أصول السرخسي

فصل فِي بَيَان حكم الْأَمر وَالنَّهْي فِي أضدادهما
قَالَ رَضِي الله عَنهُ اعْلَم أَن الْعلمَاء يَخْتَلِفُونَ فيهمَا جَمِيعًا فنبين كل وَاحِد مِنْهُمَا على الِانْفِرَاد ليَكُون أوضح
أما بَيَان حكم الْأَمر فقد قَالَ بعض الْمُتَكَلِّمين لَا حكم لِلْأَمْرِ فِي ضِدّه
وَقَالَ الْجَصَّاص رَحمَه الله الْأَمر بالشَّيْء يُوجب النَّهْي عَن ضِدّه سَوَاء كَانَ لَهُ ضد وَاحِد أَو أضداد
وَقَالَ بَعضهم يُوجب كَرَاهَة ضِدّه وَالْمُخْتَار عندنَا أَنه يَقْتَضِي كَرَاهَة ضِدّه وَلَا نقُول إِنَّه يُوجِبهُ أَو يدل عَلَيْهِ مُطلقًا
وَحجَّة الْفَرِيق الأول أَن الضِّدّ مسكوت عَنهُ وَالسُّكُوت عَنهُ لَا يكون مُوجبا شَيْئا أَلا ترى أَن التَّعْلِيق بِشَرْط لَا يُوجب نفي الْمُعَلق قبل وجود الشَّرْط لِأَنَّهُ مسكوت عَنهُ فَيبقى على مَا كَانَ قبل التَّعْلِيق فَهُنَا أَيْضا الضِّدّ مسكوت عَنهُ فَيبقى على مَا كَانَ قبل الْأَمر
يقرره أَن الْأَمر فِيمَا وضع لَهُ لَا يُوجب حكما فِيمَا لم يتَنَاوَلهُ النَّص إِلَّا بطرِيق التَّعْدِيَة إِلَيْهِ بعد التَّعْلِيل فَلِأَن لَا يُوجب حكما فِي ضد مَا وضع لَهُ كَانَ أولى وعَلى قَول هَؤُلَاءِ الذَّم وَالْإِثْم على من ترك الائتمار بِاعْتِبَار أَنه لم يَأْتِ بِمَا أَمر بِهِ
قَالَ الْجَصَّاص رَحمَه الله وَهُوَ قَول قَبِيح فَإِن فِيهِ قولا بِاسْتِحْقَاق العَبْد الْعقُوبَة على مَا لم يَفْعَله وَاسْتِحْقَاق الْعقُوبَة إِنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَار فعل فعله العَبْد ثمَّ إِنَّه بنى مذْهبه على أَن الْأَمر الْمُطلق يُوجب الائتمار على الْفَوْر فَقَالَ من ضَرُورَة وجوب الائتمار على الْفَوْر حُرْمَة التّرْك الَّذِي هُوَ ضِدّه وَالْحُرْمَة حكم النَّهْي فَكَانَ مُوجبا للنَّهْي عَن ضِدّه بِحكمِهِ
يُوضحهُ أَن الْأَمر طلب الإيجاد للْمَأْمُور بِهِ على

(1/94)


أبلغ الْجِهَات والاشتغال بضده يعْدم مَا وَجب بِالْأَمر وَهُوَ الإيجاد فَكَانَ حَرَامًا مَنْهِيّا عَنهُ لمقْتَضى حكم الْأَمر وَلِهَذَا يَسْتَوِي فِيهِ مَا يكون ضد وَاحِد أَو أضداد فَبِأَي ضد اشْتغل يَنْعَدِم مَا هُوَ الْمَطْلُوب أَلا ترى أَنه إِذا قَالَ لغيره اخْرُج من هَذِه الدَّار سَوَاء اشْتغل بالقعود فِيهَا أَو الِاضْطِجَاع أَو الْقيام يَنْعَدِم مَا أَمر بِهِ وَهُوَ الْخُرُوج
وَهَذَا هُوَ الْحجَّة للفريق الثَّالِث إِلَّا أَنهم يَقُولُونَ حُرْمَة الضِّدّ بِهَذَا الطَّرِيق تثبت بِوَاسِطَة حكم الْأَمر فَإِنَّمَا ثَبت أدنى الْحُرْمَة فِيهِ لِأَن مَا ثَبت بطرِيق الدّلَالَة لَا يكون مثل الثَّابِت بِالنَّصِّ وَالثَّابِت بِالنَّصِّ ثَابت من كل وَجه وَهَذَا ثَابت من وَجه دون وَجه لتحقيق حكم الْأَمر وَيَكْفِي لذَلِك أدنى الْحُرْمَة بِمَنْزِلَة حُرْمَة تثبت بِالنَّهْي لِمَعْنى فِي غير الْمنْهِي عَنهُ غير مُتَّصِل بِالنَّهْي عَنهُ فَتثبت بِهِ الْكَرَاهَة فَقَط
وَوجه القَوْل الْمُخْتَار هَذَا الْكَلَام أَيْضا إِلَّا أَنا نقُول ثُبُوت الْحُرْمَة بطرِيق الِاقْتِضَاء هُنَا لِأَن طلب الْوُجُود بِالْأَمر يَقْتَضِي حُرْمَة الضِّدّ وَلَا يثبت بِدلَالَة النَّص إِلَّا مثل مَا هُوَ ثَابت بِالنَّصِّ أَو أقوى مِنْهُ كالتنصيص على حُرْمَة التأفيف بِدَلِيل حُرْمَة الشتم لِأَن فِيهِ ذَلِك الْأَذَى وَزِيَادَة فَأَما مَا ثَبت بطرِيق الِاقْتِضَاء فَهُوَ ثَابت لأجل الضَّرُورَة وَإِنَّمَا يثبت بِقدر مَا ترْتَفع بِهِ الضَّرُورَة وَوُجُود أحد الضدين يَقْتَضِي انْتِفَاء الضِّدّ الآخر كالليل مَعَ النَّهَار فَكَانَ وجوب الْأَدَاء بِالْأَمر مقتضيا نفي الضِّدّ وَإِنَّمَا حرم الضِّدّ بِهَذَا الِاقْتِضَاء فَلهَذَا قُلْنَا إِن الْأَمر بالشَّيْء يَقْتَضِي كَرَاهَة ضِدّه لَا أَن يكون مُوجبا لَهُ أَو دَلِيلا عَلَيْهِ
وَمَا ذكره الْجَصَّاص أَن مُطلق الْأَمر يُوجب الائتمار على الْفَوْر دَعْوَى مِنْهُ وَقد ذكرنَا أَن الرِّوَايَة بِخِلَاف ذَلِك
وَالْجَوَاب عَمَّا قَالَه الْفَرِيق الأول أَن الضِّدّ مسكوت عَنهُ يَتَّضِح بالتقرير الَّذِي قُلْنَا فِي وَجه الْمُخْتَار وَهُوَ أَن ثُبُوت كَرَاهَة ضِدّه بطرِيق الِاقْتِضَاء والمقتضى مسكوت عَنهُ فَإِن مَا يكون مَنْصُوصا عَلَيْهِ لَا يكون ثُبُوته بطرِيق الِاقْتِضَاء وَلَا خلاف بَيْننَا وَبينهمْ أَن الِاقْتِضَاء طَرِيق صَحِيح لإِثْبَات الْمُقْتَضى وَإِن كَانَ مسكوتا عَنهُ بعد أَن يكون مُحْتَاجا إِلَيْهِ وَلَيْسَ هَذَا نَظِير التَّعْلِيق بِالشّرطِ فَإِن ذَلِك يُوجب وجود الحكم ابْتِدَاء عِنْد وجود الشَّرْط وَمن ضَرُورَة وجود الحكم عِنْد وجود الشَّرْط ابْتِدَاء أَن لَا يكون مَوْجُودا قبله وَلَكِن انعدامه قبل وجود الشَّرْط عدم أُصَلِّي فَلَا يصير مُضَافا إِلَى الْوُجُود عِنْد وجود الشَّرْط نصا وَلَا اقْتِضَاء لِأَن الْعَدَم الْأَصْلِيّ لَا يَسْتَدْعِي دَلِيلا معدما يُضَاف إِلَيْهِ وَأما هَهُنَا وجوب الْإِقْدَام على الإيجاد

(1/95)


يَقْتَضِي حُرْمَة التّرْك وَالْحُرْمَة الثَّابِتَة بِمُقْتَضى الشَّيْء تكون مُضَافا إِلَيْهِ فَجعلنَا قدر مَا يثبت من الْحُرْمَة وَهُوَ الْمُوجب للكراهة مُضَافا إِلَى الْأَمر اقْتِضَاء
وَإِذا تبين حكم الْأَمر فَكَذَلِك حكم النَّهْي فِي ضِدّه على هَذِه الْأَقَاوِيل الْأَرْبَعَة
فالفريق الأول يَقُولُونَ لَا حكم لَهُ فِي ضِدّه لِأَنَّهُ مسكوت عَنهُ ويستدلون على ذَلِك بقوله تَعَالَى {وَلَا تقتلُوا أَنفسكُم} فَإِنَّهُ لَا يكون أمرا بضده وَهُوَ ترك قتل النَّفس إِذْ لَو كَانَ أمرا بِهِ لَكَانَ تَارِك قتل النَّفس مباشرا لفعل الطَّاعَة وَهُوَ الائتمار بِالْأَمر فَإِنَّهُ يكون مُسْتَحقّ الثَّوَاب الْمَوْعُود للمطيعين وَهَذَا فَاسد
وَقَالَ الْجَصَّاص رَحمَه الله النَّهْي عَن الشَّيْء يُوجب ضِدّه إِن كَانَ لَهُ ضد وَاحِد وَإِن كَانَ لَهُ أضداد فَلَا مُوجب لَهُ فِي شَيْء من أضداده وَبَين ذَلِك فِي الْحَرَكَة والسكون فَإِن قَول الْقَائِل لَا تتحرك يكون أمرا بضده وَهُوَ السّكُون لِأَن للمنهي عَنهُ ضدا وَاحِدًا وَقَوله لَا تسكن لَا مُوجب لَهُ فِي ضِدّه لِأَن لَهُ أضدادا وَهِي الْحَرَكَة من الْجِهَات السِّت فَإِن السّكُون يَنْعَدِم من أَي جَانب كَانَت الْحَرَكَة فَلَا يتَعَيَّن وَاحِد من الأضداد مَأْمُورا بِهِ بِمُوجب النَّهْي وَإِذا قَالَ لغيره لَا تقم فللمنهي عَنهُ أضداد من الْقعُود والاضطجاع فَلَا مُوجب لهَذَا النَّهْي فِي شَيْء من أضداده
قَالَ لِأَن مُوجب النَّهْي إعدام الْمنْهِي عَنهُ بأبلغ الْوُجُوه وَإِذا كَانَ لَهُ ضد وَاحِد فَمن ضَرُورَة وجوب الإعدام الْكَفّ عَن الإيجاد فَيكون النَّهْي مُوجبا الْأَمر بالضد بِحكمِهِ
وَاسْتدلَّ على ذَلِك بقوله تَعَالَى {وَلَا يحل لَهُنَّ أَن يكتمن مَا خلق الله فِي أرحامهن} فَإِنَّهُ نهى عَن الكتمان وَهُوَ مُوجب الْأَمر بالإظهار وَلِهَذَا وَجب قبُول قَوْلهَا فِيمَا تخبره لِأَنَّهَا مأمورة بالإظهار وَنهى الْمحرم عَن لبس الْمخيط لَا يكون أمرا بِلبْس شَيْء عين من غير الْمخيط لِأَن للمنهي عَنهُ أضدادا هُنَا وبحكم النَّهْي لَا يثبت الْأَمر بِجَمِيعِ الأضداد وَلَيْسَ بَعْضهَا بِأولى من الْبَعْض
يُوضح الْفرق بَينهمَا أَن مَعَ التَّصْرِيح بِالنَّهْي فِيمَا لَهُ ضد وَاحِد لَا يَسْتَقِيم التَّصْرِيح بِالْإِبَاحَةِ فِي الضِّدّ فَإِنَّهُ لَو قَالَ نهيتك عَن التحرك وأبحت لَك السّكُون أَو أَنْت بِالْخِيَارِ فِي السّكُون كَانَ كلَاما مختلا لِأَن مُوجب النَّهْي تَحْرِيم الْمنْهِي عَنهُ وَمَعَ تَحْرِيمه لَا يتَصَوَّر التَّخْيِير فِي ضِدّه لِاسْتِحَالَة انعدامهما جَمِيعًا وَصفَة الْإِبَاحَة تَقْتَضِي

(1/96)


التَّخْيِير وَبِهَذَا يتَبَيَّن فَسَاد مَا ذهب إِلَيْهِ الْفَرِيق الأول من أَن الضِّدّ مسكوت عَنهُ وَلَا تعويل على استدلالهم بِالنَّهْي عَن قتل النَّفس لأَنا نجْعَل ذَلِك بِمَنْزِلَة التَّصْرِيح بالكف عَن قتل النَّفس لتحقيق مُوجب النَّهْي وَالنَّاس تكلمُوا فِي أَن الْأَمر بالكف عَن قتل النَّفس مَا حكمه مِنْهُم من قَالَ معنى الِابْتِلَاء لَا يتَحَقَّق فِي مثل هَذَا لِأَن طبع كل وَاحِد يحملهُ على ذَلِك ونيل الثَّوَاب فِي الْعَمَل بِخِلَاف هوى النَّفس ليتَحَقَّق فِيهِ الِابْتِلَاء
قَالَ رَضِي الله عَنهُ وَالأَصَح عِنْدِي أَنه ينَال بِهِ ثَوَاب المطيعين عِنْد قصد امْتِثَال الْأَمر وَإِظْهَار الطَّاعَة وَهَكَذَا نقُول إِذا ثَبت ذَلِك بِحكم النَّهْي فَأَما إِذا كَانَ للمنهي عَنهُ أضداد يَسْتَقِيم التَّصْرِيح بِالْإِبَاحَةِ فِي جَمِيع الأضداد بِأَن تَقول لَا تسكن وأبحت لَك التحرك من أَي جِهَة شِئْت فَعرفنَا أَنه لَا مُوجب لهَذَا النَّهْي فِي شَيْء من الأضداد وَقَول من يَقُول بِأَن مثل هَذَا النَّهْي يكون أمرا بأضداده يُؤَدِّي إِلَى القَوْل بِأَنَّهُ لَا يتَصَوَّر من العَبْد فعل مُبَاح أَو مَنْدُوب إِلَيْهِ فَإِن الْمنْهِي عَنهُ محرم وأضداده وَاجِب بِالْأَمر الثَّابِت بِمُقْتَضى النَّهْي فَكيف يتَصَوَّر مِنْهُ فعل مُبَاح أَو مَنْدُوب إِلَيْهِ وَفِي اتِّفَاق الْعلمَاء على أَن أَقسَام الْأَفْعَال الَّتِي يَأْتِي بهَا العَبْد عَن قصد أَرْبَعَة وَاجِب ومندوب إِلَيْهِ ومباح ومحظور دَلِيل على فَسَاد قَول هَذَا الْقَائِل
وَأما الْفَرِيق الثَّالِث فَيَقُولُونَ مُوجب النَّهْي فِي ضِدّه إِثْبَات سنة تكون فِي الْقُوَّة كالواجب لِأَن هَذَا أَمر ثَبت بطرِيق الدّلَالَة فَيكون مُوجبه دون مُوجب الثَّابِت بِالنَّصِّ وعَلى القَوْل الْمُخْتَار يحْتَمل أَن يكون مقتضيا هَذَا الْمِقْدَار على قِيَاس مَا بَينا فِي الْأَمر وَكَذَلِكَ إِذا كَانَ للمنهي عَنهُ أضداد فَإِنَّهُ يثبت هَذَا الْقدر من الْمُقْتَضِي فِي أَي أضداده يَأْتِي بِهِ الْمُخَاطب وَلِهَذَا قُلْنَا بِأَن النَّهْي عَن لبس الْمخيط فِي حَالَة الْإِحْرَام يثبت أَن السّنة لبس الْإِزَار والرداء وَذَلِكَ أدنى مَا يَقع بِهِ الْكِفَايَة من غير الْمخيط
فَأَما قَوْله {وَلَا يحل لَهُنَّ أَن يكتمن مَا خلق الله فِي أرحامهن} فَهُوَ نسخ وَلَيْسَ بنهي بِمَنْزِلَة قَوْله تَعَالَى {لَا يحل لَك النِّسَاء من بعد} وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا أمرا بالإظهار بِوَاسِطَة أَن الكتمان لم يبْق مَشْرُوعا وَهُوَ نَظِير قَوْله لَا نِكَاح إِلَّا بِشُهُود وَقد

(1/97)


بَينا تَحْقِيق هَذَا الْمَعْنى فِيمَا سبق فَأَما بَيَان فَائِدَة الأَصْل الْمَذْكُور فِي هَذَا الْفَصْل من مسَائِل الْفِقْه أَن نقُول لما كَانَ الْأَمر مقتضيا كَرَاهَة الضِّدّ لم يكن ضِدّه مُفْسِدا لِلْعِبَادَةِ إِلَّا أَن يكون مفوتا لما هُوَ وَاجِب بِصِيغَة الْأَمر وَلَكِن يكون مَكْرُوها فِي نَفسه فَإِن الْمَأْمُور بِالْقيامِ فِي الصَّلَاة إِذا قعد لَا تفْسد صلَاته لِأَنَّهُ لم يفت بِهَذَا الضِّدّ مَا هُوَ الْوَاجِب بِالْأَمر وَهُوَ الْقيام إِذا أَتَى بِهِ بعد الْقعُود وَلَكِن الْقعُود مَكْرُوه فِي نَفسه وَلكَون النَّهْي مقتضيا فِي ضِدّه مَا بَينا من صفة السّنة قُلْنَا لَا يَنْعَدِم بالضد مَا هُوَ مُوجب صِيغَة النَّهْي فَإِن ركن الْعدة الِامْتِنَاع من الْخُرُوج والتزوج ثَبت ذَلِك بِصِيغَة النَّهْي قَالَ تَعَالَى {وَلَا يخْرجن} وَقَالَ {وَلَا تعزموا عقدَة النِّكَاح} فَإِن فعلت ذَلِك لم يَنْعَدِم بِهِ مَأْمُور مَا هُوَ ركن الِاعْتِدَاد حَتَّى تَنْقَضِي الْعدة بِخِلَاف الْكَفّ فِي بَاب الصَّوْم فَإِنَّهُ وَاجِب بِصِيغَة الْأَمر نصا قَالَ تَعَالَى {ثمَّ أَتموا الصّيام إِلَى اللَّيْل} فينعدم الْأَدَاء بِمُبَاشَرَة الضِّدّ وَهُوَ الْأكل وعَلى هَذَا قُلْنَا العدتان تنقضيان بِمُضِيِّ مُدَّة وَاحِدَة لِأَن الْكَفّ فِي الْعدة ثَابت بِمُقْتَضى النَّهْي وَلَا تضايق فِيمَا هُوَ مُوجب النَّهْي نصا وَهُوَ التَّحْرِيم وَلَا يتَحَقَّق أَدَاء الصومين فِي يَوْم وَاحِد لتضايق الْوَقْت فِي ركن كل صَوْم وَهُوَ الْكَفّ إِلَى وَقت فَإِنَّهُ ثَابت بِالْأَمر نصا وَلَا يتَحَقَّق اجْتِمَاع الْكَفَّيْنِ فِي وَقت وَاحِد وعَلى هَذَا قَالَ أَبُو يُوسُف رَحمَه الله من سجد فِي صلَاته على مَكَان نجس ثمَّ سجد على مَكَان طَاهِر جَازَت صلَاته لِأَن الْمَأْمُور بِهِ السُّجُود على مَكَان طَاهِر ومباشرة الضِّدّ بِالسُّجُود على مَكَان نجس لَا يفوت الْمَأْمُور بِهِ فَيكون مَكْرُوها فِي نَفسه وَلَا يكون مُفْسِدا للصَّلَاة وعَلى قَول أبي حنيفَة وَمُحَمّد رحمهمَا الله تفْسد بِهِ الصَّلَاة لِأَن تأدي الْمَأْمُور بِهِ لما كَانَ بِاعْتِبَار الْمَكَان فَمَا يكون صفة للمكان الَّذِي يُؤدى الْفَرْض عَلَيْهِ يَجْعَل بِمَنْزِلَة الصّفة لَهُ حكما فَيصير هُوَ كالحامل للنَّجَاسَة إِذا سجد على مَكَان نجس والكف عَن حمل النَّجَاسَة مَأْمُور بِهِ فِي جَمِيع الصَّلَاة فَيفوت ذَلِك بِالسُّجُود على مَكَان نجس كَمَا أَن الْكَفّ عَن اقْتِضَاء الشَّهْوَة لما كَانَ مَأْمُورا بِهِ فِي جَمِيع وَقت الصَّوْم يتَحَقَّق الْفَوات بِالْأَكْلِ فِي جُزْء من الْوَقْت فِيهِ وعَلى هَذَا قَالَ أَبُو يُوسُف بترك الْقِرَاءَة فِي شفع من التَّطَوُّع لَا يخرج عَن حُرْمَة الصَّلَاة لِأَنَّهُ مَأْمُور بِالْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاة وَذَلِكَ نهي عَن ضِدّه اقْتِضَاء فَترك الْقِرَاءَة مَا لم يكن مفوتا للْفَرض لَا

(1/98)


يكون مُفْسِدا وَمَعَ احْتِمَال أَدَاء شفع آخر بِهَذِهِ التَّحْرِيمَة لَا يتَحَقَّق فَوَات هَذَا الْفَرْض فَتبقى التَّحْرِيمَة صَحِيحَة قَابِلَة لبِنَاء شفع آخر عَلَيْهَا وَإِن فسد أَدَاء الشفع الأول بترك الْقِرَاءَة
وَقَالَ مُحَمَّد رَحمَه الله الْقِرَاءَة فرض من أول الصَّلَاة إِلَى آخرهَا حكما وَلِهَذَا لَا يصلح الْأُمِّي خَليفَة للقارىء وَإِن كَانَ قد رفع رَأسه من السَّجْدَة الْأَخِيرَة وأتى بِفَرْض الْقِرَاءَة فِي محلهَا وَإِذا كَانَ مستديما حكما يتَحَقَّق فَوَات مَا هُوَ الْفَرْض بترك الْقِرَاءَة فِي رَكْعَة فَيخرج بِهِ من تحريمة الصَّلَاة
وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله كل شفع من التَّطَوُّع صَلَاة على حِدة وَلِهَذَا تفترض الْقِرَاءَة فِي كل رَكْعَة من الشفع عندنَا كَمَا تفترض فِي كل رَكْعَة من الْفجْر إِلَّا أَن بترك الْقِرَاءَة فِي رَكْعَة من التَّطَوُّع لَا يفوت مَا هُوَ الْمَأْمُور بِهِ من الْقِرَاءَة فِي الصَّلَاة نصا فَلَا تَنْقَطِع التَّحْرِيمَة وبترك الْقِرَاءَة فِي الرَّكْعَتَيْنِ يفوت مَا هُوَ الْفَرْض قطعا فَيكون ذَلِك قطعا للتحريمة وَهَكَذَا نقُول فِي الْفجْر فَإِن بترك الْقِرَاءَة فِي رَكْعَة يفْسد الْفَرْض وَلَكِن لَا تنْحَل التَّحْرِيمَة بل تنْقَلب تَطَوّعا فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن أبي حنيفَة رَحمَه الله وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى يَقُول فِي التَّطَوُّع احْتِمَال بِنَاء شفع آخر عَلَيْهِ قَائِم فَإِذا فعل ذَلِك كَانَ الْكل فِي حكم صَلَاة وَاحِدَة وَلَا تَنْقَطِع التَّحْرِيمَة بترك الْقِرَاءَة فِي رَكْعَة مِنْهَا وَمثل هَذَا الِاحْتِمَال غير مَوْجُود فِي الْفجْر حَتَّى إِن فِي ظهر الْمُسَافِر لبَقَاء هَذَا الِاحْتِمَال بنية الْإِقَامَة قَالَ أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف رحمهمَا الله لَا تفْسد بترك الْقِرَاءَة فِي رَكْعَة مِنْهَا حَتَّى إِذا نوى الْإِقَامَة أتم صلَاته وَقضى مَا ترك من الْقِرَاءَة فِي الشفع الثَّانِي فيجزيه ذَلِك وعَلى هَذَا نقُول إِن بترك الْقِرَاءَة فِي التَّطَوُّع فِي الرَّكْعَتَيْنِ جَمِيعًا لَا تنْحَل التَّحْرِيمَة عِنْده لاحْتِمَال بِنَاء شفع آخر عَلَيْهِ كَمَا فِي فصل الْمُسَافِر وَلكنه يفْسد لتحَقّق فَوَات مَا هُوَ فرض فِي هَذِه الصَّلَاة فَإِنَّهُ وَإِن بنى الشفع الثَّانِي على تحريمته لَا يخرج بِهِ من أَن يكون الشفع الأول صَلَاة على حِدة حَقِيقَة وَحكما وَلِهَذَا لَا يفْسد الشفع الأول بمفسد يعْتَرض فِي الشفع الثَّانِي والمسائل الَّتِي تخرج على هَذَا الأَصْل يكثر تعدادها وَالله أعلم

(1/99)


فصل فِي بَيَان أَسبَاب الشَّرَائِع
قَالَ رَضِي الله عَنهُ اعْلَم بِأَن الْأَمر وَالنَّهْي على الْأَقْسَام الَّتِي بيناها لطلب أَدَاء المشروعات فَفِيهَا معنى الْخطاب بِالْأَدَاءِ بعد الْوُجُوب بِأَسْبَاب جعلهَا الشَّرْع سَببا لوُجُوب المشروعات والموجب هُوَ الله تَعَالَى حَقِيقَة لَا تَأْثِير للأسباب فِي الْإِيجَاب بأنفسها وَالْخطاب يَسْتَقِيم أَن يكون سَببا مُوجبا للمشروعات إِلَّا أَن الله تَعَالَى جعل أسبابا أخر سوى الْخطاب سَبَب الْوُجُوب تيسيرا لِلْأَمْرِ على الْعباد حَتَّى يتَوَصَّل إِلَى معرفَة الْوَاجِبَات بِمَعْرِِفَة الْأَسْبَاب الظَّاهِرَة وَقد دلّ على مَا بَينا قَوْله تَعَالَى {وَأقِيمُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة} فَإِن الْألف وَاللَّام دَلِيل على أَن المُرَاد أقِيمُوا الصَّلَاة الَّتِي أوجبتها عَلَيْكُم بِالسَّبَبِ الَّذِي جعلته سَببا لَهَا وأدوا الزَّكَاة الْوَاجِبَة عَلَيْكُم بِسَبَبِهَا كَقَوْل الْقَائِل أد الثّمن فَإِنَّمَا يفهم مِنْهُ الْخطاب بأَدَاء الثّمن الْوَاجِب بِسَبَبِهِ وَهُوَ البيع
ثمَّ أصل الْوُجُوب فِي المشروعات جبر لَا صنع للْعَبد فِيهِ وَلَا اخْتِيَار فَإِن الْمُوجب هُوَ الله تَعَالَى تعبد الْعباد بِمَا أوجبهَا عَلَيْهِم فَكَمَا لَا صنع لَهُم فِي صفة الْعُبُودِيَّة الثَّابِتَة عَلَيْهِم لَا صنع لَهُم فِي أصل الْوُجُوب وَبِاعْتِبَار الْأَسْبَاب الَّتِي جعلهَا الشَّرْع سَببا لَا اخْتِيَار لَهُم فِي أصل الْوُجُوب أَيْضا كَمَا أَنه لَا اخْتِيَار لَهُم فِي السَّبَب فَأَما وجوب الْأَدَاء الثَّابِت بِالْخِطَابِ لَا يَنْفَكّ عَن اخْتِيَار يكون فِيهِ للْعَبد عِنْد الْأَدَاء وَبِه يتَحَقَّق معنى الْعِبَادَة والابتلاء فِي الْمُؤَدِّي وَهَذَا لِأَن التَّكْلِيف بِقدر الوسع شرعا وأصل الْوُجُوب يثبت بتقرر السَّبَب مَعَ انعدام الْخطاب بِالْأَدَاءِ الثَّابِت بِالْأَمر وَالنَّهْي فَإِن من مضى عَلَيْهِ وَقت الصَّلَاة وَهُوَ نَائِم تجب عَلَيْهِ الصَّلَاة حَتَّى يُؤدى الْفَرْض إِذا انتبه فالخطاب مَوْضُوع عَن النَّائِم وَكَذَلِكَ الْمغمى عَلَيْهِ إِذا لم يبْق لتِلْك الصّفة أَكثر من يَوْم وَلَيْلَة أَو الْمَجْنُون إِذا لم يَزْدَدْ جُنُونه على يَوْم وَلَيْلَة يثبت حكم وجوب الصَّلَاة

(1/100)


فِي حَقه حَتَّى يلْزمه الْقَضَاء وَالْخطاب مَوْضُوع عَنهُ أَلا ترى أَن الْمَجْنُون أَو الْمغمى عَلَيْهِ لَو كَانَ كَافِرًا فَكَمَا أَفَاق أسلم لم تلْزمهُ قَضَاء الصَّلَوَات لما لم يثبت الْوُجُوب فِي تِلْكَ الْحَالة فِي حَقه لِانْعِدَامِ الْأَهْلِيَّة فَإِن الْأَسْبَاب إِنَّمَا توجب على من يكون أَهلا للْوُجُوب عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ الْمغمى عَلَيْهِ فِي جَمِيع شهر رَمَضَان أَو الْمَجْنُون فِي بعض الشَّهْر يثبت الْوُجُوب فِي حَقّهمَا حَتَّى يجب الْقَضَاء بعد الْإِفَاقَة وَالْخطاب مَوْضُوع عَنْهُمَا وَكَذَلِكَ الزَّكَاة على أصل الْخصم تجب على الصَّبِي وَالْمَجْنُون وَالْخطاب مَوْضُوع عَنْهُمَا وبالاتفاق يجب عَلَيْهِمَا الْعشْر وَصدقَة الْفطر وَكَذَلِكَ يجب عَلَيْهِمَا حُقُوق الْعباد عِنْد تحقق الْأَسْبَاب مِنْهُمَا أَو من الْوَلِيّ على سَبِيل النِّيَابَة عَنْهُمَا كالصداق الَّذِي يلْزمهُمَا بتزويج الْوَلِيّ إيَّاهُمَا وَالْعِتْق الَّذِي يسْتَحقّهُ الْقَرِيب عَلَيْهِمَا عِنْد دُخُوله فِي ملكهمَا بِالْإِرْثِ وَإِن كَانَ الْخطاب مَوْضُوعا عَنْهُمَا
إِذا تقرر هَذَا فَنَقُول الْأَسْبَاب الَّتِي جعلهَا الشَّرْع مُوجبا للمشروعات هِيَ الْأَسْبَاب الَّتِي تُضَاف المشروعات إِلَيْهَا وتتعلق بهَا شرعا لِأَن إِضَافَة الشَّيْء إِلَى الشَّيْء فِي الْحَقِيقَة تدل على أَنه حَادث بِهِ كَمَا يُقَال كسب فلَان أَي حدث لَهُ باكتسابه وَقد يُضَاف إِلَى الشَّرْط مجَازًا أَيْضا على معنى أَن وجوده يكون عِنْد وجود الشَّرْط وَلَكِن الْمُعْتَبر هُوَ الْحَقِيقَة حَتَّى يقوم دَلِيل الْمجَاز وَتعلق الشَّيْء بالشَّيْء يدل على نَحْو ذَلِك فحين رَأينَا إِضَافَة الصَّلَاة إِلَى الْوَقْت شرعا وتعلقها بِالْوَقْتِ شرعا أَيْضا حَتَّى تَتَكَرَّر بتكررها مَعَ أَن مُطلق الْأَمر لَا يُوجب التّكْرَار وَإِن كَانَ مُعَلّقا بِشَرْط أَلا ترى أَن الرجل إِذا قَالَ (لغيره) تصدق بدرهم من مَالِي لدلوك الشَّمْس لَا يَقْتَضِي هَذَا الْخطاب التّكْرَار ورأينا أَن وجوب الْأَدَاء الثَّابِت بقوله تَعَالَى {أقِم الصَّلَاة لدلوك الشَّمْس} غير مَقْصُور على الْمرة الْوَاحِدَة ثَبت أَن تكْرَار الْوُجُوب بِاعْتِبَار تجدّد السَّبَب بدلوك الشَّمْس فِي كل يَوْم ثمَّ وجوب الْأَدَاء مُرَتّب عَلَيْهِ بِحكم هَذَا الْخطاب وحرف اللَّام فِي قَوْله تَعَالَى {لدلوك الشَّمْس} دَلِيل على تعلقهَا بذلك الْوَقْت كَمَا يُقَال تأهب للشتاء وتطهر للصَّلَاة وَلم يتَعَلَّق بهَا وجودا

(1/101)


عِنْدهَا فَعرفنَا أَن تعلق الْوُجُوب بهَا بِجعْل الشَّرْع ذَلِك الْوَقْت سَببا لوُجُوبهَا فَنَقُول وجوب الْإِيمَان بِاللَّه تَعَالَى كَمَا هُوَ بأسمائه وَصِفَاته بِإِيجَاب الله وَسَببه فِي الظَّاهِر الْآيَات الدَّالَّة على حدث الْعَالم لمن وَجب عَلَيْهِ وَهَذِه الْآيَات غير مُوجبَة لذاتها وعقل من وَجب عَلَيْهِ غير مُوجب عَلَيْهِ أَيْضا وَلَكِن الله تَعَالَى هُوَ الْمُوجب بِأَن أعطَاهُ آلَة يسْتَدلّ بِتِلْكَ الْآلَة على معرفَة الْوَاجِب كمن يَقُول لغيره هاك السراج فَإِن أَضَاء لَك الطَّرِيق فاسلكه كَانَ الْمُوجب للسلوك فِي الطَّرِيق هُوَ الْأَمر بذلك لَا الطَّرِيق بِنَفسِهِ وَلَا السراج فالعقل بِمَنْزِلَة السراج والآيات الدَّالَّة على حدث الْعَالم بِمَنْزِلَة الطَّرِيق والتصديق من العَبْد وَالْإِقْرَار بِمَنْزِلَة السلوك فِي الطَّرِيق فَهُوَ وَاجِب بِإِيجَاب الله تَعَالَى حَقِيقَة وَسَببه الظَّاهِر الْآيَات الدَّالَّة على حدث الْعَالم وَلِهَذَا تسمى عَلَامَات فَإِن الْعلم للشَّيْء لَا يكون مُوجبا لنَفسِهِ وَلَا نعني أَن هَذِه الْآيَات توجب وحدانية الله تَعَالَى ظَاهرا أَو حَقِيقَة وَإِنَّمَا نعني أَنَّهَا فِي الظَّاهِر سَبَب لوُجُوب التَّصْدِيق وَالْإِقْرَار على العَبْد وَلكَون هَذِه الْآيَات دائمة لَا تحْتَمل التَّغَيُّر بِحَال إِذْ لَا يتَصَوَّر للمحدث أَن يكون غير مُحدث فِي شَيْء من الْأَوْقَات فَكَانَ فَرضِيَّة الْإِيمَان بِاللَّه تَعَالَى دَائِما بدوام سَببه غير مُحْتَمل للنسخ والتبديل بِحَال وَلِهَذَا صححنا إِيمَان الصَّبِي الْعَاقِل لِأَن السَّبَب متقرر فِي حَقه وَالْخطاب بِالْأَدَاءِ مَوْضُوع عَنهُ بِسَبَب الصِّبَا لِأَن الْخطاب بِالْأَدَاءِ يحْتَمل السُّقُوط فِي بعض الْأَحْوَال وَلَكِن صِحَة الْأَدَاء بِاعْتِبَار تقرر السَّبَب الْمُوجب لَا بِاعْتِبَار وجوب الْأَدَاء كَالْبيع بِثمن مُؤَجل سَبَب لجَوَاز أَدَاء الثّمن قبل حُلُول الْأَجَل وَإِن لم يكن الْخطاب بِالْأَدَاءِ مُتَوَجها حَتَّى يحل الْأَجَل وَالْمُسَافر إِذا صَامَ فِي شهر رَمَضَان كَانَ صَحِيحا مِنْهُ فرضا لتقرر السَّبَب فِي حَقه وَإِن كَانَ الْخطاب بِالْأَدَاءِ مَوْضُوعا عَنهُ قبل إِدْرَاك عدَّة من أَيَّام أخر وَهَذَا لِأَن صِحَة الْأَدَاء تكون بِوُجُود مَا هُوَ الرُّكْن مِمَّن هُوَ أهل والركن هُوَ التَّصْدِيق وَالْإِقْرَار والأهلية لذَلِك لَا تنعدم بالصبا فَبعد ذَلِك بامتناع صِحَة الْأَدَاء لَا يكون إِلَّا بِحجر شَرْعِي وَالْقَوْل بِالْحجرِ لأحد عَن الْإِيمَان بِاللَّه تَعَالَى محَال فَأَما الصَّلَاة فواجبة بِإِيجَاب الله تَعَالَى بِلَا شُبْهَة وَسبب وُجُوبهَا

(1/102)


فِي الظَّاهِر هُوَ الْوَقْت فِي حَقنا وأمرنا بأدائها بقوله تَعَالَى {أقِم الصَّلَاة لدلوك الشَّمْس} أَي لوُجُوبهَا بدلوك الشَّمْس وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَنَّهَا تنْسب إِلَى الْوَقْت شرعا فَيُقَال فرض الْوَقْت وَصَلَاة الْفجْر وَالظّهْر وَإِنَّمَا يُضَاف الْوَاجِب إِلَى سَببه وَكَذَلِكَ يتَكَرَّر الْوُجُوب بِتَكَرُّر الْوَقْت وَالْخطاب لَا يُوجب التّكْرَار وَهِي لَا تُضَاف إِلَى الْخطاب شرعا وَلَيْسَ هُنَا سوى الْوَقْت وَالْخطاب فَتبين بِهَذَا أَن الْوَقْت هُوَ السَّبَب وَلِهَذَا لَا يجوز تَعْجِيلهَا قبل الْوَقْت وَيجوز بعد دُخُول الْوَقْت مَعَ تَأْخِير لُزُوم الْأَدَاء بِالْخِطَابِ إِلَى آخر الْوَقْت
فَإِن قيل لَا يفهم من وجوب الْعِبَادَة شَيْء سوى وجوب الْأَدَاء وَلَا خلاف أَن وجوب الْأَدَاء بِالْخِطَابِ فَمَا الَّذِي يكون وَاجِبا بِسَبَب الْوَقْت قُلْنَا الْوَاجِب بِسَبَب الْوَقْت مَا هُوَ الْمَشْرُوع نفلا فِي غير الْوَقْت الَّذِي هُوَ سَبَب للْوُجُوب وَبَيَان هَذَا فِي الصَّوْم فَإِنَّهُ مَشْرُوع نفلا فِي كل يَوْم وجد الْأَدَاء أَو لم يُوجد وَفِي رَمَضَان يكون مَشْرُوعا وَاجِبا بِسَبَب الْوَقْت سَوَاء وجد خطاب الْأَدَاء بِوُجُود شَرطه وَهُوَ التَّمَكُّن من الْأَدَاء أَو لم يُوجد أَلا ترى أَن من كَانَ مغمى عَلَيْهِ أَو نَائِما فِي وَقت الصَّلَاة ثمَّ أَفَاق بعد مُضِيّ الْوَقْت يصير مُخَاطبا بِالْأَدَاءِ لوُجُوبهَا عَلَيْهِ لوُجُود السَّبَب وَهُوَ الْوَقْت وَلَو كَانَ هَذَا الْمغمى عَلَيْهِ أَو النَّائِم غير بَالغ ثمَّ بلغ بعد مُضِيّ الْوَقْت ثمَّ أَفَاق وانتبه لم يكن عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا وَقد صَار مُخَاطبا عِنْد الْإِفَاقَة فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِصفة وَاحِدَة وَلَكِن لما انعدمت الْأَهْلِيَّة عِنْد وجود السَّبَب لم يثبت الْوُجُوب فِي حَقه فَلَمَّا وجدت الْأَهْلِيَّة فِي الْفَصْل الأول ثَبت الْوُجُوب وَمن بَاعَ بِثمن مُؤَجل فالثمن يجب بِنَفس العقد وَالْخطاب بِالْأَدَاءِ مُتَأَخّر إِلَى مُضِيّ الْأَجَل فَهَذَا مثله
وَسبب وجوب الصَّوْم شُهُود الشَّهْر فِي حَال قيام الْأَهْلِيَّة وَلِهَذَا أضيف إِلَى الشَّهْر شرعا ويتكرر بِتَكَرُّر الشَّهْر وَلم يجب الْأَدَاء قبل وجود الشَّهْر وَجَاز بعد وَإِن كَانَ الْأَدَاء مُتَأَخِّرًا كَمَا فِي حق الْمَرِيض وَالْمُسَافر فَإِن الْأَمر بِالْأَدَاءِ فِي حَقّهمَا بعد إِدْرَاك عدَّة من أَيَّام أخر وَالْوُجُوب ثَابت فِي الشَّهْر بتقرر سَببه حَتَّى لَو صاما كَانَ ذَلِك فرضا أَلا ترى أَن من كَانَ مُسَافِرًا الصَّوْم وَلَو كَانَ بَالغا فِي رَمَضَان مُسَافِرًا لزمَه الْأَدَاء إِذا صَار مُقيما وحالهما عِنْد الْإِقَامَة بِصفة وَاحِدَة فَعرفنَا أَن الْوُجُوب ثَبت فِي حق أَحدهمَا بتقرر سَببه دون الآخر
وَبَيَان مَا قُلْنَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَمن شهد مِنْكُم الشَّهْر فليصمه} مَعْنَاهُ فِي رَمَضَان غير بَالغ ثمَّ صَار مُقيما بَعْدَمَا بلغ

(1/103)


خَارج رَمَضَان لَا يلْزمه فليصم فِيهِ لِأَن الْوَقْت ظرف للصَّوْم وَإِنَّمَا يفهم من هَذَا فليصم فِيهِ الصَّوْم الْوَاجِب بشهوده وَلِهَذَا ظن بعض الْمُتَأَخِّرين مِمَّن صنف فِي هَذَا الْبَاب أَن سَبَب الْوُجُوب أَيَّام الشَّهْر دون اللَّيَالِي لِأَن صَلَاحِية الْأَدَاء مُخْتَصّ بِالْأَيَّامِ
قَالَ رَضِي الله عَنهُ وَهَذَا غلط عِنْدِي بل فِي السَّبَبِيَّة للْوُجُوب الْأَيَّام والليالي سَوَاء فَإِن الشَّهْر اسْم لجزء من الزَّمَان يشْتَمل على الْأَيَّام والليالي وَإِنَّمَا جعله الشَّرْع سَببا لإِظْهَار فَضِيلَة هَذَا الْوَقْت وَهَذِه الْفَضِيلَة ثَابِتَة لليالي وَالْأَيَّام جَمِيعًا وَالرِّوَايَة مَحْفُوظَة فِي أَن من كَانَ مفيقا فِي أول لَيْلَة من الشَّهْر ثمَّ جن قبل أَن يصبح وَمضى الشَّهْر وَهُوَ مَجْنُون ثمَّ أَفَاق يلْزمه الْقَضَاء وَلَو لم يَتَقَرَّر السَّبَب فِي حَقه بِمَا شهد من الشَّهْر فِي حَالَة الْإِفَاقَة لم يلْزمه الْقَضَاء (وَكَذَلِكَ الْمَجْنُون إِذا أَفَاق فِي لَيْلَة من الشَّهْر ثمَّ جن قبل أَن يصبح ثمَّ أَفَاق بعد مُضِيّ الشَّهْر يلْزمه الْقَضَاء) وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن نِيَّة أَدَاء الْفَرْض تصح بعد دُخُول اللَّيْلَة الأولى بغروب الشَّمْس قبل أَن يصبح وَمَعْلُوم أَن نِيَّة أَدَاء الْفَرْض قبل تقرر سَبَب الْوُجُوب لَا يَصح أَلا ترى أَنه لَو نوى قبل غرُوب الشَّمْس لم تصح نِيَّته وأيد مَا قُلْنَا قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صُومُوا لرُؤْيَته فَإِنَّهُ نَظِير قَوْله تَعَالَى {أقِم الصَّلَاة لدلوك الشَّمْس} وَقد بَينا فِي الصَّلَاة أَن فِي تقرر الْوُجُوب بتقرر السَّبَب لَا يعْتَبر التَّمَكُّن بِالْأَدَاءِ فَإِن من أسلم فِي آخر الْوَقْت بِحَيْثُ لَا يتَمَكَّن من أَدَاء الصَّلَاة فِي الْوَقْت يلْزمه فرض الْوَقْت فَهُنَا وَإِن لم يثبت التَّمَكُّن من الْأَدَاء بِشُهُود اللَّيْل يَتَقَرَّر سَبَب الْوُجُوب وَلَكِن بِشَرْط احْتِمَال الْأَدَاء فِي الْوَقْت وَلِهَذَا لَو أسلم فِي آخر يَوْم من رَمَضَان قبل الزَّوَال أَو بعده لم يلْزمه الصَّوْم وَإِن أدْرك جُزْءا من الشَّهْر لِأَنَّهُ لَيْسَ هُنَا معنى احْتِمَال الْأَدَاء فِي الْوَقْت وَقد قَررنَا هَذَا فِيمَا سبق
وَسبب وجوب الْحَج الْبَيْت وَلِهَذَا يُضَاف إِلَيْهِ شرعا قَالَ الله تَعَالَى {وَللَّه على النَّاس حج الْبَيْت من اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا}

(1/104)


وَلِهَذَا لَا يتَكَرَّر بِتَكَرُّر وَقت الْأَدَاء لِأَن مَا هُوَ السَّبَب غير متجدد فَأَما الْوَقْت فَهُوَ شَرط جَوَاز الْأَدَاء وَلَيْسَ بِسَبَب للْوُجُوب وَلَا يُقَال بِدُخُول شَوَّال يدْخل الْوَقْت ويتأخر الْأَدَاء إِلَى يَوْم عَرَفَة فَعرفنَا أَن الْوَقْت سَبَب للْوُجُوب إِذْ لَو لم يكن سَببا لَهُ لم يكن إِضَافَة الْوَقْت إِلَيْهِ مُفِيدا وَيُقَال أشهر الْحَج كَمَا يُقَال وَقت الصَّلَاة فَعرفنَا أَنه سَبَب فِيهِ وَهَذَا لِأَن عندنَا يجوز الْأَدَاء كَمَا دخل شَوَّال وَلَكِن هَذِه عبَادَة تشْتَمل على أَرْكَان بَعْضهَا مُخْتَصّ بِوَقْت وَمَكَان وَبَعضهَا لَا يخْتَص فَمَا كَانَ مُخْتَصًّا بِوَقْت أَو مَكَان لَا يجوز فِي غير ذَلِك الْوَقْت كَمَا لَا يجوز فِي غير ذَلِك الْمَكَان وَمَا لم يكن مُخْتَصًّا بِوَقْت فَهُوَ جَائِز فِي جَمِيع وَقت الْحَج حَتَّى إِن من أحرم فِي رَمَضَان وَطَاف وسعى لم يكن سَعْيه معتدا بِهِ من سعى الْحَج حَتَّى إِذا طَاف للزيارة يَوْم النَّحْر تلْزمهُ إِعَادَة السَّعْي وَلَو كَانَ طَاف وسعى فِي شَوَّال كَانَ سَعْيه معتدا بِهِ حَتَّى لَا يلْزمه إِعَادَته يَوْم النَّحْر لِأَن السَّعْي غير مُؤَقّت فَجَاز أَدَاؤُهُ فِي أشهر الْحَج وَأما الْوُقُوف موقت فَلم يجز أَدَاؤُهُ قبل وقته كَمَا لَا يجوز أَدَاء طواف الزِّيَارَة يَوْم عَرَفَة لِأَنَّهُ موقت بِيَوْم النَّحْر وكما لَا يجوز رمي الْيَوْم الثَّانِي فِي الْيَوْم الأول وَهُوَ نَظِير أَرْكَان الصَّلَاة فَإِن السُّجُود ترَتّب على الرُّكُوع فَلَا يعْتد بِهِ قبل الرُّكُوع وَلَا يدل ذَلِك على أَن الْوَقْت لَيْسَ بِوَقْت الْأَدَاء وَبِهَذَا تبين أَن الْوَقْت لَيْسَ بِسَبَب للْوُجُوب وَلكنه شَرط جَوَاز الْأَدَاء وَوُجُوب الْأَدَاء فِيهِ وَكَذَلِكَ الِاسْتِطَاعَة بِالْمَالِ لَيْسَ بِسَبَب للْوُجُوب فَإِن هَذِه عبَادَة بدنية وَإِنَّمَا كَانَ الْبَيْت سَببا لوُجُوبهَا لِأَنَّهَا عبَادَة هِجْرَة وزيارة تَعْظِيمًا لتِلْك الْبقْعَة فَلَا يصلح المَال سَببا لوُجُوبهَا وَلَا هُوَ شَرط لجَوَاز الْأَدَاء أَيْضا فالأداء من الْفَقِير صَحِيح وَإِن كَانَ لَا يملك شَيْئا وَإِنَّمَا المَال شَرط وجوب الْأَدَاء فَإِن السّفر الَّذِي يوصله إِلَى الْأَدَاء لَا يتهيأ لَهُ بِدُونِ الزَّاد وَالرَّاحِلَة إِلَّا بحرج عَظِيم والحرج مَدْفُوع فَعرفنَا أَن المَال شَرط وجوب الْأَدَاء وَهُوَ نَظِير عدَّة من أَيَّام أخر فِي بَاب الصَّوْم (فِي حق الْمُسَافِر) الاداء بتجدد هَذِه الْأَيَّام وَهنا أَيْضا لَا يتَكَرَّر وجوب الْأَدَاء بتجدد ملك الزَّاد وَالرَّاحِلَة فَعرفنَا أَنه شَرط لوُجُوب الْأَدَاء
وَسبب وجوب الطَّهَارَة الصَّلَاة فَإِنَّهَا تُضَاف إِلَيْهَا شرعا فَيُقَال تطهر للصَّلَاة فَأَما الْحَدث فَهُوَ شَرط وجوب الْأَدَاء بِالْأَمر وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فَاغْسِلُوا} فَإِنَّهُ شَرط

(1/105)


وجوب الْأَدَاء حَتَّى كَانَ الْأَدَاء جَائِزا قبله وَلَا يتَكَرَّر وجوب {وُجُوهكُم} الْآيَة لَا أَن يكون سَببا للْوُجُوب وَكَيف يكون سَببا (للْوُجُوب) وَهُوَ نَاقض للطَّهَارَة فَمَا كَانَ مزيلا للشَّيْء رَافعا لَهُ لَا يصلح سَببا لوُجُوبه وَلِهَذَا جَازَ الْأَدَاء بِدُونِهِ وَكَانَ الْوضُوء على وضوء نورا على نور وَلَا يجب الْأَدَاء مَعَ تحقق الْحَدث بِدُونِ وجوب الصَّلَاة فَإِن الْجنب إِذا حَاضَت لَا يجب عَلَيْهَا الِاغْتِسَال مَا لم تطهر لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهَا وجوب الصَّلَاة وَبِهَذَا تبين أَن الطَّهَارَة لَيست بِعبَادة مَقْصُودَة وَلكنهَا شَرط الصَّلَاة وَمَا يكون شرطا للشَّيْء يتَعَلَّق بِهِ صِحَّته ووجوبه بِوُجُوب الأَصْل بِمَنْزِلَة اسْتِقْبَال الْقبْلَة فَإِن وُجُوبه بِوُجُوب الصَّلَاة وَالشُّهُود فِي بَاب النِّكَاح ثُبُوتهَا بِثُبُوت النِّكَاح لكَون الشُّهُود شرطا فِي النِّكَاح
وَسبب وجوب الزَّكَاة المَال بِصفة أَن يكون نِصَابا ناميا أَلا ترى أَنه يُضَاف إِلَى المَال وَأَنه يتضاعف بتضاعف النصب فِي وَقت وَاحِد وَلَكِن الْوُجُوب بِوَاسِطَة غنى الْمَالِك قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا صَدَقَة إِلَّا عَن ظهر غنى والغنى لَا يحصل بِأَصْل المَال مَا لم يبلغ مِقْدَارًا وَذَلِكَ فِي النّصاب شرعا وَالْوُجُوب بِصفة الْيُسْر وَلَا يتم ذَلِك إِلَّا إِذا كَانَ المَال ناميا وَلِهَذَا يُضَاف إِلَى سَبَب النَّمَاء أَيْضا فَيُقَال زَكَاة السَّائِمَة وَزَكَاة التِّجَارَة فَأَما مُضِيّ الْحول فَهُوَ شَرط لوُجُوب الْأَدَاء من حَيْثُ إِن النَّمَاء لَا يحصل إِلَّا بِمُضِيِّ الزَّمَان وَلِهَذَا جَازَ الْأَدَاء بعد كَمَال النّصاب قبل حولان الْحول وَجَوَاز الْأَدَاء لَا يكون قبل تقرر سَبَب الْوُجُوب حَتَّى لَو أدّى قبل كَمَال النّصاب لم يجز
فَإِن قيل الزَّكَاة يتَكَرَّر وُجُوبهَا فِي مَال وَاحِد بِاعْتِبَار الْأَحْوَال وبتكرر الشَّرْط لَا يَتَجَدَّد الْوَاجِب قُلْنَا لَيْسَ كَذَلِك بل يتَكَرَّر الْوُجُوب بتجدد النَّمَاء الَّذِي هُوَ وصف

(1/106)


لِلْمَالِ وباعتباره يكون المَال سَببا للْوُجُوب فَإِن لمضي كل حول تَأْثِيرا فِي حُصُول النَّمَاء الْمَطْلُوب من عين السَّائِمَة بالدر والنسل وَالْمَطْلُوب من ربح عرُوض التِّجَارَة زِيَادَة الْقيمَة
وَسبب وجوب صَدَقَة الْفطر على الْمُسلم الْغَنِيّ رَأس يموله بولايته عَلَيْهِ وَلِهَذَا يُضَاف إِلَيْهِ فَيُقَال صَدَقَة الرَّأْس ويتضاعف الْوَاجِب بِتَعَدُّد الرؤوس من الْأَوْلَاد الصغار والمماليك وَإِنَّمَا عرفنَا هَذَا بقوله عَلَيْهِ السَّلَام أَدّوا عَن كل حر وَعبد وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام أَدّوا عَمَّن تمونون وحرف عَن للانتزاع فَأَما أَن يكون المُرَاد طَرِيق الانتزاع بِالْوُجُوب على الرَّأْس ثمَّ أَدَاء الْغَيْر عَنهُ وَهَذَا بَاطِل فَإِنَّهُ لَا يجب على الْكَافِر وَالرَّقِيق وَالْفَقِير وَالصَّغِير فَعرفنَا أَن المُرَاد انتزاع الحكم عَن سَببه وَفِيه تنصيص على أَن الرَّأْس بِالصّفةِ الَّتِي قُلْنَا هُوَ السَّبَب الْمُوجب للْوُجُوب وَأما الْفطر فَهُوَ شَرط وجوب الْأَدَاء وَالْإِضَافَة إِلَيْهِ بطرِيق الْمجَاز على معنى أَن الْوُجُوب عِنْده يكون وَإِنَّمَا جعلنَا الْفطر شرطا وَالرَّأْس سَببا مَعَ وجود الْإِضَافَة إِلَيْهِمَا لِأَن تضَاعف الْوَاجِب بِتَعَدُّد الرؤوس دَلِيل مُحكم على أَنه سَبَب وَالْإِضَافَة دَلِيل مُحْتَمل فقد بَينا أَن الْإِضَافَة قد تكون إِلَى الشَّرْط مجَازًا وَلِأَن التَّنْصِيص على المئونة دَلِيل على أَن سَبَب الْوُجُوب الرَّأْس دون الْفطر فالمئونة إِنَّمَا تجب عَن الرؤوس وَلِهَذَا اشْتَمَل هَذَا الْوَاجِب على معنى المئونة وعَلى معنى الْعِبَادَة لِأَن صفة الْغنى فِيمَن يجب عَلَيْهِ الْأَدَاء يعْتَبر لوُجُوب الْأَدَاء وَذَلِكَ دَلِيل كَونه عبَادَة وَصفَة المئونة فِي الْمُؤَدِّي دَلِيل على أَنه بِمَنْزِلَة النَّفَقَة وَجَوَاز الْأَدَاء قبل الْفطر دَلِيل على أَن الْفطر لَيْسَ بِسَبَب فِي وجوب الْأَدَاء بِشُهُود وَقت الْفطر فِي حق من لَا يُؤَدِّي الصَّوْم أصلا دَلِيل على أَن الْفطر شَرط وجوب الْأَدَاء فَإِن الْكَافِر إِذا أسلم لَيْلَة الْعِيد أَو الصَّبِي بلغ أَو العَبْد عتق يلْزمه الْأَدَاء بِطُلُوع الْفجْر من يَوْم الْفطر وَلِهَذَا لَو أسلم بعد طُلُوع الْفجْر لم يلْزمه وَإِن أدْرك الْيَوْم لِأَن وَقت الْفطر عَن رَمَضَان فِي حق وجوب الصَّدَقَة عِنْد طُلُوع الْفجْر فَإِذا انعدمت الْأَهْلِيَّة عِنْد ذَلِك لم يجب الْأَدَاء وتكرر الْوُجُوب

(1/107)


بِتَكَرُّر الْفطر فِي كل سنة بِمَنْزِلَة تكَرر وجوب الزَّكَاة بِتَكَرُّر الْحول فَإِن الْوَصْف الَّذِي لأَجله كَانَ الرَّأْس مُوجبا وَهُوَ المئونة يَتَجَدَّد بِمُضِيِّ الزَّمَان كَمَا أَن النَّمَاء الَّذِي لأَجله كَانَ المَال سَببا للْوُجُوب يَتَجَدَّد بتجدد الْحول
وَسبب وجوب الْعشْر الأَرْض النامية بِاعْتِبَار حَقِيقَة النَّمَاء وَسبب وجوب الْخراج الأَرْض النامية بِاعْتِبَار التَّمَكُّن من طلب النَّمَاء بالزراعة وَلِهَذَا لَو اصطلم الزَّرْع آفَة لم يجب الْعشْر وَلَا الْخراج وَلِهَذَا لم يجْتَمع الْعشْر وَالْخَرَاج بِسَبَب أَرض وَاحِدَة بِحَال لِأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا مئونة الأَرْض النامية إِلَّا أَن الْعشْر الْوَاجِب جُزْء من النَّمَاء فَلَا بُد من حُصُول النَّمَاء ليثبت حكم الْوُجُوب فِي مَحَله بِسَبَبِهِ وَلِهَذَا كَانَ فِي الْعشْر معنى المئونة وَمعنى الْعِبَادَة فباعتبار أصل الأَرْض هُوَ مئونة لِأَن تملك الأَرْض سَبَب لوُجُوب مئونة شرعا وَبِاعْتِبَار كَون الْوَاجِب جُزْءا من النَّمَاء فِيهِ معنى الْعِبَادَة بِمَنْزِلَة الزَّكَاة وَفِي الْخراج معنى المئونة بِاعْتِبَار أصل الأَرْض وَمعنى المذلة بِاعْتِبَار التَّمَكُّن من طلب النَّمَاء بالزراعة فالاشتغال بالزراعة مَعَ الْإِعْرَاض عَن الْجِهَاد سَبَب للمذلة على مَا رُوِيَ أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام رأى شَيْئا من آلَات الزِّرَاعَة فِي دَار فَقَالَ مَا دخل (هَذَا) بَيت قوم إِلَّا ذلوا وَلِهَذَا يتَكَرَّر وجوب الْعشْر بتجدد الْخَارِج لتجدد الْوَصْف وَهُوَ النَّمَاء وَلَا يتَكَرَّر وجوب الْخراج فِي حول وَاحِد بِحَال وَلِهَذَا جَازَ تَعْجِيل الْخراج قبل الزِّرَاعَة وَلم يجز تَعْجِيل الْعشْر لِأَن الأَرْض بِاعْتِبَار حَقِيقَة النَّمَاء توجب الْعشْر وَذَلِكَ لَا يتَحَقَّق قبل الزِّرَاعَة وَلِهَذَا أوجب أَبُو حنيفَة رَحمَه الله الْعشْر فِي قَلِيل الْخَارِج وَكَثِيره وَفِي كل مَا يستنبت فِي الأَرْض مِمَّا لَهُ ثَمَرَة بَاقِيَة وَمَا لَيست لَهُ ثَمَرَة بَاقِيَة سَوَاء لِأَن الْوُجُوب بِاعْتِبَار صفة النَّمَاء وَلَا مُعْتَبر بِصفة الْغنى فِيمَن يجب عَلَيْهِ بِاعْتِبَار النّصاب لأَجله
وَسبب وجوب الْجِزْيَة الرَّأْس بِاعْتِبَار صفة مَعْلُومَة وَهُوَ أَن يكون كَافِرًا حرا لَهُ بنية صَالِحَة لِلْقِتَالِ وَلِهَذَا يُضَاف إِلَيْهِ فَيُقَال جِزْيَة الرَّأْس ويتكرر الْوُجُوب

(1/108)


بِتَكَرُّر الْحول بِمَنْزِلَة تكَرر وجوب الزَّكَاة فَإِن الْمَعْنى الَّذِي كَانَ الرَّأْس سَببا مُوجبا بِاعْتِبَار نصْرَة الْقِتَال وَهَذَا لِأَن أهل الذِّمَّة يصيرون منا دَارا والقتال بنصرة الدَّار وَاجِب على أَهلهَا وَلَا تصلح أبدانهم لهَذِهِ النُّصْرَة لميلهم إِلَى أهل الدَّار المعادية لدارنا اعتقادا فَأوجب عَلَيْهِم فِي أَمْوَالهم جِزْيَة عُقُوبَة لَهُم على كفرهم وخلفا عَن النُّصْرَة الَّتِي قَامَت بإصرارهم على الْكفْر فِي حَقنا وَلِهَذَا تصرف إِلَى الْمُجَاهدين الَّذين يقومُونَ بنصرة الدَّار وَهَذِه النُّصْرَة يَتَجَدَّد وُجُوبهَا بتجدد الْحَاجة فِي كل وَقت فَكَذَلِك مَا كَانَ خلفا عَنْهَا بتجدد وُجُوبهَا إِلَّا أَنه لَا نِهَايَة للْحَاجة إِلَى المَال فَيعْتَبر الْوَقْت لتجدد الْوُجُوب كَمَا يعْتَبر فِي الزَّكَاة
وَسبب وجوب الْعُقُوبَات مَا يُضَاف إِلَيْهِ نَحْو الزِّنَا للرجم وَالْجَلد وَالسَّرِقَة للْقطع وَشرب الْخمر وَالْقَذْف للحد وَالْقَتْل الْعمد للْقصَاص
وَسبب وجوب الْكَفَّارَات الَّتِي هِيَ دَائِرَة بَين الْعقُوبَة وَالْعِبَادَة مَا يُضَاف إِلَيْهِ من سَبَب مُتَرَدّد بَين الْحَظْر وَالْإِبَاحَة نَحْو الْيَمين المعقودة على أَمر فِي الْمُسْتَقْبل إِذا حنث فِيهَا وَالظِّهَار عِنْد الْعود وَالْفطر فِي رَمَضَان بِصفة الْجِنَايَة وَالْقَتْل بِصفة الْخَطَأ
فَأَما سَبَب الْمَشْرُوع من الْمُعَامَلَات فَهُوَ تعلق الْبَقَاء الْمَقْدُور بتعاطيها وَبَيَان ذَلِك أَن الله تَعَالَى حكم بِبَقَاء الْعَالم إِلَى قيام السَّاعَة وَهَذَا الْبَقَاء إِنَّمَا يكون بِبَقَاء الْجِنْس وَبَقَاء النَّفس فبقاء الْجِنْس بالتناسل والتناسل بإتيان الذُّكُور الْإِنَاث فِي مَوضِع الْحَرْث وَالْإِنْسَان هُوَ الْمَقْصُود بذلك فشرع لذَلِك التناسل طَرِيقا لَا فَسَاد فِيهِ وَلَا ضيَاع وَهُوَ طَرِيق الازدواج بِلَا شركَة فَفِي التغالب فَسَاد الْعَالم وَفِي الشّركَة ضيَاع الْوَلَد لِأَن الْأَب إِذا اشْتبهَ يتَعَذَّر إِيجَاب مئونة الْوَلَد عَلَيْهِ وبالأمهات عجز عَن اكْتِسَاب ذَلِك بِأَصْل الجبلة فيضيع الْوَلَد وَبَقَاء النَّفس إِلَى أَجله إِنَّمَا يقوم بِمَا تقوم

(1/109)


بِهِ الْمصَالح للمعيشة وَذَلِكَ بِالْمَالِ وَمَا يحْتَاج إِلَيْهِ كل وَاحِد لكفايته لَا يكون حَاصِلا فِي يَده وَإِنَّمَا يتَمَكَّن من تَحْصِيله بِالْمَالِ فشرع سَبَب اكْتِسَاب المَال وَسبب اكْتِسَاب مَا فِيهِ كِفَايَة لكل وَاحِد وَهُوَ التِّجَارَة عَن ترَاض لما فِي التغالب من الْفساد وَالله لَا يحب الْفساد وَلِأَن الله تَعَالَى جعل الدُّنْيَا دَار محنة وابتلاء كَمَا قَالَ تَعَالَى {إِنَّا خلقنَا الْإِنْسَان من نُطْفَة أمشاج نبتليه} وَالْإِنْسَان الَّذِي هُوَ مَقْصُود غير مَخْلُوق فِي الدُّنْيَا لنيل اللَّذَّات وَقَضَاء الشَّهَوَات بل لِلْعِبَادَةِ الَّتِي هِيَ عمل بِخِلَاف هوى النَّفس قَالَ الله تَعَالَى {وَمَا خلقت الْجِنّ وَالْإِنْس إِلَّا ليعبدون} فَعرفنَا أَن مَا جعل لنا فِي الدُّنْيَا من اقْتِضَاء الشَّهَوَات بِالْأَكْلِ وَغير ذَلِك لَيْسَ لعين اقْتِضَاء الشَّهْوَة بل لحكم آخر وَهُوَ تعلق الْبَقَاء الْمَقْدُور بتعاطيها إِلَّا أَن فِي النَّاس مُطيعًا وعاصيا فالمطيع يرغب فِيهِ لَا لقَضَاء الشَّهْوَة بل لاتباع الْأَمر والعاصي يرغب فِيهِ لقَضَاء شَهْوَة النَّفس فَيتَحَقَّق الْبَقَاء الْمَقْدُور بِفعل الْفَرِيقَيْنِ وللمطيع الثَّوَاب بِاعْتِبَار قَصده إِلَى الْإِقْدَام عَلَيْهِ والعاصي مستوجب للعقاب بِاعْتِبَار قَصده فِي اتِّبَاع هوى النَّفس الأمارة بالسوء تبَارك الله الْحَكِيم الْخَبِير الْقَدِير هُوَ مَوْلَانَا فَنعم الْمولى وَنعم النصير