَجُوزُ الدَّفْعُ إلَيْهِ، لَمْ يُجْزِهِ، رِوَايَةً وَاحِدَةً؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُسْتَحَقٍّ، وَلَا تَخْفَى حَالُهُ غَالِبًا، فَلَمْ يُجْزِهِ الدَّفْعُ إلَيْهِ، كَدُيُونِ الْآدَمِيِّينَ، وَفَارَقَ مَنْ بَانَ غَنِيًّا؛ بِأَنَّ الْفَقْرَ وَالْغِنَى مِمَّا يَعْسَرُ الِاطِّلَاعُ عَلَيْهِ وَالْمَعْرِفَةُ بِحَقِيقَتِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ} [البقرة: 273] .
فَاكْتَفَى بِظُهُورِ الْفَقْرِ، وَدَعْوَاهُ بِخِلَافِ غَيْرِهِ.

[مَسْأَلَةُ الرَّجُل إذَا تَوَلَّى إخْرَاج زَكَاته بِنَفْسِهِ سَقَطَ حَقّ الْعَامِل مِنْهَا]
(1792) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (إلَّا أَنْ يَتَوَلَّى الرَّجُلُ إخْرَاجَهَا بِنَفْسِهِ، فَيَسْقُطُ الْعَامِلُ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا تَوَلَّى إخْرَاجَ زَكَاتِهِ بِنَفْسِهِ، سَقَطَ حَقُّ الْعَامِلِ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَأْخُذُ أَجْرًا لِعَمَلِهِ، فَإِذَا لَمْ يَعْمَلْ فِيهَا شَيْئًا فَلَا حَقَّ لَهُ، فَيَسْقُطُ، وَتَبْقَى سَبْعَةُ أَصْنَافٍ، إنْ وَجَدَ جَمِيعَهُمْ أَعْطَاهُمْ، وَإِنْ وَجَدَ بَعْضَهُمْ اكْتَفَى بِعَطِيَّتِهِ، وَإِنْ أَعْطَى الْبَعْضَ مَعَ إمْكَانِ عَطِيَّةِ الْجَمِيعِ، جَازَ أَيْضًا. .

[مَسْأَلَةُ أَعْطَى الزَّكَاة كُلّهَا فِي صِنْف وَاحِد]
(1793) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِنْ أَعْطَاهَا كُلَّهَا فِي صِنْفٍ وَاحِدٍ، أَجْزَأَهُ إذَا لَمْ يُخْرِجْهُ إلَى الْغِنَى)

(2/498)


وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ مِنْ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهَا شَخْصًا وَاحِدًا.
وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ وَحُذَيْفَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ وَعَطَاءٌ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَرُوِيَ عَنْ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: إنْ كَانَ الْمَالُ كَثِيرًا يَحْتَمِلُ الْأَصْنَافَ، قَسَمَهُ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا، جَازَ وَضْعُهُ فِي صِنْفٍ وَاحِدٍ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَتَحَرَّى مَوْضِعَ الْحَاجَةِ مِنْهُمْ، وَيُقَدِّمُ الْأَوْلَى فَالْأَوْلَى
وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَالشَّافِعِيُّ: يَجِبُ أَنْ يَقْسِمَ زَكَاةَ كُلِّ صِنْفٍ مِنْ مَالِهِ، عَلَى الْمَوْجُودِ مِنْ الْأَصْنَافِ السِّتَّةِ الَّذِينَ سُهْمَانُهُمْ ثَابِتَةٌ، قِسْمَةً عَلَى السَّوَاءِ، ثُمَّ حِصَّةُ كُلِّ صِنْفٍ مِنْهُمْ، لَا تُصْرَفُ إلَى أَقَلِّ مِنْ ثَلَاثَةٍ مِنْهُمْ، إنْ وَجَدَ مِنْهُمْ ثَلَاثَةً أَوْ أَكْثَرَ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ إلَّا وَاحِدًا، صَرَفَ حِصَّةَ ذَلِكَ الصِّنْفِ إلَيْهِ.
وَرَوَى الْأَثْرَمُ عَنْ أَحْمَدَ كَذَلِكَ. وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الصَّدَقَةَ لِجَمِيعِهِمْ، وَشَرَّك بَيْنَهُمْ فِيهَا، فَلَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى بَعْضِهِمْ كَأَهْلِ الْخُمْسِ. وَلَنَا «، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمُعَاذٍ: أَعْلِمْهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً، تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ، فَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ» .
فَأَخْبَرَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِرَدِّ جُمْلَتِهَا فِي الْفُقَرَاءِ، وَهُمْ صِنْفٌ وَاحِدٌ، وَلَمْ يَذْكُرْ سِوَاهُمْ، ثُمَّ أَتَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ مَالٌ، فَجَعَلَهُ فِي صِنْفٍ ثَانٍ سِوَى الْفُقَرَاءِ، وَهُمْ الْمُؤَلَّفَةُ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ وَعُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ وَعَلْقَمَةُ بْنُ عُلَاثَةَ، وَزَيْدٌ الْخَيْرُ قَسَّمَ فِيهِمْ الذَّهَبِيَّةَ الَّتِي بَعَثَ بِهَا إلَيْهِ عَلِيٌّ مِنْ الْيَمَنِ. وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ الصَّدَقَةُ. ثُمَّ أَتَاهُ مَالٌ آخَرُ؛ فَجَعَلَهُ فِي صِنْفٍ آخَرَ؛ لِقَوْلِهِ لِقَبِيصَةَ بْنِ الْمُخَارِقُ حِينَ تَحَمَّلَ حِمَالَةً، فَأَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْأَلُهُ، فَقَالَ: «أَقِمْ يَا قَبِيصَةُ حَتَّى تَأْتِيَنَا الصَّدَقَةُ، فَنَأْمُرَ لَك بِهَا» . وَفِي حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ الْبَيَّاضِي، أَنَّهُ أَمَرَ لَهُ بِصَدَقَةِ قَوْمِهِ.
وَلَوْ وَجَبَ صَرْفُهَا إلَى جَمِيعِ الْأَصْنَافِ لَمْ يَجُزْ دَفْعُهَا إلَى وَاحِدٍ، وَلِأَنَّهَا لَا يَجِبُ صَرْفُهَا إلَى جَمِيعِ الْأَصْنَافِ إذَا أَخَذَهَا السَّاعِي، فَلَمْ يَجِبْ دَفْعُهَا إلَيْهِمْ إذَا فَرَّقَهَا الْمَالِكُ، كَمَا لَوْ لَمْ يَجِدْ إلَّا صِنْفًا وَاحِدًا، وَلِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ تَعْمِيمُ أَهْلِ كُلِّ صِنْفٍ بِهَا، فَجَازَ الِاقْتِصَارُ عَلَى وَاحِدٍ، كَمَا لَوْ وَصَّى لِجَمَاعَةٍ لَا يُمْكِنُ حَصْرُهُمْ، وَيُخَرَّجُ عَلَى هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ الْخُمْسُ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ تَفْرِيقُهُ عَلَى جَمِيعِ مُسْتَحِقِّيهِ، وَاسْتِيعَابُ جَمِيعِهِمْ بِهِ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ، وَالْآيَةُ أُرِيدَ بِهَا بَيَانُ الْأَصْنَافِ الَّذِينَ يَجُوزُ الدَّفْعُ إلَيْهِمْ، دُونَ غَيْرِهِمْ. إذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّ الْمُسْتَحَبَّ صَرْفُهَا إلَى جَمِيعِ الْأَصْنَافِ، أَوْ إلَى مَنْ أَمْكَنَ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنْ الْخِلَافِ، وَيَحْصُلُ الْإِجْزَاءُ يَقِينًا فَكَانَ أَوْلَى.

(2/499)


(1794) فَصْلٌ: قَوْلُ الْخِرَقِيِّ: " إذَا لَمْ يُخْرِجْهُ إلَى الْغِنَى ". يَعْنِي بِهِ الْغِنَى الْمَانِعَ مِنْ أَخْذِ الزَّكَاةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ. وَظَاهِرُ قَوْلِ الْخِرَقِيِّ أَنَّهُ لَا يَدْفَعُ إلَيْهِ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْغِنَى، وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ مَا يُغْنِيه مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي مَوَاضِعَ وَذَكَرَهُ أَصْحَابُهُ، فَيَتَعَيَّنُ حَمْلُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَدْفَعُ إلَيْهِ زِيَادَةً عَلَى مَا يَحْصُلُ بِهِ الْغِنَى.
وَهَذَا قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَبِي ثَوْرٍ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: يُعْطَى أَلْفًا وَأَكْثَرَ إذَا كَانَ مُحْتَاجًا إلَيْهَا، وَيُكْرَهُ أَنْ يُزَادَ عَلَى الْمِائَتَيْنِ. وَلَنَا، أَنَّ الْغِنَى لَوْ كَانَ سَابِقًا مَنَعَ، فَيَمْنَعُ إذَا قَارَنَ، كَالْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فِي النِّكَاحِ.

[فَصْلُ دَفَعَ الزَّكَاة إلَى الْأَصْنَاف عَلَى قَدْر حَاجَتهمْ إلَيْهَا]
(1795) فَصْلٌ: وَكُلُّ صِنْفٍ مِنْ الْأَصْنَافِ يُدْفَعُ إلَيْهِ مَا تَنْدَفِعُ بِهِ حَاجَتُهُ، مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ، فَالْغَارِمُ وَالْمُكَاتَبُ يُعْطَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا يَقْضِي بِهِ دَيْنَهُ وَإِنْ كَثُرَ، وَابْنُ السَّبِيلِ يُعْطَى مَا يُبْلِغُهُ إلَى بَلَدِهِ، وَالْغَازِي يُعْطَى مَا يَكْفِيه لِغَزْوِهِ، وَالْعَامِلُ يُعْطَى بِقَدْرِ أَجْرِهِ. قَالَ أَبُو دَاوُد: سَمِعْت أَحْمَدَ، قِيلَ لَهُ: يَحْمِلُ فِي السَّبِيلِ بِأَلْفٍ مِنْ الزَّكَاةِ؟ قَالَ: مَا أَعْطَى فَهُوَ جَائِزٌ، وَلَا يُعْطَى أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ زِيَادَةً عَلَى مَا تَنْدَفِعُ بِهِ الْحَاجَةُ؛ لِأَنَّ الدَّفْعَ لَهَا، فَلَا يُزَادُ عَلَى مَا تَقْتَضِيه. .

[فَصْلُ أَرْبَعَة أَصْنَاف يَأْخُذُونَ أَخَذَا مُسْتَقَرًّا مِنْ الزَّكَاة]
(1796) فَصْلٌ: وَأَرْبَعَةُ أَصْنَافٍ يَأْخُذُونَ أَخْذًا مُسْتَقِرًّا، فَلَا يُرَاعَى حَالُهُمْ بَعْدَ الدَّفْعِ، وَهُمْ: الْفُقَرَاءُ، وَالْمَسَاكِينُ، وَالْعَامِلُونَ، وَالْمُؤَلَّفَةُ، فَمَتَى أَخَذُوهَا مَلَكُوهَا مِلْكًا دَائِمًا مُسْتَقِرًّا، لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ رَدُّهَا بِحَالٍ، وَأَرْبَعَةٌ مِنْهُمْ، وَهُمْ الْغَارِمُونَ، وَفِي الرِّقَابِ، وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَابْنُ السَّبِيلِ؛ فَإِنَّهُمْ يَأْخُذُونَ أَخْذًا مُرَاعًى، فَإِنْ صَرَفُوهُ فِي الْجِهَةِ الَّتِي اسْتَحَقُّوا الْأَخْذَ لِأَجْلِهَا، وَإِلَّا اُسْتُرْجِعَ مِنْهُمْ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْأَصْنَافِ وَاَلَّتِي قَبْلَهَا، أَنَّ هَؤُلَاءِ أَخَذُوا لِمَعْنًى لَمْ يَحْصُلْ بِأَخْذِهِمْ لِلزَّكَاةِ، وَالْأَوَّلُونَ حَصَلَ الْمَقْصُودُ بِأَخْذِهِمْ، وَهُوَ غِنَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَتَأْلِيفُ الْمُؤَلَّفِينَ، وَأَدَاءُ أَجْرِ الْعَامِلِينَ. وَإِنْ قَضَى هَؤُلَاءِ حَاجَتَهُمْ بِهَا، وَفَضَلَ مَعَهُمْ فَضْلٌ، رَدُّوا الْفَضْلَ، إلَّا الْغَازِي، فَإِنَّ مَا فَضَلَ لَهُ بَعْدَ غَزْوِهِ فَهُوَ لَهُ. ذَكَرَهُ الْخِرَقِيِّ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.
وَظَاهِرُ قَوْلِهِ فِي الْمُكَاتَبِ أَنَّهُ لَا يَرُدُّ مَا فَضَلَ فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: وَإِذَا عَجَزَ الْمُكَاتَبُ وَرُدَّ فِي الرِّقِّ، وَكَانَ قَدْ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ، فَهُوَ لِسَيِّدِهِ وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ أَيْضًا فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيِّ وَالْكَوْسَجِ. وَنَقَلَ عَنْهُ حَنْبَلٌ: إذَا عَجَزَ يَرُدُّ مَا فِي يَدَيْهِ فِي الْمُكَاتَبِينَ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ: إنْ كَانَ بَاقِيًا بِعَيْنِهِ اُسْتُرْجِعَ مِنْهُ لِأَنَّهُ إنَّمَا دُفِعَ إلَيْهِ لِيَعْتِقَ بِهِ وَلَمْ يَقَعْ وَقَالَ

(2/500)


الْقَاضِي: كَلَامُ الْخِرَقِيِّ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الَّذِي بَقِيَ فِي يَدِهِ لَمْ يَكُنْ عَيْنَ الزَّكَاةِ، وَإِنَّمَا تَصَرَّفَ فِيهَا وَحَصَلَ عِوَضُهَا وَفَائِدَتُهَا. وَلَوْ تَلِفَ الْمَالُ الَّذِي فِي يَدِ هَؤُلَاءِ بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ، لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِمْ بِشَيْءٍ.

[مَسْأَلَةُ نَقْلُ الصَّدَقَةِ مِنْ بَلَدِهَا إلَى بَلَدٍ تُقْصَرُ فِي مِثْلِهِ الصَّلَاةُ]
مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ نَقْلُ الصَّدَقَةِ مِنْ بَلَدِهَا إلَى بَلَدٍ تُقْصَرُ فِي مِثْلِهِ الصَّلَاةُ) الْمَذْهَبُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَقْلُ الصَّدَقَةِ مِنْ بَلَدِهَا إلَى مَسَافَةِ الْقَصْرِ. قَالَ أَبُو دَاوُد: سَمِعْت أَحْمَدَ سُئِلَ عَنْ الزَّكَاةِ يُبْعَثُ بِهَا مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ؟ قَالَ لَا. قِيلَ: وَإِنْ كَانَ قَرَابَتُهُ بِهَا؟ قَالَ: لَا. وَاسْتَحَبَّ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ لَا تُنْقَلَ مِنْ بَلَدِهَا.
وَقَالَ سَعِيدٌ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ فِي كِتَابِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ: مَنْ أَخْرَجَ مِنْ مِخْلَافٍ إلَى مِخْلَافٍ، فَإِنَّ صَدَقَتَهُ وَعُشْرَهُ تُرَدُّ إلَى مِخْلَافِهِ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ رَدَّ زَكَاةً أُتِيَ بِهَا مِنْ خُرَاسَانَ إلَى الشَّامِ، إلَى خُرَاسَانَ.
وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ وَالنَّخَعِيِّ أَنَّهُمَا كَرِهَا نَقْلَ الزَّكَاةِ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ، إلَّا لِذِي قَرَابَةٍ. وَكَانَ أَبُو الْعَالِيَةِ يَبْعَثُ بِزَكَاتِهِ إلَى الْمَدِينَةِ. وَلَنَا، «قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمُعَاذٍ: أَخْبِرْهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ، فَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ» . وَهَذَا يَخْتَصُّ بِفُقَرَاءِ بَلَدِهِمْ.
وَلَمَّا بَعَثَ مُعَاذٌ الصَّدَقَةَ مِنْ الْيَمَنِ إلَى عُمَرَ، أَنْكَرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ عُمَرُ، وَقَالَ: لَمْ أَبْعَثْك جَابِيًا، وَلَا آخِذَ جِزْيَةٍ، وَلَكِنْ بَعَثْتُك لِتَأْخُذَ مِنْ أَغْنِيَاءِ النَّاسِ، فَتَرُدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ. فَقَالَ مُعَاذٌ: مَا بَعَثْت إلَيْك بِشَيْءِ وَأَنَا أَجِدُ أَحَدًا يَأْخُذُهُ مِنِّي رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ فِي الْأَمْوَالِ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَطَاءٍ مَوْلَى عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، أَنَّ زِيَادًا، أَوْ بَعْضَ الْأُمَرَاءِ، بَعَثَ عِمْرَانَ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا رَجَعَ قَالَ: أَيْنَ الْمَالُ؟ قَالَ: أَلِلْمَالِ بَعَثْتَنِي؟ أَخَذْنَاهَا مِنْ حَيْثُ كُنَّا نَأْخُذُهَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَوَضَعْنَاهَا حَيْثُ كُنَّا نَضَعُهَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ إغْنَاءُ الْفُقَرَاءِ بِهَا، فَإِذَا أَبَحْنَا نَقْلَهَا أَفْضَى إلَى بَقَاءِ فُقَرَاءِ ذَلِكَ الْبَلَدِ مُحْتَاجِينَ. (1798) فَصْلٌ: فَإِنْ خَالَفَ وَنَقَلَهَا، أَجْزَأَتْهُ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. قَالَ الْقَاضِي: وَظَاهِرُ كَلَامِ أَحْمَدَ يَقْتَضِي ذَلِكَ، وَلَمْ أَجِدْ عَنْهُ نَصًّا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ فِيهَا رِوَايَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا، يُجْزِئُهُ. وَاخْتَارَهَا؛ لِأَنَّهُ دَفَعَ الْحَقَّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ، فَبَرِئَ مِنْهُ كَالدَّيْنِ، وَكَمَا لَوْ فَرَّقَهَا فِي بَلَدِهَا. وَالْأُخْرَى، لَا تُجْزِئُهُ.
اخْتَارَهَا ابْنُ حَامِدٍ؛ لِأَنَّهُ دَفَعَ الزَّكَاةَ إلَى غَيْرِ مَنْ أُمِرَ بِدَفْعِهَا إلَيْهِ، أَشْبَهَ مَا لَوْ دَفَعَهَا إلَى غَيْرِ الْأَصْنَافِ.

(2/501)


[فَصْلُ اسْتَغْنَى عَنْ الزَّكَاة فُقَرَاءُ أَهْلِ بَلَدِهَا]
(1799) فَصْلٌ: فَإِنْ اسْتَغْنَى عَنْهَا فُقَرَاءُ أَهْلِ بَلَدِهَا، جَازَ نَقْلُهَا. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فَقَالَ: قَدْ تُحْمَلُ الصَّدَقَةُ إلَى الْإِمَامِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا فُقَرَاءُ أَوْ كَانَ فِيهَا فَضْلٌ عَنْ حَاجَتِهِمْ، وَقَالَ أَيْضًا: لَا تُخْرَجُ صَدَقَةُ قَوْمٍ عَنْهُمْ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ، إلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهَا فَضْلٌ عَنْهُمْ؛ لِأَنَّ الَّذِي كَانَ يَجِيءُ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ مِنْ الصَّدَقَةِ، إنَّمَا كَانَ عَنْ فَضْلٍ مِنْهُمْ، يُعْطَوْنَ مَا يَكْفِيهِمْ، وَيُخْرَجُ الْفَضْلُ عَنْهُمْ.
وَرَوَى أَبُو عُبَيْدٍ، فِي كِتَابِ " الْأَمْوَالِ "، بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبِ، أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ لَمْ يَزَلْ بِالْجُنْدِ، إذْ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى مَاتَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ قَدِمَ عَلَى عُمَرَ، فَرَدَّهُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، فَبَعَثَ إلَيْهِ مُعَاذٌ بِثُلُثِ صَدَقَةِ النَّاسِ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عُمَرُ، وَقَالَ: لَمْ أَبْعَثْك جَابِيًا، وَلَا آخِذَ جِزْيَةٍ، لَكِنْ بَعَثْتُك لِتَأْخُذَ مِنْ أَغْنِيَاءِ النَّاسِ، فَتَرُدَّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ. فَقَالَ مُعَاذٌ: مَا بَعَثْت إلَيْك بِشَيْءٍ وَأَنَا أَجِدُ أَحَدًا يَأْخُذُهُ مِنِّي. فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الثَّانِي، بَعَثَ إلَيْهِ بِشَطْرِ الصَّدَقَةِ، فَتَرَاجَعَا بِمِثْلِ ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الثَّالِثُ بَعَثَ إلَيْهِ بِهَا كُلِّهَا، فَرَاجَعَهُ عُمَرُ بِمِثْلِ مَا رَاجَعَهُ، فَقَالَ مُعَاذٌ: مَا وَجَدْت أَحَدًا يَأْخُذُ مِنِّي شَيْئًا.
وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ بِبَادِيَةٍ، وَلَمْ يَجِدْ مَنْ يَدْفَعُهَا إلَيْهِ، فَرَّقَهَا عَلَى فُقَرَاءِ أَقْرَبِ الْبِلَادِ إلَيْهِ.

[فَصْلُ إذَا كَانَ الْمُزَكِّي فِي بَلَدٍ وَمَالُهُ فِي بَلَدٍ]
فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَكَمِ: إذَا كَانَ الرَّجُلُ فِي بَلَدٍ، وَمَالُهُ فِي بَلَدٍ، فَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ تُؤَدَّى حَيْثُ كَانَ الْمَالُ، فَإِنْ كَانَ بَعْضُهُ حَيْثُ هُوَ، وَبَعْضُهُ فِي مِصْرٍ، يُؤَدِّي زَكَاةَ كُلِّ مَالٍ حَيْثُ هُوَ. فَإِنْ كَانَ غَائِبًا عَنْ مِصْرِهِ وَأَهْلِهِ، وَالْمَالُ مَعَهُ، فَأَسْهَلُ أَنْ يُعْطِيَ بَعْضَهُ فِي هَذَا الْبَلَدِ، وَبَعْضَهُ فِي هَذَا الْبَلَدِ، وَبَعْضَهُ فِي الْبَلَدِ الْآخَرِ.
فَأَمَّا إذَا كَانَ الْمَالُ فِي الْبَلَدِ الَّذِي هُوَ فِيهِ حَتَّى يَمْكُثَ فِيهِ حَوْلًا تَامًّا، فَلَا يَبْعَثُ بِزَكَاتِهِ إلَى بَلَدٍ آخَرَ. فَإِنْ كَانَ الْمَالُ تِجَارَةً يُسَافِرُ بِهِ، فَقَالَ الْقَاضِي: يُفَرِّقُ زَكَاتَهُ حَيْثُ حَالَ حَوْلُهُ، فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ. وَمَفْهُومُ كَلَامِ أَحْمَدَ فِي اعْتِبَارِهِ الْحَوْلَ التَّامَّ، أَنَّهُ يَسْهُلُ فِي أَنْ يُفَرِّقَهَا فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ، وَغَيْرِهِ مِنْ الْبُلْدَانِ الَّتِي أَقَامَ بِهَا فِي ذَلِكَ الْحَوْلِ.
وَقَالَ فِي الرَّجُلِ يَغِيبُ عَنْ أَهْلِهِ، فَتَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ: يُزَكِّيه فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي كَثُرَ مُقَامُهُ فِيهِ. فَأَمَّا زَكَاةُ الْفِطْرِ فَإِنَّهُ يُفَرِّقُهَا فِي الْبَلَدِ الَّذِي وَجَبَتْ عَلَيْهِ فِيهِ، سَوَاءٌ كَانَ مَالُهُ فِيهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّهُ سَبَبُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ، فَفُرِّقَتْ فِي الْبَلَدِ الَّذِي سَبَبُهَا فِيهِ.

[فَصْلُ الْمُسْتَحَبُّ تَفْرِقَةُ الصَّدَقَةِ فِي بَلَدِهَا]
(1801) فَصْلٌ: وَالْمُسْتَحَبُّ تَفْرِقَةُ الصَّدَقَةِ فِي بَلَدِهَا، ثُمَّ الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ مِنْ الْقُرَى وَالْبُلْدَانِ. قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ: لَا بَأْسَ أَنْ يُعْطِيَ زَكَاتَهُ فِي الْقُرَى الَّتِي حَوْلَهُ مَا لَمْ تُقْصَرْ الصَّلَاةُ فِي أَثْنَائِهَا،

(2/502)


وَيَبْدَأُ بِالْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ. وَإِنْ نَقَلَهَا إلَى الْبَعِيدِ لِتَحَرِّي قَرَابَةٍ، أَوْ مَنْ كَانَ أَشَدَّ حَاجَةً، فَلَا بَأْسَ، مَا لَمْ يُجَاوِزْ مَسَافَةَ الْقَصْرِ.

[فَصْلُ أَخَذَ السَّاعِي الصَّدَقَةَ وَاحْتَاجَ إلَى بَيْعِهَا لِمَصْلَحَةِ مَنْ كَلَّفَهُ فِي نَقْلِهَا أَوْ مَرَضِهَا]
(1802) فَصْلٌ: وَإِذَا أَخَذَ السَّاعِي الصَّدَقَةَ، وَاحْتَاجَ إلَى بَيْعِهَا لِمَصْلَحَةِ مَنْ كَلَّفَهُ فِي نَقْلِهَا أَوْ مَرَضِهَا أَوْ نَحْوِهِمَا، فَلَهُ ذَلِكَ؛ لِمَا رَوَى قَيْسُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى فِي إبِلِ الصَّدَقَةِ نَاقَةً كَوْمَاءَ، فَسَأَلَ عَنْهَا؟ فَقَالَ الْمُصَدِّقُ: إنِّي ارْتَجَعْتهَا بِإِبِلٍ. فَسَكَتَ.» رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ، فِي " الْأَمْوَالِ "،
وَقَالَ: الرَّجْعَةُ أَنْ يَبِيعَهَا، وَيَشْتَرِيَ بِثَمَنِهَا مِثْلَهَا أَوْ غَيْرَهَا. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَاجَةٌ إلَى بَيْعِهَا، فَقَالَ الْقَاضِي: لَا يَجُوزُ وَالْبَيْعُ بَاطِلٌ، وَعَلَيْهِ الضَّمَانُ. وَيَحْتَمِلُ الْجَوَازَ؛ لِحَدِيثِ قَيْسٍ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَكَتَ حِينَ أَخْبَرَهُ الْمُصَدِّقُ بِارْتِجَاعِهَا، وَلَمْ يَسْتَفْصِلْ.

[مَسْأَلَةُ بَاعَ مَاشِيَةً قَبْلَ الْحَوْلِ بِمِثْلِهَا]
(1803) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَإِذَا بَاعَ مَاشِيَةً قَبْلَ الْحَوْلِ بِمِثْلِهَا، زَكَّاهَا إذَا تَمَّ حَوْلٌ مِنْ وَقْتِ مِلْكِهِ الْأَوَّلِ) وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إذَا بَاعَ نِصَابًا لِلزَّكَاةِ، مِمَّا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْحَوْلُ بِجِنْسِهِ، كَالْإِبِلِ بِالْإِبِلِ، أَوْ الْبَقَرِ بِالْبَقَرِ، أَوْ الْغَنَمِ بِالْغَنَمِ، أَوْ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ، أَوْ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ، لَمْ يَنْقَطِعْ الْحَوْلُ، وَبَنَى حَوْلَ الثَّانِي عَلَى حَوْلِ الْأَوَّلِ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَنْبَنِي حَوْلُ نِصَابٍ عَلَى حَوْلِ غَيْرِهِ بِحَالٍ؛ لِقَوْلِهِ: «لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ» . وَلِأَنَّهُ أَصْلٌ بِنَفْسِهِ، فَلَمْ يَنْبَنِ عَلَى حَوْلِ غَيْرِهِ، كَمَا لَوْ اخْتَلَفَ الْجِنْسَانِ. وَوَافَقَنَا أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْأَثْمَانِ. وَوَافَقَ الشَّافِعِيَّ فِيمَا سِوَاهَا؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ إنَّمَا وَجَبَتْ فِي الْأَثْمَانِ لِكَوْنِهَا ثَمَنًا، وَهَذَا الْمَعْنَى يَشْمَلُهَا، بِخِلَافِ غَيْرِهَا.
وَلَنَا، أَنَّهُ نِصَابٌ يُضَمُّ إلَيْهِ نَمَاؤُهُ فِي الْحَوْلِ، فَبُنِيَ حَوْلُ بَدَلِهِ مِنْ جِنْسِهِ عَلَى حَوْلِهِ، كَالْعُرُوضِ، وَالْحَدِيثُ مَخْصُوصٌ بِالنَّمَاءِ وَالرِّبْحِ وَالْعُرُوضِ، فَنَقِيسُ عَلَيْهِ مَحَلَّ النِّزَاعِ، وَالْجِنْسَانِ لَا يُضَمُّ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ مَعَ وُجُودِهِمَا. فَأَوْلَى أَنْ لَا يُبْنَى حَوْلُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ.

(1804) فَصْلٌ: قَالَ أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ: سَأَلْت أَحْمَدَ، عَنْ الرَّجُلِ يَكُونُ عِنْدَهُ غَنَمٌ سَائِمَةٌ، فَيَبِيعُهَا بِضِعْفِهَا مِنْ الْغَنَمِ، أَيُزَكِّيهَا كُلَّهَا، أَمْ يُعْطِي زَكَاةَ الْأَصْلِ؟ قَالَ: بَلْ يُزَكِّيهَا كُلَّهَا، عَلَى حَدِيثِ عُمَرَ فِي السَّخْلَةِ يَرُوحُ بِهَا الرَّاعِي؛ لِأَنَّ نَمَاءَهَا مَعَهَا. قُلْت: فَإِنْ كَانَتْ لِلتِّجَارَةِ؟ قَالَ: يُزَكِّيهَا كُلَّهَا عَلَى حَدِيثِ حَمَاسٍ، فَأَمَّا إنْ

(2/503)


بَاعَ النِّصَابَ بِدُونِ النِّصَابِ انْقَطَعَ الْحَوْلُ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ مِائَتَانِ فَبَاعَهُمَا بِمِائَةٍ فَعَلَيْهِ زَكَاةُ مِائَةٍ وَحْدَهَا.

[مَسْأَلَةُ أَبْدَلَ الْمُزَكِّي نِصَابًا مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ]
(1805) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَكَذَلِكَ إنْ أَبْدَلَ عِشْرِينَ دِينَارًا بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ، أَوْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ بِعِشْرِينَ دِينَارًا، لَمْ تَبْطُلْ الزَّكَاةُ بِانْتِقَالِهَا) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ مَتَى أَبْدَلَ نِصَابًا مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، انْقَطَعَ حَوْلُ الزَّكَاةِ وَاسْتَأْنَفَ حَوْلًا، إلَّا الذَّهَبَ بِالْفِضَّةِ، أَوْ عُرُوضَ التِّجَارَةِ؛ لِكَوْنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ كَالْمَالِ الْوَاحِدِ، إذْ هُمَا أُرُوشُ الْجِنَايَاتِ، وَقِيَمُ الْمُتْلَفَاتِ، وَيَضُمُّ أَحَدَهُمَا إلَى الْآخَرِ فِي الزَّكَاةِ.
وَكَذَلِكَ إذَا اشْتَرَى عَرْضًا لِلتِّجَارَةِ بِنِصَابٍ مِنْ الْأَثْمَانِ، أَوْ بَاعَ عَرْضًا بِنِصَابٍ، لَمْ يَنْقَطِعْ الْحَوْلُ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِي قِيمَةِ الْعُرُوضِ، لَا فِي نَفْسِهَا، وَالْقِيمَةُ هِيَ الْأَثْمَانُ، فَكَانَا جِنْسًا وَاحِدًا. وَإِذَا قُلْنَا: إنَّ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ لَا يُضَمُّ أَحَدُهُمَا إلَى صَاحِبِهِ، لَمْ يُبْنَ حَوْلُ أَحَدِهِمَا عَلَى حَوْلِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّهُمَا مَالَانِ لَا يُضَمُّ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ، فَلَمْ يُبْنَ حَوْلُهُ عَلَى حَوْلِهِ، كَالْجِنْسَيْنِ مِنْ الْمَاشِيَةِ. وَأَمَّا عُرُوضُ التِّجَارَةِ، فَإِنَّ حَوْلَهَا يُبْنَى عَلَى حَوْلِ الْأَثْمَانِ بِكُلِّ حَالٍ.

[مَسْأَلَةُ كَانَتْ عِنْدَهُ مَاشِيَةٌ فَبَاعَهَا قَبْلَ الْحَوْلِ بِدَرَاهِم فِرَارًا مِنْ الزَّكَاةِ]
(1806) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَمَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَاشِيَةٌ، فَبَاعَهَا قَبْلَ الْحَوْلِ بِدَرَاهِمَ، فِرَارًا مِنْ الزَّكَاةِ، لَمْ تَسْقُطْ الزَّكَاةُ عَنْهُ) قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ إبْدَالَ النِّصَابِ بِغَيْرِ جِنْسِهِ يَقْطَعُ الْحَوْلَ، وَيَسْتَأْنِفُ حَوْلًا آخَرَ. فَإِنْ فَعَلَ هَذَا فِرَارًا مِنْ الزَّكَاةِ، لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُبْدَلُ مَاشِيَةً أَوْ غَيْرَهَا مِنْ النُّصُبِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَتْلَفَ جُزْءًا مِنْ النِّصَابِ، قَصْدًا لِلتَّنْقِيصِ، لِتَسْقُطَ عَنْهُ الزَّكَاةُ، لَمْ تَسْقُطْ، وَتُؤْخَذُ الزَّكَاةُ مِنْهُ فِي آخِرِ الْحَوْلِ، إذَا كَانَ إبْدَالُهُ وَإِتْلَافُهُ عِنْدَ قُرْبِ الْوُجُوبِ. وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ، لَمْ تَجِبْ الزَّكَاةُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَظِنَّةٍ لِلْفِرَارِ.
وَبِمَا ذَكَرْنَاهُ قَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ: تَسْقُطُ عَنْهُ الزَّكَاةُ؛ لِأَنَّهُ نَقَصَ قَبْلَ تَمَامِ حَوْلِهِ، فَلَمْ تَجِبْ فِيهِ الزَّكَاةُ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَهُ لِحَاجَتِهِ.
وَلَنَا، قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} [القلم: 17] {وَلا يَسْتَثْنُونَ} [القلم: 18] {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ} [القلم: 19] {فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} [القلم: 20] . فَعَاقَبَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ، لِفِرَارِهِمْ مِنْ الصَّدَقَةِ، وَلِأَنَّهُ قَصَدَ إسْقَاطَ نَصِيبِ مَنْ انْعَقَدَ سَبَبُ اسْتِحْقَاقِهِ، فَلَمْ يَسْقُطْ، كَمَا لَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا قَصَدَ قَصْدًا فَاسِدًا، اقْتَضَتْ الْحِكْمَةُ مُعَاقَبَتَهُ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ، كَمَنْ قَتَلَ مَوْرُوثَهُ لِاسْتِعْجَالِ مِيرَاثِهِ، عَاقَبَهُ الشَّرْعُ بِالْحِرْمَانِ، وَإِذَا أَتْلَفَهُ لِحَاجَتِهِ، لَمْ يَقْصِدْ قَصْدًا فَاسِدًا.

(2/504)


[فَصْلُ إذَا حَالَ الْحَوْلُ أَخْرَجَ الزَّكَاةَ مِنْ جِنْسِ الْمَالِ الْمَبِيعِ دُونَ الْمَوْجُودِ]
(1807) فَصْلٌ: وَإِذَا حَالَ الْحَوْلُ أَخْرَجَ الزَّكَاةَ مِنْ جِنْسِ الْمَالِ الْمَبِيعِ، دُونَ الْمَوْجُودِ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي وَجَبَتْ الزَّكَاةُ بِسَبَبِهِ، وَلَوْلَاهُ لَمْ تَجِبْ فِي هَذَا زَكَاةٌ.

[فَصْلُ لَمْ يَقْصِدْ بِالْبَيْعِ وَلَا بِالتَّنْقِيصِ الْفِرَارَ مِنْ الزَّكَاة]
فَصْلٌ: فَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ بِالْبَيْعِ وَلَا بِالتَّنْقِيصِ الْفِرَارَ، انْقَطَعَ الْحَوْلُ، وَاسْتَأْنَفَ بِمَا اسْتَبْدَلَ بِهِ حَوْلًا، إنْ كَانَ مَحَلًّا لِلزَّكَاةِ فَإِنْ وَجَدَ بِالثَّانِي عَيْبًا، فَرَدَّهُ أَوْ بَاعَهُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ، ثُمَّ اسْتَرَدَّهُ، اسْتَأْنَفَ أَيْضًا حَوْلًا؛ لِزَوَالِ؛ مِلْكِهِ بِالْبَيْعِ، قَلَّ الزَّمَانُ أَوْ كَثُرَ، وَقَدْ ذَكَرَ الْخِرَقِيِّ هَذَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، فَقَالَ: وَالْمَاشِيَةُ إذَا بِيعَتْ بِالْخِيَارِ فَلَمْ يَنْقَضِ الْخِيَارُ حَتَّى رُدَّتْ، اسْتَقْبَلَ الْبَائِعُ بِهَا حَوْلًا، سَوَاءٌ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ أَوْ لِلْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ تَجْدِيدُ مِلْكٍ.
وَإِنْ حَالَ الْحَوْلُ عَلَى النِّصَابِ الَّذِي اشْتَرَاهُ وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ، فَإِنْ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا قَبْلَ إخْرَاجِ زَكَاتِهِ فَلَهُ الرَّدُّ، سَوَاءٌ قُلْنَا الزَّكَاةُ تَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ، أَوْ بِالذِّمَّةِ؛ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ أَنَّ الزَّكَاةَ لَا تَجِبُ فِي الْعَيْنِ بِمَعْنَى اسْتِحْقَاقِ الْفُقَرَاءِ جُزْءًا مِنْهُ، بَلْ بِمَعْنَى تَعَلُّقِ حَقٍّ بِهِ، كَتَعَلُّقِ الْأَرْشِ بِالْجَانِي، فَيَرُدُّ النِّصَابَ، وَعَلَيْهِ إخْرَاجُ زَكَاتِهِ مِنْ مَالٍ آخَرَ. فَإِنْ أَخْرَجَ الزَّكَاةَ مِنْهُ، ثُمَّ أَرَادَ رَدَّهُ، انْبَنَى عَلَى الْمَعِيبِ إذَا حَدَثَ بِهِ عَيْبٌ آخَرُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي، هَلْ لَهُ رَدُّهُ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ، وَانْبَنَى أَيْضًا عَلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ، فَإِنْ قُلْنَا: يَجُوزُ.
جَازَ الرَّدُّ هَاهُنَا، وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ. وَمَتَى رَدَّهُ فَعَلَيْهِ عِوَضُ الشَّاةِ الْمُخْرَجَةِ، تُحْسَبُ عَلَيْهِ بِالْحِصَّةِ مِنْ الثَّمَنِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي قِيمَتِهَا مَعَ يَمِينِهِ، إذَا لَمْ تَكُنْ بَيِّنَةٌ؛ لِأَنَّهَا تَلِفَتْ فِي يَدِهِ، فَهُوَ أَعْرَفُ بِقِيمَتِهَا، وَلِأَنَّ الْقِيمَةَ مُدَّعَاةٌ عَلَيْهِ، فَهُوَ غَارِمٌ، وَالْقَوْلُ فِي الْأُصُولِ قَوْلُ الْغَارِمِ. وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ يَغْرَمُ الثَّمَنَ، فَيَرُدُّهُ.
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ؛ لِأَنَّ الْغَارِمَ لِثَمَنِ الشَّاةِ الْمُدَّعَاةِ هُوَ الْمُشْتَرِي. فَإِنْ أَخْرَجَ الزَّكَاةَ مِنْ غَيْرِ النِّصَابِ، فَلَهُ الرَّدُّ وَجْهًا وَاحِدًا. (1809) فَصْلٌ: فَإِنْ كَانَ الْبَيْعُ فَاسِدًا، لَمْ يَنْقَطِعْ حَوْلُ الزَّكَاةِ فِي النِّصَابِ، وَبَنَى عَلَى حَوْلِهِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ مَا انْتَقَلَ فِيهِ إلَّا أَنْ يَتَعَذَّرَ رَدُّهُ، فَيَصِيرَ كَالْمَغْصُوبِ، عَلَى مَا مَضَى.

[فَصْلُ التَّصَرُّفُ فِي النِّصَاب الَّذِي وَجَبَتْ الزَّكَاةُ فِيهِ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ]
(1810) فَصْلٌ: وَيَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِي النِّصَابِ الَّذِي وَجَبَتْ الزَّكَاةُ فِيهِ، بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَأَنْوَاعِ التَّصَرُّفَات، وَلَيْسَ لِلسَّاعِي فَسْخُ الْبَيْعِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ تَصِحُّ، إلَّا أَنَّهُ إذَا امْتَنَعَ مِنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ نَقَضَ الْبَيْعَ فِي قَدْرِهَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ قَوْلَانِ؛ أَحَدُهُمَا، لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّنَا إنْ قُلْنَا إنَّ الزَّكَاةَ تَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ، فَقَدْ بَاعَ مَا لَا يَمْلِكُهُ، وَإِنْ قُلْنَا تَتَعَلَّقُ بِالذِّمَّةِ، فَقَدْرُ الزَّكَاةِ مُرْتَهَنٌ بِهَا، وَبَيْعُ الرَّهْنِ غَيْرُ جَائِزٍ.

(2/505)


وَلَنَا، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا.» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَمَفْهُومُهُ صِحَّةُ بَيْعِهَا إذَا بَدَا صَلَاحُهَا، وَهُوَ عَامٌّ فِيمَا وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ وَغَيْرُهُ. وَنَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَبِّ حَتَّى يَشْتَدَّ، وَبَيْعِ الْعِنَبِ حَتَّى يَسْوَدَّ. وَهُمَا مِمَّا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ. وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ فِي الذِّمَّةِ، وَالْمَالُ خَالٍ عَنْهَا، فَصَحَّ بَيْعُهُ، كَمَا لَوْ بَاعَ مَالَهُ، وَعَلَيْهِ دَيْنُ آدَمِيٍّ، أَوْ زَكَاةُ فِطْرٍ.
وَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِالْعَيْنِ، فَهُوَ تَعَلُّقٌ لَا يَمْنَعُ التَّصَرُّفَ فِي جُزْءٍ مِنْ النِّصَابِ، فَلَمْ يَمْنَعْ بَيْعَ جَمِيعِهِ، كَأَرْشِ الْجِنَايَةِ. وَقَوْلُهُمْ: بَاعَ مَا لَا يَمْلِكُهُ. لَا يَصِحُّ؛ فَإِنَّ الْمِلْكَ لَمْ يَثْبُتْ لِلْفُقَرَاءِ فِي النِّصَابِ، بِدَلِيلِ أَنَّ لَهُ أَدَاءَ الزَّكَاةِ مِنْ غَيْرِهِ، وَلَا يَتَمَكَّنُ الْفُقَرَاءُ مِنْ إلْزَامِهِ أَدَاءَ الزَّكَاةِ مِنْهُ، وَلَيْسَ بِرَهْنٍ، فَإِنَّ أَحْكَامَ الرَّهْنِ غَيْرُ ثَابِتَةٍ فِيهِ، فَإِذَا تَصَرَّفَ فِي النِّصَابِ ثَمَّ أَخْرَجَ الزَّكَاةَ مِنْ غَيْرِهِ، وَإِلَّا كُلِّفَ إخْرَاجَهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُلِّفَ تَحْصِيلَهَا، فَإِنْ عَجَزَ بَقِيَتْ الزَّكَاةُ فِي ذِمَّتِهِ، كَسَائِرِ الدُّيُونِ، وَلَا يُؤْخَذُ مِنْ النِّصَابِ.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُفْسَخَ الْبَيْعُ فِي قَدْرِ الزَّكَاةِ، وَتُؤْخَذَ مِنْهُ، وَيَرْجِعُ الْبَائِعُ عَلَيْهِ بِقَدْرِهَا؛ لِأَنَّ عَلَى الْفُقَرَاءِ ضَرَرًا فِي إتْمَامِ الْبَيْعِ، وَتَفْوِيتًا لِحُقُوقِهِمْ، فَوَجَبَ فَسْخُهُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» وَهَذَا أَصَحُّ.

[مَسْأَلَةُ الزَّكَاةُ تَجِبُ فِي الذِّمَّةِ بِحُلُولِ الْحَوْلِ وَإِنْ تَلِفَ الْمَالُ]
(1811) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَالزَّكَاةُ تَجِبُ فِي الذِّمَّةِ بِحُلُولِ الْحَوْلِ وَإِنْ تَلِفَ الْمَالُ، فَرَّطَ أَوْ لَمْ يُفَرِّطْ) هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى أَحْكَامٍ ثَلَاثَةٍ: أَحَدُهَا، أَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِي الذِّمَّةِ. وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ، وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ إخْرَاجَهَا مِنْ غَيْرِ النِّصَابِ جَائِزٌ، فَلَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً فِيهِ، كَزَكَاةِ الْفِطْرِ، وَلِأَنَّهَا لَوْ وَجَبَتْ فِيهِ، لَامْتَنَعَ تَصَرُّفُ الْمَالِكِ فِيهِ، وَلَتَمَكَّنَ الْمُسْتَحِقُّونَ مِنْ إلْزَامِهِ أَدَاءَ الزَّكَاةِ مِنْ عَيْنِهِ، أَوْ ظَهَرَ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ ثُبُوتِهِ فِيهِ، وَلَسَقَطَتْ الزَّكَاةُ بِتَلَفِ النِّصَابِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ، كَسُقُوطِ أَرْشِ الْجِنَايَةِ بِتَلَفِ الْجَانِي. وَالثَّانِيَةُ، أَنَّهَا تَجِبُ فِي الْعَيْنِ.
وَهَذَا الْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيِّ وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ هِيَ الظَّاهِرَةُ عِنْدَ بَعْضِ أَصْحَابِنَا؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فِي أَرْبَعِينَ شَاةٍ شَاةٌ. وَقَوْلِهِ: فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ، وَفِيمَا سُقِيَ بِدَالِيَةٍ أَوْ نَضْحٍ نِصْفُ الْعُشْرِ» . وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَلْفَاظِ الْوَارِدَةِ بِحَرْفِ " فِي " وَهِيَ لِلظَّرْفِيَّةِ. وَإِنَّمَا جَازَ الْإِخْرَاجُ مِنْ غَيْرِ النِّصَابِ رُخْصَةً. وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ أَنَّهَا إذَا كَانَتْ فِي الذِّمَّةِ، فَحَالَ عَلَى مَالِهِ حَوْلَانِ، لَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُمَا، وَجَبَ عَلَيْهِ أَدَاؤُهَا لِمَا مَضَى، وَلَا تَنْقُصُ عَنْهُ الزَّكَاةُ فِي الْحَوْلِ الثَّانِي، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ نِصَابٍ، لَمْ تَنْقُصْ الزَّكَاةُ،

(2/506)


وَإِنْ مَضَى عَلَيْهِ أَحْوَالٌ، فَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ أَرْبَعُونَ شَاةً مَضَى عَلَيْهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ لَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهَا، وَجَبَ عَلَيْهِ ثَلَاثُ شِيَاهٍ، وَإِنْ كَانَتْ مِائَةَ دِينَارٍ، فَعَلَيْهِ سَبْعَةُ دَنَانِيرَ وَنِصْفٌ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ فِي ذِمَّتِهِ، فَلَمْ يُؤَثِّرْ فِي تَنْقِيصِ النِّصَابِ.
لَكِنْ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ آخَرُ يُؤَدِّي الزَّكَاةَ مِنْهُ، احْتَمَلَ أَنْ تَسْقُطَ الزَّكَاةُ فِي قَدْرِهَا؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ. وَقَالَ ابْنُ عَقِيلٍ: لَا تَسْقُطُ الزَّكَاةُ بِهَذَا بِحَالٍ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يُسْقِطُ نَفْسَهُ، وَقَدْ يُسْقِطُ غَيْرَهُ، بِدَلِيلِ أَنَّ تَغَيُّرَ الْمَاءِ بِالنَّجَاسَةِ فِي مَحَلِّهَا لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ طَهَارَتِهَا وَإِزَالَتِهَا بِهِ، وَيَمْنَعُ إزَالَةَ نَجَاسَةِ غَيْرِهَا. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ الثَّانِيَةَ غَيْرُ الْأُولَى. وَإِنْ قُلْنَا: الزَّكَاةُ تَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ. وَكَانَ النِّصَابُ مِمَّا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي عَيْنِهِ، فَحَالَتْ عَلَيْهِ أَحْوَالٌ لَمْ تُؤَدَّ زَكَاتُهَا، تَعَلَّقَتْ الزَّكَاةُ فِي الْحَوْلِ الْأَوَّلِ مِنْ النِّصَابِ بِقَدْرِهِ، فَإِنْ كَانَ نِصَابًا لَا زِيَادَةَ عَلَيْهِ، فَلَا زَكَاةَ فِيهِ، فِيمَا بَعْدَ الْحَوْلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ النِّصَابَ نَقَصَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ نِصَابٍ عَزَلَ قَدْرَ فَرْضِ الْحَوْلِ الْأَوَّلِ، وَعَلَيْهِ زَكَاةُ مَا بَقِيَ.
وَهَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ، فِي رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ. وَقَالَ، فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَكَمِ: إذَا كَانَتْ الْغَنَمُ أَرْبَعِينَ، فَلَمْ يَأْتِهِ الْمُصَدِّقُ عَامَيْنِ، فَإِذَا أَخَذَ الْمُصَدِّقُ شَاةً، فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْبَاقِي، وَفِيهِ خِلَافٌ. وَقَالَ، فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ: إذَا كَانَ عِنْدَ الرَّجُلِ مِائَتَا دِرْهَمٍ، فَلَمْ يُزَكِّهَا حَتَّى حَالَ عَلَيْهَا حَوْلٌ آخَرُ، يُزَكِّيهَا لِلْعَامِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ تَصِيرُ مِائَتَيْنِ غَيْرَ خَمْسَةِ دَرَاهِمَ. وَقَالَ، فِي رَجُلٍ لَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ، فَلَمْ يُزَكِّهَا سِنِينَ: يُزَكِّي فِي أَوَّلِ سَنَةٍ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ، ثُمَّ فِي كُلِّ سَنَةٍ بِحِسَابِ مَا بَقِيَ.
وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي عُبَيْدٍ. فَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ أَرْبَعُونَ مِنْ الْغَنَمِ نُتِجَتْ سَخْلَةً فِي كُلّ حَوْلٍ، وَجَبَ عَلَيْهِ فِي كُلّ سَنَةٍ شَاةٌ؛ لِأَنَّ النِّصَابَ كَمَلَ بِالسَّخْلَةِ الْحَادِثَةِ، فَإِنْ كَانَ نَتَاجُ السَّخْلَةِ بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ بِمُدَّةٍ، اُسْتُؤْنِفَ الْحَوْلُ الثَّانِي مِنْ حِينِ نُتِجَتْ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ كَمَلَ.

[فَصْلُ مَلَكَ خَمْسًا مِنْ الْإِبِلِ فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهَا أَحْوَالًا]
فَصْلٌ: فَإِنْ مَلَكَ خَمْسًا مِنْ الْإِبِلِ، فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهَا أَحْوَالًا، فَعَلَيْهِ فِي كُلِّ سَنَةٍ شَاةٌ. نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ. قَالَ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ: الْمَالُ غَيْرُ الْإِبِلِ إذَا أُدِّيَ مِنْ الْإِبِلِ، لَمْ يَنْقُصْ، وَالْخَمْسُ بِحَالِهَا، وَكَذَلِكَ مَا دُونَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ مِنْ الْإِبِلِ، لَا تَنْقُصُ زَكَاتُهَا فِيمَا بَعْدَ الْحَوْلِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ يَجِبُ مِنْ غَيْرِهَا، فَلَا يُمْكِنُ تَعَلُّقُهُ بِالْعَيْنِ. وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا، أَنَّ زَكَاتَهَا تَنْقُصُ، كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ، فَإِذَا كَانَ عِنْدَهُ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ، فَمَضَى عَلَيْهَا أَحْوَالٌ، لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ فِيهَا إلَّا شَاةٌ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّهَا نَقَصَتْ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهَا فِي الْحَوْلِ الْأَوَّلِ عَنْ خَمْسٍ كَامِلَةٍ، فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ فِيهَا شَيْءٌ، كَمَا لَوْ مَلَكَ أَرْبَعًا وَجُزْءًا مِنْ بَعِيرٍ.
وَلَنَا، أَنَّ الْوَاجِبَ مِنْ غَيْرِ النِّصَابِ، فَلَمْ يَنْقُصْ بِهِ النِّصَابُ، كَمَا لَوْ أَدَّاهُ، وَفَارَقَ سَائِرَ الْمَالِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ يَتَعَلَّقُ وُجُوبُهَا بِعَيْنِهِ، فَيَنْقُصُهُ، كَمَا لَوْ أَدَّاهُ مِنْ النِّصَابِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ مَلَكَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ، فَحَالَتْ

(2/507)


عَلَيْهَا أَحْوَالٌ، فَعَلَيْهِ فِي الْحَوْلِ الْأَوَّلِ بِنْتُ مَخَاضٍ، وَعَلَيْهِ لِكُلِّ حَوْلٍ بَعْدَهُ أَرْبَعُ شِيَاهٍ. وَإِنْ بَلَغَتْ قِيمَةُ الشَّاةِ الْوَاجِبَةِ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ بِنْتُ مَخَاضٍ، فَالْوَاجِبُ فِيهَا مِنْ غَيْرِ عَيْنِهَا، فَيَجِبُ أَنْ لَا تَنْقُصَ زَكَاتُهَا أَيْضًا فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا. قُلْنَا: إذَا أَدَّى عَنْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ أَكْبَرَ مِنْ بِنْتِ مَخَاضٍ، جَازَ فَقَدْ أَمْكَنَ تَعَلُّقُ الزَّكَاةِ بِعَيْنِهَا، لِإِمْكَانِ الْأَدَاءِ مِنْهَا، بِخِلَافِ عِشْرِينَ مِنْ الْإِبِلِ، فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ وَاحِدَةٌ مِنْهَا، فَافْتَرَقَا.

[فَصْلُ الزَّكَاةَ تَجِبُ بِحُلُولِ الْحَوْلِ سَوَاءٌ تَمَكَّنَ مِنْ الْأَدَاءِ أَوْ لَمْ يَتَمَكَّنْ]
(1813) فَصْلٌ: الْحُكْمُ الثَّانِي، أَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ بِحُلُولِ الْحَوْلِ، سَوَاءٌ تَمَكَّنَ مِنْ الْأَدَاءِ أَوْ لَمْ يَتَمَكَّنْ. وَبِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ فِي الْآخَرِ: التَّمَكُّنُ مِنْ الْأَدَاءِ شَرْطٌ، فَيُشْتَرَطُ لِلْوُجُوبِ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: الْحَوْلُ، وَالنِّصَابُ، وَالتَّمَكُّنُ مِنْ الْأَدَاءِ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ.
حَتَّى لَوْ أَتْلَفَ الْمَاشِيَةَ بَعْدَ الْحَوْلِ قَبْلَ إمْكَانِ الْأَدَاءِ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ، إذَا لَمْ يَقْصِدْ الْفِرَارَ مِنْ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ، فَيُشْتَرَطُ لِوُجُوبِهَا إمْكَانُ أَدَائِهَا كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ. وَلَنَا، قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ» . فَمَفْهُومُهُ، وُجُوبُهَا عَلَيْهِ إذَا حَالَ الْحَوْلُ، وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ الْأَدَاءِ حَتَّى حَالَ عَلَيْهِ حَوْلَانِ، وَجَبَتْ عَلَيْهِ زَكَاةُ الْحَوْلَيْنِ، وَلَا يَجُوزُ وُجُوبُ فَرْضَيْنِ فِي نِصَابٍ وَاحِدٍ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ، وَقِيَاسُهُمْ يَنْقَلِبُ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّنَا نَقُولُ: هَذِهِ عِبَادَةٌ، فَلَا يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِهَا إمْكَانُ أَدَائِهَا، كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ، فَإِنَّ الصَّوْمَ يَجِبُ عَلَى الْحَائِضِ وَالْمَرِيضِ الْعَاجِزِ عَنْ أَدَائِهِ، وَالصَّلَاةُ تَجِبُ عَلَى الْمُغْمَى عَلَيْهِ وَالنَّائِمِ، وَمَنْ أَدْرَكَ مِنْ أَوَّلِ الْوَقْتِ جُزْءًا ثُمَّ جُنَّ أَوْ حَاضَتْ الْمَرْأَةُ، وَالْحَجُّ يَجِبُ عَلَى مِنْ أَيْسَرَ فِي وَقْتٍ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْحَجِّ فِيهِ، أَوْ مَنَعَهُ مِنْ الْمُضِيِّ مَانِعٌ.
ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا، أَنَّ تِلْكَ عِبَادَاتٌ بَدَنِيَّةٌ، يُكَلَّفُ فِعْلَهَا بِبَدَنِهِ، فَأَسْقَطَهَا تَعَذُّرُ فِعْلِهَا، وَهَذِهِ عِبَادَةٌ مَالِيَّةٌ، يُمْكِنُ ثُبُوتُ الشَّرِكَةِ لِلْمَسَاكِينِ فِي مَالِهِ وَالْوُجُوبُ فِي ذِمَّتِهِ مَعَ عَجْزِهِ عَنْ الْأَدَاءِ، كَثُبُوتِ الدُّيُونِ فِي ذِمَّةِ الْمُفْلِسِ وَتَعَلُّقِهَا بِمَالِهِ بِجِنَايَتِهِ.

[فَصْلُ الزَّكَاةَ لَا تَسْقُطُ بِتَلَفِ الْمَالِ فَرَّطَ أَوْ لَمْ يُفَرِّطْ]
(1814) فَصْلٌ: الثَّالِثُ، أَنَّ الزَّكَاةَ لَا تَسْقُطُ بِتَلَفِ الْمَالِ، فَرَّطَ أَوْ لَمْ يُفَرِّطْ. هَذَا الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ، وَحَكَى عَنْهُ الْمَيْمُونِيُّ أَنَّهُ إذَا تَلِفَ النِّصَابُ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْأَدَاءِ، سَقَطَتْ الزَّكَاةُ عَنْهُ، وَإِنْ تَلِفَ بَعْدَهُ، لَمْ تَسْقُطْ. وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ مَذْهَبًا لِأَحْمَدَ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحِ، وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَابْنِ الْمُنْذِرِ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، إلَّا فِي الْمَاشِيَةِ، فَإِنَّهُ قَالَ: لَا شَيْءَ فِيهَا حَتَّى يَجِيءَ الْمُصَدِّقُ، فَإِنْ هَلَكَتْ قَبْلَ مَجِيئِهِ

(2/508)


فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَسْقُطُ الزَّكَاةُ بِتَلَفِ النِّصَابِ عَلَى كُلِّ حَالٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ قَدْ طَالَبَهُ بِهَا فَمَنَعَهَا؛ لِأَنَّهُ تَلَفٌ قَبْلَ مَحَلِّ الِاسْتِحْقَاقِ، فَسَقَطَتْ الزَّكَاةُ، كَمَا لَوْ تَلْفِت الثَّمَرَةُ قَبْلَ الْجِذَاذِ، وَلِأَنَّهُ حَقٌّ يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ، فَسَقَطَ بِتَلَفِهَا، كَأَرْشِ الْجِنَايَةِ فِي الْعَبْدِ الْجَانِي. وَمَنْ اشْتَرَطَ التَّمَكُّنَ قَالَ: هَذِهِ عِبَادَةٌ يَتَعَلَّقُ وُجُوبُهَا بِالْمَالِ، فَيَسْقُطُ فَرْضُهَا بِتَلَفِهِ قَبْلَ إمْكَانِ أَدَائِهَا، كَالْحَجِّ.
وَمَنْ نَصَرَ الْأَوَّلَ قَالَ: مَالٌ وَجَبَ فِي الذِّمَّةِ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِتَلَفِ النِّصَابِ، كَالدَّيْنِ، أَوْ لَمْ يُشْتَرَطْ فِي ضَمَانِهِ إمْكَانُ الْأَدَاءِ، كَثَمَنِ الْمَبِيعِ، وَالثَّمَرَةُ لَا تَجِبُ زَكَاتُهَا فِي الذِّمَّةِ حَتَّى تُحْرَزَ؛ لِأَنَّهَا فِي حُكْمِ غَيْرِ الْمَقْبُوضِ، وَلِهَذَا لَوْ تَلِفَتْ بِجَائِحَةٍ كَانَتْ فِي ضَمَانِ الْبَائِعِ، عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْخَبَرُ. وَإِذَا قُلْنَا بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْعَيْنِ، فَلَيْسَ هُوَ بِمَعْنَى اسْتِحْقَاقِ جُزْءٍ مِنْهُ، وَلِهَذَا لَا يُمْنَعُ التَّصَرُّفُ فِيهِ، وَالْحَجُّ لَا يَجِبُ حَتَّى يَتَمَكَّنَ مِنْ الْأَدَاءِ، فَإِذَا وَجَبَ لَمْ يَسْقُطْ بِتَلَفِ الْمَالِ، بِخِلَافِ الزَّكَاةِ، فَإِنَّ التَّمَكُّنَ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِهَا، عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ.
وَالصَّحِيحُ، إنْ شَاءَ اللَّهُ، أَنَّ الزَّكَاةَ تَسْقُطُ بِتَلَفِ الْمَالِ، إذَا لَمْ يُفَرِّطْ فِي الْأَدَاءِ؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ عَلَى سَبِيلِ الْمُوَاسَاةِ، فَلَا تَجِبُ عَلَى وَجْهٍ يَجِبُ أَدَاؤُهَا مَعَ عَدَمِ الْمَالِ وَفَقْرِ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ، وَمَعْنَى التَّفْرِيطِ، أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْ إخْرَاجِهَا فَلَا يُخْرِجُهَا، وَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ إخْرَاجِهَا، فَلَيْسَ بِمُفْرِطٍ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ لِعَدَمِ الْمُسْتَحِقِّ، أَوْ لِبُعْدِ الْمَالِ عَنْهُ، أَوْ لِكَوْنِ الْفَرْضِ لَا يُوجَدُ فِي الْمَالِ، وَيَحْتَاجُ إلَى شِرَائِهِ، فَلَمْ يَجِدْ مَا يَشْتَرِيه، أَوْ كَانَ فِي طَلَبِ الشِّرَاءِ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. وَإِنْ قُلْنَا بِوُجُوبِهَا بَعْدَ تَلَفِ الْمَالِ، فَأَمْكَنَ الْمَالِكَ أَدَاؤُهَا أَدَّاهَا، وَإِلَّا أُنْظِرَ بِهَا إلَى مَيْسَرَتِهِ، وَتَمَكُّنِهِ مِنْ أَدَائِهَا مِنْ غَيْرِ مَضَرَّةٍ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَزِمَ إنْظَارُهُ بِدَيْنِ الْآدَمِيِّ الْمُتَعَيِّنِ فَبِالزَّكَاةِ الَّتِي هِيَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى أَوْلَى.

[فَصْلُ لَا تَسْقُطُ الزَّكَاةُ بِمَوْتِ رَبِّ الْمَالِ]
(1815) فَصْلٌ: وَلَا تَسْقُطُ الزَّكَاةُ بِمَوْتِ رَبِّ الْمَالِ، وَتُخْرَجُ مِنْ مَالِهِ، وَإِنْ لَمْ يُوصِ بِهَا. هَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ، وَالْحَسَنِ، وَالزُّهْرِيِّ، وَقَتَادَةَ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَاللَّيْثُ، تُؤْخَذُ مِنْ الثُّلُثِ، مُقَدَّمَةً عَلَى الْوَصَايَا، وَلَا يُجَاوِزُ الثُّلُثَ. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَدَاوُد بْنُ أَبِي هِنْدٍ، وَحُمَيْدٌ الطَّوِيلُ، وَالْمُثَنَّى، وَالثَّوْرِيُّ: لَا تُخْرَجُ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَوْصَى بِهَا.
وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَجَعَلُوهَا إذَا أَوْصَى بِهَا وَصِيَّةً تُخْرَجُ مِنْ الثُّلُثِ، وَيُزَاحَمُ بِهَا أَصْحَابُ الْوَصَايَا، وَإِذَا لَمْ يُوصِ بِهَا سَقَطَتْ؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ مِنْ شَرْطِهَا النِّيَّةُ، فَسَقَطَتْ بِمَوْتِ مَنْ هِيَ عَلَيْهِ، كَالصَّوْمِ. وَلَنَا، أَنَّهَا حَقٌّ وَاجِبٌ تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِهِ، فَلَمْ تَسْقُطْ بِالْمَوْتِ، كَدَيْنِ الْآدَمِيِّ، وَلِأَنَّهَا حَقٌّ مَالِيٌّ وَاجِبٌ فَلَمْ يَسْقُطْ بِمَوْتِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ، كَالدَّيْنِ، وَيُفَارِقُ الصَّوْمَ وَالصَّلَاةَ، فَإِنَّهُمَا عِبَادَتَانِ بَدَنِيَّتَانِ لَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِهِمَا، وَلَا النِّيَابَةُ فِيهِمَا. اهـ.

(2/509)


[فَصْلُ وُجُوب الزَّكَاةُ عَلَى الْفَوْر]
(1816) فَصْلٌ: وَتَجِبُ الزَّكَاةُ عَلَى الْفَوْرِ، فَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ إخْرَاجِهَا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَالتَّمَكُّنِ مِنْهُ، إذَا لَمْ يَخْشَ ضَرَرًا. وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَهُ التَّأْخِيرُ مَا لَمْ يُطَالَبْ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِأَدَائِهَا مُطْلَقٌ، فَلَا يَتَعَيَّنْ الزَّمَنُ الْأَوَّلُ لِأَدَائِهَا دُونَ غَيْرِهِ، كَمَا لَا يَتَعَيَّنُ لِذَلِكَ مَكَانٌ دُونَ مَكَان.
وَلَنَا، أَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ يَقْتَضِي الْفَوْرَ، عَلَى مَا يُذْكَرُ فِي مَوْضِعِهِ، وَلِذَلِكَ يَسْتَحِقُّ الْمُؤَخِّرُ لِلِامْتِثَالِ الْعِقَابَ، وَلِذَلِكَ أَخْرَجَ اللَّهُ تَعَالَى إبْلِيسَ، وَسَخِطَ عَلَيْهِ وَوَبَّخَهُ، بِامْتِنَاعِهِ عَنْ السُّجُودِ، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَمَرَ عَبْدَهُ أَنْ يَسْقِيَهُ، فَأَخَّرَ ذَلِكَ، اسْتَحَقَّ الْعُقُوبَةَ، وَلِأَنَّ جَوَازَ التَّأْخِيرِ يُنَافِي الْوُجُوبَ، لِكَوْنِ الْوَاجِبِ مَا يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ، وَلَوْ جَازَ التَّأْخِيرُ، لَجَازَ إلَى غَيْرِ غَايَةٍ، فَتَنْبَغِي الْعُقُوبَةُ بِالتَّرْكِ، وَلَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ مُطْلَقَ الْأَمْرِ لَا يَقْتَضِي الْفَوْرَ، لَاقْتَضَاهُ فِي مَسْأَلَتِنَا، إذْ لَوْ جَازَ التَّأْخِيرُ هَاهُنَا لَأَخَّرَهُ بِمُقْتَضَى طَبْعِهِ، ثِقَةً مِنْهُ بِأَنَّهُ لَا يَأْثَمُ بِالتَّأْخِيرِ، فَيَسْقُطُ عَنْهُ بِالْمَوْتِ، أَوْ بِتَلَفِ مَالِهِ، أَوْ بِعَجْزِهِ عَنْ الْأَدَاءِ، فَيَتَضَرَّرَ الْفُقَرَاءُ.
وَلِأَنَّ هَاهُنَا قَرِينَةً تَقْتَضِي الْفَوْرَ، وَهُوَ أَنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ
لِحَاجَةِ
الْفُقَرَاءِ، وَهِيَ نَاجِزَةٌ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْوُجُوبُ، نَاجِزًا وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَتَكَرَّرُ، فَلَمْ يَجُزْ تَأْخِيرُهَا إلَى وَقْتِ وُجُوبِ مِثْلِهَا، كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ. قَالَ الْأَثْرَمُ: سَمِعْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ سُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يَحُولُ الْحَوْلُ عَلَى مَالِهِ، فَيُؤَخِّرُ عَنْ وَقْتِ الزَّكَاةِ؟ فَقَالَ: لَا، وَلَمْ يُؤَخِّرُ إخْرَاجَهَا؟ وَشَدَّدَ فِي ذَلِكَ. قِيلَ: فَابْتَدَأَ فِي إخْرَاجِهَا، فَجَعَلَ يُخْرِجُ أَوَّلًا فَأَوَّلًا.
فَقَالَ: لَا، بَلْ يُخْرِجُهَا كُلَّهَا إذَا حَالَ الْحَوْلُ. فَأَمَّا إذَا كَانَتْ عَلَيْهِ مَضَرَّةٌ فِي تَعْجِيلِ الْإِخْرَاجِ، مِثْلُ مَنْ يَحُولُ حَوْلُهُ قَبْلَ مَجِيءِ السَّاعِي، وَيَخْشَى إنْ أَخْرَجَهَا بِنَفْسِهِ أَخَذَهَا السَّاعِي مِنْهُ مَرَّةً أُخْرَى، فَلَهُ تَأْخِيرُهَا. نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ. وَكَذَلِكَ إنْ خَشِيَ فِي إخْرَاجِهَا ضَرَرًا فِي نَفْسِهِ أَوْ مَالٍ لَهُ سِوَاهَا، فَلَهُ تَأْخِيرُهَا؛؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» وَلِأَنَّهُ إذَا جَازَ تَأْخِيرُ قَضَاءِ دَيْنِ الْآدَمِيِّ لِذَلِكَ، فَتَأْخِيرُ الزَّكَاةِ أَوْلَى.

[فَصْلُ أَخَّرَ الزَّكَاة لِيَدْفَعهَا إلَى مَنْ هُوَ أَحَقُّ بِهَا]
(1817) فَصْلٌ: فَإِنْ أَخَّرَهَا لِيَدْفَعَهَا إلَى مَنْ هُوَ أَحَقُّ بِهَا، مِنْ ذِي قَرَابَةٍ، أَوْ ذِي حَاجَةٍ شَدِيدَةٍ، فَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا، فَلَا بَأْسَ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا، لَمْ يَجُزْ. قَالَ أَحْمَدُ: لَا يُجْزِئُ عَلَى أَقَارِبِهِ مِنْ الزَّكَاةِ فِي كُلِّ شَهْرٍ. يَعْنِي لَا يُؤَخِّرُ إخْرَاجَهَا حَتَّى يَدْفَعَهَا إلَيْهِمْ مُتَفَرِّقَةً، فِي كُلِّ شَهْرٍ شَيْئًا، فَأَمَّا إنْ عَجَّلَهَا فَدَفَعَهَا إلَيْهِمْ، أَوْ إلَى غَيْرِهِمْ مُتَفَرِّقَةً أَوْ مَجْمُوعَةً، جَازَ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤَخِّرْهَا عَنْ وَقْتِهَا، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ عِنْدَهُ مَالَانِ، أَوْ أَمْوَالٌ، زَكَاتُهَا وَاحِدَةٌ، وَتَخْتَلِفُ أَحْوَالُهَا، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ نِصَابٌ، وَقَدْ اسْتَفَادَ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْلِ مِنْ جِنْسِهِ دُونَ النِّصَابِ، لَمْ يَجُزْ تَأْخِيرُ الزَّكَاةِ لِيَجْمَعَهَا كُلَّهَا؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ جَمْعُهَا بِتَعْجِيلِهَا فِي أَوَّلِ وَاجِبٍ مِنْهَا.

(2/510)


[فَصْلُ أَخَّرَ الزَّكَاةَ فَلَمْ يَدْفَعْهَا إلَى الْفَقِيرِ حَتَّى ضَاعَتْ]
(1818) فَصْلٌ: فَإِنْ أَخَّرَ الزَّكَاةَ، فَلَمْ يَدْفَعْهَا إلَى الْفَقِيرِ حَتَّى ضَاعَتْ، لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ. كَذَلِكَ قَالَ الزُّهْرِيُّ، وَالْحَكَمُ، وَحَمَّادٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ. وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، إلَّا أَنَّهُ قَالَ: إنْ لَمْ يَكُنْ فَرَّطَ فِي إخْرَاجِ الزَّكَاةِ، وَفِي حِفْظِ ذَلِكَ الْمُخْرَجِ، رُجِعَ إلَى مَالِهِ، فَإِنْ كَانَ فِيمَا بَقِيَ زَكَاةٌ أَخْرَجَهَا، وَإِلَّا فَلَا. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: يُزَكِّي مَا بَقِيَ، إلَّا أَنْ يَنْقُصَ عَنْ النِّصَابِ فَتَسْقُطَ الزَّكَاةُ، فَرَّطَ أَوْ لَمْ يُفَرِّطْ. وَقَالَ مَالِكٌ: أَرَاهَا تُجْزِئُهُ إذَا أَخْرَجَهَا فِي مَحَلِّهَا، وَإِنْ أَخْرَجَهَا بَعْدَ ذَلِكَ ضَمِنَهَا.
وَقَالَ مَالِكٌ: يُزَكِّي مَا بَقِيَ بِقِسْطِهِ، وَإِنْ بَقِيَ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ. وَلَنَا، أَنَّهُ حَقٌّ مُتَعَيِّنٌ عَلَى رَبِّ الْمَالِ، تَلِفَ قَبْلَ وُصُولِهِ إلَى مُسْتَحِقِّهِ، فَلَمْ يَبْرَأْ مِنْهُ بِذَلِكَ، كَدَيْنِ الْآدَمِيِّ. قَالَ أَحْمَدُ: وَلَوْ دَفَعَ إلَى أَحَدٍ زَكَاتَهُ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ، فَقَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهَا مِنْهُ، قَالَ: اشْتَرِ لِي بِهَا ثَوْبًا أَوْ طَعَامًا. فَذَهَبَتْ الدَّرَاهِمُ، أَوْ اشْتَرَى بِهَا مَا قَالَ فَضَاعَ مِنْهُ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَ مَكَانَهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْبِضْهَا مِنْهُ، وَلَوْ قَبَضَهَا مِنْهُ ثُمَّ رَدَّهَا إلَيْهِ، وَقَالَ: اشْتَرِ لِي بِهَا. فَضَاعَتْ، أَوْ ضَاعَ مَا اشْتَرَى بِهَا، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَكُنْ فَرَّطَ.
وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّ الزَّكَاةَ لَا يَمْلِكُهَا الْفَقِيرُ إلَّا بِقَبْضِهَا، فَإِذَا وَكَّلَهُ فِي الشِّرَاءِ بِهَا كَانَ التَّوْكِيلُ فَاسِدًا، لِأَنَّهُ وَكَّلَهُ فِي الشِّرَاءِ بِمَا لَيْسَ لَهُ، وَبَقِيَتْ عَلَى مِلْكِ رَبِّ الْمَالِ، فَإِذَا تَلِفَتْ كَانَتْ فِي ضَمَانِهِ.

[فَصْلُ عَزَلَ قَدْرَ الزَّكَاةِ فَنَوَى أَنَّهُ زَكَاةٌ فَتَلِفَ]
فَصْلٌ: وَلَوْ عَزَلَ قَدْرَ الزَّكَاةِ، فَنَوَى أَنَّهُ زَكَاةٌ، فَتَلِفَ، فَهُوَ فِي ضَمَانِ رَبِّ الْمَالِ، وَلَا تَسْقُطُ الزَّكَاةُ عَنْهُ بِذَلِكَ، سَوَاءٌ قَدَرَ عَلَى أَنْ يَدْفَعَهَا إلَيْهِ أَوْ لَمْ يَقْدِرْ، وَالْحُكْمُ فِيهِ كَالْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا. اهـ.

[مَسْأَلَةُ رَهَنَ مَاشِيَةً فَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ]
(1820) مَسْأَلَةٌ: قَالَ: (وَمَنْ رَهَنَ مَاشِيَةً، فَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ، أَدَّى مِنْهَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَا يُؤَدِّي عَنْهَا، وَالْبَاقِي رَهْنٌ) وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا رَهَنَ مَاشِيَةً، فَحَالَ الْحَوْلُ وَهِيَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ، وَجَبَتْ زَكَاتُهَا عَلَى الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ فِيهَا تَامٌّ، فَإِنْ أَمْكَنَهُ أَدَاؤُهَا مِنْ غَيْرِهَا، وَجَبَتْ؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ مِنْ مُؤْنَةِ الرَّهْنِ، وَمُؤْنَةُ الرَّهْنِ تَلْزَمُ الرَّاهِنَ، كَنَفَقَةِ النِّصَابِ، وَلَا يُخْرِجُهَا مِنْ النِّصَابِ، لِأَنَّ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ مُتَعَلِّقٌ بِهِ تَعَلُّقًا يَمْنَعُ تَصَرُّفَ الرَّاهِنِ فِيهِ، وَالزَّكَاةُ لَا يَتَعَيَّنُ إخْرَاجُهَا مِنْهُ، فَلَمْ يَمْلِكْ إخْرَاجَهَا مِنْهُ كَزَكَاةِ مَالٍ سِوَاهُ.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَا يُؤَدِّي مِنْهُ سِوَى هَذَا الرَّهْنِ، فَلَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَالٌ يُمْكِنُ قَضَاءُ الدَّيْنِ مِنْهُ، وَيَبْقَى بَعْدَ قَضَائِهِ نِصَابٌ كَامِلٌ، مِثْلُ أَنْ تَكُونَ الْمَاشِيَةُ زَائِدَةً عَلَى النِّصَابِ قَدْرًا يُمْكِنُ قَضَاءُ الدَّيْنِ مِنْهُ، وَيَبْقَى النِّصَابُ، فَإِنَّهُ يُخْرِجُ الزَّكَاةَ مِنْ الْمَاشِيَةِ، وَيُقَدِّمُ حَقَّ الزَّكَاةِ عَلَى حَقِّ الْمُرْتَهِنِ، لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ يَرْجِعُ إلَى بَدَلٍ، وَهُوَ

(2/511)


اسْتِيفَاءُ الدَّيْنِ، وَحُقُوقُ الْفُقَرَاءِ فِي الزَّكَاةِ لَا بَدَلَ لَهَا. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ يَقْضِي بِهِ الدَّيْنَ، وَيَبْقَى بَعْدَ قَضَائِهِ نِصَابٌ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا، تَجِبُ الزَّكَاةُ أَيْضًا. وَلَا يَمْنَعُ الدَّيْنُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ، وَهِيَ الْمَوَاشِي وَالْحُبُوبُ.
قَالَهُ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ. قَالَ: لِأَنَّ الْمُصَدِّقَ لَوْ جَاءَ فَوَجَدَ إبِلًا وَغَنَمًا، لَمْ يَسْأَلْ صَاحِبَهَا أَيَّ شَيْءٍ عَلَيْك مِنْ الدَّيْنِ، وَلَكِنَّهُ يُزَكِّيهَا، وَالْمَالُ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ كَلَامَهُ عَامٌّ فِي كُلِّ مَاشِيَةٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ آكَدُ؛ لِظُهُورِهَا، وَتَعَلُّقِ قُلُوبِ الْفُقَرَاءِ بِهَا، لِرُؤْيَتِهِمْ. إيَّاهَا، وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى حِفْظِهَا أَشَدُّ، وَلِأَنَّ السَّاعِيَ يَتَوَلَّى أَخْذَ الزَّكَاةِ مِنْهَا وَلَا يَسْأَلُ عَنْ دَيْنِ صَاحِبِهَا. وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ؛ لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهَا. وَيَمْنَعُ الدَّيْنُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي الْأَمْوَالِ كُلِّهَا مِنْ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ.
قَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى: الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ الدَّيْنَ يَمْنَعُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ عَلَى كُلِّ حَالٍ. وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمَكْحُولٍ، وَالثَّوْرِيِّ. وَحَكَى ذَلِكَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُمْ فِي الزَّرْعِ إذَا اسْتَدَانَ عَلَيْهِ صَاحِبِهِ؛ لِأَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيْ الزَّكَاةِ، فَيَمْنَعُ الدَّيْنُ وُجُوبَهَا، كَالنَّوْعِ الْآخَرِ، وَلِأَنَّ الْمَدِينَ مُحْتَاجٌ، وَالصَّدَقَةُ إنَّمَا تَجِبُ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ، بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أُمِرْت أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ، فَأَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِهِمْ» . «وَقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: لَا صَدَقَةَ إلَّا عَنْ ظَهْرِ غِنًى» .
وَرَوَى أَبُو عُبَيْدٍ، فِي كِتَابِ " الْأَمْوَالِ "، عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: سَمِعْت عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ يَقُولُ: هَذَا شَهْرُ زَكَاتِكُمْ فَمَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلْيُؤَدِّهِ، حَتَّى تُخْرِجُوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ زَكَاةٌ لَمْ تُطْلَبْ مِنْهُ، حَتَّى يَأْتِيَ تَطَوُّعًا. قَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: أَرَاهُ يَعْنِي شَهْرَ رَمَضَانَ.

[فَصْلُ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَأَقَامَ بِهَا سِنِينَ لَمْ يُؤَدِّ زَكَاةً]
(1821) فَصْلٌ: وَلَوْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَأَقَامَ بِهَا سِنِينَ لَمْ يُؤَدِّ زَكَاةً، أَوْ غَلَبَ الْخَوَارِجُ عَلَى بَلْدَةٍ، فَأَقَامَ أَهْلُهُ سِنِينَ لَا يُؤَدُّونَ الزَّكَاةَ، ثُمَّ غَلَبَ عَلَيْهِمْ الْإِمَامُ، أَدَّوْا الْمَاضِيَ، وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَا زَكَاةَ عَلَيْهِمْ لِمَا مَضَى فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ.
وَلَنَا، أَنَّ الزَّكَاةَ مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ، فَلَمْ تَسْقُطْ عَمَّنْ هُوَ فِي غَيْرِ قَبْضَةِ الْإِمَامِ، كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ.

[فَصْلُ إذَا تَوَلَّى الرَّجُلُ إخْرَاجَ زَكَاتِهِ فَلِيَبْدَأْ بِالْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ]
(1822) فَصْلٌ: إذَا تَوَلَّى الرَّجُلُ إخْرَاجَ زَكَاتِهِ، فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَبْدَأَ بِأَقَارِبِهِ الَّذِينَ يَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَيْهِمْ؛ «فَإِنَّ زَيْنَبَ سَأَلَتْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَيُجْزِئُ عَنِّي مِنْ الصَّدَقَةِ النَّفَقَةُ عَلَى زَوْجِي؟ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَهَا

(2/512)


أَجْرَانِ: أَجْرُ الصَّدَقَةِ، وَأَجْرُ الْقَرَابَةِ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. وَفِي لَفْظٍ: أَيَسَعُنِي أَنْ أَضَعَ صَدَقَتِي فِي زَوْجِي وَبَنِي أَخٍ لِي أَيْتَامٍ؟ فَقَالَ " نَعَمْ، لَهَا أَجْرَانِ: أَجْرُ الصَّدَقَةِ وَأَجْرُ الْقَرَابَةِ ". رَوَاهُ النَّسَائِيّ. «وَلَمَّا تَصَدَّقَ أَبُو طَلْحَةَ بِحَائِطِهِ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اجْعَلْهُ فِي قَرَابَتِك» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَبْدَأَ بِالْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ مَنْ هُوَ أَشَدُّ حَاجَةً فَيُقَدِّمَهُ، وَلَوْ كَانَ غَيْرُ الْقَرَابَةِ أَحْوَجَ أَعْطَاهُ.
قَالَ أَحْمَدُ: إنْ كَانَتْ الْقَرَابَةُ مُحْتَاجَةً أَعْطَاهَا، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُمْ أَحْوَجَ أَعْطَاهُمْ، وَيُعْطِي الْجِيرَانَ. وَقَالَ: إنْ كَانَ قَدْ عَوَّدَ قَوْمًا بِرًّا فَيَجْعَلُهُ فِي مَالِهِ، وَلَا يَجْعَلُهُ مِنْ الزَّكَاةِ، وَلَا يُعْطِي الزَّكَاةِ مَنْ يَمُونُ، وَلَا مَنْ تَجْرِي عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ، وَإِنْ أَعْطَاهُمْ لَمْ يَجُزْ. وَهَذَا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - إذَا عَوَّدَهُمْ بِرًّا مِنْ غَيْرِ الزَّكَاةِ، وَإِذَا أَعْطَى مَنْ تَجْرِي عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ شَيْئًا يَصْرِفُهُ فِي نَفَقَتِهِ، فَأَمَّا إنَّ عَوَّدَهُمْ دَفْعَ زَكَاتِهِ إلَيْهِمْ، أَوْ أَعْطَى مَنْ تَجْرِي عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ تَطَوُّعًا شَيْئًا مِنْ الزَّكَاةِ يَصْرِفُهُ فِي غَيْرِ النَّفَقَة وَحَوَائِجِهِ، فَلَا بَأْسَ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُد: قُلْت لِأَحْمَدَ: يُعْطِي أَخَاهُ وَأُخْتَه مِنْ الزَّكَاةِ؟ قَالَ: نَعَمْ؛ إذَا لَمْ يَقِ بِهِ مَالَهُ، أَوْ يَدْفَعْ بِهِ مَذَمَّةً. قِيلَ لِأَحْمَدَ: فَإِذَا اسْتَوَى فُقَرَاءُ قَرَابَاتِي وَالْمَسَاكِينُ؟ قَالَ: فَهُمْ كَذَلِكَ أَوْلَى، فَأَمَّا إنْ كَانَ غَيْرُهُمْ أَحْوَجَ، فَإِنَّمَا يُرِيدُ يُغْنِيهِمْ وَيَدَعُ غَيْرَهُمْ، فَلَا. قِيلَ لَهُ: فَيُعْطِي امْرَأَةَ ابْنِهِ مِنْ الزَّكَاةِ. قَالَ: إنْ كَانَ لَا يُرِيدُ بِهِ كَذَا - شَيْئًا ذَكَرَهُ - فَلَا بَأْسَ بِهِ.
كَأَنَّهُ أَرَادَ مَنْفَعَةَ ابْنِهِ. قَالَ أَحْمَدُ: كَانَ الْعُلَمَاءُ يَقُولُونَ فِي الزَّكَاةِ: لَا تُدْفَعُ بِهَا مَذَمَّةٌ، وَلَا يُحَابَى بِهَا قَرِيبٌ، وَلَا يُبْقِي بِهَا مَالًا. وَسُئِلَ أَحْمَدُ عَنْ رَجُلٍ لَهُ قَرَابَةٌ يُجْرِي عَلَيْهَا مِنْ الزَّكَاةِ؟ قَالَ: إنْ كَانَ عَدَّهَا مِنْ عِيَالِهِ، فَلَا يُعْطِيهَا. قِيلَ لَهُ: إنَّمَا يُجْرِي عَلَيْهَا شَيْئًا مَعْلُومًا فِي كُلِّ شَهْرٍ، قَالَ: إذَا كَفَاهَا ذَلِكَ. وَفِي الْجُمْلَةِ، مَنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِ، فَلَهُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَيْهِ، وَيُقَدِّمُ الْأَحْوَجَ فَالْأَحْوَجَ، فَإِنْ شَاءُوا قَدَّمَ مَنْ هُوَ أَقْرَبُ إلَيْهِ، ثُمَّ مَنْ كَانَ أَقْرَبَ فِي الْجِوَارِ وَأَكْثَرَ دَيْنًا.
وَكَيْفَ فَرَّقَهَا، بَعْدَ مَا يَضَعُهَا فِي الْأَصْنَافِ الَّذِينَ سَمَّاهُمْ اللَّهُ تَعَالَى، جَازَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

(2/513)