أصول السرخسي

فصل فِي بَيَان صفة الْحسن لما هُوَ شَرط أَدَاء اللَّازِم بِالْأَمر
قَالَ رَضِي الله عَنهُ اعْلَم أَن من شَرط وجوب أَدَاء الْمَأْمُور بِهِ الْقُدْرَة الَّتِي بهَا يتَمَكَّن الْمَأْمُور من الْأَدَاء لقَوْله تَعَالَى {لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا} وَلِأَن الْوَاجِب أَدَاء مَا هُوَ عبَادَة وَذَلِكَ عبارَة عَن فعل يكتسبه العَبْد عَن اخْتِيَار ليَكُون مُعظما فِيهِ ربه فينال الثَّوَاب وَذَلِكَ لَا يتَحَقَّق بِدُونِ هَذِه الْقُدْرَة غير أَنه لَا يشْتَرط وجودهَا وَقت الْأَمر لصِحَّة الْأَمر لِأَنَّهُ لَا يتَأَدَّى الْمَأْمُور الْأَدَاء وَذَلِكَ غير مَوْجُود سَابِقًا على الْأَدَاء فَإِن الِاسْتِطَاعَة لَا تسبق الْفِعْل وانعدامها عِنْد الْأَمر لَا يمْنَع صِحَة الْأَمر وَلَا يُخرجهُ من أَن يكون حسنا بِمَنْزِلَة انعدام الْمَأْمُور فَإِن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ رَسُولا إِلَى النَّاس كَافَّة قَالَ الله تَعَالَى {وَمَا أَرْسَلْنَاك إِلَّا كَافَّة للنَّاس} وَقَالَ تَعَالَى بِالْقُدْرَةِ الْمَوْجُودَة وَقت الْأَمر بِحَال

(1/65)


وَإِنَّمَا يتَأَدَّى بالموجود مِنْهَا عِنْد {نذيرا للبشر} وَلَا شكّ أَنه أَمر جَمِيع من أرسل إِلَيْهِم بالشرائع ثمَّ صَحَّ الْأَمر فِي حق الَّذين وجدوا بعده ويلزمهم الْأَدَاء بِشَرْط أَن يبلغهم فيتمكنون من الْأَدَاء قَالَ تَعَالَى {لأنذركم بِهِ وَمن بلغ} وكما يحسن الْأَمر قبل وجود الْمَأْمُور بِهِ يحسن قبل وجود الْقُدْرَة الَّتِي يتَمَكَّن بهَا من الْأَدَاء وَلَكِن بِشَرْط التَّمَكُّن عِنْد الْأَدَاء أَلا ترى أَن التَّصْرِيح بِهَذَا الشَّرْط لَا يعْدم صفة الْحسن فِي الْأَمر فَإِن الْمَرِيض يُؤمر بِقِتَال الْمُشْركين إِذا برىء فَيكون ذَلِك حسنا قَالَ تَعَالَى {فَإِذا اطمأننتم فأقيموا الصَّلَاة} وَهَذَا الشَّرْط نَوْعَانِ مُطلق وكامل
فالمطلق أدنى مَا يتَمَكَّن بِهِ من أَدَاء الْمَأْمُور بِهِ ماليا كَانَ أَو بدنيا لِأَن هَذَا شَرط وجوب الْأَدَاء فِي كل أَمر فضلا من الله تَعَالَى وَرَحْمَة خُصُوصا فِي حق هَذِه الْأمة فقد رفع الله عَنْهُم الْحَرج وَوضع عَنْهُم الإصر والأغلال وَفِي لُزُوم الْأَدَاء بِدُونِ هَذِه الْقُدْرَة من الْحَرج والثقل مَا لَا يخفى وعَلى هَذَا وجوب الطَّهَارَة بِالْمَاءِ فَإِنَّهُ لَا يثبت فِي حَال عدم المَاء لِانْعِدَامِ هَذِه الْقُدْرَة وَكَذَلِكَ فِي حَال الْعَجز عَن الِاسْتِعْمَال إِلَّا بحرج بِأَن يخَاف زِيَادَة الْمَرَض أَو الْعَطش أَو يلْحقهُ نوع حرج فِي مَاله بِأَن لَا يُبَاع مِنْهُ بِثمن مثله وَكَذَلِكَ أَدَاء الصَّلَاة لَا يجب بِدُونِ هَذِه الْقُدْرَة وَلِهَذَا كَانَ وجوب الْأَدَاء بِحَسب مَا يتَمَكَّن مِنْهُ قَائِما أَو قَاعِدا أَو بِالْإِيمَاءِ وَكَذَلِكَ وجوب أَدَاء الْحَج لَا يكون إِلَّا بِهَذِهِ الْقُدْرَة بِملك الزَّاد وَالرَّاحِلَة لِأَن التَّمَكُّن من السّفر الَّذِي يتَوَصَّل بِهِ إِلَى الْأَدَاء لَا يكون إِلَّا بِهِ وَكَذَلِكَ وجوب أَدَاء الصَّدَقَة الْمَالِيَّة لَا يكون إِلَّا بِهَذَا الشَّرْط فَإِنَّهُ لَا يتَمَكَّن من الْأَدَاء عبَادَة إِلَّا بِملك المَال وَلِهَذَا لَا يعْتَبر التَّمَكُّن مِنْهُ بِمَال غَيره وَإِن أذن لَهُ فِي ذَلِك فِي وجوب الْأَدَاء بِخِلَاف الطَّهَارَة فصفة الْعِبَادَة هُنَاكَ غير مَقْصُودَة وَهنا مَقْصُودَة وَمَعَ ذَلِك صفة الْغَنِيّ فِي الْمُؤَدى مُعْتَبر

(1/66)


هُنَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام لَا صَدَقَة إِلَّا عَن ظهر غنى وَبِدُون ملك المَال لَا تثبت صفة الْغنى وَلِهَذَا قَالَ زفر وَالشَّافِعِيّ رحمهمَا الله إِذا أسلم الْكَافِر أَو بلغ الصَّبِي أَو أَفَاق الْمَجْنُون أَو طهرت الْحَائِض فِي آخر الْوَقْت بِحَيْثُ لَا يتمكنون من أَدَاء الْفَرْض فِيمَا بَقِي من الْوَقْت لَا يلْزمهُم الْأَدَاء لِانْعِدَامِ الشَّرْط وَهُوَ التَّمَكُّن وَلَكِن علماءنا رَحِمهم الله قَالُوا يلْزمهُم أَدَاء الصَّلَاة اسْتِحْسَانًا لِأَن السَّبَب الْمُوجب جُزْء من الْوَقْت وَشرط وجوب الْأَدَاء كَون الْقُدْرَة على الْأَدَاء متوهم الْوُجُود لَا كَونه مُتَحَقق الْوُجُود فَإِن ذَلِك لَا يسْبق الْأَدَاء وَهَذَا التَّوَهُّم مَوْجُود هَهُنَا لجَوَاز أَن يظْهر فِي ذَلِك الْجُزْء من الْوَقْت امتداد بتوقف الشَّمْس فيسع الْأَدَاء كَمَا كَانَ لِسُلَيْمَان صلوَات الله عَلَيْهِ فَيثبت وجوب الْأَدَاء بِهِ ثمَّ الْعَجز عَن الْأَدَاء فِيهِ ظَاهر لينتقل الحكم إِلَى مَا هُوَ خلف عَن الْأَدَاء وَهُوَ الْقَضَاء بِمَنْزِلَة الْحلف على مس السَّمَاء تَنْعَقِد مُوجبَة للبر لتوهم الْكَوْن فِيمَا خلف عَلَيْهِ ثمَّ بِالْعَجزِ الظَّاهِر ينْتَقل الْوَاجِب فِي الْحَال إِلَى مَا هُوَ خلف عَنهُ وَهُوَ الْكَفَّارَة وَكَذَلِكَ الْحَدث فِي وَقت الصَّلَاة مِمَّن كَانَ عادما للْمَاء يكون مُوجبا للطَّهَارَة بِالْمَاءِ لتوهم الْقُدْرَة عَلَيْهَا ثمَّ تتحول إِلَى التُّرَاب بِاعْتِبَار الْعَجز الظَّاهِر فِي الْحَال غير أَن فِي فصل الْحَائِض بِشَرْط حَقِيقَة الطُّهْر فِي جُزْء من الْوَقْت بِأَن تكون أَيَّامهَا عشرَة أَو الحكم بِالطُّهْرِ بِدَلِيل شَرْعِي بِأَن تكون أَيَّامهَا دون الْعشْرَة فَيَنْقَطِع الدَّم وَالْبَاقِي من الْوَقْت مِقْدَار مَا يُمكنهَا أَن تَغْتَسِل فِيهِ وَتحرم للصَّلَاة وَهَذَا لِأَن فِي أوَامِر الْعباد صفة الْحسن وَلُزُوم الْأَدَاء يثبت بِهَذَا الْقدر من الْقُدْرَة فَإِن من قَالَ لامرىء اسْقِنِي مَاء غَدا يكون أمرا صَحِيحا مُوجبا للْأَدَاء فَلَا يتَعَيَّن للْحَال فَإِنَّهُ يقدر على ذَلِك فِي غَد لجَوَاز أَن يَمُوت قبله أَو يظْهر عَارض يحول بَينه وَبَين التَّمَكُّن من الْأَدَاء فَكَذَلِك فِي أوَامِر الشَّرْع وجوب الْأَدَاء يثبت بِهَذَا الْقدر
ثمَّ هَذَا الشَّرْط مُخْتَصّ بِالْأَدَاءِ دون الْقَضَاء فَإِنَّهُ شَرط الْوُجُوب وَلَا يتَكَرَّر الْوُجُوب فِي وَاجِب وَاحِد فَلَا يشْتَرط بَقَاء هَذَا التَّمَكُّن لبَقَاء الْوَاجِب وَلَكِن إِن كَانَ الْفَوات بِمُضِيِّ الْوَقْت لَا عَن تَقْصِير مِنْهُ بَقِي الْأَدَاء وَاجِبا على أَن يَتَأَتَّى بالخلف وَهُوَ الْقَضَاء وَإِن كَانَ عَن تَقْصِير مِنْهُ

(1/67)


فَهُوَ مُتَعَدٍّ فِي ذَلِك وَبِاعْتِبَار تعديه يَجْعَل الشَّرْط كالقائم حكما وَلِهَذَا قُلْنَا إِذا هلك المَال بعد وجوب الْحَج وَصدقَة الْفطر لَا يسْقط الْوَاجِب عَنهُ بذلك لِأَن التَّمَكُّن من الْأَدَاء بِملك المَال كَانَ شَرط وجوب الْأَدَاء فَيبقى الْوَاجِب وَإِن انْعَدم هَذَا الشَّرْط
وَأما الْكَامِل مِنْهُ فالقدرة الميسرة للْأَدَاء وَهِي زَائِدَة على الأولى بِدَرَجَة كَرَامَة من الله تَعَالَى وَفرق مَا بَينهمَا أَنه لَا يتَغَيَّر بِالْأولَى صفة الْوَاجِب فَكَانَ شَرط الْوُجُوب فَلَا يعْتَبر بَقَاؤُهَا لبَقَاء الْوَاجِب وَالثَّانيَِة يُغير صفة الْوَاجِب فيجعلها سَمحا سهلا لينًا وَلِهَذَا يشْتَرط بَقَاؤُهَا بِبَقَاء الْوَاجِب لِأَنَّهُ مَتى وَجب الْأَدَاء بِصفة لَا يبْقى الْأَدَاء وَاجِبا إِلَّا بِتِلْكَ الصّفة وَلَا يكون الْأَدَاء بِهَذِهِ الصّفة بعد انعدام الْقُدْرَة الميسرة للْأَدَاء وَبَيَان هَذَا أَن الزَّكَاة تسْقط بِهَلَاك المَال بعد التَّمَكُّن من الْأَدَاء لِأَن الشَّرْع إِنَّمَا أوجب الْأَدَاء بِصفة الْيُسْر وَلِهَذَا خصّه بِالْمَالِ النامي وَمَا أوجب الْأَدَاء إِلَّا بعد مُضِيّ حول ليتَحَقَّق النَّمَاء فَيكون الْمُؤَدى جُزْءا من الْفضل قَلِيلا من كثير وَذَلِكَ غَايَة فِي الْيُسْر فَأَما أصل التَّمَكُّن من الْأَدَاء يثبت بِكُل مَال فَلَو بَقِي الْوَاجِب بعد هَلَاك المَال لم يكن الْمُؤَدى بِصفة الْيُسْر بل يكون بِصفة الْغرم فَلَا يكون الْبَاقِي ذَلِك الَّذِي وَجب وَلَا وَجه لإِيجَاب غَيره إِلَّا بِسَبَب متجدد وَلِهَذَا لَو اسْتهْلك المَال بَقِي عَلَيْهِ وجوب الْأَدَاء لِأَنَّهُ صَار النّصاب مَشْغُولًا بِحَق الْمُسْتَحق لِلزَّكَاةِ فالاستهلاك تعد مِنْهُ على مَحل الْحق بالتفويت وَذَلِكَ سَبَب مُوجب للغرم عَلَيْهِ كَالْعَبْدِ الْجَانِي إِذا اسْتَهْلكهُ مَوْلَاهُ وَهُوَ لَا يعلم بِجِنَايَتِهِ يصير غارما لقيمته وَإِن صَادف فعله ملكه بِاعْتِبَار هَذَا الْمَعْنى فلوجود سَبَب آخر أمكن إِيجَاب الْأَدَاء لَا بِالصّفةِ الَّتِي بهَا وَجب ابْتِدَاء وَلَا يدْخل على هَذَا مَا إِذا هلك بعض النّصاب فَإِن الْوَاجِب يبْقى بِقدر مَا بَقِي مِنْهُ وَإِن كَانَ كَمَال النّصاب شَرط الْوُجُوب فِي الِابْتِدَاء لِأَن اشْتِرَاط كَمَال النّصاب لَيْسَ لأجل الْيُسْر حَتَّى يتَغَيَّر بِهِ صفة الْوَاجِب فَإِن أَدَاء دِرْهَم من أَرْبَعِينَ وَأَدَاء خَمْسَة من مِائَتَيْنِ فِي معنى الْيُسْر سَوَاء إِذْ كل وَاحِد مِنْهُمَا أَدَاء ربع الْعشْر وَلَكِن شَرط كَمَال النّصاب ليثبت بِهِ صفة الْغنى فِيمَن يجب عَلَيْهِ فالمطلوب بِالْأَدَاءِ إغناء الْمُحْتَاج وَإِنَّمَا

(1/68)


يتَحَقَّق الإغناء بِصفة الْحسن من الْغَنِيّ كَمَا يتَحَقَّق التَّمْلِيك من الْمَالِك وأحوال النَّاس تخْتَلف فِي صفة الْغنى بِالْمَالِ فَجعل الشَّرْع لذَلِك حدا وَهُوَ ملك النّصاب تيسيرا ثمَّ هَذَا الْغنى شَرط وجوب الْأَدَاء بِمَنْزِلَة أدنى التَّمَكُّن الَّذِي هُوَ شَرط وجوب الْأَدَاء من غير أَن يكون مغيرا صفة الْوَاجِب فَلهَذَا لَا يشْتَرط بَقَاؤُهُ لبَقَاء الْوَاجِب وَلَكِن بِقدر مَا بَقِي من المَال يبْقى الْوَاجِب بِصفتِهِ لبَقَاء صفة الْيُسْر فِيهِ وعَلى هَذَا قُلْنَا يسْقط الْعشْر بِهَلَاك الْخَارِج قبل الْأَدَاء لِأَن الْقُدْرَة الميسرة شَرط الْأَدَاء فِيهِ فالعشر مؤونة الأَرْض النامية وَلَا يجب إِلَّا بعد تحقق الْخَارِج فَإِنَّمَا يجب قَلِيل من كثير من النَّمَاء فَيكون الْأَدَاء بِصفة الْيُسْر وَذَلِكَ لَا يبْقى بعد هَلَاك الْخَارِج وَكَذَلِكَ الْخراج لَا يبْقى إِذا اصطلم الزَّرْع آفَة لِأَن وجوب الْأَدَاء بِاعْتِبَار الْقُدْرَة الميسرة وَلِهَذَا يتَقَدَّر الْوَاجِب بِحَسب الرّبع حَتَّى إِذا قل الْخَارِج لَا يجب من الْخَارِج أَكثر من نصف الْخَارِج إِلَّا أَن عِنْد التَّمَكُّن من الزِّرَاعَة إِذا لم يفعل جعلت الْقُدْرَة الميسرة كالموجود حكما بتقصير كَانَ مِنْهُ فِي الزِّرَاعَة وَذَلِكَ لَا يُوجد فِيمَا إِذا اصطلم الزَّرْع آفَة فَلَو بَقِي الْخراج كَانَ غرما وَلِهَذَا قُلْنَا لَا يسْقط الْعشْر بِمَوْت من عَلَيْهِ مَعَ بَقَاء الْخَارِج لِأَن الْقُدْرَة الميسرة لأَدَاء المالي بِالْمَالِ تكون وَهُوَ بَاقٍ بعد مَوته فَيجْعَل هُوَ كالحي حكما بِاعْتِبَار خَلفه وَيكون أَدَاء الْوَاجِب بِالصّفةِ الَّتِي يثبت بهَا الْوُجُوب ابْتِدَاء وَكَذَلِكَ الزَّكَاة لَا تسْقط بِمَوْتِهِ فِي أَحْكَام الْآخِرَة وَلِهَذَا يُؤمر بالإيصاء بِهِ وتؤدى من ثلث مَاله بعد مَوته إِذا أوصى لبَقَاء الْقُدْرَة الميسرة وَبِاعْتِبَار حَيَاته حكما وَبَقَاء الْمحل الَّذِي هُوَ خَالص حَقه وَهُوَ الثُّلُث فَيكون الْأَدَاء مِنْهُ بِصفة الْيُسْر إِلَّا أَنه إِذا لم يوص لَا يبْقى فِي أَحْكَام الدُّنْيَا بعد مَوته لِأَن الْوَاجِب أَدَاء الْعِبَادَة وَبِاعْتِبَار الْخلَافَة الَّتِي تثبت بعد مَوته لَا يُمكن تَحْقِيق هَذَا الْوَصْف لِأَن ذَلِك يثبت من غير اخْتِيَار لَهُ مِنْهُ وَفِي الْعشْر معنى الْعِبَادَة لما لم يكن مَقْصُودا بَقِي بعد مَوته وَإِن لم يوص بِهِ وَكَذَلِكَ الْخراج إِذا حصل الْخَارِج ثمَّ هلك قبل أَدَائِهِ وعَلى هَذَا قُلْنَا إِن الحانث فِي يَمِينه إِذا عجز عَن التَّكْفِير بِالْمَالِ يجوز لَهُ أَن يكفر بِالصَّوْمِ لِأَن وجوب الْكَفَّارَة بِاعْتِبَار الْقُدْرَة الميسرة أَلا ترى أَنه ثَبت التخير شرعا فِي أَنْوَاع التَّكْفِير

(1/69)


بِالْمَالِ وَالْوَاجِب أحد الْأَنْوَاع عِنْد أهل الْفِقْه بِخِلَاف مَا يَقُوله بعض الْمُتَكَلِّمين أَن الْكل وَاجِب لِاسْتِوَاء الْكل فِي صِيغَة الْأَمر والتخيير لإِسْقَاط الْوَاجِب بِمَا يُعينهُ مِنْهَا ويجعلون الْأَمر مثل قِيَاس النَّهْي فَإِن مثل هَذَا التَّخْيِير فِي النَّهْي لَا يخرج حكم النَّهْي من أَن يكون متناولا جَمِيع مَا تنَاوله الصِّيغَة فَكَذَلِك الْأَمر وَلَكنَّا نقُول فِي النَّهْي يتَحَقَّق وجوب الِانْتِهَاء فِي الْكل مَعَ ذكر حرف أَو لِأَن ذَلِك فِي مَوضِع النَّفْي وحرف أَو فِي مَوضِع النَّفْي يُوجب التَّعْمِيم قَالَ الله تَعَالَى {وَلَا تُطِع مِنْهُم آثِما أَو كفورا} فَأَما فِي بَاب الْكَفَّارَة ذكر حرف أَو فِي مَوضِع الْإِثْبَات فَإِنَّمَا يُفِيد الْإِيجَاب فِي أحد الْأَنْوَاع أَلا ترى أَنه لَو كفر بالأنواع كلهَا لم يكن مُؤديا للْوَاجِب فِي جَمِيعهَا ويستحيل أَن يكون وَاجِبا قبل الْأَدَاء ثمَّ إِذا أدّى يكون الْمُؤَدى نفلا لَا وَاجِبا ويتأدى الْوَاجِب بِنَوْع وَاحِد وَهَذَا النَّوْع مَنْصُوص عَلَيْهِ فَلَا يكون خلفا عَن غَيره وَلَو كَانَ الْكل وَاجِبا لم يسْقط الْوَاجِب فِي الْبَعْض بِدُونِ أَدَائِهِ أَو أَدَاء مَا هُوَ خلف عَنهُ فَعرفنَا أَن الْوَاجِب أحد الْأَنْوَاع والتخيير ليَكُون الْأَدَاء بِصفة الْيُسْر وَلِهَذَا تحول إِلَى الصَّوْم عِنْد الْعَجز عَن الْأَدَاء بِالْمَالِ وَالْمُعْتَبر فِيهِ الْعَجز للْحَال لَا تحقق الْعَجز بعجز مستدام فِي الْعُمر فَإِن فِي قَوْله تَعَالَى {فَصِيَام ثَلَاثَة أَيَّام} مَا يدل على أَنه يعْتَبر الْعَجز فِي الْحَال إِذْ لَو اعْتبر الْعَجز فِي جَمِيع الْعُمر لم يتَحَقَّق أَدَاء الصَّوْم بعد هَذَا الْعَجز وَكَذَلِكَ التَّكْفِير بِالطَّعَامِ فِي الظِّهَار يعْتَبر الْعَجز فِي الْحَال عَن التَّكْفِير بِالصَّوْمِ وَلِهَذَا لَو مرض أَيَّامًا فَكفر بِالْإِطْعَامِ جَازَ
فَتبين بِهَذَا كُله أَن الْمُعْتَبر فِي الْكَفَّارَة الْقُدْرَة الميسرة للْأَدَاء وَبعد هَلَاك المَال لَا يبْقى ذَلِك لَو بَقِي التَّكْفِير بِالْمَالِ عينا فجوزنا لَهُ التَّكْفِير بِالصَّوْمِ وَلَا تَفْصِيل هُنَا بَين أَن يهْلك المَال بصنعه أَو بِغَيْر صنعه لِأَن الْوَاجِب لَا يُصَادف المَال قبل الْأَدَاء وَلَا يَجْعَل المَال مَشْغُولًا بِهِ فَلَا يكون الِاسْتِهْلَاك تَعَديا على مَحل مَشْغُول بِحَق الْمُسْتَحق وَلِهَذَا لَا يسْقط بِهَلَاك المَال حَتَّى إِنَّه إِذا أيسر بِمَال آخر يلْزمه التَّكْفِير بِالْمَالِ لِأَن الْقُدْرَة الميسرة تثبت بِملك المَال وَلَا تخْتَص بِمَال دون مَال فَكَانَ المَال الْمُسْتَفَاد فِيهِ وَالْمَال الَّذِي عِنْده سَوَاء وَلِهَذَا لَا يعْتَبر فِيهِ كَون المَال ناميا وَلَا يعْتَبر صفة الْغنى فِيمَن يجب عَلَيْهِ لِأَن

(1/70)


بِالْوَاجِبِ لَيْسَ من نَمَاء المَال وَإِنَّمَا الشَّرْط فِيهِ الْقُدْرَة الميسرة للْأَدَاء على وَجه ينَال الثَّوَاب بِالْأَدَاءِ فَيكون ذَلِك ساترا لما لحقه لارتكاب الْمَحْظُور وَفِي هَذَا يَسْتَوِي المَال النامي وَغير النامي وَيخرج على مَا بَينا أَنه إِذا هلك المَال بعد وجوب الْحَج بِأَن كَانَ مَالِكًا للزاد وَالرَّاحِلَة وَقت خُرُوج الْقَافِلَة من بلدته فَإِنَّهُ لَا يسْقط عَنهُ الْحَج لِأَن الشَّرْط هُنَاكَ أدنى التَّمَكُّن دون الْيُسْر فاليسر فِي سفر الْحَج يكون بالخدم والمراكب والأعوان وَذَلِكَ لَيْسَ بِشَرْط وَأدنى التَّمَكُّن شَرط وجوب الْأَدَاء فَلَا يشْتَرط بَقَاؤُهُ لبَقَاء الْوَاجِب
وَكَذَلِكَ لَو هلك المَال بعد وجوب صَدَقَة الْفطر أَو هلك من وَجب عَلَيْهِ بعد وجوب الْأَدَاء فَإِنَّهُ لَا يسْقط الْوَاجِب لِأَن شَرط الْوُجُوب هُنَاكَ أدنى التَّمَكُّن وَصفَة الْغنى فِيمَن يجب عَلَيْهِ الْأَدَاء دون الْيُسْر وَلِهَذَا لَو ملك من مَال البذلة والمهنة فضلا على حَاجته مَا يُسَاوِي نِصَابا يجب عَلَيْهِ وَبِهَذَا النَّوْع من المَال يحصل أدنى التَّمَكُّن والغنى إِذا بلغ نِصَابا فَأَما صفة الْيُسْر فَهُوَ مُخْتَصّ بِالْمَالِ النامي ليَكُون الْأَدَاء من فضل المَال وَذَلِكَ لَيْسَ بِشَرْط هُنَا فَعرفنَا أَن التَّمَكُّن والغنى شَرط وجوب الْأَدَاء بِاعْتِبَار أَنه غَنِي قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام أغنوهم عَن الْمَسْأَلَة فِي مثل هَذَا الْيَوْم والإغناء إِنَّمَا يتَحَقَّق من الْغنى وَلم يتَغَيَّر صفة الْمُؤَدى بِهَذَا الشَّرْط فَلَا يشْتَرط بَقَاؤُهُ لبَقَاء الْوَاجِب وعَلى هَذَا الأَصْل قُلْنَا لَا تجب الزَّكَاة فِي مَال الْمَدْيُون بِقدر مَا عَلَيْهِ من الدّين لِأَن الْوُجُوب بِاعْتِبَار الْغنى واليسر وَذَلِكَ يَنْعَدِم بِالدّينِ والغنى إِنَّمَا يحصل بِفضل عَن حَاجته وَحَاجته إِلَى قَضَاء الدّين حَاجَة أَصْلِيَّة فَلَا يحصل الْغنى بِملك ذَلِك الْقدر من المَال وَلِهَذَا حل لَهُ أَخذ الصَّدَقَة وَهِي لَا تحل لَغَنِيّ وَإِنَّمَا تيَسّر الْأَدَاء إِذا كَانَ الْمُؤَدى فضل مَال غير مَشْغُول بحاجته
وَكَذَلِكَ لَا تجب صَدَقَة الْفطر على الْمَدْيُون إِذا لم يملك نِصَابا فضلا عَن دينه لِأَن الْغَنِيّ يملك المَال مُعْتَبر فِي إِيجَاب صَدَقَة الْفطر على مَا بَينا أَنه إغناء للمحتاج وبحاجته إِلَى قَضَاء الدّين تنعدم صفة الْغنى وَإِن كَانَ الدّين على العَبْد الَّذِي هُوَ عبد

(1/71)


للْخدمَة فعلى الْمولى أَن يُؤَدِّي عَنهُ صَدَقَة الْفطر لِأَن صفة الْغنى ثَابت لَهُ بِملك من النّصاب سوى هَذَا الْقدر وأصل الْمَالِيَّة غير مُعْتَبرَة فِيمَن يجب الْأَدَاء عَنهُ وَلِهَذَا تجب عَن وَلَده الْحر وَكَذَلِكَ الْغنى بِهِ غير مُعْتَبر فَإِنَّهُ يجب الْأَدَاء عَن الْمُدبر وَأم الْوَلَد وَإِن لم يكن هُوَ غَنِيا بِملكه فيهمَا فَكَذَلِك إِذا كَانَ العَبْد مَشْغُولًا بِالدّينِ لِأَن ذَلِك الدّين على العَبْد يُوجب اسْتِحْقَاق مَالِيَّته فَيخرج الْمولى من أَن يكون غَنِيا بِهِ وَلَو كَانَ هَذَا العَبْد الْمَدْيُون للتِّجَارَة لم يجب على الْمولى أَن يُؤَدِّي عَنهُ زَكَاة التِّجَارَة لِأَن الْغنى بِالْمَالِ الَّذِي يجب أَدَاء الزَّكَاة عَنهُ شَرط ليَكُون الْأَدَاء بِصفة الْيُسْر وَذَلِكَ يَنْعَدِم بِقِيَام الدّين على العَبْد وَلَا يدْخل على مَا ذكرنَا وجوب كَفَّارَة الْمُوسر على الْمَدْيُون مَعَ اعْتِبَار صفة الْيُسْر فِي التَّكْفِير بِالْمَالِ لِأَن الْمَذْكُور فِي كتاب الْأَيْمَان أَنه إِذا حنث فِي يَمِين وَله ألف دِرْهَم وَعَلِيهِ مثلهَا دين فَإِنَّهُ يكفر بِالصَّوْمِ بَعْدَمَا يقْضِي دينه بِالْمَالِ وَلم يتَعَرَّض لما قبل قَضَاء الدّين أَنه بِمَاذَا يكفر فَقَالَ بعض مَشَايِخنَا يكفر بِالصَّوْمِ أَيْضا لِأَن مَا فِي يَده من المَال مُسْتَحقّ بِدِينِهِ مَشْغُول بحاجته وَفِي التَّكْفِير بِالْمَالِ صفة الْيُسْر مُعْتَبر بِدَلِيل التَّخْيِير المثابت بِالنَّصِّ وبسبب الدّين يَنْعَدِم الْيُسْر فيكفر بِالصَّوْمِ وَمِنْهُم من يَقُول يلْزمه التَّكْفِير بِالْمَالِ لِأَن الْكَفَّارَة أوجبت ساترة أَو زاجرة وَمَا أوجبت شكرا للنعمة فَلَا تشبه الزَّكَاة من هَذَا الْوَجْه فَإِنَّهَا أوجبت شكرا للنعمة والغنى وَلِهَذَا يشْتَرط لإيجابها أتم وُجُوه الْغنى وَذَلِكَ بِالْمَالِ النامي وَحَاجته إِلَى قَضَاء الدّين بِالْمَالِ يعْدم تَمام الْغنى وَلَا يعْدم معنى حُصُول الثَّوَاب لَهُ إِذا تصدق بِهِ ليَكُون ذَلِك ساترا للإثم الَّذِي لحقه بارتكاب مَحْظُور الْيَمين وَهُوَ الْمَقْصُود بِالْكَفَّارَةِ قَالَ تَعَالَى {إِن الْحَسَنَات يذْهبن السَّيِّئَات} يُوضحهُ أَن معنى الإغناء غير مُعْتَبر فِي التَّكْفِير بِالْمَالِ أَلا ترى أَنه يحصل بِالْإِعْتَاقِ وَلَيْسَ فِيهِ إغناء وَلِهَذَا قُلْنَا يحصل التَّكْفِير بِالْمَالِ بِطَعَام الْإِبَاحَة وَإِن كَانَ الإغناء لَا يحصل بِهِ فَعرفنَا أَن الْمُعْتَبر فِي التَّكْفِير بِالْمَالِ أصل الْيُسْر لَا نهايته وتيسير الْأَدَاء قَائِم بِملك المَال مَعَ قيام

(1/72)


الدّين عَلَيْهِ، فَأَما فِي الزَّكَاة الْمُعْتَبر هُوَ الإغناء، وَلِهَذَا لَا يتَأَدَّى إِلَّا بِتَمْلِيك المَال والإغناء لَا يتَحَقَّق مِمَّن لَيْسَ بغني كَامِل الْغنى وبسبب الدّين يَنْعَدِم الْغنى وَلِهَذَا يمْتَنع وجوب أَدَاء الزَّكَاة وَصدقَة الْفطر على الْمَدْيُون

فصل فِي بَيَان مُوجب الْأَمر فِي حق الْكفَّار
لَا خلاف أَنهم مخاطبون بِالْإِيمَان لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعث إِلَى النَّاس كَافَّة لِيَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِيمَان قَالَ تَعَالَى {قل يَا أَيهَا النَّاس إِنِّي رَسُول الله إِلَيْكُم جَمِيعًا} إِلَى قَوْله
تَعَالَى {فآمنوا بِاللَّه وَرَسُوله} فَهَذَا الْخطاب مِنْهُ يتناولهم لَا محَالة
وَلَا خلاف أَنهم مخاطبون بالمشروع من الْعُقُوبَات وَلِهَذَا تُقَام على أهل الذِّمَّة عِنْد تقرر أَسبَابهَا لِأَنَّهَا تُقَام بطرِيق الخزي والعقوبة لتَكون زاجرة عَن الْإِقْدَام على أَسبَابهَا وباعتقاد حُرْمَة السَّبَب يتَحَقَّق ذَلِك وَلَا تنعدم الْأَهْلِيَّة لإِقَامَة ذَلِك عَلَيْهِ بطريقه بل هُوَ جَزَاء وعقوبة فبالكفار أليق مِنْهُ بِالْمُؤْمِنِينَ
وَلَا خلاف أَن الْخطاب بالمعاملات يتناولهم أَيْضا لِأَن الْمَطْلُوب بهَا معنى دُنْيَوِيّ وَذَلِكَ بهم أليق فقد آثروا الدُّنْيَا على الْآخِرَة وَلِأَنَّهُم ملتزمون لذَلِك فعقد الذِّمَّة يقْصد بِهِ الْتِزَام أَحْكَام الْمُسلمين فِيمَا يرجع إِلَى الْمُعَامَلَات فَيثبت حكم الْخطاب بهَا فِي حَقهم كَمَا يثبت فِي حق الْمُسلمين لوُجُود الِالْتِزَام إِلَّا فِيمَا يعلم لقِيَام الدَّلِيل أَنهم غير ملتزمين لَهُ
وَلَا خلاف أَن الْخطاب بالشرائع يتناولهم فِي حكم الْمُؤَاخَذَة فِي الْآخِرَة لِأَن مُوجب الْأَمر اعْتِقَاد اللُّزُوم وَالْأَدَاء وهم يُنكرُونَ اللُّزُوم اعتقادا وَذَلِكَ كفر مِنْهُم بِمَنْزِلَة إِنْكَار التَّوْحِيد فَإِن صِحَة التَّصْدِيق وَالْإِقْرَار بِالتَّوْحِيدِ لَا يكون مَعَ إِنْكَار شَيْء من الشَّرَائِع
وَقَالَ مُحَمَّد رَحمَه الله فِي السّير الْكَبِير من أنكر شَيْئا من الشَّرَائِع فقد أبطل قَول لَا إِلَه إِلَّا الله فقد ذكر بعض من لَا يعْتَمد على قَوْله من أهل زَمَاننَا فِي تصنيف لَهُ أَن الْمُسلم إِذا أنكر شَيْئا من الشَّرَائِع فَهُوَ كَافِر فِيمَا أنكرهُ مُؤمن فِيمَا سوى ذَلِك وَهُوَ شبه الْمحَال من الْكَلَام يبتلى ذَلِك هُوَ مُخَالف للرواية المنصوصة عَن الْمُتَقَدِّمين من أَصْحَابنَا رَحِمهم الله فَإِذا ثَبت أَنه ترك ذَلِك استحلالا وجحودا يكون كفرا مِنْهُ ظهر أَنه معاقب عَلَيْهِ فِي الْآخِرَة كَمَا هُوَ معاقب على أصل الْكفْر وَهُوَ المُرَاد بقوله تَعَالَى {وويل للْمُشْرِكين الَّذين لَا يُؤْتونَ الزَّكَاة} أَي لَا يقرونَ بهَا وَقَالَ تَعَالَى الْمَرْء بِمثلِهِ لقلَّة التَّأَمُّل

(1/73)


أَو إعجابه بِنَفسِهِ أعاذنا الله من ذَلِك وَمَعَ {مَا سلككم فِي سقر قَالُوا لم نك من الْمُصَلِّين} قيل فِي التَّفْسِير من الْمُسلمين المعتقدين فَرضِيَّة الصَّلَاة
فَهَذَا معنى قَوْلنَا إِن الْخطاب يتناولهم فِيمَا يرجع إِلَى الْعقُوبَة فِي الْآخِرَة
فَأَما فِي وجوب الْأَدَاء فِي أَحْكَام الدُّنْيَا فمذهب الْعِرَاقِيّين من مَشَايِخنَا رَحِمهم الله أَن الْخطاب يتناولهم أَيْضا وَالْأَدَاء وَاجِب عَلَيْهِم فَإِنَّهُم لَا يعاقبون على ترك الْأَدَاء إِذا لم يكن الْأَدَاء وَاجِبا عَلَيْهِم وَظَاهر مَا تلونا يدل على أَنهم يعاقبون فِي الْآخِرَة على الِامْتِنَاع من الْأَدَاء فِي الدُّنْيَا وَلِأَن الْكفْر رَأس الْمعاصِي فَلَا يصلح سَببا لاسْتِحْقَاق التَّخْفِيف وَمَعْلُوم أَن سَبَب الْوُجُوب متقرر فِي حَقهم وصلاحية الذِّمَّة لثُبُوت الْوَاجِب فِيهَا بِسَبَبِهِ مَوْجُود فِي حَقهم وَشرط وجوب الْأَدَاء التَّمَكُّن مِنْهُ وَذَلِكَ غير منعدم فِي حَقهم فَلَو سقط الْخطاب بِالْأَدَاءِ كَانَ ذَلِك تَخْفِيفًا وَالْكفْر لَا يصلح تَخْفِيفًا لذَلِك وَلَا معنى لقَوْل من يَقُول إِن التَّمَكُّن من الْأَدَاء على هَذِه الصّفة لَا يتَحَقَّق حَتَّى لَو أدّى لم يكن ذَلِك معتدا بِهِ لِأَنَّهُ يتَمَكَّن بِهِ من الْأَدَاء بِشَرْط أَن يقدم الْإِيمَان وَالْخطاب بِهِ ثَابت فِي حَقه فَهُوَ نَظِير الْجنب والمحدث يتَمَكَّن من أَدَاء الصَّلَاة بِشَرْط الطَّهَارَة وَهُوَ مطَالب بذلك فَيكون مُتَمَكنًا من أَدَاء الصَّلَاة يتَوَجَّه عَلَيْهِ الْخطاب بأدائها مَعَ أَن انعدام التَّمَكُّن من الْأَدَاء بإصراره على الْكفْر وَهُوَ جَان فِي ذَلِك فَيجْعَل التَّمَكُّن قَائِما حكما إِذا كَانَ انعدامه بِسَبَب جِنَايَته أَلا ترى أَن زَوَال التَّمَكُّن بِسَبَب الشُّكْر لَا يسْقط الْخطاب بأَدَاء الْعِبَادَات وَكَذَلِكَ انعدام التَّمَكُّن بِسَبَب الْجَهْل إِذا كَانَ بتقصير مِنْهُ لَا يسْقط الْخطاب بِالْأَدَاءِ فبسبب الْكفْر أولى
ومشايخ دِيَارنَا يَقُولُونَ إِنَّهُم لَا يخاطبون بأَدَاء مَا يحْتَمل السُّقُوط من الْعِبَادَات وَجَوَاب هَذِه الْمَسْأَلَة غير مَحْفُوظ من الْمُتَقَدِّمين من أَصْحَابنَا رَحِمهم الله نصا وَلَكِن

(1/74)


مسائلهم تدل على ذَلِك فَإِن الْمُرْتَد إِذا أسلم لَا يلْزمه قَضَاء الصَّلَوَات الَّتِي تَركهَا فِي حَال الرِّدَّة عندنَا وَتلْزَمهُ عِنْد الشَّافِعِي وَالْمُرْتَدّ كَافِر
وَاسْتدلَّ بعض أَصْحَابنَا على أَن الْخلاف بَيْننَا وَبَين الشَّافِعِي أَن تنصيص عُلَمَائِنَا أَن ذَلِك لَا يلْزمه الْقَضَاء بعد الْإِسْلَام دَلِيل على أَنه لم يكن مُخَاطبا بأدائها فِي حَالَة الْكفْر وَهَذَا ضَعِيف فسقوط الْقَضَاء عَن الْمُرْتَد وَالْكَافِر الْأَصْلِيّ بعد الْإِسْلَام بِوُجُود الدَّلِيل الْمسْقط وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {إِن ينْتَهوا يغْفر لَهُم مَا قد سلف} وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام الْإِسْلَام يجب مَا قبله والسقوط بِإِسْقَاط من لَهُ الْحق لَا يكون دَلِيل انْتِفَاء أصل الْوُجُوب
وَمِنْهُم من اسْتدلَّ على ذَلِك بِمن صلى فِي أول الْوَقْت ثمَّ ارْتَدَّ ثمَّ أسلم فِي آخر الْوَقْت فَعَلَيهِ أَدَاء فرض الْوَقْت عندنَا لِأَن بِالرّدَّةِ يَنْعَدِم خطاب الْأَدَاء فِي حَقه والاعتداد بِمَا مضى كَانَ بِنَاء عَلَيْهِ فَإِذا أسلم وَقد بَقِي شَيْء من الْوَقْت يثبت الْوُجُوب بِاعْتِبَارِهِ وَيصير مُخَاطبا بِالْأَدَاءِ ابْتِدَاء وعَلى قَول الشَّافِعِي لَا يلْزمه الْأَدَاء لِأَن الْخطاب بِالْأَدَاءِ لَا يَنْعَدِم فِي حَقه بِالرّدَّةِ فَبَقيَ الْمُؤَدى معتدا بِهِ وعَلى هَذَا لَو حج ثمَّ ارْتَدَّ ثمَّ أسلم وَلَكِن هَذَا ضَعِيف أَيْضا فَإِن الْمُؤَدى إِنَّمَا لَا يكون معتدا بِهِ بعد الرِّدَّة لِأَن الرِّدَّة تحبط الْعَمَل قَالَ الله تَعَالَى {وَمن يكفر بِالْإِيمَان فقد حَبط عمله} يَعْنِي مَا اكْتسب من الْعِبَادَات وَمَا حَبط لَا يكون معتدا فَلهَذَا ألزمناه الْأَدَاء ثَانِيًا
وَمِنْهُم من جعل هَذِه الْمَسْأَلَة فرعا لأصل مَعْرُوف بَيْننَا وَبينهمْ أَن الشَّرَائِع عِنْدهم من نفس الْإِيمَان وهم مخاطبون بِالْإِيمَان (فيخاطبون بالشرائع وَعِنْدنَا الشَّرَائِع لَيست من نفس الْإِيمَان وهم مخاطبون بِالْإِيمَان) فَلَا يخاطبون بِالْأَدَاءِ بالشرائع الَّتِي تبتنى على الْإِيمَان مَا لم يُؤمنُوا وَهَذَا ضَعِيف أَيْضا فَإِنَّهُم مخاطبون بالعقوبات والمعاملات وَلَيْسَ شَيْء من ذَلِك من نفس الْإِيمَان أَيْضا
فَالَّذِي يَصح من الِاسْتِدْلَال لمشايخنا رَحِمهم الله على هَذَا الْمَذْهَب لفظ مَذْكُور فِي الْكتاب وَهُوَ أَن من نذر أَن يَصُوم شهرا ثمَّ ارْتَدَّ ثمَّ أسلم فَلَيْسَ عَلَيْهِ من الصَّوْم الْمَنْذُور شَيْء لِأَن الرِّدَّة تبطل كل عبَادَة وَمَعْلُوم أَنه لم يرد بِهَذَا التَّعْلِيل الْعِبَادَة المؤداة فَهُوَ مَا أدّى الْمَنْذُور بعد فَعرف أَن الرِّدَّة تبطل وجوب أَدَاء كل عبَادَة فَيكون هَذَا شبه التَّنْصِيص عَن أَصْحَابنَا أَن الْخطاب بأَدَاء الشَّرَائِع الَّتِي تحْتَمل السُّقُوط لَا يتناولهم مَا لم يُؤمنُوا

(1/75)


وَالدَّلِيل على صِحَة هَذَا القَوْل أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام لما بعث معَاذًا إِلَى الْيمن فَقَالَ ادعهم إِلَى شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله فَإِن هم أجابوك فأعلمهم أَن الله تَعَالَى فرض عَلَيْهِم خمس صلوَات فِي كل يَوْم وَلَيْلَة الحَدِيث فَفِي هَذَا تنصيص على أَن وجوب أَدَاء الشَّرَائِع يَتَرَتَّب على الْإِجَابَة إِلَى مَا دعوا إِلَيْهِ من أصل الدّين وَالدَّلِيل على ذَلِك من طَرِيق الْمَعْنى أَن الْأَمر بأَدَاء الْعِبَادَة لينال بِهِ الْمُؤَدِّي الثَّوَاب فِي الْآخِرَة حكما من الله تَعَالَى (كَمَا وعده فِي مُحكم تَنْزِيله وَالْكَافِر لَيْسَ بِأَهْل لثواب الْعِبَادَة عُقُوبَة لَهُ على كفره حكما من الله تَعَالَى) كَمَا أَن العَبْد لَا يكون أَهلا لملك المَال حكما من الله تَعَالَى وَالْمَرْأَة لَا تكون أَهلا لثُبُوت ملك الْمُتْعَة لَهَا على الرجل بِسَبَب النِّكَاح أَو بِسَبَب ملك الرَّقَبَة حكما من الله تَعَالَى وَإِذا تحقق انعدام الْأَهْلِيَّة للْكَافِرِ فِيمَا هُوَ الْمَطْلُوب بِالْأَدَاءِ يظْهر بِهِ انعدام الْأَهْلِيَّة للْأَدَاء وَبِدُون الْأَهْلِيَّة لَا يثبت وجوب الْأَدَاء وَبِه فَارق الْخطاب بِالْإِيمَان فَإِنَّهُ بِالْأَدَاءِ يصير أَهلا لما وعد الله الْمُؤمنِينَ فبه تبين الْأَهْلِيَّة للْأَدَاء أَيْضا
فَإِن قيل هُوَ بِالْإِيمَان يصير أَهلا لما هُوَ مَوْعُود على أَدَاء الْعِبَادَات وَهُوَ مطَالب بِالْإِيمَان فَيَنْبَغِي أَن يَجْعَل فِي حكم توجه الْخطاب بِالْأَدَاءِ عَلَيْهِ كَأَن مَا هُوَ مطَالب بِهِ بِالْإِيمَان مَوْجُود فِي حَقه كَمَا جعل النُّطْفَة فِي الرَّحِم كالحي حكما فِي حق الْإِرْث وَالْوَصِيَّة وَالْإِعْتَاق وَيجْعَل الْبيض كالصيد حكما فِي وجوب الْجَزَاء على الْمحرم بكسره وَإِن لم يكن فِيهَا معنى الصيدية حَقِيقَة
قُلْنَا هَذَا أَن لَو كَانَ مآل أمره الْإِيمَان بِاعْتِبَار الظَّاهِر كالبيض والنطفة فمآلهما إِلَى الْحَيَاة والصيدية مَا لم يفسدا ومآل أَمر الْكَافِر لَيْسَ للْإيمَان ظَاهرا بل الظَّاهِر من حَال كل معتقداته يستديم اعْتِقَاده ثمَّ هَذَا الْمَعْنى إِنَّمَا يَسْتَقِيم اعْتِبَاره إِذا كَانَ عِنْد إيمَانه يَتَقَرَّر وجوب الْأَدَاء فِيمَا يَتَقَرَّر سَببه فِي حَال الْكفْر فَيُقَال يُخَاطب بِالْأَدَاءِ على أَن يسلم فيتقرر وجوب الْأَدَاء كَمَا فِي النُّطْفَة وَالْبيض فَإِن حكم الْعتْق وَالْملك والصيدية يَتَقَرَّر إِذا تحقق صفة الْحَيَاة فيهمَا وَهَهُنَا يَنْعَدِم بالِاتِّفَاقِ فَإِنَّهُ بعد الْإِيمَان لَا يبْقى وجوب الْأَدَاء فِي شَيْء مِمَّا سبق فِي حَالَة الْكفْر
فَإِن قيل أَلَيْسَ أَن العَبْد من أهل مُبَاشرَة التَّصَرُّف الْمُوجب لملك المَال وَإِن لم يكن أَهلا لملك المَال فَكَذَلِك يجوز أَن يكون الْكَافِر يُخَاطب بأَدَاء الْعِبَادَات وَإِن لم يكن

(1/76)


أَهلا لما هُوَ الْمَقْصُود بالآداء
قُلْنَا صِحَة ذَلِك التَّصَرُّف من الْمَمْلُوك على أَن يخلفه الْمولى فِي حكمه أَو على أَن يَتَقَرَّر الحكم لَهُ إِذا أعتق كَالْمكَاتبِ فَأَما هُنَا لَا تثبت أَهْلِيَّة الْأَدَاء فِي حَقه على أَن يخلفه غَيره فِيمَا هُوَ المبتغي بِالْأَدَاءِ أَو على أَن يَتَقَرَّر ذَلِك لَهُ بعد إيمَانه وَهَذَا بِخِلَاف الْجنب والمحدث فِي الْخطاب بأَدَاء الصَّلَاة لِأَن الْأَهْلِيَّة لما هُوَ مَوْعُود للمصلين لَا يَنْعَدِم بالجنابة وَالْحَدَث وَلَكِن الطَّهَارَة شَرط الْأَدَاء وبانعدام الشَّرْط لَا تنعدم الْأَهْلِيَّة لأَدَاء الأَصْل وَمَا هَذَا إِلَّا نَظِير من يَقُول لغيره أعتق عَبدك عني على ألف دِرْهَم فَأعْتقهُ يَصح إِعْتَاقه عَن الْآمِر بِاعْتِبَار أَن الْملك فِي الْمحل شَرط الْإِعْتَاق فانعدامه عِنْد الْأَمر لَا يمْنَع صِحَة الْأَمر على أَن يكون مُوجبا للْحكم لَهُ إِذا وجد الشَّرْط عِنْد إِيجَاد الْعتْق
وَلَو قَالَ الْمولى لعَبْدِهِ أعتق عَن نَفسك عبدا فَأعتق لم يَصح هَذَا الْأَمر وَلم يكن الْإِعْتَاق عَن العَبْد لِأَنَّهُ بِصفة الرّقّ يخرج من أَن يكون أَهلا للإعتاق عَن نَفسه فَلَا يَصح أمره إِيَّاه بِالْإِعْتَاقِ عَن نَفسه مَعَ انعدام الْأَهْلِيَّة وَتبين بِهَذَا أَن سُقُوط الْخطاب بِالْأَدَاءِ عَنْهُم لَيْسَ للتَّخْفِيف عَلَيْهِم كَمَا ظنُّوا بل لتحَقّق معنى الْعقُوبَة والنقمة فِي حَقهم فَإِن الْإِخْرَاج من الْأَهْلِيَّة لثواب الْعِبَادَة يكون نقمة يُوضحهُ أَن الْأَمر لطلب أَدَاء الْعِبَادَة وَهُوَ مَعَ صفة الْكفْر لَا يكون أَهلا لِلْعِبَادَةِ بل يحبط عمله كَمَا قَالَ الله تَعَالَى {وَقدمنَا إِلَى مَا عمِلُوا من عمل فجعلناه هباء منثورا} وَمَعْلُوم أَن فِي الْعِبَادَة الْمَنْفَعَة للمؤدي الْمَأْمُور لَا للْآمِر قَالَ الله تَعَالَى {وَمن عمل صَالحا فلأنفسهم يمهدون} وَالْكَافِر لَا يسْتَحق هَذَا النّظر وَالْمَنْفَعَة عُقُوبَة لَهُ على كفره فَكيف يكون فِيهِ معنى التَّخْفِيف عَلَيْهِ والإيجاب من الْآمِر نظر من الشَّرْع للْمَأْمُور فَعَسَى أَن يقصر فِيمَا لَا يكون وَاجِبا عَلَيْهِ وَلَا يقصر فِي أَدَاء مَا هُوَ وَاجِب عَلَيْهِ وَالْكَافِر غير مُسْتَحقّ لهَذَا النّظر فقولنا وجوب الْأَدَاء لَا يتَنَاوَلهُ يكون تَغْلِيظًا عَلَيْهِ لَا تَخْفِيفًا وَلِهَذَا أثبتنا حكم وجوب الْأَدَاء فِيمَا يرجع إِلَى الْعقُوبَة فِي الْآخِرَة فِي حَقه ثمَّ هُوَ بإصراره على الْكفْر متْلف نَفسه حكما فِيمَا يرجع إِلَى مَا هُوَ الْمَقْصُود بالعبادات فَيكون بِمَنْزِلَة من قتل نَفسه حَقِيقَة وَلَا يَجْعَل قَاتل النَّفس حَقِيقَة كالحي حكما فِي توجه الْخطاب عَلَيْهِ بأَدَاء الْعِبَادَات لَا للتَّخْفِيف عَلَيْهِ فَكَذَلِك الْكَافِر لَا يَجْعَل مُتَمَكنًا من الْأَدَاء حكما مَعَ إصراره على الْكفْر لَا بطرِيق التَّخْفِيف عَلَيْهِ وَلَكِن تجْعَل ذمَّته كالمعدومة حكما فِي الصلاحية لوُجُوب أَدَاء الْعِبَادَات فِيهَا تَحْقِيقا لِمَعْنى الهوان فِي حَقهم الله تَعَالَى قَالَ {إِن هم إِلَّا كالأنعام بل هم أضلّ سَبِيلا} ثمَّ الْخطاب وَهُوَ أَن يلحقهم بالبهائم الَّتِي لَا ذمَّة لَهَا فِي هَذَا الحكم

(1/77)


كَمَا وَصفهم بأَدَاء الْعِبَادَات ليسعى الْمَرْء بأدائها فِي فكاك نَفسه قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام النَّاس غاديان بَائِع نَفسه فموبقها ومشتر نَفسه فمعتقها يَعْنِي بالائتمار بالأوامر وَالْقَوْل بِأَن الْكَافِر لَيْسَ بِأَهْل للسعي فِي فكاك نَفسه مَا لم يُؤمن لَا يكون تَخْفِيفًا عَلَيْهِ وَهُوَ نَظِير أَدَاء بدل الْكِتَابَة لما كَانَ ليتوصل بِهِ الْمكَاتب إِلَى فكاك نَفسه فإسقاط الْمولى هَذِه الْمُطَالبَة عَنهُ عِنْد عَجزه بِالرَّدِّ فِي الرّقّ لَا يكون تَخْفِيفًا عَلَيْهِ فَإِن مَا بَقِي فِيهِ من ذل الرّقّ فَوق ضَرَر الْمُطَالبَة بِالْأَدَاءِ
وَإِنَّمَا استنبطنا هَذَا من تَعْلِيل مُحَمَّد رَحمَه الله فِي قَوْله مَا فِيهِ من الشّرك أعظم من ذَلِك علل بِهِ فِي أَنه لَا يلْزمه كَفَّارَة الظِّهَار وَكَفَّارَة الْيَمين وَإِن حنث وَفِي الْكَفَّارَات معنى الْعِبَادَة على مَا بَينا أَنه ينَال بِهِ الثَّوَاب فَيكون مكفرا للذنب وَالْكَافِر لَيْسَ بِأَهْل لذَلِك فَلَا يثبت فِي حَقه الْخطاب بأَدَاء الْكَفَّارَة كَمَا لَا يثبت فِي حق العَبْد الْخطاب بالتكفير بِالْمَالِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَهْل لذَلِك
وَنَظِير مَا قُلْنَا من الحسيات أَن مُطَالبَة الطَّبِيب الْمَرِيض بِشرب الدَّوَاء إِذا كَانَ يَرْجُو لَهُ الشِّفَاء يكون نظرا من الطَّبِيب لَا إِضْرَارًا بِهِ فَإِذا أيس من شفائه فَترك مُطَالبَته بِشرب الدَّوَاء لَا يكون ذَلِك تَخْفِيفًا عَلَيْهِ بل إجبارا لَهُ بِمَا هُوَ أَشد عَلَيْهِ من ضَرَر شرب الدَّوَاء وَهُوَ مَا يَذُوق من كأس الْحمام فَكَذَلِك هُنَا أَن الْكفَّار لَا يخاطبون بأَدَاء الشَّرَائِع لَا يتَضَمَّن معنى التَّخْفِيف عَلَيْهِم بل يكون فِيهِ بَيَان عظم الْوزر والعقوبة فِيمَا هُوَ مصر عَلَيْهِ من الشّرك وَالله أعلم
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَاب النَّهْي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ رَضِي الله عَنهُ اعْلَم بِأَن مُوجب النَّهْي شرعا لُزُوم الِانْتِهَاء عَن مُبَاشرَة الْمنْهِي عَنهُ لِأَنَّهُ ضد الْأَمر
أما من حَيْثُ اللُّغَة فصيغة الْأَمر لبَيَان أَن الْمَأْمُور بِهِ مِمَّا يَنْبَغِي أَن يكون وَصِيغَة النَّهْي لبَيَان أَنه مِمَّا يَنْبَغِي أَن لَا يكون وَأما شرعا فَالْأَمْر لطلب إِيجَاد الْمَأْمُور بِهِ على أبلغ الْوُجُوه مَعَ بَقَاء اخْتِيَار الْمُخَاطب فِي حَقِيقَة الإيجاد وَذَلِكَ

(1/78)


فِي وجوب الائتمار وَالنَّهْي لطلب مُقْتَضى الِامْتِنَاع عَن الإيجاد على ابلغ الْوُجُوه مَعَ بَقَاء اخْتِيَار للمخاطب فِيهِ وَذَلِكَ بِوُجُوب الِانْتِهَاء فَإِذا تبين مُوجب النَّهْي قُلْنَا مُقْتَضى النَّهْي قبح الْمنْهِي عَنهُ شرعا كَمَا أَن مُقْتَضى الْأَمر حسن الائتمار بِهِ شرعا أَلا ترى أَن التَّحْرِيم لما كَانَ ضد الْإِحْلَال كَانَ مُقْتَضى أَحدهمَا ضد مُقْتَضى الآخر وَلِأَن صَاحب الشَّرْع جَاءَ بتتميم المحاسن وَنفي القبائح فَكَانَ نَهْيه مُوجبا قبح الْمنْهِي عَنهُ كَمَا كَانَ أمره مُوجبا صفة الْحسن للْمَأْمُور بِهِ
فَإِن قيل لماذا لَا يَجْعَل مُقْتَضى النَّهْي شرعا حسن الِانْتِهَاء كَمَا كَانَ مُقْتَضى الْأَمر حسن الائتمار قُلْنَا لِأَنَّهُ يصير مقتضاهما وَاحِدًا وَبَينهمَا مُغَايرَة على سَبِيل المضادة ثمَّ الائتمار بِفعل يَقْصِدهُ الْمُخَاطب ويضاف وجوده إِلَى كَسبه فَيحسن الائتمار لكَون ذَلِك مُضَافا إِلَيْهِ فَأَما الِانْتِهَاء يكون بامتناعه عَن إِيجَاد الْفِعْل الْمنْهِي عَنهُ ثمَّ انعدامه لَا يكون مُضَافا إِلَى كَسبه وقصده بل الانعدام أصل فِيهِ مَا لم يوجده وَإِذا لم يكن مُضَافا إِلَى فعله الَّذِي هُوَ اخْتِيَاري لَا يَسْتَقِيم أَن يُوصف امْتِنَاعه عَن الإيجاد بالْحسنِ مَقْصُودا فَعرفنَا بِهِ أَن قبح الْمنْهِي عَنهُ ثَابت بِمُقْتَضى وجوب الِانْتِهَاء شرحا
فَإِن قيل تَركه الْفِعْل الَّذِي يكون إيجادا فعل مَقْصُود مِنْهُ على مَا هُوَ مَذْهَب أهل السّنة وَالْجَمَاعَة أَن ترك الْفِعْل فعل لما فِيهِ من اسْتِعْمَال أحد الضدين والانتهاء بِهِ يتَحَقَّق قُلْنَا هُوَ كَذَلِك وَلَكِن مُوجب النَّهْي هُوَ الِانْتِهَاء وَحَقِيقَته الِامْتِنَاع عَن الإيجاد ثمَّ إِن دَعَتْهُ نَفسه إِلَى الإيجاد يلْزمه التّرْك ليَكُون مُمْتَنعا وَالنَّهْي عَنهُ يبْقى عدما كَمَا كَانَ أَلا ترى أَن الِامْتِنَاع الَّذِي بِهِ يتَحَقَّق الِانْتِهَاء يسْتَغْرق جَمِيع الْعُمر وَالتّرْك الَّذِي هُوَ فعل مِنْهُ لَا يسْتَغْرق فَإِنَّهُ قبل أَن يعلم بِهِ يكون منتهيا بالامتناع عَنهُ وَلَا يكون مباشرا للْفِعْل الَّذِي هُوَ ترك الإيجاد فَإِن ذَلِك لَا يكون إِلَّا عَن قصد مِنْهُ بعد الْعلم بِهِ
وَبَيَان هَذَا أَن الصَّائِم مَأْمُور بترك اقْتِضَاء السهرتين فِي حَال الصَّوْم فَلَا يتَحَقَّق مِنْهُ هَذَا الْفِعْل ركنا للصَّوْم حَتَّى يعلم بِهِ ويقصده والمعتدة مَمْنُوعَة من التَّزَوُّج وَالْخُرُوج والتطيب وَذَلِكَ ركن الِاعْتِدَاد وَيتم ذَلِك وَإِن لم تعلم بِهِ حَتَّى يحكم بِانْقِضَاء عدتهَا بِمُضِيِّ

(1/79)


الزَّمَان قبل أَن نشعر بِهِ وعَلى هَذَا لَو قَالَ لامْرَأَته إِن لم أشأ طَلَاقك فَأَنت طَالِق ثمَّ قَالَ لَا أَشَاء طَلَاقك لم تطلق وَلَو قَالَ إِن أَبيت طَلَاقك فَأَنت طَالِق ثمَّ قَالَ قد أَبيت طلقت لِأَن الإباء فعل يَقْصِدهُ ويكسبه فَيصير مَوْجُودا بقوله قد أَبيت وَلَا يكون ذَلِك مُسْتَغْرقا للمدة وَعدم الْمَشِيئَة عبارَة عَن امْتِنَاعه من الْمَشِيئَة وَذَلِكَ يسْتَغْرق عمره فَلَا يتَحَقَّق وجود الشَّرْط بقوله لَا أَشَاء وَلَا بامتناعه من الْمَشِيئَة فِي جُزْء من عمره
وَإِذا تبين أَن مُقْتَضى النَّهْي قبح الْمنْهِي عَنهُ شرعا فَنَقُول الْمنْهِي عَنهُ فِي صفة الْقبْح قِسْمَانِ قسم مِنْهُ مَا هُوَ قَبِيح لعَينه وَقسم مِنْهُ مَا هُوَ قَبِيح لغيره وَهَذَا الْقسم يتنوع نَوْعَيْنِ نوع مِنْهُ مَا هُوَ قَبِيح لِمَعْنى جاوره جمعا وَنَوع مِنْهُ مَا هُوَ قَبِيح لِمَعْنى اتَّصل بِهِ وَصفا
فَأَما بَيَان الْقسم الأول فِي الْعَبَث والسفه فَإِنَّهُمَا قبيحان شرعا لِأَن وَاضع اللُّغَة وضع هذَيْن الاسمين لما يكون خَالِيا عَن الْفَائِدَة ومبنى الشَّرْع على مَا هُوَ حِكْمَة لَا يَخْلُو عَن فَائِدَة فَمَا يَخْلُو عَن ذَلِك قطعا يكون قبيحا شرعا وَمن هَذَا النَّوْع فعل اللواطة فالمقصود من اقْتِضَاء الشَّهْوَة شرعا هُوَ النَّسْل وَهَذَا الْمحل لَيْسَ بِمحل لَهُ أصلا فَكَانَ قبيحا شرعا وَنَظِيره من الْعُقُود بيع الملاقيح والمضامين فَإِنَّهُ قَبِيح شرعا لِأَن البيع مُبَادلَة المَال بِالْمَالِ شرعا وَهُوَ مَشْرُوع لاستنماء المَال بِهِ وَالْمَاء فِي الصلب وَالرحم لَا مَالِيَّة فِيهِ فَلم يكن محلا للْبيع شرعا وَكَذَلِكَ الصَّلَاة بِغَيْر الطَّهَارَة لِأَن الشَّرْع قصر الْأَهْلِيَّة لأَدَاء الصَّلَاة على كَون الْمُصَلِّي طَاهِرا عَن الْحَدث والجنابة فتنعدم الْأَهْلِيَّة بانعدام صفة الطَّهَارَة وانعدام الْأَهْلِيَّة فَوق انعدام الْمَحَلِّيَّة فَكَانَ كل وَاحِد مِنْهُمَا قبيحا شرعا بِهَذَا الطَّرِيق
وَحكم هَذَا النَّوْع من الْمنْهِي بَيَان أَنه غير مَشْرُوع أصلا لِأَن الْمَشْرُوع لَا يَخْلُو عَن حِكْمَة وَبِدُون الْأَهْلِيَّة والمحلية لَا تصور لذَلِك فَيعلم بِهِ أَنه غير مَشْرُوع أصلا
وَبَيَان النَّوْع الثَّانِي من الْأَفْعَال وَطْء الرجل زَوجته فِي حَالَة الْحيض فَإِنَّهُ حرَام مَنْهِيّ عَنهُ وَلَكِن لِمَعْنى اسْتِعْمَال الْأَذَى وَاسْتِعْمَال الْأَذَى مجاور للْوَطْء جمعا غير مُتَّصِل بِهِ وَصفا وَلِهَذَا جَازَ لَهُ أَن يسْتَمْتع بهَا فِيمَا سوى مَوضِع خُرُوج الدَّم فِي قَول مُحَمَّد رَحمَه الله لِأَنَّهُ لَا يجاور فعله اسْتِعْمَال الْأَذَى وَفِي قَول أبي حنيفَة رَحمَه الله يسْتَمْتع بهَا

(1/80)


فَوق المئزر ويجتنب مَا تَحْتَهُ احْتِيَاطًا لِأَنَّهُ لَا يَأْمَن الْوُقُوع فِي اسْتِعْمَال الْأَذَى إِذا استمتع بهَا فِي الْموضع الْقَرِيب من مَوضِع الْأَذَى
وَنَظِير هَذَا النَّوْع من الْعُقُود والعبادات البيع وَقت النداء فَإِنَّهُ مَنْهِيّ عَنهُ لما فِيهِ من الِاشْتِغَال عَن السَّعْي إِلَى الْجُمُعَة بِغَيْرِهِ بَعْدَمَا تعين لُزُوم السَّعْي وَذَلِكَ يجاور البيع وَلَا يتَّصل بِهِ وَصفا وَالصَّلَاة فِي الأَرْض الْمَغْصُوبَة مَنْهِيّ عَنْهَا لِمَعْنى شغل ملك الْغَيْر بِنَفسِهِ وَذَلِكَ مجاور لفعل الصَّلَاة جمعا غير مُتَّصِل بِهِ وَصفا فَعرفنَا أَن قبحه لِمَعْنى فِي غَيره
وَحكم هَذَا النَّوْع أَنه يكون صَحِيحا مَشْرُوعا بعد النَّهْي من قبل أَن الْقبْح لما كَانَ بِاعْتِبَار فعل آخر سوى الصَّلَاة وَالْبيع وَالْوَطْء لم يكن مؤثرا فِي الْمَشْرُوع لَا أصلا وَلَا وَصفا أَلا ترى أَن الصَّائِم إِذا ترك الصَّلَاة يكون فعل الصَّوْم مِنْهُ عبَادَة صَحِيحَة هُوَ مُطِيع فِيهِ وَإِن كَانَ عَاصِيا فِي ترك الصَّلَاة وَهنا يكون مُطيعًا فِي الصَّلَاة وَإِن كَانَ عَاصِيا فِي شغل ملك الْغَيْر بِنَفسِهِ ومباشرا للْوَطْء الْمَمْلُوك بِالنِّكَاحِ وَإِن كَانَ عَاصِيا مرتكبا لِلْحَرَامِ بِاسْتِعْمَال الْأَذَى وَلِهَذَا قُلْنَا يثبت الْحل للزَّوْج الأول بِالْوَطْءِ الثَّانِي إِيَّاهَا فِي حَالَة الْحيض وَيثبت بِهِ إِحْصَان الواطىء أَيْضا
وَأما النَّوْع الثَّالِث فبيانه فِي الزِّنَا فَإِنَّهُ وَطْء غير مَمْلُوك فَكَانَ قبيحا شرعا لِأَن الشَّرْع قصر ابْتِغَاء النَّسْل بِالْوَطْءِ على مَحل مَمْلُوك فَقَالَ الله تَعَالَى {إِلَّا على أَزوَاجهم أَو مَا ملكت أَيْمَانهم} وَنَظِيره من الْعُقُود الرِّبَا فَإِنَّهُ قَبِيح لِمَعْنى اتَّصل بِالْبيعِ وَصفا وَهُوَ انعدام الْمُسَاوَاة الَّتِي هِيَ شَرط جَوَاز البيع فِي هَذِه الْأَمْوَال شرعا وَمن الْعِبَادَات النَّهْي عَن صَوْم يَوْم الْعِيد وَأَيَّام التَّشْرِيق فَإِنَّهُ قَبِيح لِمَعْنى اتَّصل بِالْوَقْتِ الَّذِي هُوَ مَحل الْأَدَاء وَصفا وَهُوَ أَنه يَوْم عيد وَيَوْم ضِيَافَة
ثمَّ لَا خلاف فِيمَا يكون من الْأَفْعَال الَّتِي يتَحَقَّق حسا من هَذَا النَّوْع أَنه فِي صفة الْقبْح مُلْحق بالقسم الأول فَإِن الزِّنَا وَشرب الْخمر حرَام لعَينه غير مَشْرُوع أصلا وَلِهَذَا تتَعَلَّق بهما الْعقُوبَة الَّتِي تندرىء بِالشُّبُهَاتِ وَمَا كَانَ مَشْرُوعا من وَجه وحراما لغيره لَا يَخْلُو عَن شُبْهَة فإيجاب الْعقُوبَة فيهمَا دَلِيل ظَاهر على أَن حرمتهما لعينهما وَذَلِكَ دَلِيل على قبح الْمنْهِي عَنهُ لعَينه

(1/81)


وَاخْتلفُوا فِيمَا يكون من هَذَا النَّوْع من الْعُقُود والعبادات
قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحِمهم الله مُوجب مُطلق النَّهْي فِيهَا تَقْرِير الْمَشْرُوع مَشْرُوعا وَجعل أَدَاء العَبْد إِذا بَاشَرَهَا فَاسِدا إِلَّا بِدَلِيل
وَقَالَ الشَّافِعِي مُوجب مُطلق النَّهْي فِي هَذَا النَّوْع انتساخ الْمنْهِي عَنهُ وَخُرُوجه من أَن يكون مَشْرُوعا أصلا إِلَّا بِدَلِيل
وحجته فِي ذَلِك أَن النَّهْي ضد الْأَمر
ثمَّ مُقْتَضى مُطلق الْأَمر شرع الْمَأْمُور بِهِ فَمُقْتَضى مُطلق النَّهْي ضِدّه وَهُوَ انعدام كَون الْمنْهِي عَنهُ مَشْرُوعا وَهَذَا لِأَن الْحَقِيقَة هُوَ المُرَاد من كل نوع حَتَّى يقوم دَلِيل الْمجَاز ثمَّ الْحَقِيقَة فِي مُطلق الْأَمر إِثْبَات صفة الْحسن فِي الْمَأْمُور بِهِ شرعا لعَينه لَا لغيره
وَكَذَلِكَ الْحَقِيقَة فِي مُطلق النَّهْي إِثْبَات صفة الْقبْح فِي الْمنْهِي عَنهُ لعَينه لَا لغيره وَهَذَا لِأَن الْمُطلق ينْصَرف إِلَى الْكَامِل دون النَّاقِص فَإِن النَّاقِص مَوْجُود من وَجه دون وَجه وَمَعَ شُبْهَة الْعَدَم فِيهِ لَا يثبت مَا هُوَ الْحَقِيقَة فِيهِ فَبِهَذَا تبين أَن الْمُطلق يتَنَاوَل الْكَامِل والكمال فِي الْأَمر الَّذِي هُوَ طلب الإيجاد بِأَن يحسن الْمَأْمُور بِهِ لعَينه فَكَذَلِك الْكَمَال فِيمَا هُوَ طلب الإعدام إِثْبَات صفة الْقبْح فِي إيجاده لعَينه
وَإِذا تقرر هَذَا خرج الْمنْهِي عَنهُ من أَن يكون مَشْرُوعا لمقْتَضى النَّهْي وَحكمه أما مُقْتَضَاهُ فَلِأَن أدنى دَرَجَات الْمَشْرُوع أَن يكون مُبَاحا والقبيح لعَينه لَا يجوز أَن يكون مُبَاحا فَكَذَلِك لَا يجوز أَن يكون مَشْرُوعا وَبِهَذَا تبين أَن النَّهْي بِمَعْنى النّسخ فِي إِخْرَاج الْمنْهِي عَنهُ من أَن يكون مَشْرُوعا
وَأما حكمه فوجوب الِانْتِهَاء ليَكُون مُعظما مُطيعًا للناهي فِي الِانْتِهَاء وَيكون عَاصِيا لَا محَالة فِي ترك الِانْتِهَاء وَإِنَّمَا يكون عَاصِيا بِمُبَاشَرَة مَا هُوَ خلاف الْمَشْرُوع فَعرفنَا أَن بِالنَّهْي يخرج من أَن يكون مَشْرُوعا
يقرره أَن الْمنْهِي عَنهُ لَا يكون مرضيا بِهِ أصلا وَإِن كَانَ لَا تنعدم بِهِ الْإِرَادَة وَالْقَضَاء والمشيئة بِمَنْزِلَة الْكفْر والمعاصي فَإِنَّهَا تكون من الْعباد بالإرادة والمشيئة وَالْقَضَاء وَلَا يكون مرضيا بِهِ قَالَ الله تَعَالَى {وَلَا يرضى لِعِبَادِهِ الْكفْر} والمشروع مَا يكون مرضيا بِهِ قَالَ الله تَعَالَى {شرع لكم من الدّين مَا وصّى بِهِ نوحًا} الْآيَة فَبِهَذَا تبين أَن الْمنْهِي عَنهُ غير مَشْرُوع أصلا ثمَّ صفة الْقبْح فِي الْمنْهِي عَنهُ وَإِن كَانَ لِمَعْنى اتَّصل بِهِ وَصفا فَذَلِك دَلِيل على أَنه لم يبْق مَشْرُوعا لِأَن ذَلِك الْوَصْف لَا يُفَارق

(1/82)


الْمنْهِي عَنهُ وَمَعَ وجوده لَا يكون مَشْرُوعا فبه يخرج من أَن يكون مَشْرُوعا أصلا بِمَنْزِلَة نِكَاح الْمُعْتَدَّة وَالنِّكَاح بِغَيْر شُهُود فَإِن النَّهْي عَنْهُمَا كَانَ لِمَعْنى زَائِد على مَا بِهِ يتم العقد من فقد شَرط أَو زِيَادَة صفة فِي الْمحل ثمَّ يخرج بِهِ من أَن يكون مَشْرُوعا أصلا مُقَيّدا بِمَا هُوَ الحكم الْمَطْلُوب من النِّكَاح
إِذا تقرر هَذَا فالمسائل تخرج لَهُ على هَذَا الأَصْل مِنْهَا أَن الزِّنَا لَا يُوجب حُرْمَة الْمُصَاهَرَة لِأَن ثُبُوتهَا بطرِيق النِّعْمَة والكرامة حَتَّى تكون أمهاتها وبناتها فِي حَقه كأمهاته وَبنَاته فِي الْمَحْرَمِيَّة فيستدعي سَببا مَشْرُوعا وَالزِّنَا قَبِيح لعَينه غير مَشْرُوع أصلا فَلَا يصلح سَببا لهَذِهِ الْكَرَامَة
وَمِنْهَا أَن البيع الْفَاسِد نَحْو الرِّبَا وَالْبيع بِأَجل مَجْهُول وَبيع المَال بِالْخمرِ لَا يكون مُوجبا للْملك بِحَال لِأَن الْملك نعْمَة وكرامة أَلا ترى أَن صفة الْمَالِكِيَّة إِذا قوبلت بالمملوكية كَانَ معنى النِّعْمَة بالمالكية فيستدعي سَببا مَشْرُوعا والقبيح لعَينه لَا يكون مَشْرُوعا أصلا
يقرره أَن النِّعْمَة تستدعي سَببا مرغوبا فِيهِ شرعا ليرغب الْعَاقِل فِي مُبَاشَرَته لتَحْصِيل النِّعْمَة والمنهي عَنهُ شرعا لَا يجوز أَن يكون مرغوبا فِيهِ شرعا
وَمِنْهَا أَن الْغَصْب لَا يكون مُوجبا للْملك عِنْد تقرر الضَّمَان لهَذَا الْمَعْنى
وَمِنْهَا أَن اسْتِيلَاء الْكفَّار على مَال الْمُسلم لَا يكون مُوجبا للْملك لَهُم شرعا لِأَن ذَلِك عدوان مَحْض فَلَا يكون ذَلِك مَشْرُوعا فِي نَفسه وَلَا يصلح سَببا لحكم مَشْرُوع مَرْغُوب فِيهِ
وَمِنْهَا أَن صَوْم يَوْم الْعِيد لم يبْق بعد النَّهْي صوما مَشْرُوعا حَتَّى لَا يَصح الْتِزَامه بِالنذرِ لِأَن الصَّوْم الْمَشْرُوع عبَادَة وَالْعِبَادَة اسْم لما يكون الْمَرْء بمباشرته مُطيعًا لرَبه فَمَا يكون هُوَ بمباشرته عَاصِيا مرتكبا لِلْحَرَامِ لَا يكون صوما مَشْرُوعا
وَمِنْهَا أَن العَاصِي فِي سَفَره كَالْعَبْدِ الْآبِق وقاطع الطَّرِيق لَا يترخص برخص الْمُسَافِرين لِأَن ثُبُوت ذَلِك بطرِيق النِّعْمَة لدفع الْحَرج عَنهُ عِنْد السّير المديد فَإِذا كَانَ سيره مَعْصِيّة لم يصلح سَببا لما هُوَ نعْمَة فِي حَقه إِذْ النِّعْمَة تستدعي سَببا مَشْرُوعا وَمَا يكون الْمَرْء عَاصِيا بمباشرته فَإِنَّهُ لَا يكون مَشْرُوعا
وَمِنْهَا بيع الدّهن النَّجس فَإِنَّهُ لَا يكون مَشْرُوعا مُفِيدا لحكمه لِأَن النَّجَاسَة لما اتَّصَلت بالدهن وَصفا فَصَارَت بِحَيْثُ لَا تُفَارِقهُ خرج الدّهن من أَن يكون محلا للْبيع الْمَشْرُوع

(1/83)


والتحق بودك الْميتَة فَخرج من أَن يكون محلا للْبيع مُفِيدا لحكمه وَهُوَ الْملك كَمَا بَينا فِي بيع الملاقيح والمضامين
قَالَ وَلَا يدْخل على مَا ذكرنَا الظِّهَار فَإِنَّهُ مُوجب لِلْكَفَّارَةِ الَّتِي هِيَ مَشْرُوعَة وَإِن كَانَ هُوَ فِي نَفسه قبيحا حَرَامًا لِأَنَّهُ مُنكر من القَوْل وزور هَذَا لِأَن الْكَفَّارَة مَشْرُوعَة جَزَاء على ارْتِكَاب الْمَحْظُور بِمَنْزِلَة الْحُدُود لَا أصلا بِنَفسِهِ على سَبِيل الْكَرَامَة وَالنعْمَة وَالْجَزَاء يَسْتَدْعِي سَببا مَحْظُورًا فَيكون الظِّهَار مَحْظُورًا يُحَقّق معنى السَّبَبِيَّة لما هُوَ فِي معنى الْجَزَاء وَلَا تعدم الصلاحية لذَلِك
وَلَا يدْخل عَلَيْهِ استيلاد أحد الشَّرِيكَيْنِ الْجَارِيَة الْمُشْتَركَة فَإِنَّهُ يثبت النّسَب وَالْملك للمستولد فِي نصيب شَرِيكه وَذَلِكَ حكم مَشْرُوع يثبت بِسَبَب وَطْء مَحْظُور لِأَن ثُبُوت النّسَب بِاعْتِبَار وَطئه ملك نَفسه وَالنَّهْي بِاعْتِبَار أَن وطأه يُصَادف ملك الشَّرِيك أَيْضا وَملك الشَّرِيك مجاور لملكه جمعا غير مُتَّصِل بِملكه وَصفا وَكَانَ فِي الصلاحية لثُبُوت النّسَب بِهِ بِمَنْزِلَة الْوَطْء فِي حَالَة الْحيض
ثمَّ إِنَّمَا يملك نصيب الشَّرِيك حكما لثُبُوت أُميَّة الْوَلَد فِي نصِيبه وَكَون الِاسْتِيلَاد مِمَّا لَا يحْتَمل الْوَصْف بالتجزي وَذَلِكَ غير مَحْظُور
وَلَا يدْخل على هَذَا الطَّلَاق فِي حَالَة الْحيض أَو الطُّهْر الَّذِي جَامعهَا فِيهِ فَإِنَّهُ مَنْهِيّ عَنهُ وَمَعَ ذَلِك كَانَ وَاقعا مُوجبا لحكم مَشْرُوع وَهُوَ الْفرْقَة لِأَن هَذَا النَّهْي لأجل الْحيض وَهُوَ صفة الْمَرْأَة غير مُتَّصِل بِالطَّلَاق وَصفا وَلكنه مجاور لَهُ جمعا حِين أوقعه فِي وقته
وَكَانَ النَّهْي لِمَعْنى الْإِضْرَار بهَا من حَيْثُ تَطْوِيل الْعدة عَلَيْهَا أَو تلبيس أَمر الْعدة عَلَيْهَا إِذا أوقع فِي الطُّهْر الَّذِي جَامعهَا فِيهِ وَذَلِكَ غير مُتَّصِل بِالطَّلَاق الَّذِي هُوَ سَبَب الْفرْقَة أصلا وَلَا وَصفا
وَلَا يدْخل على مَا ذكرنَا إِحْرَام المجامع لأَهله فَإِنَّهُ ينْعَقد مُوجبا أَدَاء الْأَعْمَال وَإِن كَانَ مَنْهِيّا عَنهُ لِأَن النَّهْي عَن الْجِمَاع مَعَ عقد الْإِحْرَام وَالْجِمَاع غير مُتَّصِل بِالْإِحْرَامِ أصلا وَلَا وَصفا وَلِهَذَا كَانَ مُوجبا للْقَضَاء والشروع بِصفة الْفساد غير مُوجب للْقَضَاء بالِاتِّفَاقِ فَتبين بِهِ أَنه ينْعَقد صَحِيحا ثمَّ فسد لارتكاب الْمَحْظُور بِهِ

(1/84)


وَلَكِن الْإِحْرَام مَشْرُوع على أَنه لَا يخرج مِنْهُ الْمَرْء بَعْدَمَا شرع فِيهِ إِلَّا بِالطَّرِيقِ الَّذِي عينه الشَّرْع لِلْخُرُوجِ مِنْهُ وَهُوَ أَدَاء الْأَعْمَال أَو الدَّم عِنْد الْإِحْصَار فَيلْزمهُ أَدَاء الْأَعْمَال ليكتسب بِهِ طَرِيق الْخُرُوج من الْإِحْرَام شرعا وَذَلِكَ مَشْرُوع فَيجوز أَن يلْزمه أَدَاء الْأَعْمَال أَيْضا
وَكَذَلِكَ لَو جَامعهَا بَعْدَمَا أحرم فَإِنَّهُ لَا يخرج إِلَّا بأَدَاء الْأَعْمَال لهَذَا الْمَعْنى وَلِأَن الْجِمَاع فِي الْإِحْرَام مَحْظُور شرعا فَيجوز أَن يُقَال مَا يلْزمه من أَدَاء الْأَعْمَال بعده على وَجه لَا يكون معتدا بِهِ فِي إِسْقَاط الْوَاجِب عَنهُ جَزَاء على ارْتِكَاب مَا هُوَ مَحْظُور وكلامنا فِيمَا هُوَ مَشْرُوع ابْتِدَاء لَا جَزَاء وَقبل الْجِمَاع لزمَه أَدَاء الْأَعْمَال بِسَبَب مَشْرُوع وَلَيْسَ إِلَى العَبْد ولَايَة تَغْيِير الْمَشْرُوع وَإِن كَانَ الْأَدَاء يفْسد بِفعل مِنْهُ كَمَا تفْسد الصَّلَاة بالتكلم فِيهَا وَلَا يتَغَيَّر بِهِ الْمَشْرُوع وَإِذا لم يصلح فعله مغيرا بَقِي طَرِيق الْخُرُوج بأَدَاء الْأَفْعَال مَشْرُوعا كَمَا كَانَ قبل الْجِمَاع وللشرع ولَايَة نفي الْمَشْرُوع وإخراجه من أَن يكون مَشْرُوعا كَمَا لَهُ ولَايَة الشَّرْع بِمُطلق نَهْيه الَّذِي هُوَ دَلِيل الْقبْح فِي الْمنْهِي عَنهُ فصلح أَن يكون مخرجا للمنهي عَنهُ من أَن يكون مَشْرُوعا فَلهَذَا لم يبْق مَشْرُوعا بعد النَّهْي
وَحجَّتنَا مَا ذكره مُحَمَّد رَحمَه الله فِي كتاب الطَّلَاق فَإِنَّهُ قَالَ نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن صَوْم يَوْم الْعِيد وَأَيَّام التَّشْرِيق فنهانا عَمَّا يتكون وَعَما لَا يتكون وَالنَّهْي عَمَّا لَا يتكون لَغْو حَتَّى لَا يَسْتَقِيم أَن يُقَال للأعمى لَا تبصر وللآدمي لَا تطر وَمَعْلُوم أَنه إِنَّمَا نهى عَن صَوْم شَرْعِي فالإمساك الَّذِي يُسمى صوما لُغَة غير مَنْهِيّ عَنهُ وَمن أَتَى بِهِ لحمية أَو مرض أَو قلَّة اشتهاء لَا يكون مرتكبا للمنهي عَنهُ فَهَذَا دَلِيل على أَن الصَّوْم الَّذِي هُوَ عبَادَة مَشْرُوع فِي الْوَقْت بعد النَّهْي كَمَا كَانَ قبله
وَتَقْرِير هَذَا الْكَلَام من وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن مُوجب النَّهْي هُوَ الِانْتِهَاء وَإِنَّمَا يتَحَقَّق الِانْتِهَاء عَن شَيْء والمعدوم لَيْسَ بِشَيْء فَكَانَ من ضَرُورَة صِحَة النَّهْي مُوجبا للانتهاء كَون الْمنْهِي عَنهُ مَشْرُوعا فِي الْوَقْت فَكيف يَسْتَقِيم أَن يَجْعَل الْمنْهِي عَنهُ غير مَشْرُوع بِحكم النَّهْي بَعْدَمَا كَانَ مَشْرُوعا وَبِه تبين أَن النَّهْي ضد النّسخ فالنسخ

(1/85)


تصرف فِي الْمَشْرُوع بِالرَّفْع ثمَّ يَنْعَدِم أَدَاء العَبْد بِاعْتِبَار أَنه لم يبْق مَشْرُوعا وَلَيْسَ للْعَبد ولَايَة الشَّرْع وَالنَّهْي تصرف فِي منع الْمُخَاطب من أَدَاء مَا هُوَ مَشْرُوع فِي الْوَقْت فَيكون انعدام الْأَدَاء مِنْهُ انْتِهَاء عَمَّا نهي عَنهُ وَمُقْتَضى النَّهْي حُرْمَة الْفِعْل الَّذِي هُوَ أَدَاء لوُجُوب الِانْتِهَاء فَبَقيَ الْمَشْرُوع مَشْرُوعا كَمَا كَانَ وَيصير الْأَدَاء فَاسِدا حَرَامًا لِأَن فِيهِ ترك الِانْتِهَاء الْوَاجِب بِالنَّهْي
وَبَيَان هَذَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَا تقربا هَذِه الشَّجَرَة} فَإِنَّهُ كَانَ تَحْرِيمًا لفعل القربان وَلم يكن تَحْرِيمًا لعين الشَّجَرَة وكما لَا يتَصَوَّر تَحْرِيم قرْبَان الشَّجَرَة بِدُونِ الشَّجَرَة لَا يتَحَقَّق تَحْرِيم أَدَاء الصَّوْم فِي وَقت لَيْسَ فِيهِ صَوْم مَشْرُوع
وَبِهَذَا الْحَرْف يتَبَيَّن الْفرق بَين الْأَفْعَال الحسية والعقود الْحكمِيَّة والعبادات الشَّرْعِيَّة فَإِنَّهُ لَيْسَ من ضَرُورَة حُرْمَة الْأَفْعَال الحسية انعدام التكون فَقُلْنَا تَأْثِير التَّحْرِيم فِي إخْرَاجهَا من أَن تكون مَشْرُوعَة أصلا وإلحاقها بِمَا هُوَ قَبِيح لعَينه وَمن ضَرُورَة تَحْرِيم الْعُقُود الشَّرْعِيَّة بَقَاء أَصْلهَا مَشْرُوعا إِذْ لَا تكون لَهَا إِذا لم تبْق مَشْرُوعَة وَبِدُون التكون لَا يتَحَقَّق تَحْرِيم فعل الْأَدَاء وَكَذَلِكَ فِي الْعِبَادَات فَكَانَ فِي إبْقَاء الْمَشْرُوع مَشْرُوعا مُرَاعَاة حَقِيقَة النَّهْي لَا أَن يكون تركا للْحَقِيقَة كَمَا قَرَّرَهُ الْخصم
يُوضحهُ أَن صفة الْفساد للْعقد لَا يكون إِلَّا عِنْد وجود العقد فَإِن الصّفة لَا تسبق الْمَوْصُوف وَكَذَلِكَ فَسَاد الْمُؤَدى من الصَّوْم لَا يسْبق الْأَدَاء وَلَا أَدَاء إِذا لم يبْق مَشْرُوعا فبه تبين أَنه بَقِي مَشْرُوعا والمشروعات لَا تكون قبيحا لعَينه فَعرفنَا أَن الْقبْح لوصف اتَّصل بِهِ فَصَارَ بِهِ الْأَدَاء قبيحا فَاسِدا إِلَّا فِي مَوضِع يتَعَذَّر الْجمع بَين صفة الْحُرْمَة وَبَقَاء الأَصْل فَحِينَئِذٍ يَنْعَدِم ضَرُورَة وَيكون ذَلِك نسخا من طَرِيق الْمَعْنى فِي صُورَة النَّهْي لَا أَن يكون نهيا حَقِيقَة وَلَا ضَرُورَة هُنَا
فالصوم وَالصَّلَاة يَسْتَقِيم أَن يكون أَصله مَشْرُوعا مَعَ كَون الْأَدَاء حَرَامًا كَصَوْم يَوْم الشَّك وَالصَّلَاة فِي وَقت مَكْرُوه وَكَذَلِكَ الْعُقُود الشَّرْعِيَّة يتَصَوَّر بَقَاء أَصْلهَا مَشْرُوعا مَعَ حُرْمَة مُبَاشرَة التَّصَرُّف وفساده كَالطَّلَاقِ فِي حَالَة الْحيض وَفِي الطُّهْر الَّذِي جَامع فِيهِ امْرَأَته
وَتَقْرِير آخر أَن النَّهْي يُوجب إعدام الْمنْهِي عَنهُ بِفعل مُضَاف إِلَى كسب العَبْد

(1/86)


واختياره لِأَنَّهُ ابتلاء كالأمر وَإِنَّمَا يتَحَقَّق الِابْتِلَاء إِذا بَقِي للْعَبد فِيهِ اخْتِيَار حَتَّى إِذا انْتهى مُعظما لحُرْمَة الناهي كَانَ مثابا عَلَيْهِ وَإِذا أقدم عَلَيْهِ تَارِكًا تَعْظِيم حُرْمَة الناهي كَانَ معاقبا على إيجاده وَلَا يتَحَقَّق ذَلِك إِلَّا فِيمَا هُوَ مَشْرُوع فَبِهَذَا تبين أَن مُوجب النَّهْي إِنَّمَا يتَحَقَّق فِي الْعُقُود الشَّرْعِيَّة والعبادات إِذا كَانَت مَشْرُوعَة بعد النَّهْي فَأَما صفة الْقبْح فَهُوَ ثَابت بِمُقْتَضى النَّهْي وَلَكِن ثُبُوت الْمُقْتَضى لتصحيح الْمُقْتَضى لَا لإبطاله وَإِذا انْعَدم الْمَشْرُوع بِمُقْتَضى صفة الْقبْح يَنْعَدِم مُوجب النَّهْي وبانعدامه يبطل النَّهْي فَلَا يجوز إِثْبَات الْمُقْتَضى على وَجه يكون مُبْطلًا للمقتضي
وَالشَّافِعِيّ رَحمَه الله فعل ذَلِك فَكَانَ قَوْله فَاسِدا وَنحن أثبتنا أصل النَّهْي مُوجبا للانتهاء ثمَّ أثبتنا الْمُقْتَضى بِحَسب الْإِمْكَان على وَجه لَا يبطل بِهِ الأَصْل وَلَكِن يثبت الْقبْح وَالْحُرْمَة صفة لأَدَاء العَبْد الْمَشْرُوع فِي الْوَقْت فَإِن الْقبْح إِذا كَانَ فِي وصف الشَّيْء لَا يعْدم أَصله كالإحرام بعد الْفساد فَإِنَّهُ يبْقى أَصله وَإِن كَانَ قبيحا لِمَعْنى اتَّصل بوصفه وَهُوَ الْفساد والعذر الَّذِي ذكره يرجع إِلَى تَحْقِيق مَا ذكرنَا فَإِن فَسَاد الْإِحْرَام بِالْجِمَاعِ حكم ثَابت شرعا وَإِلَى الشَّرْع ولَايَة إعدام أصل الْإِحْرَام فَلَو كَانَ من ضَرُورَة صفة الْفساد انعدام الأَصْل فِي المشروعات لَكَانَ الحكم بفساده شرعا معدما لأصله أَلا ترى أَن بِسَبَب الرِّدَّة يَنْعَدِم أصل الْإِحْرَام وَإِن كَانَ ذَلِك من أعظم الْجِنَايَات لِأَن حبوط الْعَمَل بِالرّدَّةِ حكم شَرْعِي وبسبب الْإِحْصَار يتَمَكَّن من الْخُرُوج من الْإِحْرَام قبل أَدَاء الْأَعْمَال وَذَلِكَ جِنَايَة من العَبْد وَلَكِن جَوَاز دفع ضَرَر اسْتِدَامَة الْإِحْرَام عَن نَفسه حكم شَرْعِي فيتمكن بِهِ من الْخُرُوج قبل أَدَاء الْأَعْمَال وَكَانَ مَا بَيناهُ نِهَايَة فِي التَّحْقِيق ومراعاة لحقيقة مُوجب النَّهْي وإثباتا بِمُقْتَضَاهُ بِحَسب الْإِمْكَان وَبِهَذَا يتَبَيَّن الْفرق بَين الْأَمر وَالنَّهْي على مَا اسْتدلَّ بِهِ الْخصم فَإِن مُطلق الْأَمر يُوجب حسن الْمَأْمُور بِهِ لعَينه لِأَنَّهُ طلب الإيجاد بأبلغ الْجِهَات فتمام ذَلِك بالوجود حَقِيقَة فَكَانَ فِي إِثْبَات صفة الْحسن بِمُقْتَضى الْأَمر على هَذَا الْوَجْه تَحْقِيق الْمَأْمُور بِهِ فَأَما النَّهْي فَطلب الإعدام بأبلغ الْجِهَات وَلَكِن مَعَ بَقَاء اخْتِيَار العَبْد فِيهِ ليَكُون مبتلى كَمَا فِي الْأَمر وَحَقِيقَة ذَلِك إِنَّمَا يتكون بِهِ فِيمَا هُوَ مَشْرُوع وَيبقى بعد النَّهْي مَشْرُوعا

(1/87)


فَيثبت مُقْتَضَاهُ على الْوَجْه الَّذِي يُوجِبهُ مَا هُوَ الْمُوجب الْأَصْلِيّ فِيهِ حَقِيقَة وكما أَن الْمَأْمُور بِهِ لَا يصير مَوْجُودا بِمُقْتَضى الْأَمر لِأَنَّهُ يَنْعَدِم بِهِ معنى الِابْتِلَاء فَكَذَلِك الْمنْهِي عَنهُ لَا يَنْعَدِم بِمُجَرَّد النَّهْي لتحقيق معنى الِانْتِهَاء وَإِذا لم يَنْعَدِم بَقِي مَشْرُوعا لَا محَالة
وَبَيَان تَخْرِيج الْمسَائِل على هَذَا الأَصْل أَن نقُول الصَّوْم مَشْرُوع فِي كل يَوْم بِاعْتِبَار أَنه وَقت اقْتِضَاء الشَّهْوَة عَادَة وَالصَّوْم منع النَّفس عَن اقْتِضَاء الشَّهْوَة لابتغاء مرضاة الله تَعَالَى وَيَوْم الْعِيد كَسَائِر الْأَيَّام فِي هَذَا فَكَانَ الصَّوْم مَشْرُوعا فِيهِ وبالنهي لم يَنْعَدِم هَذَا الْمَعْنى ثمَّ النَّهْي لَيْسَ لِأَنَّهُ صَوْم شَرْعِي وَلَكِن لما فِيهِ من معنى رد الضِّيَافَة وَإِلَيْهِ وَقعت الْإِشَارَة فِي قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام فَإِنَّهَا أَيَّام أكل وَشرب وَهَذَا الْمَعْنى بِاعْتِبَار صفة الْيَوْم وَهُوَ أَنه يَوْم عيد فَيثبت الْقبْح فِي الصّفة دون الأَصْل وَهُوَ أَنه يكون حرَام الْأَدَاء والمؤدى يكون عَاصِيا بارتكابه مَا هُوَ حرَام وَيبقى أصل الصَّوْم مَشْرُوعا فِي الْوَقْت لِأَنَّهُ مَشْرُوع بِاعْتِبَار أصل الْيَوْم وَلَا قبح فِيهِ وَلِهَذَا قُلْنَا يَصح الْتِزَامه بِالنذرِ لِأَنَّهُ بِالنذرِ يصير مُلْتَزما فِي ذمَّته مَا هُوَ عبَادَة مَشْرُوعَة فِي الْوَقْت وَلَا فَسَاد فِي الْمَشْرُوع وَذكر الْيَوْم لبَيَان مِقْدَار مَا الْتَزمهُ على مَا بَينا أَن الْوَقْت معيار للصَّوْم وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله (إِنَّه) لَا يلْزمه بِالشُّرُوعِ وَإِن أفْسدهُ بعد الشُّرُوع لَا يلْزمه الْقَضَاء لِأَن الشُّرُوع أَدَاء مِنْهُ فَيكون حَرَامًا فَاسِدا فَيكون هَذَا مطالبا بالكف عَنهُ شرعا لَا بإتمامه فَلَا يكون الْإِفْطَار جِنَايَة مِنْهُ على حق الشَّرْع وَلَا يبْقى فِي عهدته حَتَّى يحْتَاج إِلَى الْقَضَاء فَأَما بِالنذرِ فَلَا يصير مرتكبا لِلْحَرَامِ فَيصح نَذره وَيُؤمر بِالْخرُوجِ عَنهُ بِصَوْم يَوْم آخر وَبِه يتم التَّحَرُّز عَن ارْتِكَاب الْمحرم وَلَكِن لَو صَامَ فِيهِ خرج عَن مُوجب نَذره لِأَنَّهُ الْتزم الْمَشْرُوع فِي الْوَقْت ونتيقن أَنه أدّى الْمَشْرُوع فِي الْوَقْت إِذا صَامَ فَيسْقط عَنهُ الْوَاجِب وَإِن كَانَ الْأَدَاء فَاسِدا مِنْهُ كمن نذر أَن يعْتق عبدا بِعَيْنِه فَعمى ذَلِك العَبْد أَو كَانَ أعمى يتَأَدَّى الْمَنْذُور بإعتاقه وَلَا فرق بَينهمَا فَالْعَبْد مستهلك بِاعْتِبَار

(1/88)


وَصفه (قَائِم بِاعْتِبَار أَصله وَالصَّوْم فِي هَذَا الْوَقْت مَشْرُوع بِاعْتِبَار أَصله فَاسد الْأَدَاء بِاعْتِبَار وَصفه) وَلِهَذَا لَا يتَأَدَّى وَاجِب آخر بِصَوْم هَذَا الْيَوْم لِأَن ذَلِك وَجب فِي ذمَّته كَامِلا وبصفة الْفساد وَالْحُرْمَة فِي الْأَدَاء يَنْعَدِم الْكَمَال ضَرُورَة وعَلى هَذَا الصَّلَاة فِي الْأَوْقَات الْمَكْرُوهَة فالأداء مَنْهِيّ لِمَعْنى هُوَ صفة الْوَقْت وَهُوَ أَنه وَقت مُقَارنَة الشَّيْطَان الشَّمْس على مَا ورد بِهِ الْأَثر فَلَا يَنْعَدِم أصل الْعِبَادَة مَشْرُوعا فِيهِ وَلَكِن يحرم الْأَدَاء وَيلْزم بِالشُّرُوعِ كَمَا يلْزم بِالنذرِ لِأَن الصَّلَاة عبَادَة مَعْلُومَة بأركانها وَالْوَقْت ظرف لَهَا لَا معيار فَلَا يصير مُؤديا بِمُجَرَّد الشُّرُوع وَالْمحرم هُوَ الْأَدَاء وَيتَصَوَّر بِهَذَا الشُّرُوع الْأَدَاء بِدُونِ صفة الْحُرْمَة بِأَن يصير حَتَّى تبيض الشَّمْس فَلم يكن الشُّرُوع فَاسِدا كَمَا لم يكن النّذر فَاسِدا فَيلْزمهُ الْقَضَاء لهَذَا وَلَكِن لَا يتَأَدَّى بِهِ وَاجِب آخر لِأَن النَّهْي بِاعْتِبَار وصف الْوَقْت الَّذِي هُوَ ظرف للْأَدَاء يُمكن نُقْصَانا فِي الْأَدَاء وَالْوَاجِب فِي ذمَّته بِصفة الْكَمَال فَلَا يتَأَدَّى بالناقص إِلَّا عصر يَوْمه فَإِن الْوُجُوب بِاعْتِبَار ذَلِك الْجُزْء الَّذِي هُوَ سَبَب وَإِنَّمَا يثبت الْوُجُوب بِصفة النُّقْصَان وَقد أدّى بِتِلْكَ الصّفة فَسقط عَنهُ الْوَاجِب وعَلى هَذَا قُلْنَا البيع الْفَاسِد يكون مَشْرُوعا بِأَصْلِهِ مُوجبا لحكمه وَهُوَ الْملك إِذا تأيد بِالْقَبْضِ لِأَن الْمَشْرُوع إِيجَاب وَقبُول من أَهله فِي مَحَله وبالشرط الْفَاسِد لَا يخْتل شَيْء من ذَلِك أَلا ترى أَن الشَّرْط لَو كَانَ جَائِزا لم يكن مبدلا لأصله بل يكون مغيرا لوصفه وَالشّرط الْفَاسِد لَا يكون معدما لأصله أَيْضا بل يكون مغيرا لوصفه فَصَارَ فَاسِدا وَلَيْسَ من ضَرُورَة صفة الْفساد فِيهِ انعدام أَصله لِأَن بِالْفَسَادِ يثبت صفة الْحُرْمَة وَهَذَا السَّبَب مَشْرُوع لإِثْبَات الْملك وَملك الْيَمين مَعَ صفة الْحُرْمَة يجْتَمع أَلا ترى أَن من اشْترى أمة مَجُوسِيَّة أَو مرتدة يثبت الْملك لَهُ مَعَ الْحُرْمَة وَأَن الْعصير إِذا تخمر يبْقى مَمْلُوكا لَهُ مَعَ الْحُرْمَة فَلهَذَا أثبتنا فِي البيع الْفَاسِد ملكا حَرَامًا مُسْتَحقّ الدّفع لفساد السَّبَب وَلم يَنْعَدِم بِهِ أصل الْمَشْرُوع بِخِلَاف النِّكَاح الْفَاسِد فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي النِّكَاح إِلَّا ملكا ضَرُورِيًّا يثبت بِهِ حل الِاسْتِمْتَاع وَلِهَذَا سمي ذَلِك الْملك حَلَالا فِي نَفسه وَمن ضَرُورَة فَسَاد السَّبَب ثُبُوت صفة الْحُرْمَة وَبَين الْحُرْمَة

(1/89)


وَبَين ملك النِّكَاح مُنَافَاة فينعدم الْملك وَمن ضَرُورَة انعدامه خُرُوج السَّبَب من أَن يكون مَشْرُوعا لِأَن الْأَسْبَاب الشَّرْعِيَّة ترَاد لأحكامها وَثُبُوت النّسَب وَوُجُوب الْمهْر وَالْعدة من حكم الشُّبْهَة لَا من حكم أصل العقد شرعا وَهَذَا الْكَلَام يَتَّضِح فِي النِّكَاح بِغَيْر شُهُود فَإِن قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لَا نِكَاح إِلَّا بِشُهُود إِخْبَار عَن عَدمه بِدُونِ هَذَا الشَّرْط فَيكون نفيا لَا نهيا بِمَنْزِلَة قَول الرجل لَا رجل فِي الدَّار وَكَذَلِكَ فِي نِكَاح الْمَحَارِم فَإِن النَّص الْوَارِد فِيهِ تَحْرِيم الْعين بقوله تَعَالَى {حرمت عَلَيْكُم أُمَّهَاتكُم وبناتكم} إِلَى آخر الْآيَة وَلَا يجْتَمع الْحل وَالْحُرْمَة فِي مَحل وَاحِد فَكَانَ ذَلِك نفيا للْحلّ بِالنِّكَاحِ لَا نهيا وَكَذَلِكَ نِكَاح الْمُعْتَدَّة فَإِن قَوْله تَعَالَى {وَالْمُحصنَات من النِّسَاء} مَعْطُوف على قَوْله تَعَالَى {حرمت عَلَيْكُم أُمَّهَاتكُم} مَعْنَاهُ وَحرمت الْمُحْصنَات من النِّسَاء وَذَلِكَ عبارَة عَن مَنْكُوحَة الْغَيْر ومعتدته فَيكون نفيا لَا نهيا وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَلَا تنْكِحُوا مَا نكح آباؤكم من النِّسَاء} فقد ظهر بِالدَّلِيلِ أَن الْحُرْمَة الثَّابِتَة بالمصاهرة هِيَ الثَّابِتَة بِالنّسَبِ على أَن تقوم الْمُصَاهَرَة مقَام النّسَب فِي ذَلِك فَكَانَ تَقْدِيره وَحرمت عَلَيْكُم مَا نكح آباؤكم وَتصير صُورَة النَّهْي عبارَة عَنهُ مجَازًا بِاعْتِبَار هَذَا الْمَعْنى فَكَانَ نفيا كَمَا هُوَ مُوجب النّسخ لَا نهيا وَكَذَلِكَ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لَا تنْكح الْأمة على الْحرَّة فَإِنَّهُ إِخْبَار فَيكون نفيا للنِّكَاح مَعَ أَن الدّلَالَة قد قَامَت على أَن الْأمة من جملَة الْمُحرمَات مَضْمُومَة إِلَى الْحرَّة فَإِن الْحل فِيهِ على النّصْف من حل الْحرَّة على مَا نبينه فِي مَوْضِعه إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَمن ضَرُورَة حُرْمَة الْمحل انْتِفَاء النِّكَاح الْمَشْرُوع فِيهِ كَمَا قَرَّرْنَاهُ وعَلى هَذَا عقد الرِّبَا فَإِنَّهُ نوع بيع وَلكنه فَاسد لَا بخلل فِي رُكْنه بل لِانْعِدَامِ شَرط الْجَوَاز وَهُوَ الْمُسَاوَاة فِي الْقدر فَكَمَا أَن بِوُجُود شَرط مُفسد لَا يَنْعَدِم أصل الْمَشْرُوع فَكَذَلِك بانعدام شَرط مجوز لَا يَنْعَدِم أصل الْمَشْرُوع وَثُبُوت ملك حرَام بِهِ كَمَا اقْتَضَاهُ مثل هَذَا السَّبَب
فَإِن قيل قَوْله تَعَالَى {وَحرم الرِّبَا}

(1/90)


يُوجب نفي أَصله مَشْرُوعا كَقَوْلِه تَعَالَى {حرمت عَلَيْكُم أُمَّهَاتكُم} بل أولى لِأَنَّهُ أضَاف هَذَا التَّحْرِيم إِلَى نَفسه وَهُنَاكَ الْحُرْمَة مُضَافَة إِلَى الْأُم
قُلْنَا الرِّبَا عبارَة عَن الْفضل فَمَعْنَى قَوْله تَعَالَى {وَحرم الرِّبَا} أَي حرم اكْتِسَاب الْفضل الْخَالِي عَن الْعِوَض بِسَبَب التِّجَارَة وَنحن نثبت هَذِه الْحُرْمَة وَلَكِن بَينا أَنه لَيْسَ من ضَرُورَة الْحُرْمَة فِي ملك الْيَمين انْتِفَاء أصل الْملك وعَلى هَذَا قُلْنَا بيع العَبْد بِالْخمرِ فَإِن الْخمر فَاسد التقوم شرعا وَلم تنعدم بِهِ أصل الْمَالِيَّة الثَّابِتَة فِيهِ بالتمول فَإِن تموله مَا فسد شرعا لما فِيهِ من عرضية التخلل إِذْ التمول للشَّيْء عبارَة عَن صيانته وادخاره لوقت الْحَاجة وإمساك الْخمر إِلَى أَن يَتَخَلَّل لَا يكون حَرَامًا شرعا بِمَنْزِلَة من أحرم وَله صيد فَإِن الصَّيْد لَا يكون مُتَقَوّما فِي حق تصرفه حَتَّى لَا يتَمَكَّن من التَّصَرُّف فِيهِ وَيكون محرم الْعين فِي حَقه وَلَكِن لَا يَنْعَدِم أصل الْمَالِيَّة فِيهِ بِاعْتِبَار مَاله وَهُوَ مَا بعد التَّحَلُّل من الْإِحْرَام وَلِهَذَا اخْتلف الْعلمَاء فِي جَوَاز هَذَا البيع فَمنهمْ من يَقُول هُوَ جَائِز بِالْقيمَةِ وَلَو قضى القَاضِي بِهَذَا نفذ قَضَاؤُهُ فَإِذا تبين أَنه لم يَنْعَدِم مَا هُوَ ركن العقد قُلْنَا ينْعَقد العقد مُوجبا حكمه فِي مَحل يقبله وَهُوَ العَبْد وَلَا ينْعَقد مُوجبا للْحكم فِي مَحل لَا يقبله وَهُوَ الْخمر حَتَّى لَا يملك الْخمر وَإِن قَبضه بِحكم العقد بِخِلَاف البيع بالميتة وَالدَّم فَإِنَّهُ لَا مَالِيَّة فِي الْميتَة وَالدَّم بِاعْتِبَار الْحَال وَلَا بِاعْتِبَار الْمَآل وَكَذَلِكَ جلد الْميتَة لَا مَالِيَّة فِيهِ بِاعْتِبَار الْحَال فَإِنَّهُ لَو ترك كَذَلِك فَإِنَّهُ يفْسد وَإِنَّمَا تحدث فِيهِ الْمَالِيَّة بصنع مكتسب وَهُوَ الدباغة وَلِهَذَا اتّفق الْعلمَاء على بطلَان هَذَا العقد وَلَو قضى قَاض بِجَوَازِهِ لم ينفذ قَضَاؤُهُ فلانعدام مَا هُوَ ركن العقد لم ينْعَقد العقد لِأَن انْعِقَاده شرعا لَا يكون بِدُونِ رُكْنه وعَلى هَذَا جَوَّزنَا بيع الدّهن الَّذِي وَقع فِيهِ نَجَاسَة لِأَن الدّهن مَال مُتَقَوّم وبوقوع النَّجَاسَة فِيهِ مَا انْعَدم أَصله وَلَا تغير وَصفه إِنَّمَا جاوره أَجزَاء النَّجَاسَة ولأجله حرم تنَاوله فَيكون بِمَنْزِلَة النَّهْي الَّذِي ورد لِمَعْنى فِي غير الْمنْهِي عَنهُ وَهُوَ غير مُتَّصِل بِهِ وَصفا وَمثل هَذَا النَّهْي لَا يمْنَع جَوَاز العقد كَمَا لَا يمْنَع كَمَال الْعِبَادَة وَلِهَذَا يتَأَدَّى الْفَرْض بأَدَاء الصَّلَاة فِي الأَرْض الْمَغْصُوبَة

(1/91)


ويتأدى صَوْم الْفَرْض فِي أَيَّام الْوِصَال إِذا نَوَاه لِأَن النَّهْي بالمجاورة لَا لِمَعْنى اتَّصل بِالْوَقْتِ الَّذِي يُؤدى فِيهِ الصَّوْم إِلَّا أَن الْوِصَال لَا يتَحَقَّق لِأَن الشَّرْع أخرج زمَان اللَّيْل من أَن يكون وقتا لركن الصَّوْم وَهُوَ الْإِمْسَاك بِاعْتِبَار أَن الْإِمْسَاك فِيهِ عَادَة فَكَانَ ذَلِك نسخا استعير لفظ النَّهْي لَهُ مجَازًا وَلَا كَلَام فِي جَوَاز ذَلِك إِنَّمَا الْكَلَام فِي مُوجب النَّهْي حَقِيقَة
ثمَّ فِي البيع يُمكن تَمْيِيز الدّهن مِمَّا جاوره حكما فَيكون البيع متناولا للدهن دون النَّجَاسَة وَفِي التَّنَاوُل لَا يُمكن تَمْيِيز الدّهن مِمَّا جاوره فَلَا يحل تنَاوله فَلهَذَا جَازَ بيع الثَّوْب النَّجس وَلَا تجوز الصَّلَاة فِيهِ وعَلى هَذَا قُلْنَا العَاصِي فِي سَفَره يترخص بالرخص لِأَن سَبَب الرُّخْصَة السّير المديد وَهُوَ مَوْجُود بِصفة الْكَمَال لَا قبح فِي أَصله وَلَا فِي صفته وَإِنَّمَا الْقبْح فِي معنى جاوره وَهُوَ قَصده إِلَى قطع الطَّرِيق أَو تمرد العَبْد على مَوْلَاهُ أَلا ترى أَنه إِذا ترك قَصده بِقصد الْحَج خرج من أَن يكون عَاصِيا وَلم يتَغَيَّر سَفَره وَإِنَّمَا تبدل قَصده وَكَذَلِكَ العَبْد إِذا لحقه إِذن مَوْلَاهُ لم يتَغَيَّر سَفَره وَخرج من أَن يكون عَاصِيا وعَلى هَذَا قُلْنَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَا تقبلُوا لَهُم شَهَادَة أبدا} إِن هَذَا النَّهْي لَا يعْدم أصل الشَّهَادَة للقاذف حَتَّى ينْعَقد النِّكَاح بِشَهَادَتِهِ وَلَكِن يفْسد أَدَاؤُهُ حَتَّى يخرج من أَن يكون أَهلا للعان لِأَن اللّعان أَدَاء وأداؤه فَاسد بعد هَذَا النَّهْي الْمُطلق وعَلى هَذَا قُلْنَا الزِّنَا لَا يُوجب حُرْمَة الْمُصَاهَرَة لِأَن الزِّنَا قَبِيح لعَينه وَحُرْمَة الْمُصَاهَرَة لَيست تثبت بِالزِّنَا وَلَا بِالْوَطْءِ الْحَلَال بِعَيْنِه إِنَّمَا الأَصْل فِيهِ الْوَلَد الْمَخْلُوق من الماءين وَهُوَ مُحْتَرم مَخْلُوق بِخلق الله تَعَالَى على أَي وَجه اجْتمع الماءان فِي الرَّحِم كَمَا قَالَ تَعَالَى {ثمَّ أَنْشَأْنَاهُ خلقا آخر} فَلَا يتَمَكَّن فِيهِ صفة الْقبْح وَتثبت الْحُرْمَة بطرِيق الْكَرَامَة لَهُ ثمَّ تتعدى الْحُرْمَة إِلَى أَطْرَافه وَإِلَى أَسبَاب خلقه فيقام السَّبَب وَهُوَ الْوَطْء فِي الْمحل الصَّالح لحدوث الْوَلَد فِيهِ مقَام نفس الْوَلَد فِي إِثْبَات الْحُرْمَة وَمَا قَامَ مقَام غَيره فِي إِثْبَات حكم فَإِنَّمَا تراعى صَلَاحِية السَّبَب للْحكم فِي الأَصْل لَا فِيمَا قَامَ مقَامه بِمَنْزِلَة التُّرَاب فَإِنَّهُ قَائِم مقَام المَاء فِي الطَّهَارَة وصلاحية

(1/92)


السَّبَب لهَذَا الحكم فِي اسْتِعْمَال المَاء الَّذِي هُوَ الأَصْل لَا فِي اسْتِعْمَال التُّرَاب فَإِنَّهُ تلويث وَلِهَذَا لم يكن وَطْء الْميتَة والإتيان فِي غير المأتى وَوَطْء الصَّغِيرَة مُوجبا الْحُرْمَة لِأَن قيام الْوَطْء مقَام الْوَلَد فِي هَذَا الحكم بِاعْتِبَار كَون الْمحل محلا يخلق فِيهِ الْوَلَد وَذَلِكَ لَا يُوجد فِي هَذِه الْمَوَاضِع وعَلى هَذَا قُلْنَا فِي اسْتِيلَاء الْكفَّار على أَمْوَالنَا إِذا تمّ بالإحراز فَهُوَ مُوجب للْملك لِأَن صفة الْحُرْمَة والقبح لهَذَا الْفِعْل بِوَاسِطَة الْعِصْمَة فِي الْمحل وَهَذِه الْوَاسِطَة ثَابِتَة من طَرِيق الحكم فِي حَقنا لَا فِي حَقهم فَإِنَّهُم لَا يَعْتَقِدُونَ ذَلِك وَولَايَة الْإِلْزَام مُنْقَطِعَة بانعدام ولايتنا عَنْهُم فِي دَار الْحَرْب لِأَن هَذِه الْوَاسِطَة هِيَ الْعِصْمَة الثَّابِتَة بالإحراز بدار الْإِسْلَام عندنَا وَقد انْتَهَت هَذِه الْعِصْمَة بانتهاء سَببهَا حِين أحرزوها بدارهم حَتَّى إِن فِي زمَان الْإِحْرَاز لما كَانَت الْعِصْمَة عَن الاسترقاق بِالْحُرِّيَّةِ المتأكدة بِالْإِسْلَامِ وَلم تَنْتَهِ بالإحراز الْمَوْجُود مِنْهُم قُلْنَا لَا يملكُونَ رقابنا وعَلى هَذَا قُلْنَا الْغَصْب سَبَب مُوجب للْملك عِنْد تقرر الضَّمَان لِأَنَّهُ قَبِيح بِأَنَّهُ غصب وَالْملك لَا يثبت بِهِ وَإِنَّمَا يثبت الْملك للْغَاصِب بتملك الْمَغْصُوب مِنْهُ بدله وَهُوَ الْقيمَة عَلَيْهِ وَهَذَا حكم شَرْعِي لَا قبح فِيهِ بل فِيهِ حِكْمَة بَالِغَة وَهُوَ التَّحَرُّز عَن فضل خَال عَن الْعِوَض سَالم للْمَغْصُوب مِنْهُ شرعا فَإِنَّهُ إِذا اجْتمع الأَصْل وَالْبدل فِي ملكه يتَحَقَّق هَذَا الْمَعْنى فِيهِ مَعَ أَن الْملك إِنَّمَا لَا يبْقى للْمَغْصُوب مِنْهُ ليتم بِهِ شَرط سَلامَة الضَّمَان لَهُ فَإِن الضَّمَان ضَمَان جبر وَإِنَّمَا يجْبر الْفَائِت لَا الْقَائِم فَكَانَ انعدام ملكه فِي الْعين شرطا لِسَلَامَةِ الضَّمَان لَهُ وَشرط الشَّيْء تبعه فَإِنَّمَا تراعى صَلَاحِية السَّبَب فِي الأَصْل لَا فِي التبع وَفِي الْمُدبر على هَذَا الطَّرِيق نقُول لما سلم الضَّمَان للْمَغْصُوب مِنْهُ بِجعْل الأَصْل زائلا عَن ملكه حكما لِأَن الْمُدبر مُحْتَمل لذَلِك وَلِهَذَا لَو اكْتسب هُوَ كسبا ثمَّ لم يرجع من إباقه حَتَّى مَاتَ كَانَ ذَلِك الْكسْب للْغَاصِب وَإِنَّمَا لم يثبت الْملك للْغَاصِب فِيهِ صِيَانة لحق الْمُدبر وَالتَّدْبِير مُوجب حق الْعتْق لَهُ عِنْد الْمَوْت وَلِهَذَا امْتنع بَيْعه وَفِي الْقِنّ بعد مَا زَالَ ملك الْمَغْصُوب مِنْهُ لَا مَانع

(1/93)


من دُخُوله فِي ملك الْغَاصِب الضَّامِن وَهَذَا أَحَق النَّاس بِهِ لِأَنَّهُ ملك عَلَيْهِ بدله أَو نقُول فِي الْمُدبر لَا يُمكن أَن يَجْعَل الضَّمَان بَدَلا عَن الْعين لِأَن من شَرطه انعدام ملكه فِي الْعين وَهَذَا الشَّرْط لَا يُمكن إيجاده بِحَق الْمُدبر فَجعلنَا الضَّمَان ضَمَان الْجِنَايَة وَاجِبا بِاعْتِبَار الْجِنَايَة على يَده وَهَذَا جَائِز عِنْد الضَّرُورَة وَلَا ضَرُورَة فِي الْقِنّ فَيجْعَل بَدَلا عَن الْعين وَلِهَذَا قُلْنَا لَو أَخذ الْقيمَة بطرِيق الصُّلْح بِغَيْر قَضَاء القَاضِي لَا يملك عَلَيْهِ الْمُدبر وَيملك عَلَيْهِ الْقِنّ
وَهَذَا طَرِيق فِي تَخْرِيج جنس هَذِه الْمسَائِل