أصول الشاشي الْفَصْل التَّاسِع فصل فِي متعلقات
النُّصُوص
نعني بهَا عبارَة النَّص وإشارته ودلالته واقتضاءه
فَأَما عبارَة النَّص فَهُوَ مَا سيق الْكَلَام لأَجله
وَأُرِيد بِهِ قصدا
وَأما إِشَارَة النَّص فَهِيَ مَا ثَبت بنظم النَّص
(1/99)
من غير زِيَادَة وَهُوَ غير ظَاهر من كل
وَجه وَلَا سيق الْكَلَام لأَجله
مِثَاله فِي قَوْله تَعَالَى {للْفُقَرَاء الْمُهَاجِرين
الَّذين أخرجُوا من دِيَارهمْ} الْآيَة فَإِنَّهُ سيق لبَيَان
اسْتِحْقَاق الْغَنِيمَة فَصَارَ نصا فِي ذَلِك وَقد ثَبت
فَقرهمْ بنظم النَّص فَكَانَ إِشَارَة إِلَى أَن اسْتِيلَاء
الْكَافِر على مَال الْمُسلم سَبَب لثُبُوت الْملك للْكَافِرِ
إِذْ لَو كَانَت الْأَمْوَال بَاقِيَة على ملكهم لَا يثبت
فَقرهمْ
وَيخرج مِنْهُ الحكم فِي مَسْأَلَة الِاسْتِيلَاء وَحكم ثُبُوت
الْملك للتاجر بِالشِّرَاءِ مِنْهُم وتصرفاته من البيع
وَالْهِبَة وَالْإِعْتَاق
وَحكم ثُبُوت الاستغنام وَثُبُوت الْملك للغازي وَعجز
الْمَالِك عَن انْتِزَاعه من يَده وتفريعاته
وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {أحل لكم لَيْلَة الصّيام
الرَّفَث} إِلَى قَوْله تَعَالَى {ثمَّ أَتموا الصّيام إِلَى
اللَّيْل} فالإمساك فِي أول الصُّبْح يتَحَقَّق مَعَ
الْجَنَابَة لِأَن من ضَرُورَة حل الْمُبَاشرَة إِلَى الصُّبْح
أَن يكون الْجُزْء الأول من النَّهَار مَعَ وجود الْجَنَابَة
والإمساك فِي ذَلِك الْجُزْء صَوْم أَمر العَبْد بإتمامه
فَكَانَ هَذَا إِشَارَة إِلَى أَن الْجَنَابَة لَا تنَافِي
الصَّوْم
وَلزِمَ من ذَلِك أَن الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق لَا
يُنَافِي بَقَاء الصَّوْم
(1/101)
وَيتَفَرَّع مِنْهُ أَن من ذاق شَيْئا بفمه
لم يفْسد صَوْمه فَإِنَّهُ لَو كَانَ المَاء مالحا يجد طعمه
عِنْد الْمَضْمَضَة لَا يفْسد بِهِ الصَّوْم
(1/102)
بحث كَون حكم دلَالَة النَّص عُمُوم الحكم
الْمَنْصُوص عَلَيْهِ
وَعلم مِنْهُ حكم الِاحْتِلَام والاحتجام والادهان لِأَن
الْكتاب لما سمي الْإِمْسَاك اللَّازِم بِوَاسِطَة
الِانْتِهَاء عَن الْأَشْيَاء الثَّلَاثَة الْمَذْكُورَة فِي
أول الصُّبْح صوما علم أَن ركن الصَّوْم يتم بالانتهاء عَن
الْأَشْيَاء الثَّلَاثَة
وعَلى هَذَا يخرج الحكم فِي مَسْأَلَة التبييت فَإِن قصد
الْإِتْيَان بالمأمور بِهِ إِنَّمَا يلْزمه عِنْد توجه الْأَمر
وَالْأَمر إِنَّمَا يتَوَجَّه بعد الْجُزْء الأول لقَوْله
تَعَالَى {ثمَّ أَتموا الصّيام إِلَى اللَّيْل}
وَأما دلَالَة النَّص فَهِيَ مَا علم عِلّة للْحكم الْمَنْصُوص
عَلَيْهِ لُغَة لَا اجْتِهَادًا وَلَا استنباطا مِثَاله فِي
قَوْله تَعَالَى {فَلَا تقل لَهما أُفٍّ وَلَا تنهرهما}
فالعالم بأوضاع اللُّغَة يفهم بِأول السماع أَن تَحْرِيم
التأفيف لدفع الْأَذَى عَنْهُمَا
وَحكم هَذَا النَّوْع عُمُوم الحكم الْمَنْصُوص عَلَيْهِ
لعُمُوم علته وَلِهَذَا الْمَعْنى قُلْنَا بِتَحْرِيم الضَّرْب
والشتم والاستخدام عَن الْأَب بِسَبَب الْإِجَارَة وَالْحَبْس
بِسَبَب الدّين وَالْقَتْل قصاصا
(1/104)
ثمَّ دلَالَة النَّص بِمَنْزِلَة النَّص
حَتَّى صَحَّ إِثْبَات الْعقُوبَة بِدلَالَة النَّص
قَالَ أَصْحَابنَا وَجَبت الْكَفَّارَة بالوقاع بِالنَّصِّ
وبالأكل واشرب بِدلَالَة النَّص
(1/105)
بحث كَون الْمُقْتَضى زِيَادَة على النَّص
وعَلى اعْتِبَار هَذَا الْمَعْنى قَلِيل يدارالحكم على تِلْكَ
الْعلَّة قَالَ الإِمَام القَاضِي أَبُو زيد لَو أَن قوما
يعدون التأفيف كَرَامَة لَا يحرم عَلَيْهِم تأفيف
الْأَبَوَيْنِ
وَكَذَلِكَ قُلْنَا فِي قَوْله تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين
آمنُوا إِذا نُودي} الْآيَة وَلَو فَرضنَا بيعا لَا يمْنَع
الْعَاقِدين عَن السَّعْي إِلَى الْجُمُعَة بِأَن كَانَا فِي
سفينة تجْرِي إِلَى الْجَامِع لَا يكره البيع
وعَلى هَذَا قُلْنَا إِذا حلف لَا يضْرب امْرَأَته فَمد شعرهَا
أَو عضها أَو خنقها يَحْنَث إِذا كَانَ بِوَجْه الإيلام
وَلَو وجد صُورَة الضَّرْب وَمد الشّعْر عِنْد الملاعبة دون
الإيلام لَا يَحْنَث
وَمن حلف لَا يضْرب فلَانا فَضَربهُ بعد مَوته لَا يَحْنَث
لِانْعِدَامِ معنى الضَّرْب وَهُوَ الإيلام
وَكَذَا لَو حلف لَا يكلم فلَانا فَكَلمهُ بعد مَوته لَا
يَحْنَث لعدم الإفهام
وَبِاعْتِبَار هَذَا الْمَعْنى يُقَال إِذا حلف لَا يَأْكُل
لَحْمًا فَأكل لحم السّمك وَالْجَرَاد لَا يَحْنَث
وَلَو أكل لحم الْخِنْزِير أَو الْإِنْسَان يَحْنَث لِأَن
الْعَالم بِأول السماع يعلم
(1/108)
أَن الْحَامِل على هَذَا الْيَمين إِنَّمَا
هُوَ الِاحْتِرَاز عَمَّا ينشأ من الدَّم فَيكون الِاحْتِرَاز
عَن تنَاول الدمويات فيدار الحكم على ذَلِك
وَأما الْمُقْتَضى فَهُوَ زِيَادَة على النَّص لَا يتَحَقَّق
معنى النَّص إِلَّا بِهِ كَأَن النَّص اقْتَضَاهُ ليَصِح فِي
نَفسه
(1/109)
بحث كَون الْقبُول ركنا فِي بَاب البيع
مَعْنَاهُ مثلا فِي الشرعيات قَوْله أَنْت طَالِق فَإِن هَذَا
نعت الْمَرْأَة إِلَّا أَن النَّعْت يَقْتَضِي الْمصدر فَكَأَن
الْمصدر مَوْجُود بطرِيق الِاقْتِضَاء
وَإِذا قَالَ اعْتِقْ عَبدك عني بِأَلف دِرْهَم فَقَالَ اعتقت
يَقع الْعتْق عَن الْآمِر فَيجب عَلَيْهِ الْألف
وَلَو كَانَ الْآمِر نوى بِهِ الْكَفَّارَة يَقع عَمَّا نوى
وَذَلِكَ لِأَن قَوْله اعتقه عني بِأَلف دِرْهَم يَقْتَضِي
معنى قَوْله بِعْهُ عني بِأَلف ثمَّ كن وَكيلِي بِالْإِعْتَاقِ
فاعتقه عني فَيثبت البيع بطرِيق الِاقْتِضَاء فَيثبت الْقبُول
كَذَلِك لِأَنَّهُ ركن فِي بَاب البيع
وَلِهَذَا قَالَ أَبُو يُوسُف إِذا قَالَ اعْتِقْ عَبدك عني
بِغَيْر شَيْء فَقَالَ اعتقت يَقع الْعتْق عَن الْآمِر وَيكون
هَذَا مقتضيا للهبة وَالتَّوْكِيل وَلَا يحْتَاج فِيهِ إِلَى
الْقَبْض لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَة الْقبُول فِي بَاب البيع
وَلَكنَّا نقُول الْقبُول ركن فِي بَاب البيع فَإِذا أثبتنا
البيع اقْتِضَاء أثبتنا الْقبُول ضَرُورَة بِخِلَاف الْقَبْض
فِي بَاب الْهِبَة فَإِنَّهُ لَيْسَ بِرُكْن فِي الْهِبَة
ليَكُون الحكم بِالْهبةِ بطرِيق الِاقْتِضَاء حكما بِالْقَبْضِ
وَحكم الْمُقْتَضى أَنه يثبت بطرِيق الضَّرُورَة فَيقدر بِقدر
الضَّرُورَة وَلِهَذَا قُلْنَا إِذا قَالَ أَنْت طَالِق وَنوى
بِهِ الثَّلَاث لَا يَصح لِأَن الطَّلَاق
(1/112)
يقدر مَذْكُورا بطرِيق الِاقْتِضَاء فَيقدر
بِقدر الضَّرُورَة والضرورة ترْتَفع بِالْوَاحِدِ فَيقدر
مَذْكُورا فِي حق الْوَاحِد
(1/113)
وعَلى هَذَا يخرج الحكم فِي قَوْله إِن أكلت وَنوى بِهِ
طَعَاما عَاما دون طَعَام لَا يَصح لِأَن الْأكل يَقْتَضِي
طَعَاما فَكَانَ ذَلِك ثَابتا بطرِيق الِاقْتِضَاء بِقدر
الضَّرُورَة والضرورة ترْتَفع بالفرد الْمُطلق وَلَا تَخْصِيص
فِي الْفَرد الْمُطلق لِأَن التَّخْصِيص يعْتَمد الْعُمُوم
وَلَو قَالَ بعد الدُّخُول اعْتدي وَنوى بِهِ الطَّلَاق
فَيَقَع الطَّلَاق اقْتِضَاء لِأَن الِاعْتِدَاد وجود
الطَّلَاق فَيقدر الطَّلَاق مَوْجُودا ضَرُورَة وَلِهَذَا
كَانَ الْوَاقِع بِهِ رَجْعِيًا لِأَن صفة الْبَيْنُونَة
زَائِدَة على قدر الضَّرُورَة فَلَا يثبت بطرِيق الِاقْتِضَاء
وَلَا يَقع إِلَّا وَاحِد لما ذكرنَا |