أصول الشاشي

الْفَصْل الثَّامِن فصل فِيمَا يتْرك بِهِ حقائق الْأَلْفَاظ وَمَا يتْرك بِهِ حَقِيقَة اللَّفْظ خَمْسَة أَنْوَاع

أَحدهَا دلَالَة الْعرف وَذَلِكَ لِأَن ثُبُوت الْأَحْكَام بالألفاظ إِنَّمَا كَانَ لدلَالَة اللَّفْظ على الْمَعْنى المُرَاد للمتكلم
فَإِذا كَانَ الْمَعْنى متعارفا بَين النَّاس كَانَ ذَلِك الْمَعْنى الْمُتَعَارف دَلِيلا على أَنه هُوَ المُرَاد بِهِ ظَاهرا فيترتب عَلَيْهِ الحكم
مِثَاله لَو حلف لَا يَشْتَرِي رَأْسا فَهُوَ على مَا تعارفه النَّاس فَلَا يَحْنَث بِرَأْس العصفور والحمامة

(1/85)


وَكَذَلِكَ لَو حلف لَا يَأْكُل بيضًا كَانَ ذَلِك على الْمُتَعَارف فَلَا يَحْنَث بتناول بيض العصفور والحمامة
وَبِهَذَا ظهر أَن ترك الْحَقِيقَة لَا يُوجب الْمصير إِلَى الْمجَاز بل جَازَ أَن تثبت بِهِ الْحَقِيقَة القاصرة ومثاله تَقْيِيد الْعَام بِالْبَعْضِ

(1/86)


بحث ترك الْحَقِيقَة بِدلَالَة فِي نفس الْكَلَام

وَكَذَلِكَ لَو نذر حجا أَو مشيا إِلَى بَيت الله تَعَالَى أَو أَن يضْرب بِثَوْبِهِ حطيم الْكَعْبَة يلْزمه الْحَج بِأَفْعَال مَعْلُومَة لوُجُود الْعرف
وَالثَّانِي قد تتْرك الْحَقِيقَة بِدلَالَة فِي نفس الْكَلَام مِثَاله إِذا قَالَ كل مَمْلُوك لي فَهُوَ حرلم يعْتق مكاتبوه وَلَا من أعتق بعضه إِلَّا إِذا نوى دُخُولهمْ لِأَن لفظ الْمَمْلُوك مُطلق يتَنَاوَل الْمَمْلُوك من كلوجه وَالْمكَاتب لَيْسَ بمملوك وَمن كل وَجه وَلِهَذَا لم يجز تصرفه فِيهِ وَلَا يحل لَهُ وَطْء الْمُكَاتبَة وَلَو تزوج الْمكَاتب بنت مَوْلَاهُ ثمَّ مَاتَ الْمولى ورثته الْبِنْت لم يفْسد النِّكَاح
وَإِذا لم يكن مَمْلُوكا من كل وَجه لَا يدْخل تَحت لفظ الْمَمْلُوك الْمُطلق
وَهَذَا بِخِلَاف الْمُدبر وَأم الْوَلَد فَإِن الْملك فيهمَا كَامِل وَلذَا حل وَطْء الْمُدبرَة وَأم الْوَلَد وَإِنَّمَا النُّقْصَان فِي الرّقّ من حَيْثُ أَنه يَزُول بِالْمَوْتِ لَا محَالة وعَلى هَذَا
قُلْنَا إِذا أعتق الْمكَاتب عَن كَفَّارَة يَمِينه أَو ظهارها جَازَ وَلَا يجوز فيهمَا إِعْتَاق الْمُدبر وَأم الْوَلَد لِأَن الْوَاجِب هُوَ التَّحْرِير وَهُوَ إِثْبَات الْحُرِّيَّة بِإِزَالَة الرّقّ فَإِذا كَانَ الرّقّ فِي الْمكَاتب كَامِلا كَانَ تحريره تحريرا من جَمِيع الْوُجُوه وَفِي الْمُدبر وَأم الْوَلَد لما كَانَ الرّقّ نَاقِصا لَا يكون

(1/89)


التَّحْرِير تحريرا من كل الْوُجُوه
وَالثَّالِث قد تتْرك الْحَقِيقَة بِدلَالَة سِيَاق الْكَلَام قَالَ فِي (السّير الْكَبِير) إِذا قَالَ الْمُسلم للحربي إنزل فَنزل كَانَ آمنا

(1/90)


بحث ترك الْحَقِيقَة بِدلَالَة من قبل الْمُتَكَلّم

وَلَو قَالَ إنزل إِن كنت رجلا فَنزل لَا يكون آمنا
وَلَو قَالَ الْحَرْبِيّ الْأمان الْأمان فَقَالَ الْمُسلم الْأمان الْأمان كَانَ أمنا
وَلَو قَالَ الْأمان ستعلم مَا تلقى غَدا أَو لَا تعجل حَتَّى ترى فَنزل لَا يكون آمنا
وَلَو قا اشْتَرِ لي جَارِيَة لتخدمني فَاشْترى العمياء أَو الشلاء لَا يجوز
وَلَو قَالَ اشْتَرِ لي جَارِيَة حَتَّى أطأها فَاشْترى أُخْته من الرَّضَاع لَا يكون عَن الْمُوكل
وعَلى هَذَا قُلْنَا فِي قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام
(إِذا وَقع الذُّبَاب فِي طَعَام أحدكُم فامقلوه ثمَّ انقلوه فَإِن فِي إِحْدَى جناحيه دَاء وَفِي الْأُخْرَى دَوَاء وَإنَّهُ ليقدم الدَّاء على الدَّوَاء)
دلّ سِيَاق الْكَلَام على أَن الْمقل لدفع الْأَذَى عَنَّا لَا لأمر تعبدي حَقًا للشَّرْع فَلَا يكون للْإِيجَاب
وَقَوله تَعَالَى {إِنَّمَا الصَّدقَات للْفُقَرَاء} عقيب قَوْله تَعَالَى {وَمِنْهُم من يَلْمِزك فِي الصَّدقَات} يدل على أَن ذكر الْأَصْنَاف لقطع طمعهم من الصَّدقَات بِبَيَان المصارف لَهَا فَلَا يتَوَقَّف الْخُرُوج عَن الْعهْدَة على الْأَدَاء إِلَى الْكل
وَالرَّابِع قد تتْرك الْحَقِيقَة بِدلَالَة من قبل الْمُتَكَلّم مِثَاله قَوْله تَعَالَى {فَمن شَاءَ فليؤمن وَمن شَاءَ فليكفر}

(1/93)


وَذَلِكَ لِأَن الله تَعَالَى حَكِيم وَالْكفْر قَبِيح والحكيم لَا يَأْمر بِهِ فَيتْرك دلَالَة اللَّفْظ على الْأَمر بحكمة الْأَمر وعَلى هَذَا قُلْنَا إِذا وكل بشرَاء اللَّحْم
فَإِن كَانَ مُسَافِرًا نزل على الطَّرِيق فَهُوَ على الْمَطْبُوخ أَو على المشوي
وَإِن كَانَ صَاحب منزل فَهُوَ على النيء وَمن هَذَا النَّوْع يَمِين الْفَوْر مِثَاله إِذا قَالَ تعال تغد معي فَقَالَ وَالله لَا أتغدى ينْصَرف ذَلِك إِلَى الْغَدَاء الْمَدْعُو إِلَيْهِ حَتَّى لَو تغدى بعد ذَلِك فِي منزله مَعَه أَو مَعَ غَيره فِي ذَلِك الْيَوْم لايحنث
وَكَذَا إِذا قَامَت الْمَرْأَة تُرِيدُ الْخُرُوج فَقَالَ الزَّوْج إِن خرجت فَأَنت كَذَا كَانَ الحكم مَقْصُورا على الْحَال حَتَّى لَو خرجت بعد ذَلِك لَا يَحْنَث
وَالْخَامِس وَقد تتْرك الْحَقِيقَة بِدلَالَة مَحل الْكَلَام بِأَن كَانَ الْمحل لَا يقبل حَقِيقَة اللَّفْظ ومثاله انْعِقَاد نِكَاح الْحرَّة بِلَفْظ البيع وَالْهِبَة وَالتَّمْلِيك وَالصَّدَََقَة وَقَوله لعَبْدِهِ وَهُوَ مَعْرُوف النّسَب من غَيره هَذَا إبني وَكَذَا إِذا قَالَ لعَبْدِهِ وَهُوَ أكبر سنا من الْمولى هَذَا إبني كَانَ مجَازًا عَن الْعتْق عِنْد أبي حنيفَة رَضِي الله عَنهُ خلافًا لَهما بِنَاء على مَا ذكرنَا أَن الْمجَاز خلف عَن الْحَقِيقَة فِي حق اللَّفْظ عِنْده وَفِي حق الحكم عِنْدهمَا

(1/94)