إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْبَاب الأول حكم الإجتهاد فِي الْمسَائِل الْفِقْهِيَّة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
الإجتهاد فِي اللُّغَة

الإجتهاد فِي اللُّغَة مَأْخُوذ من الْجهد بِفَتْح الْجِيم وَضمّهَا وَهُوَ الْمَشَقَّة والإجتهاد والتجاهد بذل الوسع والمجهود والتجاهد بذل الوسع كالإجتهاد وعَلى هَذَا يُقَال اجْتهد فِي الْأَمر أَي بذل وَسعه وطاقته فِي طلبه ليبلغ إِلَى نهايته سَوَاء كَانَ هَذَا الْأَمر من الْأُمُور الحسية كالمشي وَالْعَمَل أَو الْأُمُور المعنوية كاستخراج حكم أَو نظرية عقلية أَو شَرْعِيَّة أَو لغوية فَيُقَال بذل طاقته ووسعه فِي تَحْقِيق أَمر من الْأُمُور الَّتِي تَسْتَلْزِم كلفة أَو مشقة فَقَط وَلَا يُقَال اجْتهد فِي حمل قلم أَو كِتَابَة سطر أَو سطور عَمَّا لَيْسَ فِيهِ مشقة
الإجتهاد فِي اصْطِلَاح الْأُصُولِيِّينَ

قد عرفه عُلَمَاء الْأُصُول بتعريفات تخْتَلف عباراتها وتتحد مَعَانِيهَا فِي

(1/7)


الْجُمْلَة ومغزاها فِيمَا يَلِي الإجتهاد هُوَ استفراغ الوسع وبذل المجهود فِي طلب الحكم الشَّرْعِيّ عقليا كَانَ أَو نقليا قَطْعِيا كَانَ أَو ظنيا على وَجه يحس من النَّفس الْعَجز عَن الْمَزِيد عَلَيْهِ
شُرُوط الإجتهاد

إِن شُرُوط الإجتهاد الَّتِي قررها الأصوليون فِيهَا بعض الِاخْتِلَاف من حَيْثُ الزِّيَادَة وَالنُّقْصَان وَيُمكن لنا أَن نقسم هَذِه الشُّرُوط قسمَيْنِ حَتَّى يحتويا كل مَا ذكر فِيهَا بالإيجاز الْقسم الأول الشُّرُوط الْعَامَّة شُرُوط التَّكْلِيف وَهِي 1 الْإِسْلَام 2 الْبلُوغ 3 الْعقل

(1/8)


الْقسم الثَّانِي الشُّرُوط التأهيلية وَهِي تتنوع إِلَى نَوْعَيْنِ الأول الشُّرُوط الأساسية وَهِي 1 معرفَة الْكتاب 2 معرفَة السّنة 3 معرفَة اللُّغَة 4 معرفَة أصُول الْفِقْه 5 معرفَة مَوَاضِع الْإِجْمَاع الثَّانِي الشُّرُوط التكميلية وَهِي 1 معرفَة الْبَرَاءَة الْأَصْلِيَّة 2 معرفَة مَقَاصِد الشَّرِيعَة

(1/9)


3 - معرفَة الْقَوَاعِد الْكُلية 4 معرفَة مَوَاضِع الْخلاف 5 الْعلم بِالْعرْفِ الْجَارِي فِي الْبَلَد 6 معرفَة الْمنطق 7 عَدَالَة الْمُجْتَهد وصلاحه 8 حسن الطَّرِيقَة وسلامة المسلك 9 الْوَرع والعفة 10 رصانة الْفِكر وجودة الملاحظة 11 الإفتقار إِلَى الله تَعَالَى والتوجه إِلَيْهِ بِالدُّعَاءِ 12 ثقته بِنَفسِهِ وَشَهَادَة النَّاس لَهُ بالأهلية 13 مُوَافقَة عمله مُقْتَضى قَوْله

(1/10)


أهمية الإجتهاد

إِن الإجتهاد فِي الْإِسْلَام أقوى دَلِيل على أَن ديننَا الحنيف هُوَ الدّين الشَّامِل الخالد الوحيد الَّذِي يُسَايِر ركب الحضارة الإنسانية عبر العصور والأجيال ويرحب بِكُل التغيرات الطارئة والمشاكل الناجمة من تجدّد الظروف والمصالح على اخْتِلَاف المجتمعات الإنسانية فِي مَشَارِق الأَرْض وَمَغَارِبهَا ويعرض لَهَا حلولا مُنَاسبَة فِي ضوء الْأَحْكَام الْكُلية وَالْأُصُول الثَّابِتَة من الْكتاب وَالسّنة
الإجتهاد منحة إلهية مستمرة

إِن مسَائِل الْعَصْر تتجد ووقائع الْوُجُود لَا تَنْحَصِر ونصوص الْكتاب وَالسّنة محصورة محدودة فَكَانَ الإجتهاد فِي الْأُمُور المستحدثة حَاجَة إسلامية ملحة لمسايرة ركب الْحَيَاة الإنسانية تَلْبِيَة لهَذِهِ الْحَاجة قد قَامَ الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وَمن بعدهمْ من التَّابِعين وأتباعهم وأئمة الْإِسْلَام وفقهاء الْأمة بالإجتهاد فِي الْمسَائِل المستجدة فِي عصورهم وَصَارَ الإجتهاد منحة ربانية مستمرة يتمتع بهَا الْمُسلمُونَ بجهود الْمُجْتَهدين الْأَكفاء فِي كل زمَان وَمَكَان وَلم تكن خَاصَّة بعصر دون عصر وبمصر دون مصر حَتَّى يفهم ونعوذ بِاللَّه تَعَالَى أَن رَحْمَة الله عز وَجل صَارَت عقيمة بعد ذَلِك وانقطعت عَن الْعلمَاء الْمُتَأَخِّرين المتأهلين وَلَا شكّ أَن هَذَا الإعتقاد بإنتهاء الإجتهاد والمجتهدين تحجر رَحْمَة الله الواسعة وَحكم على قدره وقضائه بِدُونِ علم يشبه بصيحة فِي وَاد وَنفخ فِي رماد أَمَام قَول الله عز وَجل {وَآخَرين مِنْهُم لما يلْحقُوا بهم وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم ذَلِك فضل الله يؤتيه من يَشَاء وَالله ذُو الْفضل الْعَظِيم} الْجُمُعَة 2 3

(1/11)


وَعَن أنس بن مَالك رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ مثل أمتِي مثل الْمَطَر لَا يدرى أَوله خير أم آخِره هَذَا وَلَا يسوغ لأحد أَن يَدعِي أَن الْأَئِمَّة الْمُجْتَهدين الْمُتَقَدِّمين استوعبوا كل مَا هُوَ كَائِن إِلَى يَوْم الْقِيَامَة لِأَن اسْتِيعَاب مَا كَانَ وَمَا يكون من صِفَات الله عز وَجل الَّتِي لَا يُشَارِكهُ فِيهَا أحد غَيره {وَعِنْده مفاتح الْغَيْب لَا يعلمهَا إِلَّا هُوَ وَيعلم مَا فِي الْبر وَالْبَحْر وَمَا تسْقط من ورقة إِلَّا يعلمهَا وَلَا حَبَّة فِي ظلمات الأَرْض وَلَا رطب وَلَا يَابِس إِلَّا فِي كتاب مُبين} الْأَنْعَام 59 وَلأَجل هَذَا لم يكن الصَّحَابَة وَمن بعدهمْ يجتهدون فِي الْمسَائِل الخيالية بل كَانُوا يكْرهُونَ الْكَلَام فِيمَا لم يَقع ويمتنعون من الْإِجَابَة عَن الإفتراضات عَن مَسْرُوق بن الأجدع قَالَ سَأَلت أبي بن كَعْب عَن شَيْء فَقَالَ أَكَانَ بعد قلت لَا قَالَ فاصبر حَتَّى يكون فَإِن كَانَ اجتهدنا لَك رَأينَا وَعَن عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ قَالَ إيَّاكُمْ وَهَذِه العضل فَإِنَّهَا إِذا نزلت بعث الله لَهَا من يقيمها ويفسرها

(1/12)


كل هَذَا التوقي من الْكَلَام فِي الإفتراضات كَانَ إِيمَانًا بِأَن الجهود الإنسانية مهما بذلت فِي تدوين الْمسَائِل الخيالية والوقائع الْفَرْضِيَّة لَا تستوعبها وَأما عِنْد وُقُوعهَا فَالله الْقَادِر الْقَدِير عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة يقيض من يحلهَا ويجتهد فِيهَا
مدى حريَّة التفكير والإجتهاد عِنْد الْأَئِمَّة وَاخْتِلَاف أَصْحَابهم مَعَهم

إِن الْأَئِمَّة رَحِمهم الله كَانُوا يبذلون أقْصَى جهودهم للوصول إِلَى الْحق فِي الْمسَائِل الإجتهادية وَمَعَ هَذَا لم يَكُونُوا يقطعون بِأَن إجتهادهم هُوَ مسك الختام وَالْأَمر الآخر الَّذِي لَا يجوز خِلَافه قطعا بل كَانُوا يحتاطون احْتِيَاطًا لَازِما عِنْد إبداء آرائهم فِي الْمسَائِل وَيَخَافُونَ فِي ذَلِك مُخَالفَة النُّصُوص الصَّرِيحَة من الْكتاب وَالسّنة وَلأَجل هَذَا نصوا على الرُّجُوع إِلَى السّنة عِنْد ظُهُور مخالفتهم إِيَّاهَا وأوصوا تلاميذهم وأصحابهم بترك أَقْوَالهم الْمُخَالفَة لَهَا وَهِي مستفيضة فِي مَكَانهَا

(1/13)


وَكَذَلِكَ لَا يتَصَوَّر أَن إِمَامًا من الْأَئِمَّة الْأَعْلَام مهما بلغ من الْعلم وَالْحِفْظ والضبط والإتقان وَالْفضل والوجاهة يسْتَقلّ بالحكم على الشَّيْء ويستبد بِرَأْيهِ ويفرضه على الآخرين فرضا قَالَ الله عز وَجل {نرفع دَرَجَات من نشَاء وَفَوق كل ذِي علم عليم} يُوسُف 76 {وَقَالَ} {قل الرّوح من أَمر رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ من الْعلم إِلَّا قَلِيلا} الْإِسْرَاء 85 وَإِنِّي أعتقد وأدين بِأَن الْأَئِمَّة كَانُوا أبعد من أَن يتصفوا بِهَذِهِ الصّفة الكريهة من الاستبداد بِالرَّأْيِ وفرضه على الآخرين وَكَانُوا يدورون حَيْثُ دَار الْحق بِكُل أَمَانَة وإخلاص فَالْحق لَيْسَ محصورا فِي رَأْي أحد قطعا إِلَّا النَّبِي الْمَعْصُوم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَا أحسن مَا ورد عَن الإِمَام أبي حنيفَة من قَوْله عِنْد الْإِفْتَاء هَذَا رَأْي النُّعْمَان بن ثَابت يَعْنِي نَفسه وَهُوَ أحسن مَا قدرت عَلَيْهِ فَمن جَاءَ بِأَحْسَن مِنْهُ فَهُوَ أولى بِالصَّوَابِ وَنقل عَن الإِمَام الشَّافِعِي أَنه قَالَ مَا ناظرت أحدا إِلَّا قلت اللَّهُمَّ أجر الْحق على قلبه وَلسَانه فَإِن كَانَ الْحق معي اتبعني وَإِن كَانَ الْحق مَعَه اتبعته انطلاقا من هَذَا المبدأ الْعَادِل من حريَّة التفكير وَتَقْدِير رَأْي الآخرين اخْتلفت الْأَئِمَّة فِيمَا بَينهم فِي الْأُصُول وَاخْتلف أَصْحَابهم مَعَهم أَيْضا فِي الْأُصُول كَمَا اخْتلفُوا مَعَهم فِي الْفُرُوع

(1/14)


فقد اخْتلف أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد بن الْحسن الشَّيْبَانِيّ مَعَ شيخهما الإِمَام أبي حنيفَة حَتَّى فِي الْأُصُول قَالَ السُّبْكِيّ فَإِنَّهُمَا يخالفان أصُول صَاحبهمَا وَقَالَ ابْن خلكان فِي تَرْجَمَة أبي يُوسُف كَانَ الْغَالِب عَلَيْهِ مَذْهَب أبي حنيفَة وَخَالفهُ فِي مَوَاضِع كَثِيرَة وَقَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيّ استنكف مُحَمَّد بن الْحسن وَأَبُو يُوسُف عَن مُتَابَعَته فِي ثُلثي مذْهبه ووافقا الشَّافِعِي رَحِمهم الله فِي أَكثر الْمسَائِل وَقَالَ السُّيُوطِيّ وَكَذَلِكَ ابْن وهب وَابْن الْمَاجشون والمغيرة بن أبي حَازِم ومطرف بن كنَانَة لم يقلدوا شيخهم مَالِكًا فِي كل مَا قَالَ بل خالفوه فِي مَوَاضِع واختاروا غير قَوْله وَكَذَلِكَ القَوْل فِي الْمُزنِيّ وَأبي عبيد بن حربويه وَابْن خُزَيْمَة وَابْن سُرَيج فَإِن كلا مِنْهُم خَالف إِمَامه فِي أَشْيَاء وَاخْتَارَ مِنْهَا غير قَوْله يَتَّضِح من هَذَا أَن اجْتِهَاد الْمُجْتَهد ورأيه لَا يُمكن أَن يكون بِمَثَابَة حكم الله عز وَجل وَلَو كَانَ كَذَلِك لما سَاغَ لأَصْحَاب الْأَئِمَّة أَن يخالفوا آراء شيوخهم

(1/15)


وَهَكَذَا كَانَ الْفِقْه الإسلامي فِي الْقُرُون الْمَشْهُود لَهَا بِالْخَيرِ فِي ازدهار مُسْتَمر ونمو متواصل وَتقدم دَائِم وَكَانَت اجتهادات الْأَئِمَّة بَين الْأَخْذ وَالعطَاء وَالرَّدّ وَالْقَبُول حَتَّى فِي أوساط أَصْحَابهم إِلَى أَن فَشَا التَّقْلِيد فِي نصف الْقرن الرَّابِع وَبَدَأَ التعصب المذهبي يبيض ويفرخ ويصور الْحَكِيم ولي الله الدهلوي مَا حدث فِي النَّاس بعد الْمِائَة الرَّابِعَة قَائِلا وَلم يَأْتِ قرن بعد ذَلِك إِلَّا وَهُوَ أَكثر فتْنَة وأوفر تقليدا وَأَشد انتزاعا للأمانة من صُدُور الرِّجَال حَتَّى اطمأنوا بترك الْخَوْض فِي أَمر الدّين وَبِأَن يَقُولُوا {إِنَّا وجدنَا آبَاءَنَا على أمة وَإِنَّا على آثَارهم مقتدون} الزخرف 22 وَإِلَى الله المشتكى وَهُوَ الْمُسْتَعَان وَبِه الثِّقَة وَعَلِيهِ التكلان
بَاب محزن من تأريخ الْمذَاهب الْفِقْهِيَّة

نظرة على كتب الْمذَاهب الْفِقْهِيَّة وسير الْأَئِمَّة المتبوعين وكتابات عُلَمَاء الْمذَاهب لتقويم مذاهبهم وترجيحها على الْمذَاهب الْأُخْرَى تكشف مَا بَينهَا من أحقاد متأصلة واتهامات متبادلة وحروب متطاولة وهجمات عنيفة حَتَّى على الْأَئِمَّة وَحط أقدارهم وتسفيه آرائهم مَا يَجْعَل الْإِنْسَان الْمُسلم الْمنصف الْعَادِل يتَيَقَّن أَن قَول مقلدة الْمذَاهب الشَّائِع بَينهم إِن الْمذَاهب كلهَا حق وعَلى الصَّوَاب من الدعاوي الْمُجَرَّدَة الَّتِي لَا دَلِيل عَلَيْهَا وَالْوَاقِع التأريخي يصدق ذَلِك مُنْذُ نشوء التعصب الْأَعْمَى للمذاهب حَتَّى يَوْمنَا هَذَا وإليكم بعض الْأَدِلَّة على مَا قُلْنَاهُ على سَبِيل الْمِثَال لَا الْحصْر
1 - كل حزب بِمَا لديهم فَرِحُونَ

كل من مقلدة الْمذَاهب يَدعِي أَن الْحق مَا هُوَ عَلَيْهِ وَمَا عَلَيْهِ غَيره فَبَاطِل وجوبا

(1/16)


قَالَ الحصفكي وَهُوَ من أشهر المؤلفين الأحناف فِي الْفِقْه الْحَنَفِيّ وفيهَا أَي فِي الْأَشْبَاه إِذا سئلنا عَن مَذْهَبنَا وَمذهب مخالفنا قُلْنَا وجوبا مَذْهَبنَا صَوَاب يحْتَمل الْخَطَأ وَمذهب مخالفنا خطأ يحْتَمل الصَّوَاب وَإِذا سئلنا عَن معتقدنا ومعتقد خصومنا قُلْنَا وجوبا الْحق مَا نَحن عَلَيْهِ وَالْبَاطِل مَا عَلَيْهِ خصومنا وَأَيْضًا نسب الحصفكي أَبْيَات إِلَى عبد الله بن الْمُبَارك فِي مدح الإِمَام أبي حنيفَة وَمِنْهَا ... فلعنة رَبنَا أعداد رمل ... على من رد قَول أبي حنيفَة ... وَنسب إِلَى أبي الْحسن الْكَرْخِي الْحَنَفِيّ أَنه قَالَ كل آيَة تخَالف مَا عَلَيْهِ أَصْحَابنَا فَهِيَ مؤولة أَو مَنْسُوخَة وَحَدِيث كَذَلِك فَهُوَ مؤول أَو مَنْسُوخ وَقَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ الْجُوَيْنِيّ الشَّافِعِي نَحن ندعي أَن يجب على كَافَّة العاقلين وَعَامة الْمُسلمين شرقا وغربا بعدا وقربا انتحال مَذْهَب الشَّافِعِي وَيجب على الْعَوام الطغام والجهال الأنذال أَيْضا انتحال مذْهبه بِحَيْثُ لَا يَبْغُونَ عَنهُ حولا وَلَا يُرِيدُونَ بِهِ بَدَلا

(1/17)


وَهَكَذَا كل وَاحِد يعظم إِمَامه ويرجح مذْهبه وَيَدْعُو إِلَى التقيد بِهِ ويسفه مَذَاهِب الآخرين ويبالغ فِي حط أقدارهم وَيرْفَع إِمَامه إِلَى منزلَة لم يبلغ بهَا أحد من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
إقتداء المقلدين بَعضهم لبَعض فِي الصَّلَاة

وصل الْخلاف المذهبي بَين المقلدين إِلَى أَن كثيرا من فُقَهَاء الأحناف قد أفتوا بِبُطْلَان صَلَاة الْحَنَفِيّ وَرَاء إِمَام شَافِعِيّ قَالَ ابْن الْهمام قَالَ أَبُو الْيُسْر اقْتِدَاء الْحَنَفِيّ بشافعي غير جَائِز لما روى مَكْحُول النَّسَفِيّ فِي كتاب لَهُ سَمَّاهُ الشعاع أَن رفع الْيَدَيْنِ فِي الصَّلَاة عِنْد الرُّكُوع وَالرَّفْع مِنْهُ مُفسد بِنَاء على أَنه عمل كثير وَمِنْهُم من قيد جَوَاز الِاقْتِدَاء بِهِ كقاضيخان بِأَن لَا يكون متعصبا وَلَا شاكا فِي إيمَانه ويحتاط فِي مَوْضُوع الْخلاف وَقد رد الشَّافِعِيَّة على هَذِه التهجمات الْحَنَفِيَّة بِأَن ألفوا كتبا ينتقصون فِيهَا مَذْهَب الْحَنَفِيَّة وَمن أشهرها كتاب مغيث الْخلق فِي تَرْجِيح القَوْل الْحق لأبي الْمَعَالِي عبد الملك الْجُوَيْنِيّ الشهير بِإِمَام الْحَرَمَيْنِ ت 478 هـ فقد عَابَ فِيهِ مَذْهَب الإِمَام أبي حنيفَة فِي الصَّلَاة وَقَالَ وَهُوَ يصور الصَّلَاة الَّتِي جوزها الْحَنَفِيَّة فَإِن من انغمس فِي مستنقع نَبِيذ وَلبس جلد كلب غير مدبوغ وَأحرم بِالصَّلَاةِ مبدلا بِصِيغَة التَّكْبِير تَرْجَمته تركيا أَو هنديا ويقتصر فِي الْقُرْآن على تَرْجَمَة قَوْله {مدهامتان} ثمَّ يتْرك الرُّكُوع وينقر النقرتين لَا قعُود بَينهمَا وَلَا يقْرَأ التَّشَهُّد ثمَّ يحدث عمدا فِي آخر صلَاته بدل التَّسْلِيم وَلَو انفلت مِنْهُ بِأَن سبقه

(1/18)


الْحَدث يُعِيد الْوضُوء فِي أثْنَاء صلَاته وَيحدث بعده فَإِن لم يكن قَاصِدا فِي حَدثهُ الأول تحلل عَن صلَاته على الصِّحَّة ثمَّ قَالَ وَالَّذِي يَنْبَغِي أَن يقطع بِهِ كل ذِي دين أَن مثل هَذِه الصَّلَاة لَا يبْعَث الله بهَا نَبيا وَمَا بعث مُحَمَّد بن عبد الله صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِ لدعاء النَّاس إِلَيْهَا وَهِي قطب الْإِسْلَام وعماد الدّين وَقد زعم أَن هَذَا الْقدر أقل الْوَاجِب فَهِيَ الصَّلَاة الَّتِي بعث بهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَا عَداهَا آدَاب وَسنَن فَإِذن تدقيق الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ يلائم الأَصْل وَيُوَافِقهُ فَكَانَ أولى من تدقيق أبي حنيفَة رَضِي الله عَنهُ لِأَنَّهُ يُخَالف الأَصْل
المحاريب الْأَرْبَعَة

من أَسْوَأ آثَار التَّقْلِيد على الْأمة مَا وَقع من تَقْسِيم الْقَضَاء والإفتاء والتدريس على عُلَمَاء الْمذَاهب الْأَرْبَعَة وَتَخْصِيص قَاض لَك مَذْهَب من الْمذَاهب يصور المقريزي هَذِه الظَّاهِرَة تصويرا محزنا فَيَقُول فَلَمَّا كَانَت سلطنة الْملك الظَّاهِر بيبرس البند قداري ولي بِمصْر والقاهرة أَرْبَعَة قُضَاة وهم شَافِعِيّ ومالكي وحنفي وحنبلي فاستمر ذَلِك من سنة خمس وَسِتِّينَ وسِتمِائَة حَتَّى لم يبْق فِي مَجْمُوع أَمْصَار الْإِسْلَام مَذْهَب يعرف من مَذَاهِب أهل الْإِسْلَام سوى هَذِه الْمذَاهب الْأَرْبَعَة وعقيدة الْأَشْعَرِيّ وعملت لأَهْلهَا الْمدَارِس والخوانك والزوايا والربط فِي سَائِر ممالك الْإِسْلَام وعودي من تمذهب بغَيْرهَا وَأنكر عَلَيْهِ وَلم يول قَاض وَلَا قبلت شَهَادَة أحد وَلَا قدم للخطابة

(1/19)


والإمامة والتدريس أحد مَا لم يكن مُقَلدًا لأحد هَذِه الْمذَاهب وَأفْتى فُقَهَاء هَذِه الْأَمْصَار بطول هَذِه الْمدَّة بِوُجُوب اتِّبَاع هَذِه الْمذَاهب وَتَحْرِيم مَا عَداهَا وَلم ينْتَه الْأَمر بِوُجُوب تَقْلِيد الْمذَاهب الْأَرْبَعَة بل صَار كل مَذْهَب مِنْهَا كَدين مُسْتَقل ونصوا على بطلَان الصَّلَاة خلف مُخَالف الْمَذْهَب كَمَا مضى وبالتالي كَانَ إنْشَاء المقامات للمذاهب الْأَرْبَعَة فِي الْحرم الْمَكِّيّ أمرا حتميا قَامَ بِهِ أشر مُلُوك الجراكسة فرج بن برقوق فِي أَوَائِل الْمِائَة التَّاسِعَة وَكَانَ الْأَمر على ذَلِك حَتَّى جمعهم الْملك الإِمَام عبد العزيز آل السُّعُود خلف إِمَام وَاحِد وَهدم ابْنه الْملك سعود بن عبد العزيز هَذِه المقامات الْأَرْبَعَة عِنْد الْبناء الْجَدِيد لبيت الله الْحَرَام فجزاهما الله خيرا وللأسف الشَّديد حَتَّى الْآن تُوجد الْمَسَاجِد الْخَاصَّة بأصحاب الْمذَاهب فِي بعض الْبلدَانِ وخاصة فِي شبه القارة الْهِنْدِيَّة
الزواج بَين المقلدين

لقد وصل الْخلاف إِلَى أَن منع بعض الْفُقَهَاء الأحناف تزوج الْحَنَفِيّ من الْمَرْأَة الشَّافِعِيَّة ثمَّ صدرت فَتْوَى من فَقِيه آخر ملقب بمفتي الثقلَيْن فَأجَاز تزوج الْحَنَفِيّ بالشافعية وَعلل ذَلِك بقوله تَنْزِيلا لَهَا منزلَة أهل الْكتاب وَقَالَ الْعَلامَة رشيد رضَا وَقد بلغ من إِيذَاء بعض المتعصبين لبَعض فِي

(1/20)


طرابلس الشَّام فِي آخر الْقرن الْمَاضِي أَن ذهب بعض شُيُوخ الشَّافِعِيَّة إِلَى الْمُفْتِي وَهُوَ رَئِيس الْعلمَاء وَقَالَ لَهُ اقْسمْ الْمَسَاجِد بَيْننَا وَبَين الْحَنَفِيَّة فَإنَّا فلَانا من فقهائهم يعدنا كَأَهل الذِّمَّة بِمَا أذاع فِي هَذِه الْأَيَّام من خلافهم فِي تزوج الرجل الْحَنَفِيّ بِالْمَرْأَةِ الشَّافِعِيَّة وَقَول بَعضهم لَا يَصح لِأَنَّهَا تشك فِي إيمَانهَا يَعْنِي أَن الشَّافِعِيَّة وَغَيرهم يجوزون أَن يَقُول الْمُسلم أَنا مُؤمن إِن شَاءَ الله وَقَول آخَرين بل يَصح نِكَاحهَا قِيَاسا على الذِّمِّيَّة
التناحر بَين الْمذَاهب
قد حصل التناحر العجيب بن الْمذَاهب بِحَيْثُ لم يكن يحب صَاحب مَذْهَب أَن تبقى الْمذَاهب الْأُخْرَى وَذَلِكَ تَحت رِعَايَة الدولة يَقُول المقريزي وَكَانَت الأفريقية الْغَالِب عَلَيْهَا السّنَن والْآثَار إِلَى أَن قدم عبد الله بن فروج أَبُو مُحَمَّد الْفَارِسِي بِمذهب أبي حنيفَة ثمَّ غلب أَسد بن الْفُرَات بن سِنَان قَاضِي أفريقية بِمذهب أبي حنيفَة ثمَّ أَن الْمعز بن باديس حمل جَمِيع أهل إفريقية على التَّمَسُّك بِمذهب مَالك وَترك مَا عَداهَا من الْمذَاهب فَرجع أهل إفريقية وَأهل الأندلس كلهم إِلَى مَذْهَب مَالك إِلَى الْيَوْم رَغْبَة فِيمَا عِنْد السُّلْطَان وحرصا على طلب الدُّنْيَا فَكَانَ الْقَضَاء والإفتاء فِي جَمِيع تِلْكَ المدن وَسَائِر الْقرى لَا يكون إِلَّا لمن تسمى بالفقه على مَذْهَب مَالك فاضطرت الْعَامَّة إِلَى أحكامهم وفتاواهم فَفَشَا هَذَا الْمَذْهَب هُنَاكَ فشوا طبق تِلْكَ الأقطار كَمَا فَشَا مَذْهَب أبي حنيفَة بِبِلَاد الْمشرق وَذكر الْحَافِظ أَبُو الْفِدَاء إِسْمَاعِيل بن كثير الدِّمَشْقِي أَن الْملك الْأَفْضَل ابْن

(1/21)


صَلَاح الدّين ت 595 هـ كَانَ قد عزم فِي السّنة الَّتِي توفّي فِيهَا على إِخْرَاج الْحَنَابِلَة من بَلَده وَأَن يكْتب إِلَى بَقِيَّة إخْوَته بإخراجهم من الْبِلَاد وَذكر أَيْضا أَن عبد الغني الْمَقْدِسِي تعرض إِلَى مَسْأَلَة صِفَات الله عز وَجل فِي دمشق فَغَضب عَلَيْهِ أَتبَاع الْمذَاهب الْأُخْرَى فَأمر الْأَمِير صارم الدّين برغش بنفيه من الْبَلَد وَأرْسل الْأُسَارَى من القلعة فكسروا مِنْبَر الْحَنَابِلَة وتعطلت يَوْمئِذٍ صَلَاة الظّهْر فِي محراب الْحَنَابِلَة
مدى انتشار الحروب وخراب الْبِلَاد بَين المتمذهبين
لم تكن الخلافات والنزاعات بَين المقلدين مقتصرة على الآراء الْفِقْهِيَّة فَقَط بل بلغ بهم التعصب إِلَى الحروب الطاحنة فِيمَا بَينهم يرْوى لنا التأريخ الشي الْكثير من ذَلِك قَالَ ياقوت الْحَمَوِيّ وَهُوَ بصدد ذكر مَدِينَة أَصْبَهَان وَقد فَشَا الخراب فِي هَذَا الْوَقْت وَقَبله فِي نَوَاحِيهَا لِكَثْرَة الْفِتَن والتعصب بَين الشَّافِعِيَّة وَالْحَنَفِيَّة والحروب الْمُتَّصِلَة بَين الحزبين فَكلما ظَهرت طَائِفَة نهبت محلّة الْأُخْرَى وأحرقتها وخربتها لَا يَأْخُذهُمْ فِي ذَلِك إل وَلَا ذمَّة وَمَعَ ذَلِك فقد قل أَن تدوم بهَا دولة سُلْطَان أَو يُقيم بهَا فيصلح فاسدها وَكَذَلِكَ الْأَمر فِي رساتيقها وقراها الَّتِي كل وَاحِدَة مِنْهَا كالمدينة وَهَذَا غيض من فيض مِمَّا وَقع بَين أَتبَاع الْمذَاهب الَّذِي يندى لَهُ جبين التعصب أعاذنا الله جَمِيعًا من هَذَا الدَّاء العضال الَّذِي أصَاب الْأمة الإسلامية

(1/22)


المتلاحمة ففرقها ولنختم هَذَا الْمَوْضُوع بِمَا أوردهُ اللكنوي فِي كتاب الْفَوَائِد البهية فِي تَرْجَمَة عِيسَى بن سيف الدّين أبي بكر بن أَيُّوب فقد قَالَ فِيهِ كَانَ متغاليا فِي التعصب لمَذْهَب أبي حنيفَة قَالَ لَهُ وَالِده يَوْمًا كَيفَ اخْتَرْت مَذْهَب أبي حنيفَة وَأهْلك كلهم شافعية فَقَالَ أترغبون عَن أَن يكون فِيكُم رجل وَاحِد مُسلم
رمتني بدائها وانسلت

بعد هَذَا الاستعراض لتأريخ التناحرات المذهبية المقيتة آمل أَن تتبلور حَقِيقَة دَعْوَى أَن الْمذَاهب كلهَا حق وعَلى الصَّوَاب وتنكشف نوايا المقلدة الخبيثة ضد الْأَئِمَّة الآخرين وحربهم الشعواء على الْمذَاهب الْأُخْرَى مُؤمنين إِيمَانًا جَازِمًا بِأَن الْمَذْهَب الَّذِي هم عَلَيْهِ هُوَ الْحجَّة الشَّرْعِيَّة الوحيدة على كل فَرد من أَفْرَاد الْأمة وَلَا يجوز لأحد أَن يخرج عَنهُ من المؤسف المحزن المخزي أَن الجذوة التقليدية الجائرة لم تخمد حَتَّى الْآن فِي أوساط أَتبَاع الْمذَاهب فِي كثير من الْبلدَانِ وَلَو كَانَ الْأَمر بِأَيْدِيهِم لأخذوا الْجِزْيَة من أَتبَاع الْمذَاهب الْأُخْرَى كَمَا قَالَ مُحَمَّد بن مُوسَى البلاساغوني المبتدع قَاضِي دمشق الْمُتَوفَّى 506 هـ لَو كَانَ لي أَمر لأخذت الْجِزْيَة من الشَّافِعِيَّة يتقطع الْقلب حزنا وأسى على رضاهم عَن تِلْكَ الداهية الدهياء والمصيبة الصماء الَّتِي شتت شَمل الْأمة أَسْوَأ تشتيت فِي الْمَاضِي وتمزقها فِي الْمُسْتَقْبل شَرّ ممزق

(1/23)


إِذا لم ينتبهوا لخطرها المحدق وشرها المستطير إِن تعجب فَعجب من هَؤُلَاءِ الَّذين يفترون على الدعاة المحايدين عَن التَّقْلِيد الْأَعْمَى والتعصب المذهبي الَّذين يتألمون من وَاقع الْمُسلمين المرير وَوضع الْأمة المتدهور وينادون بوحدة الْأمة بِالرُّجُوعِ إِلَى الْكتاب وَالسّنة والتحاكم إِلَيْهِمَا فِي الْمسَائِل الْمُخْتَلف فِيهَا مَعَ الاحترام وَالتَّقْدِير وَالِاعْتِبَار باجتهادات الْأَئِمَّة ورواد هَذِه الْأمة ويرمونهم بالشذوذ والتقوقع والرجعية والتقهقر وَالِاجْتِهَاد واللامذهبية وعمالة الاستعمار وَالْحَرب على الْمذَاهب والعداوة للأئمة رَحِمهم الله وَذَلِكَ كُله بأقلام من الدكاترة والمشايخ والمحدثين أَيهَا القارىء الْكَرِيم قلي لي بِاللَّه من هُوَ أَحَق بِأَن يَتَّصِف بِتِلْكَ الصِّفَات فِي ضوء مَا مضى ذكره من النزاعات والخلافات بَين المتمذهبين هَكَذَا صَار الْمَعْرُوف مُنْكرا وَالْمُنكر مَعْرُوفا وانعكست المفاهيم واختلت الموازين واحتجبت الْحَقَائِق وَلَكِنِّي أعتقد بِأَنَّهَا لَا تغيب عَن الْمُسلم الْمنصف الْعَادِل مهما حاول المغرضون ... فَلَو لبس الْحمار ثِيَاب خَز ... لقَالَ النَّاس يالك من حمَار ... وَلَقَد أدْرك مدى هَذِه الخلافيات المذهبية بعض المغرضين الَّذين يقدمُونَ أعذارا بَارِدَة لعدم تطبيق الشَّرِيعَة الإسلامية كَمَا نقرأها فِي المجلات والصحف اليومية وَيَقُولُونَ أَن الْمذَاهب مُخْتَلفَة فَلَو طبقت الشَّرِيعَة فعلى أَي مَذْهَب تطبق وَلَا شكّ هَذَا موطن ضعف لَا يُمكن علاجه إِلَّا بِالرُّجُوعِ إِلَى الْكتاب وَالسّنة مَعَ الاستنارة من آراء الْمُجْتَهدين فِي القضايا وترجيحها على الْأُخْرَى حسب قُوَّة الْأَدِلَّة لَا كَثْرَة العاملين المتعصبين لمَذْهَب فِي ميدان تصنيف الْفِقْه الإسلامي

(1/24)


وَإِلَّا يكون عبارَة عَن تجميع آراء الْمذَاهب بأدلتها الْخَاصَّة الَّذِي لَا يخْتَلف عَن الْكتب الْقَدِيمَة للمذاهب شَيْئا كم نتمنى أَن تعد موسوعة فقهية على هَذَا الْمنْهَج السَّلِيم المحايد كي تكون مرجعا موحدا لتلقي الْأَحْكَام فِي الْقَضَاء ودستورا شَرْعِيًّا أقرب مَا يُمكن إِلَى الصَّوَاب وقانونا رسميا يجْتَمع عَلَيْهِ الشّعب كُله وكل هَذَا مُمكن بِأَدْنَى تَوْجِيه من المسئولين القائمين على هَذِه الْأَمَانَة الإسلامية {وَمَا ذَلِك على الله بعزيز} إِبْرَاهِيم 20
بَاب الإجتهاد وأسبابه
لما تغلغل الْمَذْهَب فِي سويداء قُلُوبهم وغرز التَّقْلِيد الجامد براثنه فِي جسم الْأمة وفرطوا فِي الْقيام بالإجتهاد وَفِي الْمسَائِل واعتمدوا على الإحتكام إِلَى مَذْهَب من الْمذَاهب مهما كَانَ دَلِيله قُوَّة وضعفا نادوا بسد بَاب الإجتهاد فِي منتصف الْقرن الرَّابِع بِدُونِ دَلِيل وَبِدُون حق لأسباب تتلخص فِي النقاط التالية ضعف السُّلْطَان السياسي للخلفاء العباسيين مِمَّا أثر فِي حَيَاة الْفِقْه وَالْفُقَهَاء فَلم يَجدوا التشجيع الَّذِي كَانَ يحفزهم على الإنتاج الفقهي تدوين الْمذَاهب وترتيب مسائلها وتبويبها مِمَّا جعل الْفُقَهَاء يركنون إِلَى هَذِه الثروة الْفِقْهِيَّة ويستغنون بهَا عَن الْبَحْث والاستنباط ضعف الثِّقَة بِالنَّفسِ والتهيب من الِاجْتِهَاد مِمَّا جعل الْفُقَهَاء يؤثرون التَّقْلِيد على الْخَوْض فِي ميدان الإجتهاد الْمُطلق إدعاء الإجتهاد مِمَّن لَيْسُوا أَهلا لَهُ فأفتوا بسد بَاب الإجتهاد دفعا لهَذَا

(1/25)


الْفساد وحفظا لدين الله شيوع التحاسد بَين الْعلمَاء مِمَّا جعل الْكثير مِنْهُم يحجم عَن الِاجْتِهَاد خوفًا من أَن يكيد لَهُ أعداؤه ويرموه بالإبتداع فوقفوا عِنْد أَقْوَال الْمُتَقَدِّمين تعْيين الْقُضَاة والمفتين على الْمذَاهب مِمَّا كسر همم الْفُقَهَاء فِي الْخَوْض فِي الْمسَائِل عدم إعتداد الْعَامَّة بإجتهادات الْعلمَاء المعاصرين وثقتهم بالعلماء الْمُتَقَدِّمين خوف الْحُكَّام من اسْتِمْرَار الإجتهاد لما كَانَت تسببه إجتهادات بعض الْمُجْتَهدين لَهُم من تشويش وإحراج وقلق يَتَّضِح جليا بعد إمعان النّظر فِي هَذِه الْأَسْبَاب بِأَن مخاوف الْعلمَاء فِي اسْتِمْرَار الإجتهاد الْتَقت مَعَ رَغْبَة الْحُكَّام والساسة على إغلاق الِاجْتِهَاد وَإِن اخْتلفت الْمَقَاصِد والأهداف وَكَذَلِكَ لَيْسَ من بَين هَذِه العوامل أَي عَامل ديني فِي منع الِاجْتِهَاد
مَتى انسد بَاب الإجتهاد

اخْتلف الْعلمَاء الْقَائِلُونَ بسد بَاب الإجتهاد فِي تعْيين وَقت بَدْء إغلاق بَاب الِاجْتِهَاد قَالَ صَاحب فواتح الرحموت ثمَّ إِن من النَّاس من حكم بِوُجُوب الْخُلُو من بعد الْعَلامَة النَّسَفِيّ واختتم الإجتهاد بِهِ وعنوا الإجتهاد فِي الْمَذْهَب وَأما الإجتهاد الْمُطلق فَقَالُوا

(1/26)


اختتم بالأئمة الْأَرْبَعَة حَتَّى أوجبوا تَقْلِيد وَاحِد من هَؤُلَاءِ على الْأمة وَهَذَا كُله هوس من هوساتهم لم يَأْتُوا بِدَلِيل وَلَا يعبأ بكلامهم وَإِنَّمَا هم من الَّذين حكم الحَدِيث أَنهم أفتوا بِغَيْر علم فضلوا وأضلوا وَلم يفهموا أَن هَذَا إِخْبَار بِالْغَيْبِ فِي خمس لَا يعلمهُنَّ إِلَّا الله تَعَالَى وَذكر ابْن حزم وَابْن قيم الجوزية قَول طَائِفَة قَالَت لَيْسَ لأحد أَن يخْتَار بعد أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف وَزفر بن الْهُذيْل وَمُحَمّد بن الْحسن وَالْحسن بن زِيَاد اللؤْلُؤِي وَهَذَا قَول كثير من الْحَنَفِيَّة وَقَالَ بكر بن الْعَلَاء الْقشيرِي الْمَالِكِي لَيْسَ لأحد أَن يخْتَار بعد الْمِائَتَيْنِ من الْهِجْرَة وَقَالَ آخَرُونَ لَيْسَ لأحد أَن يخْتَار بعد الْأَوْزَاعِيّ وسُفْيَان الثَّوْريّ ووكيع بن الْجراح وعبد الله بن الْمُبَارك وَقَالَت طَائِفَة لَيْسَ لأحد أَن يخْتَار بعد الشَّافِعِي وَاخْتلفُوا مَتى انسد بَاب الإجتهاد على أَقْوَال كَثِيرَة مَا أنزل الله بهَا من سُلْطَان وَمِمَّا يَتَرَتَّب على فَتْوَى سد بَاب الإجتهاد أَنه يجوز خلو الْعَصْر من الْمُجْتَهد وَذهب إِلَيْهِ الْآمِدِيّ وَابْن الْحَاجِب والكمال بن الْهمام وَابْن السُّبْكِيّ والبهاري وَغَيرهم

(1/27)


وَقَالَ الرَّافِعِيّ الْخلق كالمتفقين على أَنه لَا مُجْتَهد الْيَوْم وَقَالَ الزَّرْكَشِيّ وَلَعَلَّه أَخذه من كَلَام الرَّازِيّ أَو من قَول الْغَزالِيّ فِي الْوَسِيط حَيْثُ صرح قَائِلا قد خلا الْعَصْر عَن الْمُجْتَهد المستقل ثمَّ عقب على ذَلِك وَقَالَ وَنقل الِاتِّفَاق عَجِيب وَالْمَسْأَلَة خلافية بَيْننَا وَبَين الْحَنَابِلَة وساعدهم بعض أَئِمَّتنَا وَقَالَ الْحَنَابِلَة بِعَدَمِ جَوَاز خلو الْعَصْر عَن الْمُجْتَهد وَقَالَ ابْن بدران ذهب أَصْحَابنَا إِلَى أَنه لَا يجوز خلو الْعَصْر عَن مُجْتَهد وَإِلَى ذَلِك ذهب طوائف وَلم يذكر ابْن عقيل خلاف هَذَا إِلَّا عَن بعض الْمُحدثين
ردود الْعلمَاء على سد بَاب الإجتهاد

إِن سد بَاب الإجتهاد على الْعلمَاء الْأَكفاء من جنايات التَّقْلِيد على الْأمة قَالَ الشَّوْكَانِيّ فَإِن هَذِه الْمقَالة بخصوصها أَعنِي انسداد بَاب الإجتهاد لَو لم يحدث من مفاسد التَّقْلِيد إِلَّا هِيَ لَكَانَ فِيهَا كِفَايَة وَنِهَايَة فَإِنَّهَا حَادِثَة رفعت الشَّرِيعَة بأسرها استلزمت نسخ كَلَام الله وَرَسُوله وَتَقْدِيم غَيرهمَا واستبدال غَيرهمَا بهما ... يَا ناعي الْإِسْلَام قُم وانعه ... قد زَالَ عرف وبدا مُنكر ...

(1/28)


وَقد رد الْعلمَاء على هَذِه الْمقَالة فِي كل عصر وإليكم بَيَان وجهات نظرهم حول سد بَاب الإجتهاد بِاخْتِصَار نصا أَو إِشَارَة قَالَ أَبُو الْحسن عَليّ بن عمر الْمَعْرُوف بِابْن الْقصار الْمَالِكِي الْبَغْدَادِيّ ت 397 هـ فِي كِتَابه الْمُقدمَة فِي أصُول الْفِقْه الْبَاب التَّاسِع عشر فِي الإجتهاد وَفِيه تِسْعَة فُصُول ثمَّ قَالَ الثَّالِث فِيمَن يتَعَيَّن عَلَيْهِ الإجتهاد أفتى أَصْحَابنَا رَضِي الله عَنْهُم بِأَن الْعلم على قسمَيْنِ فرض عين وَفرض كِفَايَة فَفرض الْعين الْوَاجِب على كل أحد هُوَ علمه بحالته الَّتِي هُوَ فِيهَا وَأما فرض الْكِفَايَة الْعلم الَّذِي لَا يتَعَلَّق بِحَالَة الْإِنْسَان فَيجب على الْأمة أَن تكون مِنْهُم طَائِفَة يتفقهون فِي الدّين ليكونوا قدوة للْمُسلمين حفظا للشَّرْع من الضّيَاع وَالَّذِي يتَعَيَّن لهَذَا من النَّاس من جاد حفظه وَحسن إِدْرَاكه وَطَابَتْ سجيته وَمن لَا فَلَا وَقَالَ أَبُو الْحسن عَليّ بن مُحَمَّد الْمَاوَرْدِيّ ت 405 هـ التَّقْلِيد مُخْتَلف باخْتلَاف أَحْوَال النَّاس بِمَا فيهم من آلَة الِاجْتِهَاد الْمُؤَدِّي إِلَيْهِ أَو عَدمه لِأَن طلب الْعلم من فروض الْكِفَايَة وَلَو منع جَمِيع النَّاس من التَّقْلِيد وكلفوا الِاجْتِهَاد لتعين فرض الْعلم على الكافة وَفِي هَذَا اختلال نظام وَفَسَاد فَلَو كَانَ يجمعهُمْ التَّقْلِيد لبطل الِاجْتِهَاد وَسقط فرض الْعلم وَفِي هَذَا تَعْطِيل الشَّرِيعَة وَذَهَاب الْعلم فَلذَلِك وَجب الِاجْتِهَاد على من تقع بِهِ الْكِفَايَة قَالَ أَبُو مُحَمَّد عَليّ بن حزم الأندلسي الظَّاهِرِيّ ت 456 هـ بعد نقل قَوْلهم

(1/29)


لَيْسَ لأحد أَن يخْتَار فأقوال فِي غَايَة الْفساد وَكيد للدّين لإخفاء بِهِ وضلال مغلق وَكذب على الله تَعَالَى إِذْ نسبوا ذَلِك إِلَيْهِ أَو دين جَدِيد أتونا بِهِ من عِنْد أنفسهم لَيْسَ من دين مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي شَيْء وَهِي كَمَا نرى متدافعة متفاسدة ودعاوي متفاضحة متكاذبة لَيْسَ بَعْضهَا بِأولى من بعض وَلَا بَعْضهَا أَدخل فِي الضَّلَالَة والحمق من بعض وَقَالَ القَاضِي حُسَيْن بن مُحَمَّد بن أَحْمد الْمروزِي ت 462 هـ نقلا عَن الزبير فِي المسكت لن تَخْلُو الأَرْض من قَائِم لله بِالْحجَّةِ فِي كل وَقت وعهد وزمان وَذَلِكَ قَلِيل فِي كثير فَأَما أَن يكون غير مَوْجُود كَمَا قَالَ الْخصم فَلَيْسَ بصواب لِأَنَّهُ لَو عدم المجتهدون لم تقم الفراض كلهَا وَلَو بطلت الفراض كلهَا لحلت النقمَة بذلك فِي الْخلق وَقَالَ ابْن عقيل الْحَنْبَلِيّ ت 514 هـ لم يذكر خلاف هَذَا أَي خلاف عدم جَوَاز خلو الْعَصْر عَن مُجْتَهد فِي أَصْحَابنَا إِلَّا عَن بعض الْمُحدثين وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد الْحُسَيْن بن مَسْعُود اللّغَوِيّ الْمَعْرُوف بِابْن الْفراء ت 516 هـ

(1/30)


الْعلم يَنْقَسِم إِلَى فرض عين وَفرض كِفَايَة وَذكر فرض الْعين ثمَّ قَالَ وَفرض الْكِفَايَة هُوَ أَن يتَعَلَّم مَا يبلغ رُتْبَة الِاجْتِهَاد وَمحل الْفَتْوَى وَالْقَضَاء وَيخرج من عداد المقلدين فعلى كَافَّة النَّاس الْقيام بتعلمه غير أَنه إِذا قَامَ من كل نَاحيَة وَاحِد أَو اثْنَان سقط الْفَرْض عَن البَاقِينَ فَإِذا قعد الْكل عَن تعلمه عصوا جَمِيعًا لما فِيهَا من تَعْطِيل أَحْكَام الشَّرْع قَالَ الله تَعَالَى {فلولا نفر من كل فرقة مِنْهُم طَائِفَة ليتفقهوا فِي الدّين} التَّوْبَة 122 وَقَالَ أَبُو الْفَتْح أَحْمد بن عَليّ بن مُحَمَّد الْمَعْرُوف بِابْن برهَان ت 520 هـ الْبَارِي سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَادر على التَّنْصِيص على حكم الْحَوَادِث والوقائع وَلم يفعل وَلَكِن نَص على أصُول ورد معرفَة الحكم فِي الْفُرُوع إِلَى النّظر وَالِاجْتِهَاد قَالَ أَبُو الْفَتْح مُحَمَّد بن عبد الكريم الشهرستاني ت 548 هـ ثمَّ الِاجْتِهَاد من فروض الكفايات لَا من فروض الْأَعْيَان حَتَّى إِذا اشْتغل بتحصيله وَاحِد سقط الْفَرْض عَن الْجَمِيع وَإِن قصر فِيهِ أهل عصر عصوا بِتَرْكِهِ وأشرفوا على خطر عَظِيم فَإِن الْأَحْكَام الاجتهادية إِذا كَانَت مرتبَة على الِاجْتِهَاد وترتيب الْمُسَبّب على السَّبَب وَلم يُوجد السَّبَب كَانَت الْأَحْكَام عاطلة فَلَا بُد إِذن من مُجْتَهد قَالَ السُّيُوطِيّ فَانْظُر كَيفَ حكم بعصيان أهل الْعَصْر بأسرهم إِذا قصروا فِي الْقيام بِهَذَا الْفَرْض وَأقَام على فرضيته دَلِيلا عقليا قَطْعِيا لَا شُبْهَة فِيهِ

(1/31)


وَقَالَ الْعِزّ بن عبد السلام ت 660 هـ شرحا لقَوْل ابْن الْحَاجِب إِنَّه لَا يجوز تَوْلِيَة الْمُقَلّد الْبَتَّةَ وَيرى هَذَا الْقَائِل أَن رُتْبَة الإجتهاد مَقْدُور على تَحْصِيلهَا وَهِي شَرط فِي الْفَتْوَى وَالْقَضَاء وَهِي مَوْجُودَة إِلَى الزَّمَان الَّذِي أخبر صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَنهُ بِانْقِطَاع الْعلم وَلم نصل إِلَيْهِ إِلَى الْآن وَإِلَّا كَانَت الْأمة مجتمعة على الْخَطَأ وَذَلِكَ بَاطِل وَقَالَ السُّيُوطِيّ مُعَلّقا عَلَيْهِ فَانْظُر كَيفَ صرح بِأَن رُتْبَة الِاجْتِهَاد غير متعذرة وَإِنَّهَا بَاقِيَة إِلَى زَمَانه وَبِأَنَّهُ يلْزم من فقدها اجْتِمَاع الْأمة على الْبَاطِل وَهُوَ محَال وَقَالَ مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم الْأنْصَارِيّ الْمَعْرُوف بِابْن سراقَة الشَّافِعِي ت 662 هـ وَلَو كَانَ جَمِيع الْعلم جليا لَا يحْتَاج إِلَى بحث واجتهاد وَلَا إِلَى نظر واستنباط لَكَانَ علم التَّوْحِيد كَذَلِك فَكَانَ الْعلم بِاللَّه سُبْحَانَهُ ضَرُورَة وَكَانَ فِي ذَلِك سُقُوط المثوبة وَإِبْطَال الشَّرِيعَة وَاسْتغْنى عَن الْعَمَل لطلب الثَّوَاب وَخَوف الْعقَاب وَهَذِه صفة الْآخِرَة وَحكم بَقَاء الْخلق فِي الْجنَّة قَالَ السُّيُوطِيّ مُعَلّقا عَلَيْهِ فَانْظُر كَيفَ جعل ترك الإجتهاد مُؤديا إِلَى إبِْطَال الشَّرِيعَة وَهُوَ نَظِير مَا نَص عَلَيْهِ غَيره قَالَ يحيى بن شرف النَّوَوِيّ ت 676 هـ الْمُجْتَهد الْمُطلق هُوَ الَّذِي يتَأَدَّى بِهِ فرض الْكِفَايَة

(1/32)


وَقَالَ أَيْضا بعد ذكر آدَاب المتعلم فبذلك تظهر لَهُ الْحَقَائِق وتنكشف المشكلات ويطع على الغوامض وَحل المعضلات وَيعرف مَذَاهِب الْعلمَاء وَالرَّاجِح من الْمَرْجُوح ويرتفع عَن الجمود على مَحْض التَّقْلِيد ويلتحق بالأئمة الْمُجْتَهدين أَو يقاربهم إِن وفْق لذَلِك وَقَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد ت 702 هـ وَالْأَرْض مَا تَخْلُو من قَائِم لله بِالْحجَّةِ وَالْأمة الشَّرِيفَة لَا بُد فِيهَا من سالك إِلَى الْحق على وَاضح المحجة إِلَى أَن يَأْتِي أَمر الله فِي أَشْرَاط السَّاعَة الْكُبْرَى ويتتابع بعده مَا لَا يبْقى مَعَه إِلَّا قدوم الْأُخْرَى وَقَالَ أَحْمد بن عبد الحليم بن تَيْمِية ت 728 هـ بعد ذكر من يَقُول بِوُجُوب التَّقْلِيد بعد عصر أبي حنيفَة وَمَالك مُطلقًا وَالَّذِي عَلَيْهِ جَمَاهِير الْأمة أَن الِاجْتِهَاد جَائِز فِي الْجُمْلَة والتقليد جَائِز فِي الْجُمْلَة لَا يوجبون الِاجْتِهَاد على كل أحد ويحرمون التَّقْلِيد وَلَا يوجبون التَّقْلِيد على كل أحد ويحرمون الِاجْتِهَاد وَأَن الِاجْتِهَاد جَائِز للقادر على الِاجْتِهَاد والتقليد جَائِز للعاجز عَن الِاجْتِهَاد وَقَالَ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن أَحْمد الذَّهَبِيّ ت 748 هـ يَا مقلد وَيَا من زعم أَن الإجتهاد قد انْقَطع وَمَا بَقِي مُجْتَهد لَا حَاجَة لَك فِي الِاشْتِغَال بأصول الْفِقْه وَلَا فَائِدَة فِي أصُول الْفِقْه إِلَّا لمن يصير مُجْتَهدا بِهِ فَإِذا عرفه وَلم يفك تَقْلِيد إِمَامه لم يصنع شَيْئا بل أتعب نَفسه وَركب على نَفسه الْحجَّة فِي

(1/33)


مسَائِل وَإِن كَانَ يَقْرَؤُهُ لتَحْصِيل الوضائف وليتعال فَهَذَا من الوبال وَقَالَ شمس الدّين مُحَمَّد بن أبي بكر الْمَعْرُوف بِابْن الْقيم ت 751 هـ بصدد الرَّد على التَّقْلِيد وَهَذِه بِدعَة قبيحة حدثت فِي الْأمة لم يقل بهَا أحد من أَئِمَّة الْإِسْلَام وهم أَعلَى مرتبَة وَأجل قدرا وَأعلم بِاللَّه وَرَسُوله من أَن يلزموا النَّاس بذلك وَأبْعد مِنْهُ قَول من قَالَ يلْزمه أَن يتمذهب بِمذهب عَالم من الْعلمَاء وَأبْعد مِنْهُ من قَالَ يلْزمه أَن يتمذهب بِأحد الْمذَاهب الْأَرْبَعَة فيا لله الْعجب مَاتَت مَذَاهِب أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ومذاهب التَّابِعين وتابعيهم وَسَائِر أَئِمَّة الْإِسْلَام وَبَطلَت جملَة إِلَّا مَذَاهِب أَرْبَعَة أنفس فَقَط من بَين سَائِر الْأَئِمَّة وَالْفُقَهَاء هَل قَالَ ذَلِك أحد من الْأَئِمَّة أَو دَعَا إِلَيْهِ أَو دلّت عَلَيْهِ لَفْظَة وَاحِدَة من كَلَامه عَلَيْهِ وَالَّذِي أوجبه الله تَعَالَى وَرَسُوله على الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وتابعيهم هُوَ الَّذِي أوجبه عَليّ من بعدهمْ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة لَا يخْتَلف الْوَاجِب وَلَا يتبدل وَإِن اخْتلفت كيفيته أَو قدره باخْتلَاف الْقُدْرَة وَالْعجز وَالزَّمَان وَالْمَكَان وَالْحَال فَهَذَا أَيْضا تَابع لما أوجبه الله وَرَسُوله وَقَالَ أَيْضا إِن المقلدين حكمُوا على الله قدرا وَشرعا بالحكم الْبَاطِل جهارا الْمُخَالف لما أخبر بِهِ رَسُوله فأخلوا الأَرْض من القائمين لله بحججه وَقَالُوا لم يبْق فِي الأَرْض عَالم مُنْذُ الاعصار الْمُتَقَدّمَة فَقَالَت طَائِفَة لَيْسَ لأحد أَن يخْتَار بعد أبي حنيفَة وَقَالَ تَاج الدّين بن السُّبْكِيّ ت 771 هـ فِي الترشيح

(1/34)


قَالَ لي الشَّيْخ شهَاب الدّين بن النَّقِيب جَلَست بِمَكَّة بَين طَائِفَة من الْعلمَاء وقعدنا نقُول لَو قدر الله تَعَالَى بعد الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة فِي هَذَا الزَّمَان مُجْتَهدا عَارِفًا بمذاهبهم أَجْمَعِينَ ويركب لنَفسِهِ مذهبا من الْأَرْبَعَة بعد اعْتِبَار هَذِه الْمذَاهب الْمُخْتَلفَة كلهَا لازدان الزَّمَان بِهِ وانقاد النَّاس لَهُ فاتفق رَأينَا أَن هَذِه الرُّتْبَة لَا تعدو الشَّيْخ تَقِيّ الدّين السُّبْكِيّ وَلَا يَنْتَهِي لَهَا سواهُ وَقَالَ بهاء الدّين مُحَمَّد بن عبد البر السُّبْكِيّ ت 777 هـ وشتان بَين أجر من يَأْتِي بِالْعبَادَة لفتوى لَهُ إِنَّهَا وَاجِبَة أَو سنة وَمن يَأْتِي بهَا وَقد ثلج صَدره عَن الله وَرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَن ذَلِك كَذَلِك وَهَذَا لَا يَصح إِلَّا بالإجتهاد وَالنَّاس فِي حضيض عَن ذَلِك إِلَّا من تغلغل بأصول الْفِقْه وكرع من مناهله الصافية وَقَالَ أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن مُوسَى الشاطبي ت 790 هـ إِن الوقائع فِي الْوُجُود لَا تَنْحَصِر فَلَا يَصح دُخُولهَا تَحت الْأَدِلَّة المنحصرة وَلذَلِك احْتِيجَ إِلَى فتح بَاب الِاجْتِهَاد من الْقيَاس وَغَيره فَلَا بُد من حُدُوث وقائع لَا تكون مَنْصُوص على حكمهَا وَلَا يُوجد للأولين فِيهِ اجْتِهَاد وَعند ذَلِك فإمَّا أَن يتْرك النَّاس مَعَ أهوائهم أَو ينظر فِيهَا بِغَيْر اجْتِهَاد شَرْعِي وَهُوَ أَيْضا اتِّبَاع للهوى وَذَلِكَ كُله فَسَاد فَلَا يكون بُد من التَّوَقُّف لَا إِلَى غَايَة وَهُوَ معنى تَعْطِيل التَّكْلِيف لُزُوما وَهُوَ مؤد إِلَى تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق فَإِذا لَا بُد من الإجتهاد فِي كل زمَان لِأَن الوقائع الْمَفْرُوضَة لَا تخْتَص بِزَمَان دون زمَان

(1/35)


وَقَالَ الزَّرْكَشِيّ ت 794 هـ لما لم يكن بُد مِمَّن يعرف حكم الله فِي الوقائع وتعرف ذَلِك بِالنّظرِ غير وَاجِب على التَّعْيِين فَلَا بُد أَن يكون وجود الْمُجْتَهد من فروض الْكِفَايَة وَلَا بُد أَن يكون فِي كل قطر من تقوم بِهِ الْكِفَايَة وَلِهَذَا قَالُوا إِن الإجتهاد من فروض الكفايات وَقَالَ أَيْضا لَا يشْتَرط فِي الْمُجْتَهد أَن يكون مَشْهُورا فِي الْقَبَائِل لِأَن الْعبْرَة بِمَا فِيهِ من الصِّفَات لَا بشهرته وَلَا يشْتَرط أَن يكون صَاحب مَذْهَب بل قَوْله مهما علم أَنه مُجْتَهد مَقْبُول وَقَالَ أَحْمد بن مُحَمَّد الدمنهوري ت 806 هـ لَا ينْتَفع إِلَّا من رفع الله عَن قلبه حجاب التَّقْلِيد فَإِنَّهُ سَبَب لحرمان كل خير وسائق لَك عواقة بل أَكثر مَا وَقع الْخلق فِي الْكفْر والنفاق مِنْهُ كَمَا أخبر الله تَعَالَى عَنْهُم {بل قَالُوا إِنَّا وجدنَا آبَاءَنَا على أمة وَإِنَّا على آثَارهم مهتدون} الزخرف 22 {وَإِنَّا على آثَارهم مقتدون} الزخرف 23 {قَالَت لَهُم رسلهم} {أولو جِئتُكُمْ بأهدى مِمَّا وجدْتُم عَلَيْهِ آبَاءَكُم قَالُوا إِنَّا بِمَا أرسلتم بِهِ كافرون} الزخرف 24 وَذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ من ربط الْجَهْل على قُلُوبهم وربط التَّقْلِيد على أفهامهم حَتَّى يدبروا مَا يُقَال لَهُم ويستنكفوا عَمَّن يرشدهم لظنهم الْفَاسِد أَنه لَا يُمكن أَن يكون الْمُتَأَخر أفضل من الْمُتَقَدّم ويعتقدون أَن ذَلِك من قبيل المستحيل وَلم يعلمُوا أَن مواهب الله تَعَالَى لَا تَنْقَطِع

(1/36)


وفيض جوده لَا ينْفد وَإِنَّمَا حرم ذَلِك من حرمه وَقَالَ عز الدّين بن جمَاعَة ت 819 هـ إِحَالَة أهل زَمَاننَا وجود الْمُجْتَهد يصدر عَن جبن مَا وَإِلَّا فكثيرا مَا يكون الْقَائِلُونَ لذَلِك من الْمُجْتَهدين وَمَا الْمَانِع من فضل الله واختصاص بعض الْفَيْض والوهب وَالعطَاء بِبَعْض أهل الصفوة وَقَالَ مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم الْمَعْرُوف بالوزير الْيَمَانِيّ ت 840 هـ فَإِذا تقرر أَن الْمَوَاهِب الربانية لَا تَنْتَهِي إِلَى حد والعطايا اللدنية لَا تقف على مِقْدَار لم يحسن من الْعَاقِل أَن يقطع على الْخلق بتعسير مَا الله قَادر على تيسيره فيقنط بِكَلَامِهِ طامعا ويتحجر من فضل الله وَاسِعًا بل يخلي بَين النَّاس وَبَين هممهم وطمعهم فِي فضل الله عَلَيْهِم حَتَّى يصل كل أحد إِلَى مَا قسمه الله تَعَالَى من الْحَظ فِي الْفَهم وَالْعلم وَسَائِر أَفعَال الْخَيْر وَهَذَا مِمَّا لَا يفْتَقر إِلَى حجاج لَوْلَا أهل المراء واللجاج وَقَالَ جلال الدّين عبد الرحمن بن أبي بكر السُّيُوطِيّ ت 911 هـ فِي مُقَدّمَة كِتَابه الرَّد على من أخلد إِلَى الأَرْض وَبعد فَإِن النَّاس قد غلب عَلَيْهِم الْجَهْل وعمهم وَأَعْمَاهُمْ حب العناد وأصمهم فاستعظموا دَعْوَى الإجتهاد وعدوه مُنْكرا بَين الْعباد وَلم يشْعر هَؤُلَاءِ الجهلة إِن الِاجْتِهَاد فرض من فروض الكفايات فِي كل عصر وواجب على أهل كل زمَان أَن يقوم بِهِ طَائِفَة فِي كل قطر وَهَذَا كتاب فِي تَحْقِيق ذَلِك

(1/37)


وَقَالَ مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل الْمَعْرُوف بالأمير الصَّنْعَانِيّ ت 1182 هـ فَالْحق الَّذِي لَيْسَ عَلَيْهِ غُبَار الحكم بسهولة الإجتهاد فِي هَذِه الْأَعْصَار وَإنَّهُ أسهل مِنْهُ فِي الْأَعْصَار الخالية لمن لَهُ فِي الدّين همة عالية ورزقه الله فهما صافيا وفكرا صَحِيحا ونباهة فِي علمي السّنة وَالْكتاب ثمَّ قَالَ تَقول تعذر الِاجْتِهَاد مَا هَذَا وَالله إِلَّا من كفران النِّعْمَة وجحودها والإخلاد إِلَى ضعف الهمة وركودها إِلَّا أَنه لَا بُد مَعَ ذَلِك أَولا من غسل فكرته عَن أدران العصبية وَقطع مَادَّة الوساوس المذهبية وسؤال لِلْفَتْحِ من الفتاح الْعَلِيم وَتعرض لفضل الله فَإِن الْفضل بيد الله يؤتيه من يَشَاء وَالله ذُو الْفضل الْعَظِيم فالعجب كل الْعجب بِمن يَقُول يتَعَذَّر الإجتهاد فِي هَذِه الْأَعْصَار وَإنَّهُ محَال مَا هَذَا إِلَّا منع لما بَسطه الله من فَضله لفحول الرِّجَال واستبعاد لما خرج من يَدَيْهِ واستصعاب لما لم يكن لَدَيْهِ وَكم للأئمة الْمُتَأَخِّرين من استنباطات رائقة واستدلالات صَادِقَة مَا حام حولهَا الْأَولونَ وَلَا عرفهَا مِنْهُم الناظرون وَلَا دارت فِي بصائر المستبصرين وَلَا جالت فِي أفكار المفكرين وَقَالَ مُحَمَّد بن عَليّ الشَّوْكَانِيّ ت 1250 هـ 2 بعد مَا نقل قَول الرَّافِعِيّ فِي الِاتِّفَاق على انه لَا مُجْتَهد الْيَوْم وَإِذا أمعنت النّظر وجدت هَؤُلَاءِ المنكرين إِنَّمَا أَتَوا من قبل أنفسهم فَإِنَّهُم لما عكفوا على التَّقْلِيد وَاشْتَغلُوا بِغَيْر علم الْكتاب وَالسّنة وحكموا على غَيرهم بِمَا وَقَعُوا فِيهِ واستصعبنا مَا سهله الله عَليّ من رزقه الْعلم والفهم وأفاض على قلبه أَنْوَاع عُلُوم الْكتاب وَالسّنة وَلما كَانَ هَؤُلَاءِ الَّذين صَرَّحُوا بِعَدَمِ وجود الْمُجْتَهدين شافعية فها نَحن نصرح لَك من وجد من الشَّافِعِيَّة بعد عصرهم مِمَّن لَا يُخَالف

(1/38)


مُخَالف فِي أَنه جمع أَضْعَاف عُلُوم الإجتهاد فَمنهمْ ابْن عبد السلام وتلميذه ابْن دَقِيق الْعِيد ثمَّ تِلْمِيذه ابْن سيد النَّاس ثمَّ تِلْمِيذه زين الدّين الْعِرَاقِيّ ثمَّ تِلْمِيذه ابْن حجر الْعَسْقَلَانِي ثمَّ تِلْمِيذه السُّيُوطِيّ فَهَؤُلَاءِ سِتَّة أَعْلَام كل وَاحِد مِنْهُم تلميذ من قبله قد بلغُوا من المعارف العلمية مَا يعرفهُ من يعرف مصنفاتهم حق مَعْرفَتهَا وكل وَاحِد مِنْهُم إِمَام كَبِير فِي الْكتاب وَالسّنة مُحِيط بعلوم الإجتهاد إحاطة متضاعفة عَالم بعلوم خَارِجَة عَنْهَا ثمَّ فِي المعاصرين لهَؤُلَاء كثير من المماثلين لَهُم وَجَاء بعدهمْ من لَا يقصر عَن بُلُوغ مَرَاتِبهمْ والتعداد لبعهضم فضلا عَن كلهم يحْتَاج إِلَى بسط طَوِيل وَقد قَالَ الزَّرْكَشِيّ فِي الْبَحْر مَا لَفظه وَلم يخْتَلف اثْنَان فِي أَن ابْن عبد السلام بلغ رُتْبَة الِاجْتِهَاد وَكَذَلِكَ ابْن دَقِيق الْعِيد انْتهى وَهَذَا الْإِجْمَاع من هَذَا الشَّافِعِي يَكْفِي فِي مُقَابلَة حِكَايَة الِاتِّفَاق من ذَلِك الشَّافِعِي الرَّافِعِيّ ثمَّ قَالَ وَمَا هَذِه بِأول فاقرة جَاءَ بهَا المقلدون وَلَا هِيَ أول مقَالَة بَاطِلَة قَالَهَا المقصرون وَمن حصر فضل الله على بعض خلقه وَقصر فهم هَذِه الشَّرِيعَة المطهرة على من تقدم عصره فقد تجرأ على الله عز وَجل ثمَّ على شَرِيعَته الْمَوْضُوعَة لكل عبَادَة ثمَّ على عباده الَّذين تعبدهم الله بِالْكتاب وَالسّنة ويالله الْعجب من مقالات هِيَ جهالات وضلالات فَإِن هَذِه الْمقَالة تَسْتَلْزِم رفع التَّعَبُّد بِالْكتاب وَالسّنة وَأَنه لم يبْق إِلَّا تَقْلِيد الرِّجَال الَّذين هم متعبدون بِالْكتاب وَالسّنة كتعبد من جَاءَ بعدهمْ على حد سَوَاء فَإِن كَانَ التَّعَبُّد بِالْكتاب وَالسّنة مُخْتَصًّا بِمن كَانُوا فِي العصور السَّابِقَة وَلم يبْق لهَؤُلَاء إِلَى التَّقْلِيد لمن تقدمهم وَلَا يتمكنون من معرفَة أَحْكَام الله من كتاب الله وَسنة رَسُوله فَمَا

(1/39)


الدَّلِيل على هَذِه التَّفْرِقَة الْبَاطِلَة والمقالة الزائفة وَهل النّسخ إِلَّا هَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بهتان عَظِيم وَقَالَ عبد القادر بن أَحْمد الْمَعْرُوف بِابْن بدران الدِّمَشْقِي قد أَطَالَ الْعلمَاء النَّفس فِي هَذَا الْمَوْضُوع وَأورد كل من الْفَرِيقَيْنِ حجَجًا وأدلة وَكَأن الْقَائِلين بِجَوَاز خلو عصر عَن مُجْتَهد قاسوا جَمِيع عُلَمَاء الْأمة على أنفسهم وخيلوا لَهَا أَنه لَا أحد يبلغ أَكثر من مبلغهم من الْعلم ثمَّ رازوا انفسهم فوجدوها سَاقِطَة فِي الدَّرك الْأَسْفَل من التَّقْلِيد فمنعوا فضل الله تَعَالَى وَقَالُوا لَا يُمكن وجود مُجْتَهد فِي عصرنا الْبَتَّةَ بل غلا أَكْثَرهم فَقَالَ لَا مُجْتَهد بعد الأربعمائة من الْهِجْرَة وينحل كَلَامهم هَذَا أَن فضل الله كَانَ مدرارا على أهل العصور الْأَرْبَعَة ثمَّ أَنه نضب فَلم يبْق مِنْهُ قَطْرَة تنزل على الْمُتَأَخِّرين مَعَ أَن فضل الله لَا ينضب وعطاؤه ومدده لَا يقفان عِنْد الْحَد الَّذِي حدده أُولَئِكَ وَقَالَ أَحْمد مُحَمَّد شَاكر القَوْل بِمَنْع الِاجْتِهَاد قَول بَاطِل لَا برهَان عَلَيْهِ من كتاب وَلَا سنة وَلَا تَجِد لَهُ شبه دَلِيل وَقَالَ مُحَمَّد مصطفى المراغي شيخ الْجَامِع الْأَزْهَر الأسبق فِي بَحثه عَن الإجتهاد فِي الْإِسْلَام وَإِنِّي مَعَ احترامي لرأي الْقَائِلين باستحالة الإجتهاد أخالفهم فِي رَأْيهمْ وَأَقُول إِن فِي عُلَمَاء الْمعَاهد الدِّينِيَّة فِي مصر من توافرت فيهم شُرُوط الإجتهاد وَيحرم عَلَيْهِم التَّقْلِيد

(1/40)


وَقَالَ الدكتور وَهبة الزحيلي وَقد أحسن بعض الْعلمَاء كَابْن تَيْمِية والحركات السلفية الحديثة إِذْ قرروا بَقَاء بَاب الإجتهاد مَفْتُوحًا لمن كَانَ أَهلا لَهُ وَنقل أَيْضا عَن مُحَمَّد سعيد الْبَانِي لَا دَلِيل أصلا على سد بَاب الإجتهاد وَإِنَّمَا هِيَ دَعْوَى فارغة وَحجَّة واهنة أوهن من بَيت العنكبوت لِأَنَّهَا غير مستندة إِلَى دَلِيل شَرْعِي أَو عَقْلِي سوري المتوارث وَقَالَ أَيْضا وَالِاجْتِهَاد مُمكن كل الْإِمْكَان الْيَوْم وَلَا صعوبة فِيهِ بِشَرْط أَن ندفن تِلْكَ الأوهام والخيالات ونمزق ذَلِك الران الَّذِي خيم على عقولنا وقلوبنا من رواسب الْمَاضِي وآفات الخمول وَالظَّن الآثم بِعَدَمِ إِمْكَان الْوُصُول إِلَى مَا وصل إِلَيْهِ الْأَولونَ حَتَّى عد ذَلِك كَأَنَّهُ ضرب من المستحيل هَل هُنَاكَ مُسْتَحِيل بعد غَزْو الفضاء واختراع أَنْوَاع الْآلَات الحديثة العجيبة الصنع وَقَالَ الدكتور حسن أَحْمد مرعي أعتقد أَن كل عَاقل يُوجب الِاجْتِهَاد على الْكِفَايَة ليعرف النَّاس مِنْهُ أَحْكَام مَا يقومُونَ بِهِ من أَعمال فِي هَذِه الْحَيَاة حَتَّى تكون حياتنا سائرة فِي ركاب الدّين وَإِذا كُنَّا نؤمن بخلو الزَّمَان عَن الْمُجْتَهد فَلم هَذِه الاجتماعات لفقهاء الْعَالم الإسلامي مرّة فِي الْقَاهِرَة وَأُخْرَى فِي لاهور وثالثة فِي مَكَّة ورابعة فِي الرياض وَغَيرهَا وَغَيرهَا

(1/41)


كَانَ يكفينا مَا بَين أَيْدِينَا من كتب وتراث وَلَكِن الْحَيَاة متجددة والأعراف مُخْتَلفَة والعقول مُتَفَاوِتَة فاجتماعتنا هَذِه دَلِيل حَتَّى على أَنه لَا زَالَ ركب الْمُجْتَهدين يتتابع وسيظل هَذَا إِن شَاءَ الله حَتَّى يَأْذَن الله بِفنَاء هَذَا الْعَالم وَقَالَ مُحَمَّد أَبُو زهرَة إِن قَضِيَّة فتح بَاب الإجتهاد فِي الْمَذْهَب الْحَنْبَلِيّ قَضِيَّة تضافرت عَلَيْهَا أَقْوَال الْمُتَأَخِّرين وأقوال الْمُتَقَدِّمين حَتَّى لقد قَالَ ابْن عقيل من مُتَقَدِّمي الْفُقَهَاء فِي ذَلِك الْمَذْهَب الْجَلِيل إِنَّه لَا يعرف خلافًا فِيهِ بَين الْمُتَقَدِّمين ثمَّ قَالَ وَإِذا كَانَ الإجتهاد مَفْتُوحًا وَإِذا كَانَ الْعلية من أَصْحَاب أَحْمد وَأَتْبَاعه قد استنكروا أَن يَخْلُو زمن من الْمُجْتَهدين المستقلين فَإِن ذَلِك الْمَذْهَب يكون ظلا ظليلا لأحرار الْفِكر من الْفُقَهَاء وَلذَلِك كثر فِيهِ الْعلمَاء الفطاحل فِي كل العصور ثمَّ قَالَ قد أَتَى علينا بعد هَذَا الْعرض أَن نقرر أَن ذَلِك الْمَذْهَب الأثري مَذْهَب فِي عناصر أُصُوله كل الْأَسْبَاب الَّتِي تنميه وَقد وجد رجال علوا بِهِ وَسَارُوا بِهِ إِلَى الطَّرِيق الأمثل فأوجدوا فِيهِ حَيَاة تتسع لأحكام الْحَوَادِث فِي كل الْأَزْمِنَة والأمكنة بعد هَذَا الْعرض السَّرِيع لاحتجاجات بعض الْعلمَاء القدامى والمعاصرين على القَوْل بسد بَاب الإجتهاد أعتقد أَن تبطل دَعْوَى الإتفاق وَالْإِجْمَاع عَلَيْهِ وتزول فكرة الْخَوْف والذعر من أَنه لَيْسَ الشَّجَرَة الملعونة فِي الْقُرْآن كَمَا فهمه الْقَائِلُونَ بذلك بل الإجتهاد واستكمال شَرَائِطه لَيْسَ عسيرا بعد تدوين الْعُلُوم الْمُخْتَلفَة وتعدد المصنفات فِيهَا وتصفية كل دخيل عَلَيْهَا لأجل هَذَا قَالَ الإِمَام الشَّوْكَانِيّ

(1/42)


لَا يخفي على من لَهُ أدنى فهم أَن الإجتهاد قد يسره الله للمتأخرين تيسيرا لم يكن للسابقين لِأَن التفاسير للْكتاب الْعَزِيز قد دونت وَصَارَت فِي الْكَثْرَة إِلَى حد لَا يُمكن حصره وَالسّنة المطهرة قد دونت وَتكلم الْأمة على التَّفْسِير وَالتَّجْرِيح والتصحيح وَالتَّرْجِيح بِمَا هُوَ زِيَادَة على مَا يحْتَاج إِلَيْهِ الْمُجْتَهد وَقد كَانَ السّلف الصَّالح وَمن قبل هَؤُلَاءِ المنكرين يرحل للْحَدِيث الْوَاحِد من قطر إِلَى قطر فالإجتهاد على الْمُتَأَخِّرين أيسر وأسهل من الإجتهاد على الْمُتَقَدِّمين وَلَا يُخَالف فِي هَذَا من لَهُ فهم صَحِيح وعقل سوي
توضيح بعض الْأُمُور المهمة
أُرِيد أَن أوضح بعض الْأُمُور حَتَّى لَا تنشأ الأفكار الْخَاطِئَة لَدَى القاءى الْكَرِيم أَولا إِن الْعلمَاء الَّذين ردوا على القَوْل بإغلاق بَاب الإجتهاد بعد الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة لم يدعوا لأَنْفُسِهِمْ الإجتهاد بل حاولوا الدفاع عَن الْمَوَاهِب الإلهية الَّتِي حظى بهَا الْعلمَاء الفطاحل القادرين على الإجتهاد وَإِخْرَاج الْفِقْه الإسلامي من دَائِرَة محدودة إِلَى ميدان وَاسع فسيح وَذَلِكَ من الاستمداد من فقه الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وأتباعهم وَفقه الْمذَاهب الْأَرْبَعَة وَغَيرهَا من فقه أَئِمَّة الإجتهاد الآخرين ثَانِيًا لَا يَعْنِي الإجتهاد الْآن إِحْدَاث آراء جَدِيدَة لوقائع مستحدثة فَقَط وَإِنَّمَا مجاله أَيْضا النّظر فِي دلَالَة أَدِلَّة الْمذَاهب الْفِقْهِيَّة من حَيْثُ الْقُوَّة والضعف وترجيحها على الْأُخْرَى بِدُونِ تقيد بِمذهب معِين ليجد الباحث عَن الْحق بغيته بِدُونِ أَي تخبط

(1/43)


وَيَا ليتها دونت موسوعة فقهية على هَذَا النهج السديد خلت من رواسب التَّقْلِيد الجامد ورجحت الْمسَائِل فِيهَا قُوَّة على الْأَدِلَّة لَا على أَدِلَّة الْمَذْهَب ضَعِيفَة كَانَت أَو قَوِيَّة حَتَّى لَا تكون نُسْخَة ثَانِيَة من كتب الْفِقْه الْقَدِيمَة وَيكون الباحث عَن الْمَسْأَلَة فِيهَا مشدوها حائرا فِيمَا يتْرك وَفِيمَا يخْتَار وَهَذَا لَا يَتَأَتَّى إِلَّا باستخدام الْعلمَاء الَّذين لَهُم اطلَاع وَاسع على السّنة النَّبَوِيَّة المطهرة وفقهها مَعَ الْعلم بالفقه الْعَام وأصوله ليميز عِنْد الِاسْتِدْلَال على الْمسَائِل بالأحاديث بَين الصَّحِيحَة والضعيفة والموضوعة ثَالِثا لَيْسَ الْمَقْصُود بِهَذَا الْعرض أَن يسمح لكل من هَب ودب أَن يتلاعب بالشريعة باسم الإجتهاد بل الْمَقْصُود أَن لَا يشنع على من زينه الله عز وَجل بِعلم الشَّرِيعَة وفقهها وَلَا يمْنَع بفضله سُبْحَانَهُ على من عِنْده كفاءة للخوض فِي الْمسَائِل وَلَا يتهم بِالْخرُوجِ على الْأَئِمَّة لأجل الِاجْتِهَاد وَلَا يَرْمِي بالشذوذ إِذا خَالف آراء الآخرين بالأدلة لِأَن أَدِلَّة الْكتاب وَالسّنة لَا تكون شَاذَّة بل هِيَ مُسْتَقلَّة بذاتها لَا تحْتَاج إِلَى دَلِيل آخر فالعالم الجهبذ الَّذِي رزقه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فقه الشَّرِيعَة وَالْعلم بأحكامها ترحب أَقْوَاله وآراؤه مهما علم أَنه مُجْتَهد فِي الْمسَائِل وَلَا يشْتَرط لَهُ أَن يكون صَاحب مَذْهَب {ذَلِك فضل الله يؤتيه من يَشَاء وَالله ذُو الْفضل الْعَظِيم} الْجُمُعَة 3 قَالَ مُحَمَّد أَبُو زهرَة وَلَقَد كَانَ ابْن تَيْمِية ينْهَى من عِنْده أدوات الِاجْتِهَاد عَن التَّقْلِيد ويوصي الدارس الفاحص أَن لَا يتبع إِلَّا مَا يوصله إِلَيْهِ الدَّلِيل غير مُعْتَمد على سواهُ وَلَا يتبع غير سَبيله وَأَنه يفتح بَاب الإجتهاد على مصراعيه للقادر عَلَيْهِ وَإِن كَانَ يَسْتَطِيع أَن يجْتَهد فِي بعض أَبْوَاب الْفِقْه دون الْبَعْض الآخر وَسعه أَن يُقَلّد فِيمَا لَا يَسْتَطِيع أَن يجْتَهد فِيهِ وَلَا يَسعهُ التَّقْلِيد فِيمَا يَسْتَطِيع الإجتهاد فِيهِ

(1/44)