إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد

فصل فِي تَعْظِيم السّنَن والانقياد إِلَيْهَا وَترك الإعتراض عَلَيْهَا
ويأتيك قَرِيبا من أَقْوَال الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَغَيرهم مَا يُنَادي على أَنهم لم يحيطوا بالأحاديث النَّبَوِيَّة وَأَنَّهُمْ صَرَّحُوا بِأَن قَوْلهم إِذا خَالف الحَدِيث رددنا قَوْلهم وعملنا بِالْحَدِيثِ قلت وَقد منع أَئِمَّة الدّين مُعَارضَة سنة سيد الْمُرْسلين بأقوال غَيره من الْأَئِمَّة الْمُجْتَهدين

تَعْظِيم الصَّحَابَة للسنن
أَوَّلهمْ حبر الْأمة وبحر علم الْكتاب وَالسّنة عبد الله بن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ فَإِنَّهُ روى الْأَعْمَش عَن فُضَيْل بن عَمْرو عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس قَالَ تمتّع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ عُرْوَة نهى أَبُو بكر وَعمر عَن الْمُتْعَة قَالَ ابْن عَبَّاس أَرَاهُم سيهلكون أَقُول قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَيَقُولُونَ قَالَ أَبُو بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا

(1/137)


وَقَالَ عبد الرزاق حَدثنَا معمر عَن أَيُّوب قَالَ عُرْوَة لِابْنِ عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَلا تتق الله ترخص فِي الْمُتْعَة فَقَالَ ابْن عَبَّاس سل أمك يَا عُرْوَة فَقَالَ عُرْوَة أما أَبُو بكر وَعمر فَلم يفعلا قَالَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ مَا وَالله أَرَاكُم منتهين حَتَّى يعذبكم الله أحدثكُم عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وتحدثونا عَن أبي بكر وَعمر وَفِي صَحِيح مُسلم عَن ابْن أبي مليكَة أَن عُرْوَة بن الزبير قَالَ لرجل من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَأْمر النَّاس بِالْعُمْرَةِ فِي هَؤُلَاءِ الْأَشْهر وَلَيْسَ فِيهَا عمْرَة فَقَالَ أَلا تسْأَل أمك عَن ذَلِك فَقَالَ عُرْوَة إِن أَبَا بكر وَعمر لم يفعلا ذَلِك قَالَ الرجل من هَهُنَا هلكتم مَا أرى الله إِلَّا يعذبكم أحدثكُم عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وتخبروني بِأبي بكر وَعمر وَمُرَاد ابْن عَبَّاس أَن عُرْوَة بن الزبير يسْأَل أمه أَسمَاء بنت أبي بكر فَإِنَّهَا شهِدت حجَّة الْوَدَاع وَولدت فِي سفرها وَمحل الِاسْتِدْلَال قَول ابْن عَبَّاس لَا نقدم على سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَلَام أحد من النَّاس كَائِنا من كَانَ وناهيك بالشيخين رَضِي الله عَنْهُمَا فَإِنَّهُ لَو جَازَ تقدم كَلَام أحد على سنته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَكَانَ أَحَق النَّاس بذلك كَلَام صَاحِبيهِ رَضِي الله عَنْهُمَا وَلَيْسَ كلامنا فِي الْمُتْعَة إِثْبَاتًا وَلَا نفيا فَالْكَلَام على ذَلِك فِي غير هَذَا الْموضع إِنَّمَا مرادنا مَا ذكرنَا

(1/138)


وَأخرج التِّرْمِذِيّ عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه سَأَلَهُ سَائل عَن مُتْعَة الْحَج فَقَالَ ابْن عمر هِيَ حَلَال فَقَالَ لَهُ الرجل إِن أَبَاك قد نهى عَنْهَا فَقَالَ أَرَأَيْت إِن كَانَ أبي نهى عَنْهَا وصنعها رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أأمر أبي أتبع أم أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ الرجل بل أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ لقد صنعها رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَفِي صَحِيح مُسلم إِن ابْن عمر لما حدث أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمرنَا بِالْإِذْنِ للنِّسَاء فِي الْخُرُوج إِلَى الْمَسَاجِد قَالَ بعض أَوْلَاده وَالله لَا نَأْذَن لَهُنَّ وَعلل كَلَامه بِمَا يخْشَى من النِّسَاء إِذا خرجن فأقسم ابْن عمر أَن لَا يكلمهُ وَلما روى أَبُو هُرَيْرَة حَدِيث أَنه لَا يدْخل أحدكُم يَده فِي الْإِنَاء إِذا اسْتَيْقَظَ حَتَّى يغسلهَا ثَلَاثًا قَالَ لَهُ قَائِل فَكيف تصنع بالمهراس فَقَالَ لَا تضربوا بِحَدِيث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْأَمْثَال وَأخرج التِّرْمِذِيّ أَنه قَالَ أَبُو السَّائِب كُنَّا عِنْد وَكِيع فَقَالَ رجل

(1/139)


قدري وَعَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ أَن الْإِشْعَار مثلَة قَالَ فَرَأَيْت وكيعا غضب غَضبا شَدِيدا وَقَالَ أَقُول لَك قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَتقول قَالَ إِبْرَاهِيم مَا أحقك بِأَن تحبس ثمَّ لَا تخرج حَتَّى تنْزع عَن قَوْلك هَذَا وَلَو تتبعنا أَقْوَال الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ لطال الْمقَال واتسع نطاق الْأَقْوَال على أَنه مَعْلُوم من آرائهم أَنهم لَا يقدمُونَ على سنته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَول أحد من الرِّجَال كَيفَ وَهَذَا عمر رَضِي الله عَنهُ لما أَرَادَ أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ قتال مانعي الزَّكَاة لم يساعده أَولا على ذَلِك وَاسْتدلَّ بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أمرت أَن أقَاتل النَّاس حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَه إِلَّا الله فاستدل عَلَيْهِ أَبُو بكر بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا بِحَقِّهَا يُرِيد وَالزَّكَاة من حَقّهَا فانشرح صدر عمر لما أَمر بِهِ أَبُو بكر من قتال مانعي الزَّكَاة

(1/140)


فَلم يقبل عمر قَول أبي بكر حَتَّى أَقَامَ الدَّلِيل على السّنة

تَعْظِيم الْأَئِمَّة للسنن
وَأما الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة فَإِن كلا مِنْهُم مُصَرح بِأَنَّهُ لايقدم قَوْله على قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أما أَبُو حنيفَة رَحمَه الله فَإِنَّهُ قَالَ الشَّيْخ الْعَلامَة مُحَمَّد حَيَاة السندي نزيل طيبَة رَحمَه الله فِي رسَالَته الْمُسَمَّاة تحفة الْأَنَام فِي الْعَمَل بِحَدِيث النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام مَا لَفظه فِي رَوْضَة الْعلمَاء فِي فضل الصَّحَابَة سُئِلَ أَبُو حنيفَة إِذا قلت قولا

(1/141)


وَكتاب الله يُخَالِفهُ قَالَ اتْرُكُوا قولي لكتاب الله فَقيل إِذا كَانَ خبر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخالطه قَالَ اتْرُكُوا قولي لخَبر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقيل لَهُ إِذا كَانَ قَول الصَّحَابَة يُخَالِفهُ قَالَ اتْرُكُوا قولي لقَوْل الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وَقَالَ إِنَّه روى لَهُ الْبَيْهَقِيّ فِي الْمدْخل بِإِسْنَاد صَحِيح إِلَى عبد الله بن الْمُبَارك قَالَ سَمِعت أَبَا حنيفَة يَقُول إِذا جَاءَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فعلى الرَّأْس وَالْعين وَإِذا جَاءَ عَن أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَخْتَار من قَوْلهم وَإِذا جَاءَ عَن التَّابِعين زاحمناهم انْتهى أما الشَّافِعِي رَحمَه الله فَقَالَ الشَّيْخ مُحَمَّد بن حَيَاة روى الْبَيْهَقِيّ فِي السّنَن عِنْد الْكَلَام على الْقِرَاءَة بِسَنَدِهِ قَالَ الشَّافِعِي إِذا قلت قولا وَكَانَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خِلَافه فَمَا يَصح من حَدِيث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أولى فَلَا تقلدوني وَنقل إِمَام الْحَرَمَيْنِ فِي نهايته عَن الشَّافِعِي

(1/142)


إِذا صَحَّ خبر يُخَالف مذهبي فَاتَّبعُوهُ وَاعْلَمُوا أَنه مذهبي وَقَالَ مثل الَّذِي يطْلب الْعلم بِلَا حجَّة كَمثل حَاطِب ليل يحمل حزمة حطب وَفِيه أَفْعَى تلدغه وَهُوَ لَا يدْرِي ذكره الْبَيْهَقِيّ أَيْضا وَأما أَحْمد بن حَنْبَل رَحمَه الله فَقَالَ أَبُو دَاوُد قلت لِأَحْمَد الْأَوْزَاعِيّ هُوَ أتبع أم مَالك كَأَنَّهُ يُرِيد أَكثر اتبَاعا من مَالك فَقَالَ لَا تقلد فِي دينك أحدا من هَؤُلَاءِ مَا جَاءَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه فَخذ بِهِ ثمَّ التَّابِعين بعد الرجل فِيهِ مُخَيّر وَقَالَ أَحْمد أَيْضا لَا تقلدني وَلَا تقلد مَالِكًا ولاالثوري وَلَا الْأَوْزَاعِيّ وَخذ من حَيْثُ أخذُوا وَقَالَ من قلَّة فقه الرجل أَن يُقَلّد دينه الرِّجَال وَقَالَ الشَّافِعِي أجمع النَّاس على أَن من استبانت لَهُ سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يكن لَهُ أَن يَدعهَا لقَوْل أحدا

(1/143)


وَقَالَ إِذا صَحَّ الحَدِيث على خلاف قولي فاضربوا قولي بِالْحَائِطِ وَاعْمَلُوا بِحَدِيث الضَّابِط نقل هَذَا الشَّيْخ مُحَمَّد بن حَيَاة السندي فِي رسَالَته الَّتِي تقدم ذكرهَا وعندما صَحَّ لنا هَذَا عَن هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة جزاهم الله أفضل الْجَزَاء من الْأمة قُلْنَا فِي أَبْيَات
علام جعلتم أَيهَا النَّاس ديننَا
لأربعة لَا شكّ فِي فَضلهمْ عِنْدِي ... هم عُلَمَاء الدّين شرقا ومغربا
وَنور عُيُون الْفضل وَالْحق والزهد ... وَلَكنهُمْ كالناس لَيْسَ كَلَامهم
دَلِيلا ولاتقليدهم فِي غَد يجدي ... وَلَا زَعَمُوا حاشاهم أَن قَوْلهم
دَلِيل فيستهدي بِهِ كل من يهدي ... بل صَرَّحُوا أَنا نقابل قَوْلهم
إِذا خَالَفت الْمَنْصُوص بالقدح وَالرَّدّ
وَهَذِه نصوصهم رَضِي الله عَنْهُم كَمَا سَمِعت وأقوال أَئِمَّة الْعلم فِي هَذِه كَثِيرَة جدا على أَنه مَعْلُوم من صِفَات الْعَالم أَنه لَا يرتضي أَن يقدم على قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد صِحَّته أَو حسنه قَول نَفسه وَلَا قَول غَيره وَإِلَّا لم يكن عَالما مُتبعا لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قلت وَإِذا عرفت تَصْرِيح الْأَئِمَّة بِأَنَّهُ إِذا صَحَّ الحَدِيث بِخِلَاف مَا

(1/144)


قَالُوهُ فَإِنَّهُ لَا يقلدهم أحد فِي قَوْلهم الْمُخَالف للْحَدِيث عرفت بِأَن الآخر بقَوْلهمْ مَعَ مُخَالفَة الحَدِيث غير مقلد لَهُم لِأَن التَّقْلِيد حَقِيقَة هُوَ الْأَخْذ بقول الْغَيْر من غير حجَّة وَهَذَا القَوْل الَّذِي خَالف الحَدِيث لَيْسَ قولا لَهُم لأَنهم صَرَّحُوا بِأَنَّهُم لَا يتبعُون فِيمَا خَالف الحَدِيث وَأَن قَوْلهم هُوَ الحَدِيث وَلَقَد كثرت جنايات المقلدين على أئمتهم فِي تعصبهم لَهُ فَمن تبين لَهُ شَيْء من ذَلِك أَي من الْأَحَادِيث النَّبَوِيَّة فَلَا يعْذر فِي التَّقْلِيد فَإِن أَبَا حنيفَة وَأَبا يُوسُف قَالَا لَا يحل لأحد أَن يَأْخُذ بقولنَا مَا لم يعلم من أَيْن أخذناه وَإِن كَانَ الرجل مُتبعا لَاحَدَّ الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَرَأى فِي بعض الْمسَائِل أَن قَول غَيره أقوى مِنْهُ فَاتبعهُ كَانَ قد أحسن فِي ذَلِك وَلَا يقْدَح ذَلِك فِي عَدَالَته وَلَا دينه بِلَا نزاع بل هَذَا أولى بِالْحَقِّ وَأحب إِلَى الله وَرَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَمن تعصب لوَاحِد معِين غير الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَيرى أَن قَوْله هُوَ الصَّوَاب الَّذِي يجب اتِّبَاعه دون الْأَئِمَّة الآخرين فَهُوَ ضال جَاهِل بل قد يكون كَافِرًا يُسْتَتَاب فَإِن تَابَ وَإِلَّا قتل فَإِنَّهُ مَتى اعْتقد أَنه يجب على النَّاس اتِّبَاع وَاحِد معِين من هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة رَضِي الله عَنْهُم دون الآخرين فقد جعله بِمَنْزِلَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَذَلِكَ كفر انْتهى نَقله الشَّيْخ مُحَمَّد حَيَاة رَحمَه الله

(1/145)


قلت وَقَوله من هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَة بَيَان للْوَاقِع إِذْ هم فِي نظره المتبعون وَإِلَّا قَالَ بِالْإِطْلَاقِ من غير تَقْيِيد بالأربعة ثمَّ من هُنَا يعرف بطلَان قَوْلهم وَبعد الإلتزام يحرم الإنتقال إِلَّا إِلَى تَرْجِيح نَفسه فَإنَّا نقُول بل يحرم الإلتزام إِذْ مَعْنَاهُ تَقْلِيد معِين من الْعلمَاء وَعدم الرُّجُوع إِلَى تَقْلِيد غَيره فَإنَّا نقُول هَذَا الإلتزام للمعين هَل كَانَ إِيثَار الْتِزَام الْمُقَلّد لمَذْهَب من بَين مَذَاهِب الْعلمَاء عَن نظر واجتهاد قضى لَهُ أرجحية مذْهبه إِلَى غَيره التزاما أَو كَانَ عَن غير نظر بل تقليدا فِي تعْيين الْتِزَام مذْهبه إِن كَانَ الأول فَدلَّ على أَنه مُجْتَهد عَارِف بِالنّظرِ فِي الْأَدِلَّة راجحها ومرجوحها وَهَذَا لَا يحل لَهُ التَّقْلِيد فضلا عَن الإلتزام وَإِن كَانَ الثَّانِي وَإِن تبعه سَهوا وَخطأ فَلَا اعْتِبَار بالتزامه فَإِن شَهْوَته لَيْسَ بِدَلِيل وَمَا أحسن قَول ابْن الْجَوْزِيّ فِي تلبيس إِبْلِيس اعْلَم أَن الْمُقَلّد على غير ثِقَة فِيمَا قلد فِيهِ وَفِي التَّقْلِيد إبِْطَال مَنْفَعَة الْعقل لِأَنَّهُ إِنَّمَا خلق للتأمل والتدبر وقبيح بِمن أعْطى شمعة يستضيء بهَا أَن يطفئها وَيَمْشي فِي الظلمَة انْتهى

الْأَدِلَّة معيار الْحق من الْبَاطِل
فَإِن قلت الْقَائِلُونَ بِجَوَاز التَّقْلِيد طَائِفَة من الْعلمَاء وَلَهُم أَدِلَّة على جَوَازه قلت الْقَائِلُونَ بِتَحْرِيمِهِ طَائِفَة أَيْضا من الْأمة وَلَهُم أَدِلَّة على ذَلِك وَلَا يهولنك الْقَائِلُونَ وكثرتهم من الْفَرِيقَيْنِ بل ارْجع إِلَى الْأَدِلَّة فَهِيَ معيار الْحق من الْبَاطِل وَبهَا تبين الْحَال جيده من العاطل

(1/146)


فصل فِي التَّوَقُّف فِي تَصْدِيق الْمخبر حَتَّى تقوم الْبَيِّنَة
وأقدم لَك مُقَدّمَة نافعة قبل سرد الْأَدِلَّة من الْجَانِبَيْنِ وَهُوَ أَن لَا شكّ أَن لنا أصلا مُتَّفقا عَلَيْهِ وَهُوَ أَنه لَا يثبت حكم من الْأَحْكَام إِلَّا بِدَلِيل يُثمر علما أَو أَمارَة تثمر ظنا وَهَذَا أَمر مُتَّفق عَلَيْهِ بَين الْعلمَاء قاطبة بل بَين كَافَّة الْعُقَلَاء من أهل الْإِيمَان وَمن أهل سَائِر الْملَل والأديان وَإِن هَذَا عَام لأحكام الدُّنْيَا وَالدّين شَامِل للموحدين والملحدين فَإِنَّهُ مغروز فِي الْعُقُول أَنه لَا يقدم أحد على فعل من الْأَفْعَال أَو ترك من التروك إِلَّا بعد اعْتِقَاده عَن علم أَو ظن أَن هَذَا الْفِعْل ترك أَو فعل لما يَتَرَتَّب عَلَيْهِ فَائِدَة دينية أَو دنيوية من جلب نفع أَو دفع ضَرَر وَهَذَا الإعتقاد ملزوم بِعلم أَو ظن عَن دَلِيل وأمارة وَقَالَ ملا على الْقَارِي رَحمَه الله تَعَالَى قَالَ وَإِن اشْتهر بَين الْحَنَفِيَّة أَن الْحَنَفِيّ إِذا انْتقل إِلَى مَذْهَب الشَّافِعِي يُعَزّر وَإِذا كَانَ بِالْعَكْسِ فَإِنَّهُ يخلع عَلَيْهِ فَهُوَ قَول مُبْتَدع ومخترع وَقَالَ ملا عَليّ الْقَارِي فِي رسَالَته فِي إِشَارَة المسبحة وَقد أغرب الكيداني حَيْثُ قَالَ الْعَاشِر من الْمُحرمَات الْإِشَارَة بالسبابة كَأَهل الحَدِيث أَي مثل جمَاعَة يجمعهُمْ الْعلم بِحَدِيث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

(1/147)


فَهَذَا مِنْهُ خطأ عَظِيم وجرم جسين منشأه الْجَهْل بقواعد الْأُصُول ومراتب الْفُرُوع من الْمَنْقُول وَلَوْلَا حسن الظَّن بِهِ وَتَأْويل كَلَامه حِينَئِذٍ لَكَانَ كفره صَرِيحًا وارتداده صَحِيحا فَهَل لمُؤْمِن أَن يحرم مَا ثَبت فعله عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِمَّا كَاد نَقله أَن يكون متواترا وَيمْنَع جَوَاز مَا عَلَيْهِ عَامَّة الْعلمَاء كَابِرًا عَن كَابر مكابرا وَالْحَال أَن الإِمَام الْأَعْظَم والهمام الأقدم قَالَ لَا يحل لأحد أَن يَأْخُذ بقولنَا مَا لم يعلم مأخذه من الْكتاب وَالسّنة وَإِجْمَاع الْأمة وَالْقِيَاس الْجَلِيّ فِي الْمَسْأَلَة فَإِذا عرفت هَذَا فَاعْلَم أَنه لَو لم يكن نَص الإِمَام على المرام لَكَانَ من الْمُتَعَيّن على أَتْبَاعه من الْعلمَاء الْكِرَام أَن يعملوا بِمَا صَحَّ عَنهُ عَلَيْهِ وعَلى آله الصَّلَاة وَالسَّلَام وَكَذَا لَو صَحَّ عَن الإِمَام فرضا نفي الْإِشَارَة وَصَحَّ إِثْبَاتهَا عَن صَاحب الْبشَارَة فَلَا شكّ فِي تَرْجِيح الْمُثبت الْمسند إِلَيْهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَيفَ وَقد وجد نَقله الصَّرِيح بِمَا ثَبت بِالْإِسْنَادِ الصَّحِيح فَمن أنصف وَلم يتعسف عرف أَن هَذَا سَبِيل أهل التدين من السّلف وَالْخلف وَمن عدل عَن ذَلِك فَهُوَ هَالك يُوصف بِالْجَهْلِ المعاند المكابر وَلَو كَانَ عِنْد النَّاس من الأكابر انْتهى فَكل عَاقل لَا يقدم على فعل أَو يحجم عَنهُ إِلَّا لاعْتِقَاده نفعا أَو دفعا والاعتقاد لَا يكون إِلَّا عَن علم أَو ظن وَالْعلم لَا يكون إِلَّا عَن دَلِيل وَالظَّن لَا يكون إِلَّا عَن أَمارَة ثمَّ إِن الْعُقُول مجبولة على أَن لَا تقبل قولا من الْأَقْوَال إِلَّا لظن صدقه أَو الْعلم بِهِ وَلَا ترده إِلَّا لظن كذبه أَو الْعلم بكذبه وظنهما صدق القَوْل أَو كذبه أَو

(1/148)


علمهما بهما يتوقفان على الدَّلِيل والأمارة وَإِذا تقرر هَذَا فالعقلاء قاطبة وَأهل الْملَل والنحل الْمُخْتَلفَة متفقون على أَنه لَا يجب تَصْدِيق أحد وَاتِّبَاع قَوْله حَتَّى يَأْتِي ببرهان على مَا قَالَه من دَعْوَاهُ أَو إخْبَاره عَن أَي أَمر أَلا ترى أَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام لما قَالَ لفرعون {إِنِّي رَسُول من رب الْعَالمين} إِلَى قَوْله {قد جِئتُكُمْ بِبَيِّنَة} إِلَى قَوْله قَالَ فِرْعَوْن {فأت بهَا إِن كنت من الصَّادِقين} الْأَعْرَاف 104 106 وَفِي سِيَاق قصصه فِي الْقُرْآن كلهَا نَحْو هَذَا وَقَالَ صَالح {قد جاءتكم بَيِّنَة من ربكُم هَذِه نَاقَة الله لكم آيَة} الْأَعْرَاف 73 بعد قَوْلهم {فأت بِآيَة إِن كنت من الصَّادِقين} الشُّعَرَاء 154 وَسَائِر قصَص الْأَنْبِيَاء كَذَلِك وَأما قوم هود {مَا جئتنا بِبَيِّنَة وَمَا نَحن بتاركي آلِهَتنَا عَن قَوْلك} هود 53 فَمن تعنتهم فِي كفرهم وجعلهم الْبَيِّنَة غير الْبَيِّنَة

بَيَان أَن على الْمُدَّعِي إِقَامَة الْبَيِّنَة
وَإِذا عرفت هَذَا عرفت أَن كل عَاقل لَا يقبل قَول قَائِل مُدعيًا ومخبرا وَلَا

(1/149)


يصدقهُ حَتَّى يُقيم الْبَيِّنَة على مَا قَالَه فَإِن هَذَا فِرْعَوْن مَعَ غلوه فِي كفره وكبريائه طلب من مُوسَى الْبَيِّنَة على دَعْوَاهُ أَنه رَسُول من رب الْعَالمين وَلم يُقَابله بِالرَّدِّ لدعواه بصد وإعراض عَن مَا قَالَه وادعاه وَلم يقل لَهُ صدقت وَلَا كذبت بل طلب مِنْهُ الْبُرْهَان كقوم صَالح وكل أهل مِلَّة من الْملَل الكفرية تطالب رسولها بِالْبَيِّنَةِ على دَعْوَاهُ النُّبُوَّة بل مِنْهُم من يعرف دَعْوَاهُ بِأَن عِنْده الْبُرْهَان عَلَيْهَا قبل أَن يطالبوه بِهِ أَلا ترى أَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ لفرعون فِي بعض محاورته {حقيق على أَن لَا أَقُول على الله إِلَّا الْحق قد جِئتُكُمْ بِبَيِّنَة من ربكُم} الْآيَة الْأَعْرَاف 105 وَإِذا أَقَامَ النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام الْبَيِّنَة على دَعْوَى النُّبُوَّة فَمن قومه من يصدقهُ وينقاد لَهُ كَمَا كَانَ من سحرة فِرْعَوْن فَإِنَّهُم لما شاهدوا تلقف عَصَاهُ لما أَتَوا بِهِ من سحر عَظِيم كَمَا وَصفه الله خروا سجدا {قَالُوا آمنا بِرَبّ الْعَالمين رب مُوسَى وَهَارُون} الْأَعْرَاف 121 122 وَتَمَادَى فِرْعَوْن وَمن تبعه على كفرهم وتكذيبهم بعد علمه وَعلم من بَقِي مَعَه على كفره بِصدق مُوسَى كَمَا قَالَ تَعَالَى فيهم {وجحدوا بهَا واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا} النَّمْل 14 فَأخْبر الصَّادِق فِي أخباره المطلع على إِضْمَار الْقلب وإسراره بِأَنَّهُم جَحَدُوا بآياته المبصرة وأنفسهم بهَا متيقنة وَقَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام لفرعون {لقد علمت مَا أنزل هَؤُلَاءِ إِلَّا رب السَّمَاوَات وَالْأَرْض بصائر} الْإِسْرَاء 102 وَاعْلَم أَن سر هَذِه الْأَخْبَار مِنْهُ تَعَالَى بِأَنَّهُم جَحَدُوا بهَا عَن يَقِين أَن الله تَعَالَى كَمَا جبل الْعُقُول على أَن لَا تقبل دَعْوَى وَلَا تصدق خَبرا إِلَّا عَن بَيِّنَة تُقَام عَلَيْهَا

(1/150)


كَذَلِك جبلها على قبُولهَا وانقيادها وَإِذ عانها لقبُول القَوْل إِذا أُقِيمَت الْبَيِّنَة عَلَيْهِ والبرهان وتصديقها للدعوى وَالْخَبَر فِي أَي شَأْن كَمَا جعل الشِّبَع عِنْد الْأكل فَإِن لم يقبل بعد إِقَامَته فَلَيْسَ إِلَّا مُكَابَرَة وظلما وعلوا وعدوانا وَلَو بسطنا الِاسْتِدْلَال لطال الْمقَال إِلَّا أَن الْمَسْأَلَة مَعْلُومَة بِالضَّرُورَةِ عِنْد الْعُقَلَاء مبسوطة فِي دواوين الْإِسْلَام فَلَا حَاجَة إِلَى الإطالة وَيدل لذَلِك قَوْله {وَمَا كُنَّا معذبين حَتَّى نبعث رَسُولا} الْإِسْرَاء 15 وَقَوله {لِئَلَّا يكون للنَّاس على الله حجَّة بعد الرُّسُل} النِّسَاء 165 وَقَوله {أَن تَقولُوا مَا جَاءَنَا من بشير وَلَا نَذِير فقد جَاءَكُم بشير ونذير} الْمَائِدَة 19

(1/151)