نيل
الأوطار شرح منتقى الأخبار من أحاديث سيد الأخيار ط مكتبة الدعوة
الإسلامية كتاب التفليس
باب ملازمة المليئ وإطلاق المعسر
1 - عن عمرو بن الشريد
عن أبيه عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
قال: "ليّ الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته".
رواه الخمسة إلا الترمذي. قال أحمد قال وكيع
عرضه شكايته وعقوبته حبسه.
الحديث أخرجه أيضا
البيهقي والحاكم وابن حبان وصححه وعلقه
البخاري قال الطبراني
ج / 5 ص -241-
في الأوسط لا يروى عن الشريد إلا بهذا
الإسناد تفرد به ابن أبي دليلة قال في الفتح
وإسناده حسن: قوله: "التفليس" هو مصدر
فلسه أي نسبته إلى الإفلاس والمفلس شرعا من
يزيد دينه على موجوده سمي مفلسا لأنه صار ذا
فلوس بعد أن كان ذا دراهم ودنانير إشارة إلى
أنه صار لا يمكل إلا أدنى الأموال وهي الفلوس
أو سمي بذلك لأنه يمنع التصرف إلآ في الشيء
التافه كالفلوس لأنهم ما كانوا يتعاملون بها
في الأشياء الخطيرة أو أنه صار إلى حالة لا
يملك فيها فلسا فعلى هذا فالهمزة في أفلس
للسلب: قوله: "ليّ الواجد" اللي بالفتح
وتشديد الياء المطل والواجد بالجيم الغني من
الوجد بالضم بمعنى القدرة قوله: "يحل" بضم
أوله أي يجوز وصفه بكونه ظالما. وروى
البخاري والبيهقي عن سفيان مثل التفسير الذي
رواه المصنف عن أحمد عن وكيع. واستدل
بالحديث على جواز حبس من عليه الدين حتى يقضيه
إذا كان قادرا على القضاء تأديبا له وتشديدا
عليه لا إذا لم يكن قادرا لقوله: "الواجد"
فإنه يدل أيضا على أن المعسر لا يحل عرضه ولا
عقوبته وإلى جواز الحبس للواجد ذهبت الحنفية
وزيد بن علي. وقال الجمهور يبيع عليه الحاكم
لما سيأتي من حديث معاذ وأما غير الواجد فقال
الجمهور لا يحبس لكن قال أبو حنيفة يلازمه من
له الدين وقال شريح يحبس والظاهر قول الجمهور
ويؤيده قوله تعالى :
{فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ}
وقد اختلف هل يفسق الماطل أم لا واختلف أيضا
في تقدير ما يفسق به والكلام في ذلك مبسوط في
كتب الفقه.
2 - وعن أبي سعيد قال:
"أصيب رجل على عهد الرسول صلى اللّه عليه
وآله وسلم في ثمار ابتاعها فكثر دينه فقال تصدقوا عليه
فتصدق الناس عليه فلم يبلغ ذلك وفاء دينه فقال
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم
لغرمائه خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك". رواه الجماعة إلا البخاري.
قوله: "في ثمار
ابتاعها" هذا يدل على أن الثمار إذا أصيبت
مضمونة على المشتري وقد تقدم في باب وضع
الحوائج ما يدل على أنه يجب على البائع أن يضع
عن المشتري بقدر ما أصابته الجائحة وقد جمع
بينهما بأن وضع الجوائح محمول على
الاستحباب. وقيل أنه خاص بما بيع من الثمار
قبل بدو صلاحه. وقيل أنه يؤول حديث أبي سعيد
هذا بأن التصدق على الغريم من باب الاستحباب
وكذلك قضاؤه دين غرمائه من باب التعرض لمكارم
الأخلاق وليس التصدق على جهة العزم ولا القضاء
للغرماء على جهة الحتم وهذا هو الظاهر. ويدل
عليه قوله في حديث وضع الجوائح: "لا يحل لك أن تأخذ منه شيئا بم تأخذ مال أخيك" فإنه صريح في وجوب الوضع لا في استحبابه وكذلك قوله في هذا الحديث:
"وليس لكم إلا ذلك" فإنه يدل على أن الدين غير لازم ولو كان لازما لما سقط الدين بمجرد
الإعسار بل كان اللازم الإنظار إلى ميسرة وقد
قدمنا في باب وضع الجوائح عدم صلاحية حديث أبي
سعيد هذا للاستدلال به على عدم وضع الجوائح
ج / 5 ص -242-
لوجهين ذكرناهما هنالك. وقد استدل الحديث
على أن المفلس إذا كان له من المال دون ما
عليه من الدين كان الواجب عليه لغرمائه تسليم
المال ولا يجب عليه لهم شيء غير ذلك وظاهره أن
الزيادة ساقطة عنه ولو أيسر بعد ذلك لم يطالب
بها.
باب من وجد سلعة
باعها من رجل عنده وقد أفلس
1 - عن الحسن عن سمرة عن
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال:
"من وجد متاعه عند مفلس بعينه فهو أحق به". رواه أحمد.
2 - وعن أبي هريرة عن
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال:
"من أدرك ماله بعينه عند رجل أفلس أو إنسان قد أفلس فهو أحق به من
غيره".
رواه الجماعة. وفي لفظ قال في الرجل الذي
يعدم:
"إذا وجد عنده المتاع ولم يفرقه أنه لصاحبه
الذي باعه"
رواه مسلم والنسائي وفي لفظ:
"أيما رجل أفلس فوجد رجل عنده ماله ولم يكن
اقتضى من ماله شيئا فهو له" رواه أحمد.
3 - وعن أبي بكر بن عبد
الرحمن بن الحرث بن هشام أن النبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم قال:
"أيما رجل باع متاعا فأفلس الذي ابتاعه ولم
يقبض الذي باعه ثمنه شيئا فوجد متاعه بعينه
فهو أحق به وإن مات المشتري فصاحب المتاع اسوة
الغرماء".
رواه مالك في الموطأ وأبو داود وهو مرسل.
وقد أسنده أبو داود من وجه ضعيف.
حديث سمرة أخرجه أيضا
أبو داود قال في الفتح وإسناده حسن وهو من
رواية الحسن البصري عنه وفي سماعه منه خلاف
معروف قد قدمنا الكلام فيه ولكنه يشهد لصحته
حديث أبي هريرة المذكور بعده ويشهد لصحته أيضا
ما أخرجه الشافعي وأبو داود وابن ماجه والحاكم
وصححه عن أبي هريرة أنه قال في مفلس أتوه به:
"لاقضين فيكم بقضاء رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم من أفلس أ, مات فوجد الرجل
متاعه بعينه فهو أحق به" وفي إسناده أبو
المعتمر. قال أبو داود الطحاوي وابن المنذر
وهو مجهول ولم يذكر له ابن أبي حاتم إلا راويا
واحدا وذكره ابن حبان في الثقات وهو للدارقطني
والبيهقي من طريق أبي داود الطيالسي عن ابن
أبي ذئب. وحديث أبي بكر بن عبد الرحمن هو
مرسل كما ذكره المصنف لأن أبا بكر تابعي لم
يدرك النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم. ووصله
أبو داود من طريق أخرى فقال عن أبي بكر
المذكور عن أبي هريرة وهي ضعيفة كما قال
المصنف وذلك لأن فيها اسمعيل ابن عياش وهو
ضعيف غذ روى عن غير أهل الشام ولكنه ههنا روى
عن الحرث الزبيدي وهو شامي قال الحافظ وقد
اختلف على اسماعيل فأخرجه ابن
ج / 5 ص -243-
الجارود من وجه عنه عن موسى بن عقبة عن
الزهري موصولا. وقال الشافعي حديث أبي
المعتمر أولى من هذا وهذا منقطع. وقال
البيهقي لا يصح وصله ووصله عبد الرزاق في
مصنفه. وذكر ابن حزم أن عراك بن مالك رواه
أيضا عن أبي هريرة في غرائب مالك. وفي
التمهيد أن بعض أصحاب مالك وصله. قال أبو
داود والمرسل أصح وقد روى الشيخان بلفظ:
"من أدرك ماله بعينه عند رجل قد أفلس أو إنسان قد أفلس فهو أحق من
غيره"
ووصله ابن حبان والدارقطني وغيرهما من طريق
الثوري عن أبي بكر عن أبي هريرة بنحو لفظ
الشيخين: قوله: "بعينه" فيه دليل على أن
شرط الاستحقاق أن يكون المال باقيا بعينه لم
يتغير ولم يتبدل فإن تغيرت العين في ذاتها
بالنقص مثلا أو في صفة من صفاتها فهي أسوة
للغرماء ويؤيد ذلك قوله في الرواية الثانية
ولم يفرقه وذهب الشافعي والهادوية إلى أن
البائع أولى بالعين بعد التغير والنقص:
قوله: "فهو أحق به" أي من غيره كائن من كان
وارثا أو غريما وبهذا قال الجمهور
وخالفت الحنفية في ذلك
فقالوا لا يكون البائع أحق بالعين المبيعة
التي في يد المفلس وتأولوا الحديث بأنه خبر
واحد مخالف للأصول لأن السلعة صارت بالبيع
ملكا للمشتري ومن ضمانه واستحقاق البائع أخذها
منه نقض لملكه وحملوا الحديث على صورة وهي
ماذا كان المتاع وديعة أو عارية أو لقطة.
وتُعُقّب بأنه لو كان
كذلك لم يقيد بالأفلاس ولا جعل أحق بها لما
تقتضيه صيغة أفعل من الأشتراك، وأيضا يَرُدّ
ما ذهبوا إليه قوله في حديث أبي بكر:
"أيما رجل باع متاعا" فإن فيه التصريح بالبيع وهو نص في محل النزاع وقد أخرجه أيضا
سفيان في جامعه وابن حسان وابن خزيمة عن أبي
بكر عن أبي هريرة بلفظ:
"إذا ابتاع رجل سلعة ثم أفلس وهي عنده بعينها" وفي لفظ لابن حبان:
"إذا أفلس الرجل فوجد البائع سلعته"
وفي لفظ لمسلم والنسائي:
"أنه لصاحبه الذي باعه" كما ذكر المصنف وعند عبد الرزاق بلفظ: "من باع سلعة من رجل"
قال الحافظ فظهر بهذا أن الحديث وارد في صورة
البيع ويلتحق به القرض وسائر ما ذكر يعني من
العانية والوديعة بالأولى والأعتذار بأن
الحديث خبر واحد مردود بأنه مشهور من غير وجه
من ذلك ما تقدم عن سمرة وأبي هريرة وأبي بكر
بن عبد الرحمن ومن ذلك ما أخرجه ابن حبان
بإسناد صحيح عن ابن عمر مرفوعا بنحو أحاديث
الباب وقد قضى به عثمان كما رواه البخاري
والبيهقي عنه حتى قال ابن المنذر لا نعرف
لعثمان مخالفا في الصحابة والاعتذار بأنه
مخالف للأصول اعتذار فاسد لما عرفناك من أن
السنة الصحيحة هي من جملة الأصول فلا يترك
العمل بها إلا لما هو أنهض ولم يرد في المقام
ما هو كذلك وعلى تسليم أنه ورد ما يدل على أن
السلعة تصير بالبيع ملكا للمشتري فما ورد في
الباب أخص مطلقا فيبنى العام على الخاص وحمل
بعض الحنفية الحديث على ما إذا أفلس المشتري
قبل أن يقبض السلعة وتعقب بقوله في حديث سمرة
عند مفلس. وبقوله في حديث أبي هريرة عند
رجل. وفي لفظ لابن حبان ثم أفلس وهي عنده
وللبيهقي:
"إذا افلس الرجل وعنده متاع" وقال جماعة إن هذا الحكم أعني كةن البائع أولى بالسلعة التي بقيت
في يد المفلس مختص بالبيع
ج / 5 ص -244-
دون القرض. وذهب الشافعي وآخرون إلى أن
المقرض أولى من غيره واحتج الأولون بالروايات
المتقدمة المصرحة بالبيع قالوا فتحمل الروايات
المطلقة عليها ولكنه لا يخفى أن التصريح
بالبيع لا يصلح لتقييد الروايات المطلقة لأنه
إنما يدل على أن غير البيع بخلافه بمفهوم
اللقب وما كان كذلك لا يصح للتقييد إلا على
قول أبي ثور كما تقرر في الأصول وربما يقال أن
المصرح به هنا هو الوصف فلا يكون من مفهوم
اللقب. قوله: "ولم يكن أقتضي من ماله
شيئا" فيه دليل لما ذهب إليه الجمهور من أن
المشتري إذا كان قد قضى بعض الثمن لم يكن
البائع أولى بما لم يسلم المشتري ثمنه من
المبيع بل يكون أسوة الغرماء.
وقال الشافعي والهادوية
إن البائع أولى به والحديث يرد عليهم: قوله:
"وإن مات المشتري" الخ فيه دليل على أن
المشتري إذا مات والسلعة التي لم يسلم المشتري
ثمنها باقية لا يكون البائع أولى بها بل يكون
اسوة الغرماء وإلى ذلك ذهب مالك وأحمد. وقال
الشافعي البائع أولى بها واحتج بقوله في حديث
أبي هريرة الذي ذكرناه من أفلس أو مات الخ
ورجحه الشافعي على المرسل المذكور في الباب
قال ويحتمل أن يكون آخره من رأي أبي بكر بن
عبد الرحمن لأن الذين وصلوه عنه لم يذكروا
قضية الموت وكذلك الذين رووه عن أبي هريرة
غيره لم يذكروا ذلك بل صرح بعضهم عن أبي هريرة
بالتسوية بين الإفلاس والموت كما ذكرنا قال في
الفتح فتعين المصير إليه لأنها زيادة مقبولة
من ثقة قال وجزم ابن العربي بأن الزيادة التي
في مرسل مالك من قول الراوي وجمع الشافعي أيضا
بين الحديثين بحمل مرسل أبي بكر على ما إذا
مات مليئا وحمل حديث أبي هريرة على ما إذ مات
مفلسا وقد استدل بقوله في حديث أبي هريرة:
"أو مات" على أن صاحب السلعة أولى بها ولو أراد الورثة أن يعطوه ثمنها لم
يكن لهم ذلك ولا يلزمه القبول وبه قال الشافعي
وأحمد. وقال مالك يلزمه القبول وقالت
الهادوية إن الميت إذا خلف الوفاء لم يكن
البائع أولى بالسلعة وهو خلاف الظاهر لأن
الحديث يدل على أن الموت من موجبات استحقاق
البائع للسلعة ويؤيد ذلك عطفه على الإفلاس.
واستدل بأحاديث الباب على حلول الدين المؤجل
بالإفلاس. قال في الفتح من حيث أن صاحب
الدين أدرك متاعه بعينه فيكون أحق به ومن
لوازم ذلك أنها تجوز له المطالبة بالمؤجل وهو
قول الجمهور لكن الراجح عند الشافعية أن
المؤجل لا يحل بذلك لأن الأجل حق مقصود له فلا
يفوت وهو قول الهادوية. واستدل أيضا بأحاديث
الباب على أن لصاحب المتاع أن يأخذه من غير
حكم حاكم قال في الفتح وهو الأصح من قول
العلماء وقيل يتوقف على الحكم.
باب الحجر على
المدين وبيع ماله في قضاء دينه
1 - عن كعب بن مالك:
"أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم حجر على
معاذ ماله وباعه في دين كان عليه".
رواه الدارقطني.
2 - وعن عبد الرحمن بن
كعب قال: "كان معاذ بن جبل شابا
ج / 5 ص -245-
سخيا وكان لا يمسك شيئا فلم يزل يدان حتى
غرق ماله كله في الدين فأتى النبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم فكلمه ليكلم غرماءه فلو تركوا
لأحد لتركوا لمعاذ لأجل رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم فباع رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم لهم ماله حتى قام معاذ بغير
شيء". رواه سعيد في سننه هكذا مرسلا.
حديث كعب أخرجه أيضا
البيهقي والحاكم وصححه ومرسل عبد الرحمن بن
كعب أخرجه أيضا أبو داود وعبد الرزاق قال عبد
الحق المرسل أصح وقال ابن الطلاع في الأحكام
هو حديث ثابت وقد أخرج الحديث الطبراني.
ويشهد له ما عند مسلم وغيره من حديث أبي سعيد
قال: "أصيب رجل على عهد رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم" وقد تقدم. وقد استدل
بحجره صلى اللّه عليه وآله وسلم على معاذ على
أنه يجوز الحجر على كل مديون وعلى أنه يجوز
للحاكم بيع مال المديون لقضاء دينه من غير فرق
بين من كان ماله مستغرقا بالدين ومن لم يكن
ماله كذلك وقد حكى صاحب البحر هذا عن العترة
والشافعي ومالك وأبي يوسف ومحمد وقيدوا الجواز
بطلب أهل الدين للحجر من الحاكم وروى عن
الشافعي أنه يجوز قبل الطلب للمصلحة وحكى في
البحر أيضا عن زيد بن علي والناصر وأبي حنيفة
أنه لا يجوز الحجر على المديون ولا بيع ما له
بل يحبسه الحاكم حتى يقضي واستدل لهم بقوله
صلى اللّه عليه وآله وسلم:
"لا يحل مال امرئ مسلم"
الحديث وهو مخصص بحديث معاذ المذكور. وأما
ما أدعاه إمام الحرمين حاكبا لذلك عن العلماء
وتبعه الغزالي أن حجر معاذ لم يكن من جهة
غستعاء غرمائه بل الأشبه أنه جرى باستدعائه
فقال الحافظ إنه خلاف ما صح من الروايات
المشهورة ففي المراسيل لأبي داود التصريح بأن
الغرماء التمسوا ذلك. قال وأما ما رواه
الدارقطني أن معاذا أتى رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم فكلمه ليكلم غرماءه فلا حجة
فيه أن ذلك لالتماس الحجر وإنما فيه طلب معاذ
الرفق منهم وبهذا تجتمع الروايات انتهى. وقد
روى الحجر على المديون وإعطاء الغرماء ماله من
فعل عمر كما في الموطأ والدارقطني وابن أبي
شيبة والبيهقي وعبد الرزاق ولم ينقل أنه أنكر
ذلك عليه أحد من الصحابة.
باب الحجر على
المبذر
1 - عن عروة بن الزبير قال: "ابتاع عبد اللّه بن
جعفر بيعا فقال علي رضي اللّه عنه لآتين عثمان
فلأحجرن عليك فاعلم ذلك ابن جعفر الزبير فقال
أنا شريكك في بيعتك فأتى عثمان رضي اللّه
عنهما قال تعال احجر على هذا فقال الزبير أنا
شريكه فقال عثمان احجر على رجل شريكه
الزبير". رواه الشافعي في مسنده.
هذه القصة رواها الشافعي
عن محمد بن الحسن عن أبي يوسف القاضي عن هشام
بن هروة عن
ج / 5 ص -246-
أبيه وأخرجها أيضا البيهقي. وقال يقال أن
أبا يوسف تفرد به وليس كذلك ثم أخرجها من طريق
الزهري المدني القاضي عن هشام نحوه. ورواها
أبو عبيد في كتاب الأموال عن عفان بن مسلم عن
حماد بن زيد عن هشام بن حسان عن أبي سيرين قال
قال عثمان لعلي عليه السلام ألا تأخذ على يد
ابن أخيك يعني عبد اللّه بن جعفر وتحجر عليه
اشترى سبخة ـ بفتح السين والمهملة وكسر
الموحدة بعدها معجمة أي ذات سباخة وهي الأرض
التي لا تنبت ـ بستين ألف درهم ما يسرني أنها
لي بنعلي وقد ساق القصة البيهقي فقال اشترى
عبد اللّه بن جعفر أرضا سبخة فبلغ ذلك عليا
عليه السلام فعزم على أن يسأل عثمان الحجر
عليه فجاء عبد اللّه بن جعفر إلى الزبير فذكر
له فقال الزبير أنا شريكك فلما سأل علي عثمان
الحجر على عبد اللّه بن جعفر قال كيف أحجر على
من شريكه الزبير وفي رواية للبيهقي أن الثمن
ستمائة ألف. وقال الرافعي الثمن ثلاثون
ألفا. قال الحافظ لعله من غلط الناسخ
والصواب بستين يعني ألفا انتهى. وروى القصة
ابن حزم فقال بستين ألفا. وقد استدل بهذه
الواقعة من أجاز الحجر على من كان سيء التصرف
وبه قال علي عليه السلام وعثمان وعبد اللّه بن
الزبير وعبد اللّه بن جعفر وشريح وعطاء
والشافعي ومالك وأبو يوسف ومحمد هكذا في البحر
قال في الفتح والجمهور على جواز الحجر على
الكبير. وخالف أبو حنيفة بعض الظاهرية ووافق
أبو يوسف ومحمد قال الطحاوي ولم ار عن أحد من
الصحابة منع الحجر على الكبير ولا عن التابعين
إلا عن إبراهيم وابن سيرين ثم حكى صاحب البحر
عن العترة أنه لا يجوز مطلقا وعن أبي حنيفة
أنه لا يجوز أن يسلم إليه ماله بعد خمس وعشرين
سنة ولهم أن يجيبوا عن هذه القصة بأنها وقعت
عن بعض من الصحابة والحجة إنما هو إجماعهم
والأصل جواز التصرف لكل مالك من غير فرق بين
نواع التصرفات فلا يمنع منها إلا ما قام
الدليل على منعه ولكن الظاهر أن الحجر على من
كان في تصرفه سفه مكان أمرا معروفا عند
الصحابة مألوفا بينهم ولو كان غير جائز لأنكره
بعض من اطلع على هذه القصة ولكان الجواب من
عثمان رضي اللّه عنه عن علي عليه السلام بأن
هذا غير جائز وكذلك الزبير وعبد اللّه بن جعفر
لو كان مثل هذا الأمر غير جائز لكان لهما عن
تلك الشركة مندوحة والعجب من ذهاب العترة إلى
عدم الجواز مطلقا وهذا إمامهم وسيدهم أمير
المؤمنين على كرم اللّه وجهه يقول بالجواز مع
كون أكثرهم يجعل حجة متبعة تجب المصير إليها
وتصلح لمعارضة المرفوع وأما اعتذار صاحب البحر
عن ذلك بأن عليا عليه السلام لم يفعل ذلك ففي
غاية من السقوط فإن الحجر لو كان غير جائز لما
ذهب إلى عثمان وسأل منه ذلك وأما اعتذاره أيضا
بأن ذلك اجتهاد فمخالف لما تمشى عليه في كثير
من الأبحاث من الجزم وبأن قول على حجة من غير
فرق بين ما كان للاجتهاد فيه مسرح وما ليس
كذلك على أن ما لا مجال للاجتهاد فيه لا فرق
فيه بين قول علي عليه السلام وغيره من الصحابة
أن له حكم الرفع وإنما محل النزاع بين أهل
البيت عليهم السلام وغيرهم فيما كان من
ج / 5 ص -247-
مواطن الاجتهاد وكثيرا ما ترى جماعة من
الزيدية في مؤلفاتهم يجزمون بحجية قوله عليه
السلام إن وافق ما يذهبون إليه ويعتذرون عنه
إن خالف بأنه اجتهاد لا حجة فيه كما يقع منهم
ومن غيرهم إذا وافق قول أحد من الصحابة ما
يذهبون إليه فإنهم يقولون لا مخالف له من
الصحابة فكان إجماعا ويقولون إن خالف ما
يذهبون إليه: قول صحابي لا حجة فيه. وهكذا
يحتجون بأفعاله صلى اللّه عليه وآله وسلم إن
كانت موافقة للمذهب ويعتذرون عنها إن خالفت
بأنها غبر معمولة الوجه الذي لأجله وقعت فلا
تصلح للحجة فليكن هذا منك على ذكر فإنه من
المزالق التي يتبين عندها الإنصاف
والاعتساف. وقد قدمنا التنبيه على مثل هذا
وكررناه لما فيه من التحذير عن الاغترار بذلك
ومن الأدلة الدالة على
جواز الحجر على من كان بعد البلوغ سيء التصرف
قول اللّه تعالى :
{وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} قال في الكشاق السفهاء المبذرون أموالهم الذين ينفقونها فيما لا
ينبغي ولا يدي لهم بإصلاحها وتثميرها والتصرف
فيها والخطاب للأولياء وأضاف الأموال إليهم
لأنها من جنس ما يقيم به الناس معايشهم كما
قال ولا تقتلوا أنفسكم. فمما ملكت إيمانكم
من فتياتكم المؤمنات والدليل على أنه خطاب
للأولياء في أموال اليتامى قوله :
{وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ}
ثم قال في تفسير قوله تعالى :
{وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا} واجعلوها مكانا لرزقهم بأن تتحروا فيها
وتتربحوا حتى تكون نفقتهم من الأرباح لا من
صلب المال فلا يأكلها الإنفاق وقيل هو أمر لكل
أحد أن لا يخرج ماله إلى أحد من السفهاء قريب
أو أجنبي رجل أو امرأة يعلم أنه يضعه فيما لا
ينبغي ويفسده انتهى. وقد عرفت بهذا عدم
اختصاص السفهاء المذكورين بالصبيان كما قال في
البحر فإنه تخصيص لما تدل عليه الصيغة بلا
مخصص. ومما يؤيد ذلك نهيه صلى اللّه عليه
وآله وسلم عن الإسراف بالماء ولو على نهر
جار. ومن المؤيدات عدم إنكاره صلى اللّه
عليه وآله وسلم على قرابة حبان لما سألوه أن
يحجر عليه أن صح ثبوت ذلك وقد تقدم الحديث
بجميع طرقه في البيع وقد استدل على جواز الحجر
على لاسفيه أيضا برده صلى اللّه عليه وآله
وسلم صدقة الرجل الذي تصدق بأحد ثوبيه كما
أخرجه أصحاب السنن وصححه الترمذي وابن خزيمة
وابن حبان وغيرهم من حديث أبي سعيد وأخرجه
الدارقطني من حديث جابر. وبما أخرجه أبو
داود وصححه ابن خزيمة من حديث جابر أيضا أن
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم رد
البيضة على من تصدق بها ولا مال له غيرها
وبرده صلى اللّه عليه وآله وسلم عتق من أعتق
عبد له عن دبر ولا مال له غيره كما أشار إلى
ذلك البخاري وترجم عليه باب من رد أمر السفيه
والضعيف العقل وإن لم يكن حجر عليه الإمام ـ
ومن جملة ـ ما استدل به على الجواز قول ابن
عباس وقد سئل متى ينقضي يتم اليتيم فقال لعمري
أن الرجل لتنبت لحيته وأنه لضعيف الأخذ لنفسه
ضعيف العطاء فإذا أخذ لنفسه من صالح ما أخذ
الناس فقد ذهب عنه اليتيم حكاه في الفتح
والحكمة في الحجر على السفيه أن حفظ الأموال
حكمة لأنها مخلوقة للانتفاع بها بلا تبذير
ولهذا قال تعالى :
{إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} قال في البحر ـ فصل ـ والسفه المقتضي للحجر عند من أثبته هو صرف
المال في الفسق أو
ج / 5 ص -248-
فيما لا مصلحة فيه ولا غرض ديني ولا دنيوي
كشراء ما يساوي درهما بمائة لا صرفه في أكل
طيب ولبس نفيس وفاخر المشموم قوله تعالى :
{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي
أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} الآية وكذا لو أنفقه في القرب انتهى.
باب علامات
البلوغ
1 - عن علي بن أبي طالب
رضي اللّه عنه حفظت عن رسول اللّه صلى اللّه
عليه وآله وسلم:
"لا يتم بعد احتلام ولاصمات يوم إلى الليل".
رواه أبو داود.
2 - وعن ابن عمر قال:
"عرضت على النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني
وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة
فأجازني". رواه الجماعة.
3 - وعن عطية قال:
"عرضنا على النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم
يوم قريظة فكان من أنبت قتل ومن لم ينبت خلى
سبيله وكنت ممن لم ينبت فخلى سبيلي". رواه
الخمسة وصححه الترمذي. وفي لفظ:
"فمن كان محتلما أو أنبت عانته قتل ومن لا ترك" رواه أحمد والنسائي.
4 - وعن سمرة: "أن
النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال
اقتلوا شيوخ المشركين واستحيوا شرخهم والشرخ الغلمان الذي لم ينبتوا".
رواه الترمذي وصححه.
حديث علي عليه السلام في
إسناده يحيى بن محمد المدني الجاري منسوب إلى
الجار بالجيم والراء المهملة بلدة على الساحل
بالقرب من مدينة الرسول صلى اللّه عليه وآله
وسلم. قال البخاري يتكلمون فيه. وقال ابن
حبان يجب التنكب عما انفرد به من الروايات.
وقال العقيلي لا يتابع يحيى المذكور على هذا
الحديث. وفي الخلاصة أنه وثقه العجلي وابن
عدي. قال المنذري وقد روى هذا الحديث من
رواية جابر ابن عبد اللّه وأنس بن مالك وليس
فيها شيء يثبت. وقد أعل هذا الحديث أيضا عبد
الحق وابن القطان وغيرهما وحسنه النووي متمسكا
بسكوت أبي داود عليه ورواه الطبراني في الصغير
بسند آخر عن عليه عليه السلام.ورواه أبو
داود الطيالسي في مسنده وأخرج نحوه الطبراني
في الكبير عن حنظلة بن حذيفة عن جده وإسناده
لا بأس به. وأخرج نحوه أيضا ابن عدي عن جابر
وحديث ابن عمر زاد فيه البيهقي وابن حبان في
صحيحه بعد قوله: "لم يجزني ولم يرني بلغت"
وبعد قوله: "فأجازني ورآني بلغت" وقد صحح
هذه الزيادة أيضا ابن خزيمة. وحديث عطية
القرظي صححه أيضا ابن حبان والحاكم وقال على
شرط الصحيحين. قال الحافظ وهو كما قال إلا
أنهما لم يخرجا لعطية وماله إلا
ج / 5 ص -249-
هذا الحديث الواحد وقد أخرج نحو حديث عطية
الشيخان من حديث أبي سعيد بلفظ: "فكان يكشف
عن مؤتزر المراهقين فمن أنبت منهم قبل ومن لم
ينبت جعل في الذراري" وأخرج البزار من حديث
سعيد بن أبي وقاص: "حكم على بني قريظة أن
يقتل منهم كل منجرت عليه المواسي" وأخرج
الطبراني من حديث أسلم بن بحير الأنصاري قال:
"جعلني النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم على
أساري قريظة فكنت أنظر في فرج الغلام فإن
رأيته قد أنبت ضربت عنقه وإن لم أره قد أنبت
جعلته في مغانم المسلمين" قال الطبراني لا
يروى عن أسلم الا بهذا الإسناد. قال الحافظ
وهو ضعيف. وحديث سمرة أخرجه أيضا أبو داود
وهو من رواية الحسن عن سمرة وفي سماعه منه
مقال قد تقدم ـ وفي الباب ـ عن أنس عند
البيهقي بلفظ:
"إذا استكمل المولود خمس عشرة سنة كتب ماله
وما عليه وأقيمت عليه الحدود" قال في التلخيص وسنده ضعيف. وعن عائشة عند أحمد وأبي داود
والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم بلفظ:
"رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يبلغ وعن
النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق"
وأخرجه أيضا أبو داود
والنسائي وأحمد والدارقطني والحاكم وابن حبان
وابن خزيمة عن علي عليه السلام من طرق وفيه
قصة جرت له مع عمر علقها البخاري فمن الطرق عن
أبي ظبيان عنه بالحديث والقصة ومنها عن أبي
ظبيان عن ابن عباس وهي من رواية جرير بن حازم
عن الأعمش عنه وذكره الحاكم عن شعبة عن الأعمش
كذلك لكنه وقفه. وقال البيهقي تفرد برفعه
جرير بن حازم. قال الدارقطني في العلل وتفرد
به عن جرير عبد اللّهبن وهب وخالفه ابن فضيل
ووكيع عن الأعمش موقوفا وكذا قال أبو حصين عن
أبي ظبيان وخالفهم عمار بن رزيق فرواه عن
الأعمش ولم يذكر فيه ابن عباش وكذا قال عطاء
بن السائب عن أبي ظبيان عن علي وعمر رضي اللّه
عنهما مرفوعا. قال الحافظ وقول وكيع وابن
فضيل أشبه بالصواب. وقال النسائي حديث أبي
حصين أشبه بالصواب. ورواه أيضا أبو داود من
حديث أبي الضحى عن علي عليه السلام بالحديث
دون القصة وأبو الضحي. قال أبو رزعة حديثه
عن علي مرسل. ورواه ابن ماجه من حديث القاسم
بن يزيد عن علي. قال أبو زرعة وهو مرسل
أيضا. وراه الترمذي من حديث الحسن البصري
قال أبو زرعة أيضا وهو مرسل لم يسمع الحسن من
علي شيئا.
وروى الطبراني عن أبي
أدريس الخولاني قال أخبرني غير واحد من أصحاب
رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ثوبان
ومالك بن شداد وغيرهما فذكر نحوه وفي إسناده
برد بن سنان وهو مختلف فيه. قال الحافظ وفي
إسناده مقال في اتصاله. ورواه الطبراني أيضا
من طريق مجاهد عن ابن عباس وإسناده ضعيف كما
قال الحافظ: قوله:
"لا يتم بعد احتلام" استدل به على أن الاحتلام من علامات البلوغ. وتعقب بأنه بيان
لغاية مدة اليتم وارتفاع اليتم لا يستلزم
البلوغ الذي هو مناط التكليف لأن اليتم يرتفع
عند ادراك الصبي لمصالح دنياه والتكليف إنما
يكون عند إدراكه لمصالح آخرته والأولى
الاستدلال بما وقع في رواية لأحمد وأبي داود
والحاكم من حديث علي عليه السلام بلفظ:
"وعن الصبي حتى يحتلم"
ويؤيد
ج / 5 ص -250-
ذلك قوله في حديث عطية:
"فمن كان محتلما"
وقد حكى صاحب البحر الإجماع على أن الأحتلام
مع الأنزال من علامات البلوغ في الذكر ولم
يجعله المنصور باللّه في الأنثى. قوله:
"ولاصمات" الخ الصمات السكوت قال في
القاموس وماذقت صماتا كسحاب شيئا ولا صمت يوم
إلى الليل أي لاصمت يوم تام انتهى. قوله:
"فلم يجزني" وقوله: "فأجازني" المراد
بالإجازة الأذن بالخروج للقتال من أجازه إذا
أمضاه وأذن له لا من الجائزة التي هي العطية
كما فهمه صاحب ضوء النهار وقد استدل بحديث ابن
عمر هذا من قال ان مضى خمس عشرة سنة من
الولادة يكون بلوغا في الذكر والأنثى وإليه
ذهب الجمهور وتعقب ذلك الطحاوي وابن القصار
وغيرهما بأنه لا دلالة في الحديث على البلوغ
لأنه صلى اللّه عليه وآله وسلم لم يتعرض لسنه
وإن فرض خطور ذلك ببال ابن عمر ويرد هذا
التعقب ما ذكرنا من الزيادة في الحديث أعني
قوله: "ولم يرني بلغت" وقوله: "ورآني
بلغت" والظاهر أن ابن عمر لا يقول هذا بمجرد
الظن من دون أن يصدر منه صلى اللّه عليه وآله
وسلم ما يدل على ذلك. وقال أبو حنيفة بل مضى
ثمان عشرة سنة للذكر وسبع عشرة للأنثى:
قوله: "فكان من أنبت" الخ:استدل به من قال
إن الإنبات من علامات البلوغ وإليه ذهبت
الهادوية وقيدوا ذلك بأن يكون الإنبات بعد
التسع وتعقب بأن قتل من أنبت ليس لأجل التكليف
بل لرفع ضرره لكونه مظنة للضرر كقتل الحية
ونحوها ورد هذا التعقب بأن القتل لمن كان كذلك
ليس الا لأجل الكفر لا لدفع الضرر لحديث:
"أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا
اللّه" وطلب الإيمان وإزالة المانع منه فرع التكليف ويؤيد هذا أن النبي
صلى اللّه عليه وآله وسلم كان يغزو إلى البلاد
البعيدة كتبوك ويأمر بغزو أهل الأقطار النائية
مع كون الضرر ممن كان كذلك مأمونا وكون قتال
الكفار لكفرهم هو مذهب طائفة من أهل العلم
وذهبت طائفة أخرى إلى أن قتالهم لدفع الضرر
والقول بهذا المقالة هو منشأ ذلك التعقب ومن
القائلين بهذا شيخ الإسلام ابن تيمية حفيد
المصنف وله في ذلك رسالة. قوله: "شرخهم"
بفتح الشين المعجمة وسكون الراء المهملة بعدها
خاء معجمة. قال في القاموس هو أول الشباب
انتهى. وقيل هم الغلمان الذي لم يبلغوا
وحمله المصنف على من لم يثبت من الغلمان ولابد
من ذلك للجمع بين الأحاديث وإن كان أول الشباب
يطلق على من كان في أول الانبات والمراد
بالإنبات المذكور في الحديث هو ابنات الشعر
الأسود المتجعدة في العانة لا إنبات مطلق
الشعر فإنه موجود في الأطفال.
باب ما يحل لولي
اليتيم من ماله بشرط العمل والحاجة
1 - عن عائشة رضي اللّه
عنها في قوله تعالى :
{وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً
فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ}
إنها نزلت في ولي اليتيم إذا كان فقيرا أنه
يأكل منه مكان قيامه عليه بالمعروف. وفي
لفظ: "أنزلت في والي اليتيم الذي يقوم عليه
ويصلح ماله إن كان فقيرا أكل منه
بالمعروف". أخرجاهما.
ج / 5 ص -251-
2 - وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: "أن
رجلا أتى النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال
أني فقير ليس لي شيء ولي يتيم فقال
كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبادر ولا متأثل". رواه الخمسة إلا الترمذي. وللأثرم في سننه عن ابن عمر: "أنه
كان يزكي مال اليتيم ويستقرض منه ويدفعه
مضاربة".
حديث عمرو بن شعيب سكت عنه أبو داود وأشار
المنذري إلى أن في إسناده عمرو بن شعيب وفي
سماع أبيه من جده مقال قد تقدم التنبيه
عليه. وقال في الفتح إسناده قوي والآية
المذكورة تدل على جواز نأكل ولي اليتيم من
ماله بالمعروف إذا كان فقيرا ووجوب الاستعفاف
إذا كان غنيا وهذا إن كان المراد بالغني
والفقير في الآية ولي اليتيم على ما هو
المشهور. وقيل المعنى في الآية اليتيم أي إن
كان غنيا فلا يسرف في الإنفاق عليه وإن كان
فقيرا فليطعمه من ماله بالمعروف فلا يكون على
هذا في الآية دلالة على الأكل من مال اليتيم
أصلا هذا التفسير رواه ابن التين عن ربيعة
ولكن المتعين المصير إلى الأول لقول عائشة
المذكور. وقد اختلف أهل العلم في هذه
المسألة فروى عن عائشة أنه يجوز للولي أن يأخذ
من مال اليتيم قدر عمالته وبه قال عكرمة
والحسن وغيرهم وقيل لا يأكل منه إلا عند
الحاجة ثم اختلفوا فقال عبيدة بن عمرو وسعيد
بن جبير ومجاهد إذا أكل ثم أيسر قضى وقيل لا
يجب القضاء وقيل إن كان ذهبا أو فضة لم يجز له
أن يأخذ منه شيئا الا على سبيل القرض وإن كان
غير ذلك جاز بقدر الحاجة وهذا أصح الأقوال عن
ابن عباس وبه قال الشعبي وأبو العالية وغيرهما
أخرج جميع ذلك ابن جرير في تفسيره وقال هو
بوجوب القضاء مطلقا وانتصر له وقال الشافعي
يأخذ أقل الأمرين من أجرته ونفقته ولا يجب
الرد على الصحيح عنده والظاهر من الآية
والحديث جواز الأكل مع الفقر بقدر الحاجة من
غير اسراف ولا تبذير ولا تأثل والأذن بالأكل
يدل إطلاقه على عدم وجوب الرد عند التمكن ومن
ادعى الوجوب فعليه الدليل: قوله: "غير مسرف
ولا مبادر" هذا مثل قوله تعالى :
{وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً} أي مسرفين ومبادرين كبر الأيتام أو لا سرافكم ومبادرتكم كبرهم.
يفرطون في انفاقها ويقولون تنفق كما تشتهي قبل
أن يكبر اليتامى فينتزعوها من أيدينا. ولفظ
أبي داود غير مسرف ولا مبذر: قوله:
"ولامتأثل" قال في القاموس أثل ماله تأثيلا
زكاه وأصله وملكه عظمه والأهل كساهمه أفضل
كسوة وأحسن إليهم والرجل كثر ماله انتهى.
والمراد هنا أنه لا يدخر من مال اليتيم لنفسه
ما يزيد على قدر ما يأكله. قال في الفتح
المتأثل بمثناة ثم مثلثة مشددة بينهما همزة هو
المتخذ والتأثيل اتخاذ أصل المال حتى كأنه
عنده قديم واثله اصله. قوله: "أنه كان يزكي
مال اليتيم" الخ فيه إن ولي اليتيم يزكي
ماله ويعامله بالقرض والمضاربة وما شابه
ذلك.
ج / 5 ص -252-
باب مخالطة الولي اليتيم في الطعام والشراب
1 - عن ابن عباس قال:
"لما نزلت ولا تقربوا مال اليتيم الا بالتي
هي أحسن عزلوا أموال اليتامى حتى جعل الطعام
يفسد واللحم ينتن فذكر ذلك للنبي صلى اللّه
عليه وآله وسلم فنزلت:
{وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ
الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ}
قال فخالطوهم".
رواه أحمد والنسائي وأبو داود.
الحديث أخرجه أيضا
الحاكم وصححه وفي إسناده عطاء بن السائب وقد
تفرد بوصله وفيه مقال. وقد أخرج له البخاري
مقرونا. وقال أيوب ثقة وتكلم فيه غير
واحد. وقال الإمام أحمد من سمع منه قديما
فهو صحيح ومن سمع منه حديثا لم يكن بشيء
ووافقه على ذلك يحيى بن معين وهذا الحديث من
رواية جرير بن عبد الحميد عنه وهو ممن سمع منه
حديثا ورواه النسائي من وجه آخر عن عطاء
موصولا وزاد فيه:
"وأحل لهم خلطهم"
ورواه عبد بن حميد عن قتادة مرسلا ورواه
الثوري في تفسيره عن سعيد بن جبير مرسلا
أيضا. قال في الفتح وهذا هو المحفوظ مع
إرساله وروى عبد بن حميد من طريق السدى عمن
حدثه عن ابن عباس قال المخالطة أن تشرب من
لبنه ويشرب من لبنك وتأكل من قصعته ويأكل من
قصعتك واللّه يعلم المفسد من المصلح من يتعمد
أكل مال اليتيم وم يتجنبه. وقال أبو عبيد
المراد بالمخالطة أن يكون اليتيم بين عيال
الوالي فيشق عليه إفراز طعامه فيأخذ من مال
اليتيم قدر ما يرى أنه كافيه بالتحري فيخلطه
بنفقة عياله ولما كان ذلك قد تقع في الزيادة
والنقصان خشوا منه فوسع اللّه لهم وقد ورد
التنفير عن أكل أموال اليتامى والتشديد فيه
قال اللّه تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً
إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ
نَاراً} وثبت في الصحيح أن أكل مال اليتيم أحد السبع الموبقات فالواجد على
من ابتلى بيتيم أن يقف على الحد الذي أباحه له
الشارع في الأكل من ماله ومخالطته لأن الزيادة
عليه ظلم يصلى به فاعله سعيرا ويكون من
الموبقين نسأل اللّه السلامة. |